التفسير اللغوي المجموع
[ما استخلص من كتب علماء اللغة مما له صلة بهذا الدرس]
تفسير قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26)}
قَالَ سِيبَوَيْهِ عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ بْنِ قُنْبُرٍ (ت: 180هـ): (واعلم أن كل شيء حسن لك أن تعمل فيه (رب)، حسن لك أن تعمل فيه (لا).
وسألت الخليل رحمه الله عن قول العرب: ولا سيما زيد، فزعم أنه مثل قولك: ولا مثل زيد، وما لغو. وقال: ولا سيما زيد، كقولهم: دع ما زيد، وكقوله: {مثلا ما بعوضة} فسي في هذا الموضع بمنزلة مثل، فمن ثم عملت فيه لا كما تعمل رب في مثل، وذلك قولك: رب مثل زيد. وقال أبو محجن الثقفي:
يا ربّ مثلك في النساء غريرةٍ ....... بـيـضــاء قــــد مـتّـعـتـهـا بــطـــلاق
). [الكتاب: 2/ 286]
قال محمد بن المستنير البصري (قطرب) (ت:206هـ): (ومن الأضداد: «فوق» تكون بمعنى: الأرفع، وبمعنى: الأدون. يقال: زيد فوق عمرو نباهة وجلالة، أي: أرفع منه، وفوق عمرو خسة ودناءة، أي: أدون منه.
وأما قول الله جل ثناؤه: {مثلا ما بعوضة فما فوقها}، قال: تفسيرها: فما دونها، وهو قول الكلبي وذلك لا يجوز عندي.
وأما قول ابن عباس: «فما فوقها». الذباب فوق البعوضة، فهو الذي يستحسن.
وإنما يجوز قول الكلبي في الصفات أن تقول: هذا صغير وفوق صغير. وقليل وفوق القليل، أي: جاوز القليل في قلته فهو دونه في القلة. فأما في الاسم، إذا قلت: هذه نملة وفوق النملة، أو حمار وفوق الحمار فلا يجوز أن تريد به الأصغر من الحمار لأن هذا اسم ليس فيه معنى الصفة التي جاز ذلك فيها). [الأضداد: 133-134]
قالَ المبرِّدُ محمَّدُ بنُ يزيدَ الثُّمَالِيُّ (ت: 285هـ): (وقوله:
وصبري عمن كنت ما إن أزايله
إن: زائدة، وهي تزاد مغيرة للإعراب، وتزاد توكيدًا، وهذا موضع ذلك، فالموضع الذي تغير فيه الإعراب هو وقوعها بعد"ما" الحجازية، تقول: ما زيدٌ أخاك، وما هذا بشرًا، فإذا أدخلت إن هذه بطل النصب بدخولها، فقلت: ما إن زيد منطلق، قال الشاعر:
وما إن طبنا جبنٌ ولكن ....... مـنـايـانـا ودولــــة آخـريــنــا
فزعم سيبويه أنها منعت "ما" العمل كما منعت "ما" إن الثقيلة أن تنصب تقول: إن زيدًا منطلق، فإذا أدخلت"ما" صارت من حروف الابتداء، ووقع بعدها المبتدأ وخبره والأفعال، نحو: إنما زيد أخوك، {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} ولولا "ما" لم يقع الفعل بعد"إن" لأن"إن" بمنزلة الفعل، ولا يلي فعل فعلاً لأنه لا يعمل فيه، فأما كان يقوم زيدٌ، {كاد يزيغ قلوب فريق منهم} ففي كان وكاد فاعلان مكنيان.
و"ما" تزاد على ضربين، فأحدهما أن يكون دخولها في الكلام كإلغائها، نحو {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} أي فبرحمة، وكذلك: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا} وكذلك {مَثَلاً مَا بَعُوضَةً} وتدخل لتغيير اللفظ، فتوجب في الشيء ما لولا هي لم يقع، نحو ربما ينطلق زيد، و{رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا}، ولولا" ما" لم تقع رب على الأفعال، لأنها من عوامل الأسماء، وكذلك جئت بعد ما قام زيد، كما قال المرار:
أعــلــقــة أم الــولــيــد بـــعــــد مـــــــا ....... أفنان رأسك كالثغام المخلس
فلولا" ما" لم يقع بعدها إلا اسم واحد، وكان مخفوضًا بإضافة" بعد" إليه، تقول: جئتك بعد زيد). [الكامل: 1/ 440-442] (م)
قالَ أبو العبَّاسِ أَحمدُ بنُ يَحْيَى الشَّيبانِيُّ - ثَعْلَبُ - (ت:291هـ): (وقال أبو العباس في قوله عز وجل: {مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} يقال: دونها وهو قليل، وتكون ما صلة؛ وما فوقها، أي: أكبر منها، أجود). [مجالس ثعلب: 191]
قالَ محمَّدُ بنُ القاسمِ بنِ بَشَّارٍ الأَنْبَارِيُّ: (ت: 328 هـ): (وما حرف من الأضداد. تكون اسما للشيء، وتكون جحدا له، وتكون مزيدة للتوكيد. فيقول القائل: طعامك ما أكلت، وهو يريد طعامك الذي أكلته، فتكون (ما) اسما للطعام، وتقول: طعامك ما أكلت، وهو يريد: طعامك لم آكل. وتقول: طعامك ما أكلت، وهو يريد: طعامك أكلت، فيؤكد الكلام بـ(ما). وتقول أيضا: عبد الله ما قام، على جحد القيام، وعبد الله ما قام على إثباته. و(ما) زيدت
للتوكيد فكون (ما) جحدا لا يحتاج فيه إلى شاهد لشهرته وبيانه، وكونها اسما شاهده قول الله عز وجل: {مما خطيئاتهم أغرقوا} معناه من خطاياهم.
وقوله أيضا: {فبما نقضهم ميثاقهم}، فمعناه فبنقضهم ميثاقهم. وقوله: {إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها}، معناه: مثلا بعوضة. وقال نابغة بني ذبيان:
الـــمــــرء يـــهــــوي أن يـــعــــيــ.......ـش وطول عيش ما يضره
تـــفـــنـــى بــشــاشــتـــه ويـــــــــبــ....... ـقى بعد حلـو العيـش مـره
وتــصـــرف الأيــــــام حـــتـــى.......مـــــا يــــــرى شــيــئــا يـــســـره
كـم شامـت بــي إن هـلـكــ....... ـت وقـــــــــائــــــــــل: لله دره!
أراد وطول عيش يضره، فأكد بـ(ما). ويجوز أن تكون (ما) بمعنى (الذي)، والتأويل: وطول عيش الذي يضره، كما قال أبو صخر الهذلي:
هجرتك حتى قلت ما يعرف القلى ....... وزرتـك حتـى قـلـت لـيـس لــه صـبـر
أراد: حتى قلت الذي يعرفه القلى، ولو كانت جحد لفسد معنى البيت. وقال الآخر:
ذريني إنما خطئي وصوبي....... علـي وإن مـا أنفقـت مــال
أراد: وإن الذي أنفقت مال). [كتاب الأضداد: 195-197] (م)
قالَ محمَّدُ بنُ القاسمِ بنِ بَشَّارٍ الأَنْبَارِيُّ: (ت: 328 هـ): (وفوق حرف من الأضداد. يكون بمعنى أعظم،
كقولك: هذا فوق فلان في العلم والشجاعة؛ إذا كان الذي فيه منهما يزيد على ما في الآخر، ويكون (فوق) بمعنى (دون)، كقولك: إن فلانا لقصير، وفوق القصير، وإنه لقليل وفوق القليل؛ وإنه لأحمق وفوق الأحمق؛ أي هو دون المذموم باستحقاق الزيادة من الذم؛ ومن هذا المعنى قول الله عز وجل: {إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها}. يقال: معنى قوله: {فما فوقها}، فما دونها، ويقال: معناه فما هو أعظم منها.
وقال الفراء: الاختيار أن تكون (فوق) في هذه الآية بمعنى أعظم؛ لأن البعوضة نهاية في الصغر؛ ولم يدفع المعنى الآخر، ولا رآه خطأ.
وقال قطرب: فوق تكون بمعنى (دون) مع الوصف؛ كقول العرب: إنه لقليل وفوق القليل؛ ولا تكون بمعنى (دون) مع الأسماء، كقول العرب: هذه نملة، وفوق النملة؛ وهذا حمار وفوق الحمار، قال: لا يجوز أن تكون (فوق) في هاتين المسألتين بمعنى (دون)؛ لأنه لم يتقدمه وصف، إنما تقدمته النملة والحمار، وهما اسمان. ورد قول المفسرين الذين ذكروا فيه أن (فوقا) في الآية بمعنى (دون).
قال أبو بكر: ورده هذا غلط عندي؛ لأن البعوضة وصف للمثل، وما توكيد، والتقدير: (مثلا بعوضة فما دونها). فإن كان الأمر على ما ذكر من أن (فوق) لا تكون بمعنى (دون) إلا بعد تقدم الوصف – لزمه إجازة هذا المعنى في الآية؛ إذ كان الحرف جاء بعد البعوضة؛ وهي وصف للمثل. ويجوز أن تنتصب البعوضة على معنى (بين)؛ ويكون التقدير: مثلا ما بين بعوضة إلى ما فوقها، فأسقطت (بين) وجعل إعرابها في البعوضة؛ ليعلم أن معناها مراد؛ كما قالت العرب: مطرنا ما زبالة فالثعلبية، وهم يريدون: (ما بين زبالة إلى الثعلبية)، قال الشاعر:
يا أحسن الناس ما قرنا إلى قدم....... ولا حـبـال مـحـب واصــل تـصـل
أراد: ما بين قرن إلى قدم.
وقرأ رؤبة بن العجاج: {مثلا ما بعوضة فما فوقها}، على معنى: مثلا ما هو بعوضة، فأضمر (هو)، كما قال الأعشى:
فـأنـت الـجــواد وأنـــت الـــذي....... إذا ما النفوس ملأن الصدورا
جـــديـــر بـطـعــنــة يــــــوم الــلــقـــا....... ء تضرب منها النساء النحورا
أراد: وأنت الذي هو جدي). [كتاب الأضداد: 249-252]
تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)}
تفسير قوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)}
قالَ محمَّدُ بنُ القاسمِ بنِ بَشَّارٍ الأَنْبَارِيُّ: (ت: 328 هـ): (وقال بعض أهل اللغة: إذا دخلت (هل) للشيء المعلوم فمعناها الإيجاب، والتأويل: ألم يكن كذا وكذا! على جهة التقرير والتوبيخ، من ذلك قوله جل وعز: {كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا}، ومنه أيضا: {فأين تذهبون}، لم يرد بهذين الاستفهامين حدوث هلم لم يكن؛ وإنما أريد بهما التقرير والتوبيخ، ومن ذلك قول العجاج:
أطــربــا وأنـــــت قـنــســري....... والدهر بالإنسان دواري
أراد بالتقرير. وأنشدنا ثعلب أبو العباس:
أحافرة على صلع وشيب....... مـعـاذ الله ذلــك أن يكـونـا
). [كتاب الأضداد: 192-193] (م)
تفسير قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)}
قَالَ سِيبَوَيْهِ عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ بْنِ قُنْبُرٍ (ت: 180هـ): (وقالوا: علم علماً، فالفعل كبخل يبخل والمصدر كالحلم، وقالوا: عالم كما قالوا في الضد: جاهل، وقالوا: عليم كما قالوا: حليم. وقالوا: فقه وهو فقيه والمصدر فقه كما قالوا: علم علماً وهو عليم). [الكتاب: 4 /35]
قال أبو زكريا يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ: (ت: 207هـ): (و«السماء» يؤنث ويذكر، والتذكير قليل، كأنها جمع سماوة وسماءة. قال الله عز وجل: {السماء منفطر به} فذكر. قال الشاعر:
فلـو رفـع السمـاء إلـيـه قـومـا....... لحقنا بالسماء مع السحاب
). [المذكور والمؤنث: 91] (م)