تفاسير القرن السادس الهجري
تفسير قوله تعالى: {وَمِنْ آَيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) }
قال عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي (ت:546هـ) : (و"الجواري": جمع جارية، وهي السفينة، وقرأ: "الجواري" بالياء نافع، وعاصم، وأبو جعفر، وشيبة، ومنهم من أثبتها في الوصل ووقف على الراء، وقرأ أيضا عاصم بحذف الياء في وصل ووقف، وقال أبو حاتم: نحن نثبتها في كل حال، و"الأعلام": الجبال، ومنه قول الخنساء:
وإن صخرا لتأتم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار
ومنه المثل: "إذا قطعن علما بدا علم"، فجري السفن في الماء آية عظيمة، وتسخير الريح لذلك نعمة منه تعالى، وهو لو شاء أن يسكن الريح عنها لركدت، أي: أقامت وقرت ولم يتم منها غرض، وقرأ أبو عمرو، وعاصم: "الريح" واحدة، وقرأ: "الرياح" نافع، وابن كثير، والحسن، وقرأ الجمهور: "فيظللن" بفتح اللام، وقرأ قتادة: "فيظللن" بكسر اللام، وباقي الآية بين، فيه الموعظة، وتشريف الصبار الشكور بالتخصيص، والصبر والشكر فيهما الخير كله، ولا يكونان إلا في عالم). [المحرر الوجيز: 7/ 519-520]
تفسير قوله تعالى: {أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35)}
قال عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {أو يوبقهن بما كسبوا ويعف عن كثير * ويعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص * فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون * والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون * والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون}
أوبقت الرجل: إذا أنشبته في أمر يهلك فيه، فالإيباق في السفن هو تغريقها، والضمير في: "كسبوا" هو لركابها من البشر، أي: بذنوب البشر، ثم ذكر تعالى ثانية: {ويعف عن كثير} مبالغة وإيضاحا،
وقرأ نافع، وابن عامر، والأعرج، وأبو جعفر، وشيبة: "ويعلم" بالرفع على القطع والاستئناف، وحسن ذلك إذا جاء بعد الجزاء. وقرأ الباقون والجمهور: "ويعلم" بالنصب على تقدير: "أن"، وهذه الواو ونحوها هي التي يسميها الكوفيون "واو الصرف"، لأن حقيقة واو الصرف هي التي تريد بها عطف فعل على اسم، فيقدر "أن" لتكون مع الفعل بتأويل المصدر فيجيء عطفه على الاسم، وذلك نحو قول الشاعر:
... ... ... ... .... تقضي لبانات ويسأم سائم
فكأنه أراد: وسآمة سائم، فقدر: "وأن يسأم" ليكون ذلك بتأويل المصدر الذي هو "سآمة"، قال أبو علي: حسن النصب إذا كان قبله شرط وجزاء، وكل واحد منهما غير واجب.
وقوله تعالى: {ما لهم من محيص} هو معلومهم الذي أراد أن يعلمه المجادلون في آياته عز وجل، و"المحيص": المنجى وموضع الروغان، يقال: حاص إذا راغ، وفي حديث هرقل: "فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب"). [المحرر الوجيز: 7/ 520-521]
تفسير قوله تعالى: {فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) }
قال عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي (ت:546هـ) : (ثم وعظ تعالى عباده وحقر عندهم أمر الدنيا وشأنها، ورغبهم فيما عنده من نعيمهم والمنزلة الرفيعة لديه، وعظم قدر ذلك في قوله تعالى: {فما أوتيتم من شيء} الآية.
وقوله تعالى: {والذين يجتنبون} عطف على قوله تعالى: "الذين آمنوا"، وقرأ جمهور الناس: "كبائر" على الجمع، قال الحسن: هي كل ما توعد فيه بالنار، وقال الضحاك: أو كان فيه حد من الحدود، وقال ابن مسعود رضى الله عنه: الكبائر من أول سورة النساء إلى رأس ثلاثين آية، وقال علي بن أبي طالب وابن عباس رضى الله عنهم: هي كل ما ختمه الله تعالى بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب، وقرأ حمزة، والكسائي، وعاصم: "كبير" على الإفراد الذي هو اسم الجنس، وقال ابن عباس رضى الله عنهما: كبير الإثم: هو الشرك والفواحش، قال السدي: الزنى، وقال مقاتل: موجبات الحدود، ويحتمل أن يكون "كبير" اسم جنس بمعنى "كبائر"، فتدخل فيه الموبقات السبع على ما قد تفسر من أمرها في غير هذه الآية.
وقوله تعالى: {وإذا ما غضبوا هم يغفرون} حض على كسر الغضب والتدرب في إطفائه، إذ هو جمهرة من جهنم، وباب من أبوابها، وقال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني، قال: "لا تغضب"، قال: زدني، قال: "لا تغضب"، قال: زدني، قال: "لا تغضب"، ومن جاهد هذا العارض من نفسه حتى غلبه فقد كفي هما عظيما في دنياه وآخرته). [المحرر الوجيز: 7/ 521-522]
تفسير قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) }
قال عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {والذين استجابوا لربهم} مدح لكل من آمن بالله تعالى وقبل شرعه، ومدح تعالى القوم الذين أمرهم شورى بينهم، لأن في ذلك اجتماع الكلمة والتحاب واتصال الأيدي والتعاضد على الخير، وفي الحديث: "ما تشاور قوم إلا هدوا لأحسن ما بحضرتهم"، وقوله تعالى: {ومما رزقناهم ينفقون} معناه: في سبيل الله وبرسم الشرع وعلى حدوده في القوام الذي مدحه الله تعالى في غير هذه الآية.
وقال ابن زيد: قوله تعالى: {والذين استجابوا لربهم} الآية نزلت في الأنصار، والظاهر أن الله تعالى مدح كل من اتصف بهذه الصفة كائنا من كان، وهل حصل الأنصار في هذه الصفة إلا بعد سبق المهاجرين إليها؟ رضي الله تعالى عن جميعهم بمنه).[المحرر الوجيز: 7/ 522-523]