باب: مواضع كان
قال أبو الحسن علي بن محمد الهروي النحوي (ت: 415هـ):(باب: مواضع كان اعلم أن لـ «كان» أربعة مواضع:
تكون ناقصة: تحتاج إلى اسم وخبرٍ، كقولك: «كان زيد عالمًا»، و«كان عمروٌ جالسًا»، وما أشبه ذلك.
وتكون تامة: تكتفي بالاسم ولا تحتاج إلى خبرٍ، وذلك إذا كانت بمعنى «وقع» و«حدث»، وبمعنى: «خلق» كقولك: «كان الأمر» بمعنى: وقع الأمر وحدث، و«أنا أعرفه منذ كان» أي: منذ خُلق، و«إذا كان يوم العيد فائتني»، أي إذا حدث ووقع، ومنه قوله تعالى: {وإن كان ذو عسرةٍ فنظرة إلى ميسرة}، لم يأت لها بخبر، لأن المعنى: إن وقع ذو عسرةٍ
ومنه قوله تعالى: {فانظر كيف كان عاقبة المكذبين}، وكذلك قوله: {إلا أن تكون تجارة}، و{إن كانت واحدة}، و{إن كانت إلا صيحة واحدة}، في قراءة من رفع، ومنه قول الشاعر وهو الربيع ابن ضبعٍ:
إذا كان الشتاء فأدفئوني = فإن الشيخ يهدمه الشتاء
يعني: إذا حدث الشتاء ووقع، وقال ذو الرمة:
وعينان قال الله: كونا، فكانتا = فعولان بالألباب ما تفعل الخمر
المعنى: قال الله: أحدثا فحدثتا، و«فعولان» نعت للعينين، وإنما قال: «فعولان» ولم يقل: «فعولتان» و«العين» مؤنثة، لأنها «فعول» بمعنى «فاعل» و«فعول» بمعنى «فاعل» لا تدخل الهاء في نعت المؤنث، وقد أحكمنا شرح هذا في كتاب «المذكر والمؤنث»، وقال آخر وهو ابن أحمر الكناني:
وإذا تكون كريهة أدعى لها = وإذا يُحاس الحيس يُدعى جندب
يعني: إذا وقعت كريهة.
وقال مقاس العائذي:
فدًى لبني ذهل بن شيبان ناقتي = إذا كان يوم ذو كواكب أشهب
معناه: إذا وقع يوم أشهب ذو كواكب، و«كوكب كل شيء»: معظمه، ومن قرأ: {إلا أن تكون تجارة}، بالنصب فمعناه: إلا أن تكون التجارة تجارة، كما قال عمرو بن شأس:
بني أسدٍ هل تعلمون بلاءنا = إذا كان يومًا ذا كواكب أشنعا
نصب «يومًا» على خبر «كان» أراد إذا كان اليوم يومًا، يعني اليوم الذي يقع فيه القتال، فهذه التي لها اسمٌ وخبرٌ.
وأما قول مقاسٍ:
ألا أبلغ بني شيبان عني = فلا يك من لقائكم الوداعا
فإنما نصب «الوداع» على خبر «كان»، واسم «كان» مضمر كأنه قال: فلا يك حظي من لقائكم الوداعا.
والموضع الثالث: تكون «كان» زائدة ملغاة، كقولك: «ما كان أحسن زيدًا» المعنى: ما أحسن زيدًا، و«كان» زائدة ملغاة لا اسم لها ولا خبر، وإنما أدخلوها لتدل على أن ذلك قد مضى، ومثله: «إن زيدًا كان قائمٌ»، و«مررت برجلٍ – كان - قائم»، يريد: إن زيدًا قائمٌ، ومررت برجلٍ قائم، و«كان» زائدة للتوكيد لا اسم لها ولا خبر، قال الشاعر:
سراة بني أبي بكرٍ تسامى = على – كان – المسومة العراب
فخفض «المسومة» على إلغاء «كان» أراد على المسومة العراب، لأن حرف الجر لا يدخل على الفعل، وقال الفرزدق:
فكيف إذا مررت بدار قومٍ = وجيران لنا – كانوا – كرام
«كان» زائدة ها هنا لا اسم لها ولا خبر عند الخليل، أراد: وجيران لنا كرامٍ، جعل «كرامًا» نعتًا لـ «الجيران»، وألغى «كان» ولم يعلمها، والقصيدة مجرورة، ولو أعل «كان»، لقال: «كانوا كرامًا».
ورد المبرد هذا: وزعم أن «كان» لها اسمٌ وخبرٌ، فاسمها الواو التي فيها وخبرها «لنا» التي قبلها كأنه قال: وجيرانٍ، كانوا لنا، كرامٍ.
ومنه قوله تعالى: {كيف نكلم من كان في المهد صبيًا}، فـ «كان» ها هنا زائدة، و«الصبي» منصوب على الحال، لا بخبر «كان» والتقدير – والله أعلم -: كيف نكلم من في المهد صبيًا، أي: في حال الصبي، ولو انتصب بخبر «كان» لم يكن لعيسى عليه السلام فضل على سائر الناس، لأن جميع الناس كانوا في المهد صبيانًا، فالآية في أمر عيسى عليه السلام أنه كلم الناس في المهد صبيًا لا أنه كلمهم، وقد كان قبل ذلك في المهد صبيًا.
والموضع الرابع: تكون «كان» مضمرًا فيها اسمها بمعنى: الأمر والشأن والقصة ونحوها، وتقع بعد «كان» جملة يرفعونها بالابتداء والخبر، كقولك: «كان زيدٌ قائمٌ»، والتقدير: كان الأمر زيدٌ قائمٌ، فـ «الأمر» اسم «كان» وهو مستتر فيها و«زيدٌ» رفع بالابتداء، و«قائمٌ» خبره، والجملة خبر «كان»، وقد حكي عن العرب: «كان أنت خيرٌ منه» على الإضمار في «كان»، وقرأ أبو سعيد الخدري: (فكان أبواه مؤمنان)، ومنه قول العجير السلولي:
إذا مت كان الناس نصفان شامت = وآخر مُثنٍ بالذي كنت أصنع
هكذا أنشده سيبويه، يريد: إذا مت كان الأمر أو الشأن أو القصة: الناس نصفان فـ «الأمر» اسم «كان» وهو مضمر فيها وقوله: «الناس نصفان» ابتداءٌ وخبر في موضع نصبٍ لأنها جملة في موضع خبر «كان»، و«شامت وآخر» بدل من قوله: «نصفان» يريد: أحدهما نصفان، وأنشده الفراء: «كان الناس نصفين» بالنصب على خبر «كان» وقال عبد بني الحساس في مثله:
أمن سمية دمع العين مذروف = أم كان ذا منك قبل اليوم معروف
وقال هشام أخو ذي الرمة:
هي الشفاء لدائي لو ظفرت بها = وليس منها شفاء الداء مبذول
جعل اسم «ليس» مستترًا فيها، والتقدير: ليس الأمر شفاء الداء مبذولٌ منهاز
ولا يجوز أن تقول: «زيدٌ كان قائمٌ» على أن تضمر في «كان» الأمر والشأن، لأنه إذا أضمر في «كان» الأمر والشأن، لا يكون ما بعدها إلا جملة.
ولا يجوز أن تقول: «كان زيدٌ قائمٌ» على إلغاء «كان» لأنه إذا تقدمت لم يجز إلغاؤها، فإذا توسطت جاز إلغاؤها على قياس «ظننت» وأخواتها، فيجوز «زيدٌ ظننت منطلقًا»، ولا يجوز «ظننت زيدٌ منطلقٌ»؛ لأنه إذا تقدم في صدر الكلام قوي فلم يلغ، كما أن القسم يلغى إذا توسط أو تأخر، ولا يلغى إذا تقدم، تقول: «زيدٌ والله منطلق»، «زيدٌ منطلق والله»، ولا يجوز «والله زيدٌ منطلق» حتى تقول: «والله لزيدٌ منطلق»، وما أشبه ذلك من أجوبة القسم). [الأزهية: 183-192]