عرض مشاركة واحدة
  #10  
قديم 30 جمادى الأولى 1435هـ/31-03-2014م, 01:04 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن الثامن الهجري

تفسير قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آَتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {والوالدات يرضعن أولادهنّ حولين كاملين لمن أراد أن يتمّ الرّضاعة وعلى المولود له رزقهنّ وكسوتهنّ بالمعروف لا تكلّف نفسٌ إلا وسعها لا تضارّ والدةٌ بولدها ولا مولودٌ له بولده وعلى الوارث مثل ذلك فإن أرادا فصالا عن تراضٍ منهما وتشاورٍ فلا جناح عليهما وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلّمتم ما آتيتم بالمعروف واتّقوا اللّه واعلموا أنّ اللّه بما تعملون بصيرٌ (233)}
هذا إرشادٌ من اللّه تعالى للوالدات: أن يرضعن أولادهنّ كمال الرّضاعة، وهي سنتان، فلا اعتبار بالرّضاعة بعد ذلك؛ ولهذا قال: {لمن أراد أن يتمّ الرّضاعة} وذهب أكثر الأئمّة إلى أنّه لا يحرّم من الرّضاعة إلّا ما كان دون الحولين، فلو ارتضع المولود وعمره فوقهما لم يحرم.
قال التّرمذيّ: "باب ما جاء أنّ الرّضاعة لا تحرّم إلّا في الصّغر دون الحولين": حدّثنا قتيبة، حدّثنا أبو عوانة، عن هشام بن عروة، عن فاطمة بنت المنذر، عن أمّ سلمة قالت: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «لا يحرّم من الرّضاع إلّا ما فتق الأمعاء في الثّدي، وكان قبل الفطام». وقال: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ، والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وغيرهم: أنّ الرّضاعة لا تحرّم إلّا ما كان دون الحولين، وما كان بعد الحولين الكاملين فإنّه لا يحرّم شيئًا. وفاطمة بنت المنذر بن الزّبير بن العوّام، وهي امرأة هشام بن عروة.
قلت: تفرّد التّرمذيّ برواية هذا الحديث، ورجاله على شرط الصّحيحين، ومعنى قوله: إلّا ما كان في الثّدي، أي: في محلّ الرّضاعة قبل الحولين، كما جاء في الحديث، الّذي رواه أحمد، عن وكيع وغندرٍ، عن شعبة، عن عديّ بن ثابتٍ، عن البراء بن عازبٍ قال: «لمّا مات إبراهيم ابن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلم قال: «إن له مرضعًا في الجنّة». وهكذا أخرجه البخاريّ من حديث شعبة وإنّما قال، عليه السّلام، ذلك؛ لأنّ ابنه إبراهيم، عليه السّلام، مات وله سنةٌ وعشرة أشهرٍ، فقال: «إنّ له مرضعًا في الجنّة» يعني: تكمل رضاعه، ويؤيّده ما رواه الدّارقطنيّ، من طريق الهيثم بن جميلٍ، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينارٍ، عن ابن عبّاسٍ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم: «لا يحرّم من الرّضاع إلّا ما كان في الحولين»، ثمّ قال: «لم يسنده عن ابن عيينة غير الهيثم بن جميلٍ، وهو ثقةٌ حافظٌ».
قلت: وقد رواه الإمام مالكٌ في الموطّأ، عن ثور بن زيدٍ، عن ابن عبّاسٍ موقوفًا . ورواه الدّراورديّ عن ثورٍ، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ وزاد: «وما كان بعد الحولين فليس بشيءٍ»، وهذا أصحّ.
وقال أبو داود الطّيالسيّ، عن جابرٍ قال: قال رسول اللّه صلّى الله عليه وسلم: «لا رضاع بعد فصالٍ، ولا يتم بعد احتلامٍ»، وتمام الدّلالة من هذا الحديث في قوله: {وفصاله في عامين} [لقمان: 14]. وقال: {وحمله وفصاله ثلاثون شهرًا} [الأحقاف: 15]. والقول بأنّ الرّضاعة لا تحرم بعد الحولين مروي عن عليٍّ، وابن عبّاسٍ، وابن مسعودٍ، وجابرٍ، وأبي هريرة، وابن عمر، وأمّ سلمة، وسعيد بن المسيّب، وعطاءٍ، والجمهور. وهو مذهب الشّافعيّ، وأحمد، وإسحاق، والثّوريّ، وأبي يوسف، ومحمّدٍ، ومالكٍ في روايةٍ، وعنه: «أنّ مدّته سنتان وشهران»، وفي روايةٍ: «وثلاثة أشهرٍ». وقال أبو حنيفة: «سنتان وستّة أشهرٍ»، وقال زفر بن الهذيل: «ما دام يرضع فإلى ثلاث سنين»، وهذا روايةٌ عن الأوزاعيّ. قال مالكٌ: «ولو فطم الصّبيّ دون الحولين فأرضعته امرأةٌ بعد فصاله لم يحرم؛ لأنّه قد صار بمنزلة الطّعام»، وهو روايةٌ عن الأوزاعيّ، وقد روي عن عمر وعليٍّ: «أنّهما قالا لا رضاع بعد فصالٍ»، فيحتمل أنّهما أرادا الحولين كقول الجمهور، سواءٌ فطم أو لم يفطم، ويحتمل أنّهما أرادا الفعل، كقول مالكٍ، واللّه أعلم.
وقد روي في الصّحيح عن عائشة، رضي اللّه عنها: «أنّها كانت ترى رضاع الكبير يؤثّر في التّحريم»، وهو قول عطاء بن أبي رباحٍ، واللّيث بن سعدٍ، وكانت عائشة تأمر بمن تختار أن يدخل عليها من الرّجال لبعض نسائها فترضعه، وتحتجّ في ذلك بحديث سالمٍ مولى أبي حذيفة حيث أمر النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم امرأة أبي حذيفة أن ترضعه، وكان كبيرًا، فكان يدخل عليها بتلك الرّضاعة، وأبى ذلك سائر أزواج النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، ورأين ذلك من الخصائص، وهو قول الجمهور. وحجّة الجمهور -منهم الأئمّة الأربعة، والفقهاء السّبعة، والأكابر من الصّحابة، وسائر أزواج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم سوى عائشة -ما ثبت في الصّحيحين، عن عائشة: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «انظرن من إخوانكنّ، فإنّما الرّضاعة من المجاعة». وسيأتي الكلام على مسائل الرّضاع، وفيما يتعلّق برضاع الكبير، عند قوله تعالى: {وأمّهاتكم اللاتي أرضعنكم} [النّساء:23].
وقوله: {وعلى المولود له رزقهنّ وكسوتهنّ بالمعروف} أي: وعلى والد الطّفل نفقة الوالدات وكسوتهنّ بالمعروف، أي: بما جرت به عادة أمثالهنّ في بلدهنّ من غير إسرافٍ ولا إقتارٍ، بحسب قدرته في يساره وتوسّطه وإقتاره، كما قال تعالى: {لينفق ذو سعةٍ من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق ممّا آتاه اللّه لا يكلّف اللّه نفسًا إلا ما آتاها سيجعل اللّه بعد عسرٍ يسرًا} [الطّلاق:7]. قال الضّحّاك: «إذا طلّق الرّجل زوّجته وله منها ولدٌ، فأرضعت له ولده، وجب على الوالد نفقتها وكسوتها بالمعروف».
وقوله: {لا تضارّ والدةٌ بولدها} أي: لا تدفعه عنها لتضرّ أباه بتربيته، ولكن ليس لها دفعه إذا ولدته حتّى تسقيه اللّبأ الّذي لا يعيش بدون تناوله غالبًا، ثمّ بعد هذا لها رفعه عنها إذا شاءت، ولكن إن كانت مضارّةً لأبيه فلا يحلّ لها ذلك، كما لا يحلّ له انتزاعه منها لمجرّد الضّرار لها. ولهذا قال: {ولا مولودٌ له بولده} أي: «بأن يريد أن ينتزع الولد منها إضرارًا بها»، قاله مجاهدٌ، وقتادة، والضّحّاك، والزّهريّ، والسّدّيّ، والثّوريّ، وابن زيد، وغيرهم.
وقوله: {وعلى الوارث مثل ذلك} قيل: «في عدم الضّرار لقريبه» قاله مجاهدٌ، والشّعبيّ، والضّحّاك. وقيل: «عليه مثل ما على والد الطّفل من الإنفاق على والدة الطّفل، والقيام بحقوقها وعدم الإضرار بها»، وهو قول الجمهور. وقد استقصى ذلك ابن جريرٍ في تفسيره. وقد استدلّ بذلك من ذهب من الحنفيّة والحنبليّة إلى وجوب نفقة الأقارب بعضهم على بعضٍ، وهو مرويٌّ عن عمر بن الخطّاب، وجمهور السّلف، ويرشّح ذلك بحديث الحسن، عن سمرة مرفوعًا: «من ملك ذا رحمٍ محرمٍ عتق عليه».
وقد ذكر أنّ الرّضاعة بعد الحولين ربّما ضرّت الولد إمّا في بدنه أو عقله، وقد قال سفيان الثّوريّ، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة: «أنّه رأى امرأةً ترضع بعد الحولين. فقال: لا ترضعيه».
وقوله: {فإن أرادا فصالا عن تراضٍ منهما وتشاورٍ فلا جناح عليهما} أي: فإن اتّفقا والدا الطّفل على فطامه قبل الحولين، ورأيا في ذلك مصلحةً له، وتشاورا في ذلك، وأجمعا عليه، فلا جناح عليهما في ذلك، فيؤخذ منه: «أنّ انفراد أحدهما بذلك دون الآخر لا يكفي، ولا يجوز لواحدٍ منهما أن يستبدّ بذلك من غير مشاورة الآخر»، قاله الثّوريّ وغيره، وهذا فيه احتياطٌ للطّفل، وإلزامٌ للنّظر في أمره، وهو من رحمة اللّه بعباده، حيث حجر على الوالدين في تربية طفلهما وأرشدهما إلى ما يصلحه ويصلحهما كما قال في سورة الطّلاق: {فإن أرضعن لكم فآتوهنّ أجورهنّ وأتمروا بينكم بمعروفٍ وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى} [الطّلاق:6].
وقوله: {وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلّمتم ما آتيتم بالمعروف} أي: إذا اتّفقت الوالدة والوالد على أن يتسلّم منها الولد إمّا لعذرٍ منها، أو عذرٍ له، فلا جناح عليهما في بذله، ولا عليه في قبوله منها إذا سلّمها أجرتها الماضية بالّتي هي أحسن، واسترضع لولده غيرها بالأجرة بالمعروف. قاله غير واحدٍ.
وقوله: {واتّقوا اللّه} أي: في جميع أحوالكم {واعلموا أنّ اللّه بما تعملون بصيرٌ} أي: فلا يخفى عليه شيءٌ من أحوالكم وأقوالكم). [تفسير ابن كثير: 1/ 632-635]

تفسير قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {والّذين يتوفّون منكم ويذرون أزواجًا يتربّصن بأنفسهنّ أربعة أشهرٍ وعشرًا فإذا بلغن أجلهنّ فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهنّ بالمعروف واللّه بما تعملون خبيرٌ (234)}
هذا أمرٌ من اللّه للنّساء اللّاتي يتوّفى عنهنّ أزواجهنّ: أن يعتددن أربعة أشهرٍ وعشر ليالٍ وهذا الحكم يشمل الزّوجات المدخول بهنّ وغير المدخول بهنّ بالإجماع، ومستنده في غير المدخول بها عموم الآية الكريمة، وهذا الحديث الّذي رواه الإمام أحمد وأهل السّنن وصحّحه التّرمذيّ: «أنّ ابن مسعودٍ سئل عن رجلٍ تزوّج امرأةً فمات ولم يدخل بها، ولم يفرض لها؟ فتردّدوا إليه مرارًا في ذلك فقال: أقول فيها برأيي، فإن يكن صوابًا فمن اللّه، وإن يكن خطأً فمنّي ومن الشّيطان، واللّه ورسوله بريئان منه: أرى لها الصّداق كاملًا». وفي لفظٍ: «لها صداق مثلها، لا وكس، ولا شطط، وعليها العدّة، ولها الميراث». فقام معقل بن سنانٍ الأشجعيّ فقال: «سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قضى به في بروع بنت واشقٍ. ففرح عبد اللّه بذلك فرحًا شديدًا». وفي روايةٍ: «فقام رجالٌ من أشجع، فقالوا: نشهد أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قضى به في بروع بنت واشق».
ولا يخرج من ذلك إلّا المتوفّى عنها زوجها، وهي حاملٌ، فإنّ عدّتها بوضع الحمل، ولو لم تمكث بعده سوى لحظةٍ؛ لعموم قوله: {وأولات الأحمال أجلهنّ أن يضعن حملهنّ} [الطّلاق: 4]. وكان ابن عبّاسٍ يرى: «أن عليها أن تتربّص بأبعد الأجلين من الوضع، أو أربعة أشهرٍ وعشرٍ، للجمع بين الآيتين»، وهذا مأخذٌ جيّدٌ ومسلكٌ قويٌّ، لولا ما ثبتت به السّنّة في حديث سبيعة الأسلميّة، المخرّج في الصّحيحين من غير وجهٍ: «أنّه توفّي عنها زوجها سعد بن خولة، وهي حاملٌ، فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته»، وفي روايةٍ: «فوضعت حملها بعده بليالٍ، فلمّا تعلّت من نفاسها تجمّلت للخطّاب، فدخل عليها أبو السّنابل بن بعكك، فقال لها: ما لي أراك متجمّلة؟ لعلّك ترجين النّكاح. واللّه ما أنت بناكح حتى يمر عليك أربعة أشهرٍ وعشر. قالت سبيعة: فلمّا قال لي ذلك جمعت عليّ ثيابي حين أمسيت، فأتيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فسألته عن ذلك، فأفتاني بأنّي قد حللت حين وضعت، وأمرني بالتّزويج إن بدا لي».
قال أبو عمر بن عبد البرّ: «وقد روي أنّ ابن عبّاسٍ رجع إلى حديث سبيعة، يعني لمّا احتجّ عليه به». قال: «ويصحّح ذلك عنه: أنّ أصحابه أفتوا بحديث سبيعة، كما هو قول أهل العلم قاطبةً».
وكذلك يستثنى من ذلك الزّوجة إذا كانت أمةً، فإنّ عدّتها على النّصف من عدّة الحرّة، شهران وخمس ليالٍ، على قول الجمهور؛ لأنّها لمّا كانت على النّصف من الحرّة في الحدّ، فكذلك فلتكن على النّصف منها في العدّة. ومن العلماء -كمحمّد بن سيرين وبعض الظّاهريّة -من يسوّي بين الزّوجات الحرائر والإماء في هذا المقام؛ لعموم الآية، ولأنّ العدّة من باب الأمور الجبلّيّة الّتي تستوي فيها الخليقة. وقد ذكر سعيد بن المسيّب، وأبو العالية وغيرهما: «أنّ الحكمة في جعل عدّة الوفاة أربعة أشهرٍ وعشرًا؛ لاحتمال اشتمال الرّحم على حملٍ، فإذا انتظر به هذه المدّة ظهر إن كان موجودًا»، كما جاء في حديث ابن مسعودٍ الّذي في الصّحيحين وغيرهما: «إنّ خلق أحدكم يجمع في بطن أمّه أربعين يومًا نطفةً، ثمّ يكون علقةً مثل ذلك، ثمّ يكون مضغةً مثل ذلك، ثمّ يبعث إليه الملك فينفخ فيه الرّوح». فهذه ثلاث أربعيناتٍ بأربعة أشهرٍ، والاحتياط بعشرٍ بعدها لما قد ينقص بعض الشّهور، ثمّ لظهور الحركة بعد نفخ الرّوح فيه، واللّه أعلم.
قال سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة: «سألت سعيد بن المسيّب: ما بال العشرة؟ قال: فيه ينفخ الرّوح». وقال الرّبيع بن أنسٍ: «قلت لأبي العالية: لم صارت هذه العشر مع الأشهر الأربعة؟ قال: لأنّه ينفخ فيها الرّوح». رواهما ابن جريرٍ. ومن هاهنا ذهب الإمام أحمد، في روايةٍ عنه، إلى أنّ عدّة أمّ الولد عدّة الحرّة هاهنا؛ لأنّها صارت فراشًا كالحرائر، وللحديث الّذي رواه الإمام أحمد، عن يزيد بن هارون، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن رجاء بن حيوة، عن قبيصة بن ذؤيبٍ، عن عمرو بن العاص أنّه قال: «لا تلبسوا علينا سنّة نبيّنا، عدّة أمّ الولد إذا توفّي عنها سيّدها أربعة أشهرٍ وعشرٌ» ورواه أبو داود، عن قتيبة، عن غندر -وعن ابن المثنّى، عن عبد الأعلى. وابن ماجه، عن عليّ بن محمّدٍ، عن وكيع -ثلاثتهم عن سعيد بن أبي عروبة، عن مطر الورّاق، عن رجاء بن حيوة، عن قبيصة، عن عمرو بن العاص، فذكره.
وقد روي عن الإمام أحمد أنّه أنكر هذا الحديث، وقيل: إنّ قبيصة لم يسمع عمرًا، وقد ذهب إلى القول بهذا الحديث طائفةٌ من السّلف، منهم: سعيد بن المسيّب، ومجاهدٌ، وسعيد بن جبيرٍ، والحسن، وابن سيرين، وأبو عياضٍ،والزّهريّ، وعمر بن عبد العزيز. وبه كان يأمر يزيد بن عبد الملك بن مروان، وهو أمير المؤمنين. وبه يقول الأوزاعي، وإسحاق بن راهويه، وأحمد بن حنبلٍ، في روايةٍ عنه. وقال طاوسٌ وقتادة: «عدّة أمّ الولد إذا توفّي عنها سيّدها نصف عدّة الحرّة: شهران وخمس ليالٍ». وقال أبو حنيفة وأصحابه، والثّوريّ، والحسن بن صالح بن حيّ: «تعتدّ بثلاث حيضٍ». وهو قول عليٍّ، وابن مسعودٍ، وعطاءٍ، وإبراهيم النخعي. وقال مالكٌ، والشّافعيّ، وأحمد في المشهور عنه:«عدّتها حيضةٌ». وبه يقول ابن عمر، والشّعبيّ، ومكحولٌ، واللّيث، وأبو عبيدٍ، وأبو ثور، والجمهور.
قال اللّيث: «ولو مات وهي حائضٌ أجزأتها». وقال مالكٌ: «فلو كانت ممّن لا تحيض فثلاثة أشهرٍ». وقال الشّافعيّ والجمهور: «شهرٌ، وثلاثةٌ أحبّ إليّ». واللّه أعلم.
وقوله: {فإذا بلغن أجلهنّ فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهنّ بالمعروف واللّه بما تعملون خبيرٌ} يستفاد من هذا وجوب الإحداد على المتوفّى عنها زوجها مدّة عدّتها، لما ثبت في الصّحيحين، من غير وجهٍ، عن أمّ حبيبة وزينب بنت جحشٍ أمّي المؤمنين، أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال: «لا يحل لامرأة تؤمن باللّه واليوم الآخر أن تحد على ميّتٍ فوق ثلاثٍ، إلّا على زوجٍ أربعة أشهرٍ وعشرًا». وفي الصّحيحين أيضًا، عن أمّ سلمة: «أنّ امرأةً قالت: يا رسول اللّه، إنّ ابنتي توفي عنها زوجها، وقد اشتكت عينها، أفنكحلها؟ فقال: «لا». كلّ ذلك يقول: «لا مرّتين أو ثلاثًا». ثمّ قال: «إنّما هي أربعة أشهرٍ وعشرٌ وقد كانت إحداكنّ في الجاهليّة تمكث سنةً». قالت زينب بنت أمّ سلمة: «كانت المرأة إذا توفّي عنها زوجها دخلت حفشًا، ولبست شرّ ثيابها، ولم تمسّ طيبًا ولا شيئًا، حتّى تمرّ بها سنةٌ، ثمّ تخرج فتعطى بعرة فترمي بها، ثمّ تؤتى بدابّةٍ -حمارٍ أو شاةٍ أو طيرٍ -فتفتضّ به فقلّما تفتضّ بشيءٍ إلّا مات».
ومن هاهنا ذهب كثيرٌ من العلماء إلى أنّ هذه الآية ناسخةٌ للآية الّتي بعدها، وهي قوله: {والّذين يتوفّون منكم ويذرون أزواجًا وصيّةً لأزواجهم متاعًا إلى الحول غير إخراجٍ} [البقرة: 240]، كما قاله ابن عبّاسٍ وغيره، وفي هذا نظرٌ كما سيأتي تقريره.
والغرض أنّ الإحداد هو عبارةٌ عن ترك الزّينة من الطّيب، ولبس ما يدعوها إلى الأزواج من ثيابٍ وحليٍّ وغير ذلك وهو واجبٌ في عدّة الوفاة قولًا واحدًا، ولا يجب في عدّة الرّجعيّة قولًا واحدًا، وهل يجب في عدّة البائن؟ فيه قولان.
ويجب الإحداد على جميع الزّوجات المتوفّى عنهنّ أزواجهنّ، سواءٌ في ذلك الصّغيرة والآيسة والحرّة والأمة، والمسلمة والكافرة، لعموم الآية. وقال الثّوريّ وأبو حنيفة وأصحابه: «لا إحداد على الكافرة». وبه يقول أشهب، وابن نافعٍ من أصحاب مالكٍ. وحجّة قائل هذه المقالة قوله صلّى اللّه عليه وسلّم:«لا يحلّ لامرأةٍ تؤمن باللّه واليوم الآخر أن تحدّ على ميّتٍ فوق ثلاثٍ، إلّا على زوجٍ أربعة أشهرٍ وعشرًا» قالوا: فجعله تعبّدًا. وألحق أبو حنيفة وأصحابه والثّوريّ الصّغيرة بها، لعدم التّكليف. وألحق أبو حنيفة وأصحابه الأمة المسلمة لنقصها. ومحلّ تقرير ذلك كلّه في كتب الأحكام والفروع، واللّه الموفّق للصّواب.
وقوله: {فإذا بلغن أجلهنّ} «أي: انقضت عدّتهنّ». قاله الضّحّاك والرّبيع بن أنسٍ، {فلا جناح عليكم} قال الزّهريّ: «أي: على أوليائها» {فيما فعلن} يعني: النّساء اللّاتي انقضّت عدّتهنّ. قال العوفيّ عن ابن عبّاسٍ: «إذا طلّقت المرأة أو مات عنها زوجها، فإذا انقضّت عدّتها فلا جناح عليها أن تتزيّن وتتصنّع وتتعرّض للتّزويج، فذلك المعروف». روي عن مقاتل بن حيّان نحوه، وقال ابن جريجٍ عن مجاهدٍ: {فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهنّ بالمعروف} قال: «هو النّكاح الحلال الطّيّب». وروي عن الحسن، والزّهريّ، والسّدّيّ نحو ذلك). [تفسير ابن كثير: 1/ 635-638]


رد مع اقتباس