قوله تعالى {وَلِلَّهِ ٱلْمَشْرِقُ وَٱلْمَغْرِبُ ۚ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا۟ فَثَمَّ وَجْهُ ٱللَّهِ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ وَٰسِعٌ عَلِيمٌۭ(115)}
قال الوليد بن محمد الموقّري الأموي (ت:182هـ): حدثني محمد بن مسلم بن عبد الله بن شِهَاب الزهري(124هـ) قال: (أول ما نسخ من القرآن من سورة البقرة القبلة. كانت نحو بيت المقدس، تحولت نحو الكعبة، فقال الله عز وجل: {ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسعٌ عليمٌ}. نسخ بقوله تعالى: {قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلةً ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام}.). [الناسخ والمنسوخ للزهري: 18-22]
قال محمد بن كثيرٍ العَبْدي (ت:223هـ) عن همّام بن يحيى البصري قال: (سمعت قتادة يقول في قول الله عز وجل: {فأينما تولوا فثم وجه الله} قال كانوا يصلون نحو بيت المقدس ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة قبل الهجرة وبعدما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا ثم وجهه الله تعالى نحو الكعبة البيت الحرام
وقال في آية أخرى: {فلنولينك قبلة ترضها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره} أي تلقاءه ونسخت هذه ما كان قبلها من أمر القبلة). [الناسخ والمنسوخ لقتادة: 1/31-38]
قَالَ أَبو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بْنُ حَزْمٍ الأَنْدَلُسِيُّ (ت: 320 هـ): ( الآية الرابعة: قوله تعالى: {ولله الشرق والمغرب...} [115مدنية / البقرة / 2] هذا محكم والمنسوخ منها قوله: {فأينما تولوا فثم وجه الله} الآية [115 / البقرة] منسوخة وناسخة قوله تعالى: {وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره} [144 مدنية / البقرة / 2].) .[الناسخ والمنسوخ لابن حزم: 19-30]
قالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النَّحَّاسُ (ت: 338 هـ): (باب ذكر الآية الثّانية من هذه السّورةقال اللّه جلّ وعزّ {وللّه المشرق والمغرب فأينما تولّوا فثمّ وجه اللّه إنّ اللّه واسعٌ عليمٌ} [البقرة: 115] فللعلماء في هذه الآية ستّة أقوالٍ:
قال قتادة: «هي منسوخةٌ»، وذهب إلى أنّ المعنى صلّوا كيف شئتم فإنّ المشرق والمغرب للّه فحيث استقبلتم فثمّ وجه اللّه جلّ وعزّ لا يخلو منه مكانٌ كما قال جلّ وعزّ {ما يكون من نجوى ثلاثةٍ إلّا هو رابعهم}[المجادلة: 7] الآية
وقال ابن زيدٍ: «كانوا أبيحوا أن يصلّوا إلى أيّ قبلةٍ شاءوا؛ لأنّ المشارق والمغارب للّه جلّ وعزّ» فأنزل اللّه جلّ وعزّ {فأينما تولّوا فثمّ وجه اللّه} [البقرة: 115] فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ((هؤلاء يهود قد استقبلوا بيتًا من بيوت اللّه تبارك وتعالى)) يعني بيت المقدس فصلّوا إليه فصلّى رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه إليه بضعة عشر شهرًا فقالت اليهود: ما اهتدى لقبلته حتّى هديناه فكره النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قولهم ورفع طرفه إلى السّماء فأنزل اللّه عزّ وجلّ {قد نرى تقلّب وجهك في السّماء} [البقرة: 144]
قال أبو جعفرٍ: فهذا قولٌ
وقال مجاهدٌ، والضّحّاك في قوله جلّ وعزّ {فأينما تولّوا فثمّ وجه اللّه} [البقرة: 115] معناه أينما تولّوا من مشرقٍ أو مغربٍ فثمّ وجه اللّه الّتي أمر بها وهي استقبال الكعبة فجعلوا الآية
ناسخةً، وجعل قتادة، وابن زيدٍ الآية منسوخةً
وقال إبراهيم النّخعيّ: " من صلّى في سفرٍ في مطرٍ وظلمةٍ شديدةٍ إلى غير القبلة ولم يعلم فلا إعادة عليه {فأينما تولّوا فثمّ وجه اللّه} [البقرة: 115]
" والقول الرّابع أنّ قومًا قالوا: لمّا صلّى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم على النّجاشيّ صلّى عليه وكان يصلّي إلى غير قبلتنا فأنزل اللّه جلّ وعزّ {وللّه المشرق والمغرب} [البقرة: 115]
والقول الخامس أنّ المعنى ادعوا كيف شئتم مستقبلي القبلة وغير مستقبليها فأينما تولّوا فثمّ وجه اللّه يستجب لكم
والقول السّادس من أجلّها قولًا وهو أنّ المصلّي في السّفر على راحلته النّوافل جائزٌ له أن يصلّي إلى القبلة وإلى غير القبلة
قال أبو جعفرٍ: وهذا القول عليه فقهاء الأمصار ويدلّك على صحّته أنّه:
قرئ على أحمد بن شعيبٍ، عن محمّد بن المثنّى، وعمرو بن عليٍّ، عن يحيى بن سعيدٍ، عن عبد الملك، قال: حدّثنا سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عمر، " أنّ رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم كان يصلّي وهو مقبلٌ من مكّة إلى المدينة على دابّته وفي ذلك أنزل اللّه {فأينما تولّوا فثمّ وجه اللّه} [البقرة: 115]
" قال وأخبرنا قتيبة، عن مالكٍ، عن عبد اللّه بن دينارٍ، عن ابن عمر، «أنّ رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم كان يصلّي على راحلته حيثما توجّهت به»
قال أبو جعفرٍ: والصّواب أن يقال: ليست الآية ناسخةً ولا منسوخةً لأنّ العلماء قد تنازعوا القول فيها وهي محتملةٌ لغير النّسخ وما كان محتملًا لغير النّسخ لم يقل فيه ناسخٌ ولا منسوخٌ إلّا بحجّةٍ يجب التّسليم لها فأمّا ما كان يحتمل المجمل والمفسّر والعموم والخصوص فعن النّسخ بمعزلٍ ولا سيّما مع هذا الاختلاف
وقد اختلفوا أيضًا في الآية الثّالثة ). [الناسخ والمنسوخ للنحاس: 1/454-630]
قَالَ هِبَةُ اللهِ بنُ سَلامَةَ بنِ نَصْرٍ المُقْرِي (ت: 410 هـ): (الآية الخامسة قوله تعالى {وللّه المشرق والمغرب} هذا محكم والمنسوخ منها قوله تعالى {فأينما تولّوا فثمّ وجه الله} وذلك أن طائفة أرسلهم النّبي (صلى الله عليه وسلم)
في سفر فعميت عليهم القبلة فصلوا إلى غير جهتها فلمّا تبينوا ذلك رجعوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فأخبروه فنزلت هذه الآية {وللّه المشرق والمغرب فأينما تولّوا فثم وجه الله}
وقال قتادة والضّحّاك وجماعة لما قدم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) المدينة صلى نحو بيت المقدّس سبعة عشر شهرا ثمّ حول إلى الكعبة وهذا قول الأكثرين من أهل التّاريخ منهم معقل بن يسار والبراء بن عازب وقال قتادة ثمانية عشر شهرا وفيها رواية أخرى عن إبراهيم الحربيّ قال فيها ثلاثة عشر شهرا وقال آخرون قالت اليهود بعد تحويل القبلة لا يخلو محمّد منأمرين إمّا أن يكون كان على حق فقد رجع عنه وإمّا أن يكون على باطل فما كان ينبغي له أن يقيم عليه فأنزل الله تعالى {وللّه المشرق والمغرب} الآية ثمّ نسخت بقوله {وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره}
واختلف أهل العلم في أي صلاة وفي أي وقت فقال الأكثرون حولت القبلة في يوم الإثنين النّصف من رجب على رأس سبعة عشر شهرا من مقدّمة المدينة في وقت الظّهر وقال قتادة حولت يوم الثّلاثاء النّصف من شعبان على رأس ثمانية عشر شهرا من مقدّمة المدينة وكان النّبي (صلى الله عليه وسلم) إذا قام إلى الصّلاة يحول وجهه ويرنو نحو السّماء بطرفه ويقول يا جبريل إلى متى أصلّي إلى قبلة اليهود فقال جبريل إنّما أنا عبد مأمور فسل ربك قال فبينما هو على ذلك إذ نزل عليه جبريل عليه السّلام فقال اقرأ يا محمّد / قد نرى تقلب ذلك وجهك في السماء / تنتظر الأمر فحذف هذا من الكلام لعلم السّامع به ونزل {فولّ وجهك شطر المسجد الحرام} أي نحوه وتلقاءه والشطر فيكلام العرب النّصف وهذه ههنا لغة الأنصار فصارت ناسخة لقوله {فأينما تولّوا فثمّ وجه الله}
وفي رواية أخرى رواه إبراهيم الحربي قال حولت القبلة في جمادي الآخرة). [الناسخ والمنسوخ لابن سلامة: 31-59]
قَالَ مَكِّيُّ بنُ أبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ) : (قوله تعالى: {فأينما تولّوا فثمّ وجه الله}ظاهر هذا يدلّ على جواز الصّلاة إلى كلّ جهةٍ من شرقٍ وغربٍ وغيره.
وهو منسوخٌ - عند مالك وأصحابه - بقوله: {فولّ وجهك شطر المسجد الحرام} [البقرة: 144، 149، 150] فيكون هذا مما نسخ قبل العمل به؛ لأنه لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه صلّوا في سفرٍ ولا حضرٍ فريضةً إلى حيثما توجّهوا. ونسخها بقوله: {فولّ وجهك شطر المسجد الحرام} وهو أيضًا قول قتادة، وابن زيد، وهو مرويٌّ عن ابن عباس والحسن.
وللعلماء في هذه الآية خمسة أقوال غير القول الذي ذكرنا:
الأول: قول مجاهد والضحاك: قالا: هي ناسخةٌ للصّلاة إلى بيت
المقدس لأن اليهود أنكروا رجوع النبي صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة وترك بيت المقدس، وقالوا: {ما ولاّهم عن قبلتهم التي كانوا عليها}؟ [البقرة: 142] فأنزل الله: {قل للّه المشرق والمغرب} وأنزل تعالى: {فأينما تولّوا فثمّ وجه الله} [البقرة: 115] أي: فثمّ جهة الله التي أمر بها.
وقيل: الذين أنكروا ذلك هم العرب الكفار، وهم السّفهاء.
الثاني: قول النخعي: قال: هي مخصوصةٌ محكمةٌ نزلت فيمن جهل القبلة له أن يصلّي أينما توجّه ولا إعادة عليه. وعليه الإعادة عند مالك وأصحابه في الوقت. وهو خارجٌ عن الأصول.
الثالث: قاله بعض أهل المعاني: قالوا هي محكمةٌ مخصوصةٌ في صلاة النبيّ -صلى الله عليه وسلم- على النجاشي حين صلّى عليه، واستقبل جهته إلى غير قبلة، فهي خصوصٌ للنبي -عليه السلام-.
الرابع: قاله بعض أهل المعاني، قالوا: الآية مخصوصةٌ في الدّعاء، ومعناها: ادعوا كيف شئتم مستقبلين القبلة وغير مستقبلين، الله يسمع ذلك كلّه.
الخامس: قيل إنها مخصوصةٌ في صلاة المسافر للنوافل على راحلته، يصلّي أينما توجّهت به راحلته، وهو جارٍ على مذهب مالك وأصحابه.
قوله تعالى: {إنّ الّذين يكتمون ما أنزلنا من البيّنات والهدى من بعد ما بيّناه للنّاس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاّعنون}
ذكر ابن حبيبٍ أنه منسوخٌ بقوله: {إلاّ الّذين تابوا} [البقرة: 160].
وهذا غلطٌ ظاهرٌ، ليس هو من الناسخ والمنسوخ؛ إنما هو استثناءٌ -استثنى الله جلّ ذكره- في التائبين من الموصوفين قبله.
ولا يحسن أن يقال في الاستثناء إنه نسخٌ؛ لأنّ الاستثناء لا يكون إلاّ بحرفٍ يدلّ على معنى استثناء كذا ولا يكون الاستثناء إلا لبيان الأعيان.
والنّسخ إنّما هو لبيان الأزمان التي انتهى إليها الفرض الأوّل، وابتدأ منها الفرض الثاني. وقد بيّنا هذا فيما تقدّم.
وكذلك ذكر ابن حبيب آياتٍ كثيرةً من الاستثناء أدخلها في الناسخ والمنسوخ. وهو وهمٌ ظاهر. ).[الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه:123- 200]
قَالَ أبو الفَرَجِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَلِيٍّ ابْنُ الجَوْزِيِّ (ت: 597هـ): (ذكر الآية السّابعة: قوله تعالى: {وللّه المشرق والمغرب فأينما تولّوا فثمّ وجه اللّه}.
اختلف المفسّرون في المراد بهذه الآية على ثمانية أقوال:
أحدها: أنّها نزلت في اشتباه القبلة. أخبرنا أبو بكر بن حبيبٍ قال: أخبرنا عليّ بن الفضل، قال: أخبرنا محمّد بن عبد الصّمد، قال: حدّثنا عبد اللّه بن أحمد، قال: أخبرنا إبراهيم بن خريم قال: حدّثنا عبد الحميد، قال أخبرنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا أشعث بن سعيدٍ قال: حدّثنا
عاصم بن عبيد اللّه، عن عبد الله بنا (عامر) بن ربيعة عن أبيه قال: كنّا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في غزاةٍ في ليلةٍ سوداء مظلمةٍ فلم نعرف القبلة فذكرنا ذلك لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فأنزل اللّه {وللّه المشرق والمغرب فأينما تولّوا فثمّ وجه اللّه إنّ اللّه واسعٌ عليمٌ}.
وروى جابر بن عبد اللّه قال: بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم سريّةً كنت فيها فأصابتنا ظلمةٌ فلم نعرف القبلة، فقالت طائفةٌ: القبلة هاهنا فصلّوا وخطّوا خطًّا، وقال بعضهم هاهنا فصلّوا وخطّوا خطًّا، فلمّا أصبحنا أصبحت تلك الخطوط لغير القبلة، فلمّا قفلنا من سفرنا سألنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن ذلك فسكتّ، فأنزل اللّه تعالى: {فأينما تولّوا فثمّ وجه اللّه}.
قلت: وهذا الحكم باقٍ عندنا وإنّ من اشتبهت عليه القبلة فصلّى بالاجتهاد فصلاته صحيحةٌ مجزيةٌ وهو قول سعيد بن المسيّب ومجاهد و[عطاء] والشّعبيّ، والنّخعيّ وأبي حنيفة، وللشّافعيّ قولان:
أحدهما: كمذهبنا.
والثّاني:يجب الإعادة، وقال الحسن، والزّهريّ،
وربيعة يعيد في الوقت، فإذا فات الوقت لم يعد، وهو قول مالكٍ.
القول الثّاني: إنّ المراد بالآية صلاة التّطوّع.
أخبرنا أبو بكر بن حبيب، قال: بنا عليّ بن الفضل، قال: أخبرنا ابن عبد الصّمد، قال: أخبرنا عبد اللّه بن أحمد بن حموية قال: أبنا إبراهيم
ابن خريم، قال: حدّثنا عبد الحميد، قال: أخبرنا يزيد بن هارون قال: أخبرنا عبد الملك بن أبي سليمان، قال: سمعت سعيد بن جبيرٍ يحدّث عن ابن عمر قال: كان النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم يصلّي على راحلته تطوّعًا أينما توجّهت به، وهو جاءٍ من مكّة إلى المدينة ثمّ قرأ ابن عمر {وللّه المشرق والمغرب فأينما تولّوا فثمّ وجه اللّه} فقال ابن عمر رضي اللّه عنه: في هذا أنزلت الآية.
القول الثّالث: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لمّا صلّى على النّجاشيّ، قال أصحاب رسوله اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كيف نصلّي على رجلٍ مات وهو يصلّي على غير قبلتنا؟ وكان يصلّي إلى بيت المقدس حتّى مات
وقد صرفت القبلة إلى الكعبة فنزلت هذه الآية رواه عطاءٌ عن ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما.
القول الرّابع: أنّ المراد بالآية: أينما كنتم من شرقٍ أو غربٍ فاستقبلوا الكعبة، قاله مجاهدٌ.
القول الخامس: أنّ اليهود لمّا تكلّموا] حين [ صرفت القبلة إلى الكعبة نزلت هذه الآية، ومعناها: لا تلتفتنّ إلى اعتراض اليهود بالجهل وإنّ المشرق والمغرب للّه يتعبّدكم بالصّلاة إلى مكانٍ ثمّ يصرفكم عنه كما يشاء. ذكره أبو بكر بن الأنباريّ، وقد روى معناه عن ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما.
والقول السّادس: أنّه ليس المراد بالصّلاة وحدها وإنّما معنى الآية من أيّ وجهٍ قصدتم اللّه، وعلى أيّ حالٍ عبدتموه علم ذلك وأثابكم عليه.
والعرب تجعل الوجه بمعنى القصد، قال الشّاعر:
أستغفر اللّه ذنبًا لست محصيه..=. ربّ العباد إليه الوجه والعمل
معناه: إليه القصد والتّقدّم. ذكره محمّد بن القاسم أيضًا.
والقول السّابع: أنّ معنى الآية أينما كنتم [من] الأرض فعلم اللّه بكم محيطٌ لا يخفى عليه شيءٌ من أعمالكم ذكره ابن القاسم أيضًا وعلى هذه الأقوال الآية محكمةٌ.
القول الثّامن: ذكر أربابه أنّها منسوخةٌ، فروى عكرمة عن ابن عبّاسٍ رضي اللّه عنهما قال: أوّل ما نسخ من القرآن شأن القبلة، قوله
تعالى: {وللّه المشرق والمغرب فأينما تولّوا فثمّ وجه اللّه} فاستقبل رسول اللّه صلّى اللّه
عليه وسلّم بصلاته صخرة بيت المقدس (فصلّى) إليها، وكانت قبلة اليهود، ليؤمنوا به وليتبعوه وليدعوا بذلك الأمّيّين من العرب فنسخ ذلك {ومن حيث خرجت فولّ وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولّوا وجوهكم شطره}.
أخبرنا] إسماعيل [ بن أحمد السّمرقنديّ قال: أبنا أبو الفضل عمر بن عبيد اللّه البقّال قال أبنا أبو الحسين عليّ بن محمّد بن بشران، قال: أبنا أبو الحسين إسحاق ابن أحمد الكاذي، قال: بنا عبد اللّه بن حنبلٍ، قال: حدّثني أبي قال: حدّثني حجّاج بن محمد، قال: أنبا بن جريجٍ عن عطاءٍ الخراسانيّ عن ابن عبّاسٍ رضي اللّه عنهما قال: أوّل ما نسخ من القرآن - فيما ذكر لنا واللّه أعلم - شأن القبلة، قال: {وللّه المشرق والمغرب فأينما تولّوا فثمّ وجه اللّه} فاستقبل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فصلّى نحو بيت المقدس، وترك البيت العتيق ثمّ صرفه اللّه إلى البيت العتيق فقال: {سيقول السّفهاء من النّاس ما ولاهم عن قبلتهم الّتي كانوا عليها} يعنون بيت المقدس، فنسخها وصرف إلى البيت العتيق فقال: {ومن حيث خرجت فولّ وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولّوا وجوهكم شطره}.
قال أحمد بن حنبلٍ: وحدّثنا عبد الوهّاب بن عطاءٍ، أخبرنا سعيد ابن أبي عروبة عن قتادة {فأينما تولّوا فثمّ وجه اللّه} قال: كانوا يصلّون نحو بيت المقدس ونبيّ اللّه بمكّة وبعدما هاجر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم نحو بيت المقدس ستّة عشر شهرًا ثمّ وجهه اللّه تعالى بعد ذلك نحو الكعبة البيت الحرام، قال أحمد، وبنا عبد الصّمد بن عبد الوارث، قال: بنا همام قال، بنا قتادة {فأينما تولّوا فثمّ وجه اللّه} قال: وكانوا يصلّون نحو بيت المقدس ثمّ وجّهه اللّه نحو الكعبة
وقال عز وجل: {فولّ وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولّوا وجوهكم شطره} فنسخت هذه الآية ما كان قبلها من قبلةٍ. أخبرنا
محمّد بن عبد اللّه العامريّ، قال: أبنا عليّ بن الفضل، قال: أبنا محمّد بن عبد الصّمد، قال: أبنا عبد اللّه بن أحمد، قال: أبنا إبراهيم بن خريم، قال: بنا عبد الحميد، قال: بنا يونس، عن شيبان عن قتادة {فأينما تولّوا فثمّ وجه اللّه} قال: نسخ هذا بعد ذلك، فقال الله عز وجل {فولّ وجهك شطر المسجد الحرام}.
قلت: وهذا قول أبي العالية والسدي.
فصلٌ: واعلم: أنّ قوله تعالى: {فأينما تولّوا فثمّ وجه اللّه} ليس فيه أمرٌ بالتّوجّه إلى بيت المقدس ولا إلى غيره بل هو دالٌّ على أنّ الجهات كلّها سواءٌ في جواز التّوجّه إليها.
فأمّا التّوجّه إلى بيت المقدس فاختلف العلماء، هل كان برأي النّبيّ، صلّى اللّه عليه وسلم واجتهاده، أوكان عن وحيٍ؟ فروي عن ابن عبّاسٍ وابن جريجٍ أنّه كان عن أمر اللّه تعالى لقوله عز وجل: {وما جعلنا القبلة الّتي كنت عليها إلاّ لنعلم من يتّبع الرّسول}.
وأخبرنا المبارك بن عليٍّ، قال: أبنا أحمد بن الحسين بن قريشٍ، قال: أبنا إبراهيم بن عمر البرمكيّ، قال: حدّثنا محمّد بن إسماعيل بن العبّاس، قال: أبنا أبو بكر بن أبي داود، قال: أبنا محمّد بن الحسين قال بنا كثير بن يحيى
قال: بنا أبي، قال: بنا أبو بكرٍ الهدبيّ، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ رضي اللّه عنهما قال: قالت اليهود إنّ محمّدًا مخالفٌ لنا في كلّ شيءٍ فلو تابعنا على قبلتنا، أو على شيء لتابعناه، فظنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أنّ هذا منهم جدٌّ، وعلم اللّه منهم الكذب، وأنّهم لا يفعلون فأراد اللّه أن يبيّن ذلك لنبيّه صلّى اللّه عليه وسلم.
فقال: إذا قدمت المدينة فصلّ قبل بيت المقدس، ففعل ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فقالت اليهود: قد تابعنا على قبلتنا ويوشك أن يتابعنا على ديننا، فأنزل الله عز وجل {وما جعلنا القبلة الّتي كنت عليها إلاّ لنعلم من يتّبع الرّسول ممّن ينقلب على عقبيه} فقد علمنا أنهم لا يفعلون، ولكن أردنا أن نبيّن ذلك لك.
وقال الحسن وعكرمة وأبو العالية، والرّبيع بل كان برأيه واجتهاده وقال قتادة: كان النّاس يتوجهون إلى أي جهة شاؤوا، بقوله تعالى: {وللّه المشرق والمغرب} ثمّ أمرهم النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم باستقبال بيت المقدس وقال ابن زيدٍ: "كانوا ينحون أن يصلوا إلى أي قبلة" شاؤوا، لأنّ
المشارق والمغارب للّه، وأنزل اللّه تعالى: {فأينما تولّوا فثمّ وجه اللّه} فقال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: "هؤلاء يهودٌ قد استقبلوا بيتًا من بيوت اللّه - يعني بيت المقدس- فصلّوا إليه" فصلّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه بضعة عشر شهرًا، فقالت اليهود: ما اهتدى لقبلته حتّى هديناه، فكره النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قولهم ورفع طرفه إلى السّماء فأنزل اللّه تعالى: {قد نرى تقلّب وجهك في السّماء}.
أخبرنا المبارك بن عليٍّ، قال: أبنا أحمد بن الحسين بن قريش، قال: أبنا أبو إسحق البرمكيّ، قال: أبنا محمّد بن إسماعيل الوراق، قال: بنا أبو بكر بن أبي داود، قال: بنا محمد بن أيوب قال: بنا أحمد بن عبد الرّحمن، قال بنا عبد اللّه بن أبي جعفرٍ عن أبيه عن الرّبيع، قال: حدّثني أبو العالية: أنّ نبيّ اللّه خيّر بين أن يوجّه حيث يشاء، فاختار بيت المقدس، لكي يتألّف أهل الكتاب ثمّ وجّهه اللّه إلى البيت [الحرام].
واختلف العلماء في سبب اختياره بيت المقدس على قولين:
أحدهما: أنّ العرب لمّا كانت تحجّ ولم تألف بيت المقدس، أحبّ اللّه امتحانهم بغير ما ألفوه ليظهر من يتّبع الرّسول ممّن لا يتّبعه، كما قال تعالى: {وما جعلنا القبلة الّتي كنت عليها إلاّ لنعلم من يتّبع الرّسول ممّن ينقلب على عقبيه} وهذا قول الزّجّاج.
والثّاني: أنّه (اختاره) ليتألّف أهل الكتاب، قاله: أبو جعفر ابن جرير الطبري.
قلت: فإذا ثبت أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم اختار بيت المقدس فقد وجب استقباله بالسّنّة، ثمّ نسخ ذلك بالقرآن.
والتّحقيق في هذه الآية أنّها أخبرت أنّ الإنسان أين تولّى بوجهه فثمّ وجه اللّه، فيحتاج مدعّي نسخها أن يقول: فيها إضمارٌ. تقديره: {فولّوا وجوهكم} في الصّلاة أين شئتم ثمّ نسخ ذلك المقدّر، وفي هذا بعد، والصحيح إحكامها.). [نواسخ القرآن:125- 236]
قالَ أبو الفَرَجِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَلِيٍّ ابْنِ الْجَوْزِيِّ (ت:597هـ): (السادسة: {فأينما تولّوا فثمّ وجه اللّه} ذهب بعضهم إلى أن هذه الآية اقتضت جواز التوجه إلى جميع الجهات فاستقبل رسول الله بيت المقدس ليتألف أهل الكتاب ثم نسخت بقوله {فولّ وجهك شطر المسجد الحرام} فإنما يصح القول بنسخها إذا قدر فيها إضمار تقديره فولوا وجوهكم في الصلاة أنى شئتم ثم ينسخ ذلك القدر. والصحيح أنها محكمة لأنها أخبرت أن الإنسان أين تولى فثم وجه الله ثم ابتدأ الأمر بالتوجه إلى الكعبة لا على وجه النسخ.). [المصَفَّى بأكُفِّ أهلِ الرسوخ: 14-21]
روابط ذات صلة:
- أقوال المفسرين