الرد على من أنكر السحر
قالَ إِسْمَاعِيلُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ الفَضْلِ التَّيْمِيُّ الأَصْبَهَانِيُّ (ت:535هـ): (وَقَدْ أَنْكَرَ قَوْمٌ السِّحْرَ وَأَبْطَلُوا حَقِيقَتَهُ، وَأَكْثَرُ الأُمَمِ مِنَ العَرَبِ وَالفُرْسِ وَالهِنْدِ عَلَى إِثْبَاتِ السِّحْرِ، وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ}[البقرة: 102] وَقَالَ: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي العُقَدِ (4)} [الفلق: 4]). [الحجة في بيان المحجة: 1/521]
قالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بنِ الحُسَيْنِ الرَّازِيُّ (ت: 604هـ): (قَولُ جُمْهورِ المُفَسِّرِينَ أَنَّ لَبِيدَ بنَ أَعْصَمَ اليَهُودِيَّ سَحَرَ النَّبِيَّ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم في إِحْدَى عَشْرَةَ عُقْدَةً، وفي وَتَرٍ دَسَّهُ في بِئْرٍ يُقالَ لَها: ذَرْوانُ. فمَرِضَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم واشْتَدَّ عليه ذلك ثَلاثَ ليالٍ, فنَزَلَتِ المُعَوِّذَتانِ لذلك، وأَخْبَرَه جِبْريلُ بِمَوْضِعِ السِّحْرِ، فأَرْسَلَ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلامُ وطَلْحَةَ وجَاءَا به، وقالَ جِبْريلُ للنبِيِّ: حُلَّ عُقْدَةً واقْرَأْ آيةً. فَفَعَلَ، وكان كُلَّما قَرَأَ آيةً انْحَلَّتْ عُقْدةٌ, فكان يَجِدُ بَعْضَ الخِفَّةِ والرَّاحَةِ.
واعْلَمْ أنَّ المُعْتَزِلَةَ أَنْكَرُوا ذلك بأَسْرِهِم، قالَ القاضِي: هذه الرِّوايةُ باطِلَةٌ، وكيف يُمْكِنُ القَوْلُ بصِحَّتِهَا, واللَّهُ تعالى يقولُ: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67] وقالَ: {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69)} [طه: 69] ولأنَّ تَجْوِيزَه يُفْضِي إلى القَدْحِ في النُّبُوَّةِ، ولأنَّه لو صَحَّ ذلك لكَانَ مِن الوَاجِبِ أنْ يَصِلوا إلى الضَّرَرِ لجميعِ الأنبياءِ والصَّالِحِينَ، ولَقَدرُوا على تَحْصِيلِ المُلْكِ العَظِيمِ لأنْفُسِهِم، وكلُّ ذلك باطِلٌ، ولأنَّ الكُفَّارَ كانوا يُعَيِّرُونَه بأنَّه مَسْحُورٌ, فلو وَقَعَتْ هذه الواقِعَةُ لكانَ الكُفَّارُ صَادِقِينَ في تلك الدَّعوةِ، ولَحَصَلَ فيه عَلَيْهِ السَّلامُ ذلك العَيْبُ، ومَعْلُومٌ أَنَّ ذلك غَيْرُ جائِزٍ.
قالَ الأَصْحَابُ: هذه القِصَّةُ قَدْ صَحَّتْ عندَ جُمْهُورِ أَهْلِ النَّقْلِ، والوُجُوهُ المَذْكُورَةُ قَدْ سَبَقَ الكَلامُ عَلَيْهَا في سورةِ البَقَرَةِ, أمَّا قولُه: الكُفَّارُ كانوا يَعِيبُونَ الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلامُ بأنَّه مَسْحُورٌ، فلو وَقَعَ ذلك لكَانَ الكُفَّارُ صَادِقِينَ في ذلك القولِ. فجوابُه: أَنَّ الكُفَّارَ كانوا يُرِيدُونَ بكونِه مَسْحورًا أنَّه مَجْنُونٌ أُزِيلَ عَقْلُه بواسِطَةِ السِّحْرِ، فلذلك تَرَكَ دِينَهُم، فأَمَّا أَنْ يَكونُ مَسْحُورًا بأَلَمٍ يَجِدُه في بَدَنِه فذلك مِمَّا لا يُنْكِرُه أَحَدٌ، وبالجُمْلَةِ فاللَّهُ تعالى ما كانَ يُسَلِّطُ عليه لا شَيْطانًا ولا إِنْسِيًّا ولا جِنِّيًّا يُؤْذِيهِ في دينِه وشَرْعِه ونُبُوَّتِه، فأَمَّا في الإضْرَارِ ببَدَنِه فلا يَبْعُدُ، وتَمَامُ الكَلامِ في هذه المسألةِ قَدْ تَقَدَّمَ في سورةِ البَقَرةِ ولْنَرْجِعْ إلى التَّفْسِيرِ).[التفسير الكبير: 32/172]
قالَ عَبْدُ اللهِ بنُ أَحْمَدَ بنِ مَحْمُودٍ النَّسَفِيُّ (ت: 710هـ):(وهو دليلٌ على بُطلانِ قولِ المُعْتَزِلةِ في إنكارِ تَحَقُّقِ السِّحْرِ وظُهورِ أَثَرِه). [مدارك التنزيل: 3/2013]
قالَ ابْنُ القَيِّمِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الزُّرَعِيُّ الدِّمَشْقِيُّ (ت: 751 هـ): (فصلٌ: وقد دَلَّ قولُه: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي العُقَدِ (4)} [الفلق: 4] وحديثُ عائشةَ المذكورُ على تأثيرِ السحْرِ، وأنَّ له حقيقةً.
وقد أَنْكَرَ ذلك طائفةٌ من أهلِ الكلامِ من المُعتزِلَةِ وغيرِهم وقالُوا: إنه لا تَأثيرَ للسحْرِ البَتَّةَ، لا في مَرَضٍ ولا قَتْلٍ ولا حَلٍّ ولا عَقْدٍ، قالُوا: وإنما ذلك تَخييلٌ لأعْيُنِ الناظرينَ لا حقيقةَ له سِوَى ذلك، وهذا خِلافُ ما تَواتَرَتْ به الآثارُ عن الصحابةِ والسلَفِ، واتَّفَقَ عليه الفُقهاءُ وأَهْلُ التفسيرِ والحديثِ وأربابُ القلوبِ من أهْلِ التصوُّفِ، وما يَعرِفُه عامَّةُ العُقَلاءِ.
والسحْرُ الذي يُؤَثِّرُ مَرَضًا وثِقَلاً وحَلاًّ وعَقْدًا وحُبًّا وبُغْضًا ونَزيفًا وغيرَ ذلك من الآثارِ الموجودةِ تَعرِفُه عامَّةُ الناسِ، وكثيرٌ منهم قد عَلِمَه ذَوْقًا بما أُصِيبَ به منه، وقولُه تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي العُقَدِ (4)} [الفلق: 4] دليلٌ على أنَّ هذا النَّفْثَ يَضُرُّ المسحورَ في حالِ غَيْبَتِه عنه، ولو كان الضَّرَرُ لا يَحْصُلُ إلا بمباشَرَةِ البدَنِ ظاهرًا، كما يقولُه هؤلاءِ لم يكنْ للنَّفْثِ ولا للنَّفَّاثَاتِ شرٌّ يُستعاذُ منه.
وأيضًا فإذا جَازَ على الساحِرِ أن يَسْحَرَ جميعَ أَعْيُنِ الناظرينَ مع كَثرتِهم حتى يَرَوْا الشيءَ بِخِلافِ ما هو به، مع أنَّ هذا تَغيُّرٌ في إحساسِهم، فما الذي يُحيلُ تأثيرَه في تغييرِ بعضِ أَعراضِهم وقُواهُم وطِباعِهم، وما الفَرْقُ بينَ التغييرِ الواقعِ في الرؤيةِ والتغييرِ في صِفَةٍ أخرى من صِفاتِ النفْسِ والبَدَنِ؟!
فإذا غَيَّرَ إحساسَه حتى صارَ يَرَى الساكِنَ متَحَرِّكًا، والمُتَّصِلَ مُنْفَصِلاً والمَيِّتَ حيًّا، فما المُحيلُ لأنْ يُغيِّرَ صفاتِ نفسِه حتى يَجْعَلَ المحبوبَ إليه بَغيضًا والبغيضَ إليه مَحبوبًا، وغيرَ ذلك من التأثيراتِ.
وقد قالَ تعالى عن سَحَرَةِ فِرعونَ: إنهم {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116)}[الأعراف:116] فَبَيَّنَ سبحانَه أن أَعْيُنَهُم سُحِرَتْ، وذلك إمَّا أن يكونَ لتغييرٍ حَصَلَ في المَرْئِيِّ، وهو الحِبالُ والعِصِيُّ، مثلُ أن يكونَ السحَرَةُ استعانَتْ بأرواحٍ حَرَّكَتْها وهي الشياطينُ، فَظَنُّوا أنها تَحَرَّكَتْ بأنْفُسِها، وهذا كما إذا جَرَّ من لا يَراه حَصِيرًا أو بُساطًا، فتَرَى الحَصيرَ والبُساطَ يَنْجَرُّ ولا تَرَى الجارَّ له مع أنه هو الذي يَجُرُّه، فهكذا حالُ الحِبالِ والعِصِيِّ التَبَسَتْها الشياطينُ فقَلَبَتْها كتَقَلُّبِ الحَيَّةِ، فظَنَّ الرائي أنها تَقَلَّبَتْ بأَنْفُسِها، والشياطينُ هم الذين يَقْلِبونَها، وإمَّا أن يكونَ التغييرُ حَدَثَ في الرائي حتى رأى الحِبالَ والعِصِيَّ تَتحرَّكُ وهي ساكنةٌ في أَنْفُسِها.
ولا رَيبَ أنَّ الساحِرَ يَفعَلُ هذا وهذا، فتارةً يَتَصَرَّفُ في نفْسِ الرائي وإحساسِه حتى يَرَى الشيءَ بِخِلافِ ما هو به، وتارةً يَتَصَرَّفُ في المَرْئِيِّ باستعانتِه بالأرواحِ الشيطانيَّةِ حتى يَتَصَرَّفَ فيها.
وأمَّا ما يقولُه المُنكِرون من أنهم فَعَلَوا في الحِبالِ والعِصِيِّ ما أَوْجَبَ حَرَكَتَها ومَشْيَها، مثلَ الزِّئْبَقِ وغيرِه حتى سَعَتْ فهذا باطِلٌ من وُجوهٍ كثيرةٍ.
فإنه لو كان كذلك لم يكنْ هذا خَيَالاً بل حَرَكَةً حقيقيَّةً, ولم يكنْ ذلك سِحْرًا لأعْيُنِ الناسِ، ولا يُسَمَّى ذلك سِحْرًا بل صناعةً من الصناعاتِ المُشْتَرَكَةِ، وقد قالَ تعالى: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِم مِّن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66)}[طه: 66]، ولو كانتْ تَحَرَّكَتْ بنوعِ حِيلةٍ كما يَقولُه المُنكرونَ لم يكنْ هذا من السحْرِ في شيءٍ، ومِثلُ هذا لا يَخْفَى، وأيضًا لو كان ذلك بحِيلةٍ كما قالَ هؤلاءِ لكان طريقُ إبطالِها إخراجَ ما فيها من الزِّئْبَقِ، وبيانَ ذلك المُحالِ، ولم يَحْتَجْ إلى إلقاءِ العَصَا لابتلاعِها.
وأيضًا فمِثْلُ هذه الحِيلةِ لا يُحتاجُ فيها إلى الاستعانةِ بالسحَرَةِ، بل يَكْفِي فيها حُذَّاقُ الصُّنَّاعِ، ولا يُحتاجُ في ذلك إلى تَعظيمِ فِرعونَ للسحَرَةِ وخُضوعِه لهم ووَعْدِهم بالتقريبِ والجزاءِ.
وأيضًا فإنه لا يُقالُ في ذلك: إنه لكبيرُكُم الذي عَلَّمَكُم السحْرَ، فإنَّ الصناعاتِ يَشْتَرِكُ الناسُ في تَعَلُّمِها وتعليمِها، وبالجُمْلَةِ فبُطلانُ هذا أَظْهَرُ من أن يُتَكَلَّفَ رَدُّه، فلْنَرْجِعْ إلى المقصودِ). [بدائع الفوائد: 2/227-228]
قالَ ابْنُ القَيِّمِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الزُّرَعِيُّ الدِّمَشْقِيُّ (ت: 751 هـ): (فصلٌ: فقد عَرَفْتَ بعضَ ما اشْتَمَلَتْ عليه هذه السورةُ من القواعدِ النافعةِ الهامَّةِ، التي لا غِنَى للعبْدِ عنها في دِينِه ودُنياه.
ودَلَّتْ على أنَّ نفوسَ الحاسدينَ وأَعْيُنَهُم لها تأثيرٌ، وعلى أنَّ الأرواحَ الشيطانيَّةَ لها تأثيرٌ بواسِطَةِ السحْرِ والنَّفْثِ في العُقَدِ.
وقد افْتَرَقَ العالَمُ في هذه المَقامِ أرْبَعَ فِرَقٍ.
ففِرقةٌ أَنْكَرَتْ تأثيرَ هذا وهذا، وهم فِرقتان:
فِرقةٌ اعْتَرَفَتْ بوُجودِ النفوسِ الناطقةِ والجِنِّ، وأَنْكَرَتْ تأثيرَهما البَتَّةَ، وهذا قولُ طائفةٍ من المتكلِّمينَ مِمَّنْ أَنْكَرَ الأسبابَ والقُوَى والتأثيراتِ.
وفرقةٌ أَنْكَرَتْ وجودَهما بالكُلِّيَّةِ وقالَتْ: لا وُجودَ لنفْسِ الآدَمِيِّ سوى هذا الهيكَلِ المحسوسِ وصِفاتِه وأعراضِه فقط، ولا وُجودَ للْجِنِّ والشياطينِ سوى أعراضٍ قائمةٍ به، وهذا قولُ كثيرٍ من مَلاحِدَةِ الطبائعيِّينَ وغيرِهم من المَلاحِدَةِ المنتسِبينَ إلى الإسلامِ، وهو قولُ شُذوذٍ من أهلِ الكلامِ الذين ذَمَّهُمُ السلَفُ، وشَهِدُوا عليهم بالبِدْعَةِ والضلالةِ.
الفِرْقَةُ الثانيةُ: أَنْكَرَتْ وُجودَ النفْسِ الإنسانيَّةِ المُفارِقَةِ للبَدَنِ، وأَقَرَّتْ بوجودِ الجِنِّ والشياطينِ، وهذا قولُ كثيرٍ من المتكلِّمينَ من المُعتزِلَةِ وغيرِهم.
الفِرقةُ الثالثةُ: بالعكْسِ أقَرَّتْ بوجودِ النفْسِ الناطِقَةِ المُفارِقَةِ للبَدَنِ، وأَنْكَرَتْ وُجودَ الجنِّ والشياطينِ، وزَعَمَتْ أنها غيرُ خارجةٍ عن قُوَى النفْسِ وصِفاتِها، وهذا قولُ كثيرٍ من الفلاسفةِ الإسلاميِّينَ وغيرِهم، وهؤلاءِ يقولون: إنَّ مَا يُوجَدُ في العالَمِ من التأثيراتِ الغريبةِ والحوادثِ الخارقةِ، فهي من تأثيراتِ النفْسِ، ويَجعلونَ السحْرَ والكَهانةَ كلَّه من تأثيرِ النفْسِ وحدَها، بغيرِ وَاسِطَةِ شيطانٍ مُنْفَصِلٍ، وابنُ سِينَا وأَتباعُه على هذا القولِ، حتى إنهم يَجعلونَ مُعْجِزَاتِ الرسُلِ من هذا البابِ، ويقولون: إنما هي من تأثيراتِ النفْسِ في هَيُولَى العالَمِ، وهؤلاءِ كُفَّارٌ بإجماعِ المِلَلِ ليسوا من أَتباعِ الرُّسُلِ جُمْلَةً.
الفِرْقَةُ الرابعةُ: وهم أَتْباعُ الرسُلِ وأهْلُ الحَقِّ أَقَرُّوا بوجودِ النفْسِ الناطقةِ المفارِقَةِ للبَدَنِ، وأَقَرُّوا بوجودِ الجِنِّ والشياطينِ، وأَثْبَتُوا ما أَثْبَتَه اللهُ تعالى من صِفاتِهما وشَرِّهما، واسْتَعَاذُوا باللهِ منه، وعَلِمُوا أنه لا يُعيذُهم منه ولا يُجِيرُهم إلا اللهُ، فهؤلاءِ أَهْلُ الحقِّ، ومَن عَدَاهُم مُفْرِطٌ في الباطلِ أو معه باطلٌ وحَقٌّ، واللهُ يَهْدِي مَن يَشاءُ إلى صراطٍ مُستقيمٍ). [بدائع الفوائد: 2/246-247]
قالَ أَبو الثَّناءِ مَحْمُودُ بنُ عبدِ اللهِ الآلُوسِيُّ (ت: 1270هـ): (وبعضُهم أَنْكَرَ أصلَ السحرِ ونَفَى حقيقتَه وأَضافَ ما يَقَعُ منه إلى خَيالاتٍ باطلةٍ لا حقائقَ لها، ومَذهبُ أهلِ السنَّةِ وعُلماءِ الأُمَّةِ على إثباتِه، وأنَّ له حقيقةً كحقيقةِ غيرِه مِن الأشياءِ لدَلالةِ الكتابِ والسنَّةِ على ذلك، ولا يُستنكَرُ في العقلِ أنَّ اللهَ تعالى يَخْرِقُ العادةَ عندَ النطقِ بكلامٍ مُلَفَّقٍ أو تركيبِ أجسامٍ مخصوصةٍ والمَزْجِ بينَ قُوًى على ترتيبٍ لا يَعرفُه إلا الساحرُ، وإذا شاهدَ الإنسانُ بعضَ الأجسامِ منها قاتلةٌ كالسمومِ ومنها مُسقِمَةٌ كالأدويةِ المضادَّةِ للمَرَضِ لم يَستبعِدْ عقلُه أنْ يَنفرِدَ الساحرُ بعِلمِ قُوًى قَتَّالةٍ أو كلامٍ مُهلِكٍ أو مُؤَدٍّ إلى التفرِقةِ، ومع ذلك لا يَخلُو مِن تأثيرٍ نَفسانِيٍّ, ثم إنَّ القائلينَ به اخْتَلَفوا في القَدْرِ الذي يَقعُ به، فقالَ بعضُهم: لا يَزيدُ تأثيرُه على قُدرةِ التفْرِقَةِ بينَ المرءِ وزوجِه؛ لأنَّ اللهَ تعالى إنما ذَكَرَ ذلك تَعظيمًا لِمَا يكونُ عندَه وتَهويلاً له، فلو وَقَعَ به أعظمُ منه لذَكَرَه؛ لأنَّ المَثَلَ لا يُضربُ عندَ المبالَغةِ إلا بأعلى أحوالِ المذكورِ، ومَذهبُ الأشاعرةِ أنه يَجوزُ أن يَقعَ به أكثرُ مِن ذلك وهو الصحيحُ عَقلاً؛ لأنه لا فاعلَ إلا اللهُ، وما يَقعُ مِن ذلك فهو عَادةٌ أَجراها اللهُ تعالى ولا تَفترِقُ الأفعالُ في ذلك، وليس بعضُها بأَوْلَى مِن بعضٍ، ولو وردَ الشرعُ بقُصورِه عن مَرتبةٍ لوَجَبَ المَصيرُ إليه, ولكن لا يُوجَدُ شَرْعٌ قاطعٌ يُوجِبُ الاقتصارَ على ما قالَه القائلُ الأوَّلُ، وذِكْرُ التَّفْرِقَةِ بينَ الزوجينِ في الآيةِ ليس بنَصٍّ في مَنْعِ الزيادةِ وإنما النظَرُ في أنه ظاهِرٌ أمْ لا، والفرقُ بينَ الساحرِ وبينَ النبيِّ والولِيِّ على قولِ الأشاعرةِ بأنه يَجوزُ خَرْقُ العادةِ على يدِ الساحرِ مُبَيَّنٌ في الكُتُبِ الكلاميَّةِ وغيرِها مِن شُروحِ الصِّحاحِ).
[روح المعاني: 29/283-284]