تفاسير القرن الثامن الهجري
تفسير قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({وما كان المؤمنون لينفروا كافّةً فلولا نفر من كلّ فرقةٍ منهم طائفةٌ ليتفقّهوا في الدّين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلّهم يحذرون (122)}
هذا بيانٌ من اللّه تعالى لمّا أراد من نفير الأحياء مع الرّسول في غزوة تبوك، فإنّه قد ذهب طائفةٌ من السّلف إلى أنّه كان يجب النّفير على كلّ مسلمٍ إذا خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم؛ ولهذا قال تعالى: {انفروا خفافًا وثقالا} [التّوبة: 41]، وقال: {ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلّفوا عن رسول اللّه} [التّوبة: 120]، قالوا: فنسخ ذلك بهذه الآية.
وقد يقال: إنّ هذا بيانٌ لمراده تعالى من نفير الأحياء كلّها، وشرذمةٍ من كلّ قبيلةٍ إن لم يخرجوا كلّهم، ليتفقّه الخارجون مع الرّسول بما ينزل من الوحي عليه، وينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم بما كان من أمر العدوّ، فيجتمع لهم الأمران في هذا: النّفير المعين وبعده، صلوات اللّه وسلامه عليه، تكون الطّائفة النّافرة من الحيّ إمّا للتّفقّه وإمّا للجهاد؛ فإنّه فرض كفايةٍ على الأحياء.
وقال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: {وما كان المؤمنون لينفروا كافّةً} يقول: ما كان المؤمنون لينفروا جميعًا ويتركوا النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وحده، {فلولا نفر من كلّ فرقةٍ منهم طائفةٌ} يعني: عصبةً، يعني: السّرايا، ولا يتسرّوا إلّا بإذنه، فإذا رجعت السّرايا وقد نزل بعدهم قرآنٌ تعلّمه القاعدون من النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، وقالوا: إنّ اللّه قد أنزل على نبيّكم قرآنًا، وقد تعلّمناه. فتمكث السّرايا يتعلّمون ما أنزل اللّه على نبيّهم بعدهم، ويبعث سرايا أخرى، فذلك قوله: {ليتفقّهوا في الدّين} يقول: ليتعلّموا ما أنزل اللّه على نبيّهم، وليعلّموا السّرايا إذا رجعت إليهم {لعلّهم يحذرون}.
وقال مجاهدٌ: نزلت هذه الآية في أناسٍ من أصحاب محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم، خرجوا في البوادي، فأصابوا من النّاس معروفًا، ومن الخصب ما ينتفعون به، ودعوا من وجدوا من النّاس إلى الهدى، فقال النّاس لهم: ما نراكم إلّا وقد تركتم أصحابكم وجئتمونا. فوجدوا في أنفسهم من ذلك تحرّجًا، وأقبلوا من البادية كلّهم حتّى دخلوا على النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، فقال اللّه، عزّ وجلّ: {فلولا نفر من كلّ فرقةٍ منهم طائفةٌ} يبتغون الخير، {ليتفقّهوا [في الدّين]} وليستمعوا ما في النّاس، وما أنزل اللّه بعدهم، {ولينذروا قومهم} النّاس كلّهم {إذا رجعوا إليهم لعلّهم يحذرون}.
وقال قتادة في هذه الآية: هذا إذا بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم الجيوش، أمرهم اللّه ألّا يعروا نبيّه صلّى اللّه عليه وسلّم، وتقيم طائفةٌ مع رسول اللّه تتفقّه في الدّين، وتنطلق طائفةٌ تدعو قومها، وتحذّرهم وقائع اللّه فيمن خلا قبلهم.
وقال الضّحّاك: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إذا غزا بنفسه لم يحل لأحدٍ من المسلمين أن يتخلّف عنه، إلّا أهل الأعذار. وكان إذا أقام فاسترت السّرايا لم يحلّ لهم أن ينطلقوا إلّا بإذنه، فكان الرّجل إذا استرى فنزل بعده قرآنٌ، تلاه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم على أصحابه القاعدين معه، فإذا رجعت السّريّة قال لهم الّذين أقاموا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: إنّ اللّه أنزل بعدكم على نبيّه قرآنًا. فيقرئونهم ويفقّهونهم في الدّين، وهو قوله: {وما كان المؤمنون لينفروا كافّةً} يقول إذا أقام رسول اللّه {فلولا نفر من كلّ فرقةٍ منهم طائفةٌ} يعني بذلك: أنّه لا ينبغي للمسلمين أن ينفروا جميعًا ونبيّ اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قاعدٌ، ولكن إذا قعد نبيّ اللّه تسرّت السّرايا، وقعد معه عظم الناس.
وقال [عليّ] بن أبي طلحة أيضًا عن ابن عبّاسٍ: قوله: {وما كان المؤمنون لينفروا كافّةً} فإنّها ليست في الجهاد، ولكن لمّا دعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم على مضر بالسّنين أجدبت بلادهم، وكانت القبيلة منهم تقبل بأسرها حتّى يحلّوا بالمدينة من الجهد، ويعتلّوا بالإسلام وهم كاذبون. فضيّقوا على أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وأجهدوهم. فأنزل اللّه يخبر رسوله أنّهم ليسوا مؤمنين، فردّهم رسول اللّه إلى عشائرهم، وحذّر قومهم أن يفعلوا فعلهم، فذلك قوله: {ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلّهم يحذرون}.
وقال العوفيّ، عن ابن عبّاسٍ في هذه الآية: كان ينطلق من كلّ حيٍّ من العرب عصابةٌ، فيأتون النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم. فيسألونه عمّا يريدون من أمر دينهم، ويتفقّهون في دينهم، ويقولون لنبيّ اللّه: ما تأمرنا أن نفعله؟ وأخبرنا [ما نقول] لعشائرنا إذا قدمنا انطلقنا إليهم. قال: فيأمرهم نبيّ اللّه بطاعة اللّه وطاعة رسوله، ويبعثهم إلى قومهم بالصّلاة والزّكاة. وكانوا إذا أتوا قومهم نادوا: إنّ من أسلم فهو منّا، وينذرونهم، حتّى إنّ الرّجل ليفارق أباه وأمّه، وكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يخبرهم وينذرهم قومهم، فإذا رجعوا إليهم يدعونهم إلى الإسلام وينذرونهم النّار ويبشّرونهم بالجنّة.
وقال عكرمة: لمّا نزلت هذه الآية: [الشّريفة] {إلا تنفروا يعذّبكم عذابًا أليمًا} [التّوبة: 39]، و {ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلّفوا [عن رسول اللّه]} [التّوبة: 120]، قال المنافقون: هلك أصحاب البدو الّذين تخلّفوا عن محمّدٍ ولم ينفروا معه. وقد كان ناسٍ من أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم خرجوا إلى البدو إلى قومهم يفقّهونهم، فأنزل اللّه، عزّ وجلّ: {وما كان المؤمنون لينفروا كافّةً فلولا نفر من كلّ فرقةٍ منهم طائفةٌ} الآية، ونزلت: {والّذين يحاجّون في اللّه من بعد ما استجيب له} الآية [الشّورى: 16].
وقال الحسن البصريّ: {فلولا نفر من كلّ فرقةٍ منهم طائفةٌ ليتفقّهوا في الدّين} قال: ليتفقّه الّذين خرجوا، بما يردهم اللّه من الظّهور على المشركين، والنصرة، وينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم). [تفسير القرآن العظيم: 4/ 235-237]
تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({يا أيّها الّذين آمنوا قاتلوا الّذين يلونكم من الكفّار وليجدوا فيكم غلظةً واعلموا أنّ اللّه مع المتّقين (123)}
أمر اللّه تعالى المؤمنين أن يقاتلوا الكفّار أوّلًا فأوّلًا الأقرب فالأقرب إلى حوزة الإسلام؛ ولهذا بدأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بقتال المشركين في جزيرة العرب، فلمّا فرغ منهم وفتح اللّه عليه مكّة والمدينة، والطّائف، واليمن واليمامة، وهجر، وخيبر، وحضرموت، وغير ذلك من أقاليم جزيرة العرب، ودخل النّاس من سائر أحياء العرب في دين اللّه أفواجًا، شرع في قتال أهل الكتاب، فتجهّز لغزو الرّوم الّذين هم أقرب النّاس إلى جزيرة العرب، وأولى النّاس بالدّعوة إلى الإسلام لكونهم أهل الكتاب، فبلغ تبوك ثمّ رجع لأجل جهد النّاس وجدب البلاد وضيق الحال، وكان ذلك سنة تسعٍ من هجرته، عليه السّلام.
ثمّ اشتغل في السّنة العاشرة بحجّته حجّة الوداع. ثمّ عاجلته المنيّة، صلوات اللّه وسلامه عليه، بعد الحجّة بأحدٍ وثمانين يومًا، فاختاره اللّه لما عنده.
وقام بالأمر بعده وزيره وصديقه وخليفته أبو بكرٍ، رضي اللّه عنه، وقد مال الدّين ميلةً كاد أن ينجفل، فثبّته اللّه تعالى به فوطّد القواعد، وثبّت الدّعائم. وردّ شارد الدّين وهو راغمٌ. وردّ أهل الرّدّة إلى الإسلام، وأخذ الزّكاة ممّن منعها من الطّغام، وبيّن الحقّ لمن جهله، وأدّى عن الرّسول ما حمله. ثمّ شرع في تجهيز الجيوش الإسلاميّة إلى الرّوم عبدة الصّلبان وإلى الفرس عبدة النّيران، ففتح اللّه ببركة سفارته البلاد، وأرغم أنفس كسرى وقيصر ومن أطاعهما من العباد. وأنفق كنوزهما في سبيل اللّه، كما أخبر بذلك رسول الإله.
وكان تمام الأمر على يدي وصيّه من بعده، ووليّ عهده الفاروق الأوّاب، شهيد المحراب، أبي حفصٍ عمر بن الخطّاب، فأرغم اللّه به أنوف الكفرة الملحدين، وقمع الطّغاة والمنافقين، واستولى على الممالك شرقًا وغربًا. وحملت إليه خزائن الأموال من سائر الأقاليم بعدًا وقربا. ففرّقها على الوجه الشّرعيّ، والسّبيل المرضيّ.
ثمّ لمّا مات شهيدًا وقد عاش حميدًا، أجمع الصّحابة من المهاجرين والأنصار. على خلافة أمير المؤمنين [أبي عمرٍو] عثمان بن عفان شهيد الدار. فكسى الإسلام [بجلاله] رياسة حلّةٍ سابغةً. وأمدّت في سائر الأقاليم على رقاب العباد حجّة اللّه البالغة، وظهر الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، وعلت كلمة اللّه وظهر دينه. وبلغت الأمّة الحنيفيّة من أعداء اللّه غاية مآربها، فكلّما علوا أمّةً انتقلوا إلى من بعدهم، ثمّ الّذين يلونهم من العتاة الفجّار، امتثالًا لقوله تعالى: {يا أيّها الّذين آمنوا قاتلوا الّذين يلونكم من الكفّار} وقوله تعالى: {وليجدوا فيكم غلظةً} [أي: وليجد الكفّار منكم غلظةً] عليهم في قتالكم لهم، فإنّ المؤمن الكامل هو الّذي يكون رفيقًا لأخيه المؤمن، غليظًا على عدوّه الكافر، كما قال تعالى: {فسوف يأتي اللّه بقومٍ يحبّهم ويحبّونه أذلّةٍ على المؤمنين أعزّةٍ على الكافرين} [المائدة: 54]، وقال تعالى: {محمّدٌ رسول اللّه والّذين معه أشدّاء على الكفّار رحماء بينهم} [الفتح: 29]، وقال تعالى: {يا أيّها النّبيّ جاهد الكفّار والمنافقين واغلظ عليهم} [التّوبة: 73، والتّحريم: 9]، وفي الحديث: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "أنا الضّحوك القتّال"، يعني: أنه ضحوك في وجه وليه، قتّال لهامة عدوّه.
وقوله: {واعلموا أنّ اللّه مع المتّقين} أي: قاتلوا الكفّار، وتوكّلوا على اللّه، واعلموا أنّ اللّه معكم إن اتّقيتموه وأطعتموه.
وهكذا الأمر لمّا كانت القرون الثّلاثة الّذين هم خير هذه الأمّة، في غاية الاستقامة، والقيام بطاعة اللّه تعالى، لم يزالوا ظاهرين على عدوّهم، ولم تزل الفتوحات كثيرةً، ولم تزل الأعداء في سفال وخسارٍ. ثمّ لمّا وقعت الفتن والأهواء والاختلافات بين الملوك، طمع الأعداء في أطراف البلاد، وتقدّموا إليها، فلم يمانعوا لشغل الملوك بعضهم ببعضٍ، ثمّ تقدّموا إلى حوزة الإسلام، فأخذوا من الأطراف بلدانًا كثيرةً، ثمّ لم يزالوا حتّى استحوذوا على كثيرٍ من بلاد الإسلام، وللّه، سبحانه، الأمر من قبل ومن بعد. فكلّما قام ملكٌ من ملوك الإسلام، وأطاع أوامر اللّه، وتوكّل على اللّه، فتح اللّه عليه من البلاد، واسترجع من الأعداء بحسبه، وبقدر ما فيه من ولاية اللّه. واللّه المسئول المأمول أن يمكّن المسلمين من نواصي أعدائه الكافرين، وأن يعلي كلمتهم في سائر الأقاليم، إنّه جوادٌ كريمٌ). [تفسير القرآن العظيم: 4/ 237-239]