سورة البقرة
[من الآية (283) إلى الآية (284) ]
{وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)}
قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (فرهانٌ مقبوضةٌ... (283).
قرأ ابن كثير وأبو عمرو: (فرهنٌ) بغير الألف.
وقرأ الباقون: (فرهانٌ) بالألف.
قال أبو منصور: من قرأ (فرهنٌ) أراد أن يفصل بين الرهان في الخيل وبين الرهن: جمع الرّهن.
وقال الفراء: رهن: جمع الرّهان.
[معاني القراءات وعللها: 1/236]
وقال غيره: رهن ورهن، مثل: سقف وسقف.
ومن قرأ: (فرهانٌ) فهو جمع رهن.
وأنشد أبو عمرو في الرهن:
بانت سعاد وأمسى دونها عدن... وغلّقت عندها من قبلك الرّهن
وأخبرني المنذري عن الحسن بن فهم عن ابن سلام عن يونس قال: الرّهن والرّهان واحد، عربيتان.
والرّهن في الرّهن أكثر، والرّهان في الخيل أكثر.
وأخبرني المنذري عن أحمد بن يحيى قال: الاختيار (رهان) مثل: كبشٍ وكباشٍ وحبلٍ وحبالٍ وما أشبههما.
قال: (ورهن) قراءة ابن عباس). [معاني القراءات وعللها: 1/237]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (47- وقوله تعالى: {فرهان مقبوضة} [283]
قرأ ابن كثير وأبو عمرو (فرهن).
وقرأ الباقون (فرهان) وهما جمعان فـ (رَهْن) و(رهان) كبحر وبحار، وأما «رهن» فقال أهل الكوفة: أن رهانًا جمع رهن، ثم جمع الرهان رهنًا، فهو جمع الجمع). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/105]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (48- وقوله تعالى: {فليؤد الذي اؤتمن} [283]
قرأ حمزة وعاصم في رواية أبي بكر بضم الهمزة وهو خطأ.
وقرأ الباقون بإسكان الهمزة، وهو الصواب؛ لأن وزنه افتعل فالهمزة فاء الفعل، وهي ساكنة، فإذا ابتدأت على همزة قلت: أأتمن بهمزتين.
والباقون يكرهون اجتماع همزتين فيقلبون الثانية واوًا فيبدلون أوتمن). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/105]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في ضمّ الرّاء وكسرها وإدخال الألف وإخراجها، وضمّ الهاء وتخفيفها من قوله تعالى: فرهن مقبوضة [البقرة/ 283].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو: فرهن، واختلف عنهما
[الحجة للقراء السبعة: 2/442]
فروى عبد الوارث وعبيد بن عقيل عن أبي عمرو:
فرهن ساكنة الهاء.
وروى اليزيديّ عنه فرهن بضم الهاء. وروى عبيد بن عقيل عن شبل ومطرّف الشّقريّ عن ابن كثير فرهن ساكنة الهاء.
وروى قنبل عن النبال والبزّيّ عن أصحابهما، ومحمد بن صالح المرّيّ عن شبل عن ابن كثير: فرهن
[الحجة للقراء السبعة: 2/443]
مضمومة الهاء.
وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي فرهانٌ بألف مكسورة الراء.
قال أبو علي: قال أبو زيد: رهنت عند الرجل رهنا ورهنته رهنا، فأنا أرهنه: إذا وضعته عنده. وارتهن فلان من رجل رهنا ارتهانا: إذا أخذه منه، وقد أرهنت في السلعة من مالي حتى أدركتها إرهانا، وذلك إذا غاليت بها في الثمن، فالارتهان- في المغالاة وفي القرض والبيع-: الرّهن، قال الشاعر:
يطوي ابن سلمى بها عن راكب بعداً... عيديّة أرهنت فيها الدّنانير
[الحجة للقراء السبعة: 2/444]
كأنّها بحسير الرّيح صادية... وقد تحرّز ملحرّ
اليعافير وأرهنّا بيننا خطراً إرهانا، وهو أن يبذلوا من الخطر ما يرضى به القوم بالغا ما بلغ، فيكون لهم سبقا، وأخطرت لهم خطراً إخطاراً وهو مثل الإرهان. وأنشد غير أبي زيد للعجاج:
وعاصما سلّمه من الغدر... من بعد إرهان بصمّاء الغبر
فقال بعض أصحاب الأصمعي: إرهان: إثبات وإدامة.
ويقال: أرهن لهم الشرّ أي أدامه، وقال أبو موسى: رهن لهم، أي: دام، وأنشد:
[الحجة للقراء السبعة: 2/445]
والخبز واللحم لهم راهن فقد فسروا الرهن بالإثبات والإدامة، فمن ثم يبطل الرهن إذا خرج من يد المرتهن بحق لزوال إدامة الإمساك، والرّهن الذي يمسكه المرتهن توثقة لاستيفاء ماله من الراهن: اسم مصدر كما كان الكتاب كذلك في قوله تعالى: وكتابه [التحريم/ 12] وهذه المصادر إذا نقلت فسمّي بها يزول عنها عمل الفعل، وذلك فيها إذا صارت على ما ذكرنا بيّن، إذ لم يعملوا من المصادر ما كثر استعمالهم له، كما ذهب إليه في قولهم: لله درّك، وتمثيله إياه بقولهم: لله بلادك، فإذا قال:
رهنت زيداً رهناً وارتهنت رهنا، فليس انتصابه انتصاب المصدر، ولكن انتصاب المفعول به كما تقول: رهنت زيداً ثوباً، ورهنته ضيعة.
وقد قالوا في هذا المعنى: أرهنته، وفعلت فيه أكثر.
قال الأعشى:
حتى يفيدك من بنيه رهينة... نعش ويرهنك السّماك الفرقدا
وقال آخر:
فلمّا خشيت أظافيره... نجوت وأرهنتهم مالكا
[الحجة للقراء السبعة: 2/446]
وقال آخر:
يراهنني فيرهنني بنيه... وأرهنه بنيّ بما أقول
فرهنت في كل هذه الأبيات قد تعدى إلى مفعولين، فكذلك إذا قال: رهنت زيداً رهناً، فالرهن مصدر، ولمّا نقل فسمّي به ما ذكرت كسّر كما تكسّر الأسماء، كما كسّر غيره من المصادر المسمى بها.
وتكسير رهن على أقل العدد لم أعلمه جاء، ولو جاء لكان قياسه أفعل، مثل كلب وأكلب، وفلس وأفلس، وكأنّه استغني ببناء الكثير عن القليل كما استغني ببناء الكثير عن القليل في قولهم: ثلاثة شسوع، وكما استغني ببناء القليل عن بناء الكثير في نحو: رسن وأرسان، فرهن جمع على بناءين من أبنية الجموع، وهو فعل وفعال وكلاهما من أبنية الكثير فممّا جاء على فعل. قول الأعشى:
آليت لا أعطيه من أبنائنا... رهنا فيفسدهم كمن قد أفسدا
فرهن: جمع رهن، ثم يخفّف العين كما خفّف في
[الحجة للقراء السبعة: 2/447]
رسل وكتب ونحو ذلك فقيل: رسل وكتب. ومثل رهن ورهن، سقف وسقف، وفي التنزيل: لبيوتهم سقفاً من فضّةٍ [الزخرف/ 33] ومثل تخفيفهم الرّهن وقولهم: رهن؛ أنّهم جمعوا أسداً على أسد، ثم خفّفوا فقالوا: أسد قال:
كأنّ محرّبا من أسد ترج... ينازلهم لنابيه قبيب
ومثل رهن ورهن فيما حكاه أبو الحسن: لحد القبر، ولحد، وقلب وقلب، لقلب النخلة، وقالوا: ثطّ، وثطّ، وورد وورد، وسهم حشر، وسهام حشر.
فإن قلت: أيجوز أن يكون رهان جمع رهن، ولا يكون جمع رهن. فالقول: إنّ سيبويه لا يرى جمع الجمع مطّرداً، فينبغي أن لا يقدم عليه حتى يعلم، فإذا كان رهن قد صار مثل كعب، وكلب، قلنا: إنّ «رهان» مثل كعب وكعاب، ولم يجعله جمع الجمع إلّا بثبت. فإن قلت: إنّهم
[الحجة للقراء السبعة: 2/448]
قد جمعوا فعلا في قولهم: طرقات وجزرات، وحكى أبو عثمان أنّ الرّياشي حكى أنّه سمع من يقول: عندنا معنات، فإذا جمعوه هذا الجمع جاز أن يكسّر أيضاً لاجتماع البابين في التكسير والتصحيح في أنّ كلّ واحد منهما جمع فهذا قياس، التوقف عنه نراه أولى، وقد ذهب إليه ناس. وكذلك لو قال:
إنّ فعل مثل فعال، في أنّ كلّ واحد منهما بناء للعدد الكثير، وقد كسّروا «فعالًا» في نحو قول ذي الرّمة.
وقرّبن بالزّرق الجمائل بعد ما... تقوّب عن غربان أوراكها الخطر
فيكون رهان جمع رهن لا جمع رهن، وجمعوا فعلًا، على فعال، كما جمعوا فعالًا على فعائل في قولهم: جمائل، لم نر هذا القياس؛ لأنّه إذا جمع شيء من هذا لم يجز قياس الآخر عليه عنده، حتى يسمع، وليست الجموع عنده في هذا كالآحاد.
[الحجة للقراء السبعة: 2/449]
قال أحمد بن موسى: قرأ حمزة وعاصم في رواية يحيى بن آدم عن أبي بكر عن عاصم وحفص عن عاصم الّذي اؤتمن [البقرة/ 283] بهمزة وبرفع الألف، ويشير بالضم إلى الهمز.
قال أحمد: وهذه الترجمة غلط.
وقرأ الباقون: الذي ائتمن الذال مكسورة، وبعدها همزة ساكنة بغير إشمام الضمّ، وهذا هو الصواب الذي لا يجوز غيره.
وروى خلف وغيره عن سليم عن حمزة: الّذي اؤتمن، يشمّ الهمزة الضمّ، وهذا خطأ أيضاً، لا يجوز إلّا بتسكين الهمزة.
قال أبو علي: لا تخلو الحركة التي أشمّوها الهمزة من أن تكون لنفس الحرف، أو تكون حركة حرف قبل الهمزة أو بعدها: فلا يجوز أن تكون الحركة لنفس الحرف الذي هو الهمزة، لأنّ الحرف ساكن لا حظّ له في الحركة، وذلك أن اؤتمن افتعل من الأمان، والفاء من افتعل ساكنة في جميع الكلام صحيحه ومعتلّه، تقول: اقتتل اقترع، ايتكل، ايتجر، اختار، انقاد، اتّعد، ارتدّ، اتّزن، فتكون فاء افتعل في
[الحجة للقراء السبعة: 2/450]
جميع هذه الأبنية ساكنة، ولا يجوز أن تكون حركة حرف قبلها لأنّ حركة ما قبل لم تلق على ما بعد في شيء علمناه، كما تلقى حركة الحرف على ما قبله في نحو: استعدّ، واستمرّ، وقيل، واختير، وردّ، والخب ونحوه.
فإذا لم يكن لشيء من هذه الأقسام مساغ ثبت أن الحركة لا تجوز فيها على الإشمام، كما لا تجوز فيها على الإشباع، فإن قيل: إن هذا الإشمام إنّما هو ليعلم أنّ قبلها همزة وصل مضمومة، وذلك أنّك إذا ابتدأت قلت: اؤتمن.
قيل: فهذا يلزم قائله أن يقول في نحو: إلى الهدى ائتنا [الأنعام/ 71] أن يشير إلى الهمز بالكسر، وكذلك يلزمه أن يشير إلى الكسر في قوله: فأتنا بما تعدنا [الأعراف/ 70] وفي قوله تعالى: ومنهم من يقول ائذن لي [التوبة/ 49] ونحو ذلك أن يشير إلى الكسر في الهمز لأنّ قبل الهمزة في كل ذلك في الابتداء همزة مكسورة كما كانت في قوله اؤتمن في الاستئناف همزة مضمومة. فإن مرّ على قياس هذا الذي لزم كان مارّاً على خطأ وآخذاً به من غير وجه. ومن ذلك أنّ الحرف الذي بعد الحرف لا يحرّك بحركة ما قبله، كما يحرّك الحرف الذي قبل الحرف لحركة الحرف الذي بعده نحو:
[الحجة للقراء السبعة: 2/451]
يستعدّ، ويهدي [يونس/ 35] والخبء [النمل/ 25] ونحو ذلك. ولو جاز ذلك في كلامهم، لم يلزم في هذا الموضع في الإدراج؛ وذلك أنّ همزة الوصل تسقط في الإدراج، فإذا سقطت سقطت حركتها، ولم تبق الحركة بعد سقوط الحرف، فإذا كان كذلك لم يجز أن تقدّر إلقاء حركة ما قبلها عليها لأنّها ليس قبلها شيء وإذا لم
يجز ذلك، تبيّن أن الهمزة لا وجه لها إلّا السكون، كما ذهب الآخرون إليه غير عاصم وحمزة من إسكانها. إلّا أنه يجوز في الهمزة التخفيف والتحقيق فمن خفف: الّذي اؤتمن قال:
الذيتمن، فحذف الياء من الذي لالتقائها ساكنة مع فاء افتعل، لأنّ همزة الوصل قد سقطت للإدراج، فيصير: ذيتمن بمنزلة: بير، وذيب، وإن حقّق كان بمنزلة من حقّق الذئب والبئر.
[الحجة للقراء السبعة: 2/452]
وليس إشمام الحركة الهمزة في قوله الّذي اؤتمن كإشمام أبي عمرو فيما حكى سيبويه من قراءاته قوله: يا صالح يتنا [الأعراف/ 77] لأنّه أشمّ الحركة التي على الحاء، ولها حركة هي الضمة، ولا حركة للهمزة في: الّذي اؤتمن.
ولم يقلب أبو عمرو الياء التي أبدلت من الهمزة التي هي فاء واواً لتشبيهه المنفصل بالمتصل نحو: قيل. ولا يلزمه على هذا أن يقول ومنهم من يقول: ائذن لي لأنّه إنّما فعل ذلك في حركة بناء وحركة البناء في النداء المفرد كحركة البناء في قيل. فإذا فعل ذلك في حركة البناء، لم يلزمه أن يجري حركة الإعراب كحركة البناء، ومن شبّه حركة الإعراب بحركة البناء، وهو قياس قول سيبويه لزمه أن يشمّ الضمة في يقول الكسرة كما جاء ذلك في قيل. ولعل أبا عمرو يفصل بينهما كما فصل غيره من النحويين. وليس ذلك أيضاً كما حكاه أبو الحسن من أن بعضهم قال في القراءة: في القتلى الحرّ [البقرة/ 178] فأشمّ الفتحة التي على اللام التي هي لام الفعل من القتلى الكسرة، كما كان يميله، والألف التي في القتلى ثابتة، لأنّ الألف التي في القتلى حذفت لالتقاء الساكنين. وقد وجدت الحذف لالتقاء الساكنين في حكم الثبات، ألا ترى أنّهم أنشدوا:
[الحجة للقراء السبعة: 2/453]
فألفيته غير مستعتب ولا... ذاكر
الله إلّا قليلًا فنصبوا الاسم مع حذف التنوين كما كانوا ينصبون مع إثباته لما كان المحذوف في حكم الإثبات.
فكذلك الألف في «القتلى» في حكم الإثبات، وإذا كان في حكمه جازت إمالة الفتحة مع حذف الألف كما جازت إمالتها مع ثباتها. ونظير ذلك من كلامهم قولهم: صعقيّ، ألا ترى أنّه إنّما كسرت الصّاد لمكان كسرة العين، ثم انفتح ما كانت الفاء كسرت لكسرته فبقيت الفاء على كسرتها، فكذلك الفتحة في «القتلى» أميلت لمكان الألف، ثم ارتفع ما كان أميلت له الفتحة، وذهب، فبقيت اللّام على إمالة فتحتها كما بقيت الفاء في صعقي على كسرتها). [الحجة للقراء السبعة: 2/454]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة}
[حجة القراءات: 151]
قرأ ابن كثير وأبو عمرو (فرهن) برفع الرّاء والهاء وحجتهما ما روي عن أبي عمرو أنه قال إنّما قرئت (فرهن) ليفصل بين الرّهان في الخيل وبين جمع رهن في غيرها تقول في الخيل راهنته رهانا والرّهن جمع رهن وهو نادر كما تقول سقف وسقف وقال الفراء الرّهن جمع الجمع رهن ورهان ثمّ رهن كما تقول ثمرة وثمار وثمر
وقرأ الباقون {فرهان} وحجتهم أن هذا في العربيّة أقيس أن يجمع فعل على فعال مثل بحر وبحار وعبد وعباد ونعل ونعال وكلب وكلاب). [حجة القراءات: 152]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (214- قوله: {فرهان} قرأه أبو عمرو وابن كثير بضم الراء والهاء، من غير ألف، وقرأ الباقون بكسر الراء، وبألف بعد الهاء.
215- وحجة من قرأ بغير ألف أنه جمع «رهنا» على «رهن» كـ «سقْف» و«سُقف» و«نَحْر» و«نُحُر»، وكان قياسه «أرهانا» في أقل العدد، ولكن استغنوا بالكثير عن القليل، كما استغنوا بالقليل عن الكثير، في قوله: «رسن وأرسان»، وأصل «رهن» المصدر في قولهم: «رهينة» فهو في موضع قولهم: رهينة ثوبًا. فلما وقع موقع الاسم جمع، كما تجمع الأسماء، ولما استغنوا فيه في الجمع ببناء الكثير عن القليل، استعوا فيه، فأتوا بجمعه على بناءين للتكثير، فقالوا: رهْن ورهُن، كسقْف، وسقف، وقالوا: رهن ورهان، ككعب وكعاب، وبغل وبِغال، ونعل ونِعال، وهو في جمع «فعْل» كثير في الكلام، وجمع «فعْل» على
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/322]
«فُعُل» قليل في الكلام، إنما أتى منه أشياء نوادر في الكلام، فحمل على الأكثر، وهو فِعال، وهو الاختيار). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/323]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (111- {فَرِهَانٌ} [آية/ 283]:-
بضم الراء والهاء من غير ألف، قرأها ابن كثير وأبو عمرو.
وذلك لأن فعلاً بفتح الفاء وسكون العين قد يجمع على فعل بضم الفاء والعين جمع الكثير نحو: سقف وسقف، وقال الفراء: هو جمع رهانٍ.
[الموضح: 354]
وقرأ الباقون {فَرِهانٌ} بالألف وكسر الراء.
وهو أيضًا جمع رهنٍ، مثل: كلب وكلاب وحبل وحبال، فهو من أبنية الكثير أيضًا). [الموضح: 355]
قوله تعالى: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (فيغفر لمن يشاء ويعذّب من يشاء... (284).
قرأ ابن عامر وعاصم ويعقوب: (فيغفر لمن يشاء ويعذّب من يشاء) بالرفع.
وقرأ الباقون بجزم الراء والباء.
قال أبو منصور: من قرأ (يعذّب مّن يشاء) أدغم الباء من (يعذّب) في الميم من (مّن يشاء).
[معاني القراءات وعللها: 1/237]
وأخبرني المنذري عن أحمد بن يحيى وسئل عن قوله (فيغفر لمن يشاء ويعذّب من يشاء) قال: من جزم رده على الجزم في قوله: (يحاسبكم).
قال: وهو الاختيار عندي.
قال: ومن رفع فهو على الاستئناف.
قال أبو العباس: إنما اخترت الجزم لأنه يدخل في تكفير الذنوب إذا كان جوابا لقوله: (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه) ومن رفع لم يجعله جوابًا لهذا الشرط). [معاني القراءات وعللها: 1/238]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (49- وقوله تعالى: {فيغفر لمن يشاء} [284].
قرأ عاصم وابن عامر (فيغفر) بالرفع.
وقرأ الباقون بالجزم نسقًا على يحاسبكم، ومن رفعه جعله مستأنفًا). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/105]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (واختلفوا في الجزم والرفع من قوله تعالى: فيغفر لمن يشاء، ويعذّب من يشاء [البقرة/ 284].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي: فيغفر لمن يشاء، ويعذّب من يشاء جزماً.
وقرأ ابن عامر وعاصم: فيغفر لمن يشاء، ويعذّب من يشاء رفعاً.
[الحجة للقراء السبعة: 2/463]
قال أبو علي: وجه قول من جزم أنّه أتبعه ما قبله، ولم يقطعه منه وهذا أشبه بما عليه كلامهم، ألا ترى أنّهم يطلبون المشاكلة، ويلزمونها؟ فمن ذلك أنّ ما كان معطوفاً على جملة، من فعل وفاعل، واشتغل عن الاسم الذي من الجملة التي يعطف عليها الفعل، يختار فيه النصب ولو لم يكن قبله الفعل والفاعل لاختاروا الرفع، وعلى هذا ما جاء من هذا النحو في التنزيل نحو قوله تعالى: وكلًّا ضربنا له الأمثال [الفرقان/ 39]، وقوله تعالى: فريقاً هدى وفريقاً حقّ عليهم الضّلالة [الأعراف/ 30] وقوله: يدخل من يشاء في رحمته والظّالمين أعدّ لهم عذاباً أليماً [الإنسان/ 31] فكذلك ينبغي أن يكون الجزم أحسن ليكون مشاكلًا لما قبله في اللفظ [ولم يخلّ من المعنى بشيء]. وكذلك إذا عطفوا فعلًا على اسم أضمروا قبل الفعل «أن»، ليقع بذلك عطف اسم على اسم، لأنّ الاسم بالاسم أشبه من الفعل بالاسم، كما أن جملة من فعل وفاعل أشبه بجملة من فعل وفاعل. من جملة من مبتدأ وخبر بجملة من فعل وفاعل فلهذا ما جاء ما كان من نحو: وكلًّا ضربنا له الأمثال [الفرقان/ 39] في التنزيل بالنصب. وهذا النحو من طلبهم المشاكلة كثير. ومن لم يجزم
[الحجة للقراء السبعة: 2/464]
قطعه من الأول، وقطعه منه على أحد وجهين إما أن يجعل الفعل خبراً لمبتدإ محذوف فيرتفع الفعل لوقوعه موقع خبر المبتدأ، وإمّا أن يعطف جملة من فعل وفاعل على ما تقدمها.
[تمّ الكلام في سورة البقرة والحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى]). [الحجة للقراء السبعة: 2/465]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك ما رواه الأعمش قال: في قراءة ابن مسعود: [يحاسِبْكم به الله يغفرْ لمن يشاء ويعذبْ من يشاء] جزمٌ بغير فاء.
قال أبو الفتح: جزم هذا على البدل من [يحاسبكم] على وجه التفصيل لجملة الحساب، ولا محالة أن التفصيل أوضح من المفصَّل، فجرى مجرى بدل البعض أو الاشتمال، والبعض
[المحتسب: 1/149]
كضربت زيدًا رأسه، والاشمال كأُحب زيدًا عقله. وهذا البدل ونحوه واقع في الأفعال وقوعه في الأسماء لحاجة القبيلين إلى البيان، فمن ذلك قول الله سبحانه: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا، يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا}؛ لأن مضاعفة العذاب هو لُقِيُّ الأثام، وعله قوله:
رُويدًا بني شيبان بعض وعيدكم ... تُلاقوا غدا خيلي على سَفَوان
تلاقوا جيادًا لا تَحيد عن الوغى ... إذا ما غَدَت في المأزِق المتداني
تلاقوهم فتعوفوا كيف صبرهم ... على ما جَنَتْ فيهم يدا الحدثان
فأبدل تلاقوا جيادًا من قوله: تلاقوا غدا خيلي، وجاز إبداله منه للبيان وإن كان من لفظه وعلى مثاله؛ لما اتصل بالثاني من قوله: جيادًا لا تحيد عن الوغى، وأبدل تلاقوهم من تلاقوا جيادًا؛ لما اتصل به من المعطوف عليه وهو قوله: "فتعلموا كيف صبرهم"، وإذا حصلت فائدة البيان لم تُبل أَمِنْ نفس المبدل كانت، أم مما اتصل به فضلةً عليه، أم من معطوف مضموم إليه؟ فإن أكثر الفوائد إنما تجتنى من الألحاق والفضلات. نعم، وما أكثر ما تُصْلِحُ الجمل وتتممها، ولولا مكانها لَوَهتْ فلم تستمسك.
ألا تراك لو قلت: زيد قامت هند لم تتم الجملة؟ فلو وصلت بها فضلة ما لتمت؛ وذلك كأن تقول: زيد قامت هند في داره، أو معه، أو بسببه، أو لتكرمه، أو فأكرمته، أو نحو ذلك، فصحت المسألة؛ لعود الضمير على المتبدأ من الجملة. وعليه قول كثير فيما أظن:
وإنسان عيني يحسر الماء تارة ... فيبدو وتاراتٍ يَجُم فيغرَق
فبالمعطوف على يحسر الماء ما تمت الجملة، وفي هذا بيان). [المحتسب: 1/150]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء}
قرأ عاصم وابن عامر {فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء} برفع الرّاء والباء على الاستئناف
وحجتهم أن قوله {إن تبدوا} شرط {يحاسبكم} جزم لأنّه جواب وقد تمّ الكلام فيرفع فيغفر ويعذب على تقدير ضمير فهو يغفر ويعذب
وقرأ الباقون بالجزم فيهما عطف على يحاسبكم به الله). [حجة القراءات: 152]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (216- قوله: {فيغفر}، {ويعذب} قرأهما ابن عامر وعاصم بالرفع، وجزمهما الباقون.
217- وحجة من جزم أنه عطفه على «يحاسبكم» الذي هو جواب الشرط فهو أقرب للمشاكلة، بين أول الكلام وآخره.
218- وحجة من رفع أن الفاء يستأنف ما بعدها، فرفع على القطع مما قبله إما أن يكون أضمر مبتدأ على تقدير: فالله يغفر ويعذب، فيكون جملة من ابتداء وخبر، معطوفة على جملة، من فعل وفاعل، ويجوز أن يكون الفعل مقدرًا، فتكون جملة معطوفة من فعل وفاعل على مثلها، والتقدير على هذا: فيغفر الله لمن يشاء ويعذب من يشاء، والجزم هو الاختيار، لاتصال الكلام، ولأن عليه أكثر القراء). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/323]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (112- {فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ} [آية/ 284]:-
بالرفع فيهما، قرأها ابن عامر وعاصم ويعقوب.
ووجه ذلك أنه استئناف، وتقديره: فهو يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء، وليس بعطفٍ على الفعل المجزوم الذي قبله.
وقرأ الباقون بالجزم فيهما.
وذلك لأن هذا الفعل إذا جزم كان معطوفًا على ما قبله، وهو {يُحاسِبْكُمْ} المجزوم بأنه جواب الشرط، وهذا أولى؛ لأنه يدخل في شبه ما قبله، وهم يطلبون المشاكلة في الكلام). [الموضح: 355]
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين