عرض مشاركة واحدة
  #9  
قديم 14 محرم 1440هـ/24-09-2018م, 04:28 PM
جمهرة التفاسير جمهرة التفاسير غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 2,953
افتراضي

تفاسير القرن الثامن الهجري
تفسير قوله تعالى: {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({سورةٌ أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آياتٍ بيّناتٍ لعلّكم تذكّرون (1) الزّانية والزّاني فاجلدوا كلّ واحدٍ منهما مئة جلدةٍ ولا تأخذكم بهما رأفةٌ في دين اللّه إن كنتم تؤمنون باللّه واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفةٌ من المؤمنين (2)}
يقول تعالى: هذه {سورةٌ أنزلناها} فيه تنبيهٌ على الاعتناء بها ولا ينفي ما عداها.
{وفرّضناها} قال مجاهدٌ وقتادة: أي بيّنّا الحلال والحرام والأمر والنّهي، والحدود.
وقال البخاريّ: ومن قرأ "فرضناها" يقول: فرضنا عليكم وعلى من بعدكم.
{وأنزلنا فيها آياتٍ بيّناتٍ} أي: مفسّرات واضحات، {لعلّكم تذكّرون}).[تفسير ابن كثير: 6/ 5]

تفسير قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (ثمّ قال تعالى: {الزّانية والزّاني فاجلدوا كلّ واحدٍ منهما مائة جلدةٍ} هذه الآية الكريمة فيها حكم الزّاني في الحدّ، وللعلماء فيه تفصيلٌ ونزاعٌ؛ فإنّ الزّاني لا يخلو إمّا أن يكون بكرًا، وهو الّذي لم يتزوّج، أو محصنًا، وهو الّذي قد وطئ في نكاحٍ صحيحٍ، وهو حرٌّ بالغٌ عاقلٌ. فأمّا إذا كان بكرًا لم يتزوّج، فإنّ حدّه مائة جلدةٍ كما في الآية ويزاد على ذلك أن يغرّب عامًا [عن بلده] عند جمهور العلماء، خلافًا لأبي حنيفة، رحمه اللّه؛ فإنّ عنده أنّ التغريب إلى رأي الإمام، إن شاء غرّب وإن شاء لم يغرّب.
وحجّة الجمهور في ذلك ما ثبت في الصّحيحين، من رواية الزّهريّ، عن عبيد اللّه بن عبد اللّه بن عتبة بن مسعودٍ، عن أبي هريرة وزيد بن خالدٍ الجهنيّ، في الأعرابيّين اللّذين أتيا رسول اللّه -صلّى اللّه عليه وسلّم- فقال أحدهما: يا رسول اللّه، إنّ ابني كان عسيفا -يعني أجيرًا - على هذا فزنى بامرأته، فافتديت [ابني [ منه بمائة شاةٍ ووليدة، فسألت أهل العلم، فأخبروني أنّ على ابني جلد مائةٍ وتغريب عامٍ، وأنّ على امرأة هذا الرّجم. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "والّذي نفسي بيده، لأقضينّ بينكما بكتاب اللّه: الوليدة والغنم ردٌّ عليك، وعلى ابنك جلد مائةٍ وتغريب عامٍ. واغد يا أنيس -لرجلٍ من أسلم -إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها". فغدا عليها فاعترفت، فرجمها.
ففي هذا دلالةٌ على تغريب الزّاني مع جلد مائةٍ إذا كان بكرًا لم يتزوّج، فأمّا إن كان محصنًا فإنّه يرجم، كما قال الإمام مالك:
حدّثني ابن شهابٍ، أخبرنا عبيد اللّه بن عبد اللّه بن عتبة بن مسعودٍ، أنّ ابن عبّاسٍ أخبره أنّ عمر، رضي اللّه عنه، قام فحمد اللّه وأثنى عليه، ثمّ قال: أمّا بعد، أيّها النّاس، فإنّ اللّه بعث محمّدًا بالحقّ، وأنزل عليه الكتاب، فكان فيما أنزل عليه آية الرّجم، فقرأناها ووعيناها، ورجم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ورجمنا بعده، فأخشى أن يطول بالنّاس زمانٌ أن يقول قائلٌ: لا نجد آية الرّجم في كتاب اللّه، فيضلّوا بترك فريضةٍ قد أنزلها اللّه، فالرّجم في كتاب اللّه حقٌّ على من زنى، إذا أحصن، من الرّجال والنّساء، إذا قامت البيّنة، أو الحبل، أو الاعتراف.
أخرجاه في الصّحيحين من حديث مالكٍ مطوّلًا وهذا قطعةٌ منه، فيها مقصودنا هاهنا.
وروى الإمام أحمد، عن هشيم، عن الزّهريّ، عن عبيد اللّه بن عبد اللّه، عن ابن عبّاسٍ: حدّثني عبد الرّحمن بن عوفٍ؛ أنّ عمر بن الخطّاب خطب النّاس فسمعته يقول: ألا وإنّ أناسًا يقولون: ما بال الرّجم؟ في كتاب اللّه الجلد. وقد رجم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ورجمنا بعده. ولولا أن يقول قائلون -أو يتكلّم متكلّمون -أنّ عمر زاد في كتاب اللّه ما ليس منه لأثبتّها كما نزلت.
وأخرجه النّسائيّ، من حديث عبيد اللّه بن عبد اللّه، به.
وقد روى أحمد أيضًا، عن هشيم، عن عليّ بن زيدٍ، عن يوسف بن مهران، عن ابن عبّاسٍ قال: خطب عمر بن الخطّاب فذكر الرّجم فقال: لا تخدعن عنه؛ فإنّه حدٌّ من حدود اللّه ألا إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قد رجم ورجمنا بعده، ولولا أن يقول قائلون: زاد عمر في كتاب اللّه ما ليس فيه، لكتبت في ناحيةٍ من المصحف: وشهد عمر بن الخطّاب، وعبد الرّحمن بن عوفٍ، وفلانٌ وفلانٌ: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قد رجم ورجمنا بعده. ألا وإنّه سيكون من بعدكم قومٌ يكذّبون بالرّجم وبالدّجّال وبالشّفاعة وبعذاب القبر، وبقومٍ يخرجون من النّار بعدما امتحشوا.
وروى أحمد أيضًا، عن يحيى القطّان، عن يحيى الأنصاريّ، عن سعيد بن المسيّب، عن عمر بن الخطّاب: إيّاكم أن تهلكوا عن آية الرّجم.
الحديث رواه التّرمذيّ، من حديث سعيدٍ، عن عمر، وقال: صحيحٌ.
وقال الحافظ أبو يعلى الموصليّ: حدّثنا عبيد اللّه بن عمر القواريريّ، حدّثنا يزيد بن زريع، حدّثنا ابن عون، عن محمّدٍ -هو ابن سيرين -قال: نبّئت عن كثير بن الصّلت قال: كنّا عند مروان وفينا زيدٌ، فقال زيدٌ: كنّا نقرأ: "والشّيخ والشّيخة فارجموهما البتّة". قال مروان: ألا كتبتها في المصحف؟ قال: ذكرنا ذلك وفينا عمر بن الخطّاب، فقال: أنا أشفيكم من ذلك. قال: قلنا: فكيف؟ قال: جاء رجلٌ إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، قال: فذكر كذا وكذا، وذكر الرّجم، فقال: يا رسول اللّه، أكتبني آية الرّجم: قال: "لا أستطيع الآن". هذا أو نحو ذلك.
وقد رواه النّسائيّ، عن محمّد بن المثنّى، عن غندر، عن شعبة، عن قتادة، عن يونس بن جبير، عن كثير بن الصّلت، عن زيد بن ثابتٍ، به.
وهذه طرقٌ كلّها متعدّدةٌ ودالّةٌ على أنّ آية الرّجم كانت مكتوبةً فنسخ تلاوتها، وبقي حكمها معمولًا به، وللّه الحمد.
وقد أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم برجم هذه المرأة، وهي زوجة الرّجل الّذي استأجر الأجير لمّا زنت مع الأجير. ورجم النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم ماعزًا والغامديّة. وكلّ هؤلاء لم ينقل عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه جلدهم قبل الرّجم. وإنّما وردت الأحاديث الصّحاح المتعدّدة الطّرق والألفاظ، بالاقتصار على رجمهم، وليس فيها ذكر الجلد؛ ولهذا كان هذا مذهب جمهور العلماء، وإليه ذهب أبو حنيفة، ومالكٌ، والشّافعيّ، رحمهم اللّه. وذهب الإمام أحمد، رحمه اللّه، إلى أنّه يجب أن يجمع على الزّاني المحصن بين الجلد للآية والرّجم للسّنّة، كما روي، عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبٍ رضي اللّه عنه، أنّه لمّا أتي بشراحة وكانت قد زنت وهي محصنةٌ، فجلدها يوم الخميس، ورجمها يوم الجمعة، ثمّ قال: جلدتها بكتاب اللّه، ورجمتها بسنّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم.
وقد روى الإمام أحمد ومسلمٌ، وأهل السّنن الأربعة، من حديث قتادة، عن الحسن، عن حطّان بن عبد اللّه الرّقاشيّ، عن عبادة بن الصّامت قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "خذوا عنّي، خذوا عنّي، قد جعل اللّه لهنّ سبيلًا البكر بالبكر، جلد مائةٍ وتغريب سنةٍ والثّيّب بالثّيّب، جلد مائةٍ والرّجم".
وقوله: {ولا تأخذكم بهما رأفةٌ في دين اللّه} أي: في حكم اللّه. لا ترجموهما وترأفوا بهما في شرع اللّه، وليس المنهيّ عنه الرّأفة الطّبيعيّة [ألّا تكون حاصلةً] على ترك الحدّ، [وإنّما هي الرّأفة الّتي تحمل الحاكم على ترك الحدّ] فلا يجوز ذلك.
قال مجاهدٌ: {ولا تأخذكم بهما رأفةٌ في دين اللّه} قال: إقامة الحدود إذا رفعت إلى السّلطان، فتقام ولا تعطّل. وكذا روي عن سعيد بن جبير، وعطاء بن أبي رباح. وقد جاء في الحديث: "تعافوا الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حدٍّ فقد وجب". وفي الحديث الآخر: "لحدٌّ يقام في الأرض، خيرٌ لأهلها من أن يمطروا أربعين صباحًا".
وقيل: المراد: {ولا تأخذكم بهما رأفةٌ في دين اللّه} فلا تقيموا الحدّ كما ينبغي، من شدّة الضّرب الزّاجر عن المأثم، وليس المراد الضّرب المبرّح.
قال عامر الشّعبيّ: {ولا تأخذكم بهما رأفةٌ في دين اللّه} قال: رحمةٌ في شدّة الضّرب. وقال عطاءٌ: ضربٌ ليس بالمبرّح. وقال سعيد بن أبي عروبة، عن حمّاد بن أبي سليمان: يجلد القاذف وعليه ثيابه، والزّاني تخلع ثيابه، ثمّ تلا {ولا تأخذكم بهما رأفةٌ في دين اللّه} فقلت: هذا في الحكم؟ قال: هذا في الحكم والجلد -يعني في إقامة الحدّ، وفي شدّة الضّرب.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا عمرو بن عبد اللّه الأوديّ حدّثنا وكيع، عن نافعٍ، [عن] ابن عمرو، عن ابن أبي مليكة، عن عبيد اللّه بن عبد اللّه بن عمر: أنّ جاريةً لابن عمر زنت، فضرب رجليها -قال نافعٌ: أراه قال: وظهرها -قال: قلت: {ولا تأخذكم بهما رأفةٌ في دين اللّه} قال: يا بنيّ، ورأيتني أخذتني بها رأفةٌ؟ إنّ اللّه لم يأمرني أن أقتلها، ولا أن أجعل جلدها في رأسها، وقد أوجعت حيث ضربت.
وقوله: {إن كنتم تؤمنون باللّه واليوم الآخر} أي: فافعلوا ذلك: أقيموا الحدود على من زنى، وشدّدوا عليه الضّرب، ولكن ليس مبرّحا؛ ليرتدع هو ومن يصنع مثله بذلك. وقد جاء في المسند عن بعض الصّحابة أنّه قال: يا رسول اللّه، إنّي لأذبح الشّاة وأنا أرحمها، فقال: "ولك في ذلك أجرٌ".
وقوله: {وليشهد عذابهما طائفةٌ من المؤمنين}: هذا فيه تنكيلٌ للزّانيين إذا جلدا بحضرة النّاس، فإنّ ذلك يكون أبلغ في زجرهما، وأنجع في ردعهما، فإنّ في ذلك تقريعًا وتوبيخًا وفضيحةً إذا كان النّاس حضورًا.
قال الحسن البصريّ في قوله: {وليشهد عذابهما طائفةٌ من المؤمنين} يعني: علانيةً.
ثمّ قال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: {وليشهد عذابهما طائفةٌ من المؤمنين} الطّائفة: الرّجل فما فوقه.
وقال مجاهدٌ: الطّائفة: رجلٌ إلى الألف. وكذا قال عكرمة؛ ولهذا قال أحمد: إنّ الطّائفة تصدق على واحدٍ.
وقال عطاء بن أبي رباحٍ: اثنان. وبه قال إسحاق بن راهويه. وكذا قال سعيد بن جبيرٍ: {طائفةٌ من المؤمنين} قال: يعني: رجلين فصاعدا.
وقال الزهري: ثلاث نفرٍ فصاعدًا.
وقال عبد الرّزّاق: حدّثني ابن وهب، عن الإمام مالكٍ في قوله: {وليشهد عذابهما طائفةٌ من المؤمنين} قال: الطّائفة: أربعة نفرٍ فصاعدًا؛ لأنّه لا يكون شهادةٌ في الزّنى دون أربعة شهداء فصاعدًا. وبه قال الشّافعيّ.
وقال ربيعة: خمسةٌ. وقال الحسن البصريّ: عشرةٌ. وقال قتادة: أمر اللّه أن يشهد عذابهما طائفةٌ من المؤمنين، أي: نفرٌ من المسلمين؛ ليكون ذلك موعظةً وعبرةً ونكالًا.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا يحيى بن عثمان، حدّثنا بقيّة قال: سمعت نصر بن علقمة في قوله: {وليشهد عذابهما طائفةٌ من المؤمنين} قال: ليس ذلك للفضيحة، إنّما ذلك ليدعى الله تعالى لهما بالتّوبة والرّحمة). [تفسير ابن كثير: 6/ 5-9]

تفسير قوله تعالى: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({الزّاني لا ينكح إلّا زانيةً أو مشركةً والزّانية لا ينكحها إلّا زانٍ أو مشركٌ وحرّم ذلك على المؤمنين (3)}
هذا خبر من اللّه تعالى بأنّ الزّاني لا يطأ إلّا زانيةً أو مشركةً. أي: لا يطاوعه على مراده من الزّنى إلّا زانيةٌ عاصيةٌ أو مشركةٌ، لا ترى حرمة ذلك، وكذلك: {الزّانية لا ينكحها إلا زانٍ} أي: عاصٍ بزناه، {أو مشركٌ} لا يعتقد تحريمه.
قال سفيان الثّوريّ، عن حبيب بن أبي عمرة، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ، رضي اللّه عنهما: {الزّاني لا ينكح إلّا زانيةً أو مشركةً} قال: ليس هذا بالنّكاح، إنّما هو الجماع، لا يزني بها إلّا زانٍ أو مشركٌ.
وهذا إسنادٌ صحيحٌ عنه، وقد روي عنه من غير وجهٍ أيضًا. وقد روي عن مجاهدٍ، وعكرمة، وسعيد بن جبيرٍ، وعروة بن الزّبير، والضّحاك، ومكحولٍ، ومقاتل بن حيّان، وغير واحدٍ، نحو ذلك.
وقوله تعالى: {وحرّم ذلك على المؤمنين} أي: تعاطيه والتّزويج بالبغايا، أو تزويج العفائف بالفجّار من الرّجال.
وقال أبو داود الطّيالسيّ: حدّثنا قيس، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: {وحرّم ذلك على المؤمنين} قال: حّرم اللّه الزّنى على المؤمنين.
وقال قتادة، ومقاتل بن حيّان: حرّم اللّه على المؤمنين نكاح البغايا، وتقدّم في ذلك فقال: {وحرّم ذلك على المؤمنين}
وهذه الآية كقوله تعالى: {محصناتٍ غير مسافحاتٍ ولا متّخذات أخدانٍ} [النّساء: 25] وقوله {محصنين غير مسافحين ولا متّخذي أخدانٍ} الآية [المائدة: 5] ومن هاهنا ذهب الإمام أحمد بن حنبلٍ، رحمه اللّه، إلى أنّه لا يصحّ العقد من الرّجل العفيف على المرأة البغيّ ما دامت كذلك حتّى تستتاب، فإن تابت صحّ العقد عليها وإلّا فلا وكذلك لا يصحّ تزويج المرأة الحرّة العفيفة بالرّجل الفاجر المسافح، حتّى يتوب توبةً صحيحةً؛ لقوله تعالى: {وحرّم ذلك على المؤمنين}
وقال الإمام أحمد: حدّثنا عارمٌ، حدّثنا معتمر بن سليمان قال: قال أبي: حدّثنا الحضرميّ، عن القاسم بن محمّدٍ، عن عبد اللّه بن عمرو، رضي اللّه عنهما، أنّ رجلًا من المسلمين استأذن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في امرأةٍ يقال لها: "أمّ مهزولٍ" كانت تسافح، وتشترط له أن تنفق عليه -قال: فاستأذن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم -أو: ذكر له أمرها -قال: فقرأ عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: {الزّاني لا ينكح إلّا زانيةً أو مشركةً والزّانية لا ينكحها إلا زانٍ أو مشركٌ وحرّم ذلك على المؤمنين}.
وقال النّسائيّ: أخبرنا عمرو بن عليٍّ، حدّثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، عن الحضرميّ، عن القاسم بن محمّدٍ، عن عبد اللّه بن عمرو قال: كانت امرأةٌ يقال لها: "أمّ مهزولٍ" وكانت تسافح، فأراد رجلٌ من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أن يتزوّجها، فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {الزّاني لا ينكح إلّا زانيةً أو مشركةً والزّانية لا ينكحها إلا زانٍ أو مشركٌ وحرّم ذلك على المؤمنين}.
[و] قال التّرمذيّ: حدّثنا عبد بن حميدٍ، حدّثنا روح بن عبادة بن عبيد اللّه بن الأخنس، أخبرني عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جدّه قال: كان رجلٌ يقال له "مرثد بن أبي مرثدٍ" وكان رجلًا يحمل الأسارى من مكّة حتّى يأتي بهم المدينة. قال: وكانت امرأةٌ بغي بمكّة يقال لها "عناق"، وكانت صديقةً له، وأنّه واعد رجلًا من أسارى مكّة يحمله. قال: فجئت حتّى انتهيت إلى ظلّ حائطٍ من حوائط مكّة في ليلةٍ مقمرةٍ، قال: فجاءت "عناق" فأبصرت سواد ظلّي تحت الحائط، فلمّا انتهت إليّ عرفتني، فقالت: مرثد؟ فقلت: مرثدٌ فقالت: مرحبًا وأهلًا هلمّ فبت عندنا اللّيلة. قال: فقلت يا عناق، حرّم اللّه الزّنى. فقالت يا أهل الخيام، هذا الرّجل يحمل أسراكم. قال: فتبعني ثمانيةٌ ودخلت الحندمة فانتهيت إلى غارٍ -أو كهفٍ فدخلت فيه فجاءوا حتّى قاموا على رأسي فبالوا، فظلّ بولهم على رأسي، فأعماهم اللّه عنّي -قال: ثمّ رجعوا، فرجعت إلى صاحبي فحملته، وكان رجلًا ثقيلًا حتّى انتهيت إلى الإذخر، ففككت عنه أكبله، فجعلت أحمله ويعينني، حتّى أتيت به المدينة، فأتيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقلت: يا رسول الله، أنكح عناقًا؟ أنكح عناقًا؟ -مرّتين-فأمسك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فلم يردّ عليّ شيئًا، حتّى نزلت {الزّاني لا ينكح إلّا زانيةً أو مشركةً والزّانية لا ينكحها إلا زانٍ أو مشركٌ وحرّم ذلك على المؤمنين} فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "يا مرثد، {الزّاني لا ينكح إلّا زانيةً أو مشركةً [والزّانية لا ينكحها إلا زانٍ أو مشركٌ]} فلا تنكحها" ثمّ قال التّرمذيّ: هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ، لا نعرفه إلّا من هذا الوجه.
وقد رواه أبو داود والنّسائيّ، في كتاب النّكاح من سننهما من حديث عبيد اللّه بن الأخنس، به.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا مسدّد أبو الحسن، حدّثنا عبد الوارث، عن حبيبٍ المعلّم، حدّثني عمرو بن شعيبٍ، عن سعيدٍ المقبريّ، عن أبي هريرة، رضي اللّه عنه، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "لا ينكح الزّاني المجلود إلّا مثله".
وهكذا أخرجه أبو داود في سننه، عن مسدّدٍ وأبي معمرٍ -عبد اللّه بن عمرٍو -كلاهما، عن عبد الوارث، به.
وقال الإمام أحمد: حدّثنا يعقوب، حدّثنا عاصم بن محمّد بن زيد بن عبد اللّه بن عمر بن الخطّاب، عن أخيه عمر بن محمّدٍ، عن عبد اللّه بن يسارٍ -مولى ابن عمر -قال: أشهد لسمعت سالمًا يقول: قال عبد اللّه: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "ثلاثةٌ لا يدخلون الجنّة، ولا ينظر اللّه إليهم يوم القيامة: العاقّ لوالديه، والمرأة المترجّلة -المتشبّهة بالرّجال -والدّيّوث. وثلاثةٌ لا ينظر اللّه إليهم يوم القيامة: العاقّ لوالديه، ومدمن الخمر، والمنّان بما أعطى".
ورواه النّسائيّ، عن عمرو بن عليٍّ الفلّاس، عن يزيد بن زريع، عن عمر بن محمّدٍ العمري، عن عبد اللّه بن يسارٍ، به.
وقال الإمام أحمد أيضًا: حدّثنا يعقوب، حدّثنا أبي، حدّثنا الوليد بن كثيرٍ، عن قطن بن وهبٍ، عن عويمر بن الأجدع، عمّن حدّثه، عن سالم بن عبد اللّه بن عمر قال: حدّثني عبد اللّه بن عمر: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "ثلاثةٌ حرّم اللّه عليهم الجنّة: مدمن الخمر، والعاقّ، والدّيّوث الّذي يقرّ في أهله الخبث".
وقال أبو داود الطّيالسيّ في مسنده: حدّثنا شعبة، حدّثني رجلٌ -من آل سهل بن حنيف -، عن محمّد بن عمّار، عن عمّار بن ياسرٍ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "لا يدخل الجنّة ديّوث".
يستشهد به لما قبله من الأحاديث.
وقال ابن ماجه: حدّثنا هشام بن عمّارٍ، حدّثنا سلام بن سوّار، حدّثنا كثير بن سليم، عن الضّحّاك بن مزاحم: سمعت أنس بن مالكٍ يقول: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم [يقول] " من أراد أن يلقى اللّه طاهرًا مطهّرًا، فليتزوج الحرائر".
في إسناده ضعفٌ.
قال الإمام أبو نصرٍ إسماعيل بن حمّاد الجوهريّ في كتاب "الصّحاح في اللّغة:" الدّيّوث القنذع وهو الّذي لا غيرة له.
فأمّا الحديث الّذي رواه الإمام أبو عبد الرّحمن النّسائيّ في كتاب "النّكاح" من سننه: أخبرنا محمّد بن إسماعيل بن عليّة، عن يزيد بن هارون، عن حمّاد بن سلمة وغيره، عن هارون ابن رئابٍ، عن عبد اللّه بن عبيد بن عميرٍ -وعبد الكريم، عن عبد اللّه بن عبيد بن عميرٍ، عن ابن عبّاسٍ -عبد الكريم رفعه إلى ابن عبّاسٍ، وهارون لم يرفعه -قالا جاء رجلٌ إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال: إنّ عندي امرأةً [هي] من أحبّ النّاس إليّ وهي لا تمنع يد لامس قال: "طلّقها". قال: لا صبر لي عنها قال: "استمتع بها"، ثمّ قال النّسائيّ: هذا الحديث غير ثابتٍ، وعبد الكريم ليس بالقويّ، وهارون أثبت منه، وقد أرسل الحديث وهو ثقةٌ، وحديثه أولى بالصّواب من حديث عبد الكريم..
قلت: وهو ابن أبي المخارق البصريّ المؤدّب تابعيٌّ ضعيف الحديث، وقد خالفه هارون بن رئابٍ، وهو تابعيٌّ ثقةٌ من رجال مسلمٍ، فحديثه المرسل أولى كما قال النّسائيّ. لكن قد رواه النّسائيّ في كتاب "الطّلاق"، عن إسحاق بن راهويه، عن النّضر بن شميل عن حمّاد بن سلمة، عن هارون بن رئابٍ، عن عبد اللّه بن عبيد بن عميرٍ، عن ابن عبّاسٍ مسندًا، فذكره بهذا الإسناد، رجاله على شرط مسلمٍ، إلّا أنّ النّسائيّ بعد روايته له قال: "وهذا خطأٌ، والصّواب مرسلٌ" ورواه غير النّضر على الصّواب.
وقد رواه النّسائيّ أيضًا وأبو داود، عن الحسين بن حريث، أخبرنا الفضل بن موسى، أخبرنا الحسين بن واقدٍ، عن عمارة بن أبي حفصة، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فذكره. وهذا إسنادٌ جيّدٌ.
وقد اختلف النّاس في هذا الحديث ما بين مضعّف له، كما تقدّم، عن النّسائيّ، وكما قال الإمام أحمد: هو حديثٌ منكرٌ.
وقال ابن قتيبة: إنّما أراد أنّها سخيّةٌ لا تمنع سائلًا. وحكاه النّسائيّ في سننه، عن بعضهم فقال: وقيل: "سخيّةٌ تعطي"، وردّ هذا بأنّه لو كان المراد لقال: لا تردّ يد ملتمس.
وقيل: المراد أنّ سجيّتها لا تردّ يد لامسٍ، لا أنّ المراد أنّ هذا واقعٌ منها، وأنّها تفعل الفاحشة؛ فإنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لا يأذن في مصاحبة من هذه صفتها. فإنّ زوجها -والحالة هذه -يكون ديّوثا، وقد تقدّم الوعيد على ذلك. ولكن لمّا كانت سجيّتها هكذا ليس فيها ممانعةٌ ولا مخالفةٌ لمن أرادها لو خلا بها أحد، أمره رسول صلّى اللّه عليه وسلّم بفراقها. فلمّا ذكر أنّه يحبّها أباح له البقاء معها؛ لأنّ محبّته لها محقّقةٌ، ووقوع الفاحشة منها متوهّمٌ فلا يصار إلى الضّرر العاجل لتوهّم الآجل، واللّه سبحانه وتعالى أعلم.
قالوا: فأمّا إذا حصلت توبةٌ فإنّه يحلّ التّزويج، كما قال الإمام أبو محمّد بن أبي حاتمٍ رحمه اللّه:
حدّثنا أبو سعيدٍ الأشجّ، حدّثنا أبو خالدٍ، عن ابن أبي ذئبٍ، قال: سمعت [شعبة] -مولى ابن عبّاسٍ، رضي اللّه عنه -قال: سمعت ابن عبّاسٍ وسأله رجلٌ قال:إنّي كنت ألمّ بامرأةٍ آتي منها ما حرّم اللّه عزّ وجلّ عليّ، فرزق اللّه عزّ وجلّ من ذلك توبةً، فأردت أن أتزوّجها، فقال أناسٌ: إنّ الزّاني لا ينكح إلّا زانيةً. فقال ابن عبّاسٍ: ليس هذا في هذا، انكحها فما كان من إثمٍ فعليّ.
وقد ادّعى طائفةٌ آخرون من العلماء أنّ هذه الآية منسوخةٌ، قال ابن أبي حاتمٍ:
حدّثنا أبو سعيدٍ الأشجّ، حدّثنا أبو خالدٍ، عن يحيى بن سعيدٍ، عن سعيد ابن المسيّب. قال: ذكر عنده {الزّاني لا ينكح إلّا زانيةً أو مشركةً والزّانية لا ينكحها إلا زانٍ أو مشركٌ} قال: كان يقال: نسختها [الآية] الّتي بعدها: {وأنكحوا الأيامى منكم} [النّور: 32] قال: كان يقال الأيامى من المسلمين.
وهكذا رواه الإمام أبو عبيدٍ القاسم بن سلّامٍ في كتاب "النّاسخ والمنسوخ" له، عن سعيد بن المسيّب. ونصّ على ذلك أيضًا الإمام أبو عبد اللّه محمّد بن إدريس الشّافعيّ، رحمه اللّه). [تفسير ابن كثير: 6/ 9-13]

رد مع اقتباس