عرض مشاركة واحدة
  #9  
قديم 29 ذو الحجة 1439هـ/9-09-2018م, 05:41 PM
أم إسماعيل أم إسماعيل غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Dec 2010
المشاركات: 4,914
افتراضي

تفاسير القرن الثامن الهجري

تفسير قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآَنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآَنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78)}
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({أقم الصّلاة لدلوك الشّمس إلى غسق اللّيل وقرآن الفجر إنّ قرآن الفجر كان مشهودًا (78) ومن اللّيل فتهجّد به نافلةً لك عسى أن يبعثك ربّك مقامًا محمودًا (79)}.
يقول تعالى لرسوله صلّى اللّه عليه وسلّم آمرًا له بإقامة الصّلوات المكتوبات في أوقاتها: {أقم الصّلاة لدلوك الشّمس} قيل لغروبها. قاله ابن مسعودٍ، ومجاهدٌ، وابن زيدٍ.
وقال هشيم، عن مغيرة، عن الشّعبيّ، عن ابن عبّاسٍ: "دلوكها": زوالها. ورواه نافعٌ، عن ابن عمر. ورواه مالكٌ في تفسيره، عن الزّهريّ، عن ابن عمر. وقاله أبو برزة الأسلميّ وهو روايةٌ أيضًا عن ابن مسعودٍ. ومجاهدٍ. وبه قال الحسن، والضّحّاك، وأبو جعفرٍ الباقر، وقتادة. واختاره ابن جريرٍ، وممّا استشهد عليه ما رواه عن ابن حميدٍ، عن الحكم بن بشيرٍ، حدّثنا عمرو بن قيسٍ، عن ابن أبي ليلى، [عن رجلٍ]، عن جابر بن عبد اللّه قال: دعوت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ومن شاء من أصحابه فطعموا عندي، ثمّ خرجوا حين زالت الشّمس، فخرج النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فقال: "اخرج يا أبا بكرٍ، فهذا حين دلكت الشمس".
ثمّ رواه عن سهل بن بكّارٍ، عن أبي عوانة، عن الأسود بن قيسٍ، عن نبيحٍ العنزيّ، عن جابرٍ عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، نحوه. فعلى هذا تكون هذه الآية دخل فيها أوقات الصّلاة الخمسة فمن قوله: {لدلوك الشّمس إلى غسق اللّيل} وهو: ظلامه، وقيل: غروب الشّمس، أخذ منه الظّهر والعصر والمغرب والعشاء، وقوله [تعالى]: {وقرآن الفجر} يعني: صلاة الفجر.
وقد ثبتت السّنّة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم تواترًا من أفعاله وأقواله بتفاصيل هذه الأوقات، على ما عليه عمل أهل الإسلام اليوم، ممّا تلقّوه خلفًا عن سلفٍ، وقرنًا بعد قرنٍ، كما هو مقرّرٌ في مواضعه، وللّه الحمد.
{إنّ قرآن الفجر كان مشهودًا} قال الأعمش، عن إبراهيم، عن ابن مسعودٍ -وعن أبي صالحٍ، عن أبي هريرة، رضي اللّه عنه، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم في هذه الآية: {إنّ قرآن الفجر كان مشهودًا} قال: "تشهده ملائكة اللّيل وملائكة النّهار".
وقال البخاريّ: حدّثنا عبد اللّه بن محمّدٍ، حدّثنا عبد الرّزّاق، أخبرنا معمر، عن الزّهريّ، عن أبي سلمة -وسعيد بن المسيّب، عن أبي هريرة، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "فضل صلاة الجميع على صلاة الواحد خمسٌ وعشرون درجةً، وتجتمع ملائكة اللّيل وملائكة النّهار في صلاة الفجر". ويقول أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم: {وقرآن الفجر إنّ قرآن الفجر كان مشهودًا}.
وقال الإمام أحمد: حدّثنا أسباطٌ، حدّثنا الأعمش، عن إبراهيم، عن ابن مسعودٍ، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم -وحدّثنا الأعمش، عن أبي صالحٍ، عن أبي هريرة، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم في قوله: {وقرآن الفجر إنّ قرآن الفجر كان مشهودًا} قال: "تشهده ملائكة اللّيل، وملائكة النّهار".
ورواه التّرمذيّ، والنّسائيّ، وابن ماجه، ثلاثتهم عن عبيد بن أسباط بن محمّدٍ، عن أبيه، به وقال التّرمذيّ: حسنٌ صحيحٌ.
وفي لفظٍ في الصّحيحين، من طريق مالكٌ، عن أبي الزّناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: " يتعاقبون فيكم ملائكة اللّيل وملائكة النّهار، ويجتمعون في صلاة الصّبح وفي صلاة العصر، فيعرج الّذين باتوا فيكم فيسألهم -وهو أعلم بكم -كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلّون، وتركناهم وهم يصلّون" وقال عبد اللّه بن مسعودٍ: يجتمع الحرسان في صلاة الفجر، فيصعد هؤلاء ويقيم هؤلاء.
وكذا قال إبراهيم النّخعي، ومجاهدٌ، وقتادة، وغير واحدٍ في تفسير هذه الآية.
وأمّا الحديث الّذي رواه ابن جريرٍ هاهنا -من حديث اللّيث بن سعدٍ، عن زيادة، عن محمّد بن كعبٍ القرظيّ، عن فضالة بن عبيد، عن أبي الدّرداء، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فذكر حديث النّزول وأنّه تعالى يقول: "من يستغفرني أغفر له، من يسألني أعطه، من يدعني فأستجيب له حتّى يطلع الفجر". فلذلك يقول: {وقرآن الفجر إنّ قرآن الفجر كان مشهودًا} فيشهده اللّه، وملائكة اللّيل، وملائكة النّهار -فإنّه تفرّد به زيادةً، وله بهذا حديثٌ في سنن أبي داود). [تفسير القرآن العظيم: 5/ 101-103]

تفسير قوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79)}
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله: {ومن اللّيل فتهجّد به نافلةً لك} أمرٌ له بقيام اللّيل بعد المكتوبة، كما ورد في صحيح مسلمٍ، عن أبي هريرة، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه سئل: أيّ الصّلاة أفضل بعد المكتوبة؟ قال: "صلاة اللّيل".
ولهذا أمر تعالى رسوله بعد المكتوبات بقيام اللّيل، فإنّ التّهجّد: ما كان بعد نومٍ. قاله علقمة، والأسود وإبراهيم النّخعيّ، وغير واحدٍ وهو المعروف في لغة العرب. وكذلك ثبتت الأحاديث عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: أنّه كان يتهجّد بعد نومه، عن ابن عبّاسٍ، وعائشة، وغير واحدٍ من الصّحابة، رضي اللّه عنهم، كما هو مبسوطٌ في موضعه، وللّه الحمد والمنّة.
وقال الحسن البصريّ: هو ما كان بعد العشاء. ويحمل على ما بعد النّوم.
واختلف في معنى قوله: {نافلةً لك} فقيل: معناه أنّك مخصوصٌ بوجوب ذلك وحدك، فجعلوا قيام اللّيل واجبًا في حقّه دون الأمّة. رواه العوفيّ عن ابن عبّاسٍ، وهو أحد قولي العلماء، وأحد قولي الشّافعيّ، رحمه اللّه، واختاره ابن جريرٍ.
وقيل: إنّما جعل قيام اللّيل في حقّه نافلةً على الخصوص؛ لأنّه قد غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر، وغيره من أمّته إنّما يكفّر عنه صلواته النّوافل الذّنوب الّتي عليه، قاله مجاهدٌ، وهو في المسند عن أبي أمامة الباهليّ، رضي اللّه عنه.
وقوله: {عسى أن يبعثك ربّك مقامًا محمودًا} أي: افعل هذا الّذي أمرتك به، لنقيمك يوم القيامة مقامًا يحسدك فيه الخلائق كلّهم وخالقهم، تبارك وتعالى.
قال ابن جريرٍ: قال أكثر أهل التّأويل: ذلك هو المقام الّذي يقومه صلّى اللّه عليه وسلّم يوم القيامة للشّفاعة للنّاس، ليريحهم ربّهم من عظيم ما هم فيه من شدّة ذلك اليوم.
ذكر من قال ذلك: حدّثنا ابن بشّارٍ، حدّثنا عبد الرّحمن، حدّثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن صلة بن زفر، عن حذيفة قال: يجمع النّاس في صعيدٍ واحدٍ، يسمعهم الدّاعي وينفذهم البصر، حفاةً عراة كما خلقوا قيامًا، لا تكلّم نفسٌ إلّا بإذنه، ينادى: يا محمّد، فيقول: "لبّيك وسعديك، والخير في يديك، والشّرّ ليس إليك، والمهديّ من هديت، وعبدك بين يديك، وبك وإليك، لا منجى ولا ملجأ منك إلّا إليك، تباركت وتعاليت، سبحانك ربّ البيت". فهذا المقام المحمود الّذي ذكره اللّه عزّ وجلّ .
ثمّ رواه عن بندار، عن غندر، عن شعبة، عن أبي إسحاق، به. وكذا رواه عبد الرّزّاق عن معمرٍ والثّوريّ، عن أبي إسحاق، به.
وقال ابن عبّاسٍ: هذا المقام المحمود مقام الشّفاعة. وكذا قال ابن أبي نجيح، عن مجاهدٍ. وقاله الحسن البصريّ.
وقال قتادة: هو أوّل من تنشقّ عنه الأرض، وأوّل شافعٍ، وكان أهل العلم يرون أنّه المقام المحمود الّذي قال اللّه: {عسى أن يبعثك ربّك مقامًا محمودًا}
قلت: لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم تسليمًا تشريفاتٌ [يوم القيامة] لا يشركه فيها أحدٌ، وتشريفاتٌ لا يساويه فيها أحدٌ؛ فهو أوّل من تنشقّ عنه الأرض ويبعث راكبًا إلى المحشر، وله اللّواء الّذي آدم فمن دونه تحت لوائه، وله الحوض الّذي ليس في الموقف أكثر واردًا منه، وله الشّفاعة العظمى عند اللّه ليأتي لفصل القضاء بين الخلائق، وذلك بعدما يسأل النّاس آدم ثمّ نوحًا ثمّ إبراهيم ثمّ موسى ثمّ عيسى، فكلٌّ يقول: "لست لها" حتّى يأتوا إلى محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم فيقول: "أنا لها، أنا لها" كما سنذكر ذلك مفصّلًا في هذا الموضع، إن شاء اللّه تعالى. ومن ذلك أنّه يشفّع في أقوامٍ قد أمر بهم إلى النّار، فيردّون عنها. وهو أوّل الأنبياء يقضى بين أمّته، وأوّلهم إجازةً على الصّراط بأمّته. وهو أوّل شفيعٍ في الجنّة، كما ثبت في صحيح مسلمٍ. وفي حديث الصّور: إنّ المؤمنين كلّهم لا يدخلون الجنّة إلّا بشفاعته وهو أوّل داخلٍ إليها وأمّته قبل الأمم كلّهم. ويشفّع في رفع درجات أقوامٍ لا تبلغها أعمالهم. وهو صاحب الوسيلة الّتي هي أعلى منزلةٍ في الجنّة، لا تليق إلّا له. وإذا أذن اللّه تعالى في الشّفاعة للعصاة شفّع الملائكة والنّبيّون والمؤمنون، فيشفّع هو في خلائق لا يعلم عدّتهم إلّا اللّه، ولا يشفّع أحدٌ مثله ولا يساويه في ذلك. وقد بسطت ذلك مستقصًى في آخر كتاب "السّيرة" في باب الخصائص، ولله الحمد والمنة.
ولنذكر الآن الأحاديث الواردة في المقام المحمود، وباللّه المستعان:
قال البخاريّ: حدّثنا إسماعيل بن أبانٍ، حدّثنا أبو الأحوص، عن آدم بن عليٍّ، سمعت ابن عمر [يقول]: إنّ النّاس يصيرون يوم القيامة جثًا، كلّ أمّةٍ تتبع نبيّها، يقولون: يا فلان اشفع، يا فلان اشفع حتّى تنتهي الشّفاعة إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، فذلك يوم يبعثه اللّه مقامًا محمودًا.
ورواه حمزة بن عبد اللّه، عن أبيه، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم.
قال ابن جريرٍ: حدّثني محمّد بن عبد اللّه بن عبد الحكم، حدّثنا شعيب بن اللّيث، حدّثني اللّيث، عن عبيد اللّه بن أبي جعفرٍ أنّه قال: سمعت حمزة بن عبد اللّه بن عمر يقول: سمعت عبد اللّه بن عمر يقول: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم "إنّ الشّمس لتدنو حتّى يبلغ العرق نصف الأذن، فبينما هم كذلك استغاثوا بآدم، فيقول: لست صاحب ذلك، ثمّ بموسى فيقول كذلك، ثمّ بمحمّدٍ فيشفع بين الخلق، فيمشي حتّى يأخذ بحلقة باب الجنّة، فيومئذٍ يبعثه اللّه مقامًا محمودًا". [يحمده أهل الجنّة كلّهم].
وهكذا رواه البخاريّ في "الزّكاة" عن يحيى بن بكير، وعبد اللّه بن صالحٍ، كلاهما عن اللّيث بن سعدٍ، به، وزاد "فيومئذٍ يبعثه اللّه مقامًا محمودًا، بحمده أهل الجمع كلّهم".
قال البخاريّ: وحدّثنا عليّ بن عيّاش، حدّثنا شعيب بن أبي حمزة، عن محمّد بن المنكدر، عن جابر بن عبد اللّه؛ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "من قال حين يسمع النّداء: اللّهمّ ربّ هذه الدّعوة التّامّة، والصّلاة القائمة، آت محمّدًا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقامًا محمودًا الّذي وعدته، حلّت له شفاعتي يوم القيامة". انفرد به دون مسلمٍ.
حديث أبيٍّ:
وقال الإمام أحمد: حدّثنا أبو عامرٍ الأزديّ، حدّثنا زهير بن محمّدٍ، عن عبد اللّه بن محمّد بن عقيلٍ، عن الطّفيل بن أبيّ بن كعبٍ، عن أبيه، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "إذا كان يوم القيامة، كنت إمام الأنبياء وخطيبهم، وصاحب شفاعتهم غير فخر".
وأخرجه التّرمذيّ، من حديث أبي عامرٍ عبد الملك بن عمرو العقديّ، وقال: "حسنٌ صحيحٌ ". وابن ماجه من حديث عبد اللّه بن محمّد بن عقيلٍ به. وقد قدّمنا في حديث: "أبيّ بن كعبٍ" في قراءة القرآن على سبعة أحرفٍ، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في آخره: "فقلت: اللّهمّ، اغفر لأمّتي، اللّهمّ اغفر لأمّتي، وأخّرت الثّالثة ليومٍ يرغب إليّ فيه الخلق، حتّى إبراهيم عليه السلام".
حديث أنس بن مالكٍ:
قال الإمام أحمد: حدّثنا يحيى بن سعيدٍ، حدّثنا سعيد بن أبي عروبة، حدّثنا قتادة، عن أنسٍ، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "يجتمع المؤمنون يوم القيامة، فيلهمون ذلك فيقولون: لو استشفعنا إلى ربّنا، فأراحنا من مكاننا هذا. فيأتون آدم فيقولون: يا آدم، أنت أبو البشر، خلقك اللّه بيده، وأسجد لك ملائكته، وعلّمك أسماء كلّ شيءٍ، فاشفع لنا إلى ربّك حتّى يريحنا من مكاننا هذا. فيقول لهم آدم: لست هناكم، ويذكر ذنبه الّذي أصاب، فيستحيي ربّه، عزّ وجلّ، من ذلك، ويقول: ولكن ائتوا نوحًا، فإنّه أوّل رسولٍ بعثه اللّه إلى أهل الأرض. فيأتون نوحًا فيقول: لست هناكم، ويذكر خطيئة سؤاله ربّه ما ليس له به علمٌ، فيستحيي ربّه من ذلك، ولكن ائتوا إبراهيم خليل الرّحمن. فيأتونه فيقول: لست هناكم، ولكن ائتوا موسى، عبدًا كلّمه اللّه، وأعطاه التّوراة. فيأتون موسى فيقول: لست هناكم، ويذكر لهم النّفس الّتي قتل بغير نفسٍ فيستحيي ربّه من ذلك، ولكن ائتوا عيسى عبد اللّه ورسوله، وكلمته وروحه، فيأتون عيسى فيقول: لست هناكم، ولكن ائتوا محمّدًا عبدًا غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر فيأتوني". قال الحسن هذا الحرف: "فأقوم فأمشي بين سماطين من المؤمنين". قال أنسٌ: "حتّى أستأذن على ربّي، فإذا رأيت ربّي وقعت له -أو: خررت -ساجدًا لربّي، فيدعني ما شاء اللّه أن يدعني". قال: "ثمّ يقال: ارفع محمّد، قل يسمع، واشفع تشفّع، وسل تعطه. فأرفع رأسي، فأحمده بتحميدٍ يعلّمنيه، ثمّ أشفع فيحدّ لي حدًّا، فأدخلهم الجنّة": "ثمّ أعود إليه الثّانية، فإذا رأيت ربّي وقعت -أو: خررت -ساجدًا لربّي، فيدعني ما شاء اللّه أن يدعني. ثمّ يقال: ارفع محمّد، قل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفّع. فأرفع رأسي فأحمده بتحميدٍ يعلّمنيه، ثمّ أشفع فيحدّ لي حدًّا، فأدخلهم الجنّة، ثمّ أعود في الثّالثة؛ فإذا رأيت ربّي وقعت -أو: خررت -ساجدًا لربّي، فيدعني ما شاء اللّه أن يدعني، ثمّ يقال: ارفع محمّد، قل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفّع. فأرفع رأسي فأحمده بتحميدٍ يعلّمنيه ثمّ أشفع فيحدّ لي حدًّا فأدخلهم الجنّة. ثمّ أعود الرّابعة فأقول: يا ربّ، ما بقي إلّا من حبسه القرآن". فحدّثنا أنس بن مالكٍ أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "فيخرج من النّار من قال: "لا إله إلّا اللّه" وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرةً، ثمّ يخرج من النّار من قال: "لا إله إلّا اللّه" وكان في قلبه من الخير ما يزن برّة ثمّ يخرج من النّار من قال: "لا إله إلّا اللّه" وكان في قلبه من الخير ما يزن ذرّةً".
أخرجاه [في الصّحيح] من حديث سعيدٍ، به وهكذا رواه الإمام أحمد، عن عفّان، عن حمّاد بن سلمة، عن ثابتٍ، عن أنس بطوله.
وقال الإمام أحمد: حدّثنا يونس بن محمّدٍ، حدّثنا حرب بن ميمونٍ أبو الخطّاب الأنصاريّ، عن النّضر بن أنسٍ، عن أنسٍ قال: حدّثني نبيّ اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "إنّي لقائمٌ أنتظر أمّتي تعبر الصّراط، إذ جاءني عيسى، عليه السّلام، فقال: هذه الأنبياء قد جاءتك يا محمّد يسألون -أو قال: يجتمعون إليك -ويدعون اللّه أن يفرّق بين جميع الأمم إلى حيث يشاء اللّه، لغمّ ما هم فيه، فالخلق ملجمون بالعرق، فأمّا المؤمن فهو عليه كالزكمة، وأمّا الكافر فيغشاه الموت، فقال: انتظر حتّى أرجع إليك. فذهب نبيّ اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقام تحت العرش، فلقي ما لم يلق ملك مصطفًى ولا نبيٌّ مرسلٌ. فأوحى اللّه، عزّ وجلّ، إلى جبريل: أن اذهب إلى محمّدٍ، وقل له: ارفع رأسك، وسل تعطه، واشفع تشفّع. فشفعت في أمّتي: أن أخرج من كلّ تسعةٍ وتسعين إنسانًا واحدًا. فما زلت أتردّد إلى ربّي، عزّ وجلّ، فلا أقوم منه مقامًا إلّا شفّعت، حتّى أعطاني اللّه من ذلك، أن قال: يا محمّد، أدخل [من أمّتك] من خلق اللّه، عزّ وجلّ، من شهد أن لا إله إلّا اللّه يومًا واحدًا مخلصًا ومات على ذلك ".
حديث بريدة، رضي اللّه عنه:
قال الإمام أحمد بن حنبلٍ: حدّثنا الأسود بن عامرٍ، أخبرنا أبو إسرائيل، عن الحارث بن حصيرة، عن ابن بريدة، عن أبيه: أنّه دخل على معاوية، فإذا رجلٌ يتكلّم، فقال بريدة: يا معاوية، تأذن لي في الكلام؟ فقال: نعم -وهو يرى أنّه يتكلّم بمثل ما قال الآخر -فقال بريدة: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: "إنّي لأرجو أن أشفّع يوم القيامة عدد ما على الأرض من شجرةٍ ومدرةٍ". قال: فترجوها أنت يا معاوية، ولا يرجوها عليٌّ، رضي اللّه عنه؟!.
حديث ابن مسعودٍ:
قال الإمام أحمد: حدّثنا عارم بن الفضل، حدّثنا سعيد بن زيدٍ، حدّثنا عليّ بن الحكم البناني، عن عثمان، عن إبراهيم، عن علقمة والأسود، عن ابن مسعودٍ قال: جاء ابنا مليكة إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فقالا إنّ أمّنا [كانت] تكرم الزّوج، وتعطف على الولد -قال: وذكر الضّيف -غير أنّها كانت وأدت في الجاهليّة؟ فقال: "أمّكما في النّار". قال: فأدبرا والسّوء يرى في وجوههما، فأمر بهما فردّا، فرجعا والسّرور يرى في وجوههما؛ رجاء أن يكون قد حدث شيءٌ، فقال: "أمّي مع أمّكما". فقال رجلٌ من المنافقين: وما يغني هذا عن أمّه شيئًا! ونحن نطأ عقبيه. فقال رجلٌ من الأنصار -ولم أر رجلًا قطّ أكثر سؤالًا منه-: يا رسول اللّه، هل وعدك ربّك فيها أو فيهما؟. قال: فظنّ أنّه من شيءٍ قد سمعه، فقال: "ما شاء اللّه ربّي وما أطمعني فيه، وإنّي لأقوم المقام المحمود يوم القيامة". فقال الأنصاريّ: يا رسول اللّه، وما ذاك المقام المحمود؟ قال:" ذاك إذا جيء بكم حفاةً عراةً غرلًا فيكون أوّل من يكسى إبراهيم، عليه السّلام، فيقول: اكسوا خليلي. فيؤتى بريطتين بيضاوين، فيلبسهما ثمّ يقعده مستقبل العرش، ثمّ أوتى بكسوتي فألبسها، فأقوم عن يمينه مقامًا لا يقومه أحدٌ، فيغبطني فيه الأوّلون والآخرون. ويفتح نهرٌ من الكوثر إلى الحوض". فقال المنافقون: إنّه ما جرى ماءٌ قطّ إلّا على حالٍ أو رضراضٍ. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم "حاله المسك، ورضراضه التّوم". [قال المنافق: لم أسمع كاليوم. قلّما جرى ماءٌ قطّ على حالٍ أو رضراضٍ، إلّا كان له نبتةٌ. فقال الأنصاريّ: يا رسول اللّه، هل له نبتٌ؟ قال "نعم، قضبان الذّهب"]. قال المنافق: لم أسمع كاليوم، فإنّه قلّما ينبت قضيبٌ إلّا أورق، وإلّا كان له ثمرٌ! قال الأنصاريّ: يا رسول اللّه، هل له ثمرةٌ؟ قال: "نعم، ألوان الجوهر، وماؤه أشدّ بياضًا من اللّبن، وأحلى من العسل، من شرب منه شربةً لا يظمأ بعده، ومن حرمه لم يرو بعده".
وقال أبو داود الطّيالسيّ: حدّثنا يحيى بن سلمة بن كهيل، عن أبيه، عن أبي الزّعراء، عن عبد اللّه قال: ثمّ يأذن اللّه، عزّ وجلّ، في الشّفاعة، فيقوم روح القدس جبريل، ثمّ يقوم إبراهيم خليل اللّه، ثمّ يقوم عيسى أو موسى -قال أبو الزّعراء: لا أدري أيّهما -قال: ثمّ يقوم نبيّكم صلّى اللّه عليه وسلّم رابعًا، فيشفع لا يشفع أحدٌ بعده أكثر ممّا شفع، وهو المقام المحمود الّذي قال اللّه عزّ وجلّ: {عسى أن يبعثك ربّك مقامًا محمودًا}.
حديث كعب بن مالكٍ، رضي اللّه عنه:
قال الإمام أحمد: حدّثنا يزيد بن عبد ربّه، حدّثنا محمّد بن حربٍ، حدّثنا الزّبيديّ، عن الزّهريّ، عن عبد الرّحمن بن عبد اللّه [بن كعب] بن مالكٍ، عن كعب بن مالكٍ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "يبعث النّاس يوم القيامة، فأكون أنا وأمّتي على تلٍّ، ويكسوني ربّي، عزّ وجلّ، حلّةً خضراء ثمّ يؤذن لي فأقول ما شاء اللّه أن أقول، فذلك المقام المحمود".
حديث أبي الدّرداء، رضي اللّه عنه:
قال الإمام أحمد: حدّثنا حسنٌ، حدّثنا ابن لهيعة، حدّثنا يزيد بن أبي حبيبٍ، عن عبد الرّحمن ابن جبير، عن أبي الدّرداء، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "أنا أوّل من يؤذن له بالسّجود يوم القيامة، وأنا أوّل من يؤذن له أن يرفع رأسه، فأنظر إلى ما بين يدي، فأعرف أمّتي من بين الأمم، ومن خلفي مثل ذلك، وعن يميني مثل ذلك، وعن شمالي مثل ذلك". فقال رجلٌ: يا رسول اللّه، كيف تعرف أمّتك من بين الأمم، فيما بين نوحٍ إلى أمّتك؟ قال: "هم غرٌّ محجّلون، من أثر الوضوء، ليس أحدٌ كذلك غيرهم، وأعرفهم أنّهم يؤتون كتبهم بأيمانهم، وأعرفهم تسعى بين أيديهم ذريتهم".
حديث أبي هريرة، رضي اللّه عنه:
قال الإمام أحمد، رحمه اللّه: حدّثنا يحيى بن سعيدٍ، حدّثنا أبو حيّان، حدّثنا أبو زرعة بن عمرو بن جريرٍ، عن أبي هريرة، قال: أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بلحمٍ، فرفع إليه الذّراع -وكانت تعجبه -فنهس منها نهسة، ثمّ قال: "أنا سيّد النّاس يوم القيامة، وهل تدرون ممّ ذاك؟ يجمع اللّه الأوّلين والآخرين في صعيدٍ واحدٍ، يسمعهم الدّاعي وينفذهم البصر، وتدنو الشّمس فيبلغ النّاس من الغمّ والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون. فيقول بعض النّاس لبعضٍ: [ألّا ترون إلى ما أنتم فيه؟ ألا ترون إلى ما قد بلغكم؟ ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربّكم عزّ وجلّ؟ فيقول بعض النّاس لبعضٍ]: أبوكم آدم!.
فيأتون آدم، فيقولون: يا آدم، أنت أبو البشر، خلقك اللّه بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك؛ فاشفع لنا إلى ربّك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول آدم: إنّ ربّي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنّه نهاني عن الشّجرة فعصيته، نفسي، نفسي، نفسي! اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوحٍ.
فيأتون نوحًا فيقولون: يا نوح، أنت أوّل الرّسل إلى أهل الأرض، وسمّاك اللّه عبدًا شكورًا، اشفع لنا إلى ربّك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول نوحٌ: إنّ ربّي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنّه كانت لي دعوةٌ على قومي، نفسي، نفسي، نفسي! اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى إبراهيم.
فيأتون إبراهيم فيقولون: يا إبراهيم، أنت نبيّ اللّه وخليله من أهل الأرض، [اشفع لنا إلى ربّك] ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول: إنّ ربّي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، فذكر كذباته نفسي، نفسي، نفسي [اذهبوا إلى غيري] اذهبوا إلى موسى.
فيأتون موسى فيقولون: يا موسى، أنت رسول اللّه، اصطفاك اللّه برسالاته وبكلامه على النّاس، اشفع لنا إلى ربّك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم موسى: إنّ ربّي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنّي قتلت نفسًا لم أومر بقتلها، نفسي، نفسي، نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى عيسى.
فيأتون عيسى فيقولون: يا عيسى، أنت رسول اللّه وكلمته ألقاها إلى مريم وروحٌ منه -قال: هكذا هو -وكلّمت النّاس في المهد، فاشفع لنا إلى ربّك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم عيسى: إنّ ربّي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، ولم يذكر ذنبًا، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى محمّدٍ.
فيأتوني فيقولون: يا محمّد، أنت رسول اللّه، وخاتم الأنبياء، غفر اللّه لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر، فاشفع لنا إلى ربّك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فأقوم فآتي تحت العرش، فأقع ساجدًا لربّي، عزّ وجلّ، ثمّ يفتح اللّه عليّ، ويلهمني من محامده وحسن الثّناء عليه ما لم يفتحه على أحدٍ قبلي. فيقال: يا محمّد، ارفع رأسك، وسل تعطه، واشفع تشفّع. فأقول: يا ربّ، أمّتي أمّتي، يا ربّ أمّتي أمّتي، يا ربّ، أمّتي أمّتي! فيقال: يا محمّد: أدخل من أمّتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنّة، وهم شركاء النّاس فيما سواه من الأبواب". ثمّ قال: "والّذي نفس محمّدٍ بيده لما بين مصراعين من مصاريع الجنّة كما بين مكّة وهجر، أو كما بين مكّة وبصرى". أخرجاه في الصّحيحين.
وقال مسلمٌ، رحمه اللّه: حدّثنا الحكم بن موسى، حدّثنا هقل بن زيادٍ، عن الأوزاعيّ، حدّثني أبو عمّارٍ، حدّثني عبد اللّه بن فرّوخ، حدّثني أبو هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "أنا سيّد ولد آدم يوم القيامة، وأوّل من ينشقّ عنه القبر، وأوّل شافعٍ، وأوّل مشفّع".
وقال ابن جريرٍ: حدّثنا أبو كريب، حدّثنا وكيع، عن داود بن يزيد الزّعافريّ، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم: {عسى أن يبعثك ربّك مقامًا محمودًا}، سئل عنها فقال: "هي الشّفاعة ".
رواه الإمام أحمد عن وكيعٍ وعن محمّد بن عبيدٍ، عن داود، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم في قوله تعالى: {عسى أن يبعثك ربّك مقامًا محمودًا} قال: "هو المقام الّذي أشفع لأمّتي فيه".
وقال عبد الرّزّاق: أخبرنا معمر، عن الزّهريّ، عن عليّ بن الحسين قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "إذا كان يوم القيامة، مدّ اللّه الأرض مدّ الأديم، حتّى لا يكون لبشرٍ من النّاس إلّا موضع قدمه. قال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: "فأكون أوّل من يدعى، وجبريل عن يمين الرّحمن واللّه ما رآه قبلها، فأقول ربّ، إنّ هذا أخبرني أنّك أرسلته إليّ. فيقول اللّه تبارك وتعالى: صدق، ثمّ أشفّع. فأقول: يا ربّ عبادك عبدوك في أطراف الأرض"، قال: "فهو المقام المحمود"، وهذا حديث مرسل). [تفسير القرآن العظيم: 5/ 103-110]

تفسير قوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80)}
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({وقل ربّ أدخلني مدخل صدقٍ وأخرجني مخرج صدقٍ واجعل لي من لدنك سلطانًا نصيرًا (80) وقل جاء الحقّ وزهق الباطل إنّ الباطل كان زهوقًا (81)}.
قال الإمام أحمد: حدّثنا جريرٌ، عن قابوس بن أبي ظبيان، عن أبيه، عن ابن عبّاسٍ قال: كان النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم بمكّة ثمّ أمر بالهجرة، فأنزل اللّه: {وقل ربّ أدخلني مدخل صدقٍ وأخرجني مخرج صدقٍ واجعل لي من لدنك سلطانًا نصيرًا}.
وقال الحسن البصريّ في تفسير هذه الآية: إنّ كفّار أهل مكّة لمّا ائتمروا برسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ليقتلوه أو يطردوه أو يوثقوه، وأراد اللّه قتال أهل مكّة، فأمره أن يخرج إلى المدينة، فهو الّذي قال اللّه عزّ وجلّ:: {وقل ربّ أدخلني مدخل صدقٍ وأخرجني مخرج صدقٍ}
وقال قتادة: {وقل ربّ أدخلني مدخل صدقٍ} يعني: المدينة {وأخرجني مخرج صدقٍ} يعني: مكّة.
وكذا قال عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم. وهذا القول هو أشهر الأقوال.
وقال: العوفيّ عن ابن عبّاسٍ: {أدخلني مدخل صدقٍ} يعني: الموت {وأخرجني مخرج صدقٍ} يعني: الحياة بعد الموت. وقيل غير ذلك من الأقوال. والأوّل أصحّ، وهو اختيار ابن جريرٍ.
وقوله: {واجعل لي من لدنك سلطانًا نصيرًا} قال الحسن البصريّ في تفسيرها: وعده ربّه لينزعنّ ملك فارس، وعزّ فارس، وليجعلنّه له، وملك الرّوم، وعزّ الرّوم، وليجعلنّه له.
وقال قتادة فيها أنّ نبيّ اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، علم ألّا طاقة له بهذا الأمر إلّا بسلطانٍ، فسأل سلطانًا نصيرًا لكتاب اللّه، ولحدود اللّه، ولفرائض اللّه، ولإقامة دين اللّه؛ فإنّ السّلطان رحمةٌ من اللّه جعله بين أظهر عباده، ولولا ذلك لأغار بعضهم على بعضٍ، فأكل شديدهم ضعيفهم.
قال مجاهدٌ: {سلطانًا نصيرًا} حجّةً بيّنةً.
واختار ابن جريرٍ قول الحسن وقتادة، وهو الأرجح؛ لأنّه لا بدّ مع الحقّ من قهرٍ لمن عاداه وناوأه؛ ولهذا قال [سبحانه و] تعالى: {لقد أرسلنا رسلنا بالبيّنات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم النّاس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأسٌ شديدٌ ومنافع للنّاس وليعلم اللّه من ينصره ورسله بالغيب} [الحديد: 25] وفي الحديث: "إنّ اللّه ليزع بالسّلطان ما لا يزع بالقرآن" أي: ليمنع بالسّلطان عن ارتكاب الفواحش والآثام، ما لا يمتنع كثيرٌ من النّاس بالقرآن، وما فيه من الوعيد الأكيد، والتّهديد الشّديد، وهذا هو الواقع). [تفسير القرآن العظيم: 5/ 111]

تفسير قوله تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)}
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله: {وقل جاء الحقّ وزهق الباطل إنّ الباطل كان زهوقًا} تهديدٌ ووعيد لكفار قريش؛ فإنه قد جاءهم من اللّه الحقّ الّذي لا مرية فيه ولا قبل لهم به، وهو ما بعثه اللّه به من القرآن والإيمان والعلم النّافع. وزهق باطلهم، أي اضمحلّ وهلك، فإنّ الباطل لا ثبات له مع الحقّ ولا بقاء {بل نقذف بالحقّ على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهقٌ} [الأنبياء: 18].
وقال البخاريّ: حدّثنا الحميديّ، حدّثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهدٍ، عن أبي معمر، عن عبد اللّه بن مسعودٍ قال: دخل النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم مكّة وحول البيت ستّون وثلاثمائة نصبٍ، فجعل يطعنها بعودٍ في يده، ويقول: {جاء الحقّ وزهق الباطل إنّ الباطل كان زهوقًا}، جاء الحقّ وما يبدئ الباطل وما يعيد".
وكذا رواه البخاريّ أيضًا في غير هذا الموضع، ومسلمٌ، والتّرمذيّ، والنّسائيّ، كلّهم من طرقٍ عن سفيان بن عيينة به. [وكذا رواه عبد الرّزّاق عن الثّوريّ عن ابن أبي نجيحٍ].
وكذا رواه الحافظ أبو يعلى: حدّثنا زهيرٌ، حدّثنا شبابة، حدّثنا المغيرة، حدّثنا أبو الزّبير، عن جابرٍ رضي اللّه عنه، قال: دخلنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم مكّة، وحول البيت ثلاثمائةٍ وستّون صنمًا يعبدون من دون اللّه. فأمر بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فأكبّت لوجهها، وقال: "جاء الحقّ وزهق الباطل، إنّ الباطل كان زهوقًا"). [تفسير القرآن العظيم: 5/ 111-112]

تفسير قوله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82)}
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({وننزل من القرآن ما هو شفاءٌ ورحمةٌ للمؤمنين ولا يزيد الظّالمين إلا خسارًا (82)}.
يقول تعالى مخبرًا عن كتابه الّذي أنزله على رسوله محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم -وهو القرآن الّذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيلٌ من حكيمٍ حميدٍ -إنّه: {شفاءٌ ورحمةٌ للمؤمنين} أي: يذهب ما في القلوب من أمراضٍ، من شكٍّ ونفاقٍ، وشركٍ وزيغٍ وميلٍ، فالقرآن يشفي من ذلك كلّه. وهو أيضًا رحمةٌ يحصل فيها الإيمان والحكمة وطلب الخير والرّغبة فيه، وليس هذا إلّا لمن آمن به وصدّقه واتّبعه، فإنّه يكون شفاءً في حقّه ورحمةً. وأمّا الكافر الظّالم نفسه بذلك، فلا يزيده سماعه القرآن إلّا بعدًا وتكذيبًا وكفرًا. والآفة من الكافر لا من القرآن، كما قال تعالى: {قل هو للّذين آمنوا هدًى وشفاءٌ والّذين لا يؤمنون في آذانهم وقرٌ وهو عليهم عمًى أولئك ينادون من مكانٍ بعيدٍ} [فصّلت: 44] وقال تعالى: {وإذا ما أنزلت سورةٌ فمنهم من يقول أيّكم زادته هذه إيمانًا فأمّا الّذين آمنوا فزادتهم إيمانًا وهم يستبشرون وأمّا الّذين في قلوبهم مرضٌ فزادتهم رجسًا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون} [التوبة: 124، 125]. والآيات في ذلك كثيرة.
قال قتادة في قوله: {وننزل من القرآن ما هو شفاءٌ ورحمةٌ للمؤمنين} إذا سمعه المؤمن انتفع به وحفظه ووعاه {ولا يزيد الظّالمين إلا خسارًا} إنّه لا ينتفع به ولا يحفظه ولا يعيه، فإنّ اللّه جعل هذا القرآن شفاءً، ورحمةً للمؤمنين). [تفسير القرآن العظيم: 5/ 112-113]

رد مع اقتباس