كلمة الافتتاح *
الحمد لله الذي علم بالقلم ، علم الإنسان ما لم يعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد:
فقد بعث الله تعالى نبيَّه محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق؛ فبيّن للناس ما نُزّل إليهم، وأخرج الله به من شاء من عباده من الظلمات إلى النور فنجَّاهم وزكَّاهم، وعلَّمهم الكتاب والحكمة، وجعلهم أئمةً يهدون بأمره، ويجاهدون في سبيله، ويقيمون أمر دينه؛ فاجتمعوا من بعد افتراق، وائتلفت قلوبهم من بعد اختلاف، واهتدوا من بعد الضلال؛ فنالوا بفضل الله ورحمته ما نالوا ، وبلغوا من الدرجات العلى ما بلغوا {لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} .
فكان النبي صلى الله عليه وسلم أعلمَ الناس بالله وأتقاهم لمولاه، وأخشاهم قلباً، وأزكاهم نفساً، وأحسنهم هدياً، وكان مع ذلك أصدقَهم قولاً، وأفصحَهم لساناً، وأحسنهم بيانا، اختاره الله على علم، وفضّله على الخلق، وجمع الله له محاسن الشيم، ومكارم الأخلاق، وآتاه جوامع الكلم، واختصر له الكلام اختصاراً؛ فكان قليلُ حديثه كثيرَ المعاني، جليلَ القدر، عظيمَ البركة؛ فلبث في هذه الأمة ما شاء الله أن يلبث حتى اختاره الله في الرفيق الأعلى، وقد أكمل له الدين، وأتمّ به النعمة، وأقام به الحجة، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وقد ورّث العلمَ أصحابَه الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه؛ فتحمّلوه أحسن التحمّل، وأدّوه أجمل الأداء، غير متكلّفين ولا مبدّلين، وكانوا أقرب هذه الأمة إلى هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وأعظمهم اهتداء بنور النبوة، واقتباساً من مشكاة الوحي، ثم لم يزل هذا العلم يحمله من كل قرن عدوله؛ فيقومون به كما أراد الله لهم أن يقوموا به، وكان أهل كلّ زمان يحفظون العلم بما يسّر الله لهم؛ فكان الصدر الأول أهل حفظ ودراية ورعاية، وكانوا أمّةً أميّة، والكُتّاب فيهم قليل، لا يكتب الحديث منهم ولا يدوّن العلم إلا نفر معروفون، بل كان من هؤلاء الأئمة من يذمّ الكتابة ويحذّر منها خشية دخول الغلط على الكاتب؛ فيأخذ من الكِتاب من لم يتلقّ اللفظ ولم يعرف الحال؛ فيدخل عليه ما يدخل من الغلط والضلال؛ فلمّا كثر نَقَلَةُ الأخبار ورواة الأحاديث والآثار ، واختلفت أحوالهم؛ احتاج أهل القرن الذي يليهم إلى كتابة العلم وحفظه، فظهر فيهم تدوين الأحاديث والآثار، واحتاطوا لصيانتها من الغلط والتصحيف ما احتاطوا به من الجمع بين الحفظ والكتابة والعرض والتمييز، وكان منهم من يكتب حتى يحفظ ثم يمحو ما كتب، وكانوا يأخذون العلم والهدْي من الرعيل الأول؛ فكان منهم العلماء العباد والوعّاظ والمجاهدون الذين جمعوا من أبواب الخير والفضل ما جمعوا؛ فكانوا أئمة سادة، وأسوة حسنة لمن بعدهم؛ فكتبوا الصحف والنسخ والأجزاء؛ فلما كان القرن الذي يليهم ورأوا كثرة المرويات والأخبار وكثرة اختلاف أحوال الرواة والمفتين دعتهم الحاجة العلمية إلى تأليف الجوامع والسنن والمسانيد وكتب التاريخ وأحوال الرجال، ونقلَ طائفةٌ منهم أشعار العرب وأخبارهم وأحوالهم وما أُثِرَ من لغاتهم ومعاني ألفاظهم وتفننهم في أساليبهم ليحفظوا بذلك اللسان العربي الذي شرّفه الله بأن يكون أداة هذا الدين ولسانه المبين.
فلما كثرت تلك المؤلفات على القرن الذي يليهم احتاجوا إلى تأليف المعاجم والمسانيد الكبار، وكثرت الكتابة المفردة في أبواب من العلم.
فلمّا كان القرن الذين يليهم احتاجوا إلى جمع هذه الأصول وتنقيحها وتهذيبها وتدوين كلام العلماء في شرحها واختلافهم في مسائلها؛ فظهرت الجوامع والمستخرجات والشروح والتعقبات وإن كان لبعض ذلك بداية فيمن كان قبلهم.
ولم يزل علماء كل قرن يؤلفون ما يحتاج إليه طلاب العلم في حفظه وبيانه وتحريره؛ فكثرت المؤلفات وتنوعت، واحتاج الطلاب إلى مختصرات تضبط لهم أصول العلم في كل فنّ، فاختُصِرت المختصرات وتنوعت طرائقها، ثم احتاجوا إلى شروحٍ لتلك المختصرات تفك مغالقها، وتبين مقاصدها، وتُكمل فوائدها، ولم يزل أهل العلم ينهل بعضهم من بعض ويتعقب بعضهم مؤلفات بعض تنبيها وتهذيبا، وشرحاً وتقريباً، حتى صار لهم في الشروح ألوان من المؤلفات والتقريرات؛ فكان من رحمة الله عز وجل أن يسّر لأهل القرن الذين سبقونا آلات الطباعة فاستغنوا بالتصوير الذي يطابق الأصل عن النسخ باليد ومكابدة المقابلة والتصحيح؛ فكثرت الطباعة ونشطت المطابع حتى كثرت المطبوعات، وفاتت على الحصر والعد؛ فمنّ الله على أهل هذا القرن بوسائل التقنية التي تستوعب كثيراً من تلك الكتب فأُنتجت البرامج الآلية وأنشئت المواقع على الشبكة العنكبوتية، وثارت ثورة المعلومات، واتسعت دائرة القرّاء، وكثرت الكتب المصورة والمنسوخة، وتعددت نسخها على الشبكة وتفاوتت جودتها، وضعفت عناية كثير من أهل السعة والقدرة بالعلم وأهله فلم يقوموا بهذا الأمر حق قيامه، وفرّطوا فيما لو قاموا به لكان شرفاً لهم ورفعة في الدنيا والآخرة، ولو وازنت بين ما يبذل للاستفاد من وسائل التقنية في الأمن والاتصالات والطب والهندسة بل في كثير من وسائل اللهو والترفيه وبين ما يبذل للعلم وأهله لحفظ العلم وضبطه وتقريبه لتبيّن لك التقصير الكبير ، والله المستعان.
ولله فيما قدّر ويقدّر حكمة بالغة؛ فقد ظهرت الجهود الفردية من أفذاذ أحسنوا القيام بما شرّفهم الله به، وكابدوا في سبيل ذلك ما كابدوا حتى كان الرجل منهم يوازي مؤسسة بحثية في غزارة إنتاجه وجودة تحريره ودأبه على العمل، لكنهم لم ينالوا ذلك إلا بالجد والمثابرة ، والمجاهدة والمصابرة، واحتمال الأذى الشديد، والاضطلاع بالحمل الثقيل، فكان صبرهم جميلاً، وكانت عاقبتهم حسنة، فبقيت مؤلفاتهم وأعمالهم العلمية منهلاً لطلاب العلم، ونبعاً جاريا بالعلم والهدى.
ويبقى العمل الفردي على عظيم نفعه غير وافٍ بما يحتاجه أهل العصر من الضبط والتحرير والتقريب والتيسير ، ولا أدلّ على ذلك من انتشار الجهل وكثرة المتعالمين وأنصاف المتعلمين الذين يفتنون الناس بلَبْس الحق بالباطل وتزيين ما تهوى الأنفس وتسويغ الشهوات بالشبهات، فتجد في أهل هذا الصنف من مخالفة أصول أهل العلم في النظر والاستدلال، وخرق الإجماع، والافتئات على أهل العلم، والجرأة على الفتوى بالظن والرأي المذموم ما يحزن له قلب المؤمن.
وقد عَلِمَ أهل كلّ علم أن عليهم واجبين عظيمين في حفظه ورعايته:
أحدهما: تعليمه لطلابه، وتيسيره لهم.
والآخر: صيانته من انتحال المبطلين وتأويل الجاهلين.
ولا يستقيم حفظ العلم إلا بهذين الأصلين.
وأرى أن حاجة طلاب العلم في هذا العصر تدعو إلى النهوض بمشروعات علمية متنوعة تقرب العلم لطلابه وتعين على تحقيق مسائله وتحريرها، وحسن الاطلاع على أقوال الأئمة فيها، وبيان ما اجتمعوا عليه، والتنبيه على خطأ من خالفهم؛ فعامّة الفتن التي مثارها الشبهات سببها مخالفة الإجماع، ولبس الحق بالباطل، وتصوير المسائل على غير ما هي عليه، ومن كان ضعيف الأداة في البحث التقني عانى في بحث مسائل العلم صعوبة كبيرة تؤخره أوقاتاً كثيرة.
حتى من كان له نصيب من المعرفة بوسائل البحث التقني لا ينفك غالباً من إمضاء ساعات كثيرة وربما أياماً في بحث مسألة وتحريرها، وجمع أقوال أهل العلم فيها، ذلك أن مبنى كثير من تلك البرمجيات والمواقع هو البحث بدلالة الكلمة ؛ فيحتاج الباحث إلى جهد كبير في تصفية نتائج البحث، ثم قد لا يظفر بكثير مما يفيده في بحث مسألته.
فكان من الواجبات على أهل هذا الشأن النظر في تحسين الاستفادة من وسائل التقنية لحفظ العلم وتيسيره لطلاب العلم والباحثين.
وقد أسَّسْنا هذا الموقع - بفضل الله تعالى - على حين نضوج فكرة التحليل العلمي وتنوع وسائل الإفادة من تقنية المعلومات؛
فكانت فكرته قائمة على إعادة بناء المعلومات العلمية على أساس أسماء المسائل التي تضمنتها علوم الشريعة واللغة العربية، وشرح هذه الطريقة له مقام آخر يفصّل فيه بإذن الله، وحسبنا في هذه الكلمة التعريف بأصل الفكرة ودواعي إنشاء هذا الموقع الذي سمّيناه ( جمهرة العلوم ) .
ولهذا الموقع أصول خمسة تخدم فكرة إنشائه، وعليها مدار أعماله:
الأصل الأول: التعريف بالعلوم التي اعتنى بها أئمة أهل السنة والجماعة وبيان معالمها.
الأصل الثاني: التعريف بأئمة كل علم من هذه العلوم وبيان مؤلفاتهم وطبقاتهم مرتبة على قرون الإسلام.
الأصل الثالث: التعريف بالكتب المعتمدة في كل علم لدى أهله، والعناية بها وتقريب مسائلها ودلائلها وخدمتها بقوالب العرض التي تعين على سرعة الوصول إلى المعلومة.
الأصل الرابع: بيان أقسام كل علم وأبوابه ومسائله وعرض ذلك في كشافات تحليلية تكشف بالنظر السريع لطالب كل علم ماتضمنته كتب أئمته، ويستفيد من مداومة النظر في تلك الكشافات حسن الإلمام بمباحث ذلك العلم ومعرفة مسائله.
الأصل الخامس: جمع أقوال أئمة كل علم وتصنيفها على مسائله وترتيبها على الوفيات، وبيان مواضع الإجماع والخلاف في تلك المسائل.
ويتبع هذه الأصول الخمسة ويتمم فوائدها بيان خطة القراءة المنظمة في كل علم ، وإنشاء منتدى لكل علم يلتقي فيه الباحثون ليتدارسوا مسائله ويتذاكروا فوائده، وليسهموا في هذا البناء المؤسسي الكبير.
وهذه الأعمال المتعددة والمتنوعة قام على تنفيذها والإعداد لها - منذ سنوات - أعضاء مركز الدراسات والبحوث بمعهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد من المشرفين والإداريين وطلاب العلم المتفوقين ممن أحسبهم من أهل الصدق والإحسان في القول والعمل.
وقد رأيت من صبرهم وعزيمتهم ومواصلتهم العمل مدة طويلة - لا يعلم بهم كثير من الناس - ما أرجو أن يكون علامة على صلاح نياتهم واستقامة قصدهم وصدقهم في الإفادة ونشر العلم.
أسأل الله تعالى أن يتقبّل منهم أعمالهم وأن يجعلها حسنات جاريةً لهم بتيسير أمورهم وتحقيق آمالهم، وبياضاً في وجوههم يوم العرض الأكبر ، وأن ينشر لهم بذلك ذكراً حسناً وودّا صادقاً وتوفيقاً لما يحبّ ويرضى.
فأشكرهم على ما بذلوا وواصلوا من عمل الليل والنهار، وأشكر كل من أسهم في إنجاح هذا العمل ببذلٍ بذله أو رأي قدّمه أو عمل أنجزه، وهم وإن كانوا لا يعلمهم كثير من الناس فالله يعلمهم، والله يعلم ما كان لدعمهم وتشجيعهم من أثر في نجاح العمل وتقويمه وتحسينه وانتظامه وحمايته من كثير من الآفات، فأسأل الله تعالى أن يثيبهم على ذلك ثواباً عاجلاً مباركاً، وأن يضاعف لهم المثوبة في الأخرى أضعافاً كثيرة.
وقد رأينا بعد تشاور واستخارة أن يعلن عن يفتتح هذا الموقع على التدريج، وأن يتاح المجال لمن أراد المشاركة من طلاب العلم والباحثين في إتمام العمل وتحسينه ومراجعته وتحريره؛ فيزداد عدد القائمين على هذا الموقع وتنمو أعمالهم وتزداد حسناً ويعظم نفعها بإذن الله.
وهذا الموقع قائم على العمل التطوعي الجماعي المنظَّم، فعمل الباحث فيه يكون وفق خطة عمل منظمة يتدرب على جزء منها بملازمة باحث سابق له حتى إذا أتقن الطريقة نُقِلَ إلى العمل الذي يُرى أنه يحسنه.
أسأل الله تعالى أن يتولانا جميعاً بحفظه ورعايته
وأن يتقبل منا إنه هو السميع العليم
وأن يغفر لنا ويتجاوز عن سيئاتنا إنه هو الغفور الرحيم.
ربَّنا أحينا بذكرك، ومنَّ علينا بعفوك، وافتح لنا أبواب فضلك
واجعل لنا نوراً نمشي به، وفرقانا نميّز به، واهدنا وسددنا.
ربَّنا عليك توكلنا، وإليك أنبنا، وإليك المصير.
دليل جمهرة العلوم : هنا
* هذا هو الافتتاح التجريبي، وسنفتتح بإذن الله تعالى أقسام الجمهرة على التدريج.