عرض مشاركة واحدة
  #10  
قديم 30 جمادى الأولى 1435هـ/31-03-2014م, 11:40 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن الثامن الهجري


تفسير قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {كتب عليكم القتال وهو كرهٌ لكم وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خيرٌ لكم وعسى أن تحبّوا شيئًا وهو شرٌّ لكم واللّه يعلم وأنتم لا تعلمون (216)}
هذا إيجابٌ من اللّه تعالى للجهاد على المسلمين: أن يكفّوا شرّ الأعداء عن حوزة الإسلام.
وقال الزّهريّ: «الجهاد واجبٌ على كلّ أحدٍ، غزا أو قعد؛ فالقاعد عليه إذا استعين أن يعين، وإذا استغيث أن يغيث، وإذا استنفر أن ينفر، وإن لم يحتج إليه قعد».
قلت: ولهذا ثبت في الصّحيح «من مات ولم يغز، ولم يحدّث نفسه بغزوٍ مات ميتةً جاهليّةً». وقال عليه السّلام يوم الفتح: «لا هجرة، ولكن جهادٌ ونيّة، إذا استنفرتم فانفروا».
وقوله: {وهو كرهٌ لكم} أي: شديدٌ عليكم ومشقّةٌ. وهو كذلك، فإنّه إمّا أن يقتل أو يجرح مع مشقّة السّفر ومجالدة الأعداء.
ثمّ قال تعالى: {وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خيرٌ لكم} أي: لأنّ القتال يعقبه النّصر والظّفر على الأعداء، والاستيلاء على بلادهم، وأموالهم، وذراريهم، وأولادهم.
{وعسى أن تحبّوا شيئًا وهو شرٌّ لكم} وهذا عامٌّ في الأمور كلّها، قد يحبّ المرء شيئًا، وليس له فيه خيرةٌ ولا مصلحةٌ. ومن ذلك القعود عن القتال، قد يعقبه استيلاء العدوّ على البلاد والحكم.
ثمّ قال تعالى: {واللّه يعلم وأنتم لا تعلمون} أي: هو أعلم بعواقب الأمور منكم، وأخبر بما فيه صلاحكم في دنياكم وأخراكم؛ فاستجيبوا له، وانقادوا لأمره، لعلّكم ترشدون). [تفسير ابن كثير: 1/ 572-573]

تفسير قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {يسألونك عن الشّهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبيرٌ وصدٌّ عن سبيل اللّه وكفرٌ به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند اللّه والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتّى يردّوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافرٌ فأولئك حبطت أعمالهم في الدّنيا والآخرة وأولئك أصحاب النّار هم فيها خالدون (217) إنّ الّذين آمنوا والّذين هاجروا وجاهدوا في سبيل اللّه أولئك يرجون رحمة اللّه واللّه غفورٌ رحيمٌ (218)}
قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا محمّد بن أبي بكرٍ المقدّميّ، حدّثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، حدّثني الحضرمي، عن أبي السّوار، عن جندب بن عبد اللّه: «أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بعث رهطًا، وبعث عليهم أبا عبيدة بن الجرّاح أو عبيدة بن الحارث فلمّا ذهب ينطلق، بكى صبابة إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فجلس، فبعث عليهم مكانه عبد اللّه بن جحشٍ، وكتب له كتابًا، وأمره ألا يقرأ الكتاب حتّى يبلغ مكان كذا وكذا، وقال: لا تكرهنّ أحدًا على السّير معك من أصحابك. فلمّا قرأ الكتاب استرجع، وقال: سمعًا وطاعةً للّه ولرسوله. فخبّرهم الخبر، وقرأ عليهم الكتاب، فرجع رجلان، وبقي بقيّتهم، فلقوا ابن الحضرمي فقتلوه، ولم يدروا أنّ ذلك اليوم من رجبٍ أو من جمادى. فقال المشركون للمسلمين: قتلتم في الشّهر الحرام! فأنزل اللّه: {يسألونك عن الشّهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبيرٌ} الآية».
وقال السّدّيّ، عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ -وعن مرّة، عن ابن مسعودٍ: «{يسألونك عن الشّهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبيرٌ} وذلك أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بعث سريّة، وكانوا سبعة نفرٍ، عليهم عبد اللّه بن جحش الأسديّ، وفيهم عمّار بن ياسرٍ، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وسعد بن أبي وقّاص، وعتبة بن غزوان السّلمي -حليفٌ لبني نوفل -وسهيل بن بيضاء، وعامر بن فهيرة، وواقد بن عبد اللّه اليربوعي، حليفٌ لعمر بن الخطّاب. وكتب لابن جحشٍ كتابًا، وأمره ألّا يقرأه حتّى ينزل بطن ملل فلمّا نزل بطن ملل فتح الكتاب، فإذا فيه: أن سر حتّى تنزل بطن نخلة. فقال لأصحابه: من كان يريد الموت فليمض وليوص، فإنّني موص وماضٍ لأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم. فسار، فتخلّف عنه سعد بن أبي وقّاص، وعتبة، وأضلّا راحلةً لهما فأتيا بحران يطلبانها، وسار ابن جحشٍ إلى بطن نخلة، فإذا هو بالحكم بن كيسان، والمغيرة بن عثمان، وعمرو بن الحضرميّ، وعبد اللّه بن المغيرة. وانفلت ابن المغيرة، فأسروا الحكم بن كيسان والمغيرة وقتل عمرو، قتله واقد بن عبد اللّه. فكانت أوّل غنيمةٍ غنمها أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم. فلمّا رجعوا إلى المدينة بالأسيرين وما أصابوا المال، أراد أهل مكّة أن يفادوا الأسيرين، فقال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: «حتّى ننظر ما فعل صاحبانا» فلمّا رجع سعدٌ وصاحبه، فادى بالأسيرين، ففجر عليه المشركون وقالوا: إنّ محمّدًا يزعم أنّه يتبع طاعة اللّه، وهو أوّل من استحلّ الشّهر الحرام، وقتل صاحبنا في رجبٍ. فقال المسلمون: إنّما قتلناه في جمادى -وقيل: في أوّل رجبٍ، وآخر ليلةٍ من جمادى -وغمد المسلمون سيوفهم حين دخل شهر رجبٍ. فأنزل اللّه يعيّر أهل مكّة: {يسألونك عن الشّهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبيرٌ} لا يحلّ، وما صنعتم أنتم يا معشر المشركين أكبر من القتل في الشّهر الحرام، حين كفرتم باللّه، وصددتم عنه محمّدًا صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه، وإخراج أهل المسجد الحرام منه، حين أخرجوا محمّدًا صلّى اللّه عليه وسلّم أكبر من القتل عند اللّه».
وقال العوفيّ، عن ابن عبّاسٍ: «{يسألونك عن الشّهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبيرٌ} وذلك أنّ المشركين صدّوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، وردوه عن المسجد الحرام في شهرٍ حرامٍ، ففتح اللّه على نبيّه في شهرٍ حرام من العام المقبل. فعاب المشركون على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم القتال في شهرٍ حرامٍ. فقال اللّه: {وصدٌّ عن سبيل اللّه وكفرٌ به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر} من القتال فيه. وأنّ محمّدًا صلّى اللّه عليه وسلّم بعث سريّةً فلقوا عمرو بن الحضرميّ، وهو مقبلٌ من الطّائف في آخر ليلةٍ من جمادى، وأوّل ليلةٍ من رجبٍ. وأنّ أصحاب محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم كانوا يظنّون أنّ تلك اللّيلة من جمادى، وكانت أوّل رجبٍ ولم يشعروا، فقتله رجلٌ منهم وأخذوا ما كان معه. وأنّ المشركين أرسلوا يعيّرونه بذلك. فقال اللّه: {يسألونك عن الشّهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبيرٌ} وغير ذلك أكبر منه: صدّ عن سبيل اللّه، وكفرٌ به والمسجد الحرام، وإخراج أهله منه، إخراج أهل المسجد الحرام أكبر من الذي أصاب أصحاب محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم، والشّرك أشدّ منه».
وهكذا روى أبو سعد البقّال، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ: «أنّها أنزلت في سريّة عبد اللّه بن جحشٍ، وقتل عمرو بن الحضرميّ».
وقال محمّد بن إسحاق: حدّثني محمّد بن السّائب الكلبيّ، عن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ قال: «نزل فيما كان من مصاب عمرو بن الحضرميّ: {يسألونك عن الشّهر الحرام قتالٍ فيه} إلى آخر الآية».
وقال عبد الملك بن هشامٍ راوي السّيرة، عن زياد بن عبد اللّه البكّائيّ، عن محمّد بن إسحاق بن يسارٍ المدنيّ، رحمه اللّه، في كتاب السّيرة له، أنّه قال: «وبعث -يعني رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم -عبد اللّه بن جحش بن رئابٍ الأسديّ في رجبٍ، مقفله من بدرٍ الأولى، وبعث معه ثمانية رهطٍ من المهاجرين، ليس فيهم من الأنصار أحدٌ، وكتب له كتابًا، وأمره ألّا ينظر فيه حتّى يسير يومين ثمّ ينظر فيه، فيمضي لما أمره به، ولا يستكره من أصحابه أحدًا. وكان أصحاب عبد اللّه بن جحشٍ من المهاجرين. ثمّ من بني عبد شمس بن عبد منافٍ: أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد منافٍ، ومن حلفائهم: عبد اللّه بن جحشٍ، وهو أمير القوم، وعكّاشة بن محصن بن حرثان، أحد بني أسد ابن خزيمة، حليفٌ لهم. ومن بني نوفل بن عبد منافٍ: عتبة بن غزوان بن جابرٍ، حليفٌ لهم. ومن بني زهرة بن كلابٍ: سعد بن أبي وقّاصٍ. ومن بني عديّ بن كعبٍ: عامر بن ربيعة، حليفٌ لهم من عنز بن وائلٍ، وواقد بن عبد اللّه بن عبد مناف بن عرين بن ثعلبة بن يربوعٍ، أحد بني تميمٍ، حليفٌ لهم. وخالد بن البكير أحد بني سعد بن ليثٍ، حليفٌ لهم. ومن بني الحارث بن فهر: سهيل بن بيضاء. فلمّا سار عبد اللّه بن جحشٍ يومين فتح الكتاب فنظر فيه فإذا فيه: «إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتّى تنزل نخلة، بين مكّة والطّائف، ترصد بها قريشًا، وتعلم لنا من أخبارهم». فلمّا نظر عبد اللّه بن جحشٍ في الكتاب قال: سمعًا وطاعةً. ثمّ قال لأصحابه: قد أمرني رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن أمضي إلى نخلة، أرصد بها قريشًا، حتّى آتيه منهم بخبرٍ، وقد نهاني أن أستكره أحدًا منكم. فمن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق، ومن كره ذلك فليرجع، فأمّا أنا فماضٍ لأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فمضى ومضى معه أصحابه لم يتخلّف عنه منهم أحدٌ.
فسلك على الحجاز، حتّى إذا كان بمعدن، فوق الفرع، يقال له: بحران أضلّ سعد بن أبي وقّاصٍ وعتبة بن غزوان بعيرًا لهما، كانا يعتقبانه، فتخلّفا عليه في طلبه، ومضى عبد اللّه بن جحشٍ وبقيّة أصحابه حتّى نزل بنخلة، فمرّت به عيرٌ لقريشٍ تحمل زبيبًا وأدمًا وتجارةً من تجارة قريشٍ، فيها: عمرو بن الحضرميّ، وعثمان بن عبد اللّه بن المغيرة، وأخوه نوفل بن عبد اللّه المخزوميّان، والحكم بن كيسان، مولى هشام بن المغيرة.
فلمّا رآهم القوم هابوهم وقد نزلوا قريبًا منهم، فأشرف لهم عكّاشة بن محصنٍ، وكان قد حلق رأسه، فلمّا رأوه أمنوا وقالوا: عمّار، لا بأس عليكم منهم. وتشاور القوم فيهم، وذلك في آخر يومٍ من رجبٍ، فقال القوم: واللّه لئن تركتم القوم هذه الليلة ليدخلنّ الحرم، فليمتنعنّ منكم به، ولئن قتلتموهم لتقتلنّهم في الشّهر الحرام. فتردّد القوم، وهابوا الإقدام عليهم، ثمّ شجّعوا أنفسهم عليهم، وأجمعوا على قتل من قدروا عليه منهم، وأخذ ما معهم. فرمى واقد بن عبد اللّه التّميميّ عمرو بن الحضرميّ بسهمٍ فقتله، واستأسر عثمان بن عبد اللّه والحكم بن كيسان، وأفلت القوم نوفل بن عبد اللّه فأعجزهم. وأقبل عبد اللّه بن جحشٍ وأصحابه بالعير والأسيرين، حتّى قدموا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم المدينة».
قال ابن إسحاق: «وقد ذكر بعض آل عبد اللّه بن جحشٍ: أنّ عبد اللّه قال لأصحابه: إنّ لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ممّا غنمنا الخمس، وذلك قبل أن يفرض اللّه الخمس من المغانم، فعزل لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم خمس العير، وقسم سائرها بين أصحابه».
قال ابن إسحاق: فلمّا قدموا على رسول اللّه قال: «ما أمرتكم بقتالٍ في الشّهر الحرام». فوقّف العير والأسيرين، وأبى أن يأخذ من ذلك شيئًا، فلمّا قال ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أسقط في أيدي القوم، وظنّوا أنّهم قد هلكوا، وعنّفهم إخوانهم من المسلمين فيما صنعوا. وقالت قريشٌ: قد استحلّ محمّدٌ وأصحابه الشهر الحرام، وسفكوا فيه الدّم، وأخذوا فيه الأموال، وأسروا فيه الرّجال. فقال من يردّ عليهم من المسلمين ممّن كان بمكّة: إنّما أصابوا ما أصابوا في شعبان.
وقالت: يهود تفاءل بذلك على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: عمرو بن الحضرميّ قتله واقد بن عبد اللّه: عمرٌو: عمرت الحرب، والحضرميّ: حضرت الحرب، وواقد بن عبد اللّه: وقدت الحرب. فجعل اللّه عليهم ذلك لا لهم.
فلمّا أكثر النّاس في ذلك أنزل اللّه على رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم: {يسألونك عن الشّهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبيرٌ وصدٌّ عن سبيل اللّه وكفرٌ به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند اللّه والفتنة أكبر من القتل} أي: إن كنتم قتلتم في الشّهر الحرام فقد صدّوكم عن سبيل اللّه مع الكفر به، وعن المسجد الحرام، وإخراجكم منه وأنتم أهله أكبر عند اللّه من قتل من قتلتم منهم، {والفتنة أكبر من القتل} أي: قد كانوا يفتنون المسلم في دينه، حتّى يردّوه إلى الكفر بعد إيمانه فذلك أكبر عند الله من القتل: {ولا يزالون يقاتلونكم حتّى يردّوكم عن دينكم إن استطاعوا} أي: ثمّ هم مقيمون على أخبث ذلك وأعظمه، غير تائبين ولا نازعين.
قال ابن إسحاق: فلمّا نزل القرآن بهذا من الأمر، وفرّج اللّه عن المسلمين ما كانوا فيه من الشّفق قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم العير والأسيرين، وبعثت إليه قريشٌ في فداء عثمان بن عبد اللّه، والحكم بن كيسان، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «لا نفديكموهما حتّى يقدم صاحبانا -يعني سعد بن أبي وقّاصٍ وعتبة ابن غزوان -فإنّا نخشاكم عليهما، فإن تقتلوهما نقتل صاحبيكم». فقدم سعدٌ وعتبة، فأفداهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم منهم.
فأمّا الحكم بن كيسان فأسلم وحسن إسلامه، وأقام عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حتى قتل يوم بئر معونة شهيدًا. وأمّا عثمان بن عبد اللّه فلحق بمكّة، فمات بها كافرًا.
قال ابن إسحاق: فلمّا تجلّى عن عبد اللّه بن جحشٍ وأصحابه ما كانوا فيه حين نزل القرآن، طمعوا في الأجر، فقالوا: يا رسول اللّه، أنطمع أن تكون لنا غزوةٌ نعطى فيها أجر المجاهدين المهاجرين ؟ فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {إنّ الّذين آمنوا والّذين هاجروا وجاهدوا في سبيل اللّه أولئك يرجون رحمة اللّه واللّه غفورٌ رحيمٌ} فوضعهم اللّه من ذلك على أعظم الرّجاء».
قال ابن إسحاق: والحديث في هذا عن الزّهريّ، ويزيد بن رومان، عن عروة.
وقد روى يونس بن بكير، عن محمّد بن إسحاق، عن يزيد بن رومان، عن عروة بن الزّبير قريبًا من هذا السّياق. وروى موسى بن عقبة عن الزّهريّ نفسه، نحو ذلك.
وروى شعيب بن أبي حمزة، عن الزّهريّ، عن عروة بن الزّبير نحوًا من هذا أيضًا، وفيه: «فكان ابن الحضرميّ أوّل قتيلٍ قتل بين المسلمين والمشركين، فركب وفدٌ من كفّار قريشٍ حتّى قدموا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بالمدينة فقالوا: أيحلّ القتال في الشّهر الحرام؟ فأنزل اللّه: {يسألونك عن الشّهر الحرام قتالٍ فيه} الآية». وقد استقصى ذلك الحافظ أبو بكرٍ البيهقيّ في كتاب "دلائل النّبوّة".
ثمّ قال ابن هشامٍ عن زيادٍ، عن ابن إسحاق: «وقد ذكر عن بعض آل عبد اللّه بن جحشٍ أنّ اللّه قسم الفيء حين أحلّه، فجعل أربعة أخماسٍ لمن أفاءه، وخمسًا إلى اللّه ورسوله. فوقع على ما كان عبد اللّه بن جحشٍ صنع في تلك العير».
قال ابن هشامٍ: «وهي أوّل غنيمةٍ غنمها المسلمون. وعمرو بن الحضرميّ أوّل من قتل المسلمون، وعثمان بن عبد اللّه، والحكم بن كيسان أوّل من أسر المسلمون».
قال ابن إسحاق: «فقال أبو بكرٍ الصّدّيق، رضي اللّه عنه، في غزوة عبد اللّه بن جحشٍ، ويقال: بل عبد اللّه بن جحشٍ قالها، حين قالت قريشٌ: قد أحلّ محمّدٌ وأصحابه الشّهر الحرام، فسفكوا فيه الدّم، وأخذوا فيه المال، وأسروا فيه الرّجال».
قال ابن هشامٍ: «هي لعبد اللّه بن جحشٍ:

تعدّون قتلا في الحرام عظيمةً ....... وأعظم منه لو يرى الرّشد راشد
صدودكم عمّا يقول محمّدٌ ....... وكفرٌ به واللّه راءٍ وشاهد
وإخراجكم من مسجد اللّه أهله ....... لئلّا يرى للّه في البيت ساجد
فإنّا وإن عيّرتمونا بقتله ....... وأرجف بالإسلام باغٍ وحاسد
سقينا من ابن الحضرميّ رماحنا ....... بنخلة لمّا أوقد الحرب واقد
دمًا وابن عبد اللّه عثمان بيننا ....... ينازعه غلٌّ من القدّ عاند). [تفسير ابن كثير: 1/ 573-578]


تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (قال ابن إسحاق: «فلمّا تجلّى عن عبد اللّه بن جحشٍ وأصحابه ما كانوا فيه حين نزل القرآن، طمعوا في الأجر، فقالوا: يا رسول اللّه، أنطمع أن تكون لنا غزوةٌ نعطى فيها أجر المجاهدين المهاجرين ؟ فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {إنّ الّذين آمنوا والّذين هاجروا وجاهدوا في سبيل اللّه أولئك يرجون رحمة اللّه واللّه غفورٌ رحيمٌ} فوضعهم اللّه من ذلك على أعظم الرّجاء».
قال ابن إسحاق: والحديث في هذا عن الزّهريّ، ويزيد بن رومان، عن عروة.
وقد روى يونس بن بكير، عن محمّد بن إسحاق، عن يزيد بن رومان، عن عروة بن الزّبير قريبًا من هذا السّياق. وروى موسى بن عقبة عن الزّهريّ نفسه، نحو ذلك). [تفسير ابن كثير: 1/ 577] (م)


رد مع اقتباس