عرض مشاركة واحدة
  #10  
قديم 30 جمادى الأولى 1435هـ/31-03-2014م, 03:04 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن الثامن الهجري

تفسير قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {ألم تر إلى الّذي حاجّ إبراهيم في ربّه أن آتاه اللّه الملك إذ قال إبراهيم ربّي الّذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإنّ اللّه يأتي بالشّمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الّذي كفر واللّه لا يهدي القوم الظّالمين (258)}
هذا الّذي حاجّ إبراهيم في ربّه وهو ملك بابل: نمروذ بن كنعان بن كوش بن سام بن نوحٍ. ويقال: نمرود بن فالخ بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوحٍ والأوّل قول مجاهدٍ وغيره.
قال مجاهدٌ: «وملك الدّنيا مشارقها ومغاربها أربعةٌ: مؤمنان وكافران فالمؤمنان: سليمان بن داود وذو القرنين. والكافران: نمرود بن كنعان وبختنصّر. فاللّه أعلم».
ومعنى قوله: {ألم تر} أي: بقلبك يا محمّد {إلى الّذي حاجّ إبراهيم في ربّه} أي: في وجود ربّه. وذلك أنّه أنكر أن يكون ثمّ إلهٌ غيره كما قال بعده فرعون لملئه: {ما علمت لكم من إلهٍ غيري} [القصص:38] وما حمله على هذا الطّغيان والكفر الغليظ والمعاندة الشّديدة إلّا تجبّره، وطول مدّته في الملك؛ وذلك أنّه يقال: إنّه مكث أربعمائة سنةٍ في ملكه؛ ولهذا قال: {أن آتاه اللّه الملك} وكأنّه طلب من إبراهيم دليلًا على وجود الرّبّ الّذي يدعو إليه فقال إبراهيم: {ربّي الّذي يحيي ويميت} أي: الدّليل على وجوده حدوث هذه الأشياء المشاهدة بعد عدمها، وعدمها بعد وجودها. وهذا دليلٌ على وجود الفاعل المختار ضرورةً؛ لأنّها لم تحدث بنفسها فلا بدّ لها من موجدٍ أوجدها وهو الرّبّ الّذي أدعو إلى عبادته وحده لا شريك له. فعند ذلك قال المحاجّ -وهو النّمروذ-: {أنا أحيي وأميت}، قال قتادة ومحمّد بن إسحاق والسّدّيّ وغير واحدٍ: «وذلك أنّي أوتى بالرّجلين قد استحقّا القتل فآمر بقتل أحدهما فيقتل، وبالعفو عن الآخر فلا يقتل. فذلك معنى الإحياء والإماتة».
والظّاهر -واللّه أعلم-أنّه ما أراد هذا؛ لأنّه ليس جوابًا لما قال إبراهيم ولا في معناه؛ لأنّه غير مانعٍ لوجود الصّانع. وإنّما أراد أنّ يدّعي لنفسه هذا المقام عنادًا ومكابرةً ويوهم أنّه الفاعل لذلك وأنّه هو الّذي يحيّي ويميت، كما اقتدى به فرعون في قوله: {ما علمت لكم من إلهٍ غيري} ولهذا قال له إبراهيم لمّا ادّعى هذه المكابرة: {فإنّ اللّه يأتي بالشّمس من المشرق فأت بها من المغرب} أي: إذا كنت كما تدّعي من أنّك أنت الّذي تحيي وتميت فالّذي يحيي ويميت هو الّذي يتصرّف في الوجود في خلق ذواته وتسخير كواكبه وحركاته فهذه الشّمس تبدو كلّ يومٍ من المشرق، فإن كنت إلهًا كما ادّعيت تحيي وتميت فأت بها من المغرب. فلمّا علم عجزه وانقطاعه، وأنّه لا يقدر على المكابرة في هذا المقام بهت أي: أخرس فلا يتكلّم، وقامت عليه الحجّة. قال اللّه تعالى {واللّه لا يهدي القوم الظّالمين} أي: لا يلهمهم حجّةً ولا برهانًا بل حجّتهم داحضةٌ عند ربّهم، وعليهم غضبٌ ولهم عذابٌ شديدٌ.
وهذا التّنزيل على هذا المعنى أحسن ممّا ذكره كثيرٌ من المنطقيّين: أنّ عدول إبراهيم عن المقام الأوّل إلى المقام الثّاني انتقالٌ من دليلٍ إلى أوضح منه، ومنهم من قد يطلق عبارةً رديّةً. وليس كما قالوه بل المقام الأوّل يكون كالمقدّمة للثّاني ويبيّن بطلان ما ادّعاه نمروذ في الأوّل والثّاني، وللّه الحمد والمنة.
وقد ذكر السّدّيّ أنّ هذه المناظرة كانت بين إبراهيم ونمروذ بعد خروج إبراهيم من النّار ولم يكن اجتمع بالملك إلّا في ذلك اليوم فجرت بينهما هذه المناظرة.
وروى عبد الرّزّاق عن معمرٍ عن زيد بن أسلم: «أنّ النّمروذ كان عنده طعامٌ وكان النّاس يغدون إليه للميرة فوفد إبراهيم في جملة من وفد للميرة فكان بينهما هذه المناظرة ولم يعط إبراهيم من الطّعام كما أعطى النّاس بل خرج وليس معه شيءٌ من الطّعام، فلمّا قرب من أهله عمد إلى كثيبٍ من التّراب فملأ منه عدليه وقال: أشغل أهلي عنّي إذا قدمت عليهم فلمّا قدم وضع رحاله وجاء فاتّكأ فنام. فقامت امرأته سارّة إلى العدلين فوجدتهما ملآنين طعامًا طيّبًا فعملت منه طعامًا. فلمّا استيقظ إبراهيم وجد الّذي قد أصلحوه فقال: أنّى لكم هذا؟ قالت: من الّذي جئت به. فعرف أنّه رزقٌ رزقهموه اللّه عزّ وجلّ». قال زيد بن أسلم: «وبعث اللّه إلى ذلك الملك الجبّار ملكا يأمره بالإيمان باللّه فأبى عليه ثمّ دعاه الثّانية فأبى ثمّ الثّالثة فأبى وقال: اجمع جموعك وأجمع جموعي. فجمع النّمروذ جيشه وجنوده وقت طلوع الشّمس، وأرسل اللّه عليهم بابًا من البعوض بحيث لم يروا عين الشّمس وسلّطها اللّه عليهم فأكلت لحومهم ودماءهم وتركتهم عظامًا باديةً، ودخلت واحدةٌ منها في منخري الملك فمكثت في منخريه أربعمائة سنةٍ، عذّبه اللّه بها فكان يضرب رأسه بالمرازب في هذه المدّة كلّها حتّى أهلكه اللّه بها» ). [تفسير ابن كثير: 1/ 686-687]

تفسير قوله تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آَيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {أو كالّذي مرّ على قريةٍ وهي خاويةٌ على عروشها قال أنّى يحيي هذه اللّه بعد موتها فأماته اللّه مائة عامٍ ثمّ بعثه قال كم لبثت قال لبثت يومًا أو بعض يومٍ قال بل لبثت مائة عامٍ فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنّه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آيةً للنّاس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثمّ نكسوها لحمًا فلمّا تبيّن له قال أعلم أنّ اللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ (259)}
تقدّم قوله تعالى: {ألم تر إلى الّذي حاجّ إبراهيم في ربّه أن آتاه اللّه الملك} وهو في قوّة قوله: هل رأيت مثل الّذي حاجّ إبراهيم في ربّه؟ ولهذا عطف عليه بقوله: {أو كالّذي مرّ على قريةٍ وهي خاويةٌ على عروشها} اختلفوا في هذا المارّ من هو؟ فروى ابن أبي حاتمٍ عن عصام بن روّاد عن آدم بن أبي إياسٍ عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن ناجية بن كعبٍ عن عليّ بن أبي طالبٍ أنّه قال: «هو عزيرٌ». ورواه ابن جريرٍ عن ناجية نفسه. وحكاه ابن جريرٍ وابن أبي حاتمٍ عن ابن عبّاسٍ والحسن وقتادة والسّدّيّ وسليمان بن بريدة وهذا القول هو المشهور.
وقال وهب بن منبّهٍ وعبد اللّه بن عبيد بن عميرٍ: «هو أرميا بن حلقيا». قال محمّد بن إسحاق؛ عمن لا يتهم عن وهب بن منبّهٍ أنّه قال: «وهو اسم الخضر عليه السّلام».
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي قال: سمعت سليمان بن محمّدٍ اليساريّ الجاري -من أهل الجار، ابن عم مطرف-قال: سمعت رجلًا من أهل الشّام يقول: «إنّ الّذي أماته اللّه مائة عامٍ ثمّ بعثه اسمه: حزقيل بن بورا».
وقال مجاهد بن جبر: «هو رجل من بني إسرائيل».
وذكر غير واحدٍ أنّه مات وهو ابن أربعين سنةً؛ فبعثه اللّه وهو كذلك، وكان له ابنٌ فبلغ من السّنّ مائةً وعشرين سنةً، وبلغ ابن ابنه تسعين وكان الجدّ شابًّا وابنه وابن ابنه شيخان كبيران قد بلغا الهرم، وأنشدني به بعض الشّعراء:

واسودّ رأس شابٍّ من قبل ابنه ....... ومن قبله ابن ابنه فهو أكبر
يرى أنّه شيخًا يدبّ على عصا ....... ولحيته سوداء والرّأس أشعر
وما لابنه حبلٌ ولا فضل قوّةٍ ....... يقوم كما يمشي الصّغير فيعثر
وعمر ابنه أربعون أمرّها ....... ولابن ابنه في النّاس تسعين غبّر
وأمّا القرية: فالمشهور أنّها بيت المقدس مرّ عليها بعد تخريب بختنصّر لها وقتل أهلها. {وهي خاوية} أي: ليس فيها أحدٌ من قولهم: خوت الدّار تخوي خواءً وخويا.
وقوله: {على عروشها} أي: ساقطةٌ سقوفها وجدرانها على عرصاتها، فوقف متفكّرًا فيما آل أمرها إليه بعد العمارة العظيمة وقال: {أنّى يحيي هذه اللّه بعد موتها} وذلك لما رأى من دثورها وشدّة خرابها وبعدها عن العود إلى ما كانت عليه قال اللّه تعالى: {فأماته اللّه مائة عامٍ ثمّ بعثه} قال: وعمرت البلدة بعد مضيّ سبعين سنةً من موته وتكامل ساكنوها وتراجعت بنو إسرائيل إليها. فلمّا بعثه اللّه عزّ وجلّ بعد موته كان أوّل شيءٍ أحيا اللّه فيه عينيه لينظر بهما إلى صنع اللّه فيه كيف يحيي بدنه؟ فلمّا استقلّ سويًّا قال اللّه له -أي بواسطة الملك-: {كم لبثت قال لبثت يومًا أو بعض يوم} قالوا: وذلك أنّه مات أوّل النّهار ثمّ بعثه اللّه في آخر نهارٍ، فلمّا رأى الشّمس باقيةً ظنّ أنّها شمس ذلك اليوم فقال: {أو بعض يومٍ قال بل لبثت مائة عامٍ فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنّه} وذلك: أنّه كان معه فيما ذكر عنبٌ وتينٌ وعصيرٌ فوجده كما فقده لم يتغيّر منه شيءٌ، لا العصير استحال ولا التّين حمض ولا أنتن ولا العنب تعفّن {وانظر إلى حمارك} أي: كيف يحييه اللّه عزّ وجلّ وأنت تنظر {ولنجعلك آيةً للنّاس} أي: دليلًا على المعاد {وانظر إلى العظام كيف ننشزها} أي: نرفعها فتركب بعضها على بعضٍ.
وقد روى الحاكم في مستدركه من حديث نافع بن أبي نعيم عن إسماعيل بن أبي حكيمٍ عن خارجة بن زيد بن ثابتٍ عن أبيه: «أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قرأ: {كيف ننشزها} بالزّاي ثمّ قال: صحيح الإسناد ولم يخرّجاه».
وقرئ: (ننشرها) أي: نحييها قاله مجاهدٌ {ثمّ نكسوها لحمًا}. وقال السّدّيّ وغيره: «تفرّقت عظام حماره حوله يمينًا ويسارًا فنظر إليها وهي تلوح من بياضها فبعث اللّه ريحًا فجمعتها من كلّ موضعٍ من تلك المحلّة، ثمّ ركب كلّ عظمٍ في موضعه حتّى صار حمارًا قائمًا من عظامٍ لا لحم عليها ثمّ كساها اللّه لحمًا وعصبًا وعروقًا وجلدًا، وبعث اللّه ملكًا فنفخ في منخري الحمار فنهق كلّه بإذن اللّه عزّ وجلّ وذلك كلّه بمرأى من العزير فعند ذلك لمّا تبيّن له هذا كلّه {قال أعلم أنّ اللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ} أي: أنا عالمٌ بهذا وقد رأيته عيانًا فأنا أعلم أهل زماني بذلك» وقرأ آخرون: "قال اعلم" على أنّه أمرٌ له بالعلم). [تفسير ابن كثير: 1/ 687-688]

تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {وإذ قال إبراهيم ربّ أرني كيف تحي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئنّ قلبي قال فخذ أربعةً من الطّير فصرهنّ إليك ثمّ اجعل على كلّ جبلٍ منهنّ جزءًا ثمّ ادعهنّ يأتينك سعيًا واعلم أنّ اللّه عزيزٌ حكيمٌ (260)}
ذكروا لسؤال إبراهيم عليه السّلام، أسبابًا، منها: أنّه لمّا قال لنمروذ: {ربّي الّذي يحيي ويميت} أحبّ أن يترقّى من علم اليقين في ذلك إلى عين اليقين، وأن يرى ذلك مشاهدةً فقال: {ربّ أرني كيف تحي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئنّ قلبي}
فأمّا الحديث الّذي رواه البخاريّ عند هذه الآية: حدّثنا أحمد بن صالحٍ، حدّثنا ابن وهبٍ، أخبرني يونس، عن ابن شهابٍ، عن أبي سلمة وسعيدٍ، عن أبي هريرة، رضي اللّه عنه، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «نحن أحقّ بالشّكّ من إبراهيم، إذ قال: ربّ أرني كيف تحيى الموتى؟ قال: أو لم تؤمن. قال: بلى، ولكن ليطمئنّ قلبي» وكذا رواه مسلمٌ، عن حرملة بن يحيى، عن ابن وهبٍ به -فليس المراد هاهنا بالشّكّ ما قد يفهمه من لا علم عنده، بلا خلافٍ. وقد أجيب عن هذا الحديث بأجوبةٍ، أحدها = .
وقوله: {قال فخذ أربعةً من الطّير فصرهنّ إليك} اختلف المفسّرون في هذه الأربعة: ما هي؟ وإن كان لا طائل تحت تعيينها، إذ لو كان في ذلك متّهم لنصّ عليه القرآن، فروي عن ابن عبّاسٍ أنّه قال: «هي الغرنوق، والطّاوس، والدّيك، والحمامة». وعنه أيضًا: «أنّه أخذ وزًّا، ورألًا -وهو فرخ النعام -وديكا، وطاووسًا». وقال مجاهد وعكرمة: «كانت حمامة، وديكا، وطاووسًا، وغرابًا».
وقوله: {فصرهنّ إليك} «أي: قطّعهنّ». قاله ابن عبّاسٍ، وعكرمة، وسعيد بن جبيرٍ، وأبو مالكٍ، وأبو الأسود الدّؤليّ، ووهب بن منبّهٍ، والحسن، والسّدّيّ، وغيرهم.
وقال العوفيّ، عن ابن عبّاسٍ: «{فصرهنّ إليك} أوثقهنّ»، فلمّا أوثقهنّ ذبحهنّ، ثمّ جعل على كلّ جبلٍ منهنّ جزءًا، فذكروا أنّه عمد إلى أربعةٍ من الطّير فذبحهنّ، ثمّ قطّعهنّ ونتف ريشهنّ، ومزّقهنّ وخلط بعضهن في ببعض، ثمّ جزّأهنّ أجزاءً، وجعل على كلّ جبلٍ منهنّ جزءًا، قيل: أربعة أجبلٍ. وقيل: سبعةٌ. قال ابن عبّاسٍ: «وأخذ رؤوسهنّ بيده، ثمّ أمره اللّه عزّ وجلّ، أن يدعوهنّ، فدعاهنّ كما أمره اللّه عزّ وجلّ، فجعل ينظر إلى الرّيش يطير إلى الرّيش، والدّم إلى الدّم، واللّحم إلى اللّحم، والأجزاء من كلّ طائرٍ يتّصل بعضها إلى بعضٍ، حتّى قام كلّ طائرٍ على حدته، وأتينه يمشين سعيًا ليكون أبلغ له في الرّؤية الّتي سألها، وجعل كلّ طائرٍ يجيء ليأخذ رأسه الّذي في يد إبراهيم، عليه السّلام، فإذا قدّم له غير رأسه يأباه، فإذا قدّم إليه رأسه تركب مع بقيّة جثّته بحول اللّه وقوّته؛ ولهذا قال: {واعلم أنّ اللّه عزيزٌ حكيمٌ} أي: عزيزٌ لا يغلبه شيءٌ، ولا يمتنع منه شيءٌ، وما شاء كان بلا ممانعٍ لأنّه العظيم القاهر لكلّ شيءٍ، حكيمٌ في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره».
قال عبد الرّزّاق: أخبرنا معمر، عن أيّوب في قوله: {ولكن ليطمئنّ قلبي} قال: قال ابن عبّاسٍ: «ما في القرآن آيةٌ أرجى عندي منها».
وقال ابن جريرٍ: حدّثني محمّد بن المثنّى، حدّثنا محمّد بن جعفرٍ، حدّثنا شعبة، سمعت زيد بن عليٍّ يحدّث، عن رجلٍ، عن سعيد بن المسيّب قال: «اتّعد عبد اللّه بن عبّاسٍ وعبد اللّه بن عمرو بن العاص أن يجتمعا. قال: ونحن شببةٌ، فقال أحدهما لصاحبه: أيّ آيةٍ في كتاب اللّه أرجى لهذه الأمّة؟ فقال عبد اللّه بن عمرو: قول الله تعالى: {ياعبادي الّذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة اللّه إنّ اللّه يغفر الذّنوب جميعًا} الآية [الزّمر:53]. فقال ابن عبّاسٍ: أمّا إن كنت تقول: إنّها، وإنّ أرجى منها لهذه الأمّة قول إبراهيم: {ربّ أرني كيف تحي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئنّ قلبي}».
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا عبد اللّه بن صالحٍ كاتب اللّيث، حدّثني ابن أبي سلمة عن محمّد بن المنكدر، أنّه قال: «التقى عبد اللّه بن عبّاسٍ، وعبد اللّه بن عمرو بن العاص، فقال ابن عبّاسٍ لابن عمرو بن العاص: أيّ آيةٍ في القرآن أرجى عندك؟ فقال عبد اللّه بن عمرٍو: قول اللّه عز وجل: {ياعبادي الّذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة اللّه} الآية -فقال ابن عبّاسٍ: لكنّ أنا أقول: قول اللّه: {وإذ قال إبراهيم ربّ أرني كيف تحي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى} فرضي من إبراهيم قوله: {بلى} قال: فهذا لما يعترض في النّفوس ويوسوس به الشّيطان».
وهكذا رواه الحاكم في المستدرك، عن أبي عبد اللّه محمّد بن يعقوب بن الأخرم، عن إبراهيم بن عبد اللّه السّعديّ، عن بشر بن عمر الزّهرانيّ، عن عبد العزيز بن أبي سلمة، بإسناده، مثله. ثمّ قال: صحيح الإسناد، ولم يخرّجاه). [تفسير ابن كثير: 1/ 688-690]


رد مع اقتباس