قال صَالِحٌ بْنُ مُحَمَّدِ الرَّشيدِ(م): (الكلام على جلد المصحف يتناول ماهية الجلد ومادته، وبيان حرمته، وحكم مسه حال الحدث أو الكفر، والفرق بين حكم الجلد المتصل بالمصحف والمنفصل عنه، والمنسوب إليه بعد الانفصال، وما انقطعت نسبته عنه، وحكم جلد المصحف وزخرفته.
ماهية جلد المصحف:
من أهل العلم من لا يفرق بين جلد المصحف وبين غلافه في الماهية، ومنهم من يميز بينهما ويعتبر الغلاف شيئا منفصلا عن المصحف كالخريطة مثلا على ما مر بيانه في الكلام على ثوب المصحف.
وقد مر في مسألة تجليد المصحف أن المراد بجلد المصحف على المشهور هو غلافه المتصل به المشرز عليه ليصونه ويحفظه ويكون بمثابة الدفتين له،
ويتصل به يتبعه حتى في البيع، ويأخذ حكمه عند جمهور الفقهاء، ومن هنا قال غير واحد من فقهاء الحنفية: ( وغلافه ما يكون متجافيا عنه دون ما هو متصل به كالجلد المشرز هو الصحيح).
قال العيني: (واختلف المشايخ فيه فقال بعضهم هو الجلد الذي عليه. وقال بعضهم هو الكم وقال بعضهم هو الخريطة التي يعني الكيس الذي يوضع فيه
[488]
المصحف وهو الصحيح، أشار إليه بقوله: وغلافه "ما يكون متجافيا عنه" أي متباعدا عن المصحف وهو الكيس، وأصل مادته من الجفائف بالمد من جفا يجفو، وأصل معناه البعد والرفع، ومنه: ( تتجافى جنوبهم عن المضاجع)، أي بعدت عن مضاجعهم "دون ماهو متصل به" أي المصحف "كالجلد المشرز" أي اللصوق به، فيقال مصحف مشرز أي مضموم مشرز أجزاؤه، أي مسدو بعضها من الشيرازة وليست بعربية، وفي العباب مصحف مشرز أي مضموم الكراريس والأجزاء بعضها إلى بعض مضموم الطرفين، فإن لم يضم طرفاه فهو مشرش بشينين وليس مشرز مشتق من الشيرازة وهو فارسية، والشيراز الذي يؤكل المستجد من اللبن، وأصله شراز بالتشديد قلبت أحد الرائين ياء آخر الحروف كما في قيراط وديباج أصلها قيراط وديباج بالتشديد).
ومال الحصكفي إلى التفريق بين الجلد والغلاف، واعتبر أن الغلاف هو المتجافي عن المصحف لا المشرز به. قال ابن عابدين في حاشيته على الدر: ("قوله غير مشرز" أي غير مخيط به، وهو تفسير للمتجافي، قال في المغرب مصحف مشرز أجزاءه مشدود بعضها إلى بعض من الشيرازة وليست بعربية. أ.ه. فالمراد بالغلاف ما كان منفصلا كالخريطة وهي الكيس نحوها، لأن المتصل بالمصحف منه حتى يدخل في بيعه بلا ذكر. وقيل المراد به الجلد المشرز، وصححه في المحيط والكافي، وصحح الأول في الهداية وكثير من الكتب، وزاد السراج أن عليه الفتوى، وفي البحر أنه أقرب إلى التعظيم).
والظاهر من كلام فقهاء بقية المذاهب أن المراد بجلد المصحف وغلافه شيء واحد.
[489]
مادة جلد المصحف:
لا خلاف بين أهل العلم في أنه ينبغي أن يكون جلد المصحف طاهرا في عينه محترما في مادته خاليا من كل ما هو مظنة ابتذال وامتهان، وأن يكون نظيفا وخاليا عن أي تصاوير أو كتابات غير لائقة بالمصحف.
ثم اختلفوا في تذهيب الجلد ونقشه بالنقدين على ما مر في مسألة تحلية المصحف.
حكم الجلد:
جمهور الفقهاء على أن لجلد المصحف المتصل به حكمه في الحرمة، وأنه لا يحل للمحدث أن يمسه، وأن جلد المصحف إنما اكتسب هذه الحرمة بسبب مجاورته للمصحف. وذهب فريق من الفقهاء إلى القول بأن حكم المصحف لا يثبت لجلده، وإن كان متصلا به، وهو الذي حكاه غير واحد من أهل العلم عن الإمام أبي حنيفة، وهو اختيار الخراسانيين من أصحابه، وحكاه الدرامي الشافعي وجها، وشذذه النووي، وهو مقتضى اختيار أبي الوفاء بن عقيل الحنبلي في فنونه، وهو ظاهر كلام ابن حمدان في الرعاية حيث قال غير واحد من الأصحاب: (وظاهر الرعاية لا يحرم عليه مس الجلد، فإنه قال: لا يمس المحدث مصحفا، وقيل ولا جلده).
[490]
جلد المصحف المنفصل عنه:
صرح بعض الفقهاء بأن حرمة المصحف تثبت لجلده، حتى وإن كان منفصلا عنه، وهو الذي صرح به القرافي، وذكره العدوي في حاشيته على الخرشي مقابلا للظاهر، ونقل الزركشي عن عصارة المختصر للغزالي التصريح بتحريم مس جلد المصحف حتى وإن كان منفصلا عنه.
وقال ابن العماد أنه الأصح، زاد في شرح الروض، وظاهر أن محله إذا لم تنقطع نسبته عن المصحف، فإن انقطعت كأن جعل جلد كتاب لم يحرم مسه قطعا أ.ه.
جلد المصحف الجامع معه غيره:
بحث جمع من فقهاء الشافعية حكم مس جلد المصحف الجامع للمصحف وغيره، وكذا حكم مس الكعب واللسان المنطبق على جهة المصحف. قال الهيتمي في التحفة إثر كلامه على حرمة مس جلد المصحف المتصل به حال الحدث قال:
( ويؤخذ منه أنه لو جلد مع المصحف غيره حرم مس الجلد الجامع لهما من سائر جهاته، لأن وجود غيره معه لا يمنع نسبة الجلد إليه، وبتسليم أنه منسوب إليهما فتغليب المصحف متعين نظير ما يأتي في تفسير وقرآن استويا، فإن قلت وجود غيره معه فيه يمنع إعداده له، قلت الإعداد إنما هو قيد في غيره مما يأتي ليتضح قياسه عليه، وأما هو فكالجزء كما تقرر فلا يشترط فيه إعداده).
وعبارة الرملي في النهاية: (ولو حمل مصحفا مع كتاب في جلد واحد فحكمه حكم المصحف مع المتاع في التفصيل، وأما مس الجلد فيحرم مع مس الساتر للمصحف دون ما عداه كما أفتى به الوالد رحمه الله).
[491]
وقال الشبراملسي في حاشيته على النهاية: ("قوله مس الجلد" مثل الجلد اللسان والكعب أي فيحرم كل منهما ما حاذى المصحف، وفي سم على حج ويبقى الكلام في الكعب فهل يحرم مسه مطلقا أو الجزء منه المحاذي للمصحف؟ وهل اللسان المتصل بجهة غير المصحف إذا انطبق في جهة المصحف كذلك؟ فيه نظر أ.ه. قلت: ولا يبعد تخصيص الحرمة بالجزء المحاذي للمصحف.
"فرع" جمع مصحف وكتاب في جلد واحد.قال م ر: ففي حمله تفصيل حمل المصحف في أمتعة، وأما مسه فهو حرام إن كان من جهة المصحف لا من جهة الأخرى أ.ه. أفاد بحثا أن كعب الجلد يلحق منه بالمصحف ما جاوره).
وقد يأتي في مسألتي كعب المصحف ولسانه مزيد بيان...)
[492]