ما ورد في أسباب نزولها:
قالَ مُحَمَّد الطَّاهِرُ بْنُ عَاشُورٍ (ت: 1393هـ): (فإنّ قوله: {إنّ الّذين كفروا ويصدّون عن سبيل اللّه والمسجد الحرام} يناسب أنّه نزل بالمدينة حيث صدّ المشركون النّبي والمؤمنين عن البقاء معهم بمكّة. وكذلك قوله: {أذن للّذين يقاتلون بأنّهم ظلموا وإنّ اللّه على نصرهم لقديرٌ الّذين أخرجوا من ديارهم بغير حقٍّ} فإنّه صريحٌ في أنّه نزل في شأن الهجرة.
روى التّرمذيّ بسنده عن ابن عبّاسٍ قال: (لمّا أخرج النّبي من مكّة قال أبو بكرٍ: أخرجوا نبيهم ليهلكنّ فأنزل اللّه: {أذن للّذين يقاتلون بأنّهم ظلموا وإنّ اللّه على نصرهم لقديرٌ * الّذين أخرجوا من ديارهم بغير حقٍّ إلّا أن يقولوا ربّنا اللّه}، وكذلك قوله: {والّذين هاجروا في سبيل اللّه ثمّ قتلوا أو ماتوا ليرزقنّهم اللّه رزقاً حسناً}) ففيه ذكر الهجرة وذكر من يقتل من المهاجرين، وذلك مؤذنٌ بجهادٍ متوقّعٍ كما سيجيء هنالك.
وأحسب أنّه لم تتعيّن طائفةٌ منها متواليةً نزلت بمكّة ونزل ما بعدها بالمدينة بل نزلت آياتها متفرّقةً. ولعلّ ترتيبها كان بتوقيفٍ من النّبي صلّى الله عليه وسلّم ومثل ذلك كثيرٌ.
وقد قيل في قوله تعالى: {هذان خصمان اختصموا في ربّهم} أنّه نزل في وقعة بدرٍ، لما في "الصّحيح" عن عليٍّ وأبي ذرٍّ: (أنّها نزلت في مبارزة حمزة وعليٍّ وعبيدة بن الحارث مع شيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة يوم بدرٍ) وكان أبو ذرٍّ يقسم على ذلك. [......]
وروى التّرمذيّ وحسّنه وصحّحه عن ابن أبي عمر، عن سفيان عن ابن جدعان، عن الحسن، عن عمران بن حصينٍ (أنّه لمّا نزلت على النّبي صلّى الله عليه وسلّم: {يا أيّها النّاس اتّقوا ربّكم إنّ زلزلة السّاعة شيءٌ عظيمٌ} إلى قوله: {ولكنّ عذاب اللّه شديدٌ} الآية، قال: أنزلت عليه هذه وهو في سفرٍ؟ فقال: أتدرون... ) وساق حديثًا طويلًا. فاقتضى قوله: (أنزلت عليه وهو في سفرٍ؟) أنّ هذه السّورة أنزلت على النّبي صلّى الله عليه وسلّم بعد الهجرة فإنّ أسفاره كانت في الغزوات ونحوها بعد الهجرة.
وفي روايةٍ عنه (أنّ ذلك السّفر في غزوة بني المصطلق من خزاعة) وتلك الغزوة في سنة أربعٍ أو خمسٍ، فالظّاهر من قوله: (أنزلت وهو في سفرٍ) أنّ عمران بن حصينٍ لم يسمع الآية إلّا يومئذٍ فظنّها أنزلت يومئذٍ فإنّ عمران بن حصينٍ ما أسلم إلّا عام خيبر وهو عام سبعةٍ، أو أنّ أحد رواة الحديث أدرج كلمة (أنزلت عليه وهو في سفرٍ) في كلام عمران بن حصينٍ ولم يقله عمران. ولذلك لا يوجد هذا اللّفظ فيما روى التّرمذيّ وحسّنه وصحّحه أيضًا عن محمّد بن بشّارٍ، عن يحيى بن سعيدٍ عن هشام بن أبي عبد اللّه عن قتادة، عن الحسن، عن عمران بن حصينٍ قال: (كنّا مع النّبي في سفرٍ فرفع صوته بهاتين الآيتين: {يا أيّها النّاس اتّقوا ربّكم إنّ زلزلة السّاعة شيءٌ عظيمٌ} إلى قوله: {ولكنّ عذاب اللّه شديدٌ} إلى آخره).
فرواية قتادة عن الحسن أثبت من رواية ابن جدعان عن الحسن؛ لأنّ ابن جدعان واسمه عليّ بن زيدٍ قال فيه أحمد وأبو زرعة: ليس بالقويّ.
وقال فيه ابن خزيمة: سيّء الحفظ، وقد كان اختلط فينبغي عدم اعتماد ما انفرد به من الزّيادة.
وروى ابن عطيّة عن أنس بن مالكٍ أنّه قال: (أنزل أوّل هذه السّورة على رسول اللّه في سفرٍ)، ولم يسنده ابن عطيّة.
وذكر القرطبيّ عن الغزنويّ أنّه قال: سورة الحجّ من أعاجيب السّور نزلت ليلًا ونهارًا، سفرًا وحضرًا، مكّيًّا ومدنيًّا، سلميًّا وحربيًّا، ناسخًا ومنسوخًا، محكمًا ومتشابهًا). [التحرير والتنوير: 17/180-183]م