قال علاء الدين بن عليّ بن بدر الدين الإربلي (ت: ق8هـ): (الفصل السادس: من أول نوعي الحروف الأحادية المحضة.
"الميم": ومخرجها ما بين الشفتين، "كالواو"، و"الباء"، وهي من أحرف الذلاقة عند الخليل، ومن حروف الزيادة العشرة، فتقع بعضًا من الكلمة، وتكون "فاء"، و"عينًا"، و"لامًا" من الأسماء والأفعال، ومستقلة من جملة حروف المعاني للقسم لا غير، وتختص باسم الله تعالى، ولذلك ترجح الحكم بأنها من أيمن على الحكم بأنها من غيرها لاختصاص أيمن بالله تعالى أيضًا، وهي مثلثة، فتضم وتفتح وتكسر، قيل: أصلها من "نون" ساكنة و"ميم" مضمومة، حذفت "النون" اعتباطًا، وقيل: إنها وفروعها كلها متفرعات على أيمن، ولسكونها من فروعها خففوها بالحذف حتى صارت إلى حرف واحد، وهو أقرب من الأول، والأرجح كونها حرفًا مستقلًا؛ لأن التفريع والحذف مما يفتقر إلى دليل ظاهر، وإن لم يوجد فالحمل على الاستقلال لإصالته أولى، وإنما عمل لاختصاصه والاستقلال كما مر، وإنما عمل الجر؛ لأنه الأثر المختص بما اختص به من أنواع الإعراب، كما عبر به غير مرة، وليعلم أنه لم يرد استعماله في غير اسم الله تعالى إلا شذوذًا، كما ورد في غيره من الحروف، وإن "الميم" تقع بدلًا من أربعة أحرف، وهي "الواو"، و"النون"، و"الباء"، و"اللام"، أما إبدالها من "الواو" فقولهم: "فم"، قال ابن جني في سر الصناعة: وأصله "فوه" بوزن سوط، فحذفت "الهاء" كما حذفت من سنة فيمن قال: ليست بسنهاء، ومن شاة وشفة، ومن عضة، فيمن قال: بعير عاضه، ومن است، فصار التقدير: "فو"، فلما صار الاسم على حرفين الثاني منهما حرف لين، كرهوا حذفه للتنوين، فيجعفوا به، فأبدلوا من "الواو" "ميمًا" لقرب "الميم" من "الواو"؛ لأنهما شفهيتان، و"الفاء" من "فم" مفتوحة، ويدل عليه وجودك إياها مفتوحة في اللفظ، هذا هو المشهور، وأما ما حكاه أبو زيد وغيره من كسر "الفاء" وضمها فضرب من التغيير لحق الكلمة لإعلالها بالحذف والإبدال، و"ميم" هذه الكلمة مخفف، وأما قوله:
يا ليتما قد خرجت من فمه ...... حتى يعود الملك في اسطمه
فالقول في تشديد "الميم" عندي أنه ليس بلغة، ألا ترى أنك لا تجد لهذه المشددة تصرفًا، إنما التصرف كله على فوه، ومنه قوله عز وجل: {يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم}، وقول الشاعر:
فلا لغو ولا تأثيم فيها ...... وما فاهوا به أبدًا مقيم
وقالوا: رجل مفوه إذا أجاد القول، وقالوا: ما تفوهت به، كما قالوا: تلغمت بكذا وكذا، أي: حركت ملاغمي، وهي ما حول الشفتين، وقالوا في جمع أفوه وهو الكثير القول: "فوه"، قرأت على أبي علي للشنفري رحمه الله.
مهرية فوه كان شدوقها ...... شقوق عضى كالحات وبسل
ولم نسمعهم قالوا: أفمام، ولا تفممت، ولا رجل "أفم"، كما قالوا: أصم، فدل اجتماعهم على تصريف الكلمة "بالفاء" و"الواو" و"الهاء"، على أن التشديد في "فم" لا أصل له في جنس المثال، وإنما هو عارض.
فإن قيل: إذا ثبت أن التشديد عارض فمن أين أتاها، وكيف وجه دخوله؟
فالجواب: أن أصل ذلك أنهم ثقلوا "الميم" في الوقف فقالوا: "فم"، كما قالوا: هذا خالد، ثم أجروا الوصل مجرى الوقف فقالوا: هذا "فم"، ورأيت "فمًا"، كما أجروه مجراه فيما أنشدناه أبو علي رحمه الله:
ببازل وجناء أو غيهل ...... كان فهواها على الكلكل
يريد الغيهل والكلكل، هذا وجه تشديد "الميم" عندي.
فإن قلت: فإذا كان أصل "فم" عندك "فوه"، فما تقول فيما أنشده أبو علي من قول الفرزدق:
هما نفثا في في من فمويهما
فإنه يلزم اجتماع العوض والمعوض.
فالجواب: أن أبا علي حكى لنا عن أبي بكر وأبي إسحاق أن الشاعر جمع بين العوض والمعوض؛ لأن الكلمة منقوصة، وأجاز أبو علي فيه وجهًا آخر، وهو أن تكون "الواو" في فمويهما "لامًا" في موضع "الفاء" من أفواه، وتكون الكلمة مما اعتقب عليها "لامان"، "هاء" مرة، و"واو" أخرى، فيجري مجرى سنة وعضة، ألا تراهما في قول من قال: سنوات، ومسانات، وعضوات لقطع اللهازم "واوين"، ونجدهما في قول من قال: ليست بسنهاء، وبعير عاضه، هائين ونظير ما حكاه عنهما من الجمع بينهما ما أنشده البغداديون وأبو زيد:
إني إذا ما حدث ألمًا ...... ناديت يا اللهم يا اللهما
جمع بين "يا" و"الميم"، وهي عند الخليل عوض عن "يا"، وقول الجارية لأمها:
يا أمة أبصرني راكب ...... في بلد مسحنفز لأحب
ألا ترى أن "الهاء" في "يا" أمة بدل من "ياء" أمي، و"الألف" التي في "يا" أمتا بعد "التاء" إنما هي "ياء" أمي، أبدلها للتخفيف "ألفًا"، فقد جمع بين العوض والمعوض، وهذا كله يؤكد صحة مذهب أبي بكر وأبي إسحاق في فمويهما، وأما إبدال "الميم" من "النون" فالقانون أن تكون "النون" ساكنة واقعة قبل "ياء"، فإذا وجد جاز الإبدال نحو: عنبر، وامرأة شنباء، وقنبر، ومنبر، وقنب، فإن تحركت ظهرت "نونًا" نحو: شنب، وعنابر، وقنابر، ومنابر، وقنانب، وإنما قلبت "ميمًا" ساكنة قبل "الباء"؛لأن "الباء" أخت "الميم"، وقد أدغمت "النون" مع "الميم" في نح: من معك؟، ومن محمد؟ فلما كانت تدغم "النون" مع "الميم" التي هي أخت "الباء" أرادوا إعلالها أيضًا مع "الباء"، ولما كانت "الميم" التي هي أقرب إلى "الباء" مع "النون" لم تدغم في "الباء"، فلا يقال في نحو: اقم بكرًا أقبكرا، ولا في نحو: نم بالله، با لله، كانت "النون" التي هي من "الباء" أبعد منها من "الميم" أجدر بأن لا يجوز فيها الإدغام، فلما تعذر إدغام "النون" في "الباء" أعلوها دون إعلال الإدغام فقربوها من "الباء" بأن قلبوها إلى لفظ أقرب الحروف من "الباء" وهو "الميم"، فقالوا: عمبر، هذا كله إذا وجد الضابط، فما لم يكن لم يجز القلب، وأما قول رؤبة:
يا هاك ذات المنطق التمتام ...... وكفك المخضب البنام
يريد البنان، فإنما سوغه ملاحظة ما فيها من الغنة والهوى "كالنون"، وبناء على هذا جمعوا بينهما في القوافي فقالوا:
يطعنها بخنجر من لحم ...... دون الدبابي في مكان سخن
ومثل هذا كثير، لكن القانون ما ذكر، وأما إبدال "الميم" من "الباء" فقد رواه أبو علي بإسناده إلى الأصمعي قال: يقال: بنات مخر، وبنات بخر، وهن سحائب يأتين قبيل الصيف بيض منتصبات في السماء، قال طرفة:
كبنات المخر يمأدن إذا ...... أنبت الصيف عساليج الخضر
قال أبو علي: كان أبو بكر محمد بن السري يشتق هذه الأسماء من البخار، وهذا كله دليل إبدال "الباء" "ميمًا"، ولو ذهب ذاهب إلى أن "الميم" في مخر أيضًا أصل غير مبدلة على أن يجعله من قوله تعالى: {وترى الفلك فيه مواخر}، وذلك أن السحاب كأنها تمخر البحر لكان عندي مصيبًا، ويؤكده قول أبي ذؤيب في وصف السحاب:
شربن بماء البحر ثم ترفعت ...... متى لجج خضر لهن نئيج
لأنه يشعر أن السحاب تمخر البحر، وأخبرنا أبو علي قال: يقال: ما زلت راتمًا على هذا واتبًا، أي: مقيمًا، فالظاهر من أمر هذه "الميم" أن لا تكون بدلًا من "باء" راتب؛ لأنا لم نسمع في هذا الموضع رتم مثل رتب، تحتمل هذه "الميم" عندي أن تكون أصلًا غير بدل من الرتيمة، وهو شيء كان أهل الجاهلية يرتمونه بينهم، وذلك أن الرجل منهم كان إذا أراد سفرًا عمدا إلى شجرة فيعقد غصنين منها، فإن رجع وكانا معقودين بحالهما قال: إن امرأته لم تخنه، وإن رأى الغصنين قد انحلا قال: إن امرأته خانته، قال الراجز:
هل ينفعنك اليوم إن هممت بهم ...... كثرة ما توصى وتعقاد الرتم
والرتمة أيضًا: خيط يشد في الاصبع ليذكر الرجل به حاجته، وكلا هذين المعنيين تأويله الإقامة والثبوت، فيجوز أن يكون راتم من هذا المعنى، وإذا أمكن أن تتأول اللفظة على ظاهر لم يسغ العدول عنه إلى الباطن إلا بدليل، والدليل هنا إنما يؤكد الظاهر لا الباطن، فينبغي أن يكون العمل عليه لا على غيره، وأما إبدال "الميم" من "اللام" فيروى أن النمر بن تولب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ليس من أمبرا صيام في امسفر»، يريد: ليس من البر الصيام في السفر، فأبدل "لام" التعريف ميمًا، ويقال: إن النمر لم يرو عن النبي عليه السلام غير هذا الحديث، إلا أنه شاذ، لا يقاس عليه.
واعلم أن "الميم" إن وقعت أول الكلمة وهو الأصل في زيادتها فالكلمة إن كانت على حرفين أصليين وبعدهما "ألف" فاقض بزيادتها إلا أن تجد ثبتًا فتترك هذه القضية إليه نحو: موسى، وكذا إذا كانت على ثلاثة وإن لم يعقبها "ألف" نحو: مضرب ومقياس، فإن كانت على أربعة أصول فاقض بكونها من الأصل نحو: مرزحوش، "ميمه" "فاء"، ووزنه فعللول بوزن عضرفوط، وليعلم أيضًا أن "الميم" من خواص زيادة الأسماء، ولا تزاد في الأفعال إلا شذوذًا، وذلك نحو: تمسكن الرجل، وتمدرع من المدرعة، وتمندل من المنديل، وتمنطق من المنطقة، وتسلم الرجل إذا كان يدعي زيدًا أو غيره، ثم تسمى مسلمًا، وحكى ابن الأعرابي عن أبي زيد: فلانًا يتمولى علينا، فهذا كله تمفعل، وقالوا: مرحبك الله، ومسهلك، وقالوا: مخرق الرجل، وضعفها ابن كيسان، وهذا مفعل لا يقاس عليه).[جواهر الأدب: 37 - 42]