عرض مشاركة واحدة
  #7  
قديم 14 رمضان 1438هـ/8-06-2017م, 10:02 AM
جمهرة علوم العقيدة جمهرة علوم العقيدة غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: May 2017
المشاركات: 1,193
افتراضي

بيانِ بعضِ ما يقْتَضِيهِ العِلْمُ بأسماءِ اللهِ الحسنى وصفاتِهِ العُلَى منْ أنواعِ العبوديَّةِ للهِ تعالَى

قال ابن القيم محمد بن أبي بكر الزرعي الدمشقي (ت:751هـ) كما في المرتبع الأسنى: (البابُ السادسَ عشرَ: في بيانِ بعضِ ما يقْتَضِيهِ العِلْمُ بأسماءِ اللهِ الحسنى وصفاتِهِ العُلَى منْ أنواعِ العبوديَّةِ للهِ تعالَى.
(الأسماءُ الحسنى والصِّفَاتُ العُلَى مقتضيَةٌ لآثارِها من العبودِيَّةِ والأمرِ اقتضاءَها لآثارِها من الخلقِ والتكوينِ، فلكلِّ صفةٍ عبوديَّةٌ خاصَّةٌ هيَ منْ مُوجَباتِها ومُقْتَضَيَاتِها - أعْنِي منْ مُوجَباتِ العلمِ بها والتحقُّقِ بمعرفتِها - وهذا مُطَّرِدٌ في جميعِ أنواعِ العبوديَّةِ التي على القلبِ والجوارحِ.
فعلمُ العبدِ بتفرُّدِ الربِّ تعالى بالضرِّ والنفعِ والعطاءِ والمنعِ والخلقِ والرزقِ والإحياءِ والإماتةِ يُثْمِرُ لهُ عبوديَّةَ التوكُّلِ عليهِ باطناً، ولوازمَ التوكُّلِ وثمراتِهِ ظاهراً.
وعلمُهُ بسمْعِهِ تعالى وبصرِهِ وعلمِهِ، وأنَّهُ لا يخْفَى عليهِ مثقالُ ذرَّةٍ في السَّماوَاتِ والأرضِ، وأنَّهُ يعلمُ السرَّ وأَخْفَى، ويعلمُ خائنةَ الأعْيُنِ وما تُخْفِي الصدورُ يُثْمِرُ لهُ حفظَ لسانِهِ وجوارحِهِ وخَطَراتِ قلبِهِ عنْ كلِّ ما لا يُرْضِي اللهَ، وأنْ يجعلَ تَعَلُّقَ هذهِ الأعضاءِ بما يُحِبُّهُ اللهُ ويرضاهُ فيُثمرُ لهُ ذلكَ الحياءُ اجتنابَ المُحَرَّماتِ والقبائحِ.
ومعرفتُهُ بغِناهُ وجُودِهِ وكرمِهِ وبِرِّهِ وإحسانِهِ ورحمتِهِ تُوجِبُ لهُ سَعَةَ الرجاءِ، ويُثمرُ لهُ ذلكَ منْ أنواعِ العبوديَّةِ الظاهرةِ والباطنةِ بحسَبِ معرفتِهِ وعلمِهِ.
وكذلكَ معرفتُهُ بجلالِ اللهِ وعظمتِهِ وعِزَّتِهِ تُثمِرُ لهُ الخضوعَ والاستكانةَ والمحبَّةَ، وتُثمرُ لهُ تلكَ الأحوالُ الباطنةُ أنواعاً من العبوديَّةِ الظاهرةِ هيَ مُوجَباتُها.
وكذلكَ علمُهُ بكمالِهِ وجمالِهِ وصفاتِهِ العُلَى يُوجبُ لهُ محبَّةً خاصَّةً بمنـزلةِ أنواعِ العبوديَّةِ، فرجَعَت العبوديَّةُ كلُّها إلى مُقْتَضَى الأسماءِ والصِّفَاتِ، وارتَبَطَتْ بها ارتباطَ الخلقِ بها.
فخلْقُهُ سُبحانَهُ وأمرُهُ هوَ مُوجَبُ أسمائِهِ وصفاتِهِ في العالمِ وآثارُها ومُقْتَضَاها؛ لأنَّهُ لا يتزَيَّنُ منْ عبادِهِ بطاعَتِهِم، ولا تَشِينهُ معصيتُهم.
وتأمَّلْ قولَهُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ في الحديثِ الصحيحِ الذي يَرْوِيهِ عنْ ربِّهِ تباركَ وتعالى: ((يَا عِبَادِي، إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي))، ذكرَ هذا عَقِبَ قولِـهِ: ((يَا عِبَادِي، إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً؛ فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ)) ([1]). فتضمَّنَ ذلكَ أنَّ ما يفعلُهُ تعالى بهم في غُفرانِ زَلاَّتِهم وإجابةِ دعوَاتِهم وتفريجِ كُرُباتِهم ليسَ لجلبِ منفعةٍ منهم، ولا لدفعِ مضرَّةٍ يتوقَّعُها منهم؛ كما هوَ عادةُ المخلوقِ الذي ينفعُ غيرَهُ لِيُكَافِئَهُ بنفعٍ مثلِهِ، أوْ ليدفعَ عنهُ ضرراً، فالربُّ تعالى لمْ يُحْسِنْ إلى عبادِهِ ليُكافِئُوهُ، ولا ليَدْفَعُوا عنهُ ضرراً، فقالَ: ((لَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي))؛ إنِّي لستُ إذا هدَيْتُ مُستهدِيَكُم، وأطْعَمْتُ مُسْتَطْعِمَكم، وَكَسَوْتُ مُستكسِيَكُم، وأرْوَيْتُ مُستسقِيَكُم، وكَفَيْتُ مُسْتَكْفِيَكُم، وغفَرْتُ لمُسْتَغْفِرِكُم: بالَّذي أطلبُ منكم أنْ تنفعوني، أوْ تدفعوا عنِّي ضرراً، فإنَّكُم لنْ تبْلُغُوا ذلكَ وأنا الغنيُّ الحميدُ؛ كيفَ والخلقُ عاجزونَ عمَّا يقْدِرُونَ عليهِ من الأفعالِ إلاَّ بإقدارِهِ وتيسيرِهِ وخلقِهِ، فكيفَ بما لا يقْدِرُونَ عليهِ، فكيفَ يبْلُغُونَ نفعَ الغنيِّ الصمدِ الذي يمتنعُ في حقِّهِ أنْ يستجْلِبَ منْ غيرِهِ نفعاً أوْ يستدفعَ منهُ ضرراً؟! بلْ ذلكَ مستحيلٌ في حقِّهِ.
ثُمَّ ذكرَ بعدَ هذا قولَهُ: ((يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئاً، وَلَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئاً))؛ فبيَّنَ سُبحانَهُ أنَّ ما أمرَهُم بهِ من الطاعاتِ، وما نهاهُم عنهُ من السيِّئاتِ لا يتضمَّنُ استجلابَ نفعِهِم، ولا استدفاعَ ضرَرِهم؛ كأمرِ السيِّدِ عبدَهُ، والوالدِ ولدَهُ، والإمامِ رعيَّتَهُ، بما ينفعُ الآمِرَ والمأمورَ، ونهْيِهِم عمَّا يضرُّ الناهيَ والمنهيَّ، فبيَّنَ تعالى أنَّهُ المُنَـزَّهُ عنْ لُحُوقِ نفعِهم وضرِّهِم بهِ في إحسانِهِ إليهم بما يفعلُهُ بهم، وبما يأمُرُهُم بهِ.
ولهذا لمَّا ذكرَ الأصليْنِ بعدَ هذا، وأنَّ تقوَاهُم وفجورَهُم الذي هوَ طاعتُهم ومعصيتُهم لا يَزيدُ في مُلْكِهِ شيئاً ولا يَنْقُصُهُ، وأنَّ نِسْبَةَ ما يسألونهُ كلُّهم إيَّاهُ فيُعطيهم إلى ما عندَهُ كلا نِسْبَةٍ، فتضمَّنَ ذلكَ أنَّهُ لمْ يأمُرْهم ولمْ يُحْسِنْ إليهم بإجابةِ الدعواتِ، وغفرانِ الزَّلاَّتِ، وتفريجِ الكُرُباتِ لاستجلابِ منفعةٍ، ولا لاستدفاعِ مضرَّةٍ، وأنَّهُم لوْ أطاعُوهُ كلُّهُم لمْ يزيدُوا في ملكِهِ شيئاً، ولوْ عصَوْهُ كلُّهم لمْ ينْقُصُوا منْ ملكِهِ شيئاً، وأنَّهُ الغنيُّ الحميدُ.
ومَنْ كانَ هكذا فإنَّهُ لا يتزيَّنُ بطاعةِ عبادِهِ، ولا تَشِينُهُ معاصيهم، ولكنْ لهُ من الحِكَمِ البوالغِ في تكليفِ عبادِهِ وأمرِهم ونهْيِهِم ما يقْتَضِيهِ مُلْكُهُ التامُّ، وحمدُهُ وحكمتُهُ، ولوْ لمْ يكُنْ في ذلكَ إلاَّ أنَّهُ يستوجبُ منْ عبادِهِ شكرَ نعَمِهِ التي لا تُحْصَى، بحسَبِ قُوَاهُم وطاقَتِهم، لا بحسَبِ ما ينبغي لهُ؛ فإنَّهُ أعظمُ وأجلُّ منْ أنْ يقْدِرَ خلقُهُ عليهِ، ولكنَّهُ سُبحانَهُ يَرْضَى منْ عبادِهِ بما تَسْمَحُ بهِ طبائِعُهم وقُوَاهُم، فلا شيءَ أحسنُ في العقولِ والفِطَرِ منْ شُكْرِ المُنعِمِ، ولا أنفعُ للعبدِ منهُ.
فهذانِ مسلكانِ... في حسنِ التكليفِ والأمرِ والنهيِ:
- أحدُهما: يتعلَّقُ بذاتِهِ وصفاتِهِ، وأنَّهُ أهلٌ لذلكَ، وأنَّ جمالَهُ تعالى وكمالَهُ وأسماءَهُ وصفاتِهِ تقتضي منْ عبادِهِ غايَةَ الحبِّ والذلِّ والطاعةِ لهُ.
- والثاني: مُتَعَلِّقٌ بإحسانِهِ وإنعامِهِ، ولا سِيَّمَا معَ غناهُ عنْ عبادِهِ، وأنَّهُ إنَّما يُحْسِنُ إليهم رحمةً منهُ وجُوداً وكرماً، لا لمُعَاوَضَةٍ، ولا لاستجلابِ منفعةٍ، ولا لدفعِ مضرَّةٍ، وأيُّ المسلكَيْنِ سلَكَهُ العبدُ أوقَفَهُ على محبَّتِهِ وبذلِ الجهدِ في مرضاتِهِ)([2]) .

[فصلٌ]:
(و... العبدُ إذا فتحَ اللهُ لقلْبِهِ شهودَ أوَّلِيَّتِهِ سُبحانَهُ حيثُ كانَ ولا شيءَ غيرُهُ، وهوَ الإلهُ الحقُّ الكاملُ في أسمائِهِ وصفاتِهِ، الغنيُّ بذاتِهِ عمَّا سِوَاهُ، الحميدُ المجيدُ بذاتِهِ قبلَ أنْ يخلُقَ مَنْ يَحْمَدُهُ ويعبدُهُ ويمجِّدُهُ، فهوَ معبودٌ محمودٌ حيٌّ قيُّومٌ لهُ الملكُ ولهُ الحمدُ في الأزلِ والأبدِ، لمْ يزَلْ ولا يزالُ موصوفاً بصفاتِ الجلالِ، منعوتاً بنعوتِ الكمالِ، وكلُّ شيءٍ سواهُ فإنَّما كانَ بهِ، وهوَ تعالى بنفسِهِ ليسَ بغيرِهِ، فهوَ القيُّومُ الذي قِيَامُ كلِّ شيءٍ بهِ، ولا حاجةَ بهِ في قيُّوميَّتِهِ إلى غيرِهِ بوجهٍ من الوجوهِ.
فإذا شهِدَ العبدُ سَبْقَهُ تعالى بالأوَّلِيَّةِ ودوامِ وُجُودِهِ الحقِّ، وغابَ بهذا عمَّا سِوَاهُ من المُحْدَثَاتِ... [ا]ستغْنَى العبدُ بهذا المشهدِ العظيمِ وَ... تغذَّى بها عنْ فاقَاتِهِ وحاجاتِهِ. فاضْمَحَلَّ ما دُونَ الحقِّ تعالى في شهودِ العبدِ كما هوَ مُضْمَحِلٌّ في نفسِهِ، وشَهِدَ العبدُ حينئذٍ أنَّ كلَّ شيءٍ ما سِوَى اللهِ باطلٌ، وأنَّ الحقَّ المبينَ هوَ اللهُ وحدَهُ ((فهوَ الأوَّلُ الذي ليسَ قبلَهُ شيءٌ. قالَ بعضُهم: ما رَأَيْتُ شيئاً إلاَّ وقدْ رأَيْتُ([3]) اللهَ قبلَهُ.
[فيَـ]شْهَدُ القلبُ سَبْقَهُ للأسبابِ، وأنَّها كانتْ في حيِّزِ العدمِ. وهوَ الذي كسَاها حُلَّةَ الوجودِ، فهيَ معدومةٌ بالذاتِ، فقيرةٌ إليهِ بالذاتِ، وهوَ الموجودُ بذاتِهِ والغنيُّ بذاتِهِ لا بغيرِهِ. فليسَ الغِنَى في الحقيقةِ إلاَّ بهِ، كما أنَّهُ ليسَ في الحقيقةِ إلاَّ لهُ. فالغِنَى بغيرِهِ عينُ الفقرِ؛ فإنَّهُ غنًى بمعدومٍ فقيرٍ. وفقيرٌ كيفَ يستغني بفقيرٍ مثلِهِ؟!)). ([4])
وليسَ هذا مختصًّا بشهودِ أوَّلِيَّتِهِ تعالى فقطْ، بلْ جميعُ ما يبدُو للقلوبِ منْ صفاتِ الربِّ جلَّ جلالُهُ يستغني العبدُ بها بقدْرِ حظِّهِ وقَسْمِهِ منْ معرفتِها وقيامِهِ بعبوديَّتِها.
فمَنْ شهِدَ مشهدَ علوِّ اللهِ على خلقِهِ وفوقيَّتِهِ لعبادِهِ واستوائِهِ على عرشِهِ كما أخبرَ بهِ أعرفُ الخلقِ وأعلمُهم بهِ الصادقُ المصدوقُ، وتعبَّدَ بمُقْتَضَى هذهِ الصفةِ بحيثُ يصيرُ لقلبِهِ صمدٌ يعْرُجُ القلبُ إليهِ مُناجياً لهُ مُطْرِقاً واقفاً بينَ يدَيْهِ وقوفَ العبدِ الذليلِ بينَ يدي الملكِ العزيزِ، فيشعرُ بأنَّ كَلِمَهُ وعمَلَهُ صاعدٌ إليهِ معروضٌ عليهِ معَ أوْفَى خاصَّتِهِ وأوليائِهِ، فيستحي أنْ يصعدَ إليهِ مِنْ كَلِمِهِ ما يُخْزِيهِ ويفضَحُهُ هناكَ.
ويشهدُ نـزولَ الأمرِ والمراسيمِ الإلهيَّةِ إلى أقطارِ العوالمِ كلَّ وقتٍ بأنواعِ التدبيرِ والتصرُّفِ من الإماتةِ والإحياءِ، والتوليَةِ والعزلِ، والخفضِ والرفعِ، والعطاءِ والمنعِ، وكشفِ البلاءِ وإرسالِهِ، وتقَلُّبِ الدُّوَلِ ومداوَلَةِ الأيَّامِ بينَ الناسِ، إلى غيرِ ذلكَ من التصرُّفِ في المملكةِ التي لا يتصرَّفُ فيها سواهُ، فمراسِمُهُ نافذةٌ كما يشاءُ {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5)} [السجدة: 5]، فمَنْ أعطى هذا المشهدَ حقَّهُ معرفةً وعبوديَّةً استغنى بهِ.
وكذلكَ مَنْ شهِدَ مشهدَ العلمِ المحيطِ الذي لا يعزُبُ عنهُ مثقالُ ذرَّةٍ في الأرضِ ولا في السماواتِ، ولا في قرارِ البحارِ، ولا تحتَ أطباقِ الجبالِ، بلْ أحاطَ بذلكَ كُلِّهِ علماً تفصيليًّا، ثُمَّ تعبَّدَ بمُقْتَضَى هذا الشهودِ منْ حواسِّهِ؛ خواطِرِهِ وإرادَتِهِ وجميعِ أحوالِهِ وعزَماتِهِ وجوارحِهِ عَلِمَ بأنَّ حركاتِهِ الظاهرةَ والباطنةَ، وخواطِرَهُ وإرادَتَهُ، وجميعَ أحوالِهِ ظاهرةٌ مكشوفةٌ لدَيْهِ , علانيَةٌ لهُ , باديَةٌ لا يخفى عليهِ منها شيءٌ.
وكذلكَ إذا أشعرَ القلبُ صفةَ سمعِهِ تباركَ وتعالى لأصواتِ عبادِهِ على اختلافِها وجهرِها وخفائِها، وسواءٌ عندَهُ مَنْ أسَرَّ القولَ ومَنْ جهرَ بهِ، لا يشْغَلُهُ جهرُ مَنْ جهرَ عنْ سمعِهِ لصوتِ مَنْ أسرَّ، ولا يشغَلُهُ سمعٌ عنْ سمعٍ، ولا تُغْلِطُهُ الأصواتُ على كثرَتِها واختلافِها واجتماعِها، بلْ هيَ عندَهُ كلُّها كصوتٍ واحدٍ، كما أنَّ خلقَ الخلقِ جميعِهم وبعْثَهُم عندَهُ بمنـزلةِ نفسٍ واحدةٍ.
وكذلكَ إذا شَهِدَ معنى اسمِهِ البصيرِ جلَّ جلالُهُ الذي يرى دبيبَ النملةِ السوداءِ على الصخرةِ الصمَّاءِ في حِنْدِسِ الظلماءِ، ويرى تفاصيلَ خلقِ الذرَّةِ الصغيرةِ ومُخَّها وعُروقَها ولحمَها وحركتَها، ويرى مدَّ البعوضةِ جناحَها في ظلمةِ الليلِ، وأعطى هذا المشهدَ حقَّهُ من العبوديَّةِ بحَرْسِ حركاتِها وسَكَنَاتِها، وتيَقَّنَ أنَّها بمرْأَى منهُ تباركَ وتعالى ومشاهدةٍ لا يغيبُ عنهُ منها شيءٌ.
وكذلكَ إذا شهِدَ مشهدَ القيُّوميَّةِ الجامعَ لصفاتِ الأفعالِ وأنَّهُ قائمٌ على كلِّ شيءٍ , وقائمٌ على كلِّ نفسٍ بما كسبَتْ، وأنَّهُ تعالى هوَ القائمُ بنفسِهِ المُقِيمُ لغيْرِهِ، القائمُ علَيْهِ بتدبيرِهِ وربوبيَّتِهِ وقهرِهِ وإيصالِ جزاءِ المحسِنِ إليهِ وجزاءِ المُسِيءِ إليهِ، وأنَّهُ بكمالِ قيُّوميَّتِهِ لا ينامُ ولا ينبغي لهُ أنْ ينامَ، يَخْفِضُ القسطَ ويرفعُهُ، يُرْفَعُ إليهِ عملُ الليلِ قبلَ النهارِ، وعملُ النهارِ قبلَ الليلِ، لا تأخذُهُ سِنَةٌ ولا نومٌ، ولا يَضِلُّ ولا ينْسَى.
وهذا المشهدُ منْ أرفعِ مشاهدِ العارفينَ، وهوَ مشهدُ الربوبيَّةِ، وأعلى منهُ مشهدُ الإلهيَّةِ الذي هوَ مشهدُ الرسلِ وأتباعِهم الحُنَفاءِ، وهوَ شهادةُ أنْ لا إلهَ إلاَّ هوَ، وأنَّ إلهيَّةَ ما سِوَاهُ باطلٌ ومُحالٌ، كما أنَّ ربوبيَّةَ ما سواهُ كذلكَ، فلا أحدَ سواهُ يَسْتَحِقُّ أنْ يُؤَلَّهَ ويُعْبَدَ، ويُصَلَّى لهُ ويُسْجَدَ، ويَسْتَحِقُّ نهايَةَ الحبِّ معَ نهايَةِ الذلِّ لكمالِ أسمائِهِ وصفاتِهِ وأفعالِهِ، فهوَ المطاعُ وحدَهُ على الحقيقةِ، والمألوهُ وحدَهُ، ولهُ الحُكْمُ وحدَهُ.
فكلُّ عبوديَّةٍ لغيرِهِ باطلةٌ وعَناءٌ وضلالٌ، وكلُّ محبَّةٍ لغيرِهِ عذابٌ لصاحبِها، وكلُّ غنًى لغيرِهِ فقرٌ وفاقةٌ، وكلُّ عِزٍّ بغيرِهِ ذلٌّ وصَغارٌ، وكلُّ تكثُّرٍ بغيرِهِ قلَّةٌ وذلَّةٌ، فكما استحالَ أنْ يكونَ للخلقِ ربٌّ غيرُهُ، فكذلكَ استحالَ أنْ يكونَ لهم إلهٌ غيرُهُ، فهوَ الذي انتهتْ إليهِ الرَّغَبَاتُ، وتوجَّهَتْ نحوَهُ الطَّلَبَاتُ، ويستحيلُ أنْ يكونَ معهُ إلهٌ آخرُ؛ فإنَّ الإلهَ على الحقيقةِ هوَ الغنيُّ الصمدُ الكاملُ في أسمائِهِ وصفاتِهِ، الذي حاجةُ كلِّ أحدٍ إليهِ ولا حاجةَ بهِ إلى أحدٍ، وقيامُ كلِّ شيءٍ بهِ وليسَ قيامُهُ بغَيْرِهِ، ومن المُحالِ أنْ يحْصُلَ في الوجودِ اثنانِ كذلكَ، ولوْ كانَ في الوجودِ إلهَانِ لفسدَ نظامُهُ أعظمَ فسادٍ، واخْتَلَّ أعظمَ اختلالٍ، كما أنَّهُ يستحيلُ أنْ يكونَ لهُ فاعلانِ متساويانِ، كلٌّ منهما مُسْتَقِلٌّ بالفعلِ؛ فإنَّ استقلالَهُما يُنافي استقلالَهما، واستقلالَ أحدِهما يمنعُ ربوبيَّةَ الآخرِ. فتوحيدُ الربوبيَّةِ أعظمُ دليلٍ على توحيدِ الإلهيَّةِ؛ ولذلكَ وقعَ الاحتجاجُ بهِ في القرآنِ أكثرَ ممَّا وقعَ بغيرِهِ؛ لصِحَّةِ دلالَتِهِ وظهورِها وقبولِ العقولِ والفِطَرِ لها، ولاعترافِ أهلِ الأرضِ بتوحيدِ الربوبيَّةِ، وكذلكَ كانَ عُبَّادُ الأصنامِ يُقِرُّونَ بهِ، ويُنكرونَ توحيدَ الإلهيَّةِ ويقولونَ: {أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص: 5] معَ اعترافِهم بأنَّ اللهَ وحدَهُ هوَ الخالقُ لهم وللسماواتِ والأرضِ وما بينَهُما، وأنَّهُ المنفردُ بملكِ ذلكَ كُلِّهِ، فأرسلَ اللهُ تعالى الرسلَ يُذَكِّرُ بما في فِطَرِهم الإقرارُ بهِ منْ توحيدِهِ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، وأنَّهُم لوْ رجَعُوا إلى فِطَرِهِم وعقولِهم لدَلَّتْهُم على امتناعِ إلهٍ آخرَ معهُ واستحالَتِهِ وبُطْلانِهِ.
فمشهدُ الألوهيَّةِ هوَ مشهدُ الحُنَفَاءِ، وهوَ مشهدٌ جامعٌ للأسماءِ والصِّفَاتِ، ولذلكَ كانَ الاسمُ الدالُّ على هذا المعنى هوَ اسمَ الله جلَّ جلالُهُ؛ فإنَّ هذا الاسمَ هوَ الجامعُ، ولهذا تُضافُ الأسماءُ الحسنى كلُّها إليهِ فيُقالُ: الرحمنُ الرحيمُ العزيزُ الغفَّارُ القهَّارُ منْ أسماءِ اللهِ، ولا يُقَالُ: اللهُ منْ أسماءِ الرحمنِ.
قالَ اللهُ تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الأعراف: 180]، فهذا المشهدُ تجتمعُ فيهِ المشاهدُ كلُّها، وكلُّ مشهدٍ سواهُ فإنَّما هوَ مشهدٌ لصفةٍ منْ صفاتِهِ، فمَن اتَّسعَ قلبُهُ لمشهدِ الإلهيَّةِ وقامَ بحقِّهِ من التعَبُّدِ الذي هوَ كمالُ الحبِّ بكمالِ الذلِّ والتعظيمِ، والقيامُ بوظائفِ العبوديَّةِ، فقدْ تمَّ لهُ غناهُ بالإلهِ الحقِّ، وصارَ مِنْ أغنى العبادِ، ولسانُ حالِ مِثْلِ هذا يقولُ:

غَنِيتُ بلا مالٍ عن الناسِ كلِّهِم وإنَّ الغِنَى العالِي عن الشيءِ لا بِهِ

فيا لَهُ منْ غنًى ما أعظمَ خطرَهُ وأجلَّ قَدْرَهُ، تضاءَلَتْ دُونَهُ الممَالِكُ فما دُونَها، فصارتْ بالنسبةِ إليهِ كالظلِّ من الحاملِ لهُ، والطَّيْفِ المُوافِي في المنامِ الذي يأتي بهِ حديثُ النفسِ ويطْرُدُهُ الانتباهُ من النومِ) ([5]).

[فصلٌ]:
(فشهودُ [العبدِ] توحيدَ الربِّ تعالى وانفرادَهُ بالخلقِ ونفوذَ مشيئَتِهِ وجَرَيانَ قضائِهِ وقَدَرِهِ يفتحُ لهُ بابَ الاستعاذةِ ودوامِ الالتجاءِ إليهِ والافتقارِ إليهِ، وذلكَ يُدْنِيهِ منْ عَتَبةِ العبوديَّةِ ويطرَحُهُ بالبابِ فقيراً عاجزاً مسكيناً لا يملكُ لنفْسِهِ ضرًّا ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً.
وشهودُهُ أمرَهُ تعالى، ونهْيَهُ، وثوابَهُ، وعقابَهُ، يُوجِبُ لهُ الجِدَّ والتَّشْمِيرَ، وبذلَ الوُسْعِ، والقيامَ بالأمرِ، والرجوعَ على نفْسِهِ باللَّوْمِ، والاعترافَ بالتقصيرِ.
فيكونُ سيْرُهُ بينَ شهودِ العِزَّةِ والحكمةِ والقدرةِ الكاملةِ والعلمِ السابقِ وبينَ شهودِهِ التقصيرَ والإساءةَ منهُ وتطلُّبَ عيوبِ نفسِهِ وأعمالِها.
فهذا هوَ العبدُ الموَفَّقُ المُعانُ الملطوفُ بهِ المصنوعُ لهُ الذي أُقيمَ في مُقَامِ العبوديَّةِ، وضُمِنَ لهُ التوفيقُ.
وهذا هوَ مشهدُ الرسلِ صلواتُ اللهِ وسلامُهُ عليهم فهوَ مشهدُ أبيهِم آدمَ إذْ يقولُ: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)} [الأعراف: 23]، ومشهدُ أوَّلِ الرسلِ نوحٍ إذْ يقولُ: {رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47)} [هود: 47]، ومشهدُ إمامِ الحُنَفَاءِ وشيخِ الأنبياءِ إبراهيمَ صلواتُ اللهِ وسلامُهُ عليهم أجمعينَ إذْ يقولُ: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83)} [الشعراء: 78-83] وقالَ في دُعائِهِ: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35)} [إبراهيم: 35]، فعَلِمَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أنَّ الذي يحولُ بينَ العبدِ وبينَ الشركِ وعبادةِ الأصنامِ هوَ اللهُ لا ربَّ غيرُهُ، فسأَلَهُ أنْ يُجَنِّبَهُ وبَنِيهِ عبادةَ الأصنامِ.
وهذا هوَ مشهدُ موسى إذْ يقولُ في خطابِهِ لربِّهِ: {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155)} [الأعراف: 155]؛ أيْ: إنْ ذلكَ إلاَّ امتحانُكَ واختبارُكَ، كما يُقَالُ: فَتَنْتُ الذهبَ إذا امتحَنْتَهُ واختبَرْتَهُ، وليسَ من الفتنةِ التي هيَ الفعلُ المسيءُ كما في قولِهِ تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [البروج: 10] وكما في قولِهِ تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: 193]، فإنَّ تلكَ فتنةُ المخلوقِ؛ فإنَّ موسى أعلمُ باللهِ تعالى أنْ يُضِيفَ إليهِ هذهِ الفتنةَ، وإنَّما هيَ كالفتنةِ في قولِهِ: {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} [طه: 40]؛ أي: ابتليْنَاكَ واختبرْنَاكَ وصرَّفْنَاكَ في الأحوالِ التي قَصَّها اللهُ سُبحانَهُ علينا منْ لَدُنْ ولادَتِهِ إلى وقتِ خطابِهِ لهُ وإنـزالِهِ عليهِ كتابَهُ.
والمقصودُ أنَّ موسى صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ شهدَ توحيدَ الربِّ وانفرادَهُ بالخلقِ والحكمِ، وفعلَ السفهاءِ ومُباشرَتَهُم الشركَ، فتضرَّعَ إليهِ بعِزَّتِهِ وسُلطانِهِ وأضافَ الذنبَ إلى فاعلِهِ وجانِيهِ، ومِنْ هذا قولُهُ: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} [القصص: 16]، قالَ تعالى: {فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16)} [القصص: 16].
وهذا مشهدُ ذِي النُّونِ إذْ يقولُ: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)} [الأنبياء: 87]، فوحَّدَ رَبَّهُ تعالى ونـزَّهَهُ عنْ كلِّ عيبٍ وأضافَ الظلمَ إلى نفسِهِ.
وهذا مشهدُ صاحبِ سَيِّدِ الاستغفارِ إذْ يقولُ في دُعائِهِ: ((اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ بِذَنْبِي، فَاغْفِرْ لِي؛ إِنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلاَّ أَنْتَ)) ([6])، فأقرَّ بتوحيدِ الربوبيَّةِ المتضمِّنِ لانفرادِهِ سُبحانَهُ بالخلقِ وعمومِ المشيئةِ ونفوذِها، وتوحيدِ الإلهيَّةِ المتضمِّنِ لمحبَّتِهِ وعبادتِهِ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، والاعترافِ بالعبوديَّةِ المُتضمِّنِ للافتقارِ منْ جميعِ الوجوهِ إليهِ سُبحانَهُ. ثُمَّ قالَ: ((وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ))، فتضمَّنَ ذلكَ التزامَ شرعِهِ وأمْرِهِ ودينِهِ، وهوَ عهدُهُ الذي عَهِدَ إلى عبادِهِ، وتصديقُ وعْدِهِ وهوَ جزَاؤُهُ وثوَابُهُ، فتضمَّنَ التزامَ الأمرِ والتصديقَ بالموعودِ وهوَ الإيمانُ والاحتسابُ، ثُمَّ لمَّا علِمَ أنَّ العبدَ لا يُوَفِّي هذا المقامَ حقَّهُ الذي يصلحُ لهُ تعالى علَّقَ ذلكَ باستطاعَتِهِ وقدرتِهِ التي لا يتعدَّاها، فقالَ: ((مَا اسْتَطَعْتُ))؛ أيْ: ألتزمُ ذلكَ بحَسَبِ استطاعَتِي وقدرَتِي.
ثُمَّ شَهِدَ المشهدَيْنِ المذكورَيْنِ وهما مشهدُ القدرةِ والقوَّةِ، ومشهدُ التقصيرِ منْ نفسِهِ؛ فقالَ: ((أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ)) فهذهِ الكلمةُ تضمَّنَت المشهدَيْنِ معاً، ثُمَّ أضافَ النِّعمَ كلَّها إلى وليِّها وأهلِها والمبتدئِ بها، والذنبَ إلى نفسِهِ وعملِهِ، فقالَ: ((أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ وَأَبُوءُ بِذَنْبِي))، فأنتَ المحمودُ والمشكورُ الذي لهُ الثناءُ كلُّهُ والإحسانُ كلُّهُ، ومنهُ النعمُ كلُّها، فلكَ الحمدُ كلُّهُ ولكَ الثناءُ كلُّهُ ولكَ الفضلُ كلُّهُ، وأنا المذنبُ المسيءُ المعترفُ بذنْبِهِ المقرُّ بخطَئِهِ، كما قالَ بعضُ العارفينَ: العارفُ يسيرُ بينَ مُشاهدةِ المِنَّةِ من اللهِ، ومُطالعةِ عيبِ النفسِ والعملِ:
- فشهودُ المِنَّةِ يُوجبُ لهُ المحبَّةَ لربِّهِ سُبحانَهُ وحمدَهُ والثناءَ عليهِ.
- ومُطالعةُ عيبِ النفسِ والعملِ يُوجبُ استغفارَهُ ودوامَ توبَتِهِ وتضرُّعَهُ واستكانَتَهُ لربِّهِ سُبحانَهُ.
ثُمَّ لمَّا قامَ هذا بقلبِ الداعي وتوسَّلَ إليهِ بهذهِ الوسائلِ قالَ: ((فَاغْفِرْ لِي؛ فَإِنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ)) ) ([7]).

[فصلٌ]:
وجماعُ الأمرِ في ذلكَ إنَّما هوَ بتكميلِ عُبُوديَّتِهِ للهِ عزَّ وجلَّ في الظاهرِ والباطنِ، فتكونُ حركاتُ نفسِهِ وجسمِهِ كلُّها في محبوباتِ اللهِ، فكمالُ عبوديَّةِ العبدِ مُوَافَقَتُهُ لربِّهِ في محبَّتِهِ ما أحبَّهُ وبذْلُ الجهدِ في فعلِهِ، ومُوافقَتُهُ في كراهةِ ما كَرِهَهُ وبذْلُ الجهدِ في ترْكِهِ، وهذا إنَّما يكونُ للنفسِ المطمئنَّةِ لا للأمَّارةِ ولا للَّوَّامةِ، فهذا كمالٌ منْ جهةِ الإرادةِ والعملِ. وأمَّا منْ جهةِ العلمِ والمعرفةِ: فأنْ تكونَ بصيرَتُهُ مُنْفَتِحَةً في معرفةِ الأسماءِ والصِّفَاتِ والأفعالِ، لهُ شهودٌ خاصٌّ فيها مُطَابِقٌ لما جاءَ بهِ الرسولُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ لا مخالفٌ لهُ، فإنَّهُ بحسَبِ مخالفتِهِ لهُ في ذلكَ يقعُ الانحرافُ ويكونُ معَ ذلكَ قائماً بأحكامِ العبوديَّةِ الخاصَّةِ التي تقتضِيها كلُّ صفةٍ بخُصوصِها.
وهذا سلوكُ الأكياسِ الذينَ همْ خُلاصةُ العالمِ، والسالكونَ على هذا الدَّرْبِ أفرادٌ من العالمِ، طَرِيقٌ سهلٌ قريبٌ مُوصِلٌ، طريقٌ آمِنٌ، أكثرُ السالكينَ في غفلةٍ عنهُ.
لكنْ يستدعي رسوخاً في العلمِ ومعرفةً تامَّةً بهِ، وإقداماً على ردِّ الباطلِ المخالفِ لهُ ولوْ قالَهُ مَنْ قالَهُ. وليسَ عندَ أكثرِ الناسِ سِوَى رُسُومٍ تلَقَّوْهَا عنْ قومٍ مُعَظَّمِينَ عندَهُم، ثُمَّ لإحسانِ ظنِّهِم بهم قدْ وقَفُوا عندَ أقوالِهم ولمْ يتجاوَزُوها إلى غيرِها، فصارَتْ حِجَاباً لهم , وأيُّ حجابٍ.
فمَنْ فتحَ اللهُ بصيرةَ قلبِهِ وإيمانِهِ حتَّى خرَقَها وجاوَزَها إلى مُقتضى الوحيِ والفطرةِ والعقلِ فقدْ أُوتِيَ خيراً كثيراً، ولا يُخَافُ عليهِ إلاَّ منْ ضعفِ همَّتِهِ، فإذا انْضَافَ إلى ذلكَ الفتحِ هِمَّةٌ عاليَةٌ فذاكَ السابقُ حقًّا، واحدُ الناسِ بزمانِهِ، لا يُلْحَقُ شَأْوُهُ ولا يُشَقُّ غُبَارُهُ.
فشتَّانَ ما بينَ مَنْ يتلقَّى أحوالَهُ ووارِدَاتِهِ عن الأسماءِ والصِّفَاتِ، وبينَ مَنْ يتلقَّاها عن الأوضاعِ الاصطلاحِيَّةِ والرسومِ أوْ عنْ مجرَّدِ ذَوْقِهِ ووَجْدِهِ، إذا استحسنَ شيئاً قالَ: هذا هوَ الحقُّ.
فالسيرُ إلى اللهِ منْ طريقِ الأسماءِ والصِّفَاتِ شأنُهُ عَجَبٌ، وفتْحُهُ عجبٌ، صاحِبُهُ قدْ سبَقَتْ لهُ السعادةُ وهوَ مُسْتَلْقٍ على فراشِهِ غيرُ تَعِبٍ ولا مكدودٍ ولا مُشَتَّتٍ عنْ وطنِهِ ولا مشرَّدٍ عنْ سكنِهِ {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النمل: 88].
وليسَ العجبُ منْ سائرٍ في ليلِهِ ونهارِهِ وهوَ في الثرى لمْ يَبْرَحْ منْ مكانِهِ، وإنَّما العجبُ منْ ساكنٍ لا يُرَى عليهِ أثرُ السفرِ وقدْ قطعَ المراحلَ والمفاوزَ.
- فسائرٌ قدْ ركِبَتْهُ نفسُهُ فهوَ حامِلُها سائرٌ بها مَلْبُوكٌ، يُعاقبُها وتُعَاقِبُهُ، ويَجُرُّها وتهرُبُ منهُ، ويخطُو بها خطوةً إلى أمامِهِ فتجذِبُهُ خطوتَيْنِ إلى ورائِهِ، فهوَ معَها في جَهدٍ وهيَ معهُ كذلكَ.
- وسائرٌ قدْ رَكِبَ نفسَهُ وملكَ عِنانَها فهوَ يسُوقُها كيفَ شاءَ وأينَ شاءَ لا تلْتَوِي عليهِ ولا تنجذبُ ولا تهرُبُ منهُ، بلْ هيَ معهُ كالأسيرِ الضعيفِ في يدِ مالكِهِ وآسرِهِ، وكالدابَّةِ الرِّيضةِ المُنْقَادةِ في يدِ سائِسِها وراكِبِها، فهيَ منقادةٌ معهُ حيثُ قادَها، فإذا رامَ التقدُّمَ جَمَزَتْ بهِ وأسْرَعَتْ، فإذا أرْسَلَهَا سَارَتْ بهِ وجَرَتْ في الحَلْبةِ إلى الغايَةِ , ولا يرُدُّها شيءٌ.
فتسيرُ بهِ وهوَ ساكنٌ على ظهرِها، ليسَ كالذي نـزلَ عنها فهوَ يجرُّها بلِجامِهِ، ويَشْحَطُها ولا تنشَحِطُ، فشتَّانَ ما بينَ المسافرَيْنِ. فتأمَّلْ هذا المَثَلَ؛ فإنَّهُ مطابقٌ لحالِ السائِرَيْنِ … واللهُ يختصُّ برحمَتِهِ مَنْ يشاءُ) ([8]).

[فصلٌ]:
(وها هنا سِرٌّ بديعٌ وهوَ: أنَّ مَنْ تعلَّقَ بصفةٍ منْ صفاتِ الربِّ تعالى أدْخَلَتْهُ تلكَ الصفةُ عليهِ وأوصَلَتْهُ إليهِ...
والربُّ تعالى يحبُّ أسماءَهُ وصفاتِهِ، ويحبُّ مُقتضى صفاتِهِ وظهورَ آثارِها في العبدِ؛ فإنَّهُ جميلٌ يحبُّ الجمالَ،... كريمٌ يحبُّ أهلَ الكرمِ، عليمٌ يحبُّ أهلَ العلمِ، وِتْرٌ يحبُّ أهلَ الوترِ، قويٌّ والمؤمنُ القويُّ أحبُّ إليهِ من المؤمنِ الضعيفِ، صبورٌ يحبُّ الصابرينَ، شكورٌ يحبُّ الشاكرينَ) ([9]).
(وهوَ سُبحانَهُ وتعالى رحيمٌ يحبُّ الرحماءَ، وإنَّما يرحمُ منْ عبادِهِ الرحماءَ، وهوَ سِتِّيرٌ يحبُّ منْ يسْتُرُ على عبادِهِ، وعَفُوٌّ يحبُّ مَنْ يعْفُو عنهم، وغفورٌ يحبُّ مَنْ يغفرُ لهم، ولطيفٌ يحبُّ اللطيفَ منْ عبادِهِ، ويَبْغَضُ الفظَّ الغليظَ القاسيَ الجَعْظَرِيَّ الجَوَّاظَ، ورفيقٌ يحبُّ الرفقَ، وحليمٌ يحبُّ الحِلْمَ، وبَرٌّ يحبُّ البِرَّ وأهلَهُ، وعَدْلٌ يحبُّ العَدْلَ، وقابلُ المعاذيرِ يحبُّ مَنْ يقبلُ معاذِيرَ عبادِهِ([10])
ويُجَازِي عبدَهُ بحسَبِ هذهِ الصِّفَاتِ فيهِ وُجُوداً وعدماً، فمَنْ عَفَا عَفَا عنهُ، ومَنْ غفرَ غفرَ لهُ، ومَنْ سامحَ سامَحَهُ، ومَنْ حَاقَقَ حَاقَقَهُ، ومَنْ رَفَقَ بعبادِهِ رَفَقَ بهِ، ومَنْ رَحِمَ خلْقَهُ رَحِمَهُ، ومَنْ أحسنَ إليهم أحسنَ إليهِ، ومَنْ جادَ عليهم جَادَ عليهِ، ومَنْ نفعَهُم نفَعَهُ، ومَنْ ستَرَهُم ستَرَهُ، ومَنْ صفَحَ عنهم صفَحَ عنهُ، ومَنْ تتَبَّعَ عَوْرَتَهُم تتَبَّعَ عورَتَهُ، ومَنْ هتَكَهُم هتَكَهُ وفضَحَهُ، ومَنْ منَعَهُم خيْرَهُ منَعَهُ خيْرَهُ، ومَنْ شاقَّ شاقَّ اللهُ تعالى بهِ، ومَنْ مكرَ مكرَ بهِ، ومَنْ خادعَ خادَعَهُ، ومَنْ عاملَ خلْقَهُ بصفةٍ عامَلَهُ اللهُ تعالى بتلكَ الصفةِ بعينِها في الدنيا والآخرةِ.
فاللهُ تعالى لعبدِهِ على حسَبِ ما يكونُ العبدُ لخلقِهِ، ولهذا جاءَ في الحديثِ: ((مَنْ سَتَرَ مُسْلِماً سَتَرَهُ اللهُ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَمَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، [و] مَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللهُ تَعَالَى حِسَابَهُ)) ([11]). وَ((مَنْ أَقَالَ نَادِماً أَقَالَ اللهُ تَعَالَى عَثْرَتَهُ)) ([12])، وَ ((مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِراً أَوْ وَضَعَ عَنْهُ أَظَلَّهُ اللهُ تَعَالَى فِي ظِلِّ عَرْشِهِ)) ([13])؛ لأنَّهُ لمَّا جعَلَهُ في ظلِّ الإنظارِ والصبرِ، ونجَّاهُ منْ حرِّ المُطالبةِ، وحرارةِ تكلُّفِ الأداءِ معَ عُسْرَتِهِ وعجزِهِ، نَجَّاهُ اللهُ تعالى منْ حرِّ الشمسِ يومَ القيامةِ إلى ظلِّ العرشِ.
وكذلكَ الحديثُ الذي في الترمذيِّ وغيرِهِ، عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أنَّهُ قالَ في خُطبتِهِ يوماً: ((يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلِ الإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ، لا تُؤْذُوا الْمُسْلِمِينَ، وَلا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ؛ فَإِنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ تَتَبَّعَ اللهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ تَتَبَّعَ اللهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ بَيْتِهِ)) ([14]).
فكما تَدِينُ تُدَانُ، وكنْ كيفَ شئتَ؛ فإنَّ اللهَ تعالى لكَ كما تكونُ أنتَ لهُ ولعبادِهِ.
ولمَّا أظهرَ المنافقونَ الإسلامَ وأسرُّوا الكفرَ أظهرَ اللهُ تعالى لهم يومَ القيامةِ نوراً على الصراطِ، وأظهرَ لهم أنَّهُم يَجُوزُونَ الصراطَ، وأسَرَّ لهم أنْ يُطْفِئَ نُورَهُم وأنْ يُحَالَ بينَهم وبينَ الصراطِ منْ جِنْسِ أعمالِهم.
وكذلكَ مَنْ يُظْهِرُ للخلقِ خلافَ ما يعلَمُهُ اللهُ فيهِ؛ فإنَّ اللهَ تعالى يُظْهِرُ لهُ في الدنيا والآخرةِ أسبابَ الفلاحِ والنجاحِ والفوزِ، ويُبْطِنُ لهُ خلافَها.
وفي الحديثِ: ((مَنْ رَاءَى رَاءَى اللهُ بِهِ، وَمَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللهُ بِهِ)) ([15]) ([16]) *
).[المرتبع الأسنى: ؟؟]


([1]) رَوَاهُ مُسْلِمٌ في كتابِ البرِّ والصلةِ والآدابِ / بابُ تحريمِ الظلمِ، من حديثِ أبي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْه.
([2]) مِفْتاحُ دارِ السعادةِ (2/510-513).
([3]) (رَأَى) هنا هي (رأى) العِلْمِيَّةُ المُتعدِّيَةُ إلى مفعولَينِ، قال الشاعِرُ:
رَأَيْتُ اللهَ أَكْبَرَ كُلِّ شَيْءٍ = مُحاوَلَةً وَأَكْثَرَهُمْ جُنودَا
([4]) مَدارِجُ السَّالكِينَ (2/422).
([5]) طَرِيقُ الهِجرتَيَنِ (42-45).
([6]) رَوَاهُ الإمامُ أَحْمَدُ (16662)، والبُخَارِيُّ في كتابِ الدَّعوَاتِ / بابُ أفضلِ الاستغفارِ (6306)، والتِّرْمِذِيُّ في كتابِ الدَّعَواتِ / بابُ (15)، الحديثُ رقْمُ (3393)، والنَّسَائِيُّ في كتابِ الاستعاذةِ من شرِّ ما صَنَعَ (553) من حديثِ شدادِ بنِ أَوسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْه.
([7]) طَرِيقُ الهِجرتَيَنِ (169-171).
([8]) طَرِيقُ الهِجرتَيَنِ (220-222).
([9]) عِدَّةُ الصابرينَ (56).
وقال -رَحِمَهُ اللهُ- في كتابِهِ الدَّاءِ والدَّواءِ (129-130): (فالغَيورُ قَد وَافَقَ رَبَّهُ سُبْحانَهُ في صِفةٍ مِن صِفاتِهِ، ومَنْ وَافَقَ اللهَ في صفةٍ من صفاتِه قادَتْهُ تلكَ الصفةُ إِلَيْهِ بزِمامِهَا، وأَدْخَلَتْهُ على ربِّه، وأَدْنَتْهُ منه، وقَرَّبَتْهُ مِنْ رَحمتِهِ، وصَيَّرَتْهُ مَحبوبًا له، فإنه سُبحانَهُ رحيمٌ يُحِبُّ الرُّحماءَ، كَرِيمٌ يُحِبُّ الكُرماءَ، عَلِيمٌ يُحِبُّ العُلماءَ، قَوِيٌّ يُحِبُّ المؤمنَ القويَّ، وهو أَحَبُّ إليه من المؤمنِ الضَّعِيفِ، حَيِيٌّ يُحِبُّ أَهْلَ الحَياءِ، جَمِيلٌ يُحِبُّ أَهْلَ الجَمالِ، وِتْرٌ يُحِبُّ أَهْلَ الوِتْرِ).
([10]) وقالَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعالَى- في كتابِهِ عدةِ الصابرينَ (56): (وإذا كانَ سُبحانَهُ يُحِبُّ المُتَّصِفينَ بآثارِ صِفاتِهِ فهُو مَعَهُم بحَسَبِ نَصيبِهِم من هذا الاتصافِ، فهذه المَعِيَّةُ الخاصَّةُ عبَّرَ عنها بقولِهِ: (كُنتُ لَهُ سَمْعًا وبَصَرًا ويَدًا ومُؤَيِّدًا).
([11]) جزءٌ من حديثٍ رَوَاهُ الإمامُ أَحْمَدُ (7379)، ومسلمٌ في كتابِ الذكرِ والدعاءِ / بابُ فضـلِ الاجتماعِ على تلاوةِ القـرآنِ (6793)، وابْنُ مَاجَهْ في المُقدِّمةِ / بابُ فضلِ العلماءِ والحثِّ على الطَّلَبِ (225) مِن حديثِ الأعمشِ، عن أبي صالحٍ، عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْه، إلا أن تَرْتِيبَ الخِلالِ مُخْتَلِفٌ.
([12]) رواه أبو داودَ في كتابِ البُيوعِ / بابٌ في فضلِ الإقالةِ (3456)، وابْنُ مَاجَهْ في كتابِ التِّجاراتِ / بابُ الإقالةِ (2199) بلفظٍ مُقارِبٍ.
قال البُوصِيرِيُّ: هذا إسنادٌ صحيحٌ على شرطِ مُسلمٍ.
([13]) رَوَاهُ الإمامُ أَحْمَدُ (8494)، والتِّرْمِذِيُّ في كتابِ البُيوعِ/ بابُ ما جاءَ في إنظارِ المُعسِرِ والرِّفْقِ به (1306) من حديثِ أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْه.
وهو عند مُسلمٍ من حديثِ أبي اليَسَرِ رَضِيَ اللهُ عَنْه من دُونِ ذِكرِ العَـرشِ، كتابُ الزهـدِ / بابُ حديثِ جَـابرٍ الطويلِ (7437).
([14]) رَوَاهُ الإمامُ أَحْمَدُ (19277)، والتِّرْمِذِيُّ في كتابِ البرِّ والصلةِ / بابُ ما جاءَ في تعظيمِ المؤمنِ (2032)، وأبو داودَ في كتابِ الأدبِ /بابٌ في الغِيبَةِ (4870) من حديثِ أبي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْه.
([15]) رواه مسلمٌ كتابُ الزهدِ / بابُ مَنْ أَشْرَكَ في عَمَلِهِ غَيْرَ اللهِ (7401) من حديثِ ابنِ عباسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهما.
([16]) الوابلُ الصَّيِّبُ (68-69).
* مُلحَقٌ: وقالَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعالَى- في مَدارجِ السالكينَ (2/64ـ66): (فصلٌ: ومِن منازلِ (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ: مَنْزِلَةُ المُرَاقَبَةِ) قال تعالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكِمْ فَاحْذَرُوهُ} وقالَ تعالَى: {وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا} وقال تعالَى {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ} وقالَ تعالَى: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرَى} وقال تعالَى: {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} وقال تعالَى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدورِ}، إلى غيرِ ذلك من الآياتِ وفي حديثِ جِبرِيلَ عليه السلامُ: أنه سألَ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ عن الإحسانِ؟ فقال له: ((أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ)).
المراقبةُ دَوامُ عِلمِ العَبْدِ، وتَيَقُّنُهُ باطلاعِ الحقِّ سُبحانَهُ وتَعالَى على ظَاهِرِه وباطِنه، فَاسْتِدَامَتُهُ لهذا العلمِ واليَقِينِ: هي (المُراقَبَةُ) وهي ثَمْرَةُ عِلْمِهِ بأنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ رَقِيبٌ عَليهِ، ناظرٌ إليه، سَامِعٌ لقولِهِ: وهو مُطَّلِعٌ على عَمَلِهِ كُلَّ وَقْتٍ وكُلَّ لحظةٍ وكُلَّ نَفَسٍ وكُلَّ طَرْفَةِ عَينٍ، والغافلُ عن هذا بمَعْزِلٍ عن حالِ أهلِ البداياتِ، فكيف بحالِ المُريدينَ؟ فكيفَ بحالِ العارفينَ؟
وقال الجَرِيرِيُّ: مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بَيْنَهُ وبينَ اللهِ تَعالَى التَّقْوَى والمُراقَبَةُ: لم يَصِلْ إلى الكشفِ والمشاهدةِ. وقيلَ: مَنْ رَاقَبَ اللهَ في خواطِرِه، عَصَمَهُ في حرَكاتِ جوارِحِه، وقيلَ لبعضِهِم: مَتَى يَهُشُّ الرَّاعي غَنَمَهُ بعَصاهُ عَنْ مَراتِعِ الهَلَكَةِ؟ فقالَ: إذا عَلِمَ أنَّ عليه رَقِيبًا.
وقالَ الجُنَيْدُ: مَنْ تَحَقَّقَ في المراقبةِ خَافَ على فواتِ لَحظةٍ مِن رَبِّهِ لا غَيْرُ، وقال ذو النُّونِ: علامةُ المراقبةِ إِيثارُ ما أَنْزَلَ اللهُ، وتعظيمُ ما عَظَّمَ اللهُ، وتصغيرُ ما صَغَّرَ اللهُ، وقيلَ: الرجاءُ يُحَرِّكُ إلى الطاعةِ، والخوفُ يُبْعِدُ عن المعاصِي، والمُراقَبَةُ تُؤَدِّيكَ إلى طريقِ الحقائقِ.
وقيلَ: المُراقَبَةُ مراعاةُ القلبِ لمُلاحَظَةِ الحَقِّ معَ كُلِّ خَطْرَةٍ وخُطْوَةٍ، وقالَ الجَرِيرِيُّ: أَمْرُنَا هذا مَبْنِيٌّ على فَصلَينِ: أن تُلْزِمَ نَفْسَكَ المُراقَبةَ للهِ، وأن يكونَ العِلْمُ على ظاهِرِكَ قَائمًا، وقال إبراهيمُ الخَوَّاصُ: المُراقبةُ خُلوصُ السِّرِّ والعلانِيَةِ للهِ عَزَّ وجل. وقيلَ: أَفْضَلُ ما يُلْزِمُ الإنسانُ نَفْسَهُ في هذه الطريقِ: المُحاسَبَةُ والمُراقَبَةُ، وسياسةُ عَمَلِهِ بالعِلمِ، وقال أبو حَفْصٍ لأبي عُثْمَانَ النَّيْسَابُورِيِّ: إذا جَلَسْتَ للناسِ فكُنْ وَاعِظًا لقَلْبِكَ ونَفْسِكَ، ولا يَغُرَّنَّكَ اجتماعُهُم عليكَ، فإنهم يُراقِبُونَ ظَاهِرَكَ، واللهُ يُرَاقِبُ بَاطِنَك.
وأربابُ الطريقِ مُجْمِعُونَ على أن مُراقَبةَ اللهِ تعَالَى في الخواطِرِ: سَبَبٌ لحِفْظِهَا في حَرَكاتِ الظواهرِ: فمَنْ رَاقَبَ اللهَ في سِرِّهِ، حَفِظَهُ اللهُ في حَرَكَاتِهِ في سِرِّه وعَلانِيَتِهِ.
والمراقبةُ: هي التعبُّدُ باسمِه (الرقيبِ) الحَفِيظِ، العليمِ، السَّمِيعِ، البَصِيرِ، فمَنْ عَقَلَ هذه الأسماءَ، وتَعَبَّدَ بمُقْتَضاهَا: حَصَلَتْ لَهُ المُراقَبَةُ. واللهُ أَعْلَمُ).


رد مع اقتباس