الموضوع: سورة البقرة
عرض مشاركة واحدة
  #28  
قديم 22 جمادى الآخرة 1434هـ/2-05-2013م, 07:40 AM
أم صفية آل حسن أم صفية آل حسن غير متواجد حالياً
عضو جديد
 
تاريخ التسجيل: Apr 2013
المشاركات: 2,594
افتراضي

قوله تعالى { يَسْـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ ۖ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌۭ كَبِيرٌۭ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ۗ وَيَسْـَٔلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ ٱلْعَفْوَ ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلْءَايَٰتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ(219)}

قال محمد بن كثيرٍ العَبْدي (ت:223هـ) عن همّام بن يحيى البصري قال: (وعن قوله عز وجل: {يسألونك عن الخمر والميسر} القمار كله قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وذمهما ولم يحرمهما وهي لهم حلال يومئذ ثم أنزل الله عز وجل بعد ذلك هذه الآية في شأن الخمر وهي أشد منها فقال : {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون} فكان السكر منها حراما عليهم ثم إن الله عز وجل أنزل الآية التي في سورة المائدة فقال : {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر إلى قوله فهل أنتم منتهون} فجاء تحريمها في هذه الآية قليلها وكثيرها ما أسكر وما لم يسكر ). [الناسخ والمنسوخ لقتادة: 1/31-38]
قَالَ أَبو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بْنُ حَزْمٍ الأَنْدَلُسِيُّ (ت: 320 هـ): (الآية السابعة عشرة: قوله تعالى: {يسألونك عن الخمر والميسر...} الآية [219 مدنية / البقرة / 2] منسوخة نسخها آية منها قوله تعالى: {وإثمهما أكبر من نفعهما} [219 / البقرة] فلما نزلت هذه الآية امتنع قوم عن شربها وبقي قوم، ثم أنزل الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وانتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون} [43 / النساء / 4] وكانوا يشربون بعد العشاء الآخرة ثم يرقدون ثم يقومون من غد وقد صحوا ثم يشربونها بعد الفجر إن شاءوا فإذا جاء وقت الظهر لا يشربونها البتة ثم أنزل الله تعالى: {فاجتنبوه} [90 مدنية / المائدة / 5] فاتركوه واختلف العلماء على التحريم ههنا.
أو قوله تعالى: {فهل أنتم منهون} [91 مدنية / المائدة / 5] لأن المعنى انتهوا - كما قال في سورة الفرقان {أتصبرون} [20 مكية / الفرقان / 25] الشعراء {...قوم فرعون ألا يتقون} [11 مكية / الشعراء / 26] المعنى اتقوا.
) .[الناسخ والمنسوخ لابن حزم: 19-30]
قالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النَّحَّاسُ (ت: 338 هـ): (باب ذكر الآية الثّامنة عشرةقال جلّ وعزّ {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثمٌ كبيرٌ ومنافع للنّاس وإثمهما أكبر من نفعهما} [البقرة: 219]
قال جماعةٌ من العلماء: هذه الآية ناسخةٌ لما كان مباحًا من شرب الخمر
وقال آخرون: هي منسوخةٌ بتحريم الخمر في قوله جلّ وعزّ {فاجتنبوه} [المائدة: 90]
قال أبو جعفرٍ: وسنذكر حجج الجميع فمن قال: إنّها منسوخةٌ احتجّ بأنّ المنافع الّتي فيها إنّما كانت قبل التّحريم ثمّ نسخت وأزيلت كما حدّثنا جعفر بن مجاشعٍ، قال: حدّثنا إبراهيم بن إسحاق، قال: حدّثنا إبراهيم بن عبد اللّه، عن محمّد بن يزيد، عن جويبرٍ، عن الضّحّاك، في قوله جلّ وعزّ {يسألونك عن الخمر، والميسر} [البقرة: 219]، قل فيهما إثمٌ كبيرٌ ومنافع للنّاس قال: «المنافع قبل التّحريم»
وحدّثنا جعفر بن مجاشعٍ، قال: حدّثنا إبراهيم بن إسحاق، قال: حدّثنا محمّد بن هارون، قال: حدّثنا صفوان، عن عمر بن عبد الواحد، عن عثمان بن عطاءٍ، عن أبيه، {يسألونك عن الخمر، والميسر، قل فيهما إثمٌ كبيرٌ ومنافع للنّاس} [البقرة: 219] قال: " نسختها {يا أيّها الّذين آمنوا لا تقربوا الصّلاة وأنتم سكارى} [النساء: 43] يعني المساجد ثمّ أنزل {ومن ثمرات النّخيل والأعناب تتّخذون منه سكرًا ورزقًا} [النحل: 67]
ثمّ أنزل {يا أيّها الّذين آمنوا إنّما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ من عمل الشّيطان فاجتنبوه} [المائدة: 90] " الآيتين
واحتجّ من قال: إنّها ناسخةٌ بالأحاديث المتواترة الّتي فيها بيان علّة نزول تحريم الخمر وبغير ذلك
قال أبو جعفرٍ: فمن الحجج: ما قرئ على أحمد بن محمّد بن الحجّاج، أنّ عبد العزيز بن عمران بن أيّوب بن مقلاصٍ حدّثهم سنة تسعٍ وعشرين ومائتين قال: حدّثنا محمّد بن يوسف، قال: حدّثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل، عن عمر، أنّه قال " اللّهمّ بيّن لنا في الخمر، فنزلت {يسألونك عن الخمر والميسر} [البقرة: 219] الآية فقرئت عليهم فقال: اللّهمّ بيّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا فإنّها تذهب العقل والمال فنزلت {يا أيّها الّذين آمنوا لا تقربوا الصّلاة وأنتم سكارى حتّى تعلموا ما تقولون} [النساء: 43] فكان منادي رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم ينادي وقت الصّلاة لا يقربنّ الصّلاة سكران فدعى عمر فقرئت عليه فقال: اللّهمّ بيّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا فإنّها تذهب العقل والمال فنزلت {يا أيّها الّذين آمنوا إنّما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ من عمل الشّيطان} [المائدة: 90] إلى {فهل أنتم منتهون} [المائدة: 91] فقال عمر رضي اللّه عنه: انتهينا انتهينا "
قال أحمد بن محمّد بن الحجّاج: وحدّثنا عمر بن خالدٍ، سنة خمسٍ وعشرين قال: حدّثنا زهيرٌ، قال: حدّثنا سماكٌ، قال: حدّثني مصعب بن سعدٍ، عن سعدٍ، قال: " مررت بنفرٍ من المهاجرين والأنصار فقالوا لي: تعال نطعمك ونسقيك خمرًا وذلك قبل أن تحرّم الخمر: فأتيتهم في حشٍّ قال والحشّ البستان فإذا عندهم رأس جزورٍ مشويٌّ وزقّ خمرٍ فأكلنا وشربنا فذكرت الأنصار فقلت: المهاجرون خيرٌ من الأنصار فأخذ رجلٌ منهم أحد لحيي الرّأس فجرح به أنفي فأتيت رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم فأخبرته فنزلت {يا أيّها الّذين آمنوا إنّما الخمر والميسر} [المائدة: 90] "
قال أبو جعفرٍ: وفي حديث سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: نزل تحريم الخمر في حيّين من قبائل الأنصار لمّا ثملوا شجّ بعضهم
بعضًا ووقعت بينهم الضّغائن فنزلت {يا أيّها الّذين آمنوا إنّما الخمر والميسر} [المائدة: 90] إلى {منتهون} [المائدة: 91]
قال أبو جعفرٍ: فهذا يبيّن أنّ الآية ناسخةٌ
ومن الحجّة لذلك أيضًا أنّ جماعةً من الفقهاء يقولون: تحريم الخمر بآيتين من القرآن بقوله جلّ وعزّ {قل فيهما إثمٌ كبيرٌ} [البقرة: 219] وبقوله {قل إنّما حرّم ربّي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم} [الأعراف: 33] فلمّا حرّم الإثم وأخبر أنّ في الخمر إثمًا وجب أن تكون محرّمةً
فأمّا قول من قال: إنّ الخمر يقال لها الإثم فغير معروفٍ من حديثٍ ولا لغةٍ والقول الأوّل جائزٌ وأبين منه أنّها محرّمةٌ بقوله تعالى {فاجتنبوه} [المائدة: 90] وإذا نهى اللّه جلّ وعزّ عن شيءٍ فهو محرّمٌ
وفي الأحاديث الّتي ذكرناها ما يحتاج إلى تفسيرٍ فمن ذلك ثملوا معناه: سكروا، وبعضهم يروي في حديث سعدٍ: ففزر به أنفي، أي فلقه وشقّه ومنه فزرت الثّوب، والفزر القطعة من الغنم
وفي الأحاديث في سبب نزول تحريم الخمر أسبابٌ يقول القائل: كيف يتّفق بعضها مع بعضٍ وعمر رضي اللّه عنه يقول شيئًا وسعدٌ يقول غيره وابن عبّاسٍ قد أتى بسواهما
قال أبو جعفرٍ: والجواب أنّ الأحاديث متّفقةٌ لأنّ عمر رضي اللّه عنه سأل بيانًا شافيًا في تحريم الخمر ولم يقل: نزلت في ذلك لا في غيره فيجوز أن يكون سؤال عمر وافق ما كان من سعد بن أبي وقّاصٍ ومن الحيّين اللّذين من قبائل الأنصار، فتتّفق الأحاديث ولا تتضادّ وفيها من الفقه أنّ منادي رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم كان ينادي وقت الصّلاة لا يقربنّ الصّلاة سكران فدلّ بهذا على أنّ القول ليس كما قال بعض الفقهاء إنّ السّكران الّذي لا يعرف السّماء من الأرض ولا الذّكر من الأنثى وإنّ رجلًا لو قال له وأشار إلى السّماء ما هذه؟ فقال: الأرض لم يكن سكران لأنّه قد فهم عنه كلامه ولو كان الأمر على هذا لما جاز أن يخاطب من لا يعرف الذّكر من الأنثى ولا يفهم الكلام فيقال له: لا تقرب الصّلاة وأنت سكران فتبيّن بهذا الحديث أنّ السّكران هو الّذي أكثر أمره التّخليط
وقد حكى أحمد بن محمّد بن الحجّاج أنّ أحمد بن صالحٍ سئل عن السّكران فقال: أنا آخذ فيه بما رواه ابن جريجٍ عن عمرو بن دينارٍ، عن يعلى بن منية، عن أبيه قال: سألت عمر بن الخطّاب رضي اللّه عنه عن حدّ السّكران، فقال: «هو الّذي إذا استقرأته سورةً لم يقرأها وإذا خلطت ثوبه مع ثيابٍ لم يخرجه» وفي الحديث من الفقه أنّ قوله: «لا يقربنّ الصّلاة سكران» قد دلّ على أنّ قول اللّه جلّ وعزّ {لا تقربوا الصّلاة وأنتم سكارى} [النساء: 43] ليس من النّوم وأنّه من الشّرب حين كان مباحًا وقد تبيّن أنّ الآية ناسخةٌ لما ذكرنا
وبقي البيان عن الخمر المحرّمة وما هي؟ لأنّ قومًا قد أوقعوا في هذا شبهةً فقالوا: الخمر هي المجمع عليها ولا يدخل فيها ما اختلف فيه فهذا ظلمٌ من القول يجب على قائله أن لا يحرّم شيئًا اختلف فيه وهذا عظيمٌ من القول
واحتجّ أيضًا بأنّ من قال: الخمر الّتي لا اختلاف فيها محلّها كافرٌ وليس كذا غيرها وهذان الاحتجاجان أشدّ ما لهم
فأمّا الأحاديث الّتي جاءوا بها فلا حجّة فيها لضعف أسانيدها ولتأويلهم إيّاها على غير الحقٍّ
وقد قال عبد اللّه بن المبارك: ما صحّ تحليل النّبيذ الّذي يسكر كثيره عن أحدٍ من الصّحابة ولا التّابعين إلّا عن إبراهيم النّخعيّ
قال أبو جعفرٍ: فأمّا الاحتجاجان الأوّلان اللّذان يعتمدون عليهما فقد بيّنّا الرّدّ في أحدهما وسنذكر الآخر
فالخمر المحرّمة تنقسم قسمين أحدهما المجمع عليها وهي عصير العنب إذا رغا وأزبد فهذه الخمر الّتي من أحلّها كافرٌ والخمر الأخرى الّتي من أحلّها ليس بكافرٍ وهي الّتي جاء بها التّوقيف عن رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم أنّها الخمر وعن أصحابه رضي اللّه عنهم بالأسانيد الّتي لا يدفعها إلّا صادٌّ عن الحقّ أو جاهلٌ إذ قد صحّ عنه صلّى الله عليه وسلّم تسميتها خمرًا وتحريمها، فمن ذلك: ما حدّثناه بكر بن سهلٍ، قال: حدّثنا عبد اللّه بن يوسف، قال: أخبرنا
مالك بن أنسٍ، عن ابن شهابٍ، عن أبي سلمة، عن عائشة، أنّها قالت: سئل رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم عن البتع فقال: «كلّ شرابٍ أسكر حرامٌ» قال أبو جعفرٍ: فلو لم يكن في هذا الباب إلّا هذا الحديث لكفى لصحّة إسناده واستقامة طريقه وقد أجمع الجميع أنّ الآخر لا يسكر إلّا بالأوّل فقد حرّم الجميع بتوقيف رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم
وفي هذا الباب ممّا لا يدفع ما قرئ على أبي القاسم عبد اللّه بن محمّد بن عبد العزيز، عن أبي عبد اللّه أحمد بن محمّد بن حنبلٍ قال: حدّثنا يونس بن محمّدٍ، قال حدّثنا حمّاد بن زيدٍ، عن أيّوب، عن نافعٍ، عن ابن عمر قال: قال رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم: «كلّ مسكرٍ خمرٌ وكلّ مسكرٍ حرامٌ» قال أبو عبد اللّه: هذا إسنادٌ صحيحٌ
قال أبو عبد اللّه، وحدّثنا روح بن عبادة، قال: حدّثنا ابن جريحٍ، قال: أخبرني موسى بن عقبة، عن نافعٍ، عن ابن عمر، أنّ رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم قال: «كلّ مسكرٍ حرامٌ وكلّ مسكرٍ خمرٌ»
قال أبو عبد اللّه: وحدّثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا محمّد بن عمرٍو، عن أبي سلمة، عن ابن عمر، قال: قال رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم: ((كلّ مسكرٍ خمرٌ وكلّ مسكرٍ حرامٌ))
قال أبو عبد اللّه: وحدّثنا محمّد بن جعفرٍ، قال: حدّثنا شعبة، عن سعيد بن أبي بردة، عن أبيه، عن جدّه، قال: سمعت رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم حين وجّه أبا موسى، ومعاذ بن جبلٍ إلى اليمن فقال أبو موسى: يا رسول اللّه، إنّا بأرضٍ يصنع بها شرابٌ من العسل يقال له البتع، وشرابٌ من شعيرٍ
يقال له المزر فقال رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم: «كلّ مسكرٍ حرامٌ»
قال أبو عبد اللّه: وحدّثنا يحيى بن سعيدٍ، عن محمّد بن عمرٍو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: ((كلّ مسكرٍ حرامٌ))
فهذه الأسانيد المتّفق على صحّتها
وقرئ على أبي بكرٍ أحمد بن عمرٍو، عن عليّ بن الحسين الدّرهميّ، قال: حدّثنا أنس بن عياضٍ، قال: حدّثنا موسى بن عقبة، عن سالم بن عبد اللّه بن عمر، عن أبيه، أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: ((ما أسكر كثيره فقليله حرامٌ))
فهذا تحريم قليل ما أسكر كثيره نصًّا عن رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم بهذا الإسناد المستقيم
قال أبو بكرٍ أحمد بن عمرٍو وقد روى التّحريم عائشة، وسعد بن أبي وقّاصٍ، وجابرٌ، وعمر، وابن عبّاسٍ، وأنسٌ، وأبو سعيدٍ الخدريّ، وعبد اللّه ابن عمر، وأبو هريرة، وقرّة بن إياسٍ، وخوّات بن جبيرٍ، والدّيلم بن الهوشع، وأبو موسى الأشعريّ، وبريدة الأسلميّ، وأمّ سلمة، وميمونة، وقيس بن سعدٍ وإسناد حديث عائشة وابن عمر، وأنسٍ صحيحٌ وسائر الأحاديث يؤيّد بعضها بعضًا وقرئ على أحمد بن شعيب بن عليٍّ أبي عبد الرّحمن، عن هشام بن عمّارٍ، قال: حدّثنا صدقة بن خالدٍ، عن زيد بن واقدٍ، قال: أخبرني خالد بن عبد اللّه بن حسينٍ، عن أبي هريرة، قال: علمت أنّ رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم كان يصوم فتحيّنت فطره بنبيذٍ صنعته له في دبّاءٍ فجئته به فقال: «أدنه» فأدنيته منه فإذا هو ينشّ فقال: «اضرب بهذا الحائط فإنّ هذا شراب من لا يؤمن باللّه واليوم الآخر»
قال أبو عبد الرّحمن: وفي هذا دليلٌ على تحريم المسكر قليله وكثيره ليس كما يقوله المخادعون لأنفسهم بتحريمهم آخر الشّربة وتحليلهم ما تقدّمها الّذي سرى في العروق قبلها قال: ولا خلاف بين أهل العلم أنّ السّكر بكلّيّته لا يحدث عن الشّربة الآخرة دون الأولى والثّانية بعدها
قال أبو عبد الرّحمن: وأخبرنا عبيد اللّه بن سعيدٍ، قال: حدّثنا يحيى، عن عبيد اللّه، قال: حدّثنا عمرو بن شعيبٍ، عن أبيه، عن جدّه، أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: ((ما أسكر كثيره فقليله حرامٌ))
قال أبو عبد الرّحمن: " إنّما يتكلّم في حديث عمرو بن شعيبٍ إذا رواه عنه غير الثّقات فأمّا إذا رواه الثّقات فهو حجّةٌ، وعبد اللّه بن عمرٍو جدّ عمرو بن شعيبٍ كان يكتب ما سمع من النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وحديثه من أصحّ الحديث
قال أبو عبد الرّحمن: وأخبرنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أخبرنا أبو عامرٍ، والنّضر بن شميلٍ، ووهب بن جريرٍ، قالوا: حدّثنا شعبة، عن سلمة بن كهيلٍ، قال: سمعت أبا الحكم، يحدّث قال: قال ابن عبّاسٍ: «من سرّه أن يحرّم إن كان محرّمًا ما حرّم اللّه ورسوله، فليحرّم النّبيذ»
قال أبو عبد الرّحمن: وأخبرنا قتيبة، قال: حدّثنا عبد العزيز، عن عمارة بن غزيّة، عن أبي الزّبير، عن جابرٍ، أنّ رجلًا، من جيشان وجيشان من اليمن قدم فسأل النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن شرابٍ يشربونه بأرضهم من الذّرة يقال له المزر فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «أو مسكرٌ هو؟» قال: نعم قال رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم: «كلّ مسكرٍ حرامٌ إنّ اللّه عزّ وجلّ عهد لمن شرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال» قالوا: يا رسول اللّه، وما طينة الخبال؟ قال: عرق أهل النّار " أو قال: «عصارة أهل النّار»
وما يبيّن أنّ الخمر تكون من غير عصير العنب من لفظ رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه ومن اللّغة ومن الاشتقاق، فأمّا لفظ رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم ممّا لا يدفع إسناده
أنّه قرئ على أحمد بن شعيبٍ، عن سويد بن نصرٍ، عن ابن المبارك، عن الأوزاعيّ، قال: حدّثني أبو كثيرٍ، واسمه يزيد بن عبد الرّحمن، قال أبو عبد الرّحمن: وأخبرني حميد بن مسعدة، عن سفيان وهو ابن حبيبٍ، عن الأوزاعيّ، قال: حدّثنا أبو كثيرٍ، قال: سمعت أبا هريرة، يقول: قال رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم: ((الخمر من هاتين الشّجرتين)) قال سويدٌ: في هاتين الشّجرتين النّخلة والعنبة
فوقفنا رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم على أنّ الخمر من النّخلة، فخالف ذلك قومٌ وقالوا: لا يكون إلّا من العنبة ثمّ نقضوا قولهم وقالوا: نقيع التّمر والزّبيب خمرٌ؛ لأنّه لم يطبخ
وقرئ على أحمد بن عمرٍو، وأبي بكرٍ، عن عليّ بن سعيدٍ المسروقيّ، قال: حدّثنا عبد الرّحيم بن سليمان، قال: حدّثنا السّريّ بن إسماعيل، عن الشّعبيّ، عن النّعمان بن بشيرٍ، عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «الخمر من خمسةٍ من الحنطة والشّعير والتّمر والزّبيب والعسل وما خمّرته فهو خمرٌ»
وقرئ على أحمد بن شعيبٍ عن يعقوب بن إبراهيم، قال حدّثنا: ابن عليّة، قال: حدّثنا أبو حيّان، قال: حدّثني الشّعبيّ، عن ابن عمر، قال: سمعت عمر، يخطب على منبر المدينة قال: «أيّها النّاس ألا إنّه نزل تحريم الخمر يوم
نزل وهي من خمسةٍ من العنب، والتّمر، والعسل والحنطة، والشّعير، والخمر ما خامر العقل»
فهذا توقيفٌ في الخمر أنّها من غير عنبٍ
وفيه بيان الاشتقاق وأنّه ما خامر العقل مشتقٌّ من الخمر وهو كلّ ما وارى من نخلٍ وغيره فقيل: خمرٌ؛ لأنّها تستر العقل ومنه فلانٌ مخمورٌ يقال هذا فيما كان من عصير العنب وغيره لا فرق بينهما وما منهما إلّا ما يريد الشّيطان أن يوقع بينهم فيه العداوة والبغضاء ويصدّ به عن ذكر اللّه وعن الصّلاة فالقليل من هذا ومن هذا واحدٌ فهذا أصحّ ما قيل في اشتقاقها وأجلّه إسنادًا قاله عمر رضي اللّه عنه على المنبر بحضرة الصّحابة
فأمّا سعيد بن المسيّب فروي عنه أنّه قال:
إنّما سمّيت الخمر خمرًا؛ لأنّها صعد صفوها ورسب كدرها
قال أبو جعفرٍ: فاشتقاق هذا أيضًا على أنّ الصّفو ستر الكدر وقال بعض المتأخّرين: سمّيت خمرًا؛ لأنّها تخمّر أي: تغطّي وسمّي نبيذًا؛ لأنّه ينبذ ولو صحّ هذا لكان النّبيذ أيضًا يخمّر
وممّا يشبه ما تقدّم ما حدّثناه بكر بن سهلٍ، قال: حدّثنا عبد اللّه بن يوسف، قال: حدّثنا مالكٌ، عن إسحاق بن عبد اللّه بن أبي طلحة، عن أنس بن مالكٍ، قال: " كنت أسقي أبا عبيدة بن الجرّاح، وأبا طلحة الأنصاريّ، وأبيّ بن كعبٍ شراب فضيخٍ وتمرٍ فجاءهم آتٍ فقال: إنّ الخمر قد حرّمت
فقال أبو طلحة: يا أنس، قم إلى تلك الجرار فاكسرها فقمت إلى مهراسٍ لنا فدفعتها بأسفله فكسرتها "
قال أبو جعفرٍ: ففي هذه الأحاديث من الفقه تصحيح قول من قال: إنّ ما أسكر كثيره فقليله حرامٌ عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم والصّحابة ثمّ كان الصّحابة على ذلك وبه يفتون أشدّهم فيه عليّ بن أبي طالبٍ رضي اللّه عنه يخاطبهم نصًّا
((بأنّ ما أسكر كثيره فقليله حرامٌ)) ثمّ ابن عمر لمّا سئل عن نبيذٍ ينبذ بالغداة ويشرب بالعشيّ قال محمّد بن سيرين فقال للسّائل:
إنّي أنهاك عن قليل، ما أسكر كثيره وإنّي أشهد اللّه جلّ وعزّ عليك فإنّ أهل خيبر يشربون شرابًا يسمّونه كذا وهي الخمر وإنّ أهل فدكٍ يشربون شرابًا يسمّونه كذا وهي الخمر وإنّ أهل
يعني مصر يشربون شرابًا من العسل يسمّونه البتع وهي الخمر
ثمّ عائشة رضي اللّه عنها لمّا سئلت عن غير عصير العنب فقالت:
صدق اللّه ورسوله، سمعت رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم يقول: ((يشرب قومٌ الخمر يسمّونها بغير أسمائها))
فلم يزل الّذين يروون هذه الأحاديث يحملونها على هذا عصرًا بعد عصرٍ حتّى عرض فيها قومٌ فقالوا: المحرّم الشّربة الآخرة الّتي تسكر
وقالوا قد قالت اللّغة الخبز المشبع والماء المروّي قال أبو جعفرٍ: فإن صحّ هذا في اللّغة فهو حجةٌ عليهم لا لهم؛ لأنّه لا يخلو من إحدى جهتين
إمّا أن يكون معناه للجنس كلّه أي صفة الخبز أنّه يشبع وصفة الماء أنّه يروي فيكون هذا لقليل الخبز وكثيره؛ لأنّه جنسٌ فكذا قليل ما يسكر
أو يكون الخبز المشبع فهو لا يشبع إلّا بما كان قبله فكلّه مشبعٌ فكذا قليل المسكر وكثيره
وإن كانوا قد تأوّلوه على أنّ معنى المشبع هو الآخر الّذي يشبع وكذا الماء المروّي فيقال لهم: ما حدّ ذلك المروّي والّذي لا يروّي؟ فإن قالوا: لا حدّ له فهو كلّه إذا مروٍّ وإن حدّوه قيل لهم: ما البرهان على ذلك؟ وهل يمتنع الّذي لا يروّي ممّا حدّدتموه أن يكون يروي عصفورًا؟ وما أشبهه فبطل الحدّ وصار القليل ممّا يسكر كثيره داخلًا في التّحريم
وعارضوا بأنّ المسكر بمنزلة القاتل لا يسمّى مسكرًا حتّى يسكر كما لا يسمّى القاتل قاتلًا حتّى يقتل
قال أبو جعفرٍ: وهذا لا يشبه من هذا شيئًا، لأنّ المسكر جنسٌ وليس كذا القاتل ولو كان كما قالوا لوجب ألّا يسمّى الكثير من المسكر مسكرًا حتّى يسكر وكان يجب أن يحلّوه، وهذا خارجٌ عن قول الجميع
وقالوا: معنى: كلّ مسكرٍ حرامٌ، على القدح الّذي يسكر وهذا خطأٌ من جهة اللّغة وكلام العرب، لأنّ «كلّ» معناها العموم فالقدح الّذي يسكر مسكرٌ والجنس كلّه مسكرٌ وقد حرّم رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم الكلّ فلا يجوز الاختصاص إلّا بتوقيفٍ وإنّما قولنا: مسكرٌ يقع للجنس القليل والكثير كما يقال: التّمر بالتّمر زيادة ما بينهما ربا فدخل في هذه التّمرة والتّمرتان والقليل والكثير، كذا دخل في كلّ مسكرٍ القليل والكثير
وشبّه بعضهم هذا بالدّواء والبنج الّذي يحرم كثيره ويحلّ قليله وهذا التّشبيه بعيدٌ لأنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال:
((ما أسكر كثيره فقليله حرامٌ)) وقال:
((كلّ مسكرٍ خمرٌ))
فالمسكر وهو الخمر هو الجنس الّذي قال اللّه جلّ وعزّ فيه {إنّما يريد الشّيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر} [المائدة: 91] وليس هذا في الدّواء والبنج، وإنّما هذا في كلّ شرابٍ فهو هكذا، وعارضوا بأن قالوا: فليس ما أسكر كثيره بمنزلة الخمر في كلّ أحواله
قال أبو جعفرٍ: وهذه مغالطةٌ وتمويهٌ على السّامع، لأنّه لا يجب من هذا إباحةٌ، وقد علمنا أنّه ليس من قتل مسلمًا غير نبيٍّ بمنزلة من قتل نبيًّا فليس يجب إذا لم يكن بمنزلةٍ في جميع الأحوال أن يكون مباحًا كذا من شرب ما أسكر كثيره وإن لم يكن بمنزلة من شرب عصير العنب الّذي قد نشّ فليس يجب من هذا أن يباح له ما قد شرب ولكنّه بمنزلته في أنّه قد شرب محرّمًا وشرب خمرًا وأنّه يحدّ في القليل منه كما يحدّ في القليل من الخمر، وهذا
قول من لا يدفع قوله منهم عمر، وعليٌّ رضي اللّه عنهما
ومعنى ((كلّ مسكرٍ خمرٌ))يجوز أن يكون بمنزلة الخمر في التّحريم وأن يكون المسكر كلّه يسمّى خمرًا كما سمّاه رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم ومن ذكرنا من الصّحابة والتّابعين بالأسانيد الصّحيحة
وقد عارض قومٌ بعض الأسانيد من غير ما ذكرناه فمن ذلك:
ما قرئ على عبد اللّه بن محمّد بن عبد العزيز، عن شيبان بن فرّوخ، عن مهديّ بن ميمون، قال حدّثنا أبو عثمان الأنصاريّ، قال: حدّثنا القاسم بن محمّدٍ، عن عائشة، قالت: قال رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم: ((كلّ مسكرٍ حرامٌ وما أسكر الفرق فملء الكفّ منه حرامٌ))
قال أبو جعفرٍ: الفرق بفتح الرّاء لا غير وهو ثلاث أصوعٍ وكذا فرق الصّبح بالفتح وكذا الفرق من الفزع والفرق أيضًا تباعد ما بين الشّيئين فأمّا الفرق بإسكان الرّاء ففرق الشّعر وكذا الفرق بين الحقّ والباطل
وقرئ على أبي القاسم عبد اللّه بن محمّد بن عبد العزيز، عن أبي سعيدٍ الأشجّ، عن الوليد بن كثيرٍ، قال: حدّثنا الضّحّاك بن عثمان، عن بكير بن عبد اللّه بن الأشجّ، عن عامر بن سعدٍ، عن أبيه، قال: قال رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم: «أنهاكم عن قليل، ما أسكر كثيره»
قال أبو القاسم: وحدّثنا أحمد بن محمّد بن حنبلٍ قال حدّثنا سليمان بن داود يعني الهاشميّ، قال: حدّثنا إسماعيل بن جعفرٍ، قال: حدّثنا داود بن بكرٍ يعني ابن أبي الفرات، قال: حدّثنا محمّد بن المنكدر، عن جابرٍ، قال: قال رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم: ((ما أسكر كثيره فقليله حرامٌ))
قال أبو جعفرٍ: فمن عجيب ما عارضوا به أن قالوا: أبو عثمان الأنصاريّ مجهولٌ والمجهول لا تقوم به حجّةٌ فقيل لهم: ليس بمجهولٍ والدّليل على ذلك أنّه قد روى عنه الرّبيع بن صبيحٍ، وليث بن أبي سليمٍ، ومهديّ بن ميمونٍ، ومن روى عنه اثنان فليس بمجهولٍ
وقالوا: الضّحّاك بن عثمان مجهولٌ قيل لهم: قد روى عنه عبد العزيز بن محمّدٍ، وعبد العزيز بن أبي حازمٍ، ومحمّد بن جعفر بن أبي كثيرٍ، وابن أبي فديكٍ
وقالوا: داود بن بكرٍ مجهولٌ قيل لهم: قد روى عنه إسماعيل بن جعفرٍ، وأنس بن عياضٍ
وإنّما تعجب من معارضتهم بهذا؛ لأنّهم يقولون في دين اللّه جلّ وعزّ بما رواه أبو فزارة زعموا عن أبي زيدٍ، عن ابن مسعودٍ:
أنّه كان مع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ليلة الجنّ وأنّه توضّأ بنبيذ التّمر
وأبو زيدٍ لا يعرف ولا يدرى من أين هو؟
وقد روى إبراهيم عن علقمة قال:
سألت عبد اللّه هل كنت مع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ليلة الجنّ؟ فقال «لا وبودّي أن لو كنت معه»
ويحتجّون بحديثٍ رووه قال أبو جعفرٍ: سنذكره بإسناده
عن أبي إسحاق، عن ابن ذي لعوةٍ، أنّ عمر، حدّ رجلًا شرب من إداوته وقال: «أحدّك على السّكر»
وهذا من عظيم ما جاءوا به، وابن ذي لعوة لا يعرف، وهكذا قول أبي بكر بن عيّاشٍ، لعبد اللّه بن إدريس
" حدّثنا أبو إسحاق، عن أصحابه، أنّ ابن مسعودٍ، " كان يشرب الشّديد فقال له عبد اللّه بن إدريس: استحييت لك يا شيخ " من أصحابه؟ وأبو إسحاق إذا سمّى من حدّث عنه ولم يقل: سمعت لم يكن حجّةٌ، وما هذا الشّديد؟ أهو خلٌّ أم نبيذٌ؟ ولكن حدّثنا محمّد بن عمرٍو، عن أبي سلمة عن ابن عمر، وأبي هريرة أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: ((كلّ مسكرٍ خمرٌ وكلّ مسكرٍ حرامٌ)) وحدّثنا محمّد بن عمرٍو، عن أبي سلمة، عن عائشة عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: ((كلّ شرابٍ أسكر حرامٌ)) فأفحم أبو بكر بن عيّاشٍ، وكان عبد اللّه بن إدريس في الكوفيّين متشدّدًا في تحريم قليل ما أسكر كثيره
وقال الأوزاعيّ: قلت لسفيان الثّوريّ: " إنّ اللّه جلّ وعزّ لا يسألني يوم القيامة لم لم تشرب النّبيذ؟ ويسألني لم شربته؟ فقال: «لا أفتي به أبدًا»
وقال أبو يوسف: «في أنفسنا من الفتيا به أمثال الجبال ولكن عادة البلد»، ثمّ اجتمعوا جميعًا على تحريم المعاقرة وتحريم النّقيع
وقال أبو حنيفة: «هو بمنزلة الخمر»
فأمّا الأحاديث الّتي احتجّوا بها فما علمت أنّها تخلو من إحدى جهتين
إمّا أن تكون واهية الإسناد وإمّا تكون لا حجّة لهم فيها إلّا التّمويه فرأينا أن نذكرها ونذكر ما فيها ليكون الباب كامل المنفعة فمن ذلك:
ما حدّثناه أحمد بن محمّدٍ الأزديّ، قال: حدّثنا روحٌ، قال: حدّثنا عمرٌو، قال: حدّثنا أبو إسحاق، عن عمرو بن ميمونٍ، قال: شهدت عمر حين طعن فجاءه الطّبيب فقال: أيّ الشّراب أحبّ إليك؟ قال: «النّبيذ» قال: فأتي بنبيذٍ فشربه فخرج من إحدى طعناته وكان يقول: " إنّا نشرب من هذا النّبيذ شرابًا يقطّع لحوم الإبل قال: وشربت من نبيذه فكان كأشدّ النّبيذ "
قال أبو جعفرٍ: هذا الحديث لا تقوم به حجّةٌ؛ لأنّ أبا إسحاق لم يقل: حدّثنا عمرو بن ميمونٍ، وهو مدلّسٌ لا تقوم بحديثه حجّةٌ حتّى يقول: حدّثنا وما أشبهه، ولو صحّحنا الحديث على قولهم لما كانت لهم فيه حجّةٌ؛ لأنّ النّبيذ غير محظورٍ إذا لم يسكر كثيره ومعنى النّبيذ في اللّغة منبوذٌ وإنّما هو ماءٌ نبذ فيه تمرٌ أو زبيبٌ أو نظيرهما ممّا يطيّب الماء ويحلّيه؛ لأنّ مياه المدينة كانت غليظةً فما في هذا الحديث من الحجّة؟
واحتجّوا بما حدّثناه أحمد بن محمّدٍ الأزديّ، قال: حدّثنا فهدٌ، قال: حدّثنا عمر بن حفص بن غياثٍ، قال: حدّثنا أبي، عن الأعمش، قال: حدّثنا حبيب بن أبي ثابتٍ، عن نافع بن علقمة، قال: أمر عمر رضي اللّه عنه بنزلٍ له في بعض تلك المنازل فأبطأ عليهم ليلةً فجيء بطعامٍ فطعم ثمّ أتي بنبيذٍ قد أخلف واشتدّ فشرب منه ثمّ قال: «إنّ هذا لشديدٌ ثمّ أمر بماءٍ فصبّ عليه ثمّ شرب هو وأصحابه»
قال أبو جعفرٍ: هذا الحديث فيه غير علّةٍ منها أنّ حبيب بن أبي ثابتٍ على محلّه لا تقوم بحديثه حجّةٌ لمذهبه وكان مذهبه أنّه قال: لو حدّثني رجلٌ، عنك بحديثٍ ثمّ حدّثت به عنك لكنت صادقًا ومن هذا أنّه روي عن عروة، عن عائشة: «أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قبّل بعض نسائه ثمّ صلّى ولم يتوضّأ»
فعيّب بعض النّاس؛ لأنّه ردّ بهذا على الشّافعيّ؛ لأنّه أوجب الوضوء في القبلة فقيل له لا تثبت بهذا حجّةٌ لانفراد حبيبٍ به
قال أبو جعفرٍ: وفيه من العلل أنّ نافع بن علقمة ليس بمشهور بالرّواية
ولو صحّ الحديث عن عمر لما كانت فيه حجّةٌ؛ لأنّ اشتداده قد يكون من حموضته
وقد اعترض بعضهم فقال: من أين لكم أنّ مزجه بالماء كان لحموضته؟ أفتقولون هذا ظنًّا؟ فالظّنّ لا يغني من الحقّ شيئًا
قال: وليس يخلو من أن يكون نبيذ عمر يسكر كثيره أو يكون خلًّا
قال أبو جعفرٍ: فهذه المعارضة على من عارض بها لا له؛ لأنّه الّذي قال بالظّنّ؛ لأنّه قد ثبتت الرّواية عمّن قد صحّت عدالته أنّ ذلك من حموضته
قال نافعٌ: «كان لتخلّله»
وهم قد رووا حديثًا متّصلًا فيه أنّه كان مزجه إيّاه لأنّه كاد يكون خلًّا
قال أبو جعفرٍ: حدّثنا أحمد بن محمّدٍ، قال: حدّثنا وهبان بن عثمان، قال: حدّثنا الوليد بن شجاعٍ، قال: حدّثنا يحيى بن زكريّا بن أبي زائدة، قال: حدّثنا إسماعيل، عن قيسٍ، قال: حدّثني عتبة بن فرقدٍ، قال: أتي عمر بعسٍّ
من نبيذٍ قد كاد يكون خلًّا فقال لي: «اشرب» فأخذته وما أكاد أستطيعه فأخذه منّي فشربه، وذكر الحديث
فزال الظّنّ بالتّوقيف ممّن شاهد عمر رحمه اللّه وهو من روايتهم
وأمّا قوله لا يخلو من أن يكون نبيذًا يسكر كثيره أو يكون خلًّا فقد خلا من ذينك؛ لأنّ العرب تقول: للنّبيذ إذا دخلته حموضة نبيذٍ حامضٍ فإذا زادت صار خلًّا فترك هذا القسم وهو لا يخيل على من عرف اللّغة، ثمّ روى حديثًا إن كانت فيه حجّةٌ فهي عليه
حدّثنا أحمد بن محمّدٍ، قال: حدّثنا فهدٌ، قال: حدّثنا عمر بن حفصٍ، قال: حدّثنا أبي قال،: حدّثنا الأعمش، قال: حدّثني إبراهيم، عن همّام بن الحارث، قال: أتي عمر بنبيذٍ فشرب منه فقطّب ثمّ قال: " إنّ نبيذ الطّائف له عرامٌ ثمّ ذكر شدّةً لا أحفظها ثمّ دعا بماءٍ فصبّ عليه ثمّ شرب
قال أبو جعفرٍ: وهذا لعمري إسنادٌ مستقيمٌ ولا حجّة له فيه بل الحجّة عليه؛ لأنّه إنّما يقال: قطّب لشدّة حموضة الشّيء ومعنى قطّب في كلام العرب خالطت بياضه حمرةٌ، مشتقٌّ من قطبت الشّيء أقطبه وأقطبه إذا خلطته
وفي الحديث له عرامٌ أي خبثٌ، ورجلٌ عارمٌ أي: خبيثٌ
حدّثنا أحمد بن محمّدٍ الأزديّ، قال: حدّثنا فهدٌ، قال: حدّثنا عمر بن حفصٍ، قال: حدّثنا أبي، عن الأعمش، قال: حدّثني أبو إسحاق، عن سعيد بن ذي حدّان أو ابن ذي لعوة، قال: جاء رجلٌ قد ظمئ إلى خازن عمر فاستسقاه فلم يسقه فأتي بسطيحةٍ لعمر فشرب منها فسكر فأتي به عمر فاعتذر إليه فقال: إنّما شربت من سطيحتك فقال عمر: «إنّما أضربك على السّكر» فضربه عمر "
قال أبو جعفرٍ: هذا الحديث من أقبح ما روي في هذا الباب وعلله بيّنةٌ لمن لم يتّبع الهوى فمنها أنّ ابن ذي لعوة لا يعرف ولم يرو عنه إلّا هذا الحديث ولم يرو عنه إلّا أبو إسحاق، ولم يذكر أبو إسحاق فيه سماعًا وهو مخالفٌ لما نقله أهل العدالة عن عمر
قال أبو جعفرٍ: حدّثنا بكر بن سهلٍ، قال: حدّثنا عبد اللّه بن يوسف، قال: أخبرنا مالكٌ، عن الزّهريّ، عن السّائب بن يزيد، أنّ عمر، رضي اللّه عنه خرج عليهم فقال: «إنّي وجدت من فلانٍ ريح شرابٍ قد زعم أنّه شرب
الطّلاء وأنا سائلٌ عمّا شرب فإن كان يسكر جلدته الحدّ»، قال: فجلده عمر الحدّ ثمانين
فهذا إسنادٌ لا مطعن فيه والسّائب بن يزيد رجلٌ من أصحاب النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فهل يعارض مثل هذا بابن ذي لعوة، وعمر رضي اللّه عنه يخبر بحضرة الصّحابة أنّه يجلد في الرّائحة من غير سكرٍ لأنّه لو كان سكران ما احتاج أن يسأل عمّا شرب فرووا عن عمر رحمه اللّه ما لا يحلّ لأحدٍ أن يحكيه عنه من غير جهة لوهاء الحديث وأنّه زعم شرب من سطيحته وأنّه يحدّ على السّكر وذلك ظلمٌ لأنّ السّكر ليس من فعل الإنسان وإنّما هو شيءٌ يحدث عن الشّرب وإنّما الضّرب عن الشّرب كما أنّ الحدّ في الزّنا إنّما هو على الفعل لا على اللّذّة
ومن هذا قيل لهم: تحريم السّكر محالٌ؛ لأنّ اللّه جلّ وعزّ إنّما يأمر وينهى بما في الطّاقة وقد يشرب الإنسان يريد السّكر فلا يسكر ويريد أن لا يسكر فيسكر وقيل لهم: كيف يحصّل ما يسكر وطباع النّاس فيه مختلفةٌ؟
ثمّ تعلّقوا بشيءٍ روي عن ابن عبّاسٍ: حدّثناه أحمد بن محمّدٍ، قال: حدّثنا فهدٌ، قال: حدّثنا أبو نعيمٍ، عن مسعرٍ، عن أبي عونٍ، عن عبد اللّه بن شدّادٍ، عن ابن عبّاسٍ، قال: «حرّمت الخمر بعينها قليلها وكثيرها، والسّكر من كلّ شرابٍ»
قال أبو جعفرٍ: وهذا الحديث قد رواه شعبة على إتقانه وحفظه على غير هذا
كما قرئ على عبد اللّه بن محمّد بن عبد العزيز، عن أحمد بن محمّد بن حنبلٍ، قال: حدّثنا محمّد بن جعفرٍ، قال: حدّثنا شعبة، عن مسعرٍ، عن أبي عونٍ، عن عبد اللّه بن شدّادٍ، عن ابن عبّاسٍ، قال: «حرّمت الخمر بعينها والمسكر من كلّ شرابٍ»
وقد بيّنّا أنّ السّكر ليس من فعل الإنسان وإذا جاء حديثٌ معارضٌ لما قد ثبتت صحّته وقد اختلفت روايته فلا معنى للاحتجاج به
وقد روى يحيى القطّان، عن عثمان الشّحّام، بصريٌّ مشهورٌ، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ، قال: «نزل تحريم الخمر وهي الفضيخ»
قال أبو جعفرٍ: فهذا خلاف ذاك؛ لأنّ الفضيخ بسرٌ يفضخ فجعله خمرًا وأخبر بالتّنزيل فيه وفي تحريمه
قال أبو جعفرٍ: حدّثنا أحمد بن محمّدٍ، قال: حدّثنا محمّد بن عمرو بن يونس السّوسيّ، قال: حدّثنا أسباط بن محمّدٍ القرشيّ، عن الشّيبانيّ، عن عبد الملك بن نافعٍ، قال: سألت ابن عمر فقلت: إنّ أهلنا ينتبذون نبيذًا في سقاءٍ لو نكهته لأخذ فيّ فقال ابن عمر: " إنّما البغي على من أراد البغي شهدت رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم عند هذا الرّكن وأتاه رجلٌ بقدحٍ من نبيذٍ فأدناه إلى فيه فقطّب وردّه فقال رجلٌ: يا رسول اللّه، أحرامٌ هو؟ فردّ الشّراب ثمّ دعا بماءٍ فصبّه عليه ثمّ قال: «إذا اغتلمت عليكم هذه الأسقية فاقطعوا متونها بالماء»
قال أحمد بن شعيبٍ: عبد الملك بن نافعٍ لا يحتجّ بحديثه وليس
بالمشهور، وقد روى أهل العدالة سالمٌ، ونافعٌ، ومحمّد بن سيرين، عن ابن عمر خلاف ما روى وليس يقوم مقام واحدٍ منهم ولو عاضده جماعةٌ من أشكاله
قال أبو جعفرٍ: ثمّ رجعنا إلى متن الحديث فقلنا: لو صحّ ما كانت فيه حجّةٌ لمن احتجّ به بل الحجّة عليه به بيّنةٌ وذلك أنّ قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا اغتلمت عليكم» وبعضهم يقول: «إذا رابكم من شرابكم ريبٌ فاكسروا متنه بالماء»، والرّيب في الأصل الشّكّ ثمّ يستعمل بمعنى المخافة والظّنّ مجازًا
فاحتجّوا بهذا وقالوا: معناه إذا خفتم أن يسكر كثيره فاكسروه بالماء
قال أبو جعفرٍ: وهذا من قبيح الغلط؛ لأنّه لو كان كثيره يسكر لكان قد زال الخوف وصار يقينًا ولكنّ الحجّة فيه لمن خالفهم أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أمر أن لا يقرّ الشّراب إذا خيف منه أن ينتقل إلى الحرام حتّى يكسر بالماء الّذي يزيل الخوف ومع هذا فحجّةٌ قاطعةٌ عند من عرف معاني كلام العرب وذلك أنّ الشّراب الّذي بمكّة لم يزل في الجاهليّة والإسلام لا يطبخ بنارٍ وإنّما هو ماءٌ يجعل فيه زبيبٌ أو تمرٌ ليطيّب؛ لأنّ مياههم فيها ملوحةٌ وغلظٌ ولم تتّخذه للذّةٍ
وقد أجمع العلماء منهم أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمّدٌ أنّ ما نقع ولم يطبخ بالنّار وكان كثيره يسكر فهو خمرٌ والخمر إذا صبّ فيها الماء أو صبّت على الماء فلا اختلاف بين المسلمين أنّها قد نجسّت الماء إذا كان قليلًا فقد صار حكم هذا حكم الخمر وإذا أسكر كثيره فقليله حرامٌ بإجماع المسلمين، فزالت الحجّة بهذا الحديث لو صحّ
قال أبو جعفرٍ: حدّثنا أحمد، قال: حدّثنا فهدٌ، قال: حدّثنا محمّد بن سعيدٍ الأصبهانيّ، قال: حدّثنا يحيى بن اليمان، عن الثّوريّ، عن منصورٍ، عن خالد بن سعدٍ، عن أبي مسعودٍ، قال: " عطش النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم حول الكعبة فاستسقى فأتي بنبيذٍ من نبيذ السّقاية فشمّه فقطّب فصبّ عليه من ماء زمزم ثمّ شرب فقال رجلٌ: أحرامٌ هو؟ قال: «لا»
قال أبو جعفرٍ: قد ذكرنا النّبيذ الّذي في السّقاية بما فيه كفايةٌ على أنّ هذا الحديث لا يحلّ لأحدٍ من أهل العلم أن يحتجّ به فإن كان من أهل الجهل فينبغي أن يتعرّف ما يحتجّ به في الحلال والحرام قبل أن يقطع به
قال أحمد بن شعيبٍ: هذا الحديث لا يحتجّ به؛ لأنّ يحيى بن اليمان انفرد به، عن الثّوريّ دون أصحابه، ويحيى بن اليمان ليس بحجّةٍ لسوء حفظه وكثرة خطئه
وقال غير أبي عبد الرّحمن: أصل هذا الحديث أنّه من رواية الكلبيّ فغلط يحيى بن اليمان فنقل متن حديثٍ إلى حديثٍ آخر وقد سكت العلماء عن كلّ ما رواه الكلبيّ فلم يحتجّوا بشيءٍ منه
وحدّثنا أحمد، قال: حدّثنا عليّ بن معبدٍ، قال: حدّثنا يونس بن محمّدٍ، قال: حدّثنا شريكٌ، عن أبي إسحاق، عن أبي بردة، عن أبيه، قال: بعثني رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم أنا ومعاذًا، إلى اليمن فقلنا: يا رسول اللّه، إنّ بها شرابين يصنعان من البرّ والشّعير أحدهما يقال له المزر والآخر البتع فما نشرب؟ قال: «اشربا ولا تسكرا»
قال أبو جعفرٍ: هذا الحديث أتى من شريكٍ في حروفٍ فيه يبيّن لك ذلك:
ما قرئ على أحمد بن شعيبٍ، عن أحمد بن عبد اللّه بن عليّ بن مسروقٍ، قال: حدّثنا عبد الرّحمن يعني ابن مهديٍّ، قال: حدّثنا إسرائيل، قال: حدّثنا أبو إسحاق، عن أبي بردة، عن أبي موسى، قال: بعثني رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم أنا ومعاذًا، إلى اليمن فقال معاذٌ: يا رسول اللّه، إنّك تبعثنا إلى بلدٍ كثيرٍ شراب أهله فما نشرب؟ قال: «اشرب ولا تشرب مسكرًا» واحتجّوا بحديثين عن ابن مسعودٍ أحدهما من رواية الحجّاج بن أرطأة وقد ذكرنا ما في حديثه من العلّة
والحديث الآخر حدّثناه أحمد بن محمّدٍ، قال: حدّثنا إبراهيم بن مرزوقٍ، قال: حدّثنا محمّد بن كثيرٍ، قال: حدّثنا سفيان الثّوريّ، عن أبيه، عن لبيد بن شمّاسٍ، قال: قال عبد اللّه: «إنّ القوم ليجلسون على الشّراب وهو حلٌّ لهم فما يزالون حتّى يحّرم عليهم»
[قال أبو جعفرٍ: هذا الحديث لا يحتجّ به؛ لأنّ لبيد بن شمّاسٍ، وشريكٌ يقول: شمّاس بن لبيدٍ لا يعرف ولم يرو عنه أحدٌ إلّا سعيد بن مسروقٍ، ولا روي عنه إلّا هذا الحديث، والمجهول لا تقوم به حجّةٌ فلم تقم لهم حجّةٌ عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ولا عن أحدٍ من أصحابه
والحقّ في هذا ما قاله ابن المبارك
قرئ على أحمد بن شعيبٍ، عن أبي قدامة عبيد اللّه بن سعيدٍ، قال: حدّثنا أبو أسامة وهو حمّاد بن أسامة، قال: سمعت عبد اللّه بن المبارك، يقول: «ما وجدت الرّخصة في المسكر عن أحدٍ صحيحةً إلّا عن إبراهيم» قال أبو أسامة: وما رأيت أحدًا أطلب للعلم من عبد اللّه بن المبارك بالشّام ومصر والحجاز واليمن
قال أبو جعفرٍ: وأمّا الميسر فهو القمار
كما حدّثنا بكر بن سهلٍ، قال: حدّثنا أبو صالحٍ، قال: حدّثني معاوية بن صالحٍ، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: {يسألونك عن الخمر، والميسر} [البقرة: 219] قال: «كان أحدهم يقامر بأهله وماله فإذا قمر أخذ أهله وماله»
قال أبو جعفرٍ: حكى أهل العلم بكلام العرب أنّ الميسر كان القمار في الجزر خاصّةً قال أبو إسحاق: «فلمّا حرّم حرّم جميع القمار كما أنّه لمّا حرّمت الخمر حرّم كلّ ما أسكر كثيره»، وذكر الشّعبيّ «أنّ القمار كان حلالًا ثمّ حرّم» ويدلّ على ما قال: حديث ابن عبّاسٍ قال:
«لمّا أنزل اللّه جلّ وعزّ {ألم غلبت الرّوم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون} وكانت قريشٌ تحبّ أن تغلب فارس لأنّهم أهل أوثانٍ وكان المسلمون يحبّون أن تغلب الرّوم فخاطرهم أبو بكرٍ إلى أجلٍ»
قال أبو جعفرٍ: وقيل: لا يقال: كان هذا حلالًا ولكن يقال: مباحًا ثمّ نسخ بتحريمه، وتحريم الخمر
وفي هذه الآية قوله جلّ وعزّ {ويسألونك ماذا ينفقون} [البقرة: 219]
قال أبو جعفرٍ: وهذا آخر الآية في عدد المدنيّ الأوّل، والجواب في أوّل الآية التّاسعة عشرة ). [الناسخ والمنسوخ للنحاس: 1/454-630]
قالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النَّحَّاسُ (ت: 338 هـ):(باب ذكر الآية التّاسعة عشرةقال جلّ وعزّ {قل العفو} [البقرة: 219] فيه ثلاثة أقوالٍ
من العلماء من قال: إنّها منسوخةٌ بالزّكاة المفروضة، ومنهم من قال: هي الزّكاة، ومنهم من قال: هو شيءٌ أمر به غير الزّكاة لم ينسخ
أخبرنا أبو جعفرٍ قال: حدّثنا بكر بن سهلٍ، قال: حدّثنا أبو صالحٍ، قال: حدّثني معاوية بن صالحٍ، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ في قوله: {ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو} [البقرة: 219] قال: «هو ما لا يتبيّن وهذا قبل أن تفرض الصّدقة»
قال أبو جعفرٍ: وقال الضّحّاك: «نسخت الزّكاة كلّ صدقةٍ في القرآن»
[الناسخ والمنسوخ للنحاس: 1/631]
فهذا قول من قال: إنّها منسوخةٌ
وحدّثنا أبو جعفرٍ قال: حدّثنا عليّ بن الحسين، عن الحسن بن محمّدٍ، قال: حدّثنا شبابة، قال: حدّثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، في قوله جلّ وعزّ {ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو} [البقرة: 219] قال: «الصّدقة المفروضة»
قال أبو جعفرٍ: والزّكاة هي لعمري شيءٌ يسيرٌ من كثيرٍ إلّا أنّ هذا القول لا يعرف إلّا عن مجاهدٍ والقول الّذي قبله: إنّها منسوخةٌ بعيدٌ؛ لأنّهم إنّما سألوا
[الناسخ والمنسوخ للنحاس: 1/632]
عن شيءٍ فأجيبوا عنه بأنّهم سبيلهم أن ينفقوا ما سهل عليهم
والقول الثّالث عليه أكثر أهل التّفسير:
كما حدّثنا عليّ بن الحسين، عن الحسن بن محمّدٍ، قال: حدّثنا أبو معاوية، قال: حدّثنا ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن مقسمٍ، عن ابن عبّاسٍ، في قوله جلّ وعزّ {ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو} [البقرة: 219] قال: «ما فضل عن العيال»
قال أبو جعفرٍ: فهذا القول بيّنٌ وهو مشتقٌّ من عفا يعفو إذا كثر وفضل والمعنى واللّه أعلم: ويسألونك ماذا ينفقون قل: ينفقون ما
[الناسخ والمنسوخ للنحاس: 1/633]
سهل عليهم وفضل عن حاجتهم وأكثر التّابعين على هذا التّفسير
قال طاوسٌ: «العفو اليسير من كلّ شيءٍ»
وقال الحسن: {قل العفو} [البقرة: 219] «أي لا تجهد مالك حتّى تبقى تسأل النّاس»
وقال خالد بن أبي عمران: سألت القاسم، وسالمًا عن قول اللّه جلّ وعزّ {ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو} [البقرة: 219] فقالا: «هو فضل المال ما كان عن ظهر غنيًّ»
قال أبو جعفرٍ: وهذا من حسن العبارة في معنى الآية، وهو موافقٌ لقول رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم
كما حدّثنا أبو الحسين محمّد بن الحسن بن سماعة بالكوفة، قال: حدّثنا أبو نعيمٍ، قال: حدّثنا عمرٌو يعني ابن عثمان بن عبد اللّه بن موهبٍ، قال: سمعت موسى بن طلحة، يذكر عن حكيم بن حزامٍ، قال: قال رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم: ((خير الصّدقة عن ظهر غنًى واليد العليا خيرٌ من اليد السّفلى وابدأ بمن تعول))
[الناسخ والمنسوخ للنحاس: 1/634]
قال أبو جعفرٍ: فصار المعنى ويسألونك ماذا ينفقون قل: ما سهل عليكم ونظيره {خذ العفو وأمر بالعرف} [الأعراف: 199] أي خذ ما سهل من أخلاق النّاس ولا تتقصّ عليهم فهذا العفو من أخلاق النّاس وذاك العفو ممّا ينفقون
كما قال عبد اللّه بن الزّبير وقد تلا {خذ العفو} [الأعراف: 199] قال: «من أخلاق النّاس وايم اللّه لأستعملنّ ذاك فيهم»
وقال أخوه عروة وتلا {خذ العفو} [الأعراف: 199] قال: خذ ما ظهر من أعمالهم، وقولهم
[الناسخ والمنسوخ للنحاس: 1/635]

(قَالَ هِبَةُ اللهِ بنُ سَلامَةَ بنِ نَصْرٍ المُقْرِي (ت: 410 هـ): (الآية العشرون قوله تعالى {يسألونك عن الخمر والميسر} فالخمر كل ما خامر العقل وغطاه والميسر القمار كله وذلك أنالله تعالى حرم الخمر في أوطان خمسة فأولهن قوله تعالى {ومن ثمرات النخيل والأعناب تتّخذون منه سكرا ورزقًا حسنا} فمعناها وتتركون رزقا حسنا وهو تعيير من الله تعالى لهم فظاهرها تعدد النعم وليس كذلك فلمّا نزلت هذه الآية امتنع عن شربها قوم وبقي آخرون حتّى قدم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) المدينة فخرج حمزة بن عبد المطلب وقد شرب الخمر فلقيه رجل من الأنصار وبيده ناضح له والأنصاري يتمثّل ببيتين لكعب بن مالك في مدح قومه وهماجمعنا مع الإيواء نصرا وهجرة
فلم ير حيّ مثلنا في المعاشر = فأحياؤنا من خير أحياء من مضى
وأمواتنا في خير أهل المقابر
فقال له حمزة أولئك المهاجرون فقال له الأنصاريّ بل نحن الأنصار فتنازعا فجرد حمزة سيفه وعدا على الأنصار فلم يمكن الأنصاريّ أن يقوم له فترك ناضحه وهرب فظفر حمزة بالناضح وجعل يقطعه فجاء الأنصاريّ إلى النّبي (صلى الله عليه وسلم) مستعديا فأخبره بخبر حمزة وفعاله بالناضح فغرم النّبي (صلى الله عليه وسلم) له ناضحا فقال عمر بن الخطاب يا رسول الله أما ترى إلى ما نلقي من أمر الخمر إنّها مذهبة للعقل متلفة للمال فأنزل الله تعالى بالمدينة {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير}
وقد قرئ كثير والمعنيان متقاربان {ومنافع للنّاس} وعلى هذا معارضة لقائل يقول أين المنفعة منها وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن الله تعالى لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها فالجواب على ذلك أنهم كانوا يبتاعونها في الشّام بالثّمن اليسير ويبيعونها في الحجاز بالثّمن الثمين وكانت المنافع فيها من الأرباح وكذلك قال الله تعالى {قل فيهما إثمٌ كبيرٌ} فانتهى عن شربها قوم وبقي آخرون حتّى دعا محمّد ابن عبد الرّحمن بن عوف الزّهريّ قوما فأطعمهم وسقاهم حتّى سكروا فلمّا حضر وقت الصّلاة صلوا المغرب فقدموا رجلا منهم يصلّي بهم وكان أكثرهم قرآنًا يقال له ابن أبي جعونة حليف الأنصار فقرأ فاتحة الكتاب وقل يا أيّها الكافرون فمن أجل سكره خلط فقال في موضع {لا أعبد} أعبد وفي موضع {أعبد} لا أعبد فبلغ ذلك رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فشق عليه فأنزل الله تعالى {يا أيّها الّذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتّى تعلموا ما تقولون}
الآية فكان الرجل منهم يشرب الخمر بعد العشاء الأخيرة ثمّ يرقد ويقوم عند صلاة الفجر وقد صحا ثمّ كان يشربها إن شاء بعد صلاة الفجر فيصحوا منها عند صلاة الظّهر فإذا كان وقت الظّهر لم يشربها البتّة حتّى يصلّي العشاء الأخيرة حتّى دعا سعد بن أبي وقاص الزّهريّ وقد عمل وليمة على رأس جزور فدعا أناسًا من المهاجرين والأنصار فأكلوا وشربوا وسكروا وافتخروا فعمد رجل والأنصار فأخذ أحد لحيي الجزور فضرب به أنف سعد ففزره وجاء سعد مستعديا إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فأنزل الله تعالى {يا أيّها الّذين آمنوا إنّما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشّيطان فاجتنبوه أي فاتركوه لعلّكم تفلحون} وهذه الآية تدل على تحريم الخمر في القرآن لأن الله تعالى ذكره مع المحرمات واختلف المفسّرون في موضع التّحريم أهو ههنا أم غيره فقال الأكثرون ههنا وقال آخرون التّحريم عند قوله تعالى {فهل أنتم منتهون} فقالوا أنتهينا يا رسول الله والمعنى انتهوا كما قال في الفرقان {أتصبرون} والمعنى اتّقوا اصبروا وفي الشّعراء {قوم فرعون ألا يتّقون} والمعنى اتّقوا
وأكد تحريها بقوله تعالى {قل إنّما حرّم ربّي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحقٍّ} والإثم الخمر قال الشّاعر
شربت الإثم حتّى ضل عقلي = كذاك الإثم يذهب بالعقول
وقال آخر
تشرب الإثم بالكؤوس جهاراً = وترى المتك بيننا مستعارا
ويروي بالنّهار جهارا والمتك الأترج فهذا تحريم الخمر والنتقاله في مواطنه
الآية الحادية والعشرون قوله تعالى {ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو} ومعنى العفو الفضل من المال وذلك أن الله تعالى فرض عليهم قبل الزّكاة إذا كان للإنسان مال أن يمسك منه ألف درهم أو قيمتها من الذّهب ويتصدّق بما بقي وقال آخرون فرض عليهم أن يمسكوا ثلث أموالهم ويتصدقوا بما بقى وإن كان من أهل زراعة الأرض وعمارتها أمرهم أن يمسكوا ما يقيتهم حولا ويتصدقوا بما بقي وإن كان ممّن يلي عمله بيديه أمسك ما يقوته يومه ويتصدّق
بما بقى فشق ذلك عليهم حتّى أنزل الله تعالى الزّكاة ففرض في المال الذّهب والفضّة إذا حال عليه الحول ربع عشرة إذا بلغ من الذّهب عشرين دينارا أو من الورق مائتي درهم فيكون من كل عشرين دينارا نصف دينار ومن كل مائتي درهم خمسة دراهم فأسقط عنهم الفضل في ذلك فصارت آية الزّكاة وهي قوله تعالى {خذ من أموالهم صدقةً تطهرهم وتزكيهم بها} فبينت ألسنة أعيان الزّكاة من الذّهب والفضّة والنّخل والزّرع والماشية فصارت هذه الآية ناسخة لما قبلها
). [الناسخ والمنسوخ لابن سلامة: 31-59]
قَالَ مَكِّيُّ بنُ أبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ) : (قوله تعالى: {يسألونك عن الخمر والميسر} الآية:
أكثر العلماء على أنها ناسخةٌ لما كان مباحًا من شرب الخمر؛ لأنه تعالى أخبرنا أن في الخمر إثمًا، وأخبرنا أن الإثم محرمٌ بقوله تعالى: {قل إنّما حرّم ربّي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحقّ} [الأعراف: 33] فنصّ على أن الإثم محرمٌ، وأخبر أن في شرب الخمر إثمًا، فهي محرّمةٌ بالنصّ الظّاهر الذي لا إشكال فيه. وما حرم: كثيره وقليله حرام، كلحم الخنزير والميتة والدّم.
وسورة البقرة مدنيةٌ، فلا يعترض على ما فيها بما نزل في الأنعام المكيّة في قوله: {قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرمًا على طاعمٍ يطعمه إلاّ أن يكون} [الأنعام: 145] الآية -؛ لأن هذا تحريمٌ نزل بمكّة والخمر نزل تحريمها بالمدينة.
وزادنا الله تأكيدًا في تحريم الخمر بقوله: {فهل أنتم منتهون}!!! فهذا تهديدٌ ووعيدٌ يدلاّن على تأكيد التحريم للخمر. وزاد ذلك بيانًا قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((حرّمت الخمر بعينها والسّكر من غيرها)).
وأكّد الله ذلك وحقّقه بقوله تعالى: {فاجتنبوه لعلّكم تفلحون} [المائدة: 90]. و"لعلّ" من الله واجبةٌ، فضمان الفلاح في اجتنابها، فنظيره الخسران مع مواقعتها.
وكما أنه تعالى حرّم أكل لحم الخنزير، وقليله ككثيره حرام بإجماع كذلك يجب أن يكون الخمر والمسكر من غيرها في التحريم قليلها ككثيرها في التحريم، وزاد ذلك بيانًا قوله عليه السلام: ((ما أسكر كثيره فقليله حرام)).
قال ابن جبير: لما نزلت: {قل فيهما إثمٌ كبيرٌ ومنافع للنّاس} [البقرة: 219] كره الخمر قومٌ للإثم، وشربها قومٌ للمنافع، حتى نزل: {لا تقربوا الصّلاة وأنتم سكارى} [النساء: 43] فتركوها عند الصّلاة حتى نزلت: {فاجتنبوه لعلّكم تفلحون} [المائدة: 90] فحرّمت.
فهذا يدلّ على أن آية البقرة منسوخةٌ بآية المائدة، والمائدة نزلت بعد البقرة بلا شك.
وقوله تعالى: {ومنافع للناس}: منسوخٌ إباحة منافعها بنسخ الخمر. والمنافع: هي ما كانوا ينحرون على الميسر من الجزور للضّعفاء ولأنفسهم، وذلك قمار، حرّمه الله لأنه من أكل المال بالباطل المحرّم بنصّ القرآن.
وقال ابن حبيب: المنافع التي في الخمر: هي أنّ الرّجل كان إذا أصابته مصيبةٌ تكربه وتغمّه، سقي الخمر فذهب عنه ذلك الغمّ.
وقيل: المنافع في الخمر: ما يصيبون من لذّتها وسرورها عند شربها.
قوله تعالى: {ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو} [البقرة: 219].
قال ابن عباس: هي منسوخةٌ بفرض الزكاة.
وقيل: هي محكمةٌ غير منسوخةٍ والمراد بالعفو: الزّكاة بعينها.
وقيل: هي محكمةٌ مخصوصةٌ في التطوّع. والعفو - عند ابن عباس -: القليل الذي لا يتبين خروجه من المال.
وقال طاووس: العفو: اليسير من كلّ شيء.
وقال الحسن وعطاء: العفو: ما لا يكون إسرافًا ولا إقتارًا.
وقال مجاهد: العفو: الصدقة عن ظهر غنى.
وقال الربيع: العفو: ما طاب من المال.
وقال قتادة: العفو أفضل المال وأطيبه.
).[الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه:123- 200]
قَالَ أبو الفَرَجِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَلِيٍّ ابْنُ الجَوْزِيِّ (ت: 597هـ): (ذكر الآية الخامسة والعشرين: قوله تعالى: {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثمٌ كبيرٌ ومنافع للنّاس}.
اختلف العلماء في هذه الآية: فقال قومٌ: إنّها تضمّنت ذمّ الخمر (لا تحريمها) وهو مذهب ابن عبّاسٍ وسعيد بن جبيرٍ، ومجاهدٍ، وقتادة.
وقال آخرون: بل تضمّنت تحريمها، وهو مذهب الحسن وعطاءٍ.
فأمّا قوله تعالى: {وإثمهما أكبر من نفعهما} فيتجاذبه أرباب القولين، فأمّا أصحاب القول الأوّل فإنّهم قالوا إثمهما بعد التّحريم أكبر من نفعهما قبله.
وقال أصحاب
القول الثّاني: إثمهما قبل التّحريم أكبر من نفعهما حينئذٍ أيضًا لأنّ الإثم الحادث عن شربها من ترك الصّلاة والإفساد الواقع عن السّكر لا يوازي منفعتها الحاصلة من لذّةٍ أو بيعٍ ولمّا كان الأمر محتملاً للتأويل، قال عمربن الخطّاب بعد نزول هذه الآية: اللّهمّ بيّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا، وعلى القول الأوّل يتوجه النسخ بقوله تعالى فا[جتبوه].
ذكر الآية السّادسة والعشرين: قوله تعالى: {ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو}
فالمراد بهذا الإنفاق ثلاثة أأقوال:
أحدها: أنّه الصّدقة والعفو ما يفضل عن الإنسان.
أخبرنا عبد الوهّاب الحافظ، قال: أبنا أبو الفضل بن خيرون وأبو طاهرٍ الباقلاويّ، قالا: أبنا أبو عليّ بن شاذان، قال: أبنا أحمد بن كاملٍ قال: أبنا محمّد بن (إسماعيل بن) سعدٍ قال حدّثني أبي، قال حدّثني عمّي، قال: حدّثني أبي عن جدّي، عن ابن عبّاسٍ رضي اللّه عنهما (قل العفوا) قال ما أتوك به من شيءٍ قليلٍ أو كثيرٍ فاقبله منهم لم يفرض فيه فريضةً معلومةً، ثمّ نزلت بعد ذلك الفرائض مسمّاةً، وقد قيل: إنّ المراد بهذه الصّدقة الزّكاة.
أخبرنا محمّد بن عبد اللّه بن حبيبٍ، قال: أبنا عليّ بن الفضل، قال: أبنا عبد الصّمد، قال: أبنا عبد اللّه بن حمّوية، قال: أبنا إبراهيم بن خريم، قال: أبنا عبد الحميد، قال: بنا شبابة عن ورقاء عن ابن أبي نجيحٍ عن مجاهدٍ، قال: العفو: الصّدقة المفروضة.
والقول الثّاني: [ أنّه كان فرض عليهم قبل الزّكاة أن ينفقوا ما يفضل عنهم، فكان أهل (المكاسب) يأخذون قدر ما يكفيهم من نصيبهم، ويتصدّقون بالباقي، وأهل الذّهب والفضّة يأخذون قدر ما يكفيهم في تجار = تهم ويتصدّقون = بالباقي، ذكره بعض المفسّرين.
والثّالث: أنّها نفقة التّطوّع، وذلك أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لمّا حثّهم على الصّدقة (ورغّبهم بها قالوا: ماذا ننفق؟ وعلى من ننفق؟ فنزلت هذه الآية).
قال مقاتل بن حيان في قوله: {ويسألونك ماذا ينفقون} قال: هي النّفقة في التّطوّع، فكان الرّجل يمسك من ماله ما يكفيه سنةً ويتصدّق بسائره، وإن كان ممن يعمل بيديه أمسك ما يكفيه يومًا ويتصدّق بسائره وإن كان من أصحاب الحقل والزّرع أمسك ما يكفيه سنة وتصدق (بسائره) فاشتدّ ذلك على المسلمين فنسختها آية الزّكاة.
قلت: فعلى هذا القول، معنى قوله: اشتدّ ذلك على المسلمين، أي: صعب ما ألزموا نفوسهم به، فإن قلنا إن هذه النّفقة نافلةٌ أو هي الزكاة فالآية محكمةٌ، وإن قلنا إنّها نفقةٌ فرضت قبل الزّكاة فهي منسوخة بآية الزكاة والأظهر أنها في الإنفاق في المندوب إليه.
). [نواسخ القرآن:125- 236]
قالَ أبو الفَرَجِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَلِيٍّ ابْنِ الْجَوْزِيِّ (ت:597هـ): (الثامنة عشرة: {ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو} قيل المراد بهذا الإنفاق الزكاة وقيل صدقة التطوع فالآية محكمة وزعم آخرون أنه إنفاق ما يفضل عن حاجة الإنسان وكان هذا واجبا فنسخ بالزكاة.). [المصَفَّى بأكُفِّ أهلِ الرسوخ: 14-21]
قالَ عَلَمُ الدِّينِ عليُّ بنُ محمَّدٍ السَّخَاوِيُّ (ت:643هـ): (وقوله عز وجل: {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما} الآية [البقرة: 219].
قال بعض مؤلفي الناسخ والمنسوخ:
أكثر العلماء على أنها ناسخة لما كان مباحا من شرب الخمر، قال: لأن الله تعالى أخبرنا أن في الخمر إثما، وأخبرنا أن الإثم محرم بقوله عز وجل: {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم} الآية [الأعراف: 33] قال: فنص على أن الإثم محرم، وأخبر أن في شرب الخمر إثما فهي محرمة بالنص الظاهر الذي لا إشكال فيه.
قال: وما حرم كثيره فقليله حرام كلحم الميتة والخنزير والدم، وسورة البقرة مدنية فلا يعترض على ما فيها بما في "الأنعام" المكية في قوله عز وجل: {قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه} الآية [الأنعام: 145] لأن هذا التحريم نزل بمكة، والخمر نزل تحريمها بالمدينة، وزادنا الله في تأكيد تحريم الخمر بقوله: {فهل أنتم منتهون} الآية [المائدة: 91]، فهذا تهديد ووعيد يدلان على تأكيد تحريم الخمر، وزاد ذلك بيانا قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((حرمت الخمر بعينها والمسكر من غيرها))، وأكد الله تعالى ذلك وحققه بقوله: {فاجتنبوه لعلكم تفلحون} الآية [المائدة: 90]، و(لعل) من الله واجبة، فضمن الفلاح مع اجتنابها، فنظيره الخسران مع مواقعتها وكما أنه تعالى حرم أكل الخنزير، وقليله ككثيره بإجماع، كذلك يجب أن يكون الخمر والميسر من غيرها، فقلتهما ككثرتهما في التحريم، وزاد لذلك بيانا ((ما أسكر كثيره فقليله حرام)).
قال وقال ابن جبير: لما نزل: {قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس} الآية [البقرة: 219] كره الخمر قوم للإثم، وشربها قوم للمنافع حتى نزل: {لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى} الآية [النساء: 43] فتركوها عند الصلاة حتى نزل: {فاجتنبوه لعلكم تفلحون} الآية [المائدة: 90] فحرمت بهذا، فهذا يدل على أن آية البقرة منسوخة بآية المائدة، والمائدة نزلت بعد البقرة بلا شك. وهذا سياق قول مكي بن أبي طالب في كتابه المسمى بـ "الموضح في الناسخ والمنسوخ".
وأقول مستعينا بالله: قوله إنها ناسخة لما كان مباحا من شرب الخمر يلزم منه أن الله عز وجل أنزل إباحتها ثم نسخ ذلك، ومتى أحل الله عز وجل شرب الخمر!، وإنما كان مسكوتا عنهم في شربها، جارون في ذلك على عادتهم ثم نزل التحريم، كما سكت عنهم في غيرها من المحرمات إلى وقت التحريم. وهذه الآية وما ذكر من الآيات الكل في التحريم كما جاء تحريم الميتة في غير آية.
وقوله: إن الله عز وجل أخبرنا أن في الخمر إثما، وأخبرنا أن الإثم محرما إلى قوله: فهي محرمة بالنص الظاهر الذي لا إشكال فيه – كلام لا وجه له؛ لأن الإثم هو الذنب، وإذا كان الذنب كبيرا أو كثيرا في ارتكاب شيء لم يجز ارتكابه، فكيف يسمعون قول الله عز وجل: {قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما} الآية [البقرة: 219] ثم يقدمون عليها مع التصريح بالخسران إذ كان الإثم أكبر من النفع، بل هذا كاف في التحريم.
وقوله: فأخبر أن في شرب الخمر إثما، ونص على أن الإثم محرم بقوله: {والإثم والبغي} الآية [الأعراف: 33] لا حاصل له؛ لأنه إن أراد أن الخمر هي الإثم، فكيف يقول: فنص على أن الإثم محرم، وأخبر أن في شرب الخمر إثما، فكيف تكون هي الإثم المحرم على هذا، وإن أراد بالإثم الذنب لم يحتج إلى شيء آخر، وإنما معنى آية "الأعراف": إنما حرم ربي الفواحش وما فيه الإثم، وكلامه كله فاسد إلى آخره.
وقوله: (لعل) من الله عز وجل واجبة ليس بصحيح، فقد قال عز وجل: {فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى} الآية [طه: 44]، وقد ألانا له القول {فكذب وعصى * ثم أدبر يسعى * فحشر فنادى * فقال أنا ربكم الأعلى} الآية [النازعات: 24] وإنما معنى قوله تعالى: {لعلكم تفلحون} فاجتنبوه راجين الفلاح، أو: فاجتنبوه وانووا إرادة الفلاح.
وأما قول ابن جبير: كره الخمر قوم للإثم، وشربها قوم للمنفعة وأي منفعة تبقى مع أن الإثم أكبر منها، فكيف يقدم مقدم على الانتفاع بشيء فيه وبال أكثر وأكبر من الانتفاع به، وأطرف من هذا قوله: تركوها عند الصلاة.
فاعلم أن الآية محكمة، غير ناسخة ولا منسوخة، وهي مصرحة بتحريم الخمر.
وأما قول الله عز وجل: {تتخذون منه سكرا} الآية [النحل: 67] فإن قلنا: السكر: الطعم، كما قال: جعلت عيب الأكرمين سكرا
فلا كلام، وإن قلنا: إن السكر الخمر، فليس فيه دليل على الإباحة؛ لأنه عز وجل امتن عليهم بما ذكره من ثمرات النخيل والأعناب، ثم قال: تتخذون من المذكور سكرا ورزقا حسنا فنبه بقوله عز وجل: {ورزقا حسنا} الآية [النحل: 67] على أن السكر ليس كذلك، وأشار فيه إلى ذم الخمر إن كان المراد بالسكر الخمر، وإن كان المراد بالسكر: الطعم، فهو سكر ورزق حسن، أي: تتخذون منه طعما تأكلونه رطبا، ورزقا حسنا، يعني التمر والزبيب، وزعموا أن قوله عز وجل: {منافع للناس} الآية [البقرة: 219] منسوخ بنسخ إباحة الخمر، وهذا ما أدري ما يقال فيه.
وقالوا في قوله عز وجل: {قل العفو} الآية [البقرة: 219] هي منسوخة بفرض الزكاة، وحكوا ذلك عن ابن عباس.
والعفو: القليل الذي لا يظهر من المال نقصه.
وقال طاووس: هو اليسير من كل شيء.
وقال الحسن وعطاء: العفو ما لا يكون إسرافا ولا إقتارا.
وقال مجاهد: العفو: الصدقة عن ظهر غنى.
وقال الربيع: العفو: ما طاب من المال، وكذلك قال قتادة، وقال: قوم كانوا قبل فرض الزكاة قد فرض عليهم: من كان له مال أن يمسك لنفسه منه ألف درهم أو قيمة ذلك من الذهب ويتصدق بالباقي، وإن كانوا من أهل الزراعة أمسكوا ما يقيمهم حولا وتصدقوا بما بقي، ومن لم يكن له إلا العمل بيده أمسك ما يقوته يومه وتصدق بما بقي، فشق ذلك عليهم، فأنزل الله عز وجل فرض الزكاة.
قلت: فلتكن آية الزكاة إذن ناسخة لا منسوخة؛ لأنها موافقة لقوله عز وجل: {قل العفو} الآية [البقرة: 219]؛ لأنها نقيض ما كانوا فيه من الجهد واستفراغ الوسع، وهذه حقيقة العفو، كما قالوا: العفو: الأرض السهلة، والآية محكمة، فإن أريد بها الزكاة فذاك، وإن أريد التطوع فذاك.
). [جمال القراء: 1/249-271]

روابط ذات صلة:
- أقوال المفسرين


رد مع اقتباس