عرض مشاركة واحدة
  #10  
قديم 30 جمادى الأولى 1435هـ/31-03-2014م, 11:53 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن الثامن الهجري

تفسير قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثمٌ كبيرٌ ومنافع للنّاس وإثمهما أكبر من نفعهما ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو كذلك يبيّن اللّه لكم الآيات لعلّكم تتفكّرون (219) في الدّنيا والآخرة ويسألونك عن اليتامى قل إصلاحٌ لهم خيرٌ وإن تخالطوهم فإخوانكم واللّه يعلم المفسد من المصلح ولو شاء اللّه لأعنتكم إنّ اللّه عزيزٌ حكيمٌ (220)}
قال الإمام أحمد: حدّثنا خلف بن الوليد، حدّثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة، عن عمر أنّه قال: «لمّا نزل تحريم الخمر قال: اللّهمّ بيّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا. فنزلت هذه الآية التي في البقرة: {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثمٌ كبيرٌ ومنافع للنّاس} فدعي عمر فقرئت عليه، فقال: اللّهمّ بيّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا. فنزلت الآية التي في النّساء: {يا أيّها الّذين آمنوا لا تقربوا الصّلاة وأنتم سكارى} [النّساء: 43]، فكان منادي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إذا أقام الصّلاة نادى: ألّا يقربنّ الصّلاة سكران. فدعي عمر فقرئت عليه، فقال: اللّهمّ بيّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا. فنزلت الآية التي في المائدة. فدعي عمر، فقرئت عليه، فلمّا بلغ: {فهل أنتم منتهون} [المائدة: 91]؟ قال عمر: انتهينا، انتهينا».
وهكذا رواه أبو داود، والتّرمذيّ، والنّسائيّ من طرقٍ، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق. وكذا رواه ابن أبي حاتمٍ وابن مردويه من طريق الثّوريّ، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة، واسمه عمرو بن شرحبيل الهمداني الكوفيّ، عن عمر. وليس له عنه سواه، لكن قال أبو زرعة: لم يسمع منه. واللّه أعلم. وقال علي بن المديني: هذا إسناد صالحٌ وصحّحه التّرمذيّ. وزاد ابن أبي حاتمٍ -بعد قوله: انتهينا -: إنّها تذهب المال وتذهب العقل. وسيأتي هذا الحديث أيضًا مع ما رواه أحمد من طريق أبي هريرة أيضًا -عند قوله في سورة المائدة: {إنّما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ من عمل الشّيطان فاجتنبوه لعلّكم تفلحون} [المائدة: 90] الآيات.
فقوله: {يسألونك عن الخمر والميسر} أمّا الخمر فكما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب: «إنّه كلّ ما خامر العقل». كما سيأتي بيانه في سورة المائدة، وكذا الميسر، وهو القمار.
وقوله: {قل فيهما إثمٌ كبيرٌ ومنافع للنّاس} أمّا إثمهما فهو في الدّين، وأمّا المنافع فدنيويّةٌ، من حيث إنّ فيها نفع البدن، وتهضيم الطّعام، وإخراج الفضلات، وتشحيذ بعض الأذهان، ولذّة الشّدّة المطربة التي فيها، كما قال حسّان بن ثابتٍ في جاهليّته:

ونشربها فتتركنا ملوكًا ....... وأسدًا لا ينهنهها اللقاء

وكذا بيعها والانتفاع بثمنها. وما كان يقمّشه بعضهم من الميسر فينفقه على نفسه أو عياله. ولكنّ هذه المصالح لا توازي مضرّته ومفسدته الرّاجحة، لتعلّقها بالعقل والدّين، ولهذا قال: {وإثمهما أكبر من نفعهما}؛ ولهذا كانت هذه الآية ممهّدةً لتحريم الخمر على البتات، ولم تكن مصرّحةً بل معرّضةً؛ ولهذا قال عمر، رضي اللّه عنه، لمّا قرئت عليه: «اللّهمّ بين لنا في الخمر بيانًا شافيًا»، حتّى نزل التّصريح بتحريمها في سورة المائدة: {يا أيّها الّذين آمنوا إنّما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ من عمل الشّيطان فاجتنبوه لعلّكم تفلحون * إنّما يريد الشّيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدّكم عن ذكر اللّه وعن الصّلاة فهل أنتم منتهون} [المائدة: 90، 91] وسيأتي الكلام على ذلك في سورة المائدة إن شاء اللّه، وبه الثّقة.
قال ابن عمر، والشّعبيّ، ومجاهدٌ، وقتادة، والرّبيع بن أنسٍ، وعبد الرّحمن بن زيد بن أسلم: «هذه أوّل آيةٍ نزلت في الخمر: {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثمٌ كبيرٌ ومنافع للنّاس} ثمّ نزلت الآية التي في سورة النّساء، ثمّ التي في المائدة، فحرّمت الخمر».
وقوله: {ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو} قرئ بالنّصب وبالرّفع وكلاهما حسنٌ متّجه قريبٌ.
قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا موسى بن إسماعيل، حدّثنا أبان، حدّثنا يحيى أنّه بلغه: «أنّ معاذ بن جبلٍ وثعلبة أتيا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقالا يا رسول اللّه، إن لنا أرقّاء وأهلين فما ننفق من أموالنا. فأنزل اللّه: {ويسألونك ماذا ينفقون}».
وقال الحكم، عن مقسم، عن ابن عبّاسٍ: {ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو} قال: «ما يفضل عن أهلك».
وكذا روي عن ابن عمر، ومجاهدٍ، وعطاءٍ، وعكرمة، وسعيد بن جبيرٍ، ومحمّد بن كعبٍ، والحسن، وقتادة، والقاسم، وسالمٍ، وعطاءٍ الخراسانيّ، والرّبيع بن أنسٍ، وغير واحدٍ: أنّهم قالوا في قوله: {قل العفو} «يعني الفضل».
وعن طاوسٍ: «اليسير من كلّ شيءٍ»، وعن الرّبيع أيضًا: «أفضل مالك، وأطيبه».
والكلّ يرجع إلى الفضل.
وقال عبد بن حميدٍ في تفسيره: حدّثنا هوذة بن خليفة، عن عوفٍ، عن الحسن: {ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو} قال: «ذلك ألّا تجهد مالك ثمّ تقعد تسأل النّاس».
ويدلّ على ذلك ما رواه ابن جريرٍ: حدّثنا عليّ بن مسلمٍ، حدّثنا أبو عاصمٍ، عن ابن عجلان، عن المقبريّ، عن أبي هريرة قال: «قال رجلٌ: يا رسول اللّه، عندي دينارٌ؟ قال: «أنفقه على نفسك». قال: عندي آخر؟ قال: «أنفقه على أهلك». قال: عندي آخر؟ قال: «أنفقه على ولدك». قال: عندي آخر؟ قال: «فأنت أبصر».
وقد رواه مسلمٌ في صحيحه. وأخرج مسلمٌ أيضًا عن جابرٍ: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال لرجلٍ: «ابدأ بنفسك فتصدّق عليها، فإن فضل شيءٌ فلأهلك، فإن فضل شيءٌ عن أهلك فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيءٌ فهكذا وهكذا».
وعنده عن أبي هريرة، رضي اللّه عنه، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «خير الصّدقة ما كان عن ظهر غنًى، واليد العليا خيرٌ من اليد السّفلى، وابدأ بمن تعول».
وفي الحديث أيضًا: «ابن آدم، إنّك إن تبذل الفضل خيرٌ لك، وإن تمسكه شرٌّ لك، ولا تلام على كفافٍ».
ثمّ قد قيل: إنّها منسوخةٌ بآية الزّكاة، كما رواه عليّ بن أبي طلحة، والعوفيّ عن ابن عبّاسٍ، وقاله عطاءٌ الخراسانيّ والسّدّيّ، وقيل: مبيّنةٌ بآية الزّكاة، قاله مجاهدٌ وغيره، وهو أوجه.
وقوله: {كذلك يبيّن اللّه لكم الآيات لعلّكم تتفكّرون * في الدّنيا والآخرة} أي: كما فصّل لكم هذه الأحكام وبينها وأوضحها، كذلك يبيّن لكم سائر الآيات في أحكامه ووعده، ووعيده، لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة). [تفسير ابن كثير: 1/ 578-580]


تفسير قوله تعالى: {فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله: {كذلك يبيّن اللّه لكم الآيات لعلّكم تتفكّرون * في الدّنيا والآخرة} أي: كما فصّل لكم هذه الأحكام وبينها وأوضحها، كذلك يبيّن لكم سائر الآيات في أحكامه ووعده، ووعيده، لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة.
قال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: «يعني في زوال الدّنيا وفنائها، وإقبال الآخرة وبقائها».
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا علي بن محمد الطّنافسي، حدثنا أبو أسامة، عن الصعّق العيشيّ قال: شهدت الحسن -وقرأ هذه الآية من البقرة: {لعلّكم تتفكّرون * في الدّنيا والآخرة} قال: «هي واللّه لمن تفكّر فيها، ليعلم أنّ الدّنيا دار بلاءٍ، ثمّ دار فناءٍ، وليعلم أنّ الآخرة دار جزاءٍ، ثمّ دار بقاءٍ».
وهكذا قال قتادة، وابن جريج، وغيرهما.
وقال عبد الرّزّاق عن معمر، عن قتادة: «لتعلموا فضل الآخرة على الدّنيا». وفي روايةٍ عن قتادة: «فآثروا الآخرة على الأولى».
وقد ذكرنا عند قوله تعالى في سورة آل عمران: {إنّ في خلق السّماوات والأرض واختلاف اللّيل والنّهار لآياتٍ لأولي الألباب} [آل عمران: 190] آثارًا كثيرةً عن السّلف في معنى التّفكّر والاعتبار.
وقوله: {ويسألونك عن اليتامى قل إصلاحٌ لهم خيرٌ وإن تخالطوهم فإخوانكم واللّه يعلم المفسد من المصلح ولو شاء اللّه لأعنتكم} الآية: قال ابن جريرٍ:
حدّثنا سفيان بن وكيع، حدّثنا جريرٌ، عن عطاء بن السّائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاسٍ قال: «لمّا نزلت: {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالّتي هي أحسن} [الإسراء: 34] و {إنّ الّذين يأكلون أموال اليتامى ظلمًا إنّما يأكلون في بطونهم نارًا وسيصلون سعيرًا} [النّساء: 10] انطلق من كان عنده يتيمٌ فعزل طعامه من طعامه، وشرابه من شرابه، فجعل يفضل له الشّيء من طعامه فيحبس له حتّى يأكله أو يفسد، فاشتدّ ذلك عليهم، فذكروا ذلك لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فأنزل اللّه: {ويسألونك عن اليتامى قل إصلاحٌ لهم خيرٌ وإن تخالطوهم فإخوانكم} فخلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم».
وهكذا رواه أبو داود، والنّسائيّ، وابن أبي حاتمٍ، وابن مردويه، والحاكم في مستدركه من طرقٍ، عن عطاء بن السّائب، به. وكذا رواه عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ. وكذا رواه السّدّيّ، عن أبي مالكٍ وعن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ -وعن مرّة، عن ابن مسعودٍ -بمثله. وهكذا ذكر غير واحدٍ في سبب نزول هذه الآية كمجاهدٍ، وعطاءٍ، والشّعبيّ، وابن أبي ليلى، وقتادة، وغير واحدٍ من السّلف والخلف.
قال وكيع بن الجرّاح: حدّثنا هشامٌ الدّستوائي عن حمّادٍ، عن إبراهيم قال: قالت عائشة: «إنّي لأكره أن يكون مال اليتيم عندي عرّة حتّى أخلط طعامه بطعامي وشرابه بشرابي».
فقوله: {قل إصلاحٌ لهم خيرٌ} أي: على حدة {وإن تخالطوهم فإخوانكم} أي: وإن خلطتم طعامكم بطعامهم وشرابكم بشرابهم، فلا بأس عليكم؛ لأنّهم إخوانكم في الدّين؛ ولهذا قال: {واللّه يعلم المفسد من المصلح} أي: يعلم من قصده ونيّته الإفساد أو الإصلاح.
وقوله: {ولو شاء اللّه لأعنتكم إنّ اللّه عزيزٌ حكيمٌ} أي: ولو شاء لضيّق عليكم وأحرجكم ولكنّه وسّع عليكم، وخفّف عنكم، وأباح لكم مخالطتهم بالّتي هي أحسن، كما قال: {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالّتي هي أحسن} [الأنعام: 152]، بل قد جوّز الأكل منه للفقير بالمعروف، إمّا بشرط ضمان البدل لمن أيسر، أو مجّانًا كما سيأتي بيانه في سورة النّساء، إن شاء اللّه، وبه الثّقة). [تفسير ابن كثير: 1/ 580-582]

تفسير قوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {ولا تنكحوا المشركات حتّى يؤمنّ ولأمةٌ مؤمنةٌ خيرٌ من مشركةٍ ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتّى يؤمنوا ولعبدٌ مؤمنٌ خيرٌ من مشركٍ ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى النّار واللّه يدعو إلى الجنّة والمغفرة بإذنه ويبيّن آياته للنّاس لعلّهم يتذكّرون (221)}
هذا تحريمٌ من اللّه عزّ وجلّ على المؤمنين أن يتزوّجوا المشركات من عبدة الأوثان. ثمّ إن كان عمومها مرادًا، وأنّه يدخل فيها كلّ مشركةٍ من كتابيّةٍ ووثنيّةٍ، فقد خص من ذلك نساء أهل الكتاب بقوله: {والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الّذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهنّ أجورهنّ محصنين غير مسافحين ولا متّخذي أخدانٍ} [المائدة: 5].
قال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ في قوله: {ولا تنكحوا المشركات حتّى يؤمنّ}« استثنى اللّه من ذلك نساء أهل الكتاب». وهكذا قال مجاهدٌ، وعكرمة، وسعيد بن جبيرٍ، ومكحولٌ، والحسن، والضّحّاك، وزيد بن أسلم، والرّبيع بن أنسٍ، وغيرهم.
وقيل: بل المراد بذلك المشركون من عبدة الأوثان، ولم يرد أهل الكتاب بالكلّيّة، والمعنى قريبٌ من الأوّل، واللّه أعلم.
فأمّا ما رواه ابن جريرٍ: حدّثني عبيد بن آدم بن أبي إياسٍ العسقلانيّ، حدّثنا أبي، حدّثنا عبد الحميد بن بهرام الفزاريّ، حدّثنا شهر بن حوشب قال: سمعت عبد اللّه بن عبّاسٍ يقول: «نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن أصناف النّساء، إلّا ما كان من المؤمنات المهاجرات، وحرّم كلّ ذات دينٍ غير الإسلام، قال اللّه عزّ وجلّ: {ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله} [المائدة: 5]». وقد نكح طلحة بن عبيد اللّه يهوديّةً، ونكح حذيفة بن اليمان نصرانيّةً، فغضب عمر بن الخطّاب غضبًا شديدًا، حتّى همّ أن يسطو عليهما. فقالا نحن نطلق يا أمير المؤمنين، ولا تغضب! فقال: لئن حلّ طلاقهنّ لقد حلّ نكاحهنّ، ولكنّي أنتزعهنّ منكم صغرة قمأة -فهو حديثٌ غريبٌ جدًّا. وهذا الأثر عن عمر غريب أيضًا.
قال أبو جعفر بن جريرٍ، رحمه اللّه، بعد حكايته الإجماع على إباحة تزويج الكتابيّات: وإنّما كره عمر ذلك، لئلّا يزهد النّاس في المسلّمات، أو لغير ذلك من المعاني، كما حدّثنا أبو كريب، حدّثنا ابن إدريس، حدّثنا الصّلت بن بهرام، عن شقيقٍ قال: «تزوّج حذيفة يهوديّةً، فكتب إليه عمر: خل سبيلها، فكتب إليه: أتزعم أنّها حرامٌ فأخلي سبيلها؟ فقال: لا أزعم أنّها حرامٌ، ولكنّي أخاف أن تعاطوا المومسات منهنّ». وهذا إسنادٌ صحيحٌ، وروى الخلّال عن محمّد بن إسماعيل، عن وكيع، عن الصّلت نحوه.
وقال ابن جريرٍ: حدّثني موسى بن عبد الرّحمن المسروقيّ، حدّثنا محمّد بن بشرٍ، حدّثنا سفيان بن سعيدٍ، عن يزيد بن أبي زيادٍ، عن زيد بن وهبٍ قال: قال لي عمر بن الخطّاب: «المسلم يتزوّج النّصرانيّة، ولا يتزوّج النّصرانيّ المسلمة». قال: وهذا أصحّ إسنادًا من الأوّل .
ثمّ قال: وقد حدّثنا تميم بن المنتصر، أخبرنا إسحاق الأزرق عن شريكٍ، عن أشعث بن سوّارٍ، عن الحسن، عن جابر بن عبد اللّه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «نتزوّج نساء أهل الكتاب ولا يتزوّجون نساءنا».
ثمّ قال: وهذا الخبر -وإن كان في إسناده ما فيه -فالقول به لإجماع الجميع من الأمّة على صحّة القول به.
كذا قال ابن جريرٍ، رحمه اللّه.
وقد قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا محمّد بن إسماعيل الأحمسيّ، حدّثنا وكيع، عن جعفر بن برقان، عن ميمون بن مهران، عن ابن عمر: «أنّه كره نكاح أهل الكتاب، وتأوّل {ولا تنكحوا المشركات حتّى يؤمنّ}».
وقال البخاريّ: وقال ابن عمر: «لا أعلم شركًا أعظم من أن تقول: ربّها عيسى».
وقال أبو بكرٍ الخلّال الحنبليّ: حدّثنا محمّد بن هارون حدّثنا إسحاق بن إبراهيم (ح) وأخبرني محمّد بن عليٍّ، حدّثنا صالح بن أحمد: «أنّهما سألا أبا عبد اللّه أحمد بن حنبل، عن قول اللّه: {ولا تنكحوا المشركات حتّى يؤمنّ} قال: «مشركات العرب الّذين يعبدون الأوثان».
وقوله: {ولأمةٌ مؤمنةٌ خيرٌ من مشركةٍ ولو أعجبتكم} قال السّدّيّ: «نزلت في عبد اللّه بن رواحة، كانت له أمةٌ سوداء، فغضب عليها فلطمها، ثمّ فزع، فأتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فأخبره خبرها. فقال له: «ما هي؟»قال: تصوم، وتصلي، وتحسن الوضوء، وتشهد أن لا إله إلّا اللّه وأنّك رسول اللّه. فقال: «يا أبا عبد اللّه، هذه مؤمنةٌ». فقال: والّذي بعثك بالحقّ لأعتقنّها ولأتزوجنها. ففعل، فطعن عليه ناسٌ من المسلمين، وقالوا: نكح أمة. وكانوا يريدون أن ينكحوا إلى المشركين، وينكحوهم رغبةً في أحسابهم، فأنزل اللّه: {ولأمةٌ مؤمنةٌ خيرٌ من مشركةٍ ولو أعجبتكم} {ولعبدٌ مؤمنٌ خيرٌ من مشركٍ ولو أعجبكم}.
وقال عبد بن حميدٍ: حدّثنا جعفر بن عونٍ، حدّثنا عبد الرّحمن بن زيادٍ الإفريقيّ، عن عبد اللّه بن يزيد، عن عبد اللّه بن عمرو، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «لا تنكحوا النّساء لحسنهنّ، فعسى حسنهنّ أن يرديهنّ، ولا تنكحوهنّ على أموالهنّ فعسى أموالهنّ أن تطغيهنّ وانكحوهنّ على الدّين، فلأمةٌ سوداء خرماء ذات دينٍ أفضل». والإفريقيّ ضعيفٌ.
وقد ثبت في الصّحيحين عن أبي هريرة، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «تنكح المرأة لأربعٍ: لمالها، ولحسبها ولجمالها، ولدينها؛ فاظفر بذات الدّين تربت يداك». ولمسلمٍ عن جابرٍ مثله. وله، عن ابن عمر: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «الدّنيا متاعٌ، وخير متاع الدّنيا المرأة الصالحٍة».
وقوله: {ولا تنكحوا المشركين حتّى يؤمنوا} أي: لا تزوّجوا الرّجال المشركين النّساء المؤمنات، كما قال تعالى: {لا هنّ حلٌّ لهم ولا هم يحلّون لهنّ} [الممتحنة: 10].
ثمّ قال تعالى: {ولعبدٌ مؤمنٌ خيرٌ من مشركٍ ولو أعجبكم} أي: ولرجلٌ مؤمنٌ -ولو كان عبدًا حبشيًّا -خيرٌ من مشركٍ، وإن كان رئيسًا سريًا {أولئك يدعون إلى النّار} أي: معاشرتهم ومخالطتهم تبعث على حبّ الدّنيا واقتنائها وإيثارها على الدّار الآخرة، وعاقبة ذلك وخيمةٌ {واللّه يدعو إلى الجنّة والمغفرة بإذنه} أي: بشرعه وما أمر به وما نهى عنه {ويبيّن آياته للنّاس لعلّهم يتذكّرون} ). [تفسير ابن كثير: 1/ 582-584]


رد مع اقتباس