أقوال العلماء في المراد بالعالمين:
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (أقوال العلماء في المراد بالعالمين:
كان ما تقدّم من التفسير مبناه على اعتماد القول الراجح، إلا أنه ينبغي لطالب علم التفسير أن يكون على معرفة بأقوال العلماء في هذه المسألة، وأن يعرف سبب الاختلاف، ومآخذ الأقوال وحججها وأحكامها.
ومن ذلك أن المفسّرين اختلفوا في المراد بالعالمين في هذه الآية على أقوال كثيرة أشهرها قولان صحيحان:
القول الأول: المراد جميع العالَمين، على ما تقدّم شرحه، وهو قول أبي العالية الرياحي، وقتادة، وتبيع الحميري، وقال به جمهور المفسّرين.
والقول الثاني: المراد بالعالمين في هذه الآية: الإنس والجنّ، وهذا القول مشتهر عن ابن عباس رضي الله عنهما وأصحابه سعيد بن جبير، ومجاهد بن جبر، وعكرمة، وروي أيضاً عن ابن جريج.
وقد رواه ابن جرير وابن أبي حاتم وغيرهما من طرق عن قيس بن الربيع، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قول الله عزّ وجلّ: {ربّ العالمين} قال: (ربّ الجنّ والإنس).
وقيس بن الربيع الأسدي مختلف فيه، كان شعبة يُثني عليه، وقال عفّان: ثقة، وليَّنه الإمام أحمد، وقال ابن معين: ليس بشيء، وقال النسائي: متروك.
وقد كان محمودَ الأمر لكنّه تولّى منصباً فساء حفظه ووقع في حديثه ما يُنكر.
قال محمد بن عبيد: (لم يكن قيس عندنا بدون سفيان، ولكنه استُعمل، فأقام على رجل الحدّ فمات، فطفى أمره).
والأقرب فيمن كان في مثل حاله أنه لا يقبل تفرّده، لكن هذا القول تعددت رواياته عن أصحاب ابن عباس؛ فروي عن سعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة بأسانيد لا تخلو من مقال ، لكن تعدد الروايات وتظافرها على هذا القول مع اختلاف مخارجها دليل على أنَّ هذا القول محفوظ عن أصحاب ابن عباس.
وقد استُدلّ له بقول الله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1)} ، والمراد بهم هنا المكلّفون من الإنس والجن.
وهذا القول صحيح المعنى والدلالة، وبيان ذلك بالجمع بين أمرين:
أحدهما: أن يكون التعريف في (العالمين) للعهد الذهني، وليس للجنس؛ فيكون هذا اللفظ من العامّ الذي أريد به الخصوص.
والآخر: أن يكون لفظ (ربّ) بمعنى (إله) ؛ كما في حديث سؤال العبد في قبره: من ربّك؟ أي: من إلهك الذي تعبده؟
فلفظ (الربّ) من معانيه (الإله المعبود) ، والله تعالى هو (الربّ) وهو (الإله) ، وما عبد من دون الله فليس بإلهٍ على الحقيقة، وليس برب على الحقيقة، وإنما اتُّخِذَ رباً، واتُّخِذَ إلها، كما في قوله تعالى: ﴿وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا﴾ وقوله تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾
قال عدي بن حاتم: (يا رسول الله إنا لسنا نعبدهم)... الحديث، ففهم عَديٌّ رضي الله عنه من هذا اللفظ معنى العبادة، لأن اتخاذ الشيء رباً معناه عبادته، إذ الربوبية تستلزم العبادة.
وقال شاعر جاهليّ كان يعبد صنماً فرأى ثعلباً يبول على رأس صنمه؛ فقال:
أرَبٌّ يبول الثُّعلبانُ برأسه .. لقد ذلّ من بالت عليه الثّعالبُ
والثعلبان: ذكر الثعالب.
فتبيَّن أن هذا القول المروي عن ابن عباس وأصحابه صحيح في نفسه، ولعلّ الصارف لهم إلى هذا المعنى اعتبار الخطاب للمكلّفين الذين هم الإنس والجنّ، كما قال تعالى: {وما خلقت الجنّ والإنس إلا ليعبدون}؛ فهم أولى من يراد بلفظ العالمين؛ لأنهم المكلفون بالعبادة.
فهذا توجيه هذا القول، لكن القول الأوّل أعمّ منه، وله دلالة صحيحة ظاهرة، وهو قول جمهور المفسّرين.
والاختلاف في بعض أوجه التفسير الصحيحة كالاختلاف في القراءات الصحيحة؛ فيجوز أن يستحضر القارئ أحد المعاني عند قراءته إذا لم يمكن الجمع بينها.
وفي هذه المسألة قول ثالث: وهو أن المراد بالعالمين "أصناف الخلق الرّوحانيّين، وهم الإنس والجن والملائكة، كلّ صنف منهم عالم"، وهذا قول ابن قتيبة الدينوري ونصّ عبارته في كتابه "تفسير غريب القرآن".
وهذا القول نسبه الثعلبي إلى أبي عمرو بن العلاء من غير إسناد، وعلى معنى آخر.
قال الثعلبي: (وقال أبو عمرو بن العلاء: هم الروحانيون، وهو معنى قول ابن عباس: كل ذي روح دبّ على وجه الأرض)ا.هـ.
ولا يصحّ هذا القول عن أبي عمرو بن العلاء، ولا ما ذكره الثعلبي عن ابن عباس.
وابن قتيبة قد اضطرب قوله في هذه المسألة في كتبه، ودعوى تخصيص المراد من غير حُجَّة معتبرة يُستند إليها دعوى باطلة.
وقد ذكر الثعلبي في هذه المسألة أقوالاً أخرى ضعيفة، وتبعه على ذكرها بعض المفسّرين، وقد أعرضت عنها لضعفها.
قال شيخ مشايخنا محمد الأمين الشنقيطي(ت:1393هـ) رحمه الله في تفسير سورة الفاتحة: (قوله تعالى: {رب العالمين} لم يبين هنا ما العالمون، وبين ذلك في موضع آخر بقوله: {قال فرعون وما رب العالمين . قال رب السماوات والأرض وما بينهما}).
وهذا من أحسن ما يُستدلّ به على ترجيح القول الأول). [تفسير سورة الفاتحة:160 - 164]