جمهرة العلوم

جمهرة العلوم (http://jamharah.net/index.php)
-   توجيه القراءات (http://jamharah.net/forumdisplay.php?f=1080)
-   -   توجيه القراءات في سورة البقرة (http://jamharah.net/showthread.php?t=27802)

جمهرة علوم القرآن 25 محرم 1440هـ/5-10-2018م 07:18 PM

توجيه القراءات في سورة البقرة
 
توجيه القراءات في سورة البقرة

جمهرة علوم القرآن 25 محرم 1440هـ/5-10-2018م 09:32 PM

مقدمات سورة البقرة
 
مقدمات توجيه القراءات في سورة البقرة
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (القراءة في: سورة البقرة). [معاني القراءات وعللها: 1/120]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): ( (سورة البقرة) ). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/55]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (ومن السورة التي يذكر فيها البقرة). [الحجة للقراء السبعة: 1/175]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (سورة البقرة). [المحتسب: 1/50]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : (2 - سورة البقرة). [حجة القراءات: 83]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (ذكر علل اختلاف القراء فيما قل دوره من الحروف
فمن ذلك سورة البقرة). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/224]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (وهي مدنية، وكل ما فيها {يا أيها الذين آمنوا} فهو مدني). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/224]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (وهي مائتا آية وخمس وثمانون آية في المدني وست في الكوفي). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/224]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (سورة البقرة). [الموضح: 237]

الياءات المحذوفة
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقال أبو بكر: حذفت من البقرة ست ياءاتٍ اكتفى بكسرات ما قبلهن، منها: حذف ياء (وإيّاي فارهبون (40)، (فاتّقون (41)، (ولا تكفرون (152)،
[معاني القراءات وعللها: 1/239]
(دعوة الدّاع إذا دعان (186)، (واتّقون يا أولي الألباب (197).
وقد أثبتهن يعقوب في الوصل والوقف.
ووصل أبو عمرو منهن ثلاثا: (الدّاع إذا دعان (186)
(واتّقون يا أولي الألباب (197).
ووقف بغير ياء.
وحذفهن الباقون في الوصل والوقف). [معاني القراءات وعللها: 1/240]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (وحذف من هذه السورة ست آيات اختلفوا في ثلاث
{دعوة الداع إذا دعان} [186].
فأثبت أبو عمرو الياء فيهما في الوصل، وحذفهما في الوقف، وروى إسماعيل بن جعفر وورش عن نافع مثل أبي عمرو، وروى المسيبي عنه بغير ياء فيهما، وروى قالون عنه أنه وصل {الداعي} بياء ووقف بغير ياء ولم يذكر {إذا دعاني}.
وقرأ الباقون بغير ياء في وصل ووقف.
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/106]
{واتقون يا أولي الألباب} [197].
أثبتها أبو عمرو في الوصل، وحذفها في الوقف، رده في الوصل إلى أصل الكلمة، وفي الوقف إلى المصحف. وحذفها الباقون وصلاً ووقفًا). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/107]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (فيها ست ياءات حذفن من الخط وهي:
{فارْهَبُوني} و{فاتّقُونِي} و{لا تَكْفُرُوني} {الدَاعِي} {إذا دَعَاني} {واتّقُوني}.
فأثبتهن كلهن يعقوب في الوصل والوقف.
والباقون اختلفوا في ثلاث: {الداعِي إذا دَعَاني} {واتّقوني}:-
فأثبتهن أبو عمرو ونافع يل- في الوصل دون الوقف، وكذلك ش- إلا قوله {واتّقُونِ} فإنه لا يثبتها في الحالين، و- ن- عن نافع لا يثبت شيئًا منهن في الحالين، وكذلك الباقون.
والوجه أن الخط تبع للفظ، وأصل هذه الياءات في اللفظ أن تثبت إلا أنها قد تحذف للتخفيف، والاكتفاء بالكسرة، فمن أثبتها فعلى الأصل، ومن حذفها فللتخفيف، ومن حذف البعض وأثبت البعض فللأخذ باللغتين، ومن حذفها في الوقف دون الوصل فلأن الحذف تغيير، والوقف موضع تغيير). [الموضح: 359]

ياءات المتكلم
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (في هذه السورة ثمان ياءات للمتكلم وهي:
[الموضح: 357]
{إنّي أَعْلَمُ} {انّي أعْلَمُ} {عَهْدِي الظالِمِين} {فاذْكُرُوني أذْكُرْكُمْ} {بَيْتي للطائِفينَ} {رَبّيَ الذي يُحْيِي} {ولْيُؤمِنوا بي لَعَلّهم} {مِنّي إلاّ}.
ففتحن نافع إلا قوله {فاذْكُرُونِيْ}، واختلف عنه في {ولْيُؤْمِنُوا بِي} ففتحها ش- وأسكنها ن- و- يل-.
وفتح ابن كثير خمسا، وأسكن {بَيْتَي} {ولْيُؤْمِنُوا بِي} و{منّي إلاّ}، وأسكن أبو عمرو ثلاثًا: {بيتي} {وَلْيُؤمنوا بي} و{فاذكروني}، وفتح الخمس البواقي. وفتح ص- عن عاصم اثنتين {بَيْتِيَ} و{رَبّيَ الَّذِي}، وأسكن الست البواقي. وفتح عاصم ياش- وابن عامر والكسائي ويعقوب اثنتين {عَهْدِيَ} و{رَبّيَ الَّذِي} وأسكنوا البواقي ولم يفتح حمزة منهنّ شيئًا.
والوجه في فتح هذه الياءات أنه هو الأصل فيها؛ لأن القياس يقتضي في
[الموضح: 358]
ياءات الضمير أن تكون مفتوحة كالكاف في نحو قولك: ضربتك ومررت بك، إلا أنهم قد يسكنونها تخفيفًا؛ لأن الفتحة وإن كانت خفيفةً فإن السكون أخف منها، وأيضًا فإن الياء لكونها حرفًا من حروف العلة تشبه الألف، والألف لا تكون إلا ساكنة، فأسكنوا الياء أيضًا توفيرًا لحكم الشبه عليها.
فمن فتح أخذ بالأصل، ومن أسكن أخذ بالتخفيف، ومن فتح البعض وأسكن البعض أخذ باللغتين مع الأخذ بالشبه). [الموضح: 359]
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين

جمهرة علوم القرآن 25 محرم 1440هـ/5-10-2018م 09:35 PM

القراءات في قول الله تعالى: {الم}
 
سورة البقرة

[الآية (1)]
{الم}


قوله تعالى: {الم (1)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
القول في (الم).
إنها حرف التهجي، وهي الألف، والباء، والتاء، وسائر ما في القرآن منها.
وإجماع النحويين على أن هذه الحروف مبنية على الوقف، وأنها لا تعرب، كقولك: ألف، لام، ميم. بسكون الفاء من (ألف)، والميم من (لام)، ومن (ميم)، والنطق بها أن تسكت على كل حرف.
والدليل على أن حروف الهجاء مبنية على السكت كما بني العدد على السكت أنك تقول فيها بالوقف مع الجمع بين الساكنين، كما تقول إذا عددت: واحد، اثنان، أربعة.
فتقطع ألف (إثنان) وهي ألف وصل، ويذكر الهاء في ثلاثة وأربعة لولا أنك تقدر السكت لقلت: ثلاثة.
فإذا عطفت الحروف فإنك حينئذ تعربها، فتقول: ألف ولام وميم. وكذلك ألف وباء وتاء إلى آخر الحروف.
وكذلك في العدد إذا عطفت أعربت، فتقول: واحدٌ واثنان وثلاثة وأربعة.
[معاني القراءات وعللها: 1/120]
وكذلك اختير الوقف في "الم " و(الر، و(كهيعص" وما أشبه هذه الحروف.
وروي عن أبي جعفر الرؤاسي أنه قرأ: (الم (1) اللّه لا إله إلّا هو) بقطع الألف من (الله).
وأما القراء فإنهم اتفقوا على طرح همزة ألف (الله)، والعلة في فتحة هذه الميم من قولك: (الم الله) لأن الميم إنما جزمت لنيّة الوقف عليها، إلا أنها كانت مجزومة جزما أصليًا، وإذا كان الحرف ينوى به الوقوف نوي بما بعده الاستئناف، فالقراءة (الم الله) بجزم الميم، فتركت العرب همز الألف من (الله) فصارت فتحها في الميم بسكونها، فقرئ (الم الله) لهذه العلة، ولو كانت الميم مجزومة جزما مستحقة الجزم لكسرت حين استقبالها ألف ولام، كما قال الله جلّ وعزّ: (قيل ادخل الجنة) بجزم اللام.
وقال أبو إسحاق في قول الله جلّ ذكره: (الم (1) اللّه لا إله إلّا هو): إنما حركت الميم في (الم الله) لأنه لا يسوغ في اللفظ أن ينطق بثلاثة أحرف سواكن، فلابد من فتحة الميم في (الم الله) لالتقاء
[معاني القراءات وعللها: 1/121]
الساكنين، أعني الميم واللام التي بعدها، وهذا القول صحيح لا يمكن في اللفظ غيره.
قال: ولا أعلم أحدا قرأ (الم الله) بسكون الميم إلا أبو جعفر الرؤاسي قال: وأما ما روي عن عاصم فلا يصح عنه، واجتماع القراء على حركة الميم.
وقال الفراء: بلغني عن عاصم أنه قرأ بقطع الألف). [معاني القراءات وعللها: 1/122]

روابط مهمة:
- أقوال المفسرين

جمهرة علوم القرآن 25 محرم 1440هـ/5-10-2018م 09:38 PM

سورة البقرة [من الآية (2) إلى الآية (5) ]
 
سورة البقرة [من الآية (2) إلى الآية (5) ]
بسم الله الرحمن الرحيم
{ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)}


قوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) }
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله عزّ وجلّ: (لا ريب)
اتفق القراء على نصب (لا ريب).
وجائز في العربية أن تقول: لا ريبٌ فيه، ولكن لا يجوز القراءة بها، لأن القراءة سنة متبعة.
و (لا) حرف نفي، نصب العرب الحرف بها إذا لم يكرروها بلا تنوين، فإذا كرروها فمنهم من ينصب بلا تنوين، ومن يرفع وينون). [معاني القراءات وعللها: 1/122]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (1- قوله تعالى: {لا ريب فيه هدى}
قرأ أبو عمرو وحده {فيه هدى} بإدغام الهاء في الهاء، وكذلك يفعل بالحرفين إذا التقيا، متجانسين كانا أو متقاربين، فالمتجانسان نحو: {جعل لكم الأرض فراشا} {ولا نكذب بآيات ربنا} و{ذهب بسمعهم وأبصارهم} وإن كان الحرف الأول مشددًا لم يدغم نحو: {أحل لكم} و{مس سقر} أو كانت الكلمة محذوفة عين الفعل نحو: {كدت تركن إليهم} و{كنت ترجو} أو خفت الكلمة بعض الخفة.
فأما المتقاربان [ف] ــــــنحو {خلقكم ثم رزقكم} و{أعلم بالشاكرين} و{مريم بهتانا عظيما}
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/55]
وقرأ الباقون كل ذلك بالإظهار. فحجة من أدغم قال: إظهار الكلمتين كإعادة الحديث مرتين، أو كخطو المقيد، فأسكن الحرف الأول وأدغمه في الثاني ليُعمل اللسان مرة واحدة.
وأما من أظهر فإنه أتى بالكلام على أصله لتكثر حسناته، إذ كان له بكل حرف عشر حسنات، وإنما الإدغام تخفيف وتقليل الكثير. واتفق القراء جميعًا على إدغام الحرفين المتجانسين والأول ساكن نحو قوله: {أن أضرب بعصاك}). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/56]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (قوله تعالى: فيه هدىً [2].
قال أحمد بن موسى: قرأ نافع: (فيه هدى)، و (عليه إنه) [الحج/ 4] (وما أنسانيه إلا) [الكهف/ 63] وما أشبه ذلك إذا كان قبل الهاء ياء ساكنة حركها حركة مختلسة من غير أن يبلغ بها الياء.
واختلف عن نافع: فروى المسيّبي عن نافع أنه أثبت الياء بعد الهاء [في قوله]: عليهي، فيقول من (كتب عليهي أنه من تولاه) [الحج/ 4]. وروى الكسائي عن إسماعيل عن نافع أنه قرأ: عليهي، يثبت الياء في كل
[الحجة للقراء السبعة: 1/175]
القرآن، فإذا كان قبلها واو ساكنة مثل ندعوه إنّه [الطور/ 28] أو ألف مثل اجتباه وهداه [النحل/ 121] ضم الهاء ضما من غير أن يبلغ بالضمة الواو. فإذا كان قبل الهاء حرف غير الواو والياء والألف وهو ساكن حرك الهاء أيضا حركة خفيفة من غير بلوغ واو، مثل: منه وعنه، إلّا في قوله: وأشركهو في أمري [طه/ 32] فإن المسيّبي روى عنه الصلة بالواو في هذا الحرف وحده. فإذا كان ما قبل الهاء متحركا، وكانت الحركة كسرة كسر الهاء ووصلها بياء في اللفظ، كقوله: وأمهي... وصاحبتهي [عبس/ 35]، وكتبهي ورسلهي [البقرة/ 285، والنساء/ 136] وما أشبه ذلك. فإذا كانت الحركة قبل الهاء ضمة أو فتحة ضم الهاء ووصل الهاء بواو.
فمثل ما تحرك ما قبل الهاء فيه بالضمة قوله تعالى: فإن الله يعلمهو [البقرة/ 270]، فهو يخلفهو [سبأ/ 39]. ومثل ما تحرك ما قبل الهاء فيه بالفتحة قوله: خلقهو فقدر هو [عبس/ 19]، ويسرهو [عبس/ 20]، فأقبرهو [عبس/ 21] وما أشبه ذلك، يصل ذلك كله بواو ويقف بغير واو. وكذلك مذهب أبي عمرو وعاصم إلّا في قوله: (وما أنسانيه إلا الشيطان) [الكهف/ 63] فإن أبا بكر بن عياش وحفصا اختلفا فيه عن
[الحجة للقراء السبعة: 1/176]
عاصم فروى أبو بكر عن عاصم: (وما أنسانيه) بكسر الهاء من غير بلوغ ياء ومثله (بما عاهد عليه الله) [الفتح/ 10] ويخلد فيه مهاناً [الفرقان/ 69].
وروى عنه حفص (وما أنسانيه إلّا) بضم الهاء من غير واو. وكذلك اختلفا في قوله: بما عاهد عليه اللّه فضم حفص الهاء وكسرها أبو بكر في سائر القرآن. ومثله: ويخلد فيه مهاناً، فإن حفصا روى عن عاصم أنه يصل الهاء بياء، وحذفها أبو بكر عن عاصم. وهو مذهب حمزة والكسائي وابن عامر، إلّا ما روى حفص عن عاصم في «أنسانيه» و «عليه الله» وفيهي «مهانا» يشبع الكسرة.
فأمّا ابن كثير فإنّه كان [يصل الهاء بياء في كل ذلك إذا كان قبلها ياء أو واو أو ألف أو حرف ساكن أو متحرك]
[الحجة للقراء السبعة: 1/177]
فيقول «فيهي هدى»، و (إليهي، ولديهي، وعليهي، واجتباهو، وهداهو، وما أنسانيهي إلّا، ومنهو، وعنهو) وكل ما كان مثله في القرآن.
قال أبو بكر محمد بن السري: الاختيار في (فيه) الكسر بغير ياء ولا إدغام. وحكى عن أبي حاتم أن ذلك قراءة العامة. قال أبو بكر: وهو الأخف، وخط المصحف بغير ياء.
قال: وأكره الإدغام، لأن من كسر، فالياء يريد، ومن أثبت الياء لم يجز له أن يدغم، لأنّه لم يلتق حرفان، ومع ذلك فهي من الحروف التي يكره إدغام بعضها في بعض، لثقل ذلك.
قال: وقال أبو حاتم: يروى عن نافع أنّه كان يدغم: ((فيه هدى)) ويشمّها شيئا من الضم. قال: وإدغامه وإدغام أبي عمرو يدل على أنّهما لم يكونا يزيدان على ضمّة الهاء بلا واو وعلى كسرها بلا ياء كقراءة العوام.
قال أبو حاتم: والضّم لغة مشهورة، وليس بعد الضم واو في اللفظ. قال: ومن كان من لغته إدخال الواو مع المضموم والياء مع المكسور فقال: فيهو، وفيهي، لم يجز له الإدغام، لأنّ بين الهاءين في اللفظ حرفا حاجزا.
قال أبو بكر: وقال بعض أصحابنا: قراءة من قرأ ((فيه هدى))، بإدغام الهاء في الهاء، هو ثقيل في اللفظ وجائز في
[الحجة للقراء السبعة: 1/178]
القياس، لأنّ الحرفين من مخرج واحد، إلّا أنّه يثقل في اللفظ، لأنّ حروف الحلق ليست بأصل في الإدغام، والحرفان من كلمتين.
وحكى الأخفش أنّها قراءة.
قال أبو بكر- في رواية من روى عن أبي عمرو وغيره أنه كان يشمّ ويدغم-: هذا محال، لا يمكن الإدغام مع شيء من هذا، وذلك أنّه لا فصل بين الحرفين إذا أدغما بحال من الأحوال، لا بقطع ولا حركة ولا ضرب من الضروب، وإنّما يصيران كالحرف الواحد للزوم اللسان لموضع واحد، وإنّما كان أبو عمرو يختلس ويخفي فيظن به الإدغام، وكيف يكون متحرك مدغم فيجب أن يكون متحركا ساكنا. قال: وقال أبو حاتم:
أراد أبو عمرو ونافع الإخفاء، فلذلك أشما الضمّ والكسر، ولو أدغما إدغاما صحيحا أسكنا الهاء الأولى. قال: وكان من شأن أبي عمرو الإخفاء، لكراهية كثرة الحركات والإشباع. انتهت الحكاية عن أبي بكر.
قال أبو علي: قوله تعالى: لا ريب فيه. قال سيبويه: قالوا: أراب كما قالوا: ألام، أي صار صاحب ريبة، كما قالوا: ألام، أي: استحق أن يلام، وأما رابني فيقول: جعل فيّ ريبة، كما تقول: قطعت النخل، أي: أوصلت إليه القطع واستعملته فيه.
[الحجة للقراء السبعة: 1/179]
وقال أبو زيد: قد رابني من فلان أمر رأيته منه ريبا إذا كنت مستيقنا منه بالرّيبة. فإذا أسأت به الظنّ، ولم تستيقن منه بالريبة قلت: قد أرابني من فلان أمر هو فيه، إرابة وقد أربت فأنت مريب، إذا بلغك عنه شيء أو ظننته من غير أن تستيقنه. وقال: أنشدنا أبو عليّ كأنّني أربته بريب.
وقال أبو عبيدة: لا ريب: لا شك.
وأما الهدى فقال سيبويه: قلّما يكون ما ضمّ أوله من المصدر منقوصا، لأن فعل لا تكاد تراه مصدرا من غير بنات الياء والواو.
[الحجة للقراء السبعة: 1/180]
وقال أيضا: قد جاء في هذا الباب- يعني باب اعتلال اللام- المصدر على فعل، قالوا: هديته هدى. ولم يكن هذا في غير هدى وذلك لأنّ الفعل لا يكون مصدرا في هديته فصار هدى عوضا منه قالوا: قريته قرى وقليته قلى، فأشركوا بينهما في هذا فصار عوضا من الفعل في المصدر فدخل كلّ واحد منهما على صاحبه، كما قالوا: كسوة وكسى وجذوة وجذى وصوّة وصوى، لأنّ فعل وفعل أخوان. ومن العرب من يقول: رشوة ورشا، ومنهم من يقول: رشوة ورشا وحبوة وحبا، وأكثر العرب تقول: رشا وكسا وجذا.
قال أبو علي: وقد يجوز أن يكون فعل مصدرا اختصّ به المعتل وإن لم يكن في الصحيح، كما كان كينونة ونحوه مصادر، ولا يكون فيعلولة عنده ولا فعلولة عند من خالفه
[الحجة للقراء السبعة: 1/181]
مصدرا في الصحيح.
ويؤكد الأول ما قاله من أنّه قد يستغنى بفعله نحو: الجلسة والرّكبة عن المصدر.
ويقوّيه أيضا أنّ ناسا من النحويين يزعمون أنّه قد يجرى الأسماء التي ليست بمصادر مجرى المصادر فيقولون: عجبت من دهنك لحيتك وينشدون:
وبعد عطائك المائة الرتاعا
فيجرونه مجرى الإعطاء.
وقال لبيد:
باكرت حاجتها الدجاج
[الحجة للقراء السبعة: 1/182]
وفسّروه على: باكرت حاجتي إليها، فأضيف إلى المفعول، كما يضاف المصدر إليه، فكذلك يكون الهدى والسرى والتّقى، وفي التنزيل: إلّا أن تتّقوا منهم تقاةً [آل عمران/ 28]. فكذلك يكون هذا النحو قد استغني به عن المصدر، كما قالوا: هو يدعه تركا شديدا.
فإن قلت: فلم لا تجعل (تقاةً) مثل رماة في الآية، فيكون حالا مؤكّدة. فإنّ المصدر أوجه: لأنّ القراءة الأخرى:
(إلا أن تتقوا منهم تقية) بهذا أشبه، وإن كان هذا النحو من الحال قد جاء، وسنذكره في موضعه إن شاء الله.
وقال أبو عبيدة: (هدىً للمتّقين): بيانا لهم. وقال أبو الحسن: زعموا أنّ من العرب من يؤنّث الهدى.
وأما الفعل من الهدى: فيتعدى إلى مفعولين، يتعدى إلى الثاني منهما بأحد حرفي جر: إلى، واللام. فمن تعدّيه بإلى قوله: فاهدوهم إلى صراط الجحيم [الصافات/ 23]. ومنه قوله: واهدنا إلى سواء الصّراط
[الحجة للقراء السبعة: 1/183]
[ص/ 22]. ومن تعديه باللام قوله: الحمد للّه الّذي هدانا لهذا [الأعراف/ 43]، وقوله: قل اللّه يهدي للحقّ [يونس/ 35]. فهذا الفعل بتعديه مرة باللام وأخرى بإلى مثل أوحى في قوله: وأوحى ربّك إلى النّحل [النحل/ 68]، وقوله: بأنّ ربّك أوحى لها [الزلزلة/ 5].
وقد يحذف الحرف من قولهم: هديته لكذا وإلى كذا، فيصل الفعل إلى المفعول الثاني، كما قال: اهدنا الصّراط المستقيم، أي: دلنا عليه واسلك بنا فيه، فكأنّه سؤال واستنجاز لما وعدوا به في قوله: يهدي به اللّه من اتّبع رضوانه سبل السّلام [المائدة/ 16] أي سبل دار السلام، بدلالة قوله: لهم دار السّلام عند ربّهم [الأنعام/ 127].
وتكون إضافة الدار إلى السلام على أحد وجهين: إمّا أن يراد به الإضافة إلى السلام الذي هو اسم من أسماء الله على وجه التعظيم لها والرفع منها، كما قيل للكعبة: بيت الله، وللخليفة: عبد الله. وإمّا أن يراد بالسلام جمع سلامة، كأنّه: دار السلامة التي لا يلقون في حلولها عنتا ولا تعذيبا، كما قال: الّذي أحلّنا دار المقامة من فضله لا يمسّنا فيها نصبٌ ولا يمسّنا فيها لغوبٌ [فاطر/ 35]. وسألوا ذلك ليكونوا خلاف من قيل فيه: فاهدوهم إلى صراط الجحيم [الصافات/ 23]، وقيل: ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً [الحديد/ 13].
[الحجة للقراء السبعة: 1/184]
وقد يكون قوله: اهدنا الصّراط المستقيم سؤالا لأن يلطف لهم بالتثبيت على الإيمان وطرق الهدى والدين فلا يكونوا كمن وصف بقوله: وضلّوا عن سواء السّبيل [المائدة/ 77]، وقوله: ومن يفعله منكم فقد ضلّ سواء السّبيل [الممتحنة/ 1].
ويقوي ذلك قوله: وأنّ هذا صراطي مستقيماً فاتّبعوه ولا تتّبعوا السّبل فتفرّق بكم عن سبيله [الأنعام/ 153]، وقوله: وآتيناهما الكتاب المستبين وهديناهما الصّراط المستقيم [الصافات/ 117، 118].
ويقوي الوجه الأوّل قوله: والّذين قتلوا في سبيل اللّه فلن يضلّ أعمالهم، سيهديهم ويصلح بالهم [محمد/ 4، 5]، فهذا على الدلالة إلى طريق الجنة والثواب.
فأمّا قوله: إنّ الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات يهديهم ربّهم بإيمانهم [يونس/ 9] فإنّه يكون مثل قوله: سيهديهم ويصلح بالهم بدلالة اتصال الحال به، وهو قوله: تجري من تحتهم الأنهار في جنّات النّعيم، ويكون الظرف على هذا متعلقا بيهديهم. ويجوز أن يكون يهديهم في دينهم كقوله: والّذين اهتدوا زادهم هدىً [محمد/ 17]، ويكون الحال فيه كقوله: هدياً بالغ الكعبة [المائدة/ 95]. وكما أجاز سيبويه
[الحجة للقراء السبعة: 1/185]
من قولهم: مررت برجل معه صقر صائدا به غدا، ويكون الظرف على هذا متعلقا بتجري.
فأمّا قوله: ويهديهم إليه صراطاً مستقيماً [النساء/ 175] فقوله: صراطا مستقيما على فعل دلّ عليه يهديهم كأنه: يعرّفهم صراطا مستقيما، ويدلّهم عليه. وإن شئت قلت: إنّ معنى يهديهم إليه: يهديهم إلى صراطه، ويكون انتصاب صراط كقولك: مررت بزيد رجلا صالحا.
وقال أبو الحسن: يقال هديت العروس إلى بعلها، وتقول أيضا: أهديتها إليه، وهديت له. وتقول: أهديت له هديّة. وبنو تميم يقولون: هديت العروس إلى زوجها، جعلوه في معنى: دللتها، وقيس تقول: أهديتها جعلوه بمنزلة الهديّة.
وممّا يدلّ على أن الهدى الدلالة- كما فسره أبو الحسن- أنّه قد قوبل به الضلال في نحو قوله: واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضّالّين [البقرة/ 198]. أي: من قبل هداه، فلما دلّ الفعل على المصدر أضمر. وقال ابن مقبل:
قد كنت أهدي ولا أهدى فعلّمني... حسن المقادة أنّي فاتني بصري
وقيل في قوله:
[الحجة للقراء السبعة: 1/186]
حتى استبنت الهدى والبيد هاجمة... يخشعن في الآل غلفا أو يصلّينا
إن معنى استبنت الهدى: أضاء لي النهار. هاجمة: كأنّها مطرقة من البعد، وغلفا: تلبس أغطية من السراب. وقال أبو عمرو: غلفا: ليس عليها شيء يسترها. وقوله: أو يصلّينا، كأنّهن- ممّا يرفعهنّ السراب ويضعهن- يصلين، وحكى أحمد بن يحيى عن بعض البغداديين يقال: هديّ بيت الله، وأهل الحجاز يخففون، وتميم تثقّله. وواحد الهديّ هديّة. وقد قرئ بالوجهين، حتّى يبلغ الهدي محلّه [البقرة/ 196] والهدي محله.
ويقال: فلان هديّ بني فلان وهديهم، أي جارهم يحرم عليهم منه ما يحرم من الهدي. وأهديت الهدي إهداء، وأهديت الهديّة إهداء، وهديت العروس إلى زوجها هداء، ويقال: أهديتها بالألف. ويقال: نظر فلان هدية أمره أي: جهة أمره، وما أحسن هديه أي: سمته وسكونه وهديت الضالّة أهديها هداية، وهديته الدين أهديه هدى، ورجل
[الحجة للقراء السبعة: 1/187]
مهداء: كثير الهدايا، والمهدى: الطبق الذي يهدى عليه.
وقال أحمد هدى وأهدى واحد، وأنشد:
لقد علمت أمّ الأديبر أنّني... أقول لها هدّي ولا تذخري لحمي
انتهت الحكاية عنه.
قال أبو علي: وواحد الهديّ هديّة، مثل مطيّ ومطيّة قال:
حلفت بربّ مكة والمصلّى... وأعناق الهديّ مقلّدات
وقال:
متى أنام لا يؤرّقني الكري... ليلا ولا أسمع أجراس المطي
[الحجة للقراء السبعة: 1/188]
ومن خفف الهدي فواحده هدية مثل شرية وشري، وقالوا: هدي للواحد، وقالوا: هديّ للعروس قال:
برقم ووشم كما نمنمت... بميشمها المزدهاة الهديّ
قيل: إن ذلك من قوله: وإنّي مرسلةٌ إليهم بهديّةٍ [سبأ/ 35].
فأمّا قوله: (لا ريب فيه) فيجوز أن تجعل (فيه) خبرا، ويجوز أن تجعله صفة، فإن جعلته صفة أضمرت الخبر، وإن جعلته خبرا كان موضعه رفعا في قياس قول سيبويه من حيث يرتفع خبر المبتدأ، وعلى قول أبي الحسن موضعه رفع من حيث كان خبر إنّ رفعا، فإن جعلت (فيه) صفة، ولم تجعله خبرا كان موضعه نصبا في قول من وصف على اللفظ كما عطف على اللفظ في قوله:
لا أب وابنا
[الحجة للقراء السبعة: 1/189]
ومن وصف على الموضع كما عطف على الموضع في قوله:
لا أمّ لي إن كان ذاك ولا أب
كان موضعه رفعا على هذا. والموضع للظرف نفسه لا لما كان يتعلق به، لأن الحكم له دون ما كان يكون الظرف منتصبا به في الأصل، ألا ترى أنّ الضمير قد صار في الظرف.
فأمّا قوله: لا تثريب عليكم اليوم [يوسف/ 92] فلا يخلو قوله: عليكم واليوم من أن يكون تعلقهما بتثريب الذي هو المصدر أو بغيره. فلا يجوز أن يتعلق بالمصدر، لأنّه لو تعلق به لكان صلة له، ألا ترى أنّ ما يتعلق بالمصدر يكون من تمامه ومن صلته، وإذا كان من تمامه لم يجز بناؤه على الفتح
[الحجة للقراء السبعة: 1/190]
من دونه، كما أنّ ما يتعلق باسم الفاعل في نحو: لا آمرا بالمعروف لك، إذا جعلت الباء من صلة الآمر، ولا ضاربا رجلا عندك، لا يجوز أن يبنى الاسم دونه، لأنّ البناء إنّما يكون في آخر الاسم، كما أنّ التثنية والجمع كذلك، فكما لا يثنّى قبل أن يتمّ بصلته، كذلك لا يجعل مع الأول اسما واحدا، كما أنّ: (لا خيرا من زيد) كذلك. فإذا لم يجز تعلّقهما ولا تعلّق واحد منهما بالمصدر تعلّق بغيرهما. فيمكن أن يكون (عليكم) صفة للمصدر، لأنّه نكرة، والجارّ كان في الأصل متعلّقا بمضمر يكون في موضع الصفة، ويكون (اليوم) في موضع الخبر، لأنّه مصدر، فتكون أسماء الأحيان خبرا عنه.
ويجوز أيضا أن يكون (اليوم) متعلقا بما هو في موضع صفة، كما كان (عليكم) كذلك، فإذا حملته على هذا أضمرت خبرا وجعلت (عليكم) أيضا مثله.
ويجوز أن يتعلق اليوم بعليكم على أن تكون ظرفا له، فإذا حملته على هذا أضمرت أيضا خبرا.
ويجوز أيضا أن يتعلق اليوم بعليكم على أن يكون (عليكم) خبرا لا صفة. ومثل ذلك قوله: لا عاصم اليوم من أمر اللّه إلّا من رحم [هود/ 43] (اليوم): معمول (من أمر اللّه)، والجارّ متعلق بمحذوف، وإن شئت جعلته صفة وأضمرت الخبر. ولا يكون (اليوم) ولا قوله (من أمر اللّه)
[الحجة للقراء السبعة: 1/191]
من صلة (عاصم) في قول سيبويه.
والبغداديّون- فيما حكي لنا عنهم- يجيزون في هذا ونحوه أن يكون الظرف من صلة المنفي المبني غير المنون.
فأما قوله تعالى: لا بشرى يومئذٍ للمجرمين [الفرقان/ 22] فإن جعلت «بشرى» في موضع تنوين، جاز أن يكون يومئذ من صلته، وإن جعلته في موضع الفتح للنفي، جاز أن يكون خبرا، لأنّ «بشرى» حدث، فلا يمتنع أن يكون خبره ظرفا من الزمان، ويكون (للمجرمين) صفة لبشرى. وقد يكون تبيينا: مثل: لك بعد سقيا.
ويجوز أن يكون (للمجرمين) الخبر، ويكون (يومئذٍ) تبيينا، مثل: وكانوا فيه من الزّاهدين [يوسف/ 20].
وأكثر ما يكون هذا التبيين بحروف الجر، ولا يمتنع ذلك في الظروف أيضا، لأنّ حرف الجر يقدر معها ويراد، فكأنه في حكم الثبات. وقول أمية:
فلا لغو ولا تأثيم فيها... وما فاهوا به لهم مقيم
إن قلت ما موضع (فيها) في هذا الموضع؟ وكيف
[الحجة للقراء السبعة: 1/192]
القول فيه؟. فإن قياس قول سيبويه أن يكون فيها في موضع رفع، لكونها خبرا عن الاسمين، كما أنّك لو قلت: لا رجل ولا غلام فيها كان (فيها) خبرا عنهما، ألا ترى أنّ ((لا)) مع ((رجل)) في موضع اسم مرفوع على قول سيبويه، وخبره مرفوع، كما يرتفع خبر: لا رجل في الدار.
وقياس قول أبي الحسن ألا يكون (فيها) خبرا عنهما جميعا، لأن ارتفاع الخبرين مختلف في قولهما. وذلك أن خبر (لا تأثيمٌ) يرتفع عند أبي الحسن بلا، دون كونه خبرا للابتداء، وخبر (لغو) مرتفع بالابتداء فإذا اختلف إعراب خبريهما لم يجز أن يكون قوله (فيها) خبرا عنهما، لأنّه يجب من ذلك أن يعمل في (فيها) عاملان مختلفان، فإذا كان ذلك غير سائغ، علمت أن كونه خبرا عنهما غير سائع، وإذا لم يجز أن يكون خبرا عنهما لاختلاف إعرابيهما وجب أن يكون لكل واحد خبر. فلك أن تجعل (فيها) خبرا عن تأثيم، ويكون ذكره يدلّ على خبر الأوّل، كما أن قوله:
............. وأنت بما... عندك راض .......
[الحجة للقراء السبعة: 1/193]
دلّ على خبر: نحن بما عندنا.
ويجوز أن تجعل (فيها) خبرا عن الأوّل وتحذف خبر (لا تأثيمٌ)، ويدلّ عليه ما تقدّم من خبر الأول. وقولهم: لا خير بخير بعده النار، ولا شرّ بشر بعده الجنة. يجوز أن يكون بخير متعلقا بمحذوف في موضع رفع بأنّه خبر لا وقولك: بعده النار الجملة في موضع جر بكونه وصفا لخير المجرور.
وقياس قول سيبويه أن تكون النار والجنة على هذا الوجه يرتفعان بالظرف لكونهما صفتين للنكرة.
ويجوز أن تجعل لا بمنزلة ليس على قوله: «لا مستصرخ» فتكون الباء حينئذ في القياس كالباء التي تزاد في خبر ليس.
فإن لم تجعل لا بمنزلة ليس وجعلتها الناصبة لم يجز
[الحجة للقراء السبعة: 1/194]
أن تكون الباء في خبرها، لأن خبرها مرفوع كخبر المبتدأ، ألا ترى أنه قد حكي عن يونس أنّهم يقولون: لا رجل أفضل منك، فيرفعون (أفضل) لأنه خبر، فكما لا تدخل الباء على خبر المبتدأ كذلك لا تدخل على خبر لا، لأنّها مع ما عملت فيه بمنزلة المبتدأ.
وإن شئت أجزت دخول الباء لمضارعتها ليس وكون الكلام بها في النفي بمنزلة ليس، فكما دخلت على خبر ليس وكانت هي مثلها في النفي دخلت على خبرها أيضا الباء، ألا ترى أنّه قد جاء: أولم يروا أنّ اللّه الّذي خلق السّماوات والأرض ولم يعي بخلقهنّ بقادرٍ [الأحقاف/ 33] فدخلت الباء حيث كان معنى الكلام النفي وكان المعنى: أليس الله بقادر.
وإن شئت أجزت دخول الباء على خبر المبتدأ على قياس قول أبي الحسن، لأنّه قد أجاز في قوله: جزاء سيّئةٍ بمثلها [يونس/ 27] أن تكون الباء داخلة على خبر المبتدأ، لأنّه قد جاء: وجزاء سيّئةٍ سيّئةٌ مثلها [الشورى/ 40] فيجوز على هذا أن تكون الباء داخلة على الخبر الذي هو في موضع رفع.
وإن جعلت الهاء في قوله: (بعده النار) لخير المنفي بلا كانت الجملة التي هي: (بعده النّار) (وبعده الجنّة) في موضع نصب بكونها صفة للاسم الذي عمل فيه (لا)، كأنّه: لا خير
[الحجة للقراء السبعة: 1/195]
بعده النار بخير، فيجوز في الباء في قولك: (بخير) ما جاز فيها إذا جعلت قولهم (بعده النار) صفة لخير الذي دخلت عليه الباء. وتقديره في هذا الوجه تقدير: لا رجل قام غلامه أفضل منك.
وأمّا ما ذهب إليه البغداديّون من استجازتهم إعمال أسماء الفاعلين والمصادر إذا بنيا مع لا على الفتح، فممّا يبيّن أنّه لم يكن ينبغي أن يعملوه كما كان يعمل قبل- أنّ ذلك بالبناء مع لا على الفتح قد فارق شبه الفعل، كما أن اسم الفاعل والمصادر بالتصغير والوصف قد فارقا ذلك، فكما لا يعمل اسم الفاعل والمصدر مصغّرين ولا موصوفين كذلك اسم الفاعل والمصدر إذا بني كل واحد منهما مع لا على الفتح.
فإن قلت: إنّ هلمّ في قول أهل الحجاز قد بني الفعل فيه مع حرف قبله، وأعمل عمل الفعل، وحقروا رويدا وأعملوه عمل الفعل في نحو: رويد عليّا، فكذلك ما تنكر أن بني الاسم مع ما قبله على الفتح ويعمل. وأنشد بيت الهذليّ:
رويد عليّا جدّ ماثدي أمّهم... إلينا ولكن ودّهم متماين
[الحجة للقراء السبعة: 1/196]
قيل: إنّ ما ذكرته في هلمّ على هذا القول قليل، وكذلك رويد، ومع ذلك فإنّ هلمّ إذا أعمل على قول أهل الحجاز فإنّه ليس يعمل كما يعمل الفعل، ولكن كما تعمل الأسماء التي سمّي بها الفعل، نحو عليك ورويد: يدلّك على أنّه على هذا الحدّ أعمل، ليس على ما أعمل الفعل أنّهم جعلوه للاثنين والجمع والمذكر والمؤنث على لفظ واحد. فهذا
ممّا يدلك أنّه بالبناء عندهم على هذا الحدّ الذي بني عليه خرج عندهم من حكم الفعل وعن عمله على حدّ عمل الفعل. ففي هذا دلالة على أنّهم إذا بنوه مع ما قبله لم يعملوه على حدّ ما يعمل الفعل، كما أعمله بنو تميم لمّا لم يبنوه مع الحرف الذي قبله.
وإذا كان أهل الحجاز قد فعلوا ذلك بهلمّ لمكان البناء الذي أحدثوه فيه فكذلك ينبغي على قياس ما فعلوه من ذلك ألا يجوز إعمال اسم الفاعل والمصدر عمل الفعل إذا بنيا مع (لا) لخروجه بذلك عن شبه الفعل.
فأمّا إعمالهم الفعل إذا لحقه النون الخفيفة أو الثقيلة مع أنّه يبنى مع كل واحد منهما، فإن ذلك ليس بمنزلة هلمّ المبنيّ مع ما قبله، ولكن بمنزلة البناء مع علامة الضمير،
[الحجة للقراء السبعة: 1/197]
وبمنزلة التغيير الذي يلحق الآخر للإعراب، نحو لحاق النون للإعراب، وحذف اللامات للجزم، ألا ترى أن الخفيفة تجري مجرى التنوين في: لنسفعاً [العلق/ 15] وفي اضربا القوم فليس ذلك إذا كهلمّ المبني على الفتح مع ما قبله.
فأمّا ما أجازه أحد شيوخنا- وهو أبو إسحاق الزجّاج- في قوله: ذلك الكتاب لا ريب فيه هدىً من أنّه بمنزلة حلو حامض - أي هو كتاب وهو هدى- فالقول في إجازة هذا على الوجه الذي ذكره مشكل. وذاك أن ارتفاعهما لا يخلو من أن يكون بأنّهما خبر المبتدأ، أو يكون الثاني تابعا للأول.
فإن قيل: يرتفع الاسمان بأنّهما خبر المبتدأ قيل: لم نر شيئا رافعا يرفع اسمين على هذا الحدّ. وقد شبّهوا ارتفاع خبر
[الحجة للقراء السبعة: 1/198]
المبتدأ بارتفاع الفاعل، وزعموا أنّه ارتفع لمشابهة الفاعل.
فإن قلت: إنّ الثاني تابع للأول فليس يجوز أن يكون الثاني بدلا من الأول، لأنّ الأول مراد، كما أن الثاني كذلك، ومن ثمّ لم يجز أن يكون الثاني صفة للأول. والصفة أبعد أن تجوز، لأنّك لا تصف الحلو بأنه حامض، وإنما تخبر عن الأول أنه قد جمع الطعمين، ولا مدخل هاهنا لشيء من باقي التوابع. فإذا بعد هذان ولم يخل منهما ثبت إشكال المسألة.
ولا يستقيم أن يجعل (حامض) خبر مبتدأ محذوف وأنت تريد هذا المعنى؛ لأن الكلام يصير جملتين وإنّما يراد في المخبر عنه أنّه قد جمع الطعمين في جملة واحدة، كأنّك قلت: مزّ.
فإن قلت: أجعل الاسمين موضعهما رفع، لوقوعهما موقع اسم مفرد يرتفع بأنّه خبر مبتدأ، كما يجعل موضع الجملة رفعا إذا وقع موقع الخبر فإنّ في ذلك بعدا لأنّ هذا وإن كان مشبها للجملة في أنّهما اسمان فليس بها، ألا ترى أنّك إذا سميت رجلا: عاقلة لبيبة، أعملت فيه العوامل، ولم تجعله بمنزلة أن تسمّيه بزيد منطلق وأنت
تريد الجملة. فممّا نقول في ذلك أن هذين الاسمين لا يمتنع أن يقعا جميعا خبرا لمبتدإ.
وإذا جاز أن يقع خبر المبتدأ جملة ولم يمتنع ذلك- وإن كان الفاعل يمتنع أن يكون جملة- كان هذا أيضا جائزا أن يكون في موضع
[الحجة للقراء السبعة: 1/199]
خبر المبتدأ. وقد جاء أشدّ من هذا، وهو أنّ هذه الجمل قد وقعت موقع خبر إنّ في مثل: إن زيدا أبوه منطلق، وإن زيدا قام أبوه. وإذا جاز هذا في إنّ مع أنّ فيه نصبا ظاهرا، وحكم النصب ألّا يكون إلا برفع لفاعل أو مشبه به، ووقعت الجملة موقع الرافع الفاعل فهذا أجوز.
واختلفوا في ضرب من هذا. وهو قولهم: أقائم الزيدان، وإنّ قائما الزيدان. فأجازوا: أقائم الزيدان، على أن يرتفع (قائم) بالابتداء ويسدّ (الزيدان) مسدّ الخبر، فإذا ألحقت هذا الكلام (إنّ) ذهب أبو عثمان فيه إلى أنّه لا يجوز، وقال: لأنّ الكلام يبقى بلا رافع، ألا ترى أن (الزيدان) يرتفعان بقائم، فلا يبقى شيء رافع يكون هذا النصب عنه.
وأجاز أبو الحسن: إنّ قائما الزيدان، ومن حجّته أن يقول: إنّ «إنّ» إذا جاز أن يقع في موضع المرتفع بها الجملة مع أن الجملة لا تكون في موضع الفاعل، وقد وقعت في موضع الفاعل في باب إنّ، فأن يقع الاسم المرتفع بقائم هنا أشبه، لأنّه قد ثبت أنّه قد سدّ مسدّ الخبر في الابتداء، فإذا سدّ مسدّ الخبر في الابتداء فأن يسدّ مسدّه هاهنا أشبه، لأنّه مفرد، وقد سدّت الجملة مسدّه. فسدها هنا مسدّ فاعل إنّ كما سدّ مسد الخبر مع المبتدأ.
فأمّا ما يرجع من هذا الخبر الذي هو: (حلو حامض) ونحوه إلى المبتدأ فالقول فيه أنّه لا يخلو من أن يكون
[الحجة للقراء السبعة: 1/200]
الضمير في أحد الاسمين، أو في كلّ واحد منهما ضمير، أو يكون فيهما ضمير واحد، أو لا يكون في واحد منهما ضمير.
فلا يجب أن يكون في أحد الاسمين دون الآخر، لأن كلّ واحد منهما إذا خصصته بتحمّله الضمير لم يكن بأولى بذلك من صاحبه. ولا يستقيم أن يكون في كل واحد منهما ضمير: لأنّك إن حمّلت كلّ واحد منهما ضميرا لم يكن ذلك الغرض في الإخبار، ألا ترى أن الضمير إذا حمّلته كلّ واحد منهما فالضمير فاعل، فتصير كأنّك قد أخبرت عن المبتدأ بفعل كل واحد من اسمي الفاعل، كأنّك قلت: حلا وحمض، وليس الغرض كذلك ولا المراد، إنّما المراد: أن الأول قد جمع الطعمين، ألا ترى أن أبا عمر قال في تفسير ذلك: ترش شيرين.
فإذا كان ذلك مؤديا إلى خلاف المعنى المراد لم يستقم.
ولا يجوز أن يكون ضمير واحد فيهما جميعا، لأنّه يجب أن يعمل الصفتان جميعا فيه، وهذا ممتنع، كما يمتنع أن يعمل فعلان في فاعل وإذا كانت هذه الوجوه غير مستقيمة ثبت أنه لا ضمير في ذلك.
[الحجة للقراء السبعة: 1/201]
فإن قلت: فعلام يحمل؟ قلنا: نحمله على المعنى، ونردّ الضمير في ذلك إلى المبتدأ في المعنى، كما فعل ذلك في الصفة في قولك: مررت برجل قائم أبواه لا قاعدين، ألا ترى أنه لا عائد في لفظ هذه الصفة إلى الموصوف، وإنما يرجع إليه الذكر في المعنى، كأنك قلت: لا قاعد أبواه.
ونظير ما قلنا أيضا في المبتدأ قوله: سواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم [البقرة/ 6] ألا ترى أن الذكر يرجع إلى هذا المبتدأ أيضا على المعنى فكما أن الكلام وتقديره محمول على المعنى كذلك في قولنا: هذا حلو حامض، الذكر عائد من المعنى كما أنّه مما ذكرنا في الصفة وفي قولهم: مررت برجل قائم وقاعد يعود الذكر على المعنى.
فإن قلت: فما تقديره في الإعراب؟ فالقول إنّه: كما أن الاسمين وقعا موقع مفرد فيما ذكرنا من عود الذكر إلى المبتدأ، كأنّه قال في «حلو حامض»: مزّ، وفي «زيد ظريف كاتب»: جامع، فكذلك الاسمان وقعا موقع المفرد، كما تقع الجملة موقع المفرد في هذا الموضع.
ونظير هذا، في أن الصفتين جرتا مجرى الجملة في بعض الوجوه، تسميتهم بعاقلة لبيبة امرأة أو رجلا، ألا ترى أنهم لم يمتنعوا من الصرف وحكوا حال النكرة كما فعلوا ذلك في الجمل، فهذان الاسمان إذا وقعا موقع خبر الابتداء وإن لم
[الحجة للقراء السبعة: 1/202]
يجز أن يقع بعد الفعل اسمان يسند الفعل إليهما فإن المبتدأ قد وقع موضع خبره الجمل، نحو قولهم: زيد أبوه منطلق، وعمرو قام أبوه، وكما جاز هذا وإن امتنع في الفاعل، وجاز: إن زيدا أبوه منطلق كذلك يجوز وقوع هاتين الصفتين موقع خبر الابتداء على حدّ ما وقعت الجمل، وإن لم يكونا جملة.
وأمّا هاء الضمير في قوله: فيه هدى، فالهاء وحدها هي الاسم. قال سيبويه: الهاء التي هي هاء الإضمار الياء التي بعدها أيضا مع هذا أضعف، لأنّها ليست بحرف من نفس الكلمة ولا بمنزلته. فقد نصّ أنّ الزيادة التي تلحق الهاء ليست من نفس الكلمة، كما ترى.
ويدلّ على ذلك أنّه قد جاء في الشعر نحو:
... له أرقان
فهذا يدلّ على أنّ حرف المدّ إنّما لحقه في الوصل للخفاء، كما لحقت الواو الهمزة في نحو: كندأو للخفاء
[الحجة للقراء السبعة: 1/203]
الذي في الهمزة. ومن ثمّ أبدل منها قوم الواو في الوقف في الرفع فقالوا: الكلو.
ويدلّ أيضا على أنّها على حرف واحد في الأصل أنّها نظيرة الياء للمتكلم والكاف للمخاطب، فكما أنّ كل واحد من ذلك على حرف مفرد فكذلك الهاء ينبغي أن تكون الاسم وحدها بغير ياء أو واو لاحقة له.
فإن قلت: فلم لا تستدلّ بلحاق الألف للمؤنث أن الواو أو الياء بحذاء الألف؟ قيل: تكون الألف لاحقة لتبيين من المذكّر، كما لحقت في أعطيتكاها لذلك، وكما أن السين في قول من قال: أكرمكس لذلك، فكما أنّ الكاف حرف مفرد وإنّما لحقه حرف المدّ وغيره للتبيين فكذلك يكون لحاق الألف الهاء للمؤنث، إلّا أنّ الهاء لزمها الألف في جميع اللغات- إلّا فيما لا اعتداد به- لخفائها وخفة الألف والتبيين للفصل.
فإن قلت: فما حكم الهاء أن تكون، أمتحركة أم ساكنة؟
فالقول: إنّها ينبغي أن تكون متحركة، على قياس الكاف والياء في لك ولي فاعلم، ويكون ما جاء في الشعر من نحو:
[الحجة للقراء السبعة: 1/204]
كأنّه صوت حاد
وما له من مجد تليد...
جاء على الأصل، وحذف حرف المدّ الزائد معه. والذين قالوا:
له أرقان
فهي لغة قوم فيما زعم أبو الحسن وغيره، شبّهوه بالألف في التثنية وبالياء في غلامي، فأسكنوه لذلك. وهو أيضا على قياس إسكانهم الميم من عليكم وعليهم بعد حذف الواو منه.
وممّا يقوّي أنّها متحركة في الأصل لحاق حرف اللين له في نحو ضربهو، ومرّ بهي، ولو كان ساكنا لم يوصل بذلك،
[الحجة للقراء السبعة: 1/205]
كما لم يوصل حرف الروي إذا كان ساكنا، ولكان إذا وصل بحرف لين وجب أن يكسر كما كسر:
فاغن وازددي.
وهذا مثل المدّ في نحو آمين ولزم في لغة الأكثر في الوصل لخفاء الهاء.
وقول الشاعر:
أجرّه الرّمح ولا تهاله
إن شئت جعلت الألف الردف فيه كالألف في: منتزاح.
وإن شئت قلت: ردّ الألف المنقلبة من العين وجعل حركة التقاء الساكنين بمنزلة الحركة اللازمة.
فأمّا حذفهم له في الوقف فليس بدليل قاطع على زيادة هذه الحروف، لأنّهم قد حذفوا في الوقف الواو في: ضربكم، وهذا لهم، والياء في عليهم، مع أنّها من نفس الكلمة، وليست
[الحجة للقراء السبعة: 1/206]
بزيادة بدلالة أن المؤنّث الذي بحذائه ليس النون الثانية فيه بزيادة ولكن إنّما حذفتا في الوقف، لأنّهما حرفا علّة قد حذفا في الوصل في: عليه ومنه ونحو ذلك.
والوقف موضع قد يحذف منه ما يثبت في الوصل، نحو: الكبير المتعال [الرعد/ 9] واللّيل إذا يسر [الفجر/ 3] فلمّا حذف فيه ما يثبت في الوصل وهو من أصل الكلمة وجب أن يلزم الحذف فيه ما قد استمرّ فيه الحذف في الوصل، لاختصاص الوقف بالتغيير، فجعل تغييره الحذف، كما ألزم الأكثر تاء التأنيث في النداء الحذف إذ كان موضعا قد يحذف فيه ما لا يتغيّر، نحو آخر، وحارث، ومالك، وعامر. فلمّا حذف فيه هذا الذي لا يتغيّر ألزم الحذف فيه ما يتغيّر وهو التاء في طلحة، وسلمة ونحو ذلك.
الحجّة لمن كسر الهاء من (فيه هدىً) ولم يلحقها الياء فيقول: فيهي هدى [البقرة/ 2].
أمّا كسر الهاء مع أنّ أصلها الضم فمن أجل الياء أو الكسرة اللّتين تقعان قبلها، والهاء تشبه الألف لموافقتها لها في المخرج من الحلق، ولما فيها من الخفاء، فكما نحوا بالألف نحو الياء بالإمالة من أجل الكسرة أو الياء كذلك كسروا الهاء للكسرة والياء، وذلك حسن ليتجانس الصوتان ويتشاكلا، ألا تراهم كيف اتفقوا في اصطبر وازدجر وازدان على الإبدال من تاء
[الحجة للقراء السبعة: 1/207]
الافتعال حرفا مجانسا لما قبله من الحروف في الإطباق والجهر، فبحسب اتفاقهم في هذا الموضع على ما ذكرت لك طلبا لتشاكل الحروف يحسن الكسر في الهاء في: (فيه هدى).
والهاء وإن كانت متحركة والألف ساكنة فقد رأيتهم أجروها متحركة مجرى الألف والياء والواو إذا كنّ سواكن في القوافي في نحو: خليلها، ومرامها. وقد تقدم ذكر كثير من ذلك في فاتحة الكتاب.
وأمّا ترك إتباع الهاء الياء في: (فيه هدى). وما أشبهه في الوصل فلكراهة اجتماع حروف فيه متقاربة، وقد كرهوا من اجتماع المتقاربة ما كرهوا من اجتماع الأمثال، ألا ترى أنّهم يدغمون المتقاربة كما يدغمون الأمثال فالقبيلان من الأمثال والمتقاربة إذا اجتمعت خفّفت تارة بالإدغام، وتارة بالقلب، وتارة بالحذف.
فما خفّف بالإدغام فنحو ردّ وودّ في وتد.
وما خفّف بالقلب فنحو: تقضيت وتقصيت [ونحو:
ظلت ومست] ونحو:
لا أملاه حتى يفارقا
[الحجة للقراء السبعة: 1/208]
ونحو: طست وستّ وما خفف بالحذف فنحو قوله: اسطاع، واستخذ فلان مالا- فيمن قدره استفعل من تخذت- واستحيت، وعل ماء بنو فلان، وتقيت تتقي، وما أشبه ذلك.
وجهة التشابه في هذه الحروف أن الهاء من الحلق، والألف منه أيضا، والياء قريبة من الألف وموافقة لها في اللين، فمن ثمّ أبدلت من الياء في هذي فقالوا: هذه، فلمّا اجتمعت هذه الحروف المتقاربة خففوا بالحذف كما خفّف غيرها فيما أريتك بالحذف.
وممّا يحسّن الحذف هاهنا- مع ما ذكرنا من اجتماع المتشابهة- أن الهاء حرف خفيّ، فإذا اكتنفها ساكنان من حروف اللين كان كأن الساكنين قد التقيا، لخفاء الهاء وأنّهم لم يعتدّوا بها للخفاء في مواضع، ألا ترى أنّ من قال: ردّ فأتبع الضمّة الضمّة إذا وصل الفعل بضمير المؤنّث قال: ردّها، فلم يتبع الضمّ الضمّ كما كان يتبع قبل، وجعله بمنزلة ردّا، فكما لم يعتدّ بها هاهنا وجعلت الدال في حكم الملازقة للألف كذلك إذا لم يعتدّ بها في نحو: فيهي، وعصاهو، وخذوهو، صار كأن الساكنين قد التقيا. ولهذا حذف حرف اللين بعد الهاء من حذف من العرب، وإن كان الساكن الذي قبلها ليس من حروف اللين نحو: منه.
[الحجة للقراء السبعة: 1/209]
ويذهب سيبويه إلى أنّ الإتمام في نحو: منهو، أجود من الحذف، وأن الحذف إذا كان قبل الهاء حرف اللين أحسن.
ولمن لم يتبع الهاء الياء ولا الواو في نحو: منه وعنه- وهو قراءة نافع إلّا فيما روي عنه من قوله: وأشركهو في أمري [طه/ 32]- أن يحتجّ في حذف حرف اللين بعد الهاء، وإن لم يكن قبلها حرف اللين، بترك اعتدادهم بها في ردّها، وبقولهم: يريد أن تضربها فيقول: كما لم يعتدّوا بها في هذه المواضع كذلك لا أعتدّ بها في: منه، فإذا أتبعت الهاء حرف اللين في: منه، فكأني قد جمعت بين ساكنين، لأنّ الهاء غير معتدّ بها عندهم حيث أريتك.
ومثل الهاء، في أنّه لمّا كان حرفا خفيا لم يعتدّوا به حاجزا، النون وذلك في قولهم: هو ابن عمي دنيا وفي قنية لمّا كانت النون خفيّة صارت الواو كأنّها وليت الكسرة فقلبتها، كما قلبتها في غازية ومحنية، ولو كان مكان النون حرف غيره لم يكن فيما بعده القلب، نحو: جرو وعدوه، فهذا مثل الهاء في أنّه للخفاء لم يعتدّ به حاجزا، كما لم يعتدّ بالهاء.
[الحجة للقراء السبعة: 1/210]
الحجة لابن كثير في اتباعه هذه الهاء في الوصل الواو أو الياء وتسويته بين حروف اللين وبين غيرها من الحروف إذا وقعت قبل الهاء
من حجّته أن الهاء وإن كانت خفيّة فليس يخرجها ذلك من أن تكون كغيرها من حروف المعجم التي لا خفاء فيها- نحو الراء والضاد- وأنّ الهاء والنون عند الجميع في وزن الشعر بمنزلة الراء والضاد- وإن كان في الراء تكرير وفي الضاد استطالة- وإذا كان كذلك كان حجزها بين الساكنين كحجز غيرها من الحروف التي لا خفاء فيها.
وأمّا اجتماع الحروف المتشابهة فلم يكرهها في هذا الموضع، كما لم يكره اجتماعها في غيره، ألا ترى أن كثيرا قد قالوا: استطاع. فأتمّوا ولم يحذفوا منه شيئا، وفي التنزيل:
من استطاع إليه سبيلًا [آل عمران/ 97]، وقالوا جميعا:
استدار واستثار فلم يحذفوا، وقالوا: سدس وعتد وعتدان، ووطد يطد. والهاء وإن كانت جرت متحرّكة في القوافي مجرى غيرها ساكنا في نحو: خليلها، فقد جرت في القوافي أيضا مجرى غيرها من الحروف متحرّكة وساكنة. فالمتحركة نحو قوله:
............... ...... سود قوادمها صهب خوافيها
[الحجة للقراء السبعة: 1/211]
فهي حرف الرويّ، كالكاف في: جواريكا.
والساكنة نحو قوله:
وبكّي النساء على حمزة
................. .... وتقول سعدى وا رزيّتيه
فهي هاهنا كالياء والواو والألف.
وأما الإدغام في (فيه هدى) فلم يذكره أبو بكر أحمد بن موسى عن أحد منهم في هذا الموضع من كتابه فنقول فيه. وما ذكره محمد بن السريّ في رواية من روى عن أبي عمرو وغيره أنّه كان يشمّ ويدغم- من أنّ ذلك محال لا يمكن- فإنّ الإشمام لا يمتنع مع الإدغام، وذلك أنّ الإشمام عند النحويين ليس بصوت فيفصل بين المدغم والمدغم فيه، وإنّما هو تهيئة العضو لإخراج الصوت الذي هو الضم ليدلّ عليه، وليس بخارج إلى اللفظ، كما أن تبقية الإطباق مع الإدغام كما ذكرنا
[الحجة للقراء السبعة: 1/212]
في الضمّ، وإذا كان كذلك لم يمتنع مع الإدغام كما لم يمتنع تبقية الإطباق معه، ألا ترى أنّه لا يمتنع أن يدغم ويهيّئ العضو لإخراج الضمة إلى اللفظ فلا يخرجها كما لم يمتنع ذلك في الوقف إذا قلت: هذا معن وعلى هذا قرءوا: ما لك لا تأمنّا [يوسف/ 11] فأشمّوا النون المدغمة، لأنّها كانت مرفوعة ليدلّوا بالإشمام على الرّفعة التي كانت في الحرف، كما دلّوا بإبقاء الإطباق على أنّ الحرف المدغم كان مطبقا. ولو كان مكان الإشمام روم الحركة لامتنع الرّوم مع الإدغام، لأنّه صوت يحجز، ألا ترى أنّهم يزعمون أنّه يفصل بروم الحركة بين خطاب المذكر والمؤنث، نحو: ضربتك وضربتك فهذا لا يمكن الإدغام معه، لأنّ هذا الصوت يفصل وإن كان مخفى غير مشبع، كما تفصل الحركة المشبعة الممطّطة.
ولعلّ أبا بكر ظنّ أنّ القرّاء ليس يعنون بالإشمام ما يعني به النحويون في أنّه تهيئة العضو للصوت وهمّ به، وليس بخروج إلى اللفظ. والذي أحسب أنّه من أجله ظنّ ذلك حكايته عن أبي حاتم أنّه أراد أبو عمرو ونافع الإخفاء، فلذلك أشمّا الضمّ والكسر، والإشمام إنّما يكون عند النحويين في الضمّ، فأمّا الكسر فلا إشمام فيه. وذلك أنّ الإشمام إنّما هو
[الحجة للقراء السبعة: 1/213]
تحريك الشفتين يراه البصير دون الأعمى، فيستدلّ بذلك على إرادة الفاعل لذلك الضمّ، وليس هذا في الكسر، لأنّه لا فائدة فيه لبصير ولا لأعمى من حيث لا يظهر للرائي، فلمّا رأى أبا حاتم حكى ذلك في الجرّ كما حكاه في الضمّ، قدّر أنّهم يعنون به الحركة دون ما يعني به النحويّون ممّا ذكرنا). [الحجة للقراء السبعة: 1/214]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : (بسم الله الرّحمن الرّحيم {ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين}
قرأ ابن كثير فيهي وعليهي بإشباع الهاء يصلها بياء وحجته أن أصلها فيهو وعليهو ثمّ قلبوا الواو ياء للياء الّتي قبلها وكسروا الهاء فصارت فيهي وعليهي وقرأ ايضا فقلنا اضربوهو ومنهو بإشباع الهاء يصلها بواو على أصلها
قرأ الباقون فيه وعليه من غير إشباع وحجتهم أن الكسرة تنوب عن الياء وتدل عليها وكذلك الضمة قال أهل البصرة إنّما حذفت الياء لسكونها وسكون الياء الّتي قبل الهاء لأن الهاء ليست بحاجز حصين فكأن السّاكن قبلها ملاق للساكن الّذي بعدها فتحذف الياء ألا ترى أنّها إذا تحرّك ما قبلها لم تحذف منها الياء نحو أمه وصاحبته لأن ما قبلها متحرك فليس يجتمع ساكنان
قرأ أبو عمرو فيه هدى وقيل لهم بالإدغام وقرأ الباقون بالإظهار
[حجة القراءات: 83]
وحجّة أبي عمرو أن إظهار الكلمتين كإعادة الحديث مرّتين فأسكن الحرف الأول وأدغمه في الثّاني ليعمل اللّسان مرّة واحدة وشبه الخليل ذلك بالمقيد إذا رفع رجله في موضع ثمّ أعادها إليه ثانية قال والّذي أوجب الإدغام هو أنه يثقل على اللّسان رفعه من مكان وإعادته في ذلك المكان أو فيما يقرب منها وشبه غيره بإعادة الحديث مرّتين
وأما من أظهر فإنّه أتى بالكلام على أصله وأدّى لكل حرف حقه من إعرابه لتكثر حسناته إذ كان له بكل حرف عشر حسنات). [حجة القراءات: 84]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (1- {لَا رَيْبَ فِيهِ} [آية/ 2].
قرأ ابن كثير (فيهي هدى) بياءٍ بعد الهاء، وكذلك في كل هاء كناية، قبلها ياء ساكنة، نحو: عليهي وأنسانيهي، فإذا كان قبلها ساكنٌ غير الياء وصلها بواو نحو: آتيناهو ومنهو.
وقد روي عن نافع أيضًا (واشركهو).
لقد تقدم أن أصل هذه الهاء أن تكون على الضم، وكسرتها إنما تكون لياءٍ أو كسرة تقعان قبلها، وتوصل هذه الهاء بوابو زائدة تقوى بها؛ لأنها حرفٌ خفي، فيخرج بها عن الخفاء إلى البيان، فيُزاد في المذكر واو، وفي المؤنث
[الموضح: 237]
ألفٌ، ليستوي المذكر والمؤنث في باب الزيادة مع حصول الفرق بينهما.
والهاء وحدها هي الاسم، كما أن كل واحدٍ من ضميري المتكلم والمخاطر نحو: غلامي وغلامك على حرفٍ واحدٍ.
ولما وقع قبل هذه الهاء ياءٌ كُسِرَت الهاء لأجلها، فانقلب الواو التي بعدها ياء فقيل: فيهي وعليهي، واعتد بالهاء حاجزًا بين الساكنين وإن كانت خفية؛ لأنها كغيرها من الحروف.
وأما قراءته لما كان نحو: منهو بالواو فإنها على ما قدمناه من أن الضمة والواو أصل في الهاء، وإنما كسرت هناك للياء أو الكسرة قبلها، وليس هاهنا واحدٌ منهما فجاء على الأصل.
وأما الباقون فإنهم يحرّكون هذه الحروف كلها بكسرة مختلسة من غير ياءٍ إلا ص- عن عاصم في قوله تعالى: (وَمَا أَنْسَانِيهُ} و{عَاهَدَ عَلَيْهُ} بضمتين مختلستين، وفي الفرقان (فيهي مهانا) بياءٍ كقراءة ابن كثير.
وإنما اختلس هؤلاء الكسرة من غير بلوغ ياءٍ؛ لأنهم كرهوا اجتماع حروف متقاربة؛ ولأن الهاء خفية، فإذا اكتنفها ساكنان من حروف اللين فكأن الساكنين قد التقيا لخفاء الهاء، إذ كانت الهاء غير معتدٍّ بحجزها بين الساكنين لخفائها، ولهذه العلة حذفوا الياء والواو بعد الهاء وإن كان الساكن
[الموضح: 238]
الذي قبلها ليس من حروف اللين كمنه وعنه كراهة ما يقرب من الجمع بين الساكنين.
وأما رواية ص- عن عاصم {أنسانيه} و{عَاهَدَ عَلَيْهُ} بالضمة، فإنها على الأصل، وأما روايته أيضًا (فِيهِي مُهَانًا) فعلى قلب الواو ياءً لأجل الياء التي قبل الهاء كما قدمنا ذكره، وفي مثل ذلك اتباع الأثرِ مع الأخذ باللغتين). [الموضح: 239]

قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)}
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (2- وقوله تعالى: {الذين يؤمنون بالغيب}.
قرأ أبو عمرو إذا حدر القراءة أو قرأ في الصلاة {يؤمنون} بترك الهمز تخفيفًا؛ إذا كانت الهمزة تخرج في أقصى الحلق وفي إخراجها كلفة، وأكثر العرب يلينها، ومنهم من يحذفها جملة، فإذا حقق القراءة همز، وإنما يفعل ذلك بالهمزات الساكنات، وغذا كان سكون الهمزة علامة للهمز نحو قوله تعالى {أو ننسأها} {وإن تبد لكم تسؤكم} لم يدع الهمزة، وكذلك إذا كن في الحرف لغتان نحو: {موصدة} لأن لا يخرج من لغة إلى لغة، وكذلك إذا كان ترك الهمز أثقل من الهمز لم يدع الهمزة نحو قوله: {وتؤوي إليك من تشاء} وكن حمزة لا يهمز إذا وقف، ويهمز إذا أدرج ولا يبالي إذا كانت الهمزة ساكنة أو متحركة نحو قوله تعالى: {لن يجدوا من دونه موئلا} يقف {مولا}
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/56]
{وأصحب المشئمة} يقف {المشمة}، وإنما يفعل ذلك اتباعًا للمصحف: لأن {المشئمة} كتب في المصحف بغير ألف {وموئلا} بغير ياء، والدليل على ذلك أنه يقف منهن جرًا بغير واوٍ. ويقف {هزوا} و{وكفوا} بواو؛ لأنها كذلك كتبت في المصحف.
وروى ورش عن نافع بترك الهمزة الساكنات والمتحركات وحجته في ذلك: أن الهمزة المتحركة أثقل من الهمزة الساكنة، وكان يقرأ: {ويوخركم إلى أجل} {ويودهي إليك} وكان ينقل حركات الهمزات إلى الساكن قبلها وكان يقرأ {قد أفلح} يريد: {قد أفلح}، وكذلك: {فلن يقبل من أحدهم مل الأرض} أنشدني ابن عرفة شاهدًا لورش:
تضوع مسكا بطن نعمان أن مشت = به زينب في نسوة عطرات
ولما رأت ركب النميري أعرضت = وكن من أن يلقينه حذرات
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/57]
أراد: «من أن» بنقل فتحة الهمزة إلى النون.
وقرأ الباقون: {يؤمنون}، و{يؤتون} {ويؤثرون} {ويؤخركم} و{يألتكم} {والكأس} {والبأس}. كل ذلك مهموز على الأصل.
واختلف عن أبي عمرو في الأسماء المهموزة، فروى بعضهم عنه بترك الهمز وهو اختيار ابن مجاهد. وروى عنه آخرون بالهمز.
فإن سأل سائل: لم همز أبو عمرو «الكأس» «والبأس» ولم يهمز {يؤمنون} {ويؤتون}؟
فالجواب في ذلك أن الفعل ثقيل والهمزة ثقيلة، والاسم خفيف فحذفوا في الموضع الذي استثقلوه وأثبتوا في الموضع الذي استخفوه). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/58]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في الهمز من قوله تعالى: الّذين يؤمنون بالغيب [البقرة/ 3].
فكان ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي يهمزون (يؤمنون) وما أشبه ذلك؛ مثل: (يأكلون) و (يأمرون) و (يؤتون). ساكنة الهمزة كانت أو متحركة، مثل (يؤخّره) و (يؤدّه). إلا أنّ حمزة كان يستحب ترك الهمز في كل القرآن إذا أراد أن يقف، والباقون يقفون بالهمز.
وروى ورش عن نافع ترك الهمز الساكن في مثل:
(يؤمنون) وما أشبهه وكذلك المتحرك مثل يؤدّه [آل عمران/ 75] ويؤخّركم [نوح/ 4] ولا يؤاخذكم [البقرة/ 225] وما كان مثله.
وأمّا أبو عمرو فكان إذا أدرج القراءة أو قرأ في الصلاة لم يهمز كلّ همزة ساكنة مثل: (يؤمنون) و (يؤمن) و (يأخذون) وما أشبه ذلك.
[الحجة للقراء السبعة: 1/214]
وقال أبو شعيب السوسي عن اليزيدي عن أبي عمرو:
إنّه كان إذا قرأ في الصلاة لم يهمز كل همزة ساكنة إلّا أنه كان يهمز حروفا من السواكن بأعيانها، أذكرها إذا مررت بها، إن شاء الله.
فإذا كان سكون الهمزة علامة للجزم لم يترك همزها، مثل: ننسأها [البقرة/ 106] وتسؤكم [المائدة/ 101] وهيئ لنا [الكهف/ 10] ويهيئ لكم [الكهف/ 16] واقرأ كتابك [الإسراء/ 14] ومن يشأ يجعله [الأنعام/ 39] وأنبئهم [البقرة/ 33] وما أشبه ذلك.
وروى الشمونيّ محمد بن حبيب عن الأعشى عن أبي بكر عن عاصم أنّه لم يكن يهمز الهمزة الساكنة، مثل (يؤمنون) وما أشبهه.
أخبرنا أحمد بن موسى قال: حدثنا محمد بن عيسى بن
[الحجة للقراء السبعة: 1/215]
حيّان المقرئ قال: حدثنا أبو هشام قال: سمعت أبا يوسف الأعشى يقرأ على أبي بكر فهمز (يؤمنون).
قال ابن مجاهد: وحدثني محمد بن عيسى بن حيّان المقرئ قال: حدثنا أبو هشام عن سليم عن حمزة أنّه كان إذا قرأ في الصلاة لم يكن يهمز.
أخبرنا أحمد بن موسى قال: حدّثنا جعفر بن محمد الفريابيّ قال: حدّثنا منجاب بن الحارث قال: حدثنا شريك بن عبد الله قال: كان عاصم صاحب همز ومدّ وقراءة شديدة.
[الحجة للقراء السبعة: 1/216]
قال أبو زيد: الأمون: الناقة القويّة الظهيرة. والأمانة:
خلاف الخيانة، والأمن خلاف الخوف. قال أحمد بن يحيى: أمن فهو أمين، فهذا بمنزلة ظرف فهو ظريف. وقالوا: أمنته فهو أمين، فهذا فعيل بمعنى مفعول، فتقول من هذا: امرأة أمين، ومن الأول: أمينة مثل ظريفة، وقال الشاعر:
وكنت أمينه لو لم تخنه... ولكن لا أمانة لليماني
فهذا كأنّه المأمون، أي: أمنك فخنت. وقول حسان:
وأمين حدثته سرّ نفسي... فوعاه حفظ الأمين الأمينا
قال بعضهم: كأنّه قال: حفظ المؤتمن المؤتمن: وقالوا أمّان في معنى الأمين، قال الأعشى:
ولقد شهدت التاجر ال... أمّان مورودا شرابه
فأمين وأمّان ككريم وكرّام ومثله حسّان وحسّانة ورجل قرّاء.. وأنشد غيره:
وعنس أمون قد تعلّلت جهدها... على صفة أو لم يصف لي واصف
[الحجة للقراء السبعة: 1/217]
فأمون يمكن أن يكون من الذي هو خلاف الخوف، كأنّه يؤمن عثارها في سيرها، أو يؤمن كلالها وونيّها فيه. ويكون أمون في معنى مأمون، أي غير مخوف، كقولهم: طريق ركوب، أي يركب، وحلوب وقتوب أي: تحلب وتركب وتقتب.
ويكون أمون مثل أمين: لأنّك قد تقول: خانت في سيرها: إذا قصّرت عمّا أراد منها راكبها في المسير.
وقال- جل من قائل-: لا تخونوا اللّه والرّسول وتخونوا أماناتكم [الأنفال/ 27]، فيجوز أن يكون لا تخونوا ذوي أماناتكم وهو أشبه بما قبله، وذوو الأمانة نحو المودع والمعير والموكّل والشريك ومن يدك في ماله يد أمانة لا يد ضمان.
ومن هذا الباب الكافر الموادع، قال تعالى: وإمّا تخافنّ من قومٍ خيانةً فانبذ إليهم على سواءٍ [الأنفال/ 58].
ويجوز أن تكون الأمانات لا يراد معها حذف المضاف، لأنّ خنت من باب أعطيت يتعدّى إلى مفعولين، ويجوز أن يقتصر على أحدهما. فإذا قدّرت حذف المضاف كان بمنزلة أعطيت زيدا، وإذا لم تقدّره كان بمنزلة أعطيت درهما. وعلى هذا قول كثير:
فأخلفن ميعادي وخنّ أمانتي... وليس لمن خان الأمانة دين
[الحجة للقراء السبعة: 1/218]
ويدلّك على تعدّي خنت إلى مفعولين قول أوس:
خانتك ميّة ما علمت كما... خان الإخاء خليله لبد
وأنشد أبو زيد:
فقال مجيبا والّذي حجّ حاتم... أخونك عهدا إنني غير خوّان
والعهد كأنّه الأمانة، فأخونك عهدا كقولك: أخونك أمانة. وقال أبو ذؤيب:
فسوف تقول إن هي لم تجدني... أخان العهد أم أثم الحليف
ومما يدلّك على تقارب الكلمتين استعمالهم إياهما في القسم، نحو: عهد الله وأمانة الله. وتقول: أمنت الرجل: إذا لم تخفه، آمنه قال: هل آمنكم عليه إلّا كما أمنتكم
على أخيه من قبل [يوسف/ 64]. وأمنته وائتمنته إذا لم تخش خيانته. قال- عز وجل -: فإن أمن بعضكم بعضاً فليؤدّ الّذي اؤتمن أمانته [البقرة/ 283]. فهذا كقوله تعالى: إنّ اللّه يأمركم أن تؤدّوا الأمانات إلى أهلها [النساء/ 58].
قال أبو عبيدة: وقالوا في مصدره: الأمن والأمنة
[الحجة للقراء السبعة: 1/219]
والأمان. وفي التنزيل: إذ يغشّيكم النّعاس أمنةً منه [الأنفال/ 11]. وقال أيضا: أمنةً نعاساً [آل عمران/ 154].
وقولهم: آمن زيد يحتمل غير وجه: يجوز أن يكون أمنته فآمن، فجاء المطاوع على أفعل، كقولك: كببته فأكبّ، وفي التنزيل: فكبّت وجوههم في النّار [النمل/ 90]، وفيه: أفمن يمشي مكبًّا على وجهه [الملك/ 22].
وقال:
كما أكبّ على ساعديه النّمر
ومما يدلّك على ذلك تعدّيه بالحرف.
وقال أبو عثمان: أجفل الغيم إذا انقلع، وجفلته الريح، ولا يقال: أجفلته. ويجوز في آمن أن يكون المعنى: صار ذا أمن، مثل: أجرب وأقطف وأعاه، أي: صار ذا عاهة في ماله، فكذلك آمن صار ذا أمن في ماله ونفسه بإظهار الشهادتين، كقولهم: أسلم، أي صار ذا سلم بذلك، وخرج عن أن يكون حربا مستحل المال والنفس. فهذا كأنّه الأصل في اللغة ثم صار المؤمن والمسلم من أسماء المدح في الشرع. وسوّت الشريعة بين التسمية بالمؤمن والمسلم لقوله: فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيتٍ من المسلمين
[الحجة للقراء السبعة: 1/220]
[الذاريات/ 35، 36].
وقال أبو زيد: قالوا: ما آمنت أن أجد صحابة إيمانا، أي: ما وثقت أن أجد صحابة، والإيمان: الثقة.
وقال أبو الصقر: ما آمنت أن أجد صحابة إيمانا، معناه: ما كدت أجد صحابة.
وقال أبو الحسن في قوله تعالى: يؤمن باللّه ويؤمن للمؤمنين [التوبة/ 61]، أي: يصدّقهم، كما تقول: أما تؤمن لي بأن أقول كذا وكذا، أي أما تصدقني؟.
وقال أحمد بن يحيى: قالوا: رجل أمنة: إذا كان يثق بكل ما سمعه.
قال أبو علي: فثقته بما يسمعه إنّما هو لأمنه الكذب في المستمع، وإذا أمن كذبه فقد صدّقه. فيجوز في آمن أن يكون مما حكيناه عن أبي زيد وغيره من معنى الثقة والتصديق.
فأما قولهم: رجل أمنة، فوصف بالمصدر. وحكي رجل أمنة. فهذا: وصف مثل هزأة ونكحة. وقال: والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك [النساء/ 162]، فهذا من أجل قوله:
[الحجة للقراء السبعة: 1/221]
من الّذين قالوا آمنّا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم [المائدة/ 41]. فأمّا قوله: قالت الأعراب آمنّا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولمّا يدخل الإيمان في قلوبكم [الحجرات/ 14]، فنفى عنهم الإيمان، وأثبت لهم الإسلام، فلأنّ الإيمان على التصديق والثقة. وكأنّ المعنى: أنّهم، وإن صاروا ذوي سلم وخرجوا من أن يكونوا حربا بإظهار الشهادتين، فإنّهم لم يصدّقوا ولم يثقوا بما دخلوا فيه، فلم يطابق اعتقاداتهم ما أظهروه من الشهادتين، ولم يوافقه.
فهذا في المعنى مثل قوله: من الّذين قالوا آمنّا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم [المائدة/ 41]. وإيمان المنافقين من هذا الضرب لإظهارهم بألسنتهم ما أمنوا به على دمائهم وأموالهم، والباطن منهم خلاف الظاهر. ولذلك قرأ من قرأ اتّخذوا أيمانهم جنّةً [المنافقون/ 2]، فهؤلاء وإن كانوا قد أظهروا الإسلام، وجرت عليهم أحكامه، فليسوا مسلمين مخلصين، ولا واثقين بما دخلوا فيه، كمن وصف في قوله: الّذين آمنوا وتطمئنّ قلوبهم بذكر اللّه ألا بذكر اللّه تطمئنّ القلوب [الرعد/ 28].
فأمّا جمع من جمع بين هذه الآية وبين الأخرى وهي قوله: إنّما المؤمنون الّذين إذا ذكر اللّه وجلت قلوبهم [الأنفال/ 2] وقوله: إنّهما متدافعتان- لأنّ الوجل خلاف
[الحجة للقراء السبعة: 1/222]
الطمأنينة- فجهل وذهاب عمّا عليه الآيتان وما أريد بهما، وذلك أنّ الاطمئنان إنّما يكون عن ثلج القلب وشرح الصدر بمعرفة التوحيد والعلم به وما يتبع ذلك من الدرجة الرفيعة والثواب الجزيل. والوجل إنّما يكون عند خوف الزيغ والذهاب عن الهدى وما يستحق به الوعيد فتوجل القلوب لذلك. فكلّ واحد من الحالين غير صاحبتها، فليس هنا إذا تضادّ ولا تدافع.
وهذان المعنيان المفترقان في هاتين الآيتين قد اجتمعا في آية واحدة، وهي قوله: تقشعرّ منه جلود الّذين يخشون ربّهم ثمّ تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر اللّه ذلك هدى اللّه يهدي به من يشاء [الزمر/ 23]، لأنّ هؤلاء قد سكنت نفوسهم إلى معتقدهم ووثقوا به، فانتفى عنهم الشكّ، والارتياب الذي يعرض لمن كان خلافهم ممن أظهر الإسلام تعوّذا، فحصل له حكمه دون العلم الموجب لثلج الصدر وانتفاء الريب والشكّ.
وقال: الّذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين [الزخرف/ 69] كأنّه: صدّقوا ووثقوا، ثم قال: وكانوا مسلمين؛ لأنّ بعض من يعلم صدق ما أتى به النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يدخلوا في دينه وسلمه: كاليهود الذين علموا صدقه وجحدوه، وكفروا بما أتى به، قال: فلمّا جاءهم ما عرفوا كفروا به [البقرة/ 89] وقال: إنّ الّذين يكتمون ما أنزلنا من البيّنات والهدى [البقرة/ 159]
[الحجة للقراء السبعة: 1/223]
فهؤلاء وإن كانوا قد علموا واستيقنوا فقد دخلوا في جملة من ذمّ بقوله: وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلوًّا [النمل/ 14]. وقال: يا أيّها الّذين آمنوا ادخلوا في السّلم كافّةً [البقرة/ 208] وقال: يمنّون عليك أن أسلموا قل لا تمنّوا عليّ إسلامكم بل اللّه يمنّ عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين [الحجرات/ 17]. فهذا يدلّ على أنّ الإيمان من الأمن، أي هداكم لما تحرزون به أنفسكم وأموالكم في العاجلة، ولا تخسرون معه أنفسكم وأهليكم في الآجلة.
ويجوز أن يكون هداكم للصدق وإن كان قد قال: إن كنتم صادقين ألا ترى أنّه ليس كل من هدي إلى الصدق يصدّق كالمعاند الجاحد لما عرف؟.
وقال بعض المتأوّلين في قوله في صفة التابوت: إنّ في ذلك لآيةً لكم إن كنتم مؤمنين [البقرة/ 248] معنى مؤمنين: مصدّقين لي، وذلك أنّه لا يخلو من أن يراد به: أهل الإيمان بالله، أو يراد به: إن كنتم مصدقين لي. فلا يجوز الأول لكفرهم بالله في تكذيبهم نبيهم لقوله: أنّى يكون له الملك علينا [البقرة/ 247]، فأنكروا أن يملّكوا من ملّكه نبيّهم قال: فإذا لم يجز هذا الوجه ثبت الوجه الآخر الذي هو التصديق به.
وأمّا قوله: وما يؤمن أكثرهم باللّه إلّا وهم مشركون
[الحجة للقراء السبعة: 1/224]
[يوسف:/ 106] فليس المؤمن هنا المطابق معتقده ما يظهره باللسان، ولكن المعنى: أن أكثرهم مع إظهارهم الإيمان بألسنتهم مشركون. وقد يطلق على المظهر ذلك بلسانه اسم مؤمن، ولا يجوز أن يراد بذلك المدح، ولكن الاسم الجاري على الفعل. وعلى هذا قوله: فإن علمتموهنّ مؤمناتٍ فلا ترجعوهنّ إلى الكفّار [الممتحنة/ 10] ألا ترى أن هذا على ما يظهرنه بألسنتهن من الشهادتين.
ومثل قوله: وما يؤمن أكثرهم باللّه إلّا وهم مشركون قوله: يعرفون نعمت اللّه ثمّ ينكرونها [النحل/ 83] ومثله: الّذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلمٍ [الأنعام/ 82] في قول من ذهب إلى أنّ الشرك الظلم، واحتجّ بقوله: إنّ الشّرك لظلمٌ عظيمٌ [لقمان/ 13]. والمعنى فيهما: أنّهم إذا سئلوا: من خلقهم، قالوا: الله. ثم يجعلون له شريكا. وقال السدّيّ في قوله: ولكن لعنهم اللّه بكفرهم فلا يؤمنون إلّا قليلًا [النساء/ 46]: القليل قولهم: الله ربنا، والجنة حقّ، والنار حقّ. فهذا قليل من إيمانهم، والقليل ليس بشيء.
فهذا مثل ما تقدّم من أنّه عبارة عن الفعل وليس بمدح كقوله: وبشّر المؤمنين بأنّ لهم من اللّه فضلًا كبيراً [الأحزاب/ 47]، فقليلا على قول السّدّيّ وصف مصدر محذوف تقديره: فلا يؤمنون إلّا إيمانا قليلا. وهذا أوجه من أن
[الحجة للقراء السبعة: 1/225]
يحمل القليل على أنّهم ناس، لأن (قليلا) مفرد، وفي التنزيل:
إنّ هؤلاء لشرذمةٌ قليلون [الشعراء/ 54] إلّا أنّه قد جاء فعيل مفردا يراد به الكثرة كفعول، نحو قوله: وحسن أولئك رفيقاً [النساء/ 69] وقال: ولا يسئل حميمٌ حميماً يبصّرونهم [المعارج/ 10] فدلّ عود الذكر مجموعا إلى القبيلين على أنّه أريد بهما الكثرة، وقال رؤبة:
دعها فما النحويّ من صديقها
فإن جعلت القليل ناسا، وجب ألا يكونوا دخلوا في اللعن، فيكون: إلّا قليلا، استثناء من قوله: لعنهم اللّه...
إلّا قليلًا [النساء/ 46].
ويجوز أن يكون الاستثناء من قوله: فلا يؤمنون، ويكون قوله: لعنهم اللّه واقعا على الكفار منهم دون المستثنين.
وما قاله السدّي هو القول: لأنّه قد قال: فقليلًا ما يؤمنون، وما زائدة، فالمعنى: يؤمنون قليلا، أي إيمانا قليلا.
وأمّا قوله: وما أنت بمؤمنٍ لنا ولو كنّا صادقين [يوسف/ 17] فليس المعنى على: ما أنت بمصدّق لنا ولو كنا
[الحجة للقراء السبعة: 1/226]
صادقين عندك، لأنّ الأنبياء لا تكذّب الصادقين، ولكن المعنى: ما أنت واثقا، ولا غير خائف الكذب في قولنا، ولو كنّا على الحقيقة صادقين عندك لما خلونا من ظنّة منك وتهمة لك أنّا قد كذبناك، لفرط محبّتك ليوسف وإشفاقك عليه. وهذا المعنى متعالم في استعمال الناس. فمؤمن هنا من آمن، أي صار ذا أمن أو صار ذا ثقة، فنفى ذلك، أي: لا تثق بأن الأمر كما تخبر ولا تسكن نفسك إليه.
وأمّا قوله: فلا يؤمنوا حتّى يروا العذاب الأليم [يونس/ 88] فإنّ قوله: لا يؤمنوا في موضع نصب بالعطف على قوله: ليضلوا عن سبيلك فلا يؤمنوا. ولم يعطوا الأموال ليضلوا ويكفروا ولكن لمّا اختاروا ذلك فصار إليه عاقبة أمرهم كان بمنزلة قوله تعالى: فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوًّا وحزناً [القصص/ 8]، لمّا أدى التقاطهم
إيّاه إلى ذلك، وإن كان الالتقاط لغيره.
وأمّا قوله: ها أنتم أولاء تحبّونهم ولا يحبّونكم وتؤمنون بالكتاب كلّه [آل عمران/ 119]، ففي قوله: تؤمنون بالكتاب كلّه إنباء عن كون المؤمنين على خلاف صفة من ذكر في
[الحجة للقراء السبعة: 1/227]
قوله: ويقولون نؤمن ببعضٍ ونكفر ببعضٍ [النساء/ 150]، وفي قوله: الّذين جعلوا القرآن عضين [الحجر/ 91].
وأمّا قولنا في وصف القديم سبحانه: «المؤمن المهيمن» فإنّه يحتمل تأويلين:
أحدهما: أن يكون من «أمن» المتعدي إلى مفعول، فنقل بالهمزة فتعدى إلى مفعولين، فصار من «أمن» زيد العذاب وآمنته العذاب، فمعناه المؤمن عذابه من لا يستحقه. وفي هذه الصفة وصف القديم سبحانه بالعدل كما قال: قائماً بالقسط [آل عمران/ 18].
والآخر: أن يكون معناه المصدق، أي المصدق الموحدين له على توحيدهم إياه، يدل على ذلك قوله:
شهد اللّه أنّه لا إله إلّا هو [آل عمران/ 18]. ألا ترى أنّ الشاهد مصدق لما يشهد به، كما أنّه مصدق من يشهد له، فإذا شهد سبحانه بالتوحيد فقد صدّق الموحدين.
فأمّا قوله «المهيمن» فقال أبو الحسن في قوله: ومهيمناً عليه [المائدة/ 48] إنّه الشاهد، وقد روي في التفسير أنه الأمين.
[الحجة للقراء السبعة: 1/228]
حدثنا أحمد بن محمد البصري قال: حدثنا المؤمل قال: حدثنا إسماعيل عن أبي رجاء قال سألت الحسن عن: مصدّقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه [المائدة/ 48] قال: مصدقا بهذه الكتب وأمينا عليها.
والمعنيان متقاربان، ألا ترى أن الشاهد أمين فيما يشهد به؟ فهذا التأويل موافق لما جاء في التفسير من أنّه الأمين.
وإن جعلت الشاهد خلاف الغيبة كان بمنزلة قوله: لا يخفى على اللّه منهم شيءٌ [غافر/ 16]، ولا يعزب عنه مثقال ذرّةٍ في السّماوات [سبأ/ 3]،
[الحجة للقراء السبعة: 1/229]
وقال: وكنّا لحكمهم شاهدين [الأنبياء/ 78].
وقالوا: إنه مفيعل من الأمان، مثل مبيطر، وأبدلت من الفاء التي هي همزة الهاء كما أبدلت منها في غير هذا الموضع. وروى اليزيدي أبو عبد الله عن أبي عبيدة قال: لا يوجد مثل هذا البناء إلا أربعة أشياء: مبيطر ومصيطر ومبيقر ومهيمن.
قال أبو علي: وليست الياء للتصغير، إنما هي التي لحقت فعل وألحقته بالأربعة، نحو دحرج وإن كان اللفظ قد وافق اللفظ.
وأما قولهم: الأمان فإنّه، وإن كان اسم حدث، وكان بزنة الجمال والذّهاب والتّمام، فقد صار كأنّه لكثرته في الاستعمال خارجا عن أحكام المصادر. ألا ترى أن قولهم: أعطيته أمانا، ولك الأمان صار بمنزلة الكف والمتاركة، فكأنّه لما خرج بذلك عن بابه صار بمنزلة قولهم: لله درّك. الذي زعم أنّه بمنزلة قولهم: لله بلادك. فلذلك لا تكاد تجده معملا إعمال المصادر.
قال بعض المتأولين في قوله: الّذين يؤمنون بالغيب [البقرة/ 3]، أي: يؤمنون إذا غابوا عنكم، ولم يكونوا
[الحجة للقراء السبعة: 1/230]
كالمنافقين الذين يقولون: إنّا معكم إنّما نحن مستهزؤن [البقرة/ 14]. ويقوي ما ذهب إليه هذا المتأول قوله: الّذين يخشون ربّهم بالغيب [الأنبياء/ 49] وقوله: وخشي الرّحمن بالغيب [يس/ 11] وقال الهذلي:
أخالد ما راعيت من ذي قرابة... فتحفظني بالغيب أو بعض ما تبدي
فالجار والمجرور في موضع حال، أي تحفظني غائبا، ويخشون ربّهم غائبين عن مرآة الناس لا يريدون بإيمانهم تصنعا لأحد، ولا تقربا إليه رجاء المنالة، ولكن يخلصون إيمانهم لله تعالى.
ويجوز فيها وجه آخر، وهو أن هذه الآية كأنّها إجمال ما فصل في قوله: والمؤمنون كلٌّ آمن باللّه وملائكته وكتبه ورسله [البقرة/ 280] والموصوفون فيها خلاف من وصف في قوله:
ومن يكفر باللّه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضلّ ضلالًا بعيداً [النساء/ 136]، فكفرهم بالملائكة ادعاؤهم إياهم بنات، كما وبّخوا في قوله: أم اتّخذ ممّا يخلق بناتٍ [الزخرف/ 16] وقوله: وجعلوا الملائكة الّذين هم عباد الرّحمن إناثاً [الزخرف/ 19] وكفرهم بالكتب إنكارهم
[الحجة للقراء السبعة: 1/231]
لها في قوله: وما قدروا اللّه حقّ قدره إذ قالوا ما أنزل اللّه على بشرٍ من شيءٍ [الأنعام/ 91] وكفرهم بإرسال الرسل [إنكارهم] إرسالهم بنحو قوله: ولئن أطعتم بشراً مثلكم [المؤمنون/ 34] وقوله: أهذا الّذي بعث اللّه رسولًا [الفرقان/ 41]، وكفرهم بالآخرة قولهم: لا تأتينا السّاعة قل بلى وربّي [سبأ/ 3]. فكل هذه الأمور غيب قد أنكروه ودفعوه فلم يؤمنوا به ولم يستدلوا على صحته، فقال تعالى: الّذين يؤمنون بالغيب [البقرة/ 4] أي بهذه الأشياء التي كفر بها هؤلاء الذين ذكر كفرهم بها عنهم وخصهم بالإيقان بالآخرة في قوله: وبالآخرة هم يوقنون [البقرة/ 4] وإن كان الإيمان بالغيب قد شملها لما كان من كفر المشركين بها وجحدهم إياها في نحو ما حكى عنهم من قولهم: وقالوا ما هي إلّا حياتنا الدّنيا نموت ونحيا [الجاثية/ 24] فكان في تخصيصهم بذلك مدح لهم.
ونظير ذلك في أنّه خصّ بعد ما عمّ قوله: اقرأ باسم ربّك الّذي خلق [العلق/ 1] فعم بقوله: «خلق» جميع مخلوقاته ثم خص فقال خلق الإنسان من علقٍ [العلق/ 2] ويقرب من هذا قوله: الرّحمن الرّحيم حيث أريد تخصيص المسلمين بالكرامة في قوله: وكان بالمؤمنين رحيماً [الأحزاب/ 43] فالباء على هذا الوجه ليست في موضع الحال كما كانت كذلك في الوجه الأول، ولكنه في موضع نصب بأنه مفعول به، كما
[الحجة للقراء السبعة: 1/232]
أنها مفعول في قوله: ومن النّاس من يقول آمنّا باللّه [البقرة/ 8] إنّي آمنت بربّكم [يس/ 25] والغيب: ما غاب عنك فلم تشهده. وقال: عالم الغيب والشّهادة. قال أبو زيد: بدا غيّبان العود، إذا بدت عروقه التي تغيبت منه، وذلك إذا أصابه البعاق من المطر فاشتد السيل فحفر أصول الشجر حتى تظهر عروقه. وقوله: وللّه غيب السّماوات والأرض مصدر مضاف إلى المفعول على الاتساع فحذف حرف الجر، لأنّك تقول: غبت في الأرض، وغبت ببلد كذا، فتعديه بحرف الجر فحذف الحرف وأضيف المصدر إلى المفعول به في المعنى نحو من دعاء الخير [فصلت/ 49] وبسؤال نعجتك [ص/ 24]. ويحتمل وجهين:
أحدهما: ذوو غيب السموات والأرض، أي ما غاب فيها من أولي العلم وغيرهم، كقوله: ألا له الخلق والأمر [الأعراف/ 54].
والآخر: أن يكون المعنى: ولله علم غيب السموات، ويدل على ذلك قوله: عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً
[الحجة للقراء السبعة: 1/233]
[الجن/ 26]، وعالم الغيب والشّهادة فتعالى عمّا يشركون [المؤمنون/ 92]. وقال: إنّ الّذين آمنوا ثمّ كفروا ثمّ آمنوا ثمّ كفروا ثمّ ازدادوا كفراً [النساء/ 137]، يعني به المنافقين.
والإيمان الأول دخولهم في الإسلام وحقنهم الدماء والأموال، وكفرهم بعد: نفاقهم، وأن باطنهم على غير ظاهرهم، وإيمانهم بعد يقيهم نفاقهم بقولهم: (إنّا مؤمنون) في قوله: وإذا لقوا الّذين آمنوا قالوا آمنّا، فهذا الإظهار منهم للإيمان ثانية يدخلون به في حكم الإسلام بعد الكفر، كما أنّ من جاء من المؤمنات مظهرات للإسلام داخلات في حكمه. وقال: فإن علمتموهنّ مؤمناتٍ [الممتحنة/ 10] فعلمن مؤمنات بما أظهرنه من ذلك، فكذلك هؤلاء يكونون مؤمنين بإظهارهم الإيمان بعد ما علم منهم من النفاق. وكفرهم بعد هذا الإيمان الثاني قولهم: إذا خلوا إلى أصحابهم إنّا معكم إنّما نحن مستهزؤن فما ازدادوه من الكفر إنّما هو بقولهم: إنّما نحن مستهزؤن فهذا زيادة في الكفر.
ويدل على أن المستهزئ باستهزائه كافر فيزداد به كفرا إلى كفره قوله: وقد نزّل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات اللّه يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم، وقال: إنّكم إذاً مثلهم
[الحجة للقراء السبعة: 1/234]
فإذا كان المجالس مثلهم وإن لم يظهر ذلك ولم يعتقده، فالقائل لذلك أشد ذهابا في الكفر.
[بسم الله] الإعراب
لا تخلو الألف في آمن من أن تكون زائدة أو منقلبة، وليس في القسمة أن تكون أصلا. فلا يجوز أن تكون زائدة لأنّها لو كانت كذلك لكان فاعل ولو كان فاعل لكان مضارعه يفاعل مثل يقاتل ويضارب في مضارع قاتل وضارب، فلما كان مضارع آمن يؤمن دلّ ذلك على أنّها غير زائدة، فإذا لم تكن زائدة كانت منقلبة. وإذا كانت منقلبة لم يخل انقلابها من أن يكون عن الواو أو عن الياء أو عن الهمزة. فلا يجوز أن تكون منقلبة عن الواو لأنها في موضع سكون، وإذا كانت في موضع سكون وجب تصحيحها ولم يجز انقلابها، وبمثل هذه الدلالة لا يجوز أن تكون منقلبة عن الياء، فإذا لم يجز انقلابها، عن الواو ولا عن الياء ثبت أنها منقلبة عن الهمزة، وإنما انقلبت عنها ألفا لوقوعها ساكنة بعد حرف مفتوح، فكما أنها إذا خففت في رأس، وفأس، وبأس، انقلبت ألفا لسكونها وانفتاح ما قبلها، كذلك قلبت في نحو: آمن، وآجر، وآتى، وفي الأسماء نحو آدر وآخر وآدم، إلّا أنّ الانقلاب هاهنا لزمها لاجتماع
[الحجة للقراء السبعة: 1/235]
الهمزتين، والهمزتان إذا اجتمعتا في كلمة، لزم الثانية منهما القلب بحسب الحركة التي قبلها إذا كانت ساكنة نحو آمن، اؤتمن، ائذن، ائتنا.
ومن ثم قلنا في آوى إن الفاء منها همزة، ألا ترى أنّها لا تخلو من أن تكون أفعل أو فاعل أو فعلى، فلا يجوز أن تكون فاعل لأنّ مثل: طابق، وتابل مصروف في المعرفة، وقد منعوا آوى الصرف، فعلم بذلك أنه ليس مثل طابق، ولا يجوز أن يكون فعلى لأنّه لو كان إياها لكانت الألف في موضع سكون، وإذا كانت في موضع سكون وجب صحتها وانتفى انقلابها، فلو كانت العين واوا لوجب إدغامها في الواو التي هي لام كما وجب إدغام حوّاء وعوّاء، ولا يجوز أن تكون الألف منقلبة عن الياء مع وقوع واو بعدها لأنّ ذلك مرفوض في كلامهم غير موجود.
فإن قلت فقد جاء خيوان في اسم هذا الموضع الذي باليمن فالقول في ذلك أنه فيعال وليس بفعلان، وإنما منع
[الحجة للقراء السبعة: 1/236]
الصرف لأنه يجعل اسما لبقعة أو بلدة، فلا يجوز إذن أن يكون فعلى، فإذا لم يجز أن يكون فاعل ولا فعلى ثبت أنّه أفعل، وإنّما لم يصرف لوزن الفعل، وأنّه علم. فهو مثل آمن، ولو نكر كما نكروا عرسا في ابن عرس لكان القياس صرفه.
فأمّا قراءة من قرأ: (آتينا بها) فإنّما هو فاعلنا وليس بأفعلنا، ولو كان أفعلنا لم تدخل الباء، ألا ترى أنك تقول:
جئت به، فإذا عديت بالهمزة قلت: أجأته، ولم تقل: أجأت به.
وفي التنزيل: فأجاءها المخاض [مريم/ 23]، فكذلك قوله:
(آتينا بها). لو كان أفعل لم يحتج إلى الباء.
وكذلك تقول: أبى زيد شرب الماء، فإذا فعلت أنت به الإباء قلت: آبيته ولا تقول: آبيت به قال:
قد أوبيت كلّ ماء فهي صادية... مهما تصب أفقا من بارق تشم
[الحجة للقراء السبعة: 1/237]
فإن قلت: فقد قرأ بعضهم: (يذهب بالأبصار) فأثبت الباء مع النقل بالهمزة، فهلا أجزت في «آتينا بها» أن تكون أفعلنا بها ولا تكون فاعلنا. فإنّ ما ذكرته هو قياس هذا القول، إلا أن الحمل عليه والردّ إليه ينبغي ألّا يجوز ما وجد عنه مندوحة.
فأمّا آجر فهو فاعل، لأنّك تقول في المضارع: يؤاجر مثل يقاتل، ولو كان أفعل لكان يؤجر. والذي جاء في التنزيل من ذلك على فعل لأنّ المضارع يفعل في قوله: على أن تأجرني ثماني حججٍ [القصص/ 27].
فأمّا حجة من قرأ (يؤمنون) بتحقيق الهمز، فلأنّه إنّما ترك
[الحجة للقراء السبعة: 1/238]
الهمز في أومن لاجتماع الهمزتين، كما أنّ تركها في آمن كذلك، فلما زال اجتماعهما مع سائر حروف المضارعة سوى الهمزة، ردّ الكلمة إلى الأصل فهمز، لأنّ الهمزة، من الأمن والأمنة، فاء الفعل. ومما يقوي الهمز في ذلك أنّ من تركها إنّما يقلبها واوا ساكنة وما قبلها متحرك بالضم، والواو الساكنة إذا انضم ما قبلها فقد استجازوا قلبها همزة. قال محمد بن يزيد: أخبرني أبو عثمان قال: أخبرني الأخفش قال: كان أبو حية النّميري يهمز كل واو ساكنة قبلها ضمة وينشد:
لحبّ المؤقدان إليّ مؤسى
وتقدير ذلك أن الحركة لما كانت تلي الواو في مؤسى صارت كأنّها عليها، والواو إذا تحركت بالضمة أبدلت منها الهمزة.
ومثل إبدالهم من الواو الساكنة المضموم ما قبلها الهمزة استجازتهم الإمالة في مقلات، ومصباح، حيث كانت الكسرة
[الحجة للقراء السبعة: 1/239]
كأنّها على المستعلي فصار مثل قفاف وصفاف، فإذا جاز إبدال الهمزة من الواو التي ذكرنا واجتلابها، وإن لم تكن من الكلمة، فالهمزة التي هي أصل في الكلمة أولى بالتقرير وألّا يبدل منها الواو.
وحجة من لم يهمز أن يقول [إنّ] هذه الهمزة قد لزمها البدل في مثالين من الفعل الماضي والمضارع، فالماضي نحو: آمن وأومن، والمضارع نحو أومن ولم يجز تحقيقها في هذه المواضع. وهذا القلب الذي لزمها في المثالين إعلال لها، والإعلال إذا لزم مثالا أتبع سائر الأمثلة العارية من الإعلال: كإعلالهم يقوم لقام، وإعلالهم يكرم من أجل أكرم، وأعد ليعد، فوجب على هذا أن يختار ترك الهمز في يؤمنون اعتبارا لما أرينا من الإعلال ليتبع قولهم (يؤمنون) في الإعلال المثالين الآخرين لا على التخفيف القياسي في نحو جونة في جؤنة وبوس في بؤس.
فإن قلت: فهلّا لم يجز غير القلب والتخفيف كما لم يجز إلّا الإعلال فيما شبهته به وإلزامه الحذف والقلب؟.
[الحجة للقراء السبعة: 1/240]
فالقول: إن القياس على ما أريناك.
ولم يلزم ما شبهنا به [من] الحذف والقلب في كل موضع، ألا ترى أنّهم إذا قالوا: يوعد، وما أقوله وأقول بزيد، ويؤكرم في الشعر، وأهريق لم يلزم الحذف والقلب.
وحدثنا علي بن سليمان أن أحمد بن يحيى أخبرهم:
يقال: قد اتّمن فلان فلانا وقد اتمنته، والأصل: ايتمن وايتمنته، ثم أدغمت الياء في التاء فشددت التاء. وفي الائتمام: قد اتّممت به مفتوح التاء.
هذا لفظ أحمد بن يحيى واستثبتّ أبا الحسن في ذلك فأثبته وصححه، ولم أعلم لأصحابنا في هذه المسألة نصا.
وقياس قولهم عندي أن الإدغام فيها لا يجوز لأنّ الياء غير لازمة، فلا يكون مثل اتّسر واتعد، ألا ترى أنّهم قالوا: لو بنيت مثل: افعل أو افعل من أويت، لقلت: إيّا وإيّ فقلبت الفاء ياء وأدغمتها في الواو كما تدغم فيها الياء التي من نفس الكلمة. وقالوا: لو بنيت مثل افعوعل من أويت، لقلت: إيووّي وإيويّا على قول أبي الحسن، ولم تدغم الياء المنقلبة عن الهمزة التي هي فاء في الواو التي هي عين لأنّها غير لازمة، فكذلك الياء في ائتمنته غير لازمة، لأنّك إذا أسقطت
[الحجة للقراء السبعة: 1/241]
همزة الوصل في الدرج نحو قد ائتمن رجعت الهمزة، وإذا لم يدغموا نحو نوي ورويا إذا خففوا الهمزة مع لزوم الواو في قول أهل التخفيف فألا يدغم ائتمن ونحوه أجدر.
فإن قلت: فقد أدغم قوم رويا فقالوا ريّا. فالقول إن الإدغام في هذا أشبه لما ذكرنا من لزومها، وتلك لما لم تلزم كانت بمنزلة المنفصل، على أن أبا الحسن يحمل ريّا فيمن أدغم على القلب نحو أخطيت في اللام. ويقوي ذلك أن بعضهم كسر الفاء منها فقال: ريّا، كما قالوا في: ليّ ليّ.
فإن قلت: فهل يجوز الإدغام في المصدر من قوله:
آوى إليه أخاه [يوسف/ 69] فالقول إن ترك إدغام ذلك وامتناعه على قول الخليل بيّن، ألا ترى أنّه لم يدغم أووم ولا يووم وشبهه بسوير فألّا يدغم هذا أجدر، لأنّها لما
[الحجة للقراء السبعة: 1/242]
أبدلت ولزم إبدالها صارت بمنزلة الألف الزائدة حتى أبدلت منها الواو في التكسير، كما أبدلت من ألف ضارب، فقالوا أوادم كما قالوا ضوارب.
ومن قال: أيّم، وخالف الخليل، فينبغي ألّا يدغم هذا لما ذكرنا من مشابهتها الزيادة، ولأنّه مثل ما تركت العرب إدغامه في قولهم: ديوان. ألا ترى أنها أبدلت لاجتماع الهمزتين كما أبدلت في ديوان لاجتماع المثلين وكراهة ذلك لأنّ كل واحد من الأمرين يتوصل به إلى إزالة المثلين، كما يتوصل بالآخر.
فأما قول الشاعر:
جيش المحمّين حشّ النار تحتهما... غرثان أمسى بواد مؤهب الحطب
فمن أخذه من الأهبة والتأهب همز إن شاء. ومن أخذه من وهب، وجعل الفاء الواو لم يهمز، إلّا على قول من قال: مؤسى، وقد تؤوّل البيت على الأمرين جميعا). [الحجة للقراء السبعة: 1/243]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({الّذين يؤمنون بالغيب} 3
قرأ أبو عمرو وورش عن نافع يومنون بغير همز وكذلك ياكلون ويومرون وحجتهما في ذلك ثقل الهمز وبعد مخرجها وما فيها من المشقّة فطلب من تخفيفها ما لم يطلب من تخفيف ما سواها ولهذا قيل: النّطق بها كالتهوع
وورش يترك أيضا الهمزة المتحركة مثل: (لا يواخذكم) و(لا يوده) وأبو عمرو يهمز
[حجة القراءات: 84]
وحجته أن الهمزة الساكنة أثقل من المتحركة وذلك أن تخرج الهمزة الساكنة من الصّدر ولا تخرج إلّا مع حبس النّفس والهمزة المتحركة تعينها حركتها وتعين المتكلّم بها على خروجها فلذلك همز أبو عمرو المتحركة وترك الساكنة وترك أيضا ورش ما كان سكونها علامة للجزم نحو إن نشأ وتسؤهم وهمز أبو عمرو وحجته في ذلك أن الكلمة قد سقط منها حرف قبل الهمزة لسكونها وسكون الهمزة وهو الألف من نشاء والواو من تسوؤهم وسقطت حركة الهمزة للجزم فلو أسقط منها الهمزة لكان قد أسقط من الكلمة ثلاثة أشياء: الهمزة وحركتها والألف فيخل بالكلمة). [حجة القراءات: 85]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (2- {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [آية/ 3]:
ابن كثير وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي ويعقوب يهمزون ذلك وما أشبهه نحو {يُؤْثِرُونَ} و{يُؤْتُونَ}.
لأن الهمزة هاهنا فاء الفعل، وإنما أُبدلت في: أومن واوً، وفي: آمن ألفًا كراهة اجتماع الهمزتين، وليس في: يؤمن ذلك، فوجب أن ترد الكلمة إلى أًلها من الهمز.
وكان أبو عمرو يترك الهمز من ذلك في حال الإدراج وفي الصلاة، ويهمز في حال التحقيق والترتيل.
[الموضح: 239]
وإنما ترك الهمز في حال الإدراج؛ لأن هذه الهمزة لزمها الإبدال في الماضي نحو: آمن، وفي المستقبل نحو: أومِن، ولم يجر تحقيقهما في هذين الموضعين لاجتماع الهمزتين فأجرى سائر الأمثلة من هذا البناء مجرى هذين المثالين إرادة الإطراد كما قلنا في يعد حين أجرى سائر أمثلة المضارع مجراه في الحذف ليطرد.
ويجوز أن يكون خفف الهمزة على التخفيف القياسي، وذلك هو وقوع الضمة قبل الهمزة الساكنة فقلب الهمزة لأجله واوًا كبوس ولومٍ ونحوهما.
وإنما فعل أبو عمر هذا الإبدال في حال الإدراج؛ لأنه موضع تخفيف، وأما في حال التحقيق فإنه جاء به على الأصل، فأخذ في الحالين باللغتين.
وروى ش- عن نافع بترك الهمز في كل حالٍ، وهذا على ما قدمناه من إرادة التخفيف وطلب الإطراد في الأمثلة.
وأما حمزة فإنه إذا وقف على المهموز وقف بترك الهمزة اسمًا كان أم فعلًا نحو: يومنون والمومنون ومستهزون، هكذا يقف على كل مهموز، وإذا لم يقف حقق الهمزة.
وإنما فعل ذلك؛ لأن الوقف موضع تغيير ألا ترى أن حركات الإعراب تحذف فيه، وكذلك التنوين الذي هو علم الصرف، وربما يزيدون على الكلمة
[الموضح: 240]
في حال الوقف ما ليس منها نحوها بيان الحركة في نحو: أغزه وارمه وكتابيه، والتضعيف في الوقف نحو: فرج وخالد، وربما يبدلون عن الحرف غيره نحو الهاء عن التاء في نحو: الرحمة والصلاة.
فلما كان التحقيق والإبدال في الهمزة جائزين اختار حمزة الإبدال في موضع الوقف؛ لأنه موضع تغيير). [الموضح: 241]

قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (والّذين يؤمنون بما أنزل إليك)
كان ابن كثير يهمز كل حرف مهموز همزته، نحو قوله: (أأنذرتهم أم لم تنذرهم) و(وادعوا شهداءكم من دون اللّه) و(كانوا أنفسهم يظلمون).
وإنما يضم الميم إذا كانت في كلمة مضمرة، مثل: (أنتم) و(هم) و(كنتم) إذا انضم ما قبل الميم، أو كان مفتوحا، فإذا كان انكسر ما قبلها سكنها، نحو: (في قلوبهم مرضٌ) و(في طغيانهم يعمهون).
وقال ورش عن نافع الهاء مكسورة، والميم موقوفة، إلا أن يلقى الميم ألف أصلية، كقولك: (أأنذرتهم أم لم تنذرهم).
[معاني القراءات وعللها: 1/123]
وقرأ حمزة ويعقوب بضم الهاءات في تلك المواضع المذكورة على الأصل؛ لأن أصل الهاء الضم، ألا ترى أنك تقول: (هم يوقنون)
و (هم يوقنون) فتجد الهاء مضمومة لا غير.
وروى إسحاق الأزرق عن حمزة (عليهم) بكسر الهاء وجزم الميم.
وأخبرني المنذري عن أبي العباس أنه ذكر قول أبي عبيد في (عليهم)، و(لديهم) و(إليهم) قال: قال أبو عبيد: اختيارنا كسر الهاء، ووقف الميم في كله ما لم يلقها ألف ولام، فإذا لقيتها ألف ولام كان الخفض أحب إليّ؛ لأنه أقيس في العربية أن يكون كل حرف منجزم بعده حرف ساكن أن يكون حركته إلى الخفض.
قال أبو العباس: وهذا غلط؛ لأن للميم حركة، وهو الضم، فإذا حركت كان أولى بها أن يرد إلى حركتها التي هي لها فتضم.
قال: وقال الأخفش ومن قال بقوله: أضم الهاء وأسكن الميم؛ لأن الهاء هو الأصل، وهي القراءة القديمة، قراءة أهل الحجاز ولغتهم.
[معاني القراءات وعللها: 1/124]
ويسكن الميم فيها، وكذلك كل هاءٍ ضم وميم قبلها ياء ساكنة وما قبل الياء مفتوح، مثل: (عليهم) و(لديهم).
قال أبو العباس: أما ما ادعي من أنها أصل فهي الأصل، ولكن العرب تقرب الحرف من الحرف إذا قاربه، مثل الإدغام.
قال: والكسر في (عليهم) أولى، لأن الهاء من جنس الياء، لأنها يقع في القوافي مكانها، وأن الهاء ينقطع إلى مخرج الياء، فلذلك أتبعت الهاء الياء، وكذلك إذا كانت الهاء منفردة من الميم فقد اجتمعوا على كسر الهاء، مثل (به) و(عليه).
وزعم الفراء أنها لغة... النبي صلى الله عليه، فإذا جاءوا
بالألف واللام ضموا الهاء والميم.
قال أبو العباس: وهذا هو القياس؛ لأن الهاء إذا انفردت تبعت الكسر والياء لمؤاخاتها لهما، وإذا كانت معهما الميم، والأصل (هم)، ثم أتبعت الهاء والياء والكسرة كما ذكرنا، فإذا حركت الميم ردت الهاء والميم إلى أصلهما، فإذا لم تأت بالميم تركت الهاء على ما تبعت، مثل (به القول) و(عليه العذاب).
[معاني القراءات وعللها: 1/125]
فهنا هو الاختيار، والضم لغة والإشباع في الضم والكسر لغة، مثل: (به يا هذا) و(عليه يا هذا) و(بهو) و(عليهو) و(بهي) و(عليهي) - فإذا كان ما قبلها ساكنا حذفوا الواو، وهو الاختيار، وعليه القراءة وإذا انفتح ما قبل الهاء أو انضم فلا فرق بينهم أنه الإشباع، مثل (ضربهو) و(لن يضربهو) وإذا كان قبله ساكن مثل (عنه) و(إليهم) و(محياهم) فالاختيار الحذف عند أبي العباس، والذين يقولون: (عليهم) هم الذين أتبعوا الهاء شكلها، وردوا الميم إلى أصلها.
وقال أبو إسحاق الزجاج: الأصل في هذه الهاء التي في قولك: ضربتهو يا فتى) و(مررت بهو يا فتى) أن يتكلم به في الوصل بواو، فإذا وقفت قلت: (ضربته) و(مررت به)
قال: وزعم سيبويه أن الواو زيدت على الهاء في الذكر كما زيدت الألف في المؤنث في قولك: (ضربتها) و(مررت بها) ليستوي المؤنث والمذكر في باب الزيادة قال أبو إسحاق: والقول "في هذا الواو عند أصحابنا أنها إنما زيدت لخفاء الهاء، وذلك أن الهاء تخرج من أقصى الحلق، والواو حرف مدٍّ ولينٍ تخرج من طرف الشفتين، فإذا زيدت الواو بعد الهاء أخرجتها من الخفاء إلى الإبانة، فلهذا زيدت - وتسقط في الوقف - كما
[معاني القراءات وعللها: 1/126]
تسقط الضمة والكسرة في قولك - ساكنة أو متحركة في جميع القرآن.
إلا (القرآن) فإنه لا يهمزه ويهمز (قرأت) وكلهم يهمزون "يؤمنون " و"نؤمن " و، يأكلون، و، تأكل، و، يؤتون، و، يأتون " ونحو هنا من الحروف إلا أبا عمرو فإنه يطرح الهمزة من هنا ونحوه مما يكون فيه الهمز ساكنة، وذلك أنها لما سكنت ضعفت، واستحسن طرحها لسكونها في الحدر والدرج إلا أن يكون همزها أخف من طرحها.
وروى اليزيدي عن أبي عمرو أنه كان إذا قرأ في الصلاة أو أدرج القراءة لم يهمز.
وإذا حقق همز.
وكذلك قرأت بحرف عاصم الذي رواه أبو بكر عنه من رواية الأعشى عن أبي بكر بطرح الهمز من هذه الحروف، ومن حروف أخر الهمزة فيهن متحركة، نحو قوله؛، مائة
[معاني القراءات وعللها: 1/127]
حبةٍ، و: (ليطمئن قلبي)، و: (تطمئن قلوبنا)، و(كم من فئةٍ قليلةٍ)، و(رئاء الناس)، و(كتابًا مؤجلا)، و(فئتين التقتا)، و(وإذا قرئ القرآن)، و(المؤلّفة قلوبهم).
ونحو هذا في قراءة الأعشى عن أبي بكر، وأحسب أن الذي حكاه الإشناني عن ابن الصباح عن حفص عن عاصم عن أبي عبد الرحمن عن علي أنه كان يدع الهمز من الخوف إذا تخوف النقصان هو هذا الذي رواه الأعشى عن أبي بكر عن عاصم من طرح الهمز فيما قدمت ذكره.
وكان حمزة يهمز هذه الحروف كلها إذا وصل القراءة، فإذا سكت وقف بغير همز، وكذلك يفعل بقوله: (يستهزئون) وقوله: (ويستنبئونك)، ونحو هذا.
فأما: (خائفين) و(الخائنين)
[معاني القراءات وعللها: 1/128]
و (يكلؤكم) و(تفتأ) يشير بصدره إلى الهمز ولا يهمز.
وما الهمزة فيه عين الفعل فإنه يصله ويقف عليه بالهمز، نحو (موئلا) و(تراءت الفئتان)، وقال الأدمي: قف على (مؤجّلًا) بالهمز أيضا.
قال أبو منصور: وللعرب مذاهب في الهمز: فمنهم من يحقق الهمز، ويسمونه (النبر).
ومنهم من يخفف الهمز ويلينه.
ومنهم من يحذف الهمز. ومنهم من يحول الهمز.
وهي لغات معروفة، والقرآن نزل بلغات العرب، فمن همز ما قرئ به فهو الأتم المختار، ومن لم يهمز مما ترك همزه كثير من القراء فهو مصيب). [معاني القراءات وعللها: 1/129]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (3- قوله تعالى: {بما أنزل إليك}.
قرأ ابن كثير وحده {بما أنزل إليك} لا يمد حرفًا لحرف
وقرأ الباقون بالمد.
فمن مد قال: الألف خفيفة، والهمزة خفيفة فقووهما بالمد.
ومن لم يمد حرفًا لحرف أتى بالكلمة على أصلها؛ لأن الكلمتين من حرفين وشبهه بالإدغام في حرفين وفي حرف فإذا كان من كلمة لم يجز إلا الإدغام نحو: فر ومد. وإذا كان من كلمتين كنت بالخيار كقولك: جعل لك وجعل لك. واتفقوا جميعا على مد الحرف إذا كان من كلمة نحو قوله: {وأنزلنا من السماء ماء} و{ألاء تحبونهم} {فقطع
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/58]
أمعاءهم} {فبأي آلاء ربكما تكذبان}.
وأعلم بأن الحروف اللواتي تكون بها المد ثلاثة: الواو والياء والألف، فواو قبلها ضمة، وبعدها همزة، وياء قبلها كسرة وبعدها همزة، وألف بعدها همزة ولا يكون ما قبلها إلا مفتوحا، فالألف نحو قوله تعالى: {بما أنزل إليك} و{ها أنتم ألاء} والواو نحو قوله: {قالوا إنا معكم} والياء نحو: {في آذانهم وقر} ). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/59]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({والّذين يؤمنون بما أنزل إليك} {وعلى أبصارهم غشاوة}
قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو (بما أنزل إليك) و(على أبصارهم) لا يمدون حرفا لحرف وهو أن تكون المدّة من كلمة والهمزة من أخرى وحجتهم في ذلك أنهم أرادوا الفرق بين ما المدّة فيه لازمة لا تزول بحال وبين ما هي فيه عارضة قد تزول في بعض الأحوال نحو بما أنزل إليك فإنّها تزول عند الوقف والّتي لا تزول نحو دعاء ونداء وبناء وسماء فجعلوا ذلك فرقا بينهما
وقرأ ابن عامر والكسائيّ مدا وسطا ومد حمزة وعاصم مدا
[حجة القراءات: 85]
مفرطا وحجتهم في ذلك أن المدّ إنّما وجب عند استقبال الهمزة سواء كانت الهمزة من نفس الكلمة أو من الأخرى إذا التقتا لأنّه لا فرق في اللّفظ بينهما). [حجة القراءات: 86] (م)

قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)}

روابط مهمة:
- أقوال المفسرين

جمهرة علوم القرآن 25 محرم 1440هـ/5-10-2018م 09:40 PM

سورة البقرة [من الآية (6) إلى الآية (10) ]
 
سورة البقرة
[من الآية (6) إلى الآية (10) ]

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10) }

قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وأما قول الله جلّ وعزّ: (أأنذرتهم أم لم تنذرهم) فالأصل فيه همزتان:
إحداهما: الألف، والأخرى ألف الاستفهام.
واختلف القراء فيه، فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو ويعقوب "آنذرتهم " بهمزة مطولة، وكذلك جميع ما أشبه هذا، نحو قوله:
[معاني القراءات وعللها: 1/129]
(آنت قلت للنّاس)، (آلد وأنا عجوزٌ).
وقرأ الباقون بهمزتين في كل هذا.
وكل ذلك عربي فصيح، فمن همز همزة مطولة فر من الجمع بين الهمزتين، ومن جمع بينهما فهو الأصل.
وكان أبو عمرو يخفف الهمزة الأولى، ويحقق الثانية.
وكان الخليل يحقق الأولى ويخفف الثانية، ونحويو أهل البصرة مالوا إلى قول الخليل، وكلهم أجاز ما اختاره أبو عمرو.
قال أبو منصور: ومن القراء القدماء من أدخل بين الهمزتين ألفا ساكنة فراراً من الجمع بينهما، فقرأ: (ءاأنذرتهم)، و: (ءاألد)، قال أبو حاتم: أخبرني الأصمعي أنه سمع نافعا يقرأ: (ءانّئكم لتشهدون)، أدخل بين الهمزتين ألفا.
قال الأصمعي: أنشدني أبو عمرو لمزرد:
تطاللت فاستشرفته فعرفته... فقلت له آأنت زيد الأرانب
[معاني القراءات وعللها: 1/130]
ومثله قول، ذي الرّمة:
أيا ظبية الوعساء بين جلاجلٍ... وبين النقا آأنت أم أمّ سالم
قال أبو حاتم: ويجوز تخفيف الهمزة الثانية التي بعد الألف الزائدة، وكان أبو عمرو ربما فعل ذلك.
قال أبو حاتم: ونحن نكره الجمع بين همزتين، قال: ومما يدلك على كراهية العرب اجتماع الهمزتين قول الله تبارك وتعالى: (ها أنتم).
قال أبو حاتم: قال الأخفش: إنما هو (ءاأتتنم)، أدخلوا بين الهمزتين ألفا استثقالا لهما، وأبدلوا من الهمزة الأولى هاء كما قالوا: (هرقت الماء) و(أرقت)، وقالوا: (هياك) بمعنى: إياك). [معاني القراءات وعللها: 1/131]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (4- قوله تعالى: {ءأنذرتهم}.
قرأ عاصم وحمزة والكسائي {ءأنذرتهم} بهمزتين على أصل الكلمة. فالهمزة الأولى ألف التسوية على لفظ الاستفهام، والألف الثانية ألف القطع.
وقرأ ابن عامر {آآنذرتهم} بهمزتين بينهما مدة كأنه كره أن يجمع بين همزتين وأن يحذف إحداهما
قال الشاعر شاهدًا لقراءة ابن عامر:
تطاللت فاستشرفته فعرفته = فقلت له آآنت زيد الأراقم
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/59]
وقرأ أبو عمرو ونافع وابن كثري {آنذرتهم} كرهوا الجمع بين همزتين فلينوا الثانية كما تقول: آمن، وآدم، وآزر غير أن ابن كثير أقصر مدًا من أبي عمرو ونافع، قال ذو الرمة:
آن توسمت من خرقاء منزلة = ماء الصبابة من عينيك مسجوم). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/60]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في قوله جل وعز: أأنذرتهم [البقرة/ 6]
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو: آأنذرتهم بهمزة مطولة، وكذلك ما أشبه ذلك في كل القرآن، مثل: أأنت قلت للنّاس [المائدة/ 116] وأ إلهٌ مع اللّه [النمل/ 60] وأ إنّكم وما كان مثله، وكذلك كانت قراءة الكسائي إذا خفف، غير أن مدّ أبي عمرو في أأنذرتهم أطول من مدّ ابن كثير، لأنّ من قوله أنّه يدخل بين الهمزتين ألفا وابن كثير لا يفعل ذلك.
واختلف عن نافع في إدخال الألف في الهمزتين. وأمّا عاصم وحمزة والكسائي- إذا حقق- وابن عامر فبالهمزتين أأنذرتهم وما كان مثله في القرآن من الهمزتين في الكلمة الواحدة فهو بتحقيق الهمزتين وبتخفيف إحداهما وبإدخال الألف بينهما.
إنّ الّذين كفروا سواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون. [البقرة/ 6].
الكفر: خلاف الشكر، كما أن الذمّ خلاف الحمد.
فالكفر: ستر النعمة وإخفاؤها، والشكر: نشرها وإظهارها.
وفي التنزيل: واشكروا لي ولا تكفرون [البقرة/ 152] وفيه: لئن شكرتم لأزيدنّكم ولئن كفرتم إنّ عذابي لشديدٌ [إبراهيم/ 7] وقال:
في ليلة كفر النجوم غمامها
[الحجة للقراء السبعة: 1/244]
وقالوا: كفر كفرا وكفورا، كما قالوا: شكر شكرا وشكورا. وفي التنزيل: لمن أراد أن يذّكّر أو أراد شكوراً [الفرقان/ 62] [وقال] اعملوا آل داود شكراً [سبأ/ 13] وقال: فأبى أكثر النّاس إلّا كفوراً [الإسراء/ 89] وقالوا:
الكفران، وقال: فلا كفران لسعيه [الأنبياء/ 94] وقال الأعشى:
ولا بدّ من غزوة في الربيع... حجون تكلّ الوقاح الشّكورا
قال أحمد بن يحيى: الشّكور: السريع القبول للسّمن. قال أبو علي: فكأن سرعة قبوله لذلك إظهار للإحسان إليه والقيام عليه.
وقالوا: أشكر من بروقة.
وأمّا قوله: سواءٌ عليهم فإنّ السواء والعدل والوسط والقصد والنّصف ألفاظ يقرب بعضها من بعض في المعنى.
[الحجة للقراء السبعة: 1/245]
قالوا للعدل: السواء. قال زهير:
أرونا خطة لا خسف فيها... يسوّي بيننا فيها السّواء
وأنشد أبو زيد لعنترة:
أبينا فلا نعطي السّواء عدوّنا... قياما بأعضاد السّراء المعطف
والسواء: وسط الشيء. وفي التنزيل: فرآه في سواء الجحيم [الصافات/ 55] وقال عيسى بن عمر: ما زلت أكتب حتى انقطع سوائي. والسواء: ليلة النصف من الشهر.
وقالوا: سيّ بمعنى سواء، كما قالوا: قيّ وقواء، وقالوا:
سيان فثنّوا، كما قالوا: مثلان. وقال عز وجل: لو تسوّى بهم الأرض [النساء/ 42] فالمعنى: يودّون لو جعلوا والأرض سواء. كما قال: ويقول الكافر يا ليتني كنت تراباً [النبأ/ 40] وقال: فدمدم عليهم ربّهم بذنبهم فسوّاها [الشمس/ 14] أي: سوى بلادهم بالأرض، وقال: ونفسٍ وما سوّاها [الشمس/ 7] أي: ونفس وتسويتها أي: ورب تسويتها، أو
[الحجة للقراء السبعة: 1/246]
يكون: والذي سواها، أي: ونفس وخالقها، كما قال: ثمّ سوّاك رجلًا [الكهف/ 37] وقال: خلقك فسوّاك فعدلك [الانفطار/ 7] وقال: بلى قادرين على أن نسوّي بنانه [القيامة/ 4]، أي: نجعلها مع كفه صفحة مستوية لا شقوق فيها كخف البعير، ويعدم الارتفاق بالأعمال اللطيفة كالكتابة والخياطة والخرز والصياغة ونحو ذلك من لطيف الأعمال التي يستعان عليها بالأصابع.
قال أحمد بن يحيى: من أيمانهم: لا والذي شقّهن خمسا من واحدة. يريدون الأصابع من الكف.
وقيل في: نسوّي بنانه: نردّها كما كانت. قالوا: وذكرت البنان لأنّه قد ذكرت اليدان فاختص منها ألطفها. وقالوا: قوم أسواء، أي: مستوون وأنشد أبو زيد:
هلّا كوصل ابن عمّار تواصلني... ليس الرّجال وإن سوّوا بأسواء
فأسواء ليس يخلو من أن يكون جمع سي أو سواء، فإن كان جمع سي فهو مثل: مثل وأمثال، ونقض وأنقاض، وجلف وأجلاف. وإن كان جمع سواء فهو مثل ما حكاه أبو زيد من قولهم جواد وأجواد. وحكى أيضا في الاسم: حياء الناقة وأحياء، ولا يمتنع جمعه وإن كانوا لم يثنوه كما لم يمتنعوا
[الحجة للقراء السبعة: 1/247]
من جمعه على سواسية. فأمّا قوله: ولا أنت مكاناً سوىً [طه/ 58] فقال أبو عبيدة: يضم أولها ويكسر، مثل: طوى وطوى، قال: وهو المكان النّصف فيما بين الفريقين وأنشد لموسى بن جابر الحنفي:
وإنّ أبانا كان حلّ ببلدة... سوى بين قيس قيس عيلان والفزر
قال: الفزر: سعد بن زيد مناة بن تميم.
ومثل سوى في أنّه فعل جاء وصفا قولهم: قوم عدى للغرباء. فأمّا عدى للأعداء فزعم أحمد بن يحيى وغيره أنّهم يقولون فيه: عدى وعدى. فهذا مثل سوى وسوى في وصف المكان.
وقال أبو الحسن في قوله: (مكانا سوى): إنّها قد تضم في هذا المعنى. قال: والممدودتان في ذا المعنى أيضا.
يريد بالممدودتين ما يذكره من أن في سوى وسواء أربع لغات، منهم من يفتح أوله ويمده، ومنهم من يكسر أوله ويقصره.
قال: وهاتان لغتان معروفتان. قال: ومنهم من يكسر أوله ويمده، ومنهم من يضم أوله ويقصره. وهاتان اللغتان أقل من تينك، والمضمومة الأولى أعرفهما، وقال: مكانا سوى أي عدل، وأنشد:
[الحجة للقراء السبعة: 1/248]
وإنّ أبانا كان حلّ ببلدة... سوى بين قيس قيس عيلان والفزر
يقول: عدل، وقال في قول الشاعر:
لو تمنّت حليلتي ما عدتني... أو تمنّيت ما عدوت سواها
يقول: ما عدوت قصدها، قال: والقصد والعدل مشتبهان. وأنشد:
ولأصرفنّ سوى حذيفة مدحتي... لفتى العشيّ وفارس الأجراف
قال: يريد لأصرفنّ قصده، أي عن قصده أو لأصرفنّ إلى غيره، ولأنّ سواه غيره كما قال حسان:
أتانا فلم نعدل سواه بغيره... نبي أتى من عند ذي العرش هاديا
قال: يقول: لم نعدل سوى النبي صلّى الله عليه وسلّم بغير سواه، وغير
[الحجة للقراء السبعة: 1/249]
سواه هو هو. فأمّا قوله:
وما قصدت من أهلها لسوائكا
فإنّه عدّى قصدت باللام، وإن كان يعدّى بإلى، كما عدّوا أوحيت وهديت بهما في نحو: وأوحى ربّك إلى النّحل [النحل/ 68]، وفي أخرى: بأنّ ربّك أوحى لها [الزلزلة/ 5] وقال: ويهديهم إليه صراطاً مستقيماً [النساء/ 175] والحمد للّه الّذي هدانا لهذا [الأعراف/ 43].
فأمّا سواء فإنّها تستعمل ظرفا، تقول: إنّ سواءك زيدا كما تقول: إن عندك زيدا، فجعله الشاعر اسما في قوله، لسوائكا، وجعله بمنزلة غير إذ كانت بمعناها، وإذا كانت كذلك أجمع عامة العرب فيما زعم أبو الحسن أنّهم يستعملونه ظرفا ولا يستعملونه اسما.
ومثل ذلك قولهم: وسط- الساكن الأوسط- هي تستعمل ظرفا، فإذا اضطر الشاعر استعمله اسما كقوله الفرزدق:
صلاءة ورس وسطها قد تفلّقا
وقول القتّال الكلابي:
[الحجة للقراء السبعة: 1/250]
من وسط جمع بني قريظ بعد ما... هتفت ربيعة يا بني جوّاب
فكذلك سواء، ولذلك شبهه بالظرف في قولهم: أتاني القوم سواءك فقال: كأنه قال: أتاني القوم مكانك. واستدل على كونه ظرفا بوصلهم الذي بها في نحو: أتاني الذي سواؤك. [قال أبو علي: سواك أشبه]. وزعم أبو الحسن أن هذا الذي استعمل ظرفا إذا تكلم به من يجعله ظرفا في موضع رفع نصبوه استنكارا منهم لرفعه، لأنه إنما يقع في كلامهم ظرفا، فيقولون: جاءني سواؤك، وفي الدار سواؤك. وفي كتاب الله [تعالى]: وأنّا منّا الصّالحون ومنّا دون ذلك [الجن/ 11] وقال: منهم الصّالحون ومنهم دون ذلك [الأعراف/ 168]، وقال: لقد تقطّع بينكم [الأنعام/ 94] وقال: يوم القيامة يفصل بينكم. قال: وتقول معي فوق الخماسي ودون السداسي، ولك السداسي وفوقه، وجئتك بسداسي أو فوقه، وهو بالبصرة أو دونها، فكل ذلك نصب.
قال أبو الحسن وأخبرني بعض النحويين أنّه سمع العرب يقولون: ارقبني في سوائه، فأجراه مجرى (غير) وجعله اسما.
[الحجة للقراء السبعة: 1/251]
قال أبو علي: ولو تأول متأول ما حكاه أبو الحسن من قولهم: ارقبني في سوائه على «سواء» الذي هو الوسط، لا التي بمعنى غير- كما جاء في التنزيل: في سواء الجحيم [الصافات/ 55]- لكان مذهبا. فيجوز على ما تأوله أبو الحسن في الآي وفي سواء- في قول الشاعر:
فلم يبق منها سوى هامد... وسفع الخدود، وغير النّئيّ
أن يكون سوى في موضع نصب، وإن كان فاعلا، لأنّه ظرف. ويجوز أن يكون لما جعله اسما للضرورة رفعه كما رفع وسطا في قولهم:
وسطها قد تفلّقا
وجعله بمنزلة «غير» لما كان بمعناها، ألا ترى أنّه جعلها بمنزلة غير في عطفها عليها في قوله: وغير النّئيّ. كأنّه قال:
فلم يبق غير هامد وغير النّئي.
وقولهم في الاسم العلم: سواءة ليس من هذا الباب.
ألا ترى أن اللام منه همزة وليست منقلبه بدلالة قوله:
[الحجة للقراء السبعة: 1/252]
فأبلغ إيادا إن عرضت وطيّئا... وأبلغ حليفينا، ومن قد تسوّءا
وأما الإنذار فإعلام معه تخويف، فكل منذر معلم، وليس كل معلم منذرا، ولم يمتنع أن يوصف [به] القديم سبحانه في نحو قوله: إنّا أنذرناكم عذاباً قريباً [النبأ/ 40] لأن الإعلام على الانفراد قد جاز وصفه به. والتخويف أيضا كذلك في قوله: ذلك يخوّف اللّه به عباده [الزمر/ 16].
فإذا جاز الوصف بكل واحد منهما على الانفراد لم يمتنع إذا دلّ لفظ على المعنيين اللذين جاز الوصف بكل واحد منهما منفردا أن يوصف سبحانه به.
وأنذرت: فعل يتعدى إلى مفعولين، يدلك على ذلك قوله: فقل أنذرتكم صاعقةً مثل صاعقة عادٍ وثمود [فصلت/ 13] وقال: إنّا أنذرناكم عذاباً قريباً [النبأ/ 40]، وقال تعالى:
قل إنّما أنذركم بالوحي [الأنبياء/ 45] فتعديته بالباء يحتمل أمرين: يجوز أن يكون لما دل على التخويف أجري مجراه:
فقلت أنذرته بكذا كما تقول: خوفته بكذا، ولذلك نظائر.
ويجوز أن يكون لما لم يتعد إلى مفعولين، الثاني فيه الأول عدي إلى مفعول واحد كما عدي علمت الذي بمعنى عرفت إلى مفعول واحد، فلما أريد تعديته إلى مفعولين، زيدت الباء لأنّ بناء الفعل على أفعل، فلا يجوز أن تدخل عليه همزة
[الحجة للقراء السبعة: 1/253]
أخرى للثقل، كما أنّه إذا أريد تعدية علمت الذي بمعنى عرفت إلى مفعولين زيدت عليه الهمزة أو ضعفت العين. فإذا حذفت الباء تعدى الفعل إلى المفعول الآخر، كما تعدى: أمرتك الخير واخترتك الرجال.
فأمّا قوله تعالى: قل إنّما أنذركم بالوحي [الأنبياء/ 45] فيحتمل أمرين: يجوز أن يكون الوحي الموحى، فسمّي بالمصدر مثل الخلق والصيد، والوحي: هو العذاب، فيكون كقوله: إنّا أنذرناكم عذاباً قريباً [النبأ/ 40]، ويجوز أن يكون الوحي يراد به الملك؛ فيكون التقدير في قوله تعالى: إنّما أنذركم بالوحي [الأنبياء/ 45]: أنذركم بإنذار الملك أو بإخباره. وقوله تعالى: إنّما أنت منذر من يخشاها [النازعات/ 45] مثل إنّما أنت معطي زيد، إذا أردت بالإضافة الانفصال، أي منذر من يخشى الساعة كما قال: وهم من السّاعة مشفقون [الأنبياء/ 49].
وقالوا: النذير والنّذر، كما قالوا: النكير والنكر، فجاء المصدر على فعيل وعلى فعل. وفي التنزيل: فكيف كان نكير، وفيه: فكيف كان عذابي ونذر. فأمّا قوله تعالى: نذيراً للبشر [المدثر/ 36] فقد قيل فيه قولان:
[الحجة للقراء السبعة: 1/254]
أحدهما: أن يكون حالا من (قم) المذكورة في أول السورة.
والآخر: أن يكون حالا من قوله: إنّها لإحدى الكبر [المدثر/ 35] فإذا جعل نذيرا حالا مما في قم، فإن النذير اسم فاعل بمعنى المنذر، كما أن السميع كالمسمع والأليم كالمؤلم.
وإن جعلته حالا من قوله: (لإحدى الكبر) فليس يخلو الحال من أن يكون من المضاف أو من المضاف إليه، فإن كان من المضاف كان العامل ما في إحدى من معنى التفرد.
وإن جعلت الحال من المضاف إليه كان العامل فيها ما في الكبر من معنى الفعل. وفي كلا الوجهين ينبغي أن يكون نذيرا مصدرا، لأنّ الأول المضاف مؤنث والمضاف إليه مؤنث مجموع، والمصدر قد يكون حالا من الجميع كما يكون حالا من المفرد. تقول: جاءوا ركضا، كما تقول: جاء ركضا.
وأما قوله تعالى: وجاءكم النّذير [فاطر/ 37] فمن قال: إن النذير النبي صلّى الله عليه وسلّم كان اسم فاعل كالمنذر، ومن قال: إنه الشيب كان الأولى أن يكون مصدرا كالإنذار.
وقال أبو زيد: نذر ينذر نذرا، ووفّى بنذره، وأوفى نذره.
وقال أبو الحسن: العرب تقول: نذر ينذر على نفسه نذرا، ونذرت مالي فأنا أنذره. أخبرنا بذلك يونس عن العرب. قال:
[الحجة للقراء السبعة: 1/255]
وفي كتاب الله تعالى إنّي نذرت لك ما في بطني محرّراً [آل عمران/ 39] وقال الشاعر:
هم ينذرون دمي وأنـ ... ـذر إن لقيت بأن أشدّا
وقال عنترة:
الشاتمي عرضي ولم أشتمهما... والناذرين إذا لم القهما دمي
ومثل الإنذار في أنّه ضرب من العلم قولهم: اليقين، فكل يقين علم، وليس كل علم يقينا، وذلك أنّ اليقين كأنّه علم يحصل بعد استدلال ونظر، لغموض المعلوم المنظور فيه، أو لإشكال ذلك على الناظر.
يقوي ذلك قوله عز وجل: وكذلك نري إبراهيم ملكوت السّماوات والأرض وليكون من الموقنين [الأنعام/ 75] ثم ذكر بعد ما كان من نظره واستدلاله، ولذلك لم يجز أن يوصف القديم سبحانه به، فليس كل علم يقينا لأنّ من المعلومات ما يعلم من غير أن يعترض فيه توقف أو موضع نظر، نحو ما يعلم ببدائه العقول والحواس، ويؤكد ما ذكرنا من ذلك قول رؤبة:
[الحجة للقراء السبعة: 1/256]
يا دار عفراء ودار البخدن
أما جزاء العارف المستيقن
[عندك إلا حاجة التفكّن]
فوصفه العالم بالمستيقن يقوي أنّه غيره.
ومما يبين ذلك ما تراه في أشعارهم من توقفهم عند الوقوف في الديار لطول العهد وتعفي الرسوم ودروسها حتى يثبتوها بالتأمل لها والاستدلال عليها، كقوله:
وقفت بها من بعد عشرين حجة... فلأيا عرفت الدار بعد توهم
وقال:
توهّمت آيات لها فعرفتها
وقال:
أم هل عرفت الدار بعد توهّم
قال محمد بن السري قالوا في قوله بعد توهم: توهمت الشيء: أنكرته. وعند التباس الأمر وإشكاله يفزع إلى النظر،
[الحجة للقراء السبعة: 1/257]
ويرجع إلى الدليل، فكذلك قول رؤبة:
أما جزاء العارف المستيقن
أي: المتوقف المتبين لآثارك ورسومك إلى أن يثبتك، كقول عنترة في ذلك.
ومن ذلك الدراية، هي مثل ما تقدم في أنّها ضرب من العلم مخصوص، وكأنّه من التلطف والاحتيال في تفهم الشيء. أنشد أبو زيد:
فإنّ غزالك الذي كنت تدّري... إذا شئت ليث خادر بين أشبل
قال أبو زيد: تدّري: تختل. وقال آخر:
فإن كنت لا أدري الظباء فإنّني... أدسّ لها تحت التراب الدواهيا
وأنشد أحمد بن يحيى:
إما تريني أذّري وأدّري... غرّات جمل وتدرّى غرري
[الحجة للقراء السبعة: 1/258]
واختلفوا في الدّرية، وهو البعير الذي يستتر به الصائد من الوحش حتى يمكنه رميها.
فقال أبو زيد فيما حكى عنه: هي مهموزة لأنّها تدرأ نحو الوحش، أي تدفع، فأمّا من لم يهمز فإنّه يمكن أن يكون من الدرء الذي هو الدفع فخفف.
ويمكن أن يكون من الادّراء الذي هو الختل، لأنّ معنى الختل لها والاحتيال عليها في الاستتار به عنها حتى يرمي ظاهرا.
فأمّا الدريئة للحلقة التي يتعلّم عليها الطعان، فرواها السكري مهموزة فيما أنشده عن أبي زيد:
كأنّ دريئة لمّا التقينا... بنصل السيف مجتمع الصّداع
[بخط السكري: الدريئة: الحلقة يتعلم عليها الطعن،
[الحجة للقراء السبعة: 1/259]
ومجتمع الصداع: الرأس] [كذا رواها السكري في نوادر أبي زيد عن الرياشي. روى ابن دريد فكان دريئة] وكذلك قول الجهنية صاحبة المرثية أنشده [السكري عن أبي حاتم]:
أجعلت أسعد للرماح دريئة... هبلتك أمّك أيّ جرد ترقع
بخطه: الجرد: الثياب الخلقان [ضربه مثلا].
ويقال: دريت الشيء ودريت به قال سيبويه: وتعديه بحرف الجر أكثر في كلامهم، وأنشد أبو زيد:
أصبح من أسماء قيس كقابض... على الماء لا يدري بما هو قابض
فإذا قال: دريت الشيء، فكأنّ المعنى على ما عليه هذا الباب: تأتيت لفهمه وتلطفت، وهذا المعنى لا يجوز على العالم بنفسه. وقد أجاز أحد أهل النظر ذلك، واستشهد عليه بقول بعضهم:
لا همّ لا أدري وأنت الدّاري
[الحجة للقراء السبعة: 1/260]
وهذا لا ثبت فيه، لأنّه يجوز أن يكون من غلط الأعراب، فكأنّه سمع دريت وعلمت يستعمل كل واحد منهما موضع الآخر كثيرا، فظنّ أنّهما في كل المواضع كذلك. ومثل هذا من جفاء الأعراب ما أنشده بعض البغداديين:
لا همّ إن كنت الذي بعهدي... ولم تغيّرك الأمور بعدي
وقول العجّاج:
فارتاح ربّي وأراد رحمتي
وقول الآخر:
يا فقعسيّ لم أكلته لمه... لو خافك الله عليه حرّمه
وقال أوس:
[الحجة للقراء السبعة: 1/261]
أبني لبينى لا أحبّكم... وجد الإله بكم كما أجد
وقالت امرأة من أسد:
أشار لها آمر فوقه... هلمّ فأمّ إلى ما أشارا
تعني الله سبحانه. فأمّا شعرت فمصدره شعرة بكسر الأول، كالفطنة والدرية. وقالوا: ليت شعري، فحذفوا التاء مع الإضافة للكثرة. وقد قالوا: ذهب بعذرتها، وهو أبو عذرها.
ويروى أنّ عليا، عليه السلام، لما قال له عديّ بن حاتم: ما الذي لا ينسى؟ قال: المرأة لا تنسى أبا عذرها، ولا قاتل واحدها. وكأنّ شعرت مأخوذ من الشعار، وهو ما يلي الجسد.
فكأنّ شعرت به علمته علم حسّ. وقال الفرزدق:
لبسن الفرند الخسروانيّ فوقه... مشاعر من خزّ العراق المفوّف
[الحجة للقراء السبعة: 1/262]
وفي الحديث: «أشعرنها إياه»، أي: اجعلنها الشعار الذي يلي الجسد، كما أن المعنى في البيت: لبسن الفرند الخسرواني مشاعر، فوقه المفوف من خزّ العراق، أي:
جعلنها الشعار.
فقولهم: شعرت ضرب من العلم مخصوص. فكل مشعور به معلوم، وليس كل معلوم مشعورا به. ولهذا لم يجز في وصف الله تعالى كما لم يجز في وصفه درى، وكان قول الله تعالى في وصف الكفار: ولكن لا يشعرون [البقرة/ 12] أبلغ في الذم للبعد عن الفهم من وصفهم بأنهم، لا يعلمون لأنّ البهيمة قد تشعر من حيث كانت تحسّ. فكأنّهم وصفوا بنهاية الذهاب عن الفهم.
وعلى هذا قال سبحانه: ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل اللّه أمواتٌ بل أحياءٌ ولكن لا تشعرون
[الحجة للقراء السبعة: 1/263]
[البقرة/ 154] فقال: (ولكن لا تشعرون) ولم يقل ولكن لا تعلمون، لأنّ المؤمنين إذا أخبرهم الله تعالى بأنّهم أحياء علموا أنّهم أحياء، فلا يجوز أن ينفي الله تعالى العلم عنهم بحياتهم، إذ كانوا قد علموا ذلك بإخباره إيّاهم وتيقّنوه، ولكن يجوز أن يقال: ولكن لا تشعرون، لأنّهم ليس كل ما علموه يشعرونه، كما أنه ليس كل ما علموه يحسّونه بحواسّهم، فلمّا كانوا لا يعلمون بحواسّهم حياتهم، وإن كانوا قد علموه بإخبار الله إيّاهم، وجب أن يقال: لا تشعرون، ولم يجز أن يقال: ولكن لا تعلمون على هذا الحدّ.
ومن ذلك النقه. قال أبو زيد: نقه عنّي القول نقها ونقوها: إذا فهم عنك القول، قال: وتقول: نقه الرجل من مرضه ينقه نقوها إذا برأ.. وهذا لا يجوز في وصف القديم كما أن الفهم الذي فسّر أبو زيد به النقه لا يجوز في وصفه.
[بسم الله]
الإعراب
قوله تعالى: سواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم [البقرة/ 6] لفظه لفظ الاستفهام ومعناه الخبر، ومثل ذلك قولهم: ما أبالي أشهدت أم غبت، وما أدري أأقبلت أم أدبرت. وإنما جرى عليه لفظ الاستفهام وإن كان خبرا لأن فيه
[الحجة للقراء السبعة: 1/264]
التسوية التي في الاستفهام، ألا ترى إذا استفهمت فقلت:
أخرج زيد أم أقام؟ فقد استوى الأمران عندك في الاستفهام، وعدم علم أحدهما بعينه، كما أنّك إذا أخبرت فقلت: سواء عليّ أقعدت أم ذهبت، فقد سويت الأمرين عليك، فلمّا عمّتهما التسوية، جرى على هذا الخبر لفظ الاستفهام، لمشاركته له في الإبهام. فكلّ استفهام تسوية، وإن لم يكن كل تسوية استفهاما.
ومثل التسوية- في هذا- الاختصاص في نحو: أنا أفعل كذا أيّها الرجل، واللهم اغفر لنا أيّتها العصابة، لمّا كنت مختصّا نفسك والعصابة في هذا الكلام جرى عليه لفظ النداء من حيث أردت الاختصاص الذي أردته في النداء، كما جرى الاستفهام على التسوية فمن ثمّ صار كل منادى مختصّا، وإن لم يكن كل مختص منادى.
ولا يجوز في هذا الموضع (أو) مكان (أم)، لأن المعنى: سواء عليّ هذان، ألا ترى أنك لو قلت: سواء عليّ القيام والقعود، لم يجز إلّا الواو.
وكذلك لو أظهرت المصدرين اللذين دلّ عليهما لفظ الفعلين المذكورين في قوله تعالى: اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواءٌ عليكم [الطور/ 16] لقلت: سواء عليكم الجزع والصبر، ولم تقله بأو، كما قال تعالى:
[الحجة للقراء السبعة: 1/265]
سواءً العاكف فيه والباد [الحج/ 25] ولو قلت: سواء عليّ العاكف أو البادي، أو سواء عليّ الجزع أو الصبر، لكان المعنى سواء عليّ أحدهما، وسواء عليّ أحدهما كلام محال، لأن التسوية لا تكون إلا بين شيئين فصاعدا.
فإن قلت: فقد قال أبو عمرو: إن الأصمعي أنشدهم لرجل من هذيل:
وكان سيان ألّا يسرحوا نعما... أو يسرحوه بها واغبرّت السّوح
فأنشدهموه بأو، وسيّان مثل سواء، ألا ترى أنه لا يستقيم زيد أو عمرو سيان [كما لا يستقيم مع سواء ولا تكون أو بمنزلة الواو. فالقول في ذلك أن هذا على ظاهر الاستحالة التي ذكرنا، وإنما استجاز هذا الكلام بأو لأنّه يراه يقول: جالس الحسن أو ابن سيرين، فيجوز له أن يجالسهما ويسمع: ولا تطع منهم آثما أو كفورا [الإنسان/ 24] فلا يطيعهما، كما أنه إذا قيل له ذلك بالواو كان كذلك. فلما رآها
[الحجة للقراء السبعة: 1/266]
تجري مجرى الواو في نحو هذه المواضع أجراها مجراها مع سواء وسيّان. فهذا كلام حقيقته ما ذكرنا، والذي سوّغه عند قائله ما وصفنا. وكذلك قول المحدث:
سيّان كسر رغيفه... أو كسر عظم من عظامه
فأمّا قوله: مررت برجل سواء درهمه، وهذا درهم سواء، فمعناه تامّ فهذا يجوز الاقتصار به على اسم مفرد] وكذلك قوله تعالى: ولمّا بلغ أشدّه واستوى [القصص/ 14] أي: كمل وتمّ. فهذا الفعل مثل هذا الاسم، ولو كان من التسوية بين الشيئين لم يستغن بفاعل كما لم يستغن سواء عن اثنين في نحو: سواءً العاكف فيه والباد [الحج/ 25].
فأمّا قوله تعالى: ذو مرّةٍ فاستوى وهو بالأفق الأعلى [النجم/ 6] فمعناه: استقام، كقوله: بلغ أشدّه واستوى [القصص/ 64]. ولا تكون المقتضية لفاعلين، لأن الضمير المرفوع لم يؤكد في الآية. فقوله: وهو بالأفق الأعلى جملة
[الحجة للقراء السبعة: 1/267]
في موضع الحال. ولم يثنّ سواء كما ثني سيّان، وإن كانوا قد كسّروه في قولهم: سواسية.
وحكى السكري عن أبي حاتم إجازة تثنية سواء، ولم يصب ابن السجستاني في ذلك، لأنّ أبا الحسن وأبا عمر زعما أن ذلك لا يثنى، كأنّهم استغنوا بتثنية سيّ عن تثنية سواء، كما استغنوا عن ودع بترك. وعلى ما قالا جاء التنزيل في قوله: سواءً العاكف فيه والباد [الحج/ 25] وقوله: اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواءٌ عليكم [الطور/ 16] فسواء في الآية مرتفع بالابتداء، وما بعده مما دخل عليه حرف الاستفهام في موضع الخبر، وبالجملة في موضع رفع بأنّها خبر إنّ.
فأمّا قوله: (لا يؤمنون) فيستقيم أن يكون استئنافا، ويستقيم أن يكون حالا من الضمير المنصوب على حدّ: معه صقر صائدا به غدا وبالغ الكعبة [المائدة/ 95] ويستقيم أن تجعله خبر إنّ، فيكون في موضع رفع، ولا يكون لقوله: (سواء عليهم) وما بعده موضع من الإعراب، كما حكمنا على موضعه بالرفع فيما تقدم، لأنّه الآن يصير اعتراضا بين الخبر والاسم، ألا ترى أنه [مما] يؤكد امتناعهم من الإيمان. وهذه الآية ينبغي أن تكون خاصّة لقوم بعينهم، لأن كثيرا من الكفّار قد آمنوا.
فإن قلت: لم زعمتم أن (سواء) يرتفع بالابتداء على ما عليه التلاوة، وأنت إذا قدّرت هذا الكلام على ما عليه
[الحجة للقراء السبعة: 1/268]
المعنى فقلت: سواء عليهم الإنذار وتركه كان (سواء) خبر ابتداء مقدّما، فهلا قلت فيها ذلك أيضا قبل تقدير الكلام بالمعنى؟.
فالقول في هذا أن (سواء) يرتفع حيث ذكرنا بالابتداء، وإن كان في قوله: سواء عليهم الإنذار وتركه يرتفع بأنّه خبر مقدم. وذلك أنه لا يخلو في قولك: سواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم [البقرة/ 6] من أن يرتفع بأنه مبتدأ أو خبر مبتدأ.
فإن رفعته بأنه خبر لم يجز، لأنّه ليس في الكلام مخبر عنه، فإذا لم يكن مخبر عنه بطل أن يكون خبرا، لأنّ الخبر إنّما يكون عن مخبر عنه. فإذا فسد ذلك ثبت أنّه مبتدأ.
وأيضا فإنّه لا يجوز أن يكون خبرا، لأنّه قبل الاستفهام، وما قبل الاستفهام لا يكون داخلا في حيّز الاستفهام، فلا يجوز إذن أن يكون الخبر عمّا في الاستفهام متقدّما على الاستفهام.
فإن قلت: كيف جاز أن تكون الجملة التي ذكرتها من الاستفهام خبرا عن المبتدأ وليست هي هو ولا له ذكر فيها؟
فالقول في ذلك: أنّه كما جاز أن يحمل المبتدأ على المعنى فيجعل خبره ما لا يكون إيّاه في المعنى، ولا له فيه ذكر، كذلك جاز في الخبر لأنّ كلّ واحد منها يحتاج أن يكون صاحبه في المعنى. فما جاز في أحدهما من خلاف ذلك جاز في الآخر، وذلك قولهم: «تسمع بالمعيدي خير من أن
[الحجة للقراء السبعة: 1/269]
تراه». ألا ترى أن خيرا خبر عن تسمع، وكما أخبر عنه كذلك عطف عليه في قولهم: تسمع بالمعيدي لا أن تراه، والفعل لا يعطف عليه الاسم كما لا يخبر عنه، إلّا أنّ المعنى لمّا كان على الاسم استجيز فيه الإخبار عنه والعطف عليه، وجاز دخول لا على الاسم من غير تكرير، كما جاز في قولهم: هذان لا سواء، لأن الخبر لم يظهر في الموضعين جميعا.
ونظير ما في الآية من أن خبر المبتدأ ليس المبتدأ ولا له فيه ذكر ما أنشده أبو زيد:
فإنّ حراما لا أرى الدّهر باكيا... على شجوه إلّا بكيت على عمرو
فإن قلت: أيجوز أن توقع الجملة التي من الابتداء والخبر موقع التي من الفعل والفاعل في نحو: سواء عليّ أقمت أم قعدت، فتقول: سواء علي أدرهم مالك أم دينار، وما أبالي أقائم أنت أم قاعد؟
فالقول في ذلك أنّ أبا الحسن يزعم أنّ ذلك لا يحسن.
قال: وكذلك لو قلت: ما أبالي أتقوم أم تقعد؟ لم يحسن، لأنّه
[الحجة للقراء السبعة: 1/270]
ليس معه الحرف الذي يجزم.
ومما يدلّ على ما قال أن ما جاء في التنزيل من هذا النحو جاء مع المثال الماضي، كقوله تعالى: سواءٌ علينا أجزعنا أم صبرنا [إبراهيم/ 21] وقوله: سواءٌ عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم [المنافقون/ 6] وسواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم [البقرة/ 6] وقال:
سواء عليك اليوم أنصاعت النّوى... بخرقاء أم أنحى لك السيف ذابح
وقال:
ما أبالي أنبّ بالحزن تيس... أم لحاني بظهر غيب لئيم
فهذا الكلام، وإن كان قد جرى عليه حرف الاستفهام
[الحجة للقراء السبعة: 1/271]
للتسوية فهو خبر، فلمّا كانوا قد حذفوا حرف الجزاء واستمرّ حذفه لطول الكلام حيث لو أظهر لم يمتنع- وذلك نحو لأضربنّه ذهب أو مكث- لزم حذف الحرف هنا لإغناء حرف الاستفهام عنه لمقاربة الشرط الاستفهام في اجتماعهما في أنّهما ليسا بخبر، وأنّهما يقتضيان الجواب، وبعض الحروف قد يغني عن بعض، ألا ترى أنّ أن لم تظهر في قولهم: ما كان زيد ليقوم، وأنّ أن قد أغنى عن اللام الجارة في نحو: أتيتك أن احتزّ مودة زيد، ونحو ذلك، وكذلك حروف العطف إذا نصب بها، فكذلك حروف المجازاة لمّا كانوا قد حذفوه في قولهم: لأضربنّه ذهب أو مكث، واستمرّ حذفه مع أنّه [لا حرف] يكون بدلا منه كان حذفه في باب: سواء وما أبالي، للزوم ما ذكرنا من الحرف له أولى.
ولم يجز أن يقع موقع التي من الفعل والفاعل التي من الابتداء والخبر، كما لم يجز ذلك في قوله: لأضربنّه ذهب أو مكث، وغير ذلك من المواضع التي يراد فيها الجزاء، ولم يقع إلّا التي من الفعل والفاعل، لتدلّ على الجزاء، كما لم تقع إلّا التي من الفعل والفاعل في نحو: عسى زيد أن يقوم، وكاد يذهب، وبابهما. ولم يستعملوا المصدر ليجري ذكر المثال الذي يدل على الزمان في الكلام لما أرادوا من تقريبه، وإن كان المصدر غير ممتنع استعماله هاهنا، كما قالوا:
[الحجة للقراء السبعة: 1/272]
«عسى الغوير أبؤسا»
فإذا كانوا قد امتنعوا من استعمال الاسم والمصدر هنا، مع أن المعنى في استعماله غير فاسد، فألّا يستعمل حيث معناه الجزاء ولا يصح المعنى في غير الفعل أجدر.
فأمّا قوله: سواءٌ عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون [الأعراف/ 193] فإنّما وقع أم أنتم صامتون في موضع: أم صمتّم: وجاز ذلك هنا لتقدم التي من الفعل والفاعل، فحسن لتقدّمها أن توقع بعدها التي من الفعل والفاعل، فحسن لتقدّمها أن توقع بعدها التي من الابتداء والخبر، كما جاز ذلك في الجزاء، لأنّها هنا بعد حرف، كما أنّه ثمّ بعد الفاء أو إذا. ولو لم يتقدم «أدعوتموهم» كما أنّه لو لم يتقدم الشرط في نحو: إن تأتني فلك درهم، أو: فعمرو مكرم، ونحو ذلك لم يجز وقوع التي من الابتداء والخبر موقع التي من الفعل والفاعل.
ومثل ذلك في وقوع التي من اسمين موقع الفعل والفاعل
[الحجة للقراء السبعة: 1/273]
قوله: هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواءٌ [الروم/ 28] فقوله: فأنتم فيه سواءٌ واقعة موقع التي من الفعل والفاعل، كأنّه قال: هل لكم مما ملكت أيمانكم شركاء فيساووكم، أي: فكما لا يساويكم مماليككم في أموالكم فيكونون فيها أمثالكم، كذلك لا تسوّوا ما اتخذتموه آلهة بمن يملكهم، وبمن خلقهم وبرأهم. وجاز ذلك لوقوعها بعد الحرف، وأنّ تقدم الاستفهام في قوله: «هل لكم» يضارع تقدم الشرط، فلذلك جاز هذا. وإذا كان الموضع موضع جزاء، ثبت أنّ وقوع المضارع لا يحسن في نحو: سواء عليّ أتقوم أم تذهب، كما لا يحسن في قوله: لأضربنه يمكث أو يذهب، على حدّ لأضربنه ذهب أو مكث.
وأمّا التقاء الهمزتين في: أأنذرتهم وتحقيقهما: فمن حجّة من حقّقهما أن يقول: إن الهمزة حرف من حروف الحلق، فكما اجتمع المثل مع مثله مع سائر حروف الحلق، نحو فهّ وفههت وكعّ وكععت، كذلك حكم الهمزة.
وممّا يجوّز ذلك ويسوّغه أن سيبويه زعم أن ابن أبي إسحاق كان يحقق الهمزتين وأناس معه. قال سيبويه: وقد تتكلم ببعضه العرب وهو رديء.
[الحجة للقراء السبعة: 1/274]
ومما يقوّي ذلك من استعمالهم له قولهم: رأّس وسآل وتذأّبت الريح ورأّيت الرجل. فكما جمع الجميع بينهما إذا كانتا عينين، كذلك يجوز الجمع بينهما في غير هذا الموضع.
وممّا يقوي ذلك أنّهم قد أبدلوا منها غيرها في نحو: يهريق وهيّاك، كما أبدلوها من غيرها في نحو رأيت رجلأ وهذه حبلأ في الوقف. فكما جرت مجرى سائر الحروف المعجمة في إبدالها من غيرها وإبدال غيرها منها، كذلك تكون سبيلها في اجتماعها مع مثلها، كما اجتمع سائر الحروف مع أمثالها.
والحجّة لمن قال: (أانذرتهم)، فلم يجمع بين الهمزتين وخفّف الثانية أن يقول: إن العرب قد رفضت جمعهما في مواضع من كلامهم. من ذلك أنّهم لمّا اجتمعتا في آدم وآدر
[الحجة للقراء السبعة: 1/275]
وآخر، ألزموا جميعا الثانية البدل، ولم يحقّقوا الثانية، ولما كسّروا وحقّروا جعلوا هذه المبدلة بمنزلة ما لا أصل له في الهمز فقالوا: أواخر وأويخر، فأبدلوا منها الواو، كما أبدلوها ممّا هو ألف لا يناسب الهمزة، نحو: ضوارب وضويرب. ففي هذا دلالة بيّنة على رفضهم اجتماعهما. ألا ترى أنهم لم يرجعوها في التحقير والتكسير كما رجعوا الواو في ميقات وميعاد والياء من موسر في قولهم: مواقيت ومياسير. ففي ذلك دلالة بيّنة على رفضهم لجمعهما.
ومن ذلك أنّا لم نجد كلمة عينها همزة ولامها كذلك، كما وجدنا ذلك في سائر أخوات الهمزة من الحلقية، كقولهم: مهاه وفهّ ويدعّ اليتيم ومحّ وألحّ وضغيغة ومخّ. فأن لم يجمعوا بين الهمزتين في الموضع الذي جمع فيه بين أخواتها، وكرّرت، دلالة على رفضهم لجمعهما. وإذا لم يتوال ذلك في بنات الثلاثة، فألّا يتوالى ذلك في بنات الأربعة أولى.
فأمّا نحو: نأنأ وطأطأ وبأبأ الصبيّ أباه، فقد حجز الحرف بينهما، وإنّما الذي ينكر تواليهما من غير أن يحجز بينهما شيء. ومن ثم قال أبو الحسن في بناء مثل قمطر من
[الحجة للقراء السبعة: 1/276]
قرأت: قرأي، فلم يكرّر الهمزة، كما تكرّر سائر اللامات، نحو جلبب وقعدد وعوطط. ومن ذلك أنهم ألزموا باب رزيئة وخطيئة عمّا يؤدي إلى اجتماع همزتين فيه، فقالوا: خطايا ورزايا. فلو كان لاجتماعهما عندهم مساغ ما رفضوا ذلك الأصل، كما أنّه لو كان لتحرك العينات في نحو: قال وباع مجاز ما ألزموهما القلب.
فإن قال: فقد حكي عن بعضهم: خطائىء، بتحقيق الهمزتين فذلك يجري مجرى الأصول المرفوضة، نحو:
.... ضننوا
..... والأظلل
[الحجة للقراء السبعة: 1/277]
ولو جاز الاعتداد بذلك وبما أشبهه لجاز أن يقال في تكسير مطية: مطائي لقول بعضهم سماء، فإذا كانوا قد رفضوا ذلك في حال السعة والاختيار- مع أنّه أسهل من اجتماع الهمزتين- فأن يرفض اجتماع الهمزتين أجدر.
ومن ذلك أنهم إذا بنوا اسم فاعل من ناء وساء وشاء وجاء قالوا: شاء وناء، فرفضوا الجمع بينهما في هذا الطرف- كما رفضوه أولا في آدم وآخر- إما بالإبدال وإما بالقلب كما يقوله الخليل، وأخذوا- على قول النحويين غير الخليل - بما رفضوه في غيره من توالي الإعلالين. فلولا أنّ اجتماعهما عندهم أبعد من توالي الإعلالين لم يأخذوا بتواليهما المرفوض من كلامهم في هذا الموضع، كما أن إخلاء الفعل من الفاعل لولا أنّه أبعد عندهم من الإضمار قبل الذكر لم يأخذوا بالإضمار قبل الذكر في مثل: نعم رجلا، وضربني وضربت زيدا لمّا كان يلزمهم في هذه المواضع إخلاء الفعل من الفاعل.
ومن ذلك أن من قال: هذا فرجّ وهو يجعلّ، فضاعف
[الحجة للقراء السبعة: 1/278]
في الوقف حرصا على البيان لم يضاعف نحو النبأ والرشإ، لكنه رفض هذا الضرب من الوقف وما كان يحرص عليه من البيان، لمّا كان يلزمه الأخذ بما تركوه، والاستعمال لما رفضوه: من اجتماع الهمزتين.
ومن ذلك أنّ الهمزة إذا كانت مفردة غير متكررة كرهها أهل التخفيف حتى قلبوها أو حذفوها، لئلا يلزمهم تحقيقها، وقد وافقهم في بعض ذلك أهل التحقيق، كموافقتهم لهم في يرى. فلمّا كرهوا ذلك في الإفراد وجب إذا تكررتا ألا يجوز إلا التغيير، ألا ترى أنّ الواو المفردة المضمومة لمّا كنت مخيّرا في تصحيحها وقلبها، ثم انضم إليها أخرى، لزم قلبها وامتنع تصحيحها الذي كان يجوز فيها قبل التكرر، فكذلك الهمزة إذا انضمت إليها أخرى، لزم رفضهما وامتنع جمعهما، كما كان ذلك في الواوين. فكما لم يجمع أحد بين هاتين الواوين كذلك يجب ألا يجمع بين الهمزتين.
ومن ذلك أنّ ناسا- إذا اجتمعتا من كلمتين- فصلوا بينهما بالألف في نحو:
أاأنت زيد الأرانب
كما فصلوا بين النونات في نحو اخشينانّ. فكما ألزموا الفصل بين النونات بالألف، كذلك يلزم في آأنت لئلا تجتمع
[الحجة للقراء السبعة: 1/279]
الهمزتان. بل ذلك في الهمزتين ينبغي أن يكون ألزم، لما قدّمنا لرفضهم لهما وجمعهم في التضعيف بين أكثر من حرفين نحو ردّد وشدّد. فإذا كانوا قد ألزموا النون في اخشينان [الفصل] بين ما يجتمع مثله فأن يلزموها بين ما رفضوا الجمع بينهما أجدر.
فهذه الأشياء تدلّ على رفض اجتماع الهمزتين في كلامهم.
فأمّا جمعهما وتحقيقهما في (أأنذرتهم) فهو أقبح من تحقيقهما من كلمتين منفصلتين، نحو قرأ أبوك ورشأ أخيك، لأنّ الهمزة الأولى من (أأنذرتهم) تنزّل منزلة ما هو من الكلمة نفسها، لكونها على حرف مفرد، ألا ترى أنّهم قالوا: لهو وفهو، ولهو خير الرّازقين [الحج/ 58] ولهي، فخفّفوا ذلك كله، كما خفّفوا عضدا فقالوا: عضد، فكذلك الأولى في (أأنذرتهم) لمّا لم تنفصل من الكلمة صارت بمنزلة التي في آخر، كما نزّلت الحروف المفردة التي ذكرتها منزلة فاء الفعل في عضد وفخذ.
فأمّا إذا كانتا من كلمتين فاجتماعهما في القياس أحسن من هذا، ألا ترى أن المثلين إذا كانا في كلمة نحو: يردّ ويعضّ، لا يكون فيهما إلا الإدغام؟ ولو كانا منفصلين نحو: يد داود لكنت في الإدغام والبيان بالخيار. فعلى هذا تحقيق
[الحجة للقراء السبعة: 1/280]
الهمزتين في (أأنذرتهم) وما أشبهه أبعد منه في الكلمتين المنفصلتين.
وممّا يقوّي ترك الجمع بين الهمزتين أنّهم قد قالوا في جمع ذؤابة: ذوائب، فأبدلوا من الهمزة التي هي عين واوا في التكسير كراهة للهمزتين مع فصل حرف بينهما.
فإذا كرهوهما مع فصل حرف بينهما حتى أبدلوا الأولى منهما فأن يكرهوهما مجتمعتين غير مفصول بينهما بشيء أجدر. وإذا كان الجمع بينهما في: (أأنذرتهم) من البعد ما أريتك فالجمع بينهما في أئمة أبعد، لأنّ الهمزتين لا تفارقان الكلمة، وهمزة الاستفهام قد تسقط في الإخبار وغيره. فكلّما كانتا أشد لزوما للكلمة كان التحقيق منهما أبعد.
وممّا يدلّ على ضعف جمع الهمزتين وأن مذهب الجمهور من العرب رفضه عزّتها في باب أجأ وآءة وإنّما قلّ ذلك من حيث لم يستجيزوا اجتماع الهمزتين فأجروا نحو أجأ ذلك المجرى، لمّا كان الفصل بحرف واحد قد جرى في كلامهم مجرى غير الفصل. وذلك نحو قولهم هو ابن عمي دنيا وقنية وعلية وعليان، وهما من علوت. وكذلك رفضوا افعل من حيث رفضوا فعل، وإن كان الفصل في افعل قد وقع بالحرف، فلما لم يعتد بالحرف الفاصل وقلبت الكسرة الواو
[الحجة للقراء السبعة: 1/281]
ياء، كما قلبته في ثيرة وسياط، ولم يكن بالفصل اعتداد، كذلك لم يكن الفصل بالحرف في نحو أجأ فصلا، فرفض ذلك كما رفض التحقيق في جاء ونحوه.
فأمّا تحرك الجيم في أجأ وسكون الحرف في دنيا فإن الحركة في هذا النحو قد لا يعتدّ بها لقلّتها، ألا ترى استجازتهم لحذفها في الزحاف؟.
ومثل دنيا في أن الحرف الفاصل لم يعتدّ به قولهم:
معديّ في معدوّ، ومرضيّ ومسنيّة. ومثله: صيّم وقيّل. ونحو ذلك، ومثله: قائل وبائع، جعل الحرفان كأنّهما وقعا طرفا حيث كان الفاصل بينهما وبين الطرف حرفا. ومثله: أوليّاء أوقعت الألف التي آخرا قبل الآخر بحرف لمّا كان الفاصل بينه وبين الطرف حرفا واحدا. ومثله: أوائل وعيائل، ولو كان الفاصل حرفين كطواويس لم يعلّ. فكما أنّ الحرف المفرد في هذه المواضع لم يفصل، كذلك في باب أجأ لم يفصل، فقلّ ذلك لمّا كان الحرف المفرد في هذه المواضع غير معتدّ به. وإذا لم يعتدّ به صارت الهمزتان كأنّهما قد التقيا، والتقاؤهما ممّا قد رفضوه، فكذلك رفضوا ما كان في حكم التقائهما.
[الحجة للقراء السبعة: 1/282]
فإن قلت: إن سيبويه قد ذهب في ألاءة وأشاءة ونحوهما إلى أن اللام يجوز أن تكون همزة، وقد جاء من ذلك حروف. قيل: لم يكن هذا مثل أجأ، للفصل بالزيادة، ألا ترى أنّ الفاصل الذي لم يعتدّ في أوائل لمّا انضم إليه حرف آخر في طواويس اعتدّ به فصلا، وإن كان زائدا فلم يعلّ الحرف، فكذلك الفصل هاهنا لمّا وقع بالزيادة لم يمتنع الحكم عنده بأن اللام همزة، كما امتنع حيث كان الفصل حرفا واحدا. وقد وجدت الزيادة تسوّغ في تألف الحروف ما لولا مكانها لم يسغ.
ألا ترى أنّه ليس مثل قنر بلا فاصل بين النون والراء وقد قالوا: شنّير وقالوا: الشّنار، وقالوا: سنّور وسنوّر فائتلف لفصل الزيادة ما لم يكن يأتلف لولا فصلها؟ فكذلك فصل الزيادة بين الهمزتين في ألاءة وأشاءة فيما ذهب إليه.
وجاء ذلك في طأطأ ونأنأ ودأدأ للفصل الواقع بينهما، ولأنّ ما يعرض في الثلاثة من كثرة التصرّف لا يعرض في هذا الباب.
[الحجة للقراء السبعة: 1/283]
واعلم أن قول سيبويه: ليس من كلام العرب أن تلتقي همزتان فتحقّقا، وقوله في باب الإدغام: إن ابن أبي إسحاق وناسا معه يحقّقون الهمزتين وقد تكلّم ببعضه العرب وهو رديء، ليس على التدافع ولكن لأنّه لم يعتدّ بالرديء، أو يكون لم يعتد بالتقاء المحقّقتين لقلّة ذلك بالإضافة إلى ما خفّف إذا اجتمعا. وقد عمل ذلك في أشياء نحو انقحل فعلى هذا يحمل ذلك أيضا من قوله.
قالوا: فلمّا رأيناهم قد رفضوا اجتماع الهمزتين في هذه المواضع، لم نجمع بينهما وخفّفنا الثانية، لأنّ في تخفيفها تقريبا من الألف، ألا ترى أنّ الهمزة إذا كانت مبتدأة لم تخفف لأنّ في تخفيفها تقريبا من الساكن؟ فكما أن الساكن لا يبتدأ به كذلك ما قرب من الساكن. فكما جرت مجرى الساكن في تقريبهم إيّاها منه، كذلك تجرى مجراه إذا خففنا الثانية، فتصير بعد الأولى كالألف بعدها. فكما لم تكره الألف بعدها في نحو أادم وأاخر، كذلك المخفّفة بعدها في: (أانذرتهم) لا تكره بعدها، كما تكره إذا حقّقت لما أرينا، مما دلّ على رفض العرب الجمع بينهما محقّقتين.
وحجة من فصل بين الهمزتين بألف وخفّف الهمزة الثانية
[الحجة للقراء السبعة: 1/284]
مع الفصل بينهما بالألف. وهو الثّبت عن أبي عمرو عندنا، لأن سيبويه زعم أن ذلك هو الذي يختاره أبو عمرو.
وقد قال أحمد بن موسى: إن خلفا روى عن أبي زيد ذلك في اختلاف الهمزتين، نحو (آينّكم) و (آنزل) أنّه بألف بين الهمزتين وتليين الثانية ولم يفصل سيبويه في حكايته عن أبي عمرو بين المتفقتين والمختلفتين، ألا ترى أنّه قال: وأما أهل الحجاز فمنهم من يقول آئنك وآأنت [المائدة/ 116]، ثم قال: وهي التي يختار أبو عمرو، فلم يفصل بينهما. وسيبويه وأبو زيد أضبط لمثل هذا من غيرهما.
من حجّته أن يقول: إنّي أدخلت الألف بينهما وإن جعلت الثاني بين بين، لأنّها إذا كانت على هذه الصفة فهي في حكم المتحرك، وتخفيفي إياها بأن جعلتها بين الألف والهمزة ليس يخرجها عن أن تكون همزة متحركة، وإن كان الصوت بها أضعف، ألا ترى أنّها إذا كانت مخفّفة في الوزن مثلها إذا كانت محققة؟ ولولا ذلك لم يتّزن قوله:
[الحجة للقراء السبعة: 1/285]
أأن رأت رجلا أعشى
لأنّه كان يجتمع فيه ساكنان وكذلك قول الآخر:
كل غراء إذا ما برزت
ويدلّ على أنّ المخفّفة من الهمزتين في حكم المحقّقة عند العرب أنّهم أبدلوا الهمزة الثانية إبدالا في المواضع التي اجتمعت فيها همزتان في كلمة واحدة ولم يخفّفوا الثانية. وذلك نحو: آدم، وجاء، وخطايا. ألا ترى أن آدم لو كان قلبها فيه على حدّ القلب في رأس وفأس ورأي لكنت إذا كسّرته رددت الهمزة في التكسير، كما أنّك لو كسّرت فاسا وراسا ورايا لقلت: أرؤس وأرآء. فلو كنت في راي إذا خفّفت إنّما خففت على حد التخفيف في آدم لقلبت الهمزة في التكسير ياء أو واوا، فقلت: أرواء أو أرياء، ولكنت تقول إذا جمعت رايا على فعول رييّ فتقلبها ياء، كما قلبوها في أيمّة ياء لمّا تحركت
[الحجة للقراء السبعة: 1/286]
بالكسر، ألا ترى أنّك إذا قلبتها في ذئب وبئر ياء للكسرة التي قبلها، فكذلك تقلبها ياء في أيمّة للكسرة التي عليها. وقال أبو زيد في جمع رأي أرآء ورئيّ بتحقيق الهمز فيهما وأنشد غيره:
ولا يشارك في أرآئه أحدا
وقال الراعي في جمع نؤي:
وأنآء حيّ تحت عين مطيرة... عظام القباب ينزلون الروابيا
وكذلك الهمزة في رأيت جائيا لم تقلبها كما تقلبها في تخفيف المئر إذا قلت: مير، وإن اتفق اللفظتان كما اتفق اللفظ في بريّة وخطيّة، وإن كان بريّة قلبها للإبدال غير التخفيف، وقلب خطيّة للتخفيف، كما كان لفظها في رال وباس إذا خففت كلفظها في آدم، فكذلك قولك: رأيت جائيا وشائيا وسائيا ونائيا، لا يكون القلب فيه على حدّ مير وذيب. ولو كان كذلك لجعلتها بين بين إذا قلت مررت بجاء، كما أنّك لو قلت: مررت برجل جئز لجعلتها بين
[الحجة للقراء السبعة: 1/287]
بين، وجعلتها كذلك في موضع الرفع إذا قلت: هذا جاء في قول سيبويه الذي زعم أنّه قول العرب، والخليل، وقلبتها ياء في قول أبي الحسن، فقلت: جائي، فتحرّك الياء بالضمّ ولا تحذفها. فلمّا لم يكن على واحد من هذين الأمرين علمت أنّهم قلبوها قلبا. فلمّا لم يخفّفوا الهمزة في هذه المواضع التي ألزمت القلب فيها لاجتماع الهمزتين، ولكن قلبوها قلبا، علمنا أن المخفّفة التخفيف القياسي في حكم المحقّقة عندهم إذ رفضوا المخفّفة التي بين بين في المواضع التي أرينا، مع المحقّقة، كما رفضوا المحقّقتين. فإذا رفضوها رفضها لم يجز أن يجتمعا، كما لم يجز أن يجتمع المحقّقتان، وإذا لم يجز اجتماعهما مخفّفة الآخر منهما كما لم يجز اجتماعهما محقّقتين في (أأنذرتهم) لزم ألّا يجمع بينهما، ولا سبيل إلى ترك الجمع بينهما إلّا بأن تحذف إحداهما أو تقلب أو يفصل بينهما بالحاجز الذي هو الألف.
فلما لم يجز الحذف في واحد منهما ولا القلب لأنّه ليس من المواضع التي تقلب فيها الهمزة، ثبت وجوب الفصل بينهما بالألف، ووجب إلزام الفصل بينهما بها، إذ كان الجميع قد ألزموا الفصل بها بين الأمثال في قولهم: اخشينانّ، مع أن هذه الأمثال قد جمعوا بينهن في ردّد وشدّد وقضّض، وما أشبه ذلك.
[الحجة للقراء السبعة: 1/288]
فإذا ألزموا الفصل بها بين الأمثال التي لم يرفضوا الجمع بينها في نحو: ما ذكرنا فأن يلزموا الفصل بها بين ما رفضوا الجمع بينه من الهمزتين والهمزات أولى. وإذا كان كذلك ثبت أن أولى هذه الوجوه وأصحّها في مقاييس العربية الفصل بينهما بالألف. وإذا لزم الفصل ففصل خفّف الثانية على لغة أهل الحجاز، كما خفّفوها في نحو: هباءة وقراءة، ألا ترى أن الألف التي للفصل بمنزلة التي في هباءة، وأنّهم خفّفوا الهمزة المفتوحة بعدها، كما خفّفوا المكسورة والمضمومة بعدها في نحو المسائل وهذا جزاء زيد؟ وما رواه أبو زيد وسيبويه والعباس بن الفضل عن أبي عمرو من إلحاق الألف للفصل بين الهمزتين المختلفة حركتاهما، نحو: آأنزل وآألقى، كإلحاقه إياها بين الهمزتين المتّفقة حركتاهما؛ نحو (آأنذرتهم) أثبت في القياس من رواية من حكى عنه الفصل، ألا ترى أن هذه الألف إنما فصل بها كراهة لاجتماع الهمزتين، وأنّ الحركة الفاصلة بينهما، وهي حركة الهمزة الأولى سواء كان فتحة أو ضمة أو كسرة. فأمّا حركة الهمزة الثانية فبعد التقاء الهمزتين. فإذا كان كذلك فلا فصل بين (أأنذرتهم) وأ ألقي الذّكر [القمر/ 25] وأ إنّكم لتشهدون [الأنعام/ 19] من طريق القياس.
وإذا اختلفت الرواية وكان أحد الفريقين أضبط، وعضد الضبط والثبت القياس، وموافقة الأشباه، كان الأخذ بما جمع
[الحجة للقراء السبعة: 1/289]
هذين الوصفين أولى وأرجح. وما روي عن أبي عمرو من قوله: (آأنذرتهم) إنّما هو عندنا على الاستئناف دون الدرج.
ولو أدرج القراءة فقال: (سواء عليهم أأنذرتهم) لوجب في قياس قول أبي عمرو الذي حكاه عنه سيبويه أن يحذف الهمزة الأولى من (أأنذرتهم) لسكون ما قبلها، ويلقي حركتها على الميم، فإذا فعل ذلك لزم أن يحذف الألف التي كانت مجتلبة للفصل، ويخفّف الثانية، كما كان خفّفها وقد فصل بينها وبين الأولى بالألف، فيجعلها بين بين فيقول: (عليهم أأنذرتهم).
وكذلك قياس قوله في: (أإنّكم لتشهدون) أن يقول:
قل أإنكم لتشهدون [الأنعام/ 19] ألا ترى أنّك لو حذفت النون الأولى من اخشينانّ فقلت: اخشينّ يا هذه أو اخشينّ يا هذا لحذفت الألف، لزوال ما أردت الفصل بها بين النونات؟
فإن قلت: فكيف يستقيم له أن يحذف حرفا قد كان أثبته، فإنّ ذلك لا يمتنع فيما يلزم من حكم الوصل والوقف، ألا ترى أنّك إذا وصلت قوله فليؤدّ الّذي اؤتمن أمانته قلت: (فليؤد الذيتمن أمانته)؟ وإن شئت همزت فحذفت الياء من الذي وهمزة الوصل، وقلبت الواو التي كانت في قولك:
[الحجة للقراء السبعة: 1/290]
اؤتمن ياء أو همزة فهذا أكثر في التغيّر مما ذكرت لك من حذف الألف المجتلبة للفصل ولا خلاف في ذلك بين الناس، فكذلك حكم حذف الألف المجتلبة للفصل بين النونات إذا وصلت الهمزة الأولى بما قبلها من الساكن). [الحجة للقراء السبعة: 1/291]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (من ذلك قراءة [أَنْذَرْتَهُم] بهمزة واحدة من غير مدٍّ.
قال أبو الفتح: هذا مما لَا بُدَّ فيه أن يكون تقديره: {أأَنْذَرْتَهُم}، ثم حذف همزة الاستفهام تخفيفًا؛ لكراهة الهمزتين، ولأن قوله: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ} لَا بُدَّ أن يكون التسوية فيه بين شيئين أو أكثر من ذلك، ولمجيء "أم" من بعد ذلك أيضًا، وقد حُذفت هذه الهمزة في غير موضع من هذا الضرب، قال:
فأصبحتُ فيهم آمنًا لا كمعشرٍ ... أتوني فقالوا: مِن ربيعة أم مضر؟
فيمن قال: أم؛ أي: أمن ربيعة أم مضر؟
ومن أبيات الكتاب:
لعمرك ما أدري وإن كنت داريا ... شعيثُ ابن سهم أم شعيث ابن مِنْقَر
وقال الكميت:
طربتُ وما شوقًا إلى البِيض أطرب ... ولا لَعِبًا مني وذو الشيب يلعب؟
قيل: أراد: أوذو الشيب يلعب؟
وقالوا في قول الله سبحانه: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائيلَ} أراد: أوتلك نعمة؟ وقال:
لعمرك ما أدري وإن كنتُ داريا ... بسبع رَمين الجمر أم بثمان؟
[المحتسب: 1/50]
يريد: أبسبع؟
وعلى كل حال فأخبرنا أبو علي قال: قال أبو بكر: حذف الحرف ليس بقياس؛ وذلك أن الحرف نائب عن الفعل وفاعله، ألا ترى أنك إذا قلت: ما قام زيد، فقد نابت "ما" عن "أَنفي"، كما نابت "إلا" عن "أَستثني"، وكما نابت الهمزة وهل عن أَستفهم، وكما نابت حروف العطف عن أَعطف، ونحو ذلك.
فلو ذهبتَ تحذف الحرف لكان ذلك اختصارًا، واختصار المختصر إجحاف به، إلا أنه إذا صح التوجه إليه جاز في بعض الأحوال حذفه؛ لقوة الدلالة عليه.
فإن قيل: فلعله حَذَف همزة [أَنْذَرْتَهُمْ] لمجيء همزة الاستفهام، فكان الحكم الطارئ على ما يشبه هذا من تعاقب ما لا يجمع بينه.
قيل: قد ثبت جواز حذف همزة الاستفهام على ما أرينا في غير هذا، فيجب أن يحمل هذا عليه أيضًا.
وأما همزة أفعل في الماضي، فما أبعد حذفها! فليكن العمل على ما تقدم بإذن الله). [المحتسب: 1/51]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون}
قرأ نافع وأبو عمرو آنذرتهم آنت يهمزان ثمّ يمدان بعد الهمزة وتقدير هذا أن تدخل بين ألف الاستفهام وبين الهمزة الّتي بعدها ألفا ليبعد المثل عن المثل ويزول الاجتماع فيخف اللّفظ والأصل {أأنذرتهم} ثمّ تلين الهمزة في أنذرتهم
وحجتهما في ذلك أن العرب تستثقل الهمزة الواحدة فتخففها في أخف أحوالها وهي ساكنة نحو كاس فإذا كانت تخفف وهي وحدها فإن تخفف ومعها مثلها أولى
وقرأ ابن كثير أنذرتهم بهمزة واحدة غير مطوّلة ومذهبه أن يحقّق الأولى ويخفف الثّانية وقرأ ابن عامر وأهل الكوفة {أأنذرتهم} أأنت بهمزتين وحجتهم في ذلك أن الهمزة حرف من حروف المعجم كغيره من سائر الحروف صحا بالجمع بينهما نحو ما يجتمع في الكلمة حرفان مثلان فيؤتى بكل واحد منهما صحيحا على جهته من غير تغيير كقوله {أتمدونن بمال} و{لعلّكم تتفكرون} ونظائر ذلك فلا يستثقل اجتماعهما بل يؤتى بكل واحد منهما فجعل الهمزتين كغيرها من سائر الحروف
[حجة القراءات: 86]
قرأ أبو عمرو والكسائيّ وورش على ابصارهم وقنطار ودينار بإمالة الألف وحجتهم في ذلك أن انتقال اللّسان من الألف إلى الكسرة بمنزلة النّازل من علو إلى هبوط فقربوا الألف فإمالتهم إيّاها من الكسر ليكون عمل اللّسان من جهة واحدة وقرأ الباقون أبصارهم بغير إمالة وحجتهم في ذلك أن باب الألف هو الفتح دون غيره وأن ما قبل الألف لا يكون أبدا إلّا مفتوحًا لأنّه تابع لها فتركوها على بابها من غير تغيير). [حجة القراءات: 87]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (3- {أَأَنْذَرْتَهُمْ} [آية/ 6].
قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي ويعقوب ح- بهمزتين من غير مدٍّ؛ لأن الأولى همزة [التسوية] والثانية همزة أفعل فقد جاء على الأصل. وإن استثقل اجتماع الهمزتين فإن المثل قد جاء مع مثله في حروف الحلق نحو: فههت وكععت، وقد استعمل في الهمزة نفسها ذلك نحو: رأس وسأل وإن كان قليلًا.
ويحسن هذه القراءة أن الهمزة الأولى غير لازمة للكلمة؛ لأنها همزة [التسوية]، وما لا يلزم الكلمة فهو بمنزلة ما لا يعتد به.
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو و- يس- عن يعقوب بهمزةٍ واحدةٍ ممدودة.
وذلك أنهم خففوا الهمزة الثانية لاجتماع الهمزتين؛ لأن اجتماعهما مرفوضٌ في كثير من كلام العرب، ألا ترى أن: آدم، وآخر، وألزموا الثانية منهما البدل ألبتة، وجعلوا الكلمة كأنها لا أًل لها في الهمزة حيث جمعوها
[الموضح: 241]
على: أواخر، وحقروها على: أويخر، ولم يعيدوها إلى الأصل في الجمع والتحقير، كما أعادوا فيهما غيرها إلى الأصل نحو: ميقات ومواقيت ومويقيت.
وفي ذلك دليلٌ على رفضهم اجتماع الهمزتين.
وفي تخفيف الهمزة الثانية تقريبٌ لها من الساكن؛ لأن المخففة هاهنا تجري مجرى الألف، فكام لا يُكره الألف بعد الهمزة في نحو: آدم فكذلك المخفف.
ابن مجاهد عن أبي عمرو، و- ش- عن نافع، بإدخال ألفٍ بين الهمزتين وإن خففت الثانية؛ لأن الهمزة وإن كانت مخففة فهي في حكم المتحركة؛ لأن تخفيفها هو جعلها بين الألف والهمزة وليس يخرجها ذلك من أن تكون همزة متحركة، وإن كان الصوت بها أضعف، فكما أدخل الألف للفضل بين المثلين أو الأمثال نحو قوله:
4- هيا ظبية الوعساء بين جلاجلٍ = وبين النقا آأنت أم أمُّ سالم
[الموضح: 242]
وقولهم: اخشينا ونحوهما، فكذلك هاهنا بعد التخفيف). [الموضح: 243]

قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقول الله جلّ وعزّ: (وعلى أبصارهم غشاوةٌ)
اتفق القراء على "غشاوة" بالرفع، إلا ما روى الفضل عن عاصم (غشاوةً" نصبا.
قال أبو منصور: الرفع هي القراءة المختارة، ومن نصب فعلى إضمار فعل، كأنه قال: وجعل على أبصارهم غشاوةً، كما قال الشاعر:
[معاني القراءات وعللها: 1/131]
يا ليت زوجك قد غدا... متقلّداً سيفاً ورمحا
أراد: متقلدا سيفا وحاملا رمحا.
وأنشد الفراء:
علفتها تبناً وماءً بارداً... حتى شتت همّالةً عيناها
أراد: وسقيتها ماء باردا، يعني: فرسه.
وأما قول الله جلّ وعزّ في سورة الجاثية: (وجعل على بصره غشاوةً)
فإن حمزة والكسائي قرآ (غشوةً) بغير ألف مع فتح الغين، وقرأ الباقون: (غشاوةً) بألف مع كسر الغين، وكل ذلك جائز، والمعنى واحد، وهو: ما يغشى البصر من الظلمة). [معاني القراءات وعللها: 1/132]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (5- وقوله تعالى: {وعلى أبصارهم غشاوة}
قرأ أبو عمرو: {وعلى أبصارهم} ممالة، ونحوه إذا كان في موضع الجر نحو القنطار والدينار والأبرار والفجار والنار؛ وذلك أن الكسرة في آخر الاسم منخفضة والألف مستعلية فأمال أول الكلمة ليكون كآخرها.
وقرأ الباقون بالفتح على أصل الكلمة.
وقد تابعه الكسائي في (الأشرار) و(الأبرار) وما تكررت فيه الراء.
فإن سأل سائل: لم أمال أبو عمرو {أصحاب النار} ولم يُمل
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/60]
{الجار الجنب} وألفهما منقلبتان من الواو ووزنهما سيان، والأصل فيهما نور، جور فقلبوا من الواو ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها؟
فالجواب في ذلك أن النار كثر دورها في القرآن فأماله تخفيفًا، والجار لما قل دوره في القرآن تركه على أصله، والدليل على ذلك أن أبا عمرو يميل {الكافرين} في موضع الجر والنصب لكثرة دوره في القرآن ولا يميل {الجبرين} في موضع النصب؛ لأنه في القرآن في موضعين {إن فيها قوما جبارين} {وإذا بطشتم بطشتم جبارين}.

6- وقوله تعالى {غشاوة}.
قرأ عاصم في رواية المفضل {وعلى أبصارهم غشاوة} بالنصب وقرأ الباقون {غشاوة} بالرفع، فمن نصب أضمر فعلا، والتقدير: ختم الله على قلوبهم، وجعل على أبصارهم غشاوة، كما قال الله تعالى في (الجاثية): {وجعل على بصره غشاوة} والعرب تضمر الفعل إذا كان في الكلام دليل، قال الشاعر:
سقوا جارك الغيمان لما جفوته = وقلص عن برد الشراب مشافره
سنامًا ومحضا أنبتا اللحم فاكتست = عظام أمرئ ما كان يشبع طائره
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/61]
فالتقدير: سقوا جارك لبنًا وأطعموه سنامًا؛ لأن السنام لا يُسقى، وقال آخر:
ورأيت زوجك في الوغى = متقلدا سيفا ورمحا
معناه: حاملاً رمحًا؛ لأن الرمح لا يتقلد، قال الله تعالى: {يا جبال أوبي معه والطير} بالنصب كذلك قرأ الأعرج على تقدير: وسخرنا الطير.
ومن رفع {غشاوة} فجعله ابتداء و{على} خبره والتقدير: غشاوة على أبصارهم: كقولك: زيد في الدار، وعلى أبيك ثوب، وثوب على أبيك. والغشاوة: الغطاء قال الشاعر:
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/62]
تبعتك إذ عيني عليها غشاوة = فلما انجلت قطعت نفسي ألومها). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/63]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (بسم الله
قوله تبارك وتعالى: غشاوةٌ في سورة البقرة. [الآية/ 7]
قرءوا كلهم رفعا، إلّا أنّ المفضل الضبيّ روى عن عاصم (وعلى أبصارهم غشاوة) بالنصب.
قال أبو علي: قالوا: ختم على كذا يختم، قال تعالى: فإن يشإ اللّه يختم على قلبك [الشورى/ 24] وقال: اليوم نختم على أفواههم [يس/ 65] والمصدر الختم. وقالوا طبع عليه بمعنى ختم عليه. وقد قالوا: طبعه فعدّي بلا حرف. ولا يمتنع ذلك في القياس في ختم، قال:
كأنّ قرادي زوره طبعتهما... بطين من الجولان كتّاب أعجما
وقد روي عن الحسن في قوله تعالى:
[الحجة للقراء السبعة: 1/291]
من رحيقٍ مختومٍ ختامه مسكٌ [المطففين/ 25]. أنّه قال مقطعه مسك.
وأظنّ أبا عبيدة اعتبر ما روي عن الحسن في تفسير الآية، لأنّه قال في قوله: يسقون من رحيقٍ مختومٍ: له ختام، أي: عاقبة ختامه مسك، أي: عاقبته، وأنشد لابن مقبل:
مما يفتّق في الحانوت ناطفها... بالفلفل الجون والرمان مختوم
فتأوّل الختام على العاقبة ليس على الختم الذي هو الطبع. وهذا قول الحسن: مقطعه مسك.
ولا يستقيم أن يتأوّل المختوم في الآية في صفة الرحيق على معنى الختم الذي هو الطبع لقوله: وأنهارٌ من خمرٍ لذّةٍ للشّاربين [محمد/ 15] وقال: يطوف عليهم ولدانٌ مخلّدون بأكوابٍ وأباريق وكأسٍ من معينٍ [الواقعة/ 17] وقال: يطاف عليهم بكأسٍ من معينٍ بيضاء لذّةٍ للشّاربين [الصافات/ 46] فقوله: (بيضاء) مثل قوله: قواريرا قواريرا من فضة [الإنسان/ 15 - 16] أي: قوارير كأنّها في بياضها من
[الحجة للقراء السبعة: 1/292]
فضة. فهذا على التشبيه لا على أن القوارير من فضة قال:
حلبانة ركبانة صفوف... تخلط بين وبر وصوف
أي: كأن يديها في إسراعها في السير يدا خالطة وبرا بصوف، فالمعنى على التشبيه وإن لم يذكر حرفه.
وقال:
فهنّ إضاء صافيات الغلائل
ومثل قوله تعالى: ختامه مسكٌ [المطففين/ 26] قوله تعالى: كان مزاجها كافوراً [الإنسان/ 5] المعنى فيها أنّها في طيب الرائحة وسطوعها، وأرجها كأرج المسك والكافور.
[الحجة للقراء السبعة: 1/293]
فأمّا قوله: كان مزاجها زنجبيلًا [الإنسان/ 17] فإنّه يدلّ على لذاذة المطعم، لأنّ الزنجبيل يحذي اللسان.
وزعموا: أنّ ذلك من أجود الأوصاف للخمر عند العرب، قال الأعشى:
معتقة قهوة مزّة
ومثل تشبيهها بالزنجبيل في الآية للذاذة المطعم قوله:
كأن القرنفل والزنجبي... ل باتا بفيها وأريا مشورا
فهذا يريد به طيب الطعم، لذكره مع ما يطعم، ويدلّ على أنّهم يقصدون ما يحذي اللسان بالوصف بطيب الطعم قول ابن مقبل:
........ ناطفها... بالفلفل الجون والرّمان مختوم
فأمّا قوله تعالى: ولكن رسول اللّه وخاتم النّبيّين [الأحزاب/ 40] فخاتم اسم فاعل من ختمهم أي صار آخرهم.
والأحسن أن تجعله اسم فاعل ماض ليكون معرفة، لأن قبله
[الحجة للقراء السبعة: 1/294]
معرفة، وحكم المعطوف أن يكون مشاكلا للمعطوف عليه.
وقد يجوز أن ينوى بالانفصال، وإن كان ذلك فيما مضى، على أن يحكى الحال التي كان عليها، وإن كانت القصّة فيما مضى؛ كقوله تعالى: وكلبهم باسطٌ ذراعيه بالوصيد [الكهف/ 18] فحكى ما كان. وروي أن الحسن قرأ:
(وخاتم النبيين) كأنّه جعل النبي صلّى الله عليه وسلّم هو الذي ختم به. فأمّا قول الشاعر:
إذا فضّت خواتمها وفكّت... يقال لها دم الودج الذبيح
فليس تخلو الخواتم من أحد أمرين، إما أن تكون جمع الخاتم الملبوس، أو تكون جمع المصدر. فإن كان جمع الملبوس فقد حذف المضاف من الكلام، والتقدير: إذا فض ختم خواتمها، وأضيفت الخواتم إليها لما كان من الختم عليها بها، ولحقت علامة التأنيث لأنّ القصد، وإن كان للختم في المعنى، فقد جرى في اللفظ على الخواتم، فلحقت العلامة لذلك.
وإن كان جمع المصدر فليس يخلو من أن يكون للختم أو للختام. فإن كان جمعا للختام كان بمنزلة قولهم للجزاء الجوازي، قال الحطيئة:
[الحجة للقراء السبعة: 1/295]
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه... لا يذهب العرف بين الله والناس
وقالوا في جمع اليعار: اليواعر قال:
لها بين جرس الراعيين يواعر
وفي جمع الدخان: الدواخن، فكذلك تكون الخواتم إذا كان جمع الختام. وإن كان جمع ختم فقد قالوا: حرّة وحرائر، وكنّة وكنائن. وقالوا: مشابه في جمع شبه، وملامح في جمع لمحة. فجمع ختم على خواتم أسهل، لأن فواعل إنما هو جمع فاعل، وفاعل قد جاء في المصادر، مثل العاقبة والعافية وما باليت به بالة، والفالج، وفي حروف أخر.
فإن كان الخواتم جمع المصدر كان الكلام على ظاهره، وكان المفضوض هو الخواتم أنفسها، من حيث كان جمع ختم، لا المضاف المحذوف.
[الحجة للقراء السبعة: 1/296]
فأمّا قوله:
يقال لها دم الودج الذبيح
فوصف الدم بالذبيح، فليس يريد بالذبيح المذبوح الذي تفرى أوداجه وينهر دمه، وإنما أراد بالذبيح: المذبوح، أي المشقوق، كما قال:
نام الخليّ وبتّ الليل مشتجرا... كأنّ عينيّ فيها الصّاب مذبوح
أي: مشقوق.
وكذلك قول الآخر:
فارة مسك ذبحت في سكّ
أي: شقّت وقالوا: أخذه الذّباح، وهو- فيما زعموا- تشقّق يكون في أظفار الأحداث أو أصابعهم. فالذبح: الشقّ.
وقيل لما يذكي الذبيحة: ذبح، لأنّه ضرب من الشقّ، فقالوا:
[الحجة للقراء السبعة: 1/297]
ذبحت الشاة. وذبحت البقرة. وقالوا في الإبل: نحرت، لمّا كانت توجأ في نحورها. فوصف الدم بأنّه ذبيح، والمعنى أن الدم مذبوح له، كما أن قوله: بدمٍ كذبٍ [يوسف/ 18] معناه: مكذوب فيه، وليل نائم أي: ينام فيه، وكذلك نهار صائم. فأمّا قول الفرزدق:
فبتن بجانبيّ مصرّعات... وبتّ أفض أغلاق الختام
فكأنه من المقلوب، أي: أفض ختام الأغلاق، ألا ترى أنّ الأغلاق والأقفال المختوم عليها إنّما يفضّ الختم الذي عليها، والفضّ إنّما هو تفريق أجزاء الختم، وتفريق غيره، وفي التنزيل: حتّى ينفضّوا [المنافقون/ 7] أي يتفرقوا فيبقى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بلا أنصار ولا أتباع.
والختام في بيت الفرزدق لا يخلو من أن يكون واحدا أو جمعا. فأمّا الذي في الآية فقد تأوله أبو عبيدة على أنه واحد.
فإن قلت: إنه في البيت جمع ختم، لأن لكل غلق ختما فجمع الختم، فهو قول، لأن المصادر قد تجمع، كقوله:
[الحجة للقراء السبعة: 1/298]
هل من حلوم لأقوام فتنذرهم
وتقول إن الختام الذي تأوله أبو عبيدة على أنه مفرد إنّما هو في خاتمة الشيء الذي هو آخره وخلاف فاتحته، والختم الذي يعني به الطبع معنى غيره، فليس يلزم إذا أفرد ذاك أن يفرد هذا أيضا. وقال الأعشى:
وتترك أموال عليها الخواتم هو على ضربين يجوز أن يكون عليها نقش الخواتم فحذف، ويمكن أن يكون جمع ختما على الخواتم، كما جمع الهجر على الهواجر وقال:
مقيم على قول الخنا والهواجر
[الحجة للقراء السبعة: 1/299]
وأما الغشاوة فلم أسمع منه فعلا مصرّفا بالواو. فإذا لم نعلم منه ذلك وكان معناها معنى ما اللام منه الياء من غشي يغشى بدلالة قولهم: الغشيان. ومعناه ما غطّى الشيء وعلاه فغمره وستره، كقوله تعالى، فغشيهم من اليمّ ما غشيهم [طه/ 78] وإذ يغشّيكم النّعاس [الأنفال/ 11] وو استغشوا ثيابهم [نوح/ 7] والمؤتفكة أهوى، فغشّاها ما غشّى [النجم/ 53، 54]. وقال الأعشى:
وولّى عمير وهو كاب كأنّما... يطلّى بورس أو يغشّى بعظلم
فالغشاوة من الغشيان كالجباوة من جبيت في أنّ الواو كأنّها بدل من الياء، إذ لم يصرّف منه فعل، كما لم يصرّف من الجباوة.
[الحجة للقراء السبعة: 1/300]
قال سيبويه قالوا: غشيته غشيانا كالحرمان. وإن شئت قلت: إن غشي يغشى مثل رضي يرضى، ولام الكلمة الواو بدلالة غشاوة وغشوة. ويكون الغشيان كعليان ودنيا ونحو ذلك.
وقوله تعالى: وعلى أبصارهم غشاوةٌ [البقرة/ 7] في المعنى مثل: صمٌّ بكمٌ عميٌ [البقرة/ 18] وكذلك قوله تعالى:
صمٌّ وبكمٌ في الظّلمات [الأنعام/ 39] لأنّ وصف البصر بالكون في الظلمات بمنزلة الوصف بالعمى. وكذلك، وصفه بكون الغشاوة عليه، لأنّه في هذه الأحوال كلّها لا يصحّ به إبصار. فقوله: في الظلمات متعلق بمحذوف.
وروي لنا عن الكسائي: غشاوة وغشاوة وغشاوة، وعن غيره.
ويذهب قوم من المتأوّلين إلى أنّ معنى: ختم اللّه على قلوبهم [البقرة/ 7] ختم عليها بأن طبع عليها ووسمها سمة تدل على أن فيها الكفر، ليعرفهم من يشاهدهم من الملائكة بهذه السمة، ويفرقوا بينهم وبين المؤمنين الذين في قلوبهم الشّرح والطمأنينة اللذان وصفوا بهما في قوله تعالى: أفمن شرح اللّه صدره للإسلام [الزمر/ 22]. وقوله: الّذين آمنوا وتطمئنّ قلوبهم بذكر اللّه [الرعد/ 28].
والختم والطبع واحد، وهما سمة وعلامة في قلب المطبوع على قلبه. وكما ختم على قلب الكافر وطبع فوسم بسمة تعرف بها الملائكة كفره كذلك وسم قلوب المؤمنين
[الحجة للقراء السبعة: 1/301]
بسمات تعرفهم الملائكة بها كما عرفوا بها الكافر. ومن ثمّ قال بعض المتأوّلين في قوله تعالى: ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا [الكهف/ 28] أي: لم نسم قلبه بما نسم به قلوب الذاكرين لله، لأنّ الله تعالى وسم قلوب الذاكرين بسمات تبيّن لمن شاهدها من الملائكة أنّهم مؤمنون، كما قال: أولئك كتب في قلوبهم الإيمان [المجادلة/ 22] أي علامته، فإذا لم يسمهم بهذه السّمة فقد أغفلهم.
ومثل ما تأولوا في هذا من أنّه علامة يعرف بها الكافر من المؤمن مناولة الكتاب باليمين وبالشّمال، في أنّ المناولة باليمين علامة أن المناول باليمين من أهل الجنة،
والمناول بالشّمال من أهل النار. وقوله: بل طبع اللّه عليها بكفرهم [النساء/ 155] يحتمل أمرين أي طبع عليها وختم جزاء للكفر وعقوبة عليه، كقوله:
نزائع مقذوفا على سرواتها... بما لم تخالسها الغزاة وتركب
وكقولهم: «بما لا أخشى بالذئب» فيمكن أن يكون
[الحجة للقراء السبعة: 1/302]
قوله: بل طبع الله عليها بكفرهم، أي طبع عليها بعلامة كفرهم، كما تقول: طبع عليه بالطين، وختم عليه بالشمع.
ويجوز أن يكون قوله تعالى: ختم اللّه على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوةٌ [البقرة/ 7] وصفا للذي ذمّ بهذا الكلام بأن قلبه ضاق عن قبول الحكمة والإسلام والاستدلال على توحيد الله تعالى وقبول شرائع أنبيائه عليهم السلام فلم ينشرح له ولم يتّسع لقبوله، فهو خلاف من ذكر في قوله تعالى: أفمن شرح اللّه صدره للإسلام فهو على نورٍ من ربّه [الزمر/ 22].
ومثل ذلك قوله تعالى: أفلا يتدبّرون القرآن أم على قلوبٍ أقفالها [محمد/ 24] ومثله: وقالوا قلوبنا في أكنّةٍ ممّا تدعونا إليه وفي آذاننا وقرٌ ومن بيننا وبينك حجابٌ [فصلت/ 5] ومن ذلك قوله: وقالوا قلوبنا غلفٌ [البقرة/ 88] إنّما هو جمع أغلف، أي في غلاف كقوله: قلوبنا في أكنّةٍ، ولقد ذرأنا لجهنّم كثيراً من الجنّ والإنس لهم قلوبٌ [الأعراف/ 179] ويقوّي ذلك أن المطبوع على قلبه وصف بقلة الفهم بما يسمع من أجل الطبع، فقال: بل طبع اللّه عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلّا قليلًا [النساء/ 155] وقال: وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون [التوبة/ 87].
ومما يبيّن ذلك قوله تعالى: قل أرأيتم إن أخذ اللّه سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم [الأنعام/ 46] فعدل الختم على
[الحجة للقراء السبعة: 1/303]
القلوب بأخذه السمع والبصر، فدلّ هذا على أنّ الختم على القلب هو أن يصير على وصف لا ينتفع به فيما يحتاج فيه إليه، كما لا ينتفع بالسمع والبصر مع أخذهما، وإنّما يكون ضيقه بألّا يتّسع لما يحتاج إليه من النظر والاستدلال الفاصل بين الحقّ والباطل. ومن ذلك قوله تعالى: ومن يرد أن يضلّه يجعل صدره ضيّقاً حرجاً كأنّما يصّعّد في السّماء [الأنعام/ 125] فهذا كلام كالمثل، أي: من يستحقّ الإضلال عن الثواب يجعل صدره ضيّقا في نهاية الضيق لما كان القلب محلا للعلوم والاعتقادات بدلالة قوله تعالى: لهم قلوبٌ لا يفقهون بها [الأعراف/ 179] [فوصفه] بالضيق وأنّه على خلاف الشرح والانفساح دلّ أنّه لا يعي علما ولا يستدلّ على ما أريد له ودعي إليه، كما وصف الجبان بأنّه لا قلب له، لمّا أريد به المبالغة في وصفه بالجبن، لأنّ الشجاعة محلها القلب، فإذا لم يكن القلب الذي يكون محلّ الشجاعة لو كانت فألّا تكون الشجاعة أولى.
ومن ثمّ قالوا في النعامة: جؤجؤه هواء، أي ذو هواء، فهو فارغ من القلب، فهذا كما وصفوها بالشّراد لجبنها فقال:
[الحجة للقراء السبعة: 1/304]
وأشرد بالوقيط من النّعام وقال:
أسد عليّ وفي الحروب نعامة... ربداء تجفل من صفير الصافر
وقال:
فالهبيت لا فؤاد له... والثّبيت ثبته فهمه
وأنشد أبو زيد:
لقد أعجبتموني من جسوم... وأسلحة ولكن لا فؤادا
[الحجة للقراء السبعة: 1/305]
وقال:
حار بن كعب ألا أحلام تزجركم... عنّا وأنتم من الجوف الجماخير
وأنشد أبو زيد:
ولا وقّافة والخيل تردي... ولا خال كأنبوب اليراع
وقال الراعي:
وغدوا بصكهم وأحدب أسأرت... منه السياط يراعة إجفيلا
[الحجة للقراء السبعة: 1/306]
فكما وصف الجبان بأنّه لا قلب له، وأنّه مجوّف وأنّه يراعة، لأنّه إذا كان كذلك بعد من الشجاعة، ومن الفهم لعدمه القلب، كذلك وصف من بعد عن قبول الإسلام بعد الدعاء إليه وإقامة الحجّة عليه بأنّه مطبوع على قلبه، وضيّق صدره، وقلبه في كنان، وفي غلاف.
قال أبو زيد: قالوا: رجل مفئود للجبان، وخلاف ما ذكره أبو زيد: رجل مشيّع للشجاع. فهذا إمّا أن يكون أريد:
يشيّع قلبه، أي: ليس بمصاب في فؤاده، وإمّا أن يكون معه من نفسه شيعة يثبّتونه.
وأمّا قوله تعالى: كأنّما يصّعّد في السّماء [الأنعام/ 125] فالمعنى: أن هذا الضيّق الصدر عن الإسلام نهاية الضيق إذا دعي إلى الإسلام، من ضيق صدره منه ونفوره عنه، وعن استماع الحكمة، كأنّه يراد على ما لا يقدر عليه من مصعد في السماء، أو حمل على ما يشبهه من الامتناع.
وروي عن ابن مسعود
أنّه سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هل
[الحجة للقراء السبعة: 1/307]
ينشرح الصدر؟ قال: نعم، يدخل القلب النور. فقال ابن مسعود: وهل لذلك علامة؟ قال: نعم. التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والاستعداد للموت قبل الموت»
فقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لابن مسعود: يدخله النور كما في الآية من قوله تعالى: أفمن شرح اللّه صدره للإسلام فهو على نورٍ من ربّه [الزمر/ 22].
وقد روي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: اللّه نور السّماوات والأرض مثل نوره [النور/ 35] قال: مثل نوره الذي أعطاه المؤمن كمشكاة، والمشكاة كوّة فيها مصباح. وقوله: نورٌ على نورٍ [النور/ 35]
[الحجة للقراء السبعة: 1/308]
قال: مثل قلب المؤمن نور على نور يشرح صدره للإسلام.
وقال أبو الحسن: ختم اللّه على قلوبهم لأنّ ذلك كان لعصيانهم الله تعالى، فجاز ذلك اللفظ، كما يقال: أهلكته فلانة إذا أعجب بها وهي لا تفعل به شيئا، لأنّه هلك في
اتباعها، أو يكون ختم: حكم أنّها مختوم عليها. وكذلك فزادهم اللّه مرضاً [البقرة/ 10] على ذا التفسير والله أعلم.
الإعراب
حجّة من رفع فقال: وعلى أبصارهم غشاوة: أنّه رأى الغشاوة لم تحمل على (ختم) ألا ترى أنّه قد جاء في الأخرى:
وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوةً [الجاثية/ 23] فكما لم تحمل في هذه على (ختم) كذلك لا تحمل في هذه التي في مسألتنا. فإذا لم يحملها على (ختم) قطعها عنه، وإذا قطعها عن (ختم) كانت مرفوعة إمّا بالظرف، وإمّا بالابتداء.
وأمّا إذا نصب فلا يخلو في نصبها من أن يحملها على (ختم) هذا الظاهر، أو على فعل آخر غيره. فإن قال:
أحملها على الظاهر كأني قلت: وختم على قلبه غشاوة، أي بغشاوة، فلمّا حذف الحرف وصل الفعل، ومعنى: ختم عليه بغشاوة مثل: جعل على بصره غشاوة، ألا ترى أنّه إذا ختمها بالغشاوة فقد جعلها فيها. واستدلّ على جواز حمل غشاوة على (ختم) هذا الظاهر، بقوله تعالى:
[الحجة للقراء السبعة: 1/309]
أولئك الّذين طبع اللّه على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم [النحل/ 108] فقال: طبع في المعنى كختم، وقد حملت الأبصار على (طبع) فكذلك تحمل على ختم.
قيل: لا يحسن ذلك، لأنّك تفصل بين حرف العطف والمعطوف به، وهذا عندنا إنّما يجوز في الشعر، ولا يختلفون أنّ ذلك في المعطوف على المجرور قبيح، والمنصوب والمرفوع بمنزلته في القياس، ألا ترى أنّ حرف العطف في المجرور ليس هو الجارّ، إنّما هو يشرك فيه، وكذلك في المرفوع والمنصوب ليس هو الرافع ولا الناصب، إنّما يشرك فيهما. فإنّما قبح الفصل فيهما لأنّ ما يقوم مقامهما لا يتّسع فيه الاتساع الذي في الأصل، ألا ترى أنهم لم يتّسعوا في إنّ وأخواتها اتساعهم في الفعل، ولم يتّسع في الظروف، ولا في الأسماء المسمّى بها الأفعال اتساعهم في الفعل، ولا في الصفات المشبّهة بأسماء الفاعلين اتّساعهم في أسماء الفاعلين، ولا في عشرين اتّساعهم في ضاربين وحسنين، فكذلك لا يتّسع في حرف العطف الذي يشرك فيما يعطف عليه اتّساعهم في نفس المعطوف عليه.
وقد ذهب إلى التسوية بين الجارّ وبين الناصب والرافع في العطف الكسائيّ والفراء. وقد جاء هذا الفصل في الشعر، أنشد أبو زيد:
[الحجة للقراء السبعة: 1/310]
أتعرف أم لا رسم دار معطّلا... من العام تغشاه ومن عام أوّلا
قطار وتارات خريق كأنّها... مضلّة بوّ في رعيل تعجّلا
وقال:
... وآونة أثالا فإن قال: لا أعطفه على هذا الفعل الظاهر الذي هو (ختم) ولكني أحمله على فعل أضمره، فأضمر: وجعل، ويكون ذلك بمنزلة الظاهر لدلالة ما تقدم عليه فإن هذا أيضا ليس بالسهل ألا ترى أن مثل:
متقلدا سيفا ورمحا
[الحجة للقراء السبعة: 1/311]
و: شرّاب ألبان وتمر وأقط و: علفتها تبنا وماء باردا لا تكاد تجده في حال سعة واختيار فإذا كان النصب تعترض فيه هذه الأشياء فلا نظر في أن الرفع أحسن والقراءة به أولى، وتكون الواو عاطفة جملة على جملة). [الحجة للقراء السبعة: 1/312]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({والّذين يؤمنون بما أنزل إليك} {وعلى أبصارهم غشاوة}
قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو (بما أنزل إليك) و(على أبصارهم) لا يمدون حرفا لحرف وهو أن تكون المدّة من كلمة والهمزة من أخرى وحجتهم في ذلك أنهم أرادوا الفرق بين ما المدّة فيه لازمة لا تزول بحال وبين ما هي فيه عارضة قد تزول في بعض الأحوال نحو بما أنزل إليك فإنّها تزول عند الوقف والّتي لا تزول نحو دعاء ونداء وبناء وسماء فجعلوا ذلك فرقا بينهما
وقرأ ابن عامر والكسائيّ مدا وسطا ومد حمزة وعاصم مدا
[حجة القراءات: 85]
مفرطا وحجتهم في ذلك أن المدّ إنّما وجب عند استقبال الهمزة سواء كانت الهمزة من نفس الكلمة أو من الأخرى إذا التقتا لأنّه لا فرق في اللّفظ بينهما). [حجة القراءات: 86] (م)
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (4- {غِشَاوَةً} [آية/ 7]:
اتفق القراء على الرفع من "غشاوة"، وروى المفضل الضبي عن عاصم بالنصب.
فالرفع على أن الكلمة مقطوعة عن الفعل المتقدم الذي هو: {خَتَمَ} ومرفوعة بالابتداء، وخبرُها ما تقدم عليها من الجار والمجرور وهو قوله: {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ}، ويجوز أن يكون مرتفعًا بالجار والمجرور على مذهب الأخفش كأنه قال: وعلى أبصارهم استقرّ غشاوة.
وأما النصب فيه فيجوز أن يكون لكونه محمولًا على {خَتَمَ} مع تقدير حرف الجر كأنه قال: وختم على أبصارهم غشاوة أي بغشاوة، فحذف الجار وأوصل الفعل بنفسه، وهذا فيه قبحٌ؛ لأنك تفصل بين حرف العطف والمعطوف به، ويجوز أن يكون محمولًا على فعلٍ مضمرٍ يدلّ عليه الفعل
[الموضح: 243]
المتقدم وهو "خَتَمَ" فيكون تقديره: خَتَمَ الله على قلوبهم وعلى سمعهم وجعل على أبصارهم غشاوة، كما قال القائل:
5- يا ليت زوجك قد غدا = متقلدًا سيفًا ورُمحا
وقال آخر:
6- شراب ألبانٍ وتمر وأقط
وهذا فيه أيضًا ضعف؛ لقلته في حال السعة؛ ولأن أكثر ما يجيء من ذلك إنما هو في الشعر، فلهذا كان الرفع أقوى). [الموضح: 244]

قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8)}
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (7- قوله تعالى: {ومن الناس من يقول آمنا بالله}.
قرأ حمزة والكسائي {من يقول} بإدغام النون في الياء من غير غنة.
والباقون يدغمون بغنة، وذلك أن النون الخفيفة الساكنة والتنوين تظهران عند ستة أحرف، ويدغمان عند ستة، ويخفيان عند باقي حروف المعجم. فالأحرف الستة اللواتي تظر «ن» عندهن هي حروف الحلق: الهمزة والهاء والعين والحاء والخاء والغين، واللواتي تدغمان عندهن الياء، وقد ذكرته واللام بغير غنة نحو: {هدى للمتقين} والراء بغير غنة نحو: {من ربهم} والواو بغير غنة في قراءة حمزة وحده، والباقون بغنة نحو {غشاوة ولهم} و{مالهم من دونه من وال} وعند الميم بغنة لا غير نحو {عم يتساءلون} وعند النون مثلها بغنة لاغ نحو: {خلقتين من نار} {فما له من نور} ). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/63]

قوله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله تعالى: (يخادعون اللّه والّذين آمنوا وما يخدعون إلّا أنفسهم)
لم يختلف القراء في الأولى إنه بألف.
واختلفوا في الثانية فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو: (ما يخادعون) بألف. وقرأ الباقون: (وما يخدعون) بغير ألف، مع فتح الياء.
قال أبو منصور: من قرأ: (وما يخادعون إلا أنفسهم) جعل الخداع من واحد وإن كان على (مفاعلة)، ومثله قولهم: (عاقبت اللص) و(عافاه الله) و(طارقت النغل) و(قاتله الله)، في حروف كثيرة جاءت للواحد.
ومن قرأ: (وما يخادعون) فلا سؤال فيه.
وقال شمر في قول الشاعر:
وخالف المجد أقوامٌ لهم ورقٌ... راح العضاة به والعرق مدخول
قال: معنى خادع المجد: تركه). [معاني القراءات وعللها: 1/133]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (8- وقوله تعالى: {وما يخدعون إلا أنفسهم}.
قرأ نافع وابن كثير، وأبو عمرو: {يخادعون} بالألف. وقرأ الباقون بغير الألف.
وحدثني أبو بكر بن الأعرابي قال: حدثنا المبرد رحمه الله قال: يخدعون
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/63]
ويخادعون المعنيان متقاربان، غير أن يخادعون بالألف الاختيار؛ لتُعطف لفظة على شكلها.
واختلف الناس في {يخادعون} فقال أبو عبيدة: يفاعلون وفاعلت فعل من اثنين. وربما جاء الواحد كقولهم: طارقت النعل وعافاك الله من ذاك، ومن ذلك: قاتلهم الله أي: قتلهم الله، ويخادعون بمعنى: يخدعون. وقال أكثر أهل النحو: فاعلت لا يكون إلا من اثنين، فمخادعة الله إياهم أن يجازيهم جزاء خدعهم كما قال: {نسوا الله فنسيهم}.
حدثني أبو بكر بن الأعرابي، عن المبرد رضي الله عنهما أن مؤرقا العجلي قرأ: {وما يخدعون إلا أنفسهم} وكان مورق أسد الناس.
حدثنا ابن عرفة قال: حدثني محمد بن يونس عن سعيد بن عامر قال: حدثنا موسى الخلقاني قال: كان مؤرق العجلي يجيء بالصرة إلى الرجل فيقول: إذا نفدت أمددناك، وكان يودع الصرة الإنسان ثم يجيء فقول: أنت في حل.
ويقال: خدعت العين: نامت، و«بين يدي الدجال سنون خداعة» أي: ناقصة النماء والزكاء. وخدع الريق: نقص وتغير، وذلك أنه إذا نقص خثر؛ أي: غلظ، وإذا خثر جف وتغير، وبذلك يخلف فم الصائم، قال سويد:
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/64]
أبيض اللون لذيذًا طعمه = طيب الريح إذا الريق خدع). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/65]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (بسم الله
اختلفوا في ضم الياء وفتحها وإدخال الألف في قوله جلّ وعزّ: يخادعون [البقرة/ 9].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو (يخادعون... وما يخادعون) بالألف فيهما.
[الحجة للقراء السبعة: 1/312]
وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائيّ (يخادعون...
وما يخدعون) بفتح الياء بغير ألف.
قال أبو علي: قال أبو زيد: خدعت الرجل أخدعه خدعا، الخاء كسر، وخديعة. قال: وقالوا: «إنك لأخدع من ضبّ حرشته»..
وقال أبو زيد أيضا يقال: «لأنا أخدع من ضبّ حرشته»، وقد حرش الرجل الضبّ يحرشه حرشا: إذا مسح بيده على فم جحره يتسمّع الصوت، فربما أقبل وهو يرى أنّ ذلك حية، وربّما أروح ريح الإنسان، فخدع في جحره يخدع خدعا: إذا رجع في الجحر فذهب ولم يخرج.
وقال أحمد بن يحيى عن ابن الأعرابيّ: الخادع: الفاسد من الطعام ومن كلّ شيء، وأنشد:
أبيض اللون لذيذ طعمه... طيّب الريق إذا الريق خدع
[الحجة للقراء السبعة: 1/313]
خدع: فسد وتغيّر.
وقال أبو عبيدة: يخادعون اللّه [البقرة/ 9] يخدعون، وأنشد أبو زيد:
وخادعت المنيّة عنك سرّا... فلا جزع الأوان ولا رواعا
وقال أبو عبيدة أيضا: يخادعون الله والذين آمنوا فيما يظهرون: مما يستخفون خلافه.
قال الله تعالى: وما يخادعون إلا أنفسهم [البقرة/ 9] إنما تقع الخديعة بهم والهلكة.
والعرب تقول: خادعت فلانا إذا كنت تخادعه، وخدعته إذا ظفرت به.
قال بعض المتأولين أظنّه الحسن قال: (يخادعون الله) وإن خادعوا نبيه لأن الله تعالى بعث نبيّه بدينه، فمن أطاعه فقد أطاع الله (تعالى) كما قال: من يطع الرّسول فقد أطاع اللّه [النساء/ 80]
[الحجة للقراء السبعة: 1/314]
وقال: إنّ الّذين يبايعونك إنّما يبايعون اللّه [الفتح/ 10] فعلى هذا من خادعه فقد خادع الله.
فقد ذهب هذا المتأوّل إلى أن معنى يخادعون الله:
يخادعون نبيّه صلّى الله عليه وسلّم وفي تأويله تقوية لقول أبي عبيدة:
يخادعون: يخدعون، ألا ترى أنه قد جاء في الأخرى: وإن يريدوا أن يخدعوك فإنّ حسبك اللّه [الأنفال/ 62] فجاء المثال على يفعل.
ومثل قوله: (يخادعون اللّه) في إرادة مضاف محذوف على قول من ذكرناه قوله تعالى: إنّ الّذين يؤذون اللّه ورسوله [الأحزاب/ 57] التقدير يؤذون أولياء الله، لأنّ الأذى لا يصل إلى الله (سبحانه) كما أن الخداع لا يجوز عليه، فهي مثل قوله: والّذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا [الأحزاب/ 58] وفيما أنشده أبو زيد دلالة على صحة تفسير أبي عبيدة أنّ يخادعون: يخدعون، ألا ترى أنّ المنية لا يكون منها خداع كما لا يكون من الله- سبحانه- ولا من رسوله؟ فكذلك قوله: وما يخادعون إلا أنفسهم [البقرة/ 9] يكون على لفظ فاعل وإن لم يكن الفعل إلا من واحد كما كان الأول كذلك. وإذا كانوا قد استجازوا لتشاكل الألفاظ وتشابهها أن يجروا
[الحجة للقراء السبعة: 1/315]
على الثاني طلبا للتشاكل ما لا يصح في المعنى على الحقيقة، فأن يلزم ذلك ويحافظ عليه فيما يصح في المعنى أجدر وأولى، وذلك نحو قوله:
ألا لا يجهلن أحد علينا... فنجهل فوق جهل الجاهلينا
وفي التنزيل: فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم [البقرة/ 194] والثاني قصاص وليس بعدوان، وكذلك وجزاء سيّئةٍ سيّئةٌ مثلها [الشورى/ 40] وقوله:
فيسخرون منهم سخر اللّه منهم [التوبة/ 79] ونحو ذلك. فأن يلزم التشاكل في اللفظ مع صحة المعنى أولى.
ومما يؤكد ذلك قوله:
من العين الحير وقول أمّ تأبّط شرا: ليس بعلفوف تلفّه هوف.
وقد جاء هذا المثال للفاعل الواحد نحو: عاقبت اللص، وطارقت النعل، وعافاه الله.
[الحجة للقراء السبعة: 1/316]
وحجة من قرأ: (يخدعون) أن فاعل هنا بمعنى فعل فيما فسره أهل اللغة، فإذا كانا جميعا بمعنى، وكان فعل أولى بفعل الواحد من فاعل من حيث كان أخص به، كان الأولى أليق بالموضع من فاعل الذي هو في أكثر الأمر أن يكون لفاعلين إذ كانوا قد استعملوهما جميعا، ولم يكن خادع بمنزلة عاقبت اللص الذي لم يستعمل فيه إلا فاعل ورفض معه فعل.
ويدل على صحة ما ذهبنا إليه قوله تعالى في الآية الأخرى في صفة المنافقين أيضا: يخادعون اللّه وهو خادعهم [النساء/ 142]، فكما وقع الاتفاق هنا على فاعل الجاري على فعل كذلك يكون في قوله تعالى: وما يخدعون إلّا أنفسهم.
ولمن قرأ (يخادعون) وجه آخر، وهو أن ينزل ما يخطر بباله ويهجس في نفسه من الخدع منزلة آخر يجازيه ذلك ويقاوضه إياه، فعلى هذا يكون الفعل كأنّه من اثنين، فيلزم أن يقول: فاعل، وهذا في كلامهم غير ضيق، ألا ترى الكميت أو غيره قال في ذكره حمارا أراد الورود:
تذكّر من أنّى ومن أين شربه... يؤامر نفسيه كذي الهجمة الأبل
[الحجة للقراء السبعة: 1/317]
فجعل ما يكون منه من وروده الماء أو ترك الورود والتمثيل بينهما بمنزلة نفسين.
وعلى هذا قوله:
وهل تطيق وداعا أيّها الرّجل؟ وقولهم: أنا أفعل كذا وكذا أيها الرجل.
وعلى هذا المذهب قرأ من قرأ: قال أعلم أنّ اللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ [البقرة/ 259]، فنزّل نفسه- عند الخاطر الذي يخطر له عند نظره- منزلة مناظر له غيره. وأنشد الطوسي عن ابن الأعرابي.
لم تدر ما لا ولست قائلها... عمرك ما عشت آخر الأبد
[الحجة للقراء السبعة: 1/318]
ولم تؤامر نفسيك ممتريا... فيها وفي أختها ولم تكد
وأنشد بعض البصريين لرجل من فزارة:
يؤامر نفسيه وفي العيش فسحة... أيستربع الذوبان أم لا يطورها
قال: الذوبان: الأعداء.
وأنشد أحمد بن يحيى عن ابن الأعرابي:
وكنت كذات الطّنء لم تدر إذ بغت... تؤامر نفسيها أتسرق أم تزني
فهذه في المعنى كقوله:
أنخت قلوصي واكتلأت بعينها... وآمرت نفسي أيّ أمريّ أفعل
إلّا أنّ من ثنّى النفس، جعل ما يهجس في نفسه من الشيء وخلافه نفسين، ونزّل الهاجس منزلة من يخاطبه وينازله في ذلك، فكذلك يكون قوله: (وما يخادعون) على هذا). [الحجة للقراء السبعة: 1/319]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة أبي طالوت عبد السلام بن شداد، والجارود ابن أبي سبرة: [وَمَا يُخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ] بضم الياء وفتح الدال.
قال أبو الفتح: هذا على قولك: خدعتُ زيدًا نفسَه؛ ومعناه عن نفسه، فإن شئت قلت على هذا: حُذف حرف الجر، فوصل الفعل؛ كقوله عز اسمه: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا} أي: من قومه، وقوله:
أمرتك الخيرَ
[المحتسب: 1/51]
أي: بالخير. وإن شئت قلت: حمله على المعنى فأضمر له ما ينصبه، وذلك أن قولك: خدعتُ زيدًا عن نفسه، يدخله معنى: انتقصتُه نفسَه، وملكتُ عليه نفسَه، وهذا من أَسَدِّ وأَدمث مذاهب العربية، وذلك أنه موضع يملك فيه المعنى عِنَان الكلام فيأخذه إليه، ويصرِّفه بحسب ما يؤثره عليه.
وجملته: أنه متى كان فعل من الأفعال في معنى فعل آخر، فكثيرًا ما يُجْرَى أحدهما مجرى صاحبه، فيُعْدَلُ في الاستعمال به إليه، ويُحتذى في تصرفه حذو صاحبه، وإن كان طريق الاستعمال والعرف ضد مأخذه، ألا ترى إلى قوله الله جل اسمه: {هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى} ؟ وأنت إنما تقول: هل لك في كذا؟ لكنه لما دخله معنى: أَجْذِبك إلى كذا وأدعوك إليه، قال: {هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى} ؟ وعليه قول الفرزدق:
كيف تراني قاليا مِجَنِّي ... قد قتل الله زياداً عني
فاستعمل "عن" هاهنا لما دخله من معنى قد صرفه الله عني؛ لأنه إذا قتله فقد صُرف عنه.
وعليه قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ}، وأنت لا تقول: رفثتُ إلى المرأة، وإنما تقول: رفثت بها ومعها، لما كان الرفث بمعنى الإفضاء عُدي بإلى كما يُعدَّى أفضيت بإلى، نحو قولك: أفضيت إلى المرأة، وهو باب واسع ومنقاد، وقد تقصيناه في كتابنا "الخصائص"، فكذلك قوله عز وجل: [وَمَا يُخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ] جاء على خَدعْتُه نفسَه، لما كان معناه معنى: انتقصتُه نفسَه، أو تخوَّنتُه نفسَه.
ورأيتُ أبا علي -رحمه الله- يذهب إلى استحسان مذهب الكسائي في قوله:
إذا رَضِيَتْ عليَّ بنو قُشَيْر ... لعمر الله أعجنبي رضاها
[المحتسب: 1/52]
لأنه قال: عدى رضيت بعلى، كما يُعدى نقيضها وهي سخطت به، وكان قياسه: رضيت عني، وإذا جاز أن يجري الشيء مجرى نقيضه فإجراؤه مجرى نظيره أسوغ.
فهذا مذهب الكسائي، وما أحسنه! وفيه غيره على سمت ما كنا بصدده، وذلك أنه إذا رضي عنه فقد أقبل عليه، فكأنه قال: إذا أقبلَتْ عليَّ بنو قشير، وهو غور من أنحاء العربية طريف ولطيف ومصون وبَطين). [المحتسب: 1/53]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({وما يخدعون إلّا أنفسهم}
قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو {وما يخدعون إلّا أنفسهم} بالألف واحتج أبو عمرو بأن قال إن الرجل يخادع نفسه ولا يخدعها قال الأصمعي ليس أحد يخدع نفسه إنّما يخادعها
وقرأ أهل الشّام والكوفة {وما يخدعون} بغير ألف وحجتهم في ذلك أن الله أخبر عن هؤلاء المنافقين أنهم يخادعون الله والّذين آمنوا بقولهم {آمنا باللّه وباليوم الآخر} فأثبت لهم مخادعتهم الله والمؤمنين ثمّ يخبر عنهم عقيب ذلك أنهم لا يخادعونه ولا يخادعون إلّا أنفسهم فيكون قد نفى عنهم في آخر الكلام ما أثبته لهم في أوله ولكنه أخبر أن المخادعة من فعلهم ثمّ إن الخدع إنّما يحيق بهم خاصّة دونه). [حجة القراءات: 87]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (1- قوله: {وما يخدعون} قرأ الكوفيون وابن عامر بفتح الياء وإسكان الخاء، من غير ألف، وقرأ الباقون بضم الياء، وبألف بعد الخاء، وكسر الدال.
2- وعلة من قرأه بغير ألف أن أهل اللغة حكوا: خادع وخدع بمعنى واحد، والمفاعلة قد تكون من واحد كقولهم: داويت العليل، وعاقبت اللص، فلما كان «خادع وخدع» بمعنى واحد اختار «خدع» فحمله على معنى الأول، لأنه بمعنى: «يخدعون»، ولم يحمله على اللفظ، فبين على أن الأول محمول على «يخدعون»، ولم يحمله على اللفظ، فبين على أن الأول محمول على «يخدعون»، وأيضًا فإن «فعل» أخص بالواحد من فاعل إذ فاعل أكثر ما يكون من اثنين، ويقوي هذا المعنى أن مخادعتهم، إنما كانت للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، ولم يكن من النبي والمؤمنين لهم مخادعة، فدل على أن الأول من واحد بمعنى «يخدعون»،
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/224]
فجرى الثاني على معنى الأول، ويدل على ذلك قوله لنبيه عليه السلام: {وإن يريدوا أن يخدعوك} «الأنفال 62» فالخداع منهم خاصة كان، وقد أجمعوا على: {وهو خادعهم} «النساء 142» من «خدع»، وأيضًا فإن الإخبار جرى عنهم في صدر الآية بالمخادعة لله، فيبعد أن تنفي عنهم تلك المخادعة التي أوجها لهم، وأخبرنا عنهم بالمخادعة في صدر الآية، ومعنى «يخادعون الله» أي: أولياء الله وأنبياء الله، ومعنى الخداع إظهار خلاف ما في النفس، والنبي والمؤمنون لا يفعلون معهم هذا.
3- وعلة من قرأه بألف إنما لما كان «يخادعون ويخدعون» في اللغة بمعنى واحد أجرى الثاني على لفظ الأول إذ معناهما «يخدعون أولياء الله»، فذلك أحسن في المطابقة والمشاكلة بين الكلمتين أن تكونا بلفظ واحد، وأيضًا فإن المبرد قال: معناه «وما يخادعون بتلك المخادعة المذكورة أولا إلا أنفسهم، إذ وبالها راجع عليهم» فوجب ألا يختلف اللفظ، لأن الثاني هو الأول، وقد قال أبو عمرو: ليس أحد يخدع نفسه، وإنما يخادعها، فوجب أن يقرأ: {وما يخدعون إلا أنفسهم} إذ لا يخدعون أنفسهم إنما يخادعونها.
قال أبو محمد: وقراءة من قرأ بغير ألف أقوى في نفسي، لأن الخداع فعل
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/225]
قد يقع وقد لا يقع، والخدع فعل وقع بلا شك، فإذا قرأت: {وما يخدعون} أخبرت عن فعل وقع بهم بلا شك، وكذلك هو إذا قرأت: «وما يخادعون» جاز أن يكون لم تقع بهم المخادعة، وأن تكون قد وقعت، فـ «يخدعون» أمكن في المعنى، وبغير ألف قرأ الحسن وأبو جعفر ومورق وقتادة وأبو عبد الرحمن السلمي وطلحة وابن أبي ليلى وابن أبي إسحاق والجحدري والسختياني وعيسى بن عمر وابن إلياس وعمرو بن عبيد قال أبو
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/226]
حاتم: العامة عندنا على «وما يخدعون» وهي على قراءة يحيى بن وثاب والأعمش، وهي اختيار أبي عبيد وأبي طاهر وغيرهما.
قال أبو محمد: والقراءة الأخرى حسنة ويقويها اتفاق أهل المدينة ومكة عليها، وهي قراءة الأعرج وابن جندب وشيبة وابن أبي الزناد ومجاهد وابن محيصن وشبل.
قال أبو محمد: وحمل القراءتين على معنى واحد أحسن، وهو أن «خادع وخدع» بمعنى واحد في اللغة، فيكون «وما يخادعون وما يخدعون» بمعنى واحد من فاعل واحد). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/227]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (5- {وَمَا يُخْادَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} [آية/ 9]:-
بالألف وضمٌ الياء، قرأها ابن كثير ونافع وأبو عمرو.
لأن (يُخادِعُونَ) هاهنا بمعنى: يخدعون، فإن فاعل قد جاء والفعل فيه
[الموضح: 244]
من واحد، كعاقبت اللص، وطارقت النعل، وإنما جاء هاهنا فاعل بمعنى فعل ليشاكل لفظه لفظ الأول وإن كان المعنى غير الأول طلبًا لمزاوجة اللفظ.
وقرأ الباقون "يخدعون" مفتوحة الياء من غير ألفٍ.
لأن فاعل في القراءة الأولى بمعنى فعل أيضًا، فإذا كان كذلك ففعل الذي هو الأصل أولى؛ لأنه أخصّ بفعل الواحد من فاعل الذي هو في غالب الأمر من اثنين، ويقوِّيه قوله تعالى في الآية الأخرى {يُخَادِعُونَ الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ} ). [الموضح: 245]

قوله تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (فزادهم اللّه مرضًا)
كسر حمزة الزاي من "فزادهم). وكذلك قرأ ابن عامر.
وفتح الباقون الزاي وما أشبهها.
غير أن نافعا يلفظ بها بين الفتح والكسر، وهو إلى الفتح أقرب.
[معاني القراءات وعللها: 1/133]
وأخبرني المنذري عن أبي العباس أنه احتج لحمزة وكسرة الزاي لقولك: (زدت) فتكسر الزاي،
وقوله: (في قلوبهم مرضٌ).
اتفقوا كلهم على فتح الراء من (مرض).
وروى ابن دريد عن أبي حاتم عن الأصمعي عن أبي عمرو أنه قرأ: (في قلوبهم مرضٌ) ساكنة الراء.
قال أبو منصور: ولا يعرج على رواية ابن دريد، فإنه غير ثقة والقراءة (مرض) لا غير.
قوله جلّ وعزّ: (بما كانوا يكذبون).
قرأ عاصم وحمزة والكسائي (يكذبون) خفيفا وقرأ الباقون: (يكذّبون) مشددا.
فمن قرأ: (يكذبون) فمعناه: بكذبهم.
ومن قرأ: (يكذّبون) فمعناه: بتكذيبهم الأنبياء، و(ما) في الفعلين (ما) المصدر، المعنى: بكذبهم، أو: بتكذيبهم). [معاني القراءات وعللها: 1/134]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (9- وقوله تعالى: {فزادهم الله مرضا}
قرأ حمزة وابن عامر برواية ابن ذكوان {فزادهم الله} بالإمالة، وكذلك شاء وجاء وفتح الباقي. وقرأ الباقون كلهم بفتح ذلك كله.
فمن كسر فحجته أن عين الفعل منها مكسورة، وإذا ردها المتكلم إلى نفسه كانت ألفًا مكسورة نحو: زاد وزدت، وطاب وطبت وشاء وشئت، فلهذه العلة قرأ حمزة {فلما زاغوا أزاغ الله قلوهم} بالإمالة {أزاغ الله} بالفتح، لأنك تقول زغت وأزغت، وكذلك {فأجآها المخاض} ولم يقرأ {فأجاها} بالإمالة؛ لأنك تقول: أجأت.
ومن فتح أوائلها فإنه أتى بالكلمة على أصلها، وأصل كل فعل إذا كان ثلاثيًا أن يكون أوله مفتوحًا.
ومن كسر بعضًا وفتح بعضًا فإنه أتى باللغتين ليعلم أن هذا جائز، وأن لا يخرج القارئ إذا قرأ بأحدهما أو بهما، كما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ملك يوم الدين} و{مالك يوم الدين}.

10- وقوله تعالى {بما كانوا يكذبون}.
قرأ أبو عمرو ونافع وابن كثير وابن عامر {يكذبون} مشددة.
وقرا الباقون {يكذبون}
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/65]
قال أبو عبد الله رضي الله عنه سمعت ابن مجاهد يقول: معنى القراءتين متقارب؛ لأن من كذب بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فقد كذب غيره؛ لأن كذب فعل لازم يقال: كذب زيد في نفسه، وكذب وأكذب غيره، وفرق الكسائي بين كذب وأكذب فقال: يقال: أكذبت فلانًا إذا أخبرت أن الذي جاء به كذب وإن كان صادقًا في نفسه، وكان يقرأ: {فإنهم لا يكذبونك}.
وقال الآخرون: كذب زيد في نفسه وكذب غيره وأكذبه: إذا صادفه كاذبًا كما يقال: أحمقت زيدًا، أي صادفته أحمق، وكذلك أحمدته أي أصبته محمودًا، كما قال القائل للنبي صلى الله عليه وسلم: «لقد سألناكم فما أبخلناكم، وقاتلناكم فما أجبناكم» أي: ما صادفناكم بخلاء جبناء ممدودان. والصواب: أن عمرو بن معد يكرب قال لقوم من العرب هذا.
أخبرنا ابن دريد، عن أبي عثمان عن التوزي، عن أبي عبيدة أن عمرو بن معد يكرب أتى مجاشع بن مسعود بالبصرة يسأله الصلة فقال: اذكر حاجتك.
فقال: حاجتي صلة مثلي، فأعطاه عشرين ألفًا، وفرسًا من بنات الغمراء
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/66]
وسيفًا قياميًا، وغلامًا خبازًا. فلما خرج من عنده قال له أهل المجلس: كيف وجدت صاحبك؟
قال: لله در بني سليم ا أشد في الهيجاء قتالها، وأكرم في اللزبات عطاءها، وأثبت في المكرمات بناءها، والله لقد قاتلتها فما أجبنتها، وسألتها فما أبخلتها وهاجيتها فما أفحشتها. فأما قول الشاعر:
لست أبالي أن أكون محمقه
إذا رأيت خصية معلقه
فإنه يُقال: أحمقت المرأة: إذا ولدت الحمقى، فتقول هذه المرأة: لست أبالي إذا ولدت ذكرًا أن يكون أحمق). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/67]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (بسم الله...
قوله، عزّ وجلّ: فزادهم اللّه مرضاً [البقرة/ 10].
قرأ حمزة فزادهم اللّه مرضاً بكسر الزاي. وكذلك شاء وجاء وطاب وخاف وضاق وضاقت، وفتح الزاي من:
زاغت الأبصار [الأحزاب/ 10] وكسر الزاي من قوله: فلمّا زاغوا [الصف/ 5] وفتح الزاي في أزاغ اللّه قلوبهم [الصف/ 5] وكسر الراء من: بل ران على قلوبهم [المطففين/ 14] وفتح الجيم من فأجاءها [مريم/ 23].
وكان ابن عامر يكسر من ذلك كلّه ثلاثة أحرف:
(فزادهم، وشاء وجاء).
وكان نافع يشمّ الزاي من (فزادهم) الإضجاع في رواية خلف عن إسحاق وابن جماز وإسماعيل بن جعفر عنه، وكذلك أخوات (فزادهم) لا مفتوح ولا مكسور.
قال ابن سعدان عن إسحاق: كل ذلك بالفتح.
قال ابن سعدان. وكان إسحق إذا لفظ «فزادهم» كأنه
[الحجة للقراء السبعة: 1/320]
يشير إلى الكسر قليلا، فإذا قلت له: إنك تشير إلى الكسر، قال: لا، ويأبى إلا الفتح.
وقال ابن جماز: كان نافع يضجع من ذلك كله قوله:
خاب [طه/ 61].
حدثنا ابن مجاهد قال: أخبرني عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبي موسى الهروي، عن عباس، عن خارجة، عن نافع، مكسورة يعني (خاب).
وقال خلف وابن سعدان عن إسحاق عن نافع: (بل ران)، الراء بين الفتح والكسر.
قال محمد بن إسحاق عن أبيه عن نافع: (بل ران) مفتوحة الراء.
وكان عاصم لا يميل شيئا من ذلك إلّا قوله: بل ران على قلوبهم في رواية أبي بكر عنه، وروى عنه حفص الفتح.
وكان الكسائي يقول في ذلك كلّه كقول عاصم ويميل (بل ران).
[الحجة للقراء السبعة: 1/321]
وروى أبو عبيد عن الكسائي في: شاء [البقرة/ 20] وجاء [النساء/ 43] بين الفتح والكسر.
وقال نصير بن يوسف وغيره عنه: إنّه فتحها.
وكان ابن كثير وأبو عمرو يفتحان ذلك كلّه.
قوله تعالى: في قلوبهم مرضٌ فزادهم اللّه مرضاً [البقرة/ 10].
قالوا: زاد يزيد زيادة وزيدا، وفي التنزيل: للّذين أحسنوا الحسنى وزيادةٌ [يونس/ 26].
وقالوا: زيدا، أنشد أبو زيد:
كذلك زيد المرء ثم انتقاصه وزدت فعل يتعدى إلى مفعولين؛ قال: وزدناهم هدىً [الكهف/ 13] وقال: زدناهم عذاباً فوق العذاب [النحل/ 88]، وقال: وزاده بسطةً في العلم والجسم [البقرة/ 247].
وأما قوله: فزادهم إيماناً [آل عمران/ 173]
[الحجة للقراء السبعة: 1/322]
فالمعنى: زادهم قول الناس لهم إيمانا، أضمر المصدر في الفعل وأسند الفعل إليه، وكذلك قوله: فلمّا جاءهم نذيرٌ ما زادهم إلّا نفوراً [فاطر/ 42]، أي: ما زادهم مجيء النذير، وقال:
وصدق اللّه ورسوله وما زادهم إلّا إيماناً [الأحزاب/ 22] أي: ما زادهم نظرهم إليهم أو رؤيتهم لهم إلّا إيمانا.
ومثل ذلك من إضمار المصدر في الفعل لدلالة الفعل عليه قوله تعالى: والّذين كفروا بعضهم أولياء بعضٍ إلّا تفعلوه [الأنفال/ 73] أي: إلا تفعلوا هذه الموالاة.
ومثل ذلك كثير في التنزيل وغيره.
وقال: ولبثوا في كهفهم ثلاث مائةٍ سنين وازدادوا تسعاً [الكهف/ 25] أي: ازدادوا لبث تسع، فحذف المصدر وأقيم المضاف إليه مقامه، فانتصاب تسع على هذا انتصاب المفعول به لا انتصاب الظرف، كما أن المضاف لو ظهر وأضيف إلى التسع كان كذلك.
وأما المرض فقال أبو عبيدة في تأويله: شك ونفاق، كأنه جعل ما في قلوب المنافقين من ذلك خلاف ما في قلوب المؤمنين من اليقين والإيمان.
وقيل: إن قوله: فيطمع الّذي في قلبه مرضٌ [الأحزاب/ 32] أي فجور.
[الحجة للقراء السبعة: 1/323]
وقال سيبويه: أمرضته: جعلته مريضا، ومرّضته: قمت عليه ووليته.
وقال السدي: فزادهم الله مرضا، أي زادهم عداوة الله مرضا. وهذا في حذف المضاف كقول من قال في (يخادعون اللّه): إنّ المعنى يخادعون رسول الله، ومثله في حذف المضاف قوله: فويلٌ للقاسية قلوبهم من ذكر اللّه [الزمر/ 22] المعنى من ترك ذكر الله، كما قال في صفة المنافقين: يراؤن النّاس ولا يذكرون اللّه إلّا قليلًا [النساء/ 142].
ويجوز أن يكون المعنى أنّهم إذا ذكر الله قست قلوبهم خلاف المؤمنين الذين قيل فيهم: إنّما المؤمنون الّذين إذا ذكر اللّه وجلت قلوبهم [الأنفال/ 2].
الإعراب
قال: زادهم، فلم ينقل حركة العين التي هي الكسرة التي نقلت فتحة العين من زاد إليها إلى الفاء كما نقلت في زدت، وشذ ذلك في الاستعمال والقياس، لما كان يؤدي إليه من التباس فعل بفعل، ولأنّ الألف إذا ثبتت في زاد وباع- والذي يوجب قلبها ألفا هو تقدير الحركة فيها- صارت الحركة بانقلاب الحرف إلى الألف بمنزلة الثابتة في الحرف، فلما كان
[الحجة للقراء السبعة: 1/324]
كذلك، وكان الحرف الذي هو متحرك بها ثابتا غير محذوف لم ينقل عنه، ولذلك لم تنقل الحركة التي تجب للّام في مصطفون والأعلون ونحوهما إلى ما قبلها، كما نقل في قاضون وغازون ورامون. وعلى هذا لم يقدّر حذف الحركة من الألف فيمن روى:
كأن لم تري قبلي أسيرا يمانيا وقوله:
ولا ترضّاها ولا تملّق ونحو ذلك، كما قدرنا حذفها من قوله:
ألم يأتيك والأنباء تنمي و: لم تهجو ولم تدع لأن الياء قد جاء متحركا في نحو:
غير ماضي
[الحجة للقراء السبعة: 1/325]
وليس الألف كذلك، لأنّه في ثباتها ألفا كأن الحركة ثابتة فيها، فلا يصح نقلها إلى غيرها من الحروف مع ثباتها في الموضع الذي هي ثابتة فيه. وليس كذلك: بعت وقلت وخفت، لأنّك في هذه المواضع قد حذفت الحروف، والحروف إذا حذفت قد تنقل حركاتها إلى ما قبلها. ألا ترى الخب في التخفيف، وضوا، ومولة، وجيل، ونحو ذلك.
وقد تنقل حركة الحرف المتحرك إلى ما قبله والحرف ثابت غير محذوف، نحو قول من قال: قتّل في اقتتل، فإذا حذف كان نقل حركته إلى ما قبله أولى ليدل على المحذوف كما أجمع على ذلك في حذف الهمز في التخفيف.
فأمّا وجه قول من أمال الألف في زاد، فهو أنّه أراد أن يدل بالإمالة على أن العين ياء، كما أميلت الألف في حبالى، ليعلم أن الواحد من هذا الجمع قد كانت الإمالة جائزة فيه،
[الحجة للقراء السبعة: 1/326]
وكما أبدلت الواو من الهمزة المنقلبة عن الحرف الزائد في هراءى وأداءى وعلاءى، ليعلم أن الواو كانت ظاهرة في الواحد، ورفضوا أن يبدلوا منها الياء كما أبدلت منها في خطايا ومطايا ليعلم أن الواو كانت ثابتة في آحاد هذه الجموع.
وكما صحّحوا الواو في مقاتوه ليعلموا أن الواو في واحده، وهو مقتوي، قد صحت.
وكذلك صحّحوا الواو في سواسوة فيما حكاه أبو عمر وأبو عثمان عن أبي عبيدة ليعلم أنّه من مضاعف الأربعة، فكما حافظوا على هذه الحروف في هذه المواضع فألزموها ما يدل عليها، كذلك أمال من أمال الألف ليحافظ على الحرف الذي هو الأصل.
ومما يقوّي قول من أمال (زاد) ونحوه ليدل بالإمالة على الياء أن الجميع أبدلوا من الضمة كسرة في بيض وعين وجيد جمع أبيض وأعين وجيداء لتصح الياء، ولا تنقلب إلى الواو.
فكما حوفظ على تصحيح الياء في هذه الأشياء كذلك حوفظ عليها بإمالة الألف نحوها، لتدلّ عليها. يدلك على ذلك أنّ الذين أمالوا نحو: «زاد، وباع، وناب، وعاب»، لم يميلوا نحو: عاذ، وعاد، ولا بابا، ومالا، ولا ما أشبه ذلك مما العين
[الحجة للقراء السبعة: 1/327]
منه واو حيث لم تكن في الكلمة ياء ولا كسرة فتنحى الألف بالإمالة نحوهما.
ومما يقوي الإمالة في زاد ونحوه: أنّه اجتمع فيه أمران كل واحد منهما يوجب الإمالة: وهو لحاق الكسرة أول فعلت، والآخر: أن تمال الألف ليعلم أنّها من الياء. فإذا كان كل واحدة من هاتين الخلتين على الانفراد توجب الإمالة في هذا النحو، فإذا اجتمعتا كان أجدر أن توجباها وتجلباها.
ومما يقوّي الإمالة في: زاد وباع وكال ونحو ذلك، أنّ الحروف المستعلية والراء إذا كانت مفتوحة تمنعان الإمالة، ألا ترى أنّ من أمال نحو: عالم، وسائل، لم يمل نحو ظالم، وغانم، وراشد، ولم يمل، رابيا في قوله:
فاحتمل السّيل زبداً رابياً [الرعد/ 17] لمكان المستعلي والراء المفتوحة، ولم يجعلوهما في هذا الموضع تمنعان الإمالة كما منعتا في غيره. فلولا تأكد الإمالة في ألفات هذه الأفعال لما أمالوها مع ما يمنع من الإمالة في غير هذا الموضع.
قال سيبويه: بلغنا عن ابن أبي إسحاق أنّه سمع كثير عزة يقول: صار مكان كذا. وإذا لم يمنع المستعلي أولا في
[الحجة للقراء السبعة: 1/328]
صار لم يمتنع آخرا في زاغ، وإذا لم يمنعها المستعلي لم تمنع الراء في نحو: بل ران على قلوبهم [المطففين/ 14].
بسم الله: اختلفوا في ضمّ الياء والتشديد وفتحها والتخفيف في قوله تعالى: بما كانوا يكذبون [البقرة/ 10].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر: بما كانوا يكذبون، بضم الياء وتشديد الذال.
وقرأ عاصم وحمزة والكسائي: (يكذبون) بفتح الياء وتخفيف الذال.
قال أبو علي: كذب يكذب كذبا وكذابا. قال: أفترى على اللّه كذباً [سبأ/ 8].
وقال الأعشى:
والمرء ينفعه كذابه فالكذب كالضحك واللعب.
[الحجة للقراء السبعة: 1/329]
قال سيبويه: والكذاب كالكتاب والحجاب. وفي التنزيل: وكذّبوا بآياتنا كذّاباً [النبأ/ 28]، فالكذّاب على وزن الإكرام، ولم يجيء المصدر كمصادر دحرج وصعرر ليعلم أن الفعل ليس للإلحاق، كما لم يجيء أصمّ وأعدّ على وزن قردد وجلبب.
وحكى أبو زيد بيتا ذكر أنه لجريبة بن الأشيم، جاهلي وهو:
فإذا سمعت بأنّني قد بعته... بوصال غانية فقل كذّبذب
قال أبو زيد: كذّبذب: كاذب، وحكي عن أبي عمر في تفسيره: كذب.
فالكلمة على تفسير أبي زيد صفة وعلى ما حكي من تفسير أبي عمر اسم، فيكون المبتدأ المضمر: القائل ذلك كاذب، وعلى القول الآخر ما سمعت كذب.
وهذه الكلمة تحكى فيما شذ عن سيبويه من الأبنية.
[الحجة للقراء السبعة: 1/330]
ولولا ثقة أبي زيد وسكون النفس إلى ما يرويه لكان ردها مذهبا، لكونه على ما لا نظير له، ألا ترى أن العين إذا تكرر مع اللام في نحو صمحمح وجلعلع لا يكرر إلا مرتين، وقد تكررت في هذه ثلاث مرات. ومع ذلك فقد قالوا:
مرمريس، فتكررت الفاء مع العين فيها ولم تتكرر في غيرها، ولم يلزم من أجل ذلك أن يردّ ولا يقبل، فكذلك ما رواه أبو زيد من هذه الكلمة.
والكذب: ضرب من القول، وهو نطق، كما أن القول نطق.
فإذا جاز في القول الذي الكذب ضرب منه أن يتسع فيه فيجعل غير نطق في نحو:
قد قالت الأنساع للبطن الحق ونحو قوله في وصف الثور:
فكرّ ثم قال في التفكير
[الحجة للقراء السبعة: 1/331]
وجاز أن يجعل في هذه المواضع وغيرها غير نطق، فكذلك يجوز في الكذب أن يجعل غير نطق في نحو قوله:
... كذب القراطف والقروف فيكون في ذلك انتفاء لها، كما أنّه أخبر عن الشيء على خلاف ما هو به كان انتفاء للصدق فيه. وكذلك قول الآخر:
إذا المعسيات كذبن الصّبو... ح خبّ جريّك بالمحصن
أي: إذا انتفى الصبوح منهن، فلم يوجد فيهن، أطعمت من مدّخر الطعام وغير ألبان هذه الإبل التي يظن أن فيهن الصبوح، فجعل كون الشيء على خلاف ما يظنّ كذبا وإن لم يكن قولا، فعلى هذا قالوا: «كذب القراطف»، أي: هو منتف
[الحجة للقراء السبعة: 1/332]
ليس له وجود، كما أن كذب في الخبر على ذلك، فكذلك كذب الصبوح، أي: ليس يوجد، وكذب القراطف أي فأوجدوها بالغارة، وكذلك كذب عليكم العسل، وحمل فلم يكذّب، [أي: لم يجعل الحملة في حكم غير الحملة، ولكنه أوجدها وأوقعها]، وقالوا: حمل عليه ثم أكذب، يعنون كذب، وعلى هذا قالوا: حملة صادقة، وصدق القوم القتال.
وقال:
فإن يك ظني صادقي وهو صادقي فكما وصفوه بالكذب وصفوه بخلافه الذي هو الصدق، وكذلك قوله: ليس لوقعتها كاذبةٌ [الواقعة/ 2] أي: هي الواقعة وغير منتف كونها.
والكاذبة يشبه أن يكون مصدرا، كالعاقبة والعافية ونحو ذلك. فالفعل الذي هو كذب في هذا النحو ينبغي أن يكون الفاعل مسندا إليه، وعليك: معلّقة به.
فأمّا ما روي من قول من نظر إلى بعير نضو فقال لصاحبه: «كذب، عليك البزر والنّوى» بنصب البزر، فإن عليك فيه لا يتعلق بكذب، ولكنه يكون اسم الفعل، وفيه ضمير
المخاطب، فأما كذب ففيه ضمير الفاعل كأنه قال: كذب السّمن، أي: انتفى من بعيرك فأوجده بالبزر والنّوى، وهما مفعولا عليك وأضمر السّمن لدلالة الحال عليه من مشاهدة عدمه.
[الحجة للقراء السبعة: 1/333]
فأمّا قوله:
كذبت عليكم أوعدوني وعلّلوا... بي الأرض والأقوام قردان موظبا
فإنّ معنى (كذبت عليكم): لست لكم، وإذا لم أكن لكم ولم أعنكم كنت منابذا لكم ومنتفية نصرتي عنكم، ففي ذلك إغراء منه لهم به، فهو مثل: كذب القراطف.
وقال أبو زيد: قد كعّ الرجل عن الأمر فهو يكع، إذا أراد أمرا ثم كفّ عنه مكذّبا عند قتال أو غيره. قال: وتقول:
احرنجم الرجل فهو محرنجم، وهو الذي يريد الأمر ثم يكذّب فيرجع، فقد استعمل أبو زيد هذه اللفظة كما ترى في الموضع الذي ينتفي فيه ما كان أريد فلم يوقع، وكذلك قول أبي دواد:
قلت لمّا فصلا من قنّة... كذب العير وإن كان برح
يقول: لما فصل الفرس والحمار أخذ الحمار على يمين الفارس، وذاك أنّه يصعب الطعن من ناحية يمين الفارس،
[الحجة للقراء السبعة: 1/334]
فقال: كذب العير، فإنّه يطعن وإن برح، فجعل تقديره انتفاء الطعن عنه كذبا منه، فهذا الأصل في هذه الكلمة، وليس كما ذكر بعض رواة اللغة أنّ كذّب يجيء زيادة في الحديث.
فأمّا قول عنترة:
كذب العتيق وماء شن بارد... إن كنت سائلتي غبوقا فاذهبي
فإن شئت قلت فيه: إن المعنى في «كذب» أنّه لا وجود للعتيق الذي هو التمر، فاطلبيه، وإذا لم تجدي التمر فكيف تجدين الغبوق؟
وإن شئت قلت: إن الكلمة لما كثر استعمالها في الإغراء بالشيء والبعث على طلبه وإيجاده صار كأنّه قال بقوله لها:
عليك العتيق، أي: الزميه، ولا يريد بها نفيه، ولكن إضرابها عما عداه، فيكون العتيق في المعنى مفعولا به، وإن كان لفظه مرفوعا مثل: سلام عليك ونحوه مما يراد به الدعاء، واللفظ على الرفع.
وحكى محمد بن السريّ عن بعض أهل اللغة- في كذب العتيق- أنّ مضر تنصب به. وأن اليمن ترفع به، وقد تقدم ذكر وجه ذلك.
ومن الكذب الذي ليس في الإخبار كقوله: كذب
[الحجة للقراء السبعة: 1/335]
القراطف- قول ذي الرّمّة:
وللشول أتباع مقاحيم برّحت... به وامتحان المبرقات الكواذب
فالكواذب: النوق التي تظهر أنها قد لقحن وليس كذاك، فيردهن الفحل إلى الطّروقة. وقريب من ذلك قوله:
إذا قلت عاج أو تغنّيت أبرقت... بمثل الخوافي لاقحا أو تلقّح
فالمتلقّح: التي تري أن بها لقاحا، وليست كذلك، فهي مثل الكواذب في بيته الآخر.
[الحجة للقراء السبعة: 1/336]
ومما يبيّن أن الكذب في هذه الأشياء التي ليست من القول على ما تأولنا قول الأعشى:
إذا ما الآثمات ونين حطّت... على العلّات تجتزع الإكاما
قالوا: الآثمات: البطاء اللواتي لا يصدقن في السير، فهذا يدلك على صحة ما ذكرناه في قولهم: حمل فلم يكذّب، وكذب عليك الحجّ، وكذب عليكم العسل، ألا ترى أن الإثم كالكذب كما أن البر كالصدق؟
قال أبو علي: حجة من قال: يكذبون [البقرة/ 10]- بفتح الياء وتخفيف الذال، أن يقول: إن ذلك أشبه بما قبل الكلمة وبما بعدها، فالذي قبلها مما يدل على الكذب ويكذبون- قوله تعالى: ومن النّاس من يقول آمنّا باللّه وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين [البقرة/ 8].
فقولهم: آمنا بالله كذب منهم، فلهم عذاب أليم بكذبهم.
هذا الذي تقدم قولهم له وحكايته عنهم.
وما بعدها قوله تعالى: وإذا لقوا الّذين آمنوا قالوا آمنّا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنّا معكم إنّما نحن مستهزؤن [البقرة/ 14].
فقولهم- إذا خلوا إلى شياطينهم- إنا معكم دلالة على
[الحجة للقراء السبعة: 1/337]
كذبهم فيما ادعوه من إيمانهم، وإذا كان أشبه بما قبله وما بعده كان أولى.
ومما يدل على ترجيح ذلك أن يقال: إن قوله: ولهم عذابٌ أليمٌ بما كانوا يكذبون لا يخلو من أن يراد به المنافقون أو المشركون أو الفريقان جميعا.
فإن كان المعنيّون بذلك المنافقين فقد قال الله فيهم:
واللّه يشهد إنّ المنافقين لكاذبون [المنافقون/ 1].
وإن كانوا المشركين فقد قال: وإنّهم لكاذبون ما اتّخذ اللّه من ولدٍ [المؤمنون/ 90، 91] وقال: وإنّهم لكاذبون. أصطفى البنات على البنين [الصافات/ 152، 153].
وإن كان الذين عنوا به الفريقين فقد أخبر عنهم جميعا بالكذب الذي يلزم أن يكون فعله يكذبون دون يكذّبون.
وحجة من قال: (يكذّبون) أن يقول: يدل على التثقيل قوله تعالى: ولقد كذّبت رسلٌ من قبلك فصبروا على ما كذّبوا [الأنعام/ 34].
وقوله تعالى: بل كذّبوا بما لم يحيطوا بعلمه [يونس/ 39] وإن كذّبوك فقل لي عملي ولكم عملكم
[الحجة للقراء السبعة: 1/338]
[يونس/ 41] وإن يكذّبوك فقد كذّبت رسلٌ من قبلك [فاطر/ 41] والّذين كفروا وكذّبوا [البقرة/ 39] ونحو ذلك من الآي.
فإن قلت: فكيف جاء: فإنهم لا يكذبونك، والمعنى لا يجدونك كاذبا، لأنّهم قد عرفوا أمانتك وصدقك، وعرفت بذلك فيهم. قال أبو طالب:
إنّ ابن آمنة الأمين محمّدا يؤكد ذلك قوله: ولكنّ الظّالمين بآيات اللّه يجحدون [الأنعام/ 33] أي بردّ آيات الله، أو إنكار آيات الله يجحدون، أي: يجحدون ما عرفوه من صدقك وأمانتك.
ومثل ذلك قوله تعالى: وآتينا ثمود النّاقة مبصرةً فظلموا بها [الاسراء/ 59]، أي: ظلموا بردها أو الكفر بها، فكما أن الجارّ في قوله:
(فظلموا بها) من صلة (ظلموا) كذلك يكون من صلة الظلم في قوله: ولكنّ الظّالمين بآيات اللّه يجحدون [الأنعام/ 33].
ويجحدون محذوف المفعول للدلالة عليه والتكذيب أكبر من الكذب، لأنّ كلّ من كذّب صادقا فقد كذب، وليس كلّ من كذب كان مكذّبا لغيره). [الحجة للقراء السبعة: 1/339]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قال ابن دريد عن أبي حاتم عن الأصمعي عن أبي عمرو: [فِي قُلُوبِهِمْ مَرْضٌ] ساكنة.
قال أبو الفتح: لا يحوز أن يكون [مَرْض] مخففًا من مَرَض؛ لأن المفتوح لا يخفف؛ وإنما ذلك في المكسور والمضموم كإِبِل وفَخِذ، وطُنُب وعَضُد، وما جاء عنهم من ذلك في المفتوح فشاذ لا يقاس عليه، نحو قوله:
وما كل مبتاع ولو سَلْف صفقُه ... يراجع ما قد فاته برِداد
يريد: سَلَف، فأسكن مضطرًّا، وعلى أننا قد ذكرنا هذا في كتابنا الموسوم "بالمنصف"، وهو شرح تصريف أبي عثمان، وهذا ونحوه قد جاء في الضرورة، والقرآن يُتخير له ولا يتخير عليه.
[المحتسب: 1/53]
وينبغي أن يكون [مَرْض] هذا الساكن لغة في "مرَض" المتحرك؛ كالحلْب والحلَب، والطرْد والطرَد، والشل والشلل، والعيب والعاب، والذَّيم والذَّام. وقد دللنا في كتابنا الخصائص على تقاود الفتح والسكون، ولأنهما يكادان يجريان مجرى واحدًا في عدة أماكن.
منها أن كل واحد منهما قد يُفْزَع ويُسْتَروح إليه من الضمة والكسرة، ألا تراهم قالوا في غُرُفات ونحوها تارة: غُرَفَات بالفتح، وأخرى: غُرْفَات بالسكون، كما قالوا في سِدِرات تارة: سِدَرات بالفتح، وأخرى: سِدْرات بالسكون.
وأجرَوْا أيضًا الياء المفتوحة في اقتضائها الإمالة مجرى الياء الساكنة، فأمالوا نحو: السَّيَال والصِّيَاح، كما أمالوا نحو: شَيْبان وقيس عَيْلان، وقالوا: ضرب يدها، فأمالوا فتحة الدال للياء المفتوحة، وقالوا أيضًا في تكسير جواد: جياد، فأعلُّوا العين كما أعلوها في ثوب وثياب، فأجروا "واو" جواد مجرى "واو" ثوب، وقالوا: مرِض مَرْضًا فهو مارض، كما قالوا: حَرِد حَرْدًا فهو حارد، والفعل كالأصل في مصادر الثلاثية لا سيما في المتعدي منها، والمتعدي أكثر من غير المتعدي؛ فلذلك ساغ فيها فَعْل.
وإنما كان المتعدي أكثر من غيره من قِبَل أن الفعل قد يكون حديثًا عن المفعول به، نحو: ضُرب زيدٌ، كما يكون حديثًا عن الفاعل، نحو: قام زيد. فكما لَا بُدَّ للفعل من الفاعل، فكذلك كثر المتعدي؛ لأن في ذلك تسبُّبًا إلى أن يكون الفعل حديثًا عن المفعول). [المحتسب: 1/54]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون}
[حجة القراءات: 87]
قرأ حمزة فزادهم الله بالإمالة وكذلك جاء وشاء وخاب وحاق وخاف وطاب وضاق وزاغ ودخل ابن عامر معه في جاء وشاء و{فزادهم الله} وحجتهما في ذلك أن فاء الفعل منها مكسورة إذا ردها المتكلّم إلى نفسه نحو زدت وجئت وطبت ولهذا قرأ حمزة {فلمّا زاغوا} بالإمالة أزاع الله بالفتح لأن فاء الفعل مفتوحة تقول أزغت وكذلك فأجاءها المخاض بغير إمالة لأنّك تقول أجأت وقرأ الباقون جميع ذلك بغير إمالة على أصل الكلمة وحجتهم في ذلك أن أصل كل فعل إذا كان ثلاثيا أن يكون أوله مفتوحًا
قرأ عاصم وحمزة والكسائيّ {بما كانوا يكذبون} بالتّخفيف وقرأ الباقون بالتّشديد من كذب يكذب تكذيبًا أي إنّهم يكذبون النّبي صلى الله عليه وسلم والقرآن وحجتهم ما روي عن ابن عبّاس قال إنّما عوتبوا على التّكذيب لا على الكذب وفي التّنزيل ما يدل
[حجة القراءات: 88]
على التثقيل {ولقد كذبت رسل من قبلك}
وحجّة أخرى أن وصفهم بالتكذيب أبلغ في الذّم من وصفهم بالكذب لأن كل مكذب كاذب وليس كل كاذب مكذبا
وحجّة التّخفيف أن ذلك أشبه ما قبل الكلمة وما بعدها فالّذي قبلها ممّا يدل على الكذب {ومن النّاس من يقول آمنا باللّه وباليوم الآخر} وقال الله {ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون} وما بعدها قوله {وإذا لقوا الّذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنّا معكم} فقوله {وإذا خلوا إلى شياطينهم} دلالة على كذبهم فيما ادعوه من إيمانهم وإذا كان أشبه بما قبله وما بعده فهو أولى). [حجة القراءات: 89]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (4- قوله: {بما كانوا يكذبون} قرأه الكوفيون بفتح الياء مخففًا، وقرأه الباقون بضم الياء مشددًا.
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/227]
5- وعلة من خفف أنه حمله على ما قبله؛ لأنه قال تعالى: {وما هم بمؤمنين} «8» فأخبرهم أنهم كاذبون في قوله: آمنا بالله وباليوم الآخر فقال: وما هم بمؤمنين، أي: ما هم بصادقين في قولهم، ثم قال: {ولهم عذابٌ أليم بما كانوا يكذبون} أي بكذبهم في قولهم: آمنا بالله وباليوم الآخر، وأيضًا فإن التخفيف محمول على ما بعده؛ لأنه قال تعالى ذكره بعد ذلك: {وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنما نحن مستهزئون} «14» فقولهم لشياطينهم إنا معكم، دليل على كذبهم في قولهم للمؤمنين: آمنا، فحسنت القراءة بالتخفيف، ليكون الكلام على نظام واحد، مطابق لما قبله ولما بعده، وأيضًا فلابد أن يراد بالآية المنافقون أو الكافرون، أو هما جميعًا، فإن أراد المنافقين فقد قال فيهم: {والله يشهد إن المنافقين لكاذبون} «المنافقون 1» وإن أراد المشركين فقد قال فيهم: {وإنهم لكاذبون. ما اتخذ الله من ولد} «المؤمنون 90، 91» وإن أرادهما جميعًا فقد أخبرنا عنهم في هذين الموضعين بالكذب، فالكذب أولى بالآية، وبالتخفيف قرأ الحسن وأبو عبد الرحمن، وقتادة، وطلحة، وابن أبي ليلى، والأعمش، وعيسى ابن عمر، وهو اختيار أبي عبيد وأبي طاهر وغيرهما.
6- وعلة من شدده أنه حمله أيضًا على ما قبله، وذلك أن الله جل ذكره قال عنهم: {في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضًا}، والمرض الشك، ومن شك في شيء فلم يتقينه، ولا أقر بصحته، ومن لا يقر بالشيء، ولا آمن بصحته، فقد كذب به وجحده، فهم مكذبون لا كاذبون، وأيضًا فإن التكذيب أعم من الكذب، وذلك أن كل من كذب صادقًا فقد كذب في فعله، وليس كل من كذب
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/228]
مكذبًا لغيره، فحمل اللفظ، على ما يعم المعنيين، أولى من حمله على ما يخص أحد المعنيين، وقد قال أبو عمرو: إنما عوقبوا على التكذيب للنبي وما جاءوا به، لم يعاقبوا على الكذب، وروي نحوه عن ابن عباس، وبالتشديد قرأ الأعرج وأبو جعفر يزيد وشيبة ومجاهد وأبو رجاء وشبل، وهو اختيار أبي حاتم، وقال أبو حاتم: قراءة العامة عندنا بالتشديد، قال: والتثقيل أحب إلي، مع ما أنها قراءة أهل المدينة ومكة، قال أبو محمد: والقراءتان متداخلتان ترجع إلى معنى واحد، لأن من كذب رسالة الرسل وحجة النبوة فهو كاذب على الله، ومن كذب على الله وجحد تنزيله فهو مكذب بما أنزل الله، قال أبو محمد: والتشديد أقوى في نفسي لأنه يتضمن معنى التخفيف، والتخفيف لا يتضمن معنى التشديد ولأنها قراءة أهل المدينة ومكة). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/229]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (6- {فَزَادَهُمُ الله مَرَضًا} [آية/ 10]:-
بإمالة الزاي، قرأها حمزة، وكذلك: جاء، وشاء، وطاب، وحاق، وخاف، وخاب، وضاقت.
لأنه أراد أن يدل بالإمالة على أن عين الكلمة ياءٌ، كما ألزموا في مُضارع فعل من هذا الباب يفعل بالكسر، ليدلّوا به على أن العين ياءٌ، ويقوي الإمالة في زاد ونحوه أنه اجتمع هاهنا شيآن كلاهما يجلب الإمالة، أحدهما: كسرة أول فعلت نحو: زدت وطبت، وعلى هذا إمالة خاف، والثاني: كون العين ياء، وكل واحدٍمن هذين السببين جالبٌ للإمالة على الانفراد، فإذا اجتمعا كان أولى بذلك.
[الموضح: 245]
ونافع يشم الإمالة في ذلك كلّه، إعلامًا بحُسن الإمالة فيه، وكون الفتح أصلًا.
وابن عامر يميل ثلاثة أحرف منها: جاء وشاء وزاد، ويفح الباقي؛ لأنه يريد الأخذ باللغتين من الإمالة والفتح، إذ الإمالة جائزة، والفتح هو الأصل، والتمسك بكل واحدٍ منهما حسن، ثم إنه يتبع في ذلك الأثر؛ إذ القراءة سنة.
وابن كثير وأبو عمرو وعاصم والكسائي ويعقوب يفتحون جميع ذلك، ولا يميلون واحدًا منه؛ لأن الفتح هو الأصل، والإمالة داخلة عليه، وهي حكمٌ جائزٌ، وليس بحكم واجبٍ، وكثيرٌ من العرب لا يميلون شيئًا). [الموضح: 246]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (7- {بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [آية/ 10]:-
بفتح الياء وتخفيف الذال، قرأها عاصمٌ وحمزة والكسائي.
و {ما} هاهنا مصدرية، وذاك أن تكون مع الفعل في معنى المصدر، والتقدير: يكذبهم، وهذه القراءة أشبه بما قبلها وهو قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِالله وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ}، لأن قولهم هذا كذب، وهي أليق بما بعدها أيضًا وهو {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا}
[الموضح: 246]
فقولهم أيضًا كذبٌ، لقولهم لرؤسائهم {إنّا مَعَكُمْ}، ففي هاتين الآيتين دلالة على قوة قراءة من قرأ {يكذبون} بالتخفيف من الكذب.
وقرأ الباقون (يُكذِّبُونَ) بضم الياء وتشديد الذال، من التكذيب، وهو نسبةُ الغير إلى الكذب؛ لأن أولئك كانوا يكذبون النبي صلى الله عليه وسلم، إذ تركوا الإيمان به، كما قال تعالى: {الذين كفروا وكذبوا بآياتنا} فكثيرٌ من القرآن يتضمن ذكر التكذيب، ثم إن التكذيب أكثر من الكذب؛ إذ كل من كذب صادقًا فهو كاذب، وليس كل من كذب فهو مكذب، و{ما} أيضًا في هذه القراءة مصدريةٌ، والتقدير بكذيبهم). [الموضح: 247]


روابط مهمة:
- أقوال المفسرين

جمهرة علوم القرآن 25 محرم 1440هـ/5-10-2018م 09:42 PM

سورة البقرة
[من الآية (11) إلى الآية (16) ]
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)}

قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (قوله جلّ وعزّ: (وإذا قيل لهم)
قرأ الكسائي ويعقوب: (قيل) و(غيض) و(سيء) و(سيئت) و(جيء)، بضم أوائل هذه الحروف حيث وقعت.
وعلتهما أن الأصل فيهن الضم، نحو: (قول) و(حول) و(سوق) و(غيض) و(سيئت).
وكان نافع يضم (سيء) و(سيئت)، ويكسر الباقي.
وكان ابن عامر يضم (سيء) و(سيئت) و(حيل) و(سيئ)، هذه الأربعة، ويكسر الباقي.
وروى هشام بن عمّار فيها عنه مثل قراءة الكسائي.
وروى شبل عن ابن كثير (سيء) و(سيئت)، وكذلك فعل نافع، وقرأ الباقون بكسر أوائل هذه الحروف كلها.
قال أبو منصور: من ضم فلأنها جاءت على وزن (فعل)، ومن
[معاني القراءات وعللها: 1/135]
كسر فلاستثقال الضمة مع كسرة الواو.
ومن ضم فإنه يشم ولا يشبع الضم -، والعربي الناشئ في البادية يطوع لسانه لضمة خفية يجفو عنها لسان الحضري المتكلف). [معاني القراءات وعللها: 1/136]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (11- وقوله تعالى: {وإذا قيل لهم}
قرأ الكسائي: {وإذا قيل لهم} بإشمام القاف الضم، وكذلك
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/67]
{وسيق} و{جيئ} و{حيل} و{وسئ} و{وسيئت} و{غيض} وقرأ ابن عامر من ذلك أربعة أحرف بالضم وكسر الباقي {سيق} {وحيل} {وسيء} {وسيئت}.
وقرأ من ذلك حرفين نافع بالضم {وسيئ} {وسيئت}.
والباقون يكسرون أوائل ذلك كله فمن كسر يقول: هو فعل لم يُسم فاعله، والأصل قول مثل ضرب فاستقلوا الكسرة على الواو فنقلت إلى القاف بعد أن أزالوا حركة القاف، ثم قلبوا الواو ياء لانكسار ما قبلها كما قالوا: ميزان وميعاد وميقات والأصل: موزان وموعاد وموقات، فقلبوا الواو ياء لانكسار ما قبلها.
ومن ضم أولها قال: بقيت علامة ما لم يسم فاعله. وأما منكسر بعضًا وضم بعضًا، فقد قلت فيما تقدم: إنه جمع بين اللغتين. فأما قول الشاعر:
واستعجمت عجل وأم الرحال
وقول لا أهل لها ولا مال
فإن هذه لغة قوم يشبعون ضمة أول الحرف إذا لم يُسم فاعله، فتقلب
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/68]
الياء واوًا، وهي لا تدخل في القراءة بخلاف المصحف، ولأنها لغة رديئة شاذة). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/69]

قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (بسم الله: اختلفوا في ضم أوائل هذه الحروف وأخواتها وكسرها: فقرأ الكسائي: قيل [البقرة/ 11] وغيض [هود/ 44] وسيء [هود/ 77، والعنكبوت/ 33] وسيئت [الملك/ 27] وحيل [سبأ/ 54] وسيق [الزمر/ 71، 73] وجيء [الزمر/ 69، والفجر/ 23] بضم أول ذلك كله.
وكان نافع يضم من ذلك حرفين: (سيء)، و (سيئت)، ويكسر ما بقي.
وكان ابن عامر يضم أول: (سيق وسيء وسيئت وحيل)، ويكسر (غيض) و (قيل) و (جيء) في كل القرآن: الغين والجيم والقاف، هذه رواية ابن ذكوان عنه.
وقال الحلواني عن هشام بن عمار بإسناده عنه في
[الحجة للقراء السبعة: 1/340]
كلهن مثل الكسائي.
وروى عبيد بن عقيل عن شبل بن عبّاد عن ابن كثير: (سيء) و (سيئت) بضم السين مثل نافع.
وكان ابن كثير وعاصم وأبو عمرو وحمزة يكسرون أوائل هذه الحروف كلّها.
وإذا قيل لهم لا تفسدوا... قالوا [البقرة/ 11] قال يقول قولا وقيلا، مثل ذكر يذكر ذكرا.
كأنّه متوّج روميّ... أو مقول توّج حميريّ
وقالوا: قيل، وهو فيعل مخفف كميت. يدلّك على
[الحجة للقراء السبعة: 1/341]
ذلك ظهور الياء فيه، والعين أعلت بالحذف كما أعلت بالقلب.
والقياس في جمع قيل أقوال، مثل ميت وأموات.
وروي في الحديث: «إلى الأقيال العباهلة»،
والقياس الأقوال إذا كان جمع فيعل من القول.
ويجوز أن يكون الأقيال جمع قيّل الذي هو فيعل، من قولهم: تقيّل أباه إذا أشبهه، كأنّ كلّ ملك يشبه الآخر في ملكه، كما قيل له تبّع لمّا كان يتبع من قبله.
وقال أبو زيد: اقتل عليّ كذا، أي احتكم، وأنشد:
فلو أن ميتا يفتدى لفديته... بما اقتال من حكم عليّ طبيب
وقد اتسعوا في القول فاستعملوه في غير اللفظ. قال العجاج يصف ثورا:
فكرّ ثم قال في التفكير... إن الحياة اليوم في الكرور
[الحجة للقراء السبعة: 1/342]
وقد أجري القول أيضا مجرى الاعتقاد والمذهب في نحو: هذا قول أهل العدل، وهذا قول أبي حنيفة، يعنون بذلك رأيهم واعتقاداتهم، ليس اللفظ.
وعلى هذا قالوا: قيل في ذلك قول، فأسندوا إليه قيل.
ومعنى النهي فيما
روي: «إنّ الله ينهاكم عن قيل وقال»:
المجادلة بالباطل ليدحض به الحقّ، وليس على النهي عن الخوض في العربية وتعلّمها، لأنّ الحضّ على النظر فيها قد كثرت الرواية به عن السلف.
حدثنا إسماعيل بن محمد قال: حدثنا محمد بن عيسى العطار: قال حدثنا كثير بن هشام قال حدثنا عيسى بن إبراهيم عن الحكم بن عبد الله عن الزهري عن
[الحجة للقراء السبعة: 1/343]
سالم عن أبيه قال:
مرّ عمر بن الخطاب على قوم يرمون رشقا فقال: بئس ما رميتم.
قالوا: يا أمير المؤمنين: إنا قوم متعلمين.
فقال: والله لذنبكم في لحنكم أشدّ علي من ذنبكم في رميكم،
سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «رحم الله رجلا أصلح من لسانه».
وقد أجروا أتقول مجرى أتظن، فقالوا: أتقول زيدا منطلقا؟ ولم يجر أكثر العرب حروف المضارعة الأخر مجرى التاء. قال لأنّ المخاطب لا يكاد يستفهم عن ظنّ غيره.
فمن ذلك قوله:
فما تقول بدالها (ما) نصب لكونها في موضع المفعول الأول، والجملة في موضع المفعول الثاني.
[الحجة للقراء السبعة: 1/344]
قال: وبنو سليم يجعلون جميع الأمثلة بمنزلة الظن.
والتّقوّل: تفعّل من القول، وقد غلب عليه الاستعمال فيما كان باطلا وغير صدق، كما أن الاختلاق كذلك، وفي التنزيل:
ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل [الأحقاف/ 44].
وزعم بعض المفسرين أنّها نزلت لمّا قالوا: لولا اجتبيتها من قوله تعالى: وإذا لم تأتهم بآيةٍ قالوا لولا اجتبيتها [الأعراف/ 203] وقال: إن هذا إلّا اختلاقٌ [ص/ 7].
فأمّا الإقالة في البيع فليس من هذا الباب، لأنّهم قد قالوا: قلته البيع وأقلته. حكاه سيبويه وأبو زيد، فدل قولهم:
قلته على أن العين ياء. ولكنّ الإقالة من قولهم: تقيّل أباه، إذا نزع إليه في الشبه، فكذلك الإقالة عود الملك بين المتقايلين إلى ما كان قبل عقد البيع، ألا ترى أنّه فسخ بين المتعاقدين وإن كانا بيعا آخر في حق الثالث.
حجة من قال: وإذا قيل لهم [النور/ 11] فأشمّ الضمة الكسرة وأمال بها نحوها:
أن ذلك أدلّ على فعل، ألا ترى أنّهم قد قالوا: كيد زيد يفعل، وما زيل يفعل، وهم يريدون فعل. فإذا حرّكوا الفاء هذه التحريكة أمن بها التباس الفعل المبنى للفاعل بالفعل المبني للمفعول، وانفصل بها، فدلّت عليه، وكان أشدّ إبانة للمعنى المراد.
ومن الحجة في ذلك أنهم قد أشمّوا نحو ردّ وعدّ وما
[الحجة للقراء السبعة: 1/345]
أشبه ذلك من التضعيف المبنى على فعل، مع أنّ الضمة الخالصة تلحق فاءه، فإذا كانوا قد تركوا الضمة الصحيحة إلى هذه في الموضع الذي تصح فيه الضمة فإلزامها حيث
يلزم الكسر فيه في أكثر اللغات أجدر. ودلّ استعمالهم هذه الحركة في ردّ ونحوه من التضعيف على تمكنها في قيل وبيع وكونها أمارة للفعل المبني للمفعول به، ولولا ذلك لم تترك الضمة المحضة إليها في قولهم: ردّ ونحوه.
ومن الحجة في ذلك أنّهم قالوا: أنت تغزين فألزموا الزاي إشمام الضمة و (زين) من تغزين بمنزلة قيل، فكما ألزم الإشمام هنا كذلك يلزم ذلك في قيل، ألا ترى من قال: قيل وبيع، قال: اختير وانقيد، فأشمّ ما بعد الخاء والنون لمّا كان بمنزلة قيل وبيع، فكما ألزم الإشمام نحو تغزين، لينفصل من باب ترمين، كذلك ألزم قيل وبيع الإشمام في الضمة، لينفصل من الفعل المبني للفاعل في كيد وزيل، وليكون أدلّ على فعل.
فإن قلت: فهلّا ألزم القاف في قيل ونحوه إشمام الضمة كما ألزم ذلك في تغزين؟
فالقول إنّ هذه الحركة لمّا لم تكن ضمة خالصة ولا كسرة محضة ضعفت في الابتداء لخروجها عمّا عليه الحركات اللاحقة أوائل الكلم المبتدأ بها، ألا ترى أنّ أبا عمرو أخذ بذلك في الإدراج فيما حكاه عنه سيبويه في قوله تعالى:
[الحجة للقراء السبعة: 1/346]
يا صالح ائتنا ولم يأخذ به في الاستئناف. فإن قلت: فهل يلزم أبا عمرو في قراءته: يا صالح ائتنا أن يقرأ: ومنهم من يقول ائذن لي [التوبة/ 49] فيشمّ الضمة نحو الكسرة.
فالقول: إن ذلك لا يلزم، لأنّ هذا الإشمام والإمالة بالضمة نحو الكسرة إنّما جاء فيما ليس بحركة إعراب، والضمة في يقول ضمة إعراب، والتي في يا صالح ائتنا وإن كانت مشابهة لحركة الإعراب فهي حركة بناء، فلا يلزم ذلك في قوله تعالى: ومنهم من يقول ائذن لي.
ومما يدلّك على أنّ هذه التحريكة قد صارت أمارة لبناء الفعل للمفعول به وأنّها مما يختصّ به الفعل أنّك لو سميت بمثل قيل وبيع شيئا وخلعت منه الضمير إن كان فيه لأخلصت الكسرة فقلت: قيل وبيع، فدلّ هذا من مذهب سيبويه على أن هذه الحركة أمسّ عنده بالفعل، وأشد لزوما له من الأمثلة التي تختص بالفعل، ولا تكون في الاسم نحو: ضرب وضورب وضرّب: ألا ترى أنّك لو سميت بشيء من ذلك مجردا من الضمير لم تغيره عن بنائه إلى ما يختص الاسم وقد رأى تغيير هذه الحركة وإخلاصها كسرة.
ومما يقوي قول من قال: قيل أن هذه الضمة المنحوّ بها نحو الكسرة قد جاءت في نحو قولهم: شربت من المنقر،
[الحجة للقراء السبعة: 1/347]
وهذا ابن عور وابن بور، فأمالوا هذه الضمات نحو الكسرة لتكون أشدّ مشاكلة لما بعدها وأشبه به وهو كسر الراء، فإذا أخذوا بهذا لتشاكل اللفظ، وحيث لا يميّز معنى من معنى آخر فأن يلزموا ذلك حيث يزيل اللبس ويخلّص معنى من معنى أجدر وأولى.
حجة من قال: (قيل)، فأخلص الكسرة، ولم يحرك بضمة ممالة نحو الكسرة
الحروف التي تنقل حركاتها إلى ما قبلها على ضربين:
أحدهما: أن يكون نقلا من حرف صحيح.
والآخر: أن يكون نقلا من حرف علة.
فحروف الصحة التي تنقل حركاتها إلى ما قبلها على ضربين:
أحدهما: أن يكون في تضعيف.
والآخر: أن يكون في غير تضعيف.
فأما التضعيف فنحو أعدّ، وأصمّ، واستعدّ، ومفرّ، ومردّ، فما قبل حرف التضعيف في هذه الأشياء إذا كان ساكنا ولم يك مدّة، ألقيت حركة المضاعف عليه، وإذا كان متحركا حذفت الحركة ولم تلق على شيء نحو: اعتدّ واشتدّ.
وأما غير التضعيف فعلى ضروب منها نقل الحركة من الهمزة إلى الحرف الذي قبلها إذا لم يكن الحرف للمدّ فقط.
[الحجة للقراء السبعة: 1/348]
ومنها نقل حركة افتعل ويفتعل نحو يهتدي ويقتدي.
ومنها الحركة في الوقف، وهي على ضربين:
أحدهما: أن يكون حركة إعراب كقوله:
إذ جدّ النّقر والآخر: أن يكون حركة البناء نحو اضربه وقده، فهذا نقل الحركة من حروف الصحّة.
وأمّا نقل الحركة من حروف العلة فنحو الفعل من القول والبيع، والفعل فيه على ضربين.
أحدهما: أن يكون فاعله ضميرا يتصل بالفعل، والآخر أن يكون ظاهرا لا يتصل به فإذا بني الفعل للفاعل الظاهر قيل:
قام زيد، وباع عمرو، فلا تنقل في هذا حركة العين عن موضعها.
وقد شذّ قولهم: كيد زيد يفعل، وما زيل، فلا تنقل الحركة من غير هذا إلى الفاء، كما تنقل إذا اتصلت بضمير المخاطب والمتكلم، نحو قمت، وبعت، فنقلت الحركة التي كانت للعين إلى الفاء.
فأما حجّة من قال: قيل- فحرك الفاء بالكسر- أنّهم يزعمون أنّ هذه اللغة هي الأصل، وما عداها داخل عليها، يدلّ على ذلك أنّ الأصل فعل، فنقلت حركة العين إلى الفاء، كما نقلت حركة العين إلى الفاء إذا بنيت الفعل للفاعل من
[الحجة للقراء السبعة: 1/349]
قلت، لأنّ حركة العين من فعلت الضمة في بناء الفعل للفاعل بعد نقل فعلت إلى فعلت، نقلت الضمة إلى الفاء، كما نقلت الحركة التي هي الكسرة إلى الفاء، إذا بنيت الفعل للمفعول، فلحق الإعلال العين بالقلب لاجتماع المقاربة كما يلحق اللام في: غزا، ورمى، لتوالي ذلك. ولو فصل السكون لصحّ كما صح نحو: غزو ورمي، وأتبع المضارع الماضي، ولحق الإعلال في قيل العين وما قبلها.
أمّا الإعلال في العين فيقلبها إلى الألف، وما قبلها اعتلّ بنقل حركة العين إليها وحذف حركتها، ولحق الإعلال في باب العين العين وما قبلها كما لحق اللام وما قبلها في باب غزا ورمى.
وإنما نقلت الحركة في قيل إلى الفاء ليعلم بذلك حركة العين، ألا ترى أنّك إذا سمعت الضمة في قلت، والكسرة في بعت علمت أن حركة العين في باع كسرة كما تعلم أنها في قلت ضمة، وإذا سمعت قيل وبيع علمت أن حركة العين الكسرة إذا بني الفعل للمفعول به على فعل، فجعلت حركة العين إذا كانت واوا الضمة وإذا كانت ياء الكسرة، لأن الضمة من جنس الواو، كما أن الكسرة من جنس الياء، فلهذه المجانسة فعل هذا ليس لأنّ الضمة تدل على أنّ العين واو، ولا الكسرة تدلّ على أنّ العين ياء، ألا ترى أنّهم قد جمعوا بين
[الحجة للقراء السبعة: 1/350]
خفت وهبت في الكسرة وإحداهما من الياء، والأخرى من الواو وقد قلنا في ذلك في غير هذا الموضع.
بسم الله: قال: حمزة يقف على: (مستهزءون) بغير همز، وكأنّه يريد الهمز، ويشير إلى الزاي بالكسر كما كان يفعل في الوصل، وهذا لا يضبطه الكتاب. وكذلك كان يفعل بقوله: ليواطؤا [التوبة/ 37] ويستنبئونك [يونس/ 53] ومتّكؤن [يس/ 56]، وفمالؤن [الصافات/ 66] والخاطؤن [الحاقة/ 37] والصّابئين [البقرة/ 62، والحج/ 17] والصّابئون [المائدة/ 69] والباقون يصلون بالهمز ويقفون أيضا كما يصلون.
قال أبو زيد: هزئت به هزءا ومهزأة، وأنشد غيره:
ألا هزئت بنا قرشي... ية يهتز موكبها
وقالوا: هزئت منه. أنشدنا علي بن سليمان:
وهزئت من ذاك أم موأله
[الحجة للقراء السبعة: 1/351]
ومعنى يستهزءون يهزءون، كما أن قوله: وإذا رأوا آيةً يستسخرون [الصافات/ 14] يسخرون، ومثل هذا قرّ، واستقر، وقالوا: علا قرنه واستعلاه، وقال أبو زيد: استعلى عليه، وقال أوس:
ومستعجب ممّا يرى من أناتنا... ولو زبنته الحرب لم يترمرم
وقد جاء استفعل في معنى أفعل، كما جاء في معنى فعل. قالوا: استجاب وأجاب، وأنشد أبو زيد.
فلم يستجبه عند ذاك مجيب أي لم يجبه.
وقالوا: استخلف لأهله، وأخلف لأهله. قال:
[الحجة للقراء السبعة: 1/352]
ومستخلفات من بلاد تنوفة... لمصفرّة الأشداق حمر الحواصل
وقال آخر:
...................... سقاها فروّاها من الماء مخلف
وقال: مثلهم كمثل الّذي استوقد ناراً [البقرة/ 17] وقال: كلّما أوقدوا ناراً للحرب [المائدة/ 64].
قال أبو زيد: وقالوا: رجل هزأة: يهزأ بالناس، وهزأة:
يهزأ به الناس.
اختلف النحويون في تخفيف الهمزة في: (يستهزءون).
فقال سيبويه: تجعلها إذا خففتها بين بين، فتقول:
(يستهزوون).
وزعم أن جعلها بين بين، قول العرب والخليل. وكذلك
[الحجة للقراء السبعة: 1/353]
قال في الهمزة المكسورة إذا كان ما قبلها مضموما نحو مرتع إبلك تجعلها بين بين.
ويذهب أبو الحسن في يستهزءون إلى أن يقلب الهمزة ياء قلبا صحيحا، ولا يجعلها بين بين كما ذهب إليه سيبويه والخليل.
فأمّا إذا كانت مكسورة وقبلها ضمة فإنّه لا يخلو من أن يكون في كلام متصل أو منفصل، فإن كان متصلا قلبها واوا مثل بأكموك، وإن كان منفصلا قلبها ياء مثل: عبد يخوتك وسنذكر قوله بعد ذكر ما احتج به لسيبويه.
قال أبو عثمان: سأل مروان بن سعيد المهلبيّ أبا عمر الجرمي في مجلس أبي الحسن الأخفش، فقال:
كيف تخفف همزة جؤن؟ فقال: جون، فجعلها واوا خالصة.
فقال له مروان: لم لا جعلتها بين بين، فنحوت بها نحو الألف؟
[الحجة للقراء السبعة: 1/354]
قال: فقال: من قبل أن الألف لا تقع بعد ضمة فكذلك ما قرب منها.
فقال: فكيف تخفف همزة مئر؟ فقال: مير، فجعلها ياء خالصة مثل الأولى في العلة.
فقال له مروان: فكيف تخفف همزة يستهزءون؟
فقال: أبو عمر يستهزوون، فجعلها بين بين، ونحا بها لانضمامها نحو الواو.
قال أبو عثمان: وهو قول سيبويه.
فقال له مروان: لم لا صيرتها ياء لأن الواو المضمومة لا تقع بعد كسرة.
قال أبو علي: يريد مروان أن الكسرة لا تقع بعدها الواو المضمومة فكذلك ينبغي ألا يقع بعدها ما قرب من الواو المضمومة بالتخفيف، كما أنّ الضمة والكسرة، لمّا لم تقع بعدهما الألف فكذلك لم يقع بعدهما ما قرب منهما بالتخفيف، فقلبت الهمزة بعدهما قلبا، فكذلك كان يلزم أن نبدل من الهمزة المضمومة بعد الكسرة ياء إذا لم تقع بعد الكسرة واو مضمومة في موضع، فكذلك ما قرب من الواو المضمومة من الهمز بالتخفيف ينبغي ألا تقع بعدها.
(رجع إلى كلام أبي عثمان):
[الحجة للقراء السبعة: 1/355]
قال أبو عثمان: فقال أبو عمر وأجاد عندي: هي وإن لم يكن مثلها في الكلام فأنا أقدر أن ألفظ بها، وتلك الأولى لا أقدر على أن ألفظ بها إذا نحوت بها نحو الألف وقبلها كسرة أو ضمة.
قال أبو عثمان: وهذا قولي، وحجتي فيه هذه.
وأما الأخفش فكان يقول: (يستهزيون) إذا خفف فيجعلها ياء خالصة من أجل الكسرة التي قبلها. انتهت حكاية أبي عثمان.
قال أبو علي: إن قال قائل: إذا لم يجعلها بين بين فلم قلبها ياء للكسرة التي قبلها، وهلّا قلبها واوا لتحركها بالضمة؟
قيل: إنّه إذا ترك أن يجعلها بين بين، فلا يخلو من أن يقلبها ياء أو واوا، فلا يجوز أن يقلبها واوا وقبلها كسرة، لخروجه إلى ما لا نظير له، ألا ترى أنّه ليس واو مضمومة قبلها كسرة؟
وإذا لم يجعلها بين بين كما جعلها غيره لكراهته تقريبها من واو مضمومة قبلها كسرة فأن يرفض قلبها إلى نفس الواو المضمومة المكسور ما قبلها أجدر، فإذا لم يجز قلبها واوا صارت نحو: شيوخ وفي بيوتٍ أذن اللّه [النور/ 36] على أنّ (يستهزيون) أسوغ في هذا لأن الضمة فيها إعراب فليست
[الحجة للقراء السبعة: 1/356]
بثابتة ثبات عين فعول، فهو مثل فخذ في الرفع ليس مثل فعل المرفوض من كلامهم.
ويقوي قلبها إلى الياء أنّها في جون ومير قد قلبت إلى الحرف المجانس لما قبلها من الحركة وهي متحركة، فكذلك في (يستهزيون) تقلب إلى الحرف المجانس لما قبلها من الحركة مع كونها متحركة.
فإن قال قائل: فهلا قلبها إلى الحرف الذي منه حركتها كما قلبها إلى الحرف الذي منه حركتها في أيمّة، ولم يقلبها إلى ما يجانس الحركة التي قبلها كما لم تقلبها في أئمة إلى ما يجانس الحركة التي قبلها، ألا ترى أنّك لم تقل أامّة ولكن قلبتها إلى الياء لما تحركت بالكسرة؟
قيل: لم يجز أن تقلب إلى ما ذكرت في يستهزءون لخروجها إلى ما لا مثل له في كلامهم.
وجاز في أئمة أن تقلب إلى الحرف الذي منه حركتها من حيث لزم إلقاء حركة المدغم فيه على ما قبله، ولولا ذلك لقلبتها على ما قبلها من الحركة كما قلبتها في إناء وآنية، ولكن لما لزم إلقاء حركة المدغم عليها كما لزم في أخلّة ونحوه وجب تحركها، ولما وجب تحركها، وجب قلبها إلى الياء لتحركها بالكسرة إذ لم يمكن قلبها إلى الحرف المجانس
[الحجة للقراء السبعة: 1/357]
للحركة التي قبلها، ولم يجز إسكانها وقلبها ألفا لأنها فاء كالفاء في أخلّة ونحوه، وليس في يستهزءون حركة لمدغم يلزم أن تلقيها عليها، فتقلبها إلى ما يجانس حركتها دون ما يجانس الحركة التي قبلها.
فإن قلت: كيف استجاز أن يقلب الهمزة ياء محضة في يستهزءون ويحركها بالضم، وليس ياء هي لام على هذا الوصف تتحرك بالضمة؟ فإن ذلك فيما أصله الهمزة لا يمتنع، وإن لم يجز فيما أصله غير الهمز، لأنّ الهمزة لما كانت منويّة كانت في تقدير الثبات، ألا ترى أنّه وإن خففها تخفيفا قياسيا لم يقلبها قلبا إلى الياء، وإذا كان كذلك لم يمتنع ثباتها وتحريكها، وإن لم يجز ذلك في الياءات التي ليس أصلها همزات، كما لم تمتنع الواو الساكنة من أن تقع قبل الياء مبيّنا غير مدغم إذا كان أصلها الهمزة نحو نؤي، ورؤيا وإن كان فيما يمتنع ذلك فيما أصله غير الهمز من الواوات.
ومما يدلك على صحة ذلك من قوله: إنّها في قولهم جميعا تثبت ساكنة في الجزم. فكما جاز أن يخالف الياءات التي هي لامات عند الجميع في السكون للجزم، كذلك جاز عنده أن يخالفهن في الحركة أيضا.
وقال أبو الحسن في كتابه في القرآن: من زعم أن الهمزة المضمومة لا تتبع الكسرة إذا خففت دخل عليه أن يقول: هذا قارو، وهؤلاء قاروون، ويستهزوون، قال: وليس
هذا من كلام من خفف من العرب.
[الحجة للقراء السبعة: 1/358]
قال أبو علي: وجه دخول هذا عليه ولزومه له عنده أن الهمزة إذا كانت مفتوحة وكان ما قبلها مفتوحا فخففت جاز تخفيفها، فكذلك إذا كانت مكسورة وما قبلها مفتوح، وكذلك إذا كانت مضمومة وما قبلها مفتوح، وذلك أنّها إذا كانت مفتوحة، وما قبلها مفتوح أو مضمومة أو مكسورة وما قبلها مفتوح، فإنّك في ذلك كله تقرب الهمزة من الحرف الذي منه حركتها، فتقرب المفتوحة من الألف، والمكسورة من الياء الساكنة، والمضمومة من الواو الساكنة، فكما أن الألف والواو والياء الساكنين يجوز أن يقع كل واحد منها بعد الفتحة نحو: دار وبيت، وثوب، كذلك جاز أن تخفّف الهمزة بعدها فتقربها بالتخفيف من هذه الحروف السواكن.
فإذا كانت الهمزة مفتوحة وقبلها ضمة أو كسرة خففتها بالقلب إلى الحروف التي حركتها منها بلا خلاف. وذلك نحو التّودة، وجون ومير، وذيب، وإنما قلبتها إليهما لأنك إذا خففت المفتوحة بعد الكسرة في مير قربتها من الألف، والألف لا تكون قبلها كسرة، وكذلك جون إذا خففتها قربتها من الألف، والألف لا تكون قبلها ضمة، فلما لم تكن بعد الكسرة ألف ولا بعد الضمة كذلك، لم يكن بعدهما ما قربته منه فقلبت قلبا لذلك إلى الواو أو إلى الياء.
فإن كانت مضمومة وقبلها كسرة فخففتها مثل يستهزءون، ومن عند أختك، فلا يخلو إذا خففتها من أن تنحو بها نحو
[الحجة للقراء السبعة: 1/359]
الحرف الذي منه حركتها.
فإن قلت: أقربها منه فأقول: يستهزوون، لم يستقم لأنّك تقربها من واو ساكنة والواو الساكنة لا تكون قبلها كسرة، فلا يجوز إذا أن تقربها من الواو الساكنة فتجعلها بين بين، كما لم يجز ذلك في جون ومير، ولزمك قلبها ياء على حسب الحركة التي قبلها كما قلبتها ياء أو واوا في جون، ومير، بحسب الحركة التي قبلها إذ لم يجز أن تكون بين بين لتقريبك إياها بالتخفيف من الواو الساكنة، والواو الساكنة لا تكون قبلها كسرة.
وإذا لم تكن قلبتها إلى الياء فقلت: يستهزءون حيث لم تكن بعد الكسرة واو ساكنة كما قلبتها بعد الكسرة أو الضمة إذا كانت مفتوحة إلى الياء أو إلى الواو حيث لم يجز أن يكون بعد الكسرة والضمة ألف فقد بان أن جعلها بين بين غير مستقيم للكسرة التي قبلها مع كونها مضمومة.
فإن قلت: لا أقلبها ياء ولا أتبعها الحركة التي قبلها ولكن أتبعها الحركة التي عليها وهي الضمة، فأقلبها واوا إذ لم يجز أن أتبعها الكسرة التي قبلها- لزمك أن تقول: هذا قارو، فتصحح الواو بعد الكسرة إذ لم يكن سبيل إلى أن تجعلها بين بين، وأنت قد قلت: لا أتبعها الكسرة التي قبلها فأقلبها إلى الياء فأقول: قاري، ويستهزيون، فبقي أن تقلبها واوا، فتجعلها من جنس الحركة التي تحركت بها فتقول: قارو، لتكون قد خففتها إذ
[الحجة للقراء السبعة: 1/360]
لا سبيل إلى أن تجعلها بين بين، ولا تنقلب ياء عندك، فهذا وجه لزوم قلبه إياها واوا وهذا ليس عليه أحد ممن يخفف الهمز، فإن لم يقلبها ياء خرجت بترك قلبها ياء عن قول العرب فيها إذا قلبتها واوا فقلت: قاروون ويستهزوون.
وكذلك إذا كانت الهمزة مكسورة وقبلها ضمة عكس قولك قارئ ويستهزءون فإنك تقلبها واوا، فتقول: مررت بأكموك، فقلبت الهمزة على الحركة التي قبلها كما أتبعتها في يستهزءون الحركة التي قبلها بأن قلبتها ياء كذلك في أكموك تتبعها الحركة التي قبلها، بأن تقلبها واوا فتجعلها من جنس الضمة التي قبلها، فتقول بأكموك، ولا يجوز بأكميك فتجعلها على حركتها كما لم يقولوا: قارو، فيجعلوها على حركتها، ولا يتبعوها ما قبلها.
ولا يجوز أن تجعل: بأكموك بين بين، لأنّك تقربها من الياء الساكنة، فكما لا تكون الياء الساكنة بعد الضمة كذلك لا تكون الهمزة المكسورة بعد الضمة بين بين على قياس
قولهم:
جون ومير، والاتفاق الواقع في ذلك.
فإن قلت: فإذا لم تجعلها بين بين لما قلت من أنّها تقرّب من الياء الساكنة، والياء الساكنة لا تكون بعد الضمة فهلّا قلبتها ياء ولم تقلبها واوا لأنّك قد تجد الياء المكسورة في كلامهم تقع بعد ضمة، ألا ترى أنّك لو قلت: صيد في هذا المكان لجاز كما يجوز عور، في هذا المكان؟ فما الذي جعل قلبها
[الحجة للقراء السبعة: 1/361]
إلى الواو عنده في أكموك من قلبها إلى الياء في أكميك لما أريناك من صيد.
فالقول: إن قلبها إلى الواو أولى، لأنّك قد وجدتهم في تخفيف الهمز يتبعون الهمزة حركة ما قبلها كثيرا، وقد وجدتهم قلبوا عكس هذا على ما قبلها، وذلك قولهم: (يستهزيون)، وقاري، فكما أتبعوا هذه الهمزة حركة ما قبلها كذلك يتبعون الهمزة في أكموك حركة ما قبلها ويقلبونها إليه، فيكون لذلك أولى وأقوى في القياس من قلبها إلى الياء على حركة نفسها.
ومما يدلّ على أن قلبها إلى الواو في المتصل أقوى من قلبها إلى الياء أن ما جاء فيه الواو من المتصل مصححة أكثر مما جاء فيه الياء، ألا تراهم قالوا: عور في هذا المكان، وحول فيه، واجتور، واعتون، واعتور، والياء إنّما جاء في صيد فيه وحيي به وعيي به فيمن بيّن ولم يدغم، ومع ذلك، فإنّ أبا الحسن قد جوّز على قياس أكميك في المنفصل فقال:
إلّا أن تكون المكسورة مفصولة فتكون على موضعها لأنّها قد بعدت، يريد بقوله على موضعها أنّها تقلب إلى جنس حركتها.
والواو قد تقلب إلى الياء مع هذا وذلك نحو غلام يخوانك، والمكر السيئ يلا [فاطر/ 43] فلما وجد لقلبها إلى الياء طريقا بدلالة صيد فيه كما وجد لقلبها إلى الواو طريقا ألزم الواو المتصل لتكون على ما قبلها مثل جون ومير وقاري. فإنّها قلبت على ما قبلها وجعل المنفصل بالياء وقال: لأنّ الواو تقلب إلى
[الحجة للقراء السبعة: 1/362]
الياء فأخذ بالأمرين، ورأى القلب إلى الواو في الاتصال أولى، وجعل المنفصل بالياء، لأنّ الضمة بالانفصال قد بعدت، فجعلها على حركة نفسها.
فإن قلت: أفليس قد أتبعوها حركة نفسها في المتصل في قولهم: أيمّة، ولم يتبعوها حركة ما قبلها فيقلبوها ألفا، ويقولوا: «أامة»، فهلا جاز في قولهم: بأكموك، أن يتبعوها حركة نفسها، فيقولوا: بأكميك كما فعل في (أيمة).
فالقول: إن هذا ليس كأيمة، وذلك أنّ التي في أيمة لزم إلقاء حركة المدغم عليها فلما لزم إلقاء حركة المدغم عليها لم يجد بدّا من تحريكها، ولما لم يجد بدّا من تحريكها كانت حركتها أولى أن تقلب إليها من أن تجعل على ما قبلها مع تراخي تلك عنها وقرب الكسرة منها، ألا ترى أنّها لو قلبت على ما قبلها من الفتحة فقلبت ألفا وحركة المدغم التي يلزم إلقاؤها عليها الكسرة لم يستقم، لأنّ الألف لا تحرّك فقلبت الهمزة في أيمّة على حركتها لذلك؟
فأمّا ما حكاه محمد بن السري في كتابه في القراءات عن أبي الحسن من أنّه قال: من زعم أن الهمزة المضمومة لا تتبع الكسرة إذا خففت. دخل عليه أن يقول: هذا قاري، وهؤلاء قاريون، ويستهزيون.
[الحجة للقراء السبعة: 1/363]
وقال: قال: يعني أبا الحسن: وليس هذا من كلام من خفف من العرب إنّما يقولون: يستهزيون- فخطأ في النقل، أتراه يلزم الخليل وسيبويه أن يقولوا هذا في المتصل، وقد رآهم قالوا ذلك في المنفصل نحو: من عند أختك؟ ويسمعهم يقولون: إنّه قول العرب، فيلزمهم قولهم؟ وما يقولون: إنّه قول العرب! هذا ما لا يظن.
وأبو الحسن قد فصل بين المتصل والمنفصل في أكموك وغلام يخوانك فقلب المتصل واوا، والمنفصل ياء. هذا الذي حكاه عنه غلط في النقل، وإنّما هو دخل عليه أن يقول: هذا قارو بالواو، كما حكيناه عنه، وكذلك رواه أبو عبد الله اليزيديّ عنه في كتابه في «المعاني»، ثم ما حكاه عن أبي الحسن من قولهم: إنّما يقولون يستهزيون على ماذا تحمله: على التحقيق أم على جعلها بين بين؟ [فإن حمله] على التحقيق لم يجز، لأنّ الكلام ليس فيه، إنّما الكلام على التخفيف [فإن حملته] على جعلها بين بين قد أثبتّ إذا ما أنكره وما لم يقله أحد من أهل التخفيف عنه، هذا خطأ عليه فاحش في النقل.
وأمّا ما ذكره محمد بن يزيد في هذه المسألة في كتابه المترجم بالشرح من قوله: والأخفش لا يقول إلا كما يقول النحويون: هذا عبد يبلك، ولكن يخالف في يستهزءون، فهذا
[الحجة للقراء السبعة: 1/364]
الإطلاق يوهم أنّه لا يفصل بين المتّصل والمنفصل، وقد فصل أبو الحسن بين أكموك وعبد يخوانك، فينبغي إذا كان كذلك ألّا ترسل الحكاية عنه حتى تقيّد، ويفصل بين المتصل والمنفصل كما فصل هو). [الحجة للقراء السبعة: 1/365]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض}
قرأ الكسائي {وإذا قيل لهم} بالإشمام وكذلك يفعل في غيض الماء وسيء وحيل وجيء وسيق وابن عامر دخل معه في حيل وشيء وسيق ونافع دخل معهما في سيء
[حجة القراءات: 89]
وقرأ الباقون جميع ذلك بالكسر وحجتهم في ذلك أن الأصل في ذلك قول وحول وسوئ وسوق وغيض وجيئ فاستثقلت الضمة على فاء الفعل وبعدها واو مكسورة وياء مكسورة فنقلت الكسرة منهما إلى فاء الفعل وقلبت الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها فقيل في ذلك قيل وحيل وأخواتها
وحجّة الكسائي في ذلك أنه لما كان الأصل في كل ذلك فعل بضم الفاء الّتي يدل ضمها على ترك تسمية الفاعل أشار في أوائلهن إلى الضّم لتبقى بذلك دلالة على معنى ما لم يسم فاعله وأن القاف كانت مضمومة - صلّى اللّه عليه وسلّم-). [حجة القراءات: 90]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ):(7- قوله: «قيل» وأخواتها، قال أبو محمد: اختلف القراء في إشمام الضم في أوائل ستة أفعال قد اعتلت عيناتها، وقلبت حركتها على ما قبلها، فسكنت العينات، وقلبت ما فيه واو ياءات، لانكسار ما قبلها، وتلك الأفعال: «سيء، وسيق، وحيل، وجيء، وقيل، وغيض» فقرأ هشام والكسائي بإشمام الضم في أوائلها، وقرأ ابن ذكوان بالإشمام في أول «سيء، وسيئت، وسيق، وحيل» وقرأ نافع بالإشمام في «سيء، وسيئت» خاصة،
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/229]
وبالكسر في باقيها، وقرأ الباقون بالكسر في أوائل جميعها.
8- وحجة من قرأ بالإشمام، في أوائل هذه الأفعال الستة، أصلها أن تكون مضمومة، لأنها أفعال لم يُسم فاعلها، منها أربعة، أصل الثاني منها واو، وهي «سيء، وسيق، وحيل، وقيل»، ومنها فعلان، أصل الثاني منها ياء وهما «غيض، وجيء»، وأصلها: «سوي، وقول، وحول، وسوق، وغيض، وجيء» ثم ألقيت حركة الثاني منها على الأول فانكسر، وحذفت ضمته، وسكن الثاني منها، ورجعت الواو إلى الياء، لانكسار ما قبلها وسكونها، فمن أشم أوائلها الضم أراد أن يبين، أن أصل أوائلها الضم، كما أن من أمال الألف، في «رمى، وقضى» ونحوه، أراد أن يبين، أن أصل الألف الياء، ومن شأن العرب في كثير من كلامها المحافظة على بقاء ما يدل على الأصول، وأيضًا فإنها أفعال بنيت للمفعول، فمن أشم أراد، أن يُبقى في الفعل ما يدل على أنه مبني للمفعول لا للفاعل.
9- وعلة من كسر أوائلها أنه أتى بها على، ما وجب لها من الاعتلال، كما أتى من لم يمل «رمى، وقضى» ونحوه، بالألف والفتح، على ما وجب لهما من الاعتلال.
10- فإن قيل: فلم أجمعت العرب على ترك الإشارة في «قل، وبع» وأصل حركة الأول فيها الفتح، والضم والكسر ليسا بأصل فيهما، وكذلك أجمعوا على ترك الإشارة إلى ضمة الواو، التي كانت في أصل «يقوم، ويقول»، وأصلهما الضم، فنقلت الضمة، التي على الواو، إلى ما قبلها، وسكنت الواو، وكذلك أجمعوا على ترك الإشارة إلى كسرة الياء في «يبيع، ويكيل» وأصلهما الكسرة، ثم نقلت الكسرة إلى الحرف الذي قبلهما، وسكنت الياء فيهما.
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/230]
11- فالجواب أن الحركة، التي كانت على هذه الحروف، باقية في الكلمة لم تحذف، وهي ضمة القاف في «يقوم، ويقول» وكسرة الياء والكاف في «يبيع، ويكيل» فلما كانت الحركة باقية لم تحتج إلى الإشارة، إنما تقع الإشارة لتدل على الحركة المحذوفة من الكلام، فلما كانت ضمة أوائل الأفعال الستة محذوفة، أتى بالإشارة، لتدل على الحركة المحذوفة من الكلام، فأما من أتم الضم في بعضها وتركه في بعض، فإنه قرأ على ما نقل، وجمع بين اللغتين، إذ الإشارة وتركها لغتان فاشيتان مشهورتان.
12- فإن قيل: هل تُسمع هذه الإشارة أو لا تُسمع، وهل ترى أو لا ترى، وهل تحكم على الحرف الأول، الذي معه الإشارة، بالضم أو بالكسر؟
13- فالجواب أن الإشارة إلى الضم، في هذه الأفعال، تُسمع، وترى في نفس الحرف الأول، والحرف الأول مكسورة، ومع ذلك الكسر إشارة إلى الضم، تخالطه، كما أن الحرف المتحرك الممال؛ لإمالة فيه، تسمع وترى في نفس الحرف الممال، والممال مفتوح، ومع ذلك الفتح إشارة إلى الكسر تخالطه، لتقريب الألف، التي من أجلها وقعت الإمالة، إلى الياء، وكذلك تقريب الألف الممالة إلى الياء في حال الإمالة تُسمع وتُرى لأنها ليست بحركة، وليس الحرف الأول من هذه الأفعال بمضموم، إنما هو مكسور، يخالط كسرته شيء من ضم يسمع، كما أن الحرف، المفتوح الممال، حكمه الفتح، ويخالط فتحته شيء من كسرة، يسمع، فبالحرف الممال يشبه هذه الإشارة إلى الضم، في هذه الأفعال، سيبويه وغيره، ألا ترى أن أوائل هذه الأفعال، لو
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/231]
كانت مضمومة، أو الضم أغلب عليها، لانقلبت الياءات واوات، إذ ليس في كلام العرب ياء ساكنة قبلها ضمة، فلولا أن الحرف الأول مكسور ما ثبت لفظ الياء فيهن، ويدل على ذلك أن بع العرب يترك أوائل هذه الأفعال على ضمته، التي وجبت له، وهو فعل ما لم يُسم فاعله، فإذا فعل ذلك أتى بالواو في جميعها فقال: «قول، وحول، وسوق» ونحوه.
قال أبو محمد: والكسر أولاهما عندي، كما كان الفتح أولى من الإمالة، وقد قرأ بإشمام الضم فيها الحسن ويحيى بن يعمر والأعمش، وقرأ بالكسر الأعرج وأبو جعفر يزيد وشيبة وأيوب وعيسى وشبل وأهل مكة، وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم وأبي طاهر، قال أبو طاهر: الكسر سنن العربية، وقال أبو حاتم: الكسر قراءة العامة في جميع ذلك، وهي في اللغات أفشى، وفي الآثار أكثر، وعلى الألسنة أخف، وفي قياس النحو أجود.
قال أبو محمد: فأما ما وقع من هذا من المصادر فلا يجوز فيه إشارة إلى ضم ألبتة، وذلك قوله: {وأقوم قيلا} «المزمل 6»، و{إلا قيلا سلاما} «الواقعة 26» و{قيله يا رب} «الزخرف 88» و{من أصدق من الله قيلا} «النساء 122»، وإنما وجب ذلك؛ لأنها مصادر، لا أصل لأوائلها في الضم). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/232]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (8- {وإذا قيل} [آية/ 11]:-
بإشمام القاف الضم، وكذلك: {غِيضَ} و{سِيءَ} و{سِيئَتْ} و{حِيلَ} و{سِيقَ} و{جِيءَ}، قرأها الكسائي و- (يس)- عن يعقوب.
وإنما اختار إشمام الكسرة الضمة في هذه الأفعال التي لم يسم فاعلها ليكون دليلًا على أن الفعل على فُعِل فيؤمن بها التباس الفعل المبني للفاعل
[الموضح: 247]
بالفعلِ المبني للمفعول به؛ لأنّ أصلَ {قِيلَ} قُوِلَ، بضم القاف وكسر الواو، فنُقِلَت الكسرةُ إلى القافِ ليُدلّ على أنّ عينَ الفعلِ مكسورةٌ، فلمّا نُقِلَتْ إليها الكسرةُ زالتْ عنها الضمةُ التي كانتْ فيها؛ لأنّ الحرفَ الواحدَ لا تحلّهُ حركتان، فأشمّها الضمةَ مَنْ أَشَمَّ ليدل بذلك على الضمةِ المُزالةِ، وقد فعَلُوا مثل ذلك الإشمام في قولهم: أَنتِ تَغْزِينَ؛ ليدُلّوا بالإشمام على أنّ أصله: تَغْزُوِينَ.
ونافعٌ يُشمّ الضمَّ في {سيء} و{سِيئَتْ} فقط، ووافقَهُ ابنُ عامر فيهما، وزاج عليهما {حِيل} و{سيق} فصارا أربعة أحرفٍ.
وإنما قصرا هذا الحكم على البعض دون البعض أخذًا باللغتين، واتباعًا للسنة.
وأما الباقون و-ح- عن يعقوب فإنهم يكسرون أوائل هذه الأفعال كلها، ولا يشمونها؛ لأن ذلك هو الأصل، وما سواه داخل فيه؛ لأن الأصل فيه: فعل، فنقلت حركة العين إلى الفاء، ليعلم بذلك حركة العين، فلما فعل هذا النقل في فعل المبني للمفعول به اكتفي به فارقًا بينه وبين فعل المبني للفاعل، لكن من اختار القراءة الأولى أراد زيادة الفرق، وأن تقع المحافظة على الضمة الفاء بالإشمام، كما وقعت المحافظة على كسرة العين بالنقل إتمامًا للفرق بين الفعلين المبني للفاعل والمبني للمفعول به، على أن أكثر العرب على الكسر دون الإشمام إذ هو الأصل). [الموضح: 248]

قوله تعالى: {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12)}

قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله تعالى: (السّفهاء ألا)
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو (السّفهاء ألا) بهمز الأولى
[معاني القراءات وعللها: 1/136]
وطرح الثانية، وكذلك يفعلون بكل همزتين برزتا مختلفتين من كلمتين في جميع القرآن، فإذا وردتا متفقتين همزوا الثانية وتركوا الأولى، كقوله: (جا أمرنا) و(شا أنشره) ونحوهما.
وكان ابن كثير ونافع إذا أتت الهمزتان المتفقتان في موضع خفض حوّلا الأولى إلى الياء، فقرءا: (هؤلاي إن) و(على البغاي إن)، فإذا أتيا مضمومتين حوّلا الهمزة الأولى إلى الواو، كقولك: (أؤلياو أولئك)، وكان ابن كثير ونافع يهمزان الثانية في المكسورتين، ويعوضان من الأولى كسرة مختلسة، وفي المضمومتين يهمزان الثانية ويعوضان من الأولى ضمة مختلسة، وأما المفتوحتان فإن ابن كثير ونافعًا وأبا عمرو يهمزون الثانية ويطرحون الأولى، ولا يبدلون منها فتحة.
[معاني القراءات وعللها: 1/137]
وكان يعقوب يجمع بين الهمزتين المختلفتين في قوله: (السّفهاء ألا) ومذهبه في المتفقتين همز الثانية وتعويض من الأولى في المضمومتين واوا، وفي المفتوحتين ألفا، وفي المكسورتين ياء.
وقرأ الباقون كل هذا بهمزتين همزتين.
قال أبو منصور: قد أعلمتك أن هذه القراءات في باب الهمز لغات مأخوذة عن العرب، فبأي لغة قرأت فقد أصبت، إذا قرأ به قارئ يقرأ بالسنة). [معاني القراءات وعللها: 1/138]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ):(12- وقوله تعالى {السفهاء ألا}
قرأ عاصم وحمزة والكسائي وابن عامر بهمزتين على أصل الكلمة، همزة «ألا» وهي مفتوحة، وهمزة {السفهاء} وهي مضمومة.
وقرأ الباقون بهمزة واحدة، ولينوا الثانية كراهة لاجتماع همزتين، غير أنهم اختلفوا إذا كانت الهمزتان متفقتي الحركتين وهما: أن يكونا مضمومتين نحو: {أولياء أولئك} أو مكسورتين نحو: {هؤلاء إن كنتم صادقين} أو مفتوحتين نحو: {ءأنذرتهم} فقرأ ابن كثير وورش عن نافع بتليين الثانية وهمزة الأولى نحو: {هؤلاء إن كنتم} {ثم إذا شاء انشره} وهو اختيار الخليل رحمه الله شبهة بآزر وآدم، أعني في تليين الثانية.
وقال أبو عمرو بحذف الهمزة الأولى تخفيفًا {هؤلاء إن كنتم} {شاأنشره} و{أوليا ألئك}.
وقرا نافع بلفظة كالياء، أعني الهمزة الأولى إذا كانت مكسورة، وبلفظة كالواو إذا كانت مضمومة في رواية قالون والمسيبي نحو قوله عز وجل: {هؤلاء إن كنتم} {وأولياء ألئك} لأنه كما لين الهمزة جعلها شبه الواو والياء، وقرأ الباقون بهمزتين على أصل الكلمة). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/69]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : (باب الهمزتين
باب الهمزتين تلتقيان من كلمتين وهما مختلفتا الإعراب وهما على ستّة أوجه وجه منها لم يجئ في القرآن وهي الهمزة المكسورة الّتي بعدها همزة مضمومة كقولك هؤلاء أمراء وباقيها موجودة في القرآن
1 - فأول ذلك المضمومة الّتي بعدها المفتوحة كقوله {السّفهاء ألا} تهمز الأولى وتخفف الثّانية وتنحو بها نحو الألف
2 - وبعد ذلك المضمومة الّتي بعدها مكسورة كقوله {ولا يأب الشّهداء إذا ما دعوا} تهمز الأولى وتنحو بالثّانية نحو
[حجة القراءات: 90]
الياء من غير أن تكسرها
3 - والثّالثة المفتوحة الّتي بعدها مكسورة نحو قوله {أم كنتم شهداء إذ حضر}
4 - والرّابعة المفتوحة الّتي بعدها مضمومة كقوله {جاء أمة رسولها} تهمز الأولى وتنحو بالثّانية نحو الواو من غير ضم
5 - والخامسة المكسورة الّتي بعدها مفتوحة نحو قوله {أأمنتم من في السّماء أن يخسف} تهمز الأولى وتنحو بالثّانية نحو الألف فهذا مذهب نافع وابن كثير وأبي عمرو
وحجتهم أن العرب تستثقل الهمزة الواحدة فتخففها في أخف أحوالها وهي ساكنة نحو كاس فتقلب الهمزة ألفا فإذا كانت تخفف وهي وحدها فأن تخفف ومعها مثلها أولى
وقرأ ابن عامر وأهل الكوفة بهمزتين في جميع ذلك أرادوا التّحقيق وتوفية كل حرف حقه من حركته ونصيبه من الإعراب إذ كانت الهمزة حرفا من حروف المعجم يلزمها من الحركة ما يلزم سائر الحروف فجاؤوا بكل همزة من المجتمعتين على هيأتها إرادة التّبيين والنطق بكل حرف من كتاب الله على جهته من غير إبدال ولا تغيير فإذا التقتا متفقتي الإعراب وذلك أن تكونا مكسورتين كقوله {هؤلاء إن كنتم} أو تكونا مفتوحتين كقوله جاء أمرنا أو تكونا مضمومتين كقوله أولياء أولئك فقرأ ابن عامر وأهل الكوفة
[حجة القراءات: 91]
جميع ذلك بهمزتين وقد مر الكلام فيه
وورش عن نافع والقواس عن ابن كثير يهمزان الأولى ويلينان الثّانية ويشيران بالكسر إليها وفي المتفوحتين يشيران بالفتح إليها وفي المضمومتين يشيران بالضّمّ إليها وأما نافع والبزي عن ابن كثير فيلينان الأولى شبه الياء ويهمزان الثّانية وفي المضمومتين شبه الواو وهذا باب تحكمه المشافهة لا الكتابة وفي المفتوحتين يحذفون الأولى بلا عوض
وقرأ أبو عمرو جميع ذلك بهمزة واحدة حذف إحداهما واكتفى بالأخرى عنها وها هنا خلاف آلمحذوفة هي الأولى أم الثّانية
فمن حجّة من يقول الثّانية أنّها هي الّتي جلبت معظم الثّقل فكان الحذف فيها أوجب لأن الأولى لو انفردت لما وجب حذفها ولما جاز وحجّة من يقول الأولى هي المحذوفة هي أن الأولى وقعت في الكلمة آخرا والثّانية وقعت في كلمتها أولا والأواخر أحق بالإعلال من الأوائل ألا ترى أن هذه الهمزة إذا وقف الإنسان على جاء وعلى هؤلاء فإنّها تسقط عند الوقف فالأولى إذا أحق بالإسقاط من الثّانية). [حجة القراءات: 92]

قوله تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14)}
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (13- وقوله تعالى: {إنما نحن مستهزئون}
قرأ حمزة وحده: إذا وقف بترك الهمزة وإشمام الزاي الكسر وبجعل الهمزة بين الواو والياء، ولا يضبط ذلك الكتاب، إنما فعل ذلك لأنها كتبت في المصحف بغير ياء، والباقون يقفون كما يصلون). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/70]

قوله تعالى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) }
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (قوله جلّ وعزّ: (في طغيانهم).
كان الكسائي يميل الألف فيها، وفي قوله: (وفي آذانهم) و(فأحياكم) و(خطاياكم) و(مرضات الله) و(حق تقاته)
[معاني القراءات وعللها: 1/138]
و (وقد هدان) و(يسارعون) و(سارعوا) و(محياي) و(رؤياي) و(من عصاني) و(أخسن مثواي) و(ما أنسانيه) و(آتاني الكتاب)، و(أوصاني) و(آتاني الله).
و"كمشكاةٍ) و(دحيها) و(تليها) و(طحيها) و(سجى)، انفرد الكسائي بكسر هذه الحروف.
وفتحهن حمزة، وكان حمزة إذا تقدمت قبل (أحيا) واوٌ كسر الحرف، مثل قوله:
[معاني القراءات وعللها: 1/139]
(أمات وأحيا). وقد كسر حروفا من نظائر هذه الحروف، مثل قولهم: (منهم تقاةً) و(أكرمي مثواه) ولا يقاس على هذه الحروف التي ذكر عن الكسائي أنه كسرها وحده، ويفتح حمزة إياها.
واتفق حمزة والكسائي على إمالة (كلاهما) وعلى إمالة (فالق الحب والنوى)، وروى الدوري عن الكسائي أنه أمال (أول كافرٍ به)، ولم يقله أحد من القراء.
وكان ابن كثير وابن عامر وعاصم ويعقوب يفتحون هذه الحروف كلها إلا ما روي عن ابن عامر في "التوراة" و(ما أدراك) أنه كان يقرأهما بين الفتح والكسر.
وكان حمزة والكسائي يميلان كل ذوات الياء.
والإمالة لغة تميم، وعليها صيغة لسان من جاورهم من أهل العراق والبدو.
والعرب تقول: (هذا عابدٌ) و(عابدٌ)، و(عالمٌ) و(عالمٌ)
[معاني القراءات وعللها: 1/140]
فيكسرون الألف لانكسار ما بعدها إلا أن تدخل حروف الإطباق، وهي: الطاء والظاء والصاد والضاد، ولا يجوز في ذلك (ظالم)، ولا (طالب)، ولا (صابر)، ولا (ضابط).
وكذلك حروف الاستعلاء، وهي: الخاء والغين والقاف، لا يجوز في (غافل) (غافل) ولا في (خادم) خادم، ولا في (قاهر) (قاهر)، وباب الإمالة يطول شرحه إلا أن هذا في هذا الموضع هو القصد، وقدر الحاجة.
وأما إمالة مثل قوله: (سجى) و(قلى) وما أشبههما فالقياس أن ما كان منها من ذوات الياء مثل (قلى يقلي) و(سرى يسري) أميل.
وما كان في بنات الواو مثل (علا يعلو) و(سما يسمو) لم يمل، على أن الإمالة جائزة في جميعها إذا اتفقت رؤوس الآيات.
والراء إذا دخلت في أسماء على مثال (فاعل) سهلت الإمالة، وإن كان فيها حرف من حروف الإطباق مثل قولك: (هذا صارم) يميل الصاد، ولا تقول في (صالح)، وكذلك تقول: (مررت بضارب)، ولا تقول: (مررت بضابط)، وهذا الباب انفرد به البصريون، وهو - باب الإمالة). [معاني القراءات وعللها: 1/141]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (14- وقوله تعالى: {في طغيانهم يعمهون}. قرأ الكسائي وحده {في طغيانهم} بالإمالة وكذلك {في آذانهم}.
وقرأ الباقون بالفتح على أصل الكلمة، فحجة الكسائي في إمالة طغيانهم كسرة النون والياء، ولأن الطغيان والطغوى بمنزلة واحدة، قال الله تعالى: {كذبت ثمود بطغوايها} أراد: بطغيانها غير أنه قيل: الطغوى ليشاكل رءوس الآي في السورة، كما قال الله تعالى: {والكافرون هم الظالمون} وقال في موضع آخر: {أولئك هم الكفرة الفجرة} فجمع كافرًا على كفرة ليوافق رءوس الآي.
فأما إماله {آذانهم} فإن كان الكسائي أماله سماعًا فقد زال السؤال، وإن كان أماله قياسًا فقد أخطأ القياس؛ لأن ألف في «آذان» التي بعد الذال ألف الجمع، وألف الجمع لا تمال ويلزمه أن يميل {بأسمائهم} {ويطاف عليهم بآنية} فأما قوله تعالى: {من أخباركم} فإن الألف أميلت؛
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/70]
الفعل راء. وقد حدثنا أبو بكر بن مجاهد قال: حدثنا أبو الزعراء قال: حدثنا أبو عمر عن الكسائي قال: للعرب في إمالة ذوات الراء رغبة ليست لهم في غيرها حتى أمالوا: {افترى على الله} و{قد نرى} ولذلك فرق أبو عمرو بين ذوات الراء وغيرها فقرأ: {ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها} فأمال ذوات الراء ولم يمل غيرها). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/71]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ):(اختلفوا في قوله (تعالى): في طغيانهم [البقرة/ 15] وفي آذانهم [البقرة/ 19].
قال أبو عمر الدّوري ونصير بن يوسف النحوي:
[الحجة للقراء السبعة: 1/365]
كان الكسائي يميل الألف في طغيانهم، وفي آذانهم، وقال غيرهما: كان يفتح.
وقال أبو الحارث الليث بن خالد وغيره: كان الكسائي لا يميل هذا وأشباهه. والباقون يفتحون.
قال أبو علي: الطغيان: مصدر طغى، كالكفران والعدوان والرضوان.
وحكى أبو الحسن: طغا يطغو، وقالوا: يطغى في المضارع، وفي التنزيل: ولا تطغوا فيه فيحلّ عليكم [طه/ 81] فألف طغا تكون منقلبة عن الياء، فيمن قال:
طغيت، وعن الواو فيمن قال: طغوت.
وقالوا: طغوت، وقالوا: تطغى، كما قالوا: صغوت تصغى، ومحوت تمحى، ففتحت العين في المضارع للحلقي.
وحكى بعضهم طغيت تطغى، فتطغى على هذا مثل يفرق، لا مثل يصغى، ويجوز على هذا أن تكسر حرف المضارعة منه فتقول: تطغى، وإن جعلته مضارع طغوت أو
[الحجة للقراء السبعة: 1/366]
طغيت لم يجز ذلك فيه.
فأمّا قوله تعالى: فأهلكوا بالطّاغية [الحاقة/ 5] فيحتمل ضربين:
أحدهما أن يكون مصدرا كالعافية والعاقبة، أي:
بطغيانهم.
والآخر أن يكون صفة، أي بالريح الطاغية.
وقوله: كذّبت ثمود بطغواها [الشمس/ 11] فالواو مبدلة من الياء: لأنّه اسم مثل التّقوى والرّعوى والبقوى، لأنّ لغة التنزيل الياء بدلالة الطغيان المذكور فيه في مواضع.
فأما لا تطغوا، فلا دلالة فيها على الياء ولا الواو. وإن جعلت طغوى من لغة من قال: طغوت، كان الواو فيها من نفس الكلمة كالدّعوى والعدوى.
وحجة من أمال الطغيان هي أنّ الألف قد اكتنفها شيئان:
كلّ واحد منهما يجلب الإمالة وهما الياء التي قبلها والكسرة التي بعدها، فإذا كان كلّ واحد منهما على انفراده يوجب الإمالة في نحو السّيال والضّياح. ومررت ببابه، وبداره، فإذا اجتمعا كانا أوجب للإمالة.
[الحجة للقراء السبعة: 1/367]
فإن قلت: إنّ أول الكلمة حرف مستعل مضموم، فكلّ واحد من المستعلي والضم يمنع الإمالة، فهلا منعاها هنا أيضا.
فالقول: إن المستعلي لما جاءت الياء بعده، وتراخى عن الألف بحرفين لم يمنع الإمالة. ألا ترى أنّ قوما أمالوا نحو المناشيط لتراخي المستعلي عن الألف مع أن المستعلي بعد الألف، فإذا تراخى في طغيان عنها بحرفين مع أنّه قبل الألف، كان أجدر بالإمالة، ألا ترى أنّهم قد أمالوا نحو صفاف، وقباب، ولم يميلوا نحو مراض، وفراض، لمّا كان المستعلي متأخرا عن الألف. وقالوا: بطارد [هود/ 29] وبقادر [يس/ 81] لمّا تقدم المستعلي الألف، ولم يميلوا فارق وبارض؟ وأما في (آذانهم) فجازت فيها الإمالة كما جازت في مررت ببابه، لمكان كثرة الإعراب، وهي حسنة جائزة.
والإمالة في طغيانهم أحسن). [الحجة للقراء السبعة: 1/368] (م)
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (9- {فِي طُغْيَانِهِمْ} [آية/ 15]: و {آَذَانِهِمْ} [آية/ 19]:-
بالإمالة، قرأها الكسائي وحده.
وإنما أمال {طُغْيانِهِمْ}؛ لأن أَلِفَها قد اكتنفها شيئان، واحد منهما على الانفراد جالب للإمالة، وهما الياء قبلها والكسرة بعدها، فإذا أميلت الكلمة بواحدٍ منها لأن تمال باجتماعهما أولى.
وأما {فِي آذانِهِمْ آَذَانِهِمْ} فإنما أمالها لمكان كسرة الإعراب فيها، كمال يقال: مررت ببابه وداره، والإمالة في الأول أقوى). [الموضح: 249] (م)


قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)}
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (16- وقوله تعالى: {الضللة بالهدى} قرأ حمزة والكسائي بإمالة ذوات الياء نحو: الهدي والحمي والدنيا وغزى {إذا تولى سعى} وموسى وعيسى.
وقرأ نافع بين التفخيم والإمالة وهو إلى الفتح أقرب.
وقرأ أبو عمرو: ما كان من ذلك في رءوس الآي نحو آيات {طه} {والنجم إذا هوى} {والليل إذا يغشى} بين بين، أو كان الاسم على فعلى نحو: الدنيا أو على (فعلى) نحو: {شتى} أو على (فعلى) نحو (عيسى). وقرأ الباقون بالفتح، فمن فتح فعلى أصل الكلمة، ومن أضجع وأمال فلأن يعمل لسانه في موضع واحد؛ إذ كانت الإمالة تقرب من الياء. فأما حمزة فإنه فرق بين ذوات الياء والواو فقرأ: {والقمر إذا تلباها} بالفتح {والنهار إذا دجليهاد} بالإمالة، والعرب إذا اجتمع في أواخر الآي أو قربت ذوات الياء من الواو أتبعوا بعضها بعضًا. أخبرني بذلك ابن مجاهد، عن السمري، عن الفراء). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/71]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (بسم الله اشتروا الضّلالة [البقرة/ 16]: قال أحمد بن موسى:
ضمّ الواو اتفاق.
[الحجة للقراء السبعة: 1/368]
قال أبو علي: الواو في (اشتروا) ساكنة، فإذا سقطت همزة الوصل للدرج التقت مع الساكن المبدل من لام المعرفة فالتقى ساكنان، فحركت الأوّل منهما لالتقاءيهما، ولا يخلو التحريك فيها من أن تكون بالضمّ أو بالكسر، فصار الضمّ أولى بها ليفصل بالضمّ بينها وبين واو أو ولو، فحركت بالضم دون الكسر لذلك.
ومما يدل على تقدم التحرك بالضم على الكسر لالتقاءيهما، أنّهم قد حرّكوا هذه الواو في غير هذا الموضع بالضم لالتقاء الساكنين، واتفق الجميع فيه على التحريك بالضم دون غيره، وذلك في قوله: لتبلونّ في أموالكم [آل عمران/ 186]، ولترونّ الجحيم [التكاثر/ 6] فدلّ اتفاقهم على تحريك هذه بالضمّ على أنها في (اشتروا الضلالة) محرّكة بالضمّ أيضا لالتقاء الساكنين، كما حرّكت في لتبلونّ ولترونّ الجحيم.
ويدلّ على تقدّم ذلك على الكسر ما جاء من ضمهم لها في: مصطفو الله، فكما حرّكوا هذه الواو بالضمّ كذلك ينبغي أن تحرّك بالضمّ في (اشتروا الضّلالة بالهدى)؛ لاتفاقهما في الدّلالة على الجمع.
ويدل على تقرر ذلك في هذه الواو أنّهم شبهوا بها الواو التي في أو، ولو، فحركوها بالضم تشبيها بقوله: (اشتروا الضّلالة). وكما شبهوا التي في أو بالتي تدل على الجمع،
[الحجة للقراء السبعة: 1/369]
كذلك شبهوا التي للجمع بها فأجازوا فيها الكسر، كما أجازوا في: لو استطعنا [التوبة/ 42] الضمّ تشبيها بالتي للجمع، وليس هذا بالوجه، كما أنّ الكسر في: لا تنسوا الفضل [البقرة/ 237] ليس بالوجه.
ومثل هذا في أن كل قبيل من الواوين شبّه بالآخر إجازتهم الجر: في الضارب الرجل، تشبيها بالحسن الوجه، وإجازتهم النصب في الحسن الوجه تشبيها بالضارب الرجل، والنصب في الضارب الرجل الوجه. والجرّ في الحسن الوجه الوجه، إلّا أنّ الكسر في: (ولا تنسوا الفضل) أقبح وأقل في الاستعمال من الحسن الوجه.
ويدلّ على تقدّم التحريك بالضمّ في هذه الواو لالتقاء الساكنين، أنّ قوما أبدلوا منها الهمزة، فقالوا: (اشترءوا الضّلالة) كما يبدلون من الواو المضمومة، فلو كان تحريكها بالكسر متعارفا لكان جديرا ألا يهمزوا، لأنّها كانت تشبه حركة الإعراب لتعاقب الحركتين عليها، كما تتعاقب حركة الإعراب على المعرب.
ألا ترى أن حركة غير الإعراب لمّا تعاقبت على ما كان مضاعفا أدغم في قول عامة العرب غير أهل الحجاز، كما أن حركات الإعراب لمّا تعاقبت على المعرب أدغم، فتحريك من حرّكها بالضمّ دلالة على أنّه جعلها بمنزلة سائر الواوات
[الحجة للقراء السبعة: 1/370]
المضمومة التي تبدل الهمزة منها، ولا يدخلها غير الضمّ، نحو التي في الغئور والنّئور وأسؤق وأنؤر.
وليس إبدال هذه الواو همزة، وإن كان فيه ما استدللنا به من تمكن تحركها بالضم في هذا الموضع بالقياس، لأنّ تحريكها بالضمّ إنّما هو لالتقاء الساكنين، والتحريك لالتقاء الساكنين في تقدير السكون لما تقدّم من الدّلالة على ذلك.
فإذا كان كذلك فكأنّه قد أبدل الهمزة من واو ساكنة، والهمزة لا تبدل من الواو الساكنة.
ولو استقام أن تبدل من هذه الواو الهمزة إذا تحركت بهذه الحركة، لاستقام أن تبدل منها إذا تحركت بحركة الإعراب، لأنّها مثلها في أنّها ليست بلازمة، إلّا أنّ إبدال الحركة لالتقاء الساكنين همزة أوجه لموافقتها نحو أدؤر في أنّ الحركتين فيهما حركتا بناء لا حركتا إعراب.
وقد شبهوا غير اللازم باللازم في مواضع، نحو ادغامهم الواو في رويا وروية وما أشبه ذلك، وليس قول من قال-: إنّ هذه الواو إنّما حركت بالضمّ لالتقاء الساكنين، لأنّه فاعل في المعنى فجعلت حركة التقاء الساكنين فيه كحركة الإعراب- بمستقيم. ألا ترى أنّ الياء في: أخشي القوم يا مرأة، فاعلة في المعنى، واتفقوا على تحريكها بالكسر! وقد كسر ناس الواو
[الحجة للقراء السبعة: 1/371]
في: (اشتروا الضّلالة)، (ولا تنسوا الفضل بينكم) فلو كان كما ذهب إليه من ذكرنا قوله، لم يجز اختلاف الحركات فيه كما لم يجز ذلك في حركة الإعراب إذا كان معربا وأمّا ما حكاه أحمد بن يحيى عن الفراء في أن قوله: (اشتروا الضّلالة) إنما حرّكها بالحركة التي كانت تجب للام الفعل من الضمة، فإنّه ذهب في ذلك إلى أن الحركة فيها ليست لالتقاء الساكنين، كما يذهب إليه سيبويه وأصحابه.
وهذا الذي ذهب إليه الفراء لا يستقيم من غير جهة:
منها أن اشترى واصطفى وما أشبه ذلك إنما انقلبت اللام فيه ألفا لتقدير الحركة فيها، ولولا تقديرها لم تنقلب، كما لم تنقلبا في: لو، وكي، فإذا انقلبا لذلك لم يستقم أن يقدّر نقل الحركة عنها، لأن ثباتها ألفا بمنزلة كون الحركة معها، فكيف يقدر نقلها إلى موضع وهي في حكم الثبات في الحرف المتحرك بها؟
ومن ثم لم ينقلوا الحركة في قال، وباع، وهاب، وخاف، إلى الفاء، كما نقلوا في قلت، وطلت، وبعت، وخفت، وهبت، ألا ترى أنّها في تقدير الثبات مع الألف؟
ويمتنع ذلك من وجه آخر: وهو أنّا رأينا الحركات إنّما تلقى على الحروف التي تكون قبل الحروف التي تنقل منها، ولا تنقل إلى ما بعد الحروف المنقولة منها الحركة، ألا ترى أن
[الحجة للقراء السبعة: 1/372]
بعت، وقلت، وخفت، وهبت، ومست وظلت، فيمن نقل حركة عينيهما وأحست كذلك، وكذلك أقام، وأقال، وأصمّ، وأيلّ، وأعدّ، وأمدّ، وأخلة، وأيمّة، وكذلك نقل حركات الهمز في التخفيف نحو جيل، وحوبة والمرة، والجية، والخب والعب. وكذلك يمدّ، ويعفّ، ويشمّ، وكذلك من نقل في خطّف، وقتّل ويهدّي، إنما ينقل إلى الحرف الذي قبل الحرف المنقولة منه الحركة. وكذلك قولهم:
قاضون وغازون، ومشترون ونحو ذلك. فإذا كان الأمر في ذلك على ما وصفنا ولم نجد في هذه الأصول شيئا على ما ادّعاه- ثبت فساد ما ذهب إليه لدفع الأصول له وتعرّيه من دلالة تدلّ عليه.
ووجه آخر، وهو أن الحركة في: اشتروا الضلالة، ومصطفو القوم، واخشي القوم يا هذه- لا تخلو من أن تكون منقولة، من اللام كما قاله، أو حركة لالتقاء الساكنين كما ذهب إليه غيره.
[الحجة للقراء السبعة: 1/373]
فلو كانت حركة نقل كما قال لوجب أن يتحرك الحرف الذي نقلت إليه بها، التقى مع الساكن، أو لم يلتق، ألا ترى أن سائر ما نقلت الحركة إليه نحو ما ذكرنا قبل يتحرك بالحركة المنقولة إليه وفي أن هذه الحروف: الواو في اشتروا وفي مصطفو القوم، والياء في اخشي الله يا هذه، لا تتحرك حتى تلتقي مع ساكن منفصل منها دلالة على أنّها تحركت من حيث تحركت الحروف الساكنة الملتقية مع سواكن أخر منفصلة منها نحو: عذابٍ اركض [ص/ 41، 42] وأحدن، الله [الصمد/ 2، 3] أو انقص [المزمل/ 3] واذهب اذهب، وما أشبه ذلك مما تحرك لالتقاء الساكنين، فأما تحريكها بالضمّ، وتحريك هذه الحروف التي ذكرناها بغيره من الحركات فمسألة أخرى. ولو لم يكن في ذلك إلّا أن الياء التي هي مثل الألف في اللين نقل حركتها إلى ما قبلها فى: قاضون وفأولئك هم العادون [المؤمنون/ 7] لكان كافيا، فعلم منه أن حركة اللام المنقلبة ألفا لا تنقل إلى ما بعدها كما لم تنقل في «العادون» إلى ما بعده.
اختلفوا في قوله تعالى: بالهدى [البقرة/ 16] وما أشبه ذلك فكان نافع لا يفتح ذوات الياء ولا يكسر مثل قوله: (الهدى، والهوى والعمى، واستوى وأعطى، وأكدى)
[الحجة للقراء السبعة: 1/374]
وما أشبه ذلك، كانت قراءته وسطا في ذلك كله، وكذلك (يحيى، وموسى، وعيسى، والأنثى، واليسرى، والعسرى، ورأى، ونأى).
وقال المسيّبي: كان نافع يفتح ذلك كلّه، والأول قول قالون وورش عن نافع.
وكان ابن كثير يفتح ذلك كلّه.
وأما أبو عمرو فكان يقرأ من ذلك ما كان من رءوس الآي بين الفتح والكسر مثل آيات سورة طه، والنجم و (عبس وتولى، والضحى، والليل إذا يغشى، والشمس وضحاها، ودحاها وطحاها)، فإذا لم يكن رأس آية فتح، مثل: قضى أجلًا [الأنعام/ 2] والهدى، واستوى إلى السّماء [البقرة/ 29] و (أزكى) و (فسواهن)، و (أحيا) فإنّه بالفتح كلّه.
[الحجة للقراء السبعة: 1/375]
فإذا كان الاسم مؤنثا على فعلى أو فعلى أو فعلى مثل (ذكرى) وضيزى [النجم/ 22] وأنثى وشتّى وما أشبه ذلك فهو بين الفتح والكسر، وإذا كانت راء بعدها همزة وبعد الهمزة ياء كسر الهمزة وفتح الراء مثل رأى كوكباً [الأنعام/ 76] ورأى أيديهم [هود/ 70] وإذا جاءت راء بعدها ياء كسر الراء مثل قوله: هل ترى، ويرى والنصارى وأرى. فإذا سقطت الياء في الوصل لساكن لقيها لم يمل الراء كقوله تعالى: حتّى نرى اللّه جهرةً [البقرة/ 55] والنّصارى المسيح [التوبة/ 30] وترى الّذين [الزمر/ 60]، لأنّ الإمالة إنّما كانت من أجل الياء فلما زالت الياء زالت الإمالة.
وروى عبد الوارث وعباس بن الفضل عن أبي
[الحجة للقراء السبعة: 1/376]
عمرو إمالة ذلك كلّه، استقبله ساكن أو لم يستقبله.
والمعروف عن أبي عمرو ترك الإمالة في مثل: نرى اللّه جهرةً [البقرة/ 55].
وكان عاصم يفتح في رواية أبي بكر ذلك كلّه إلّا: (رأى، ورمى ورآه)، و (نأى) في سورة بني إسرائيل [الآية/ 83] وفتح التي في السجدة [فصلت/ 51] وأعمى [الإسراء/ 72] فإذا سقطت الياء لساكن لقيها في الوصل أمال الراء وفتح الهمزة مثل: رأى القمر [الأنعام/ 77].
وروى خلف عن يحيى بن آدم عن أبي بكر عن عاصم أنّه كان يميل الراء والهمزة من قوله تعالى: رأى الشمس [الأنعام/ 78] ورأى القمر [الأنعام/ 77] ورأى
[الحجة للقراء السبعة: 1/377]
الذين ظلموا [النحل/ 85] وما كان مثله.
وكان غير خلف يروي عن يحيى عن أبي بكر عن عاصم في ذلك بفتح الهمزة بعد كسر الراء، مثل حمزة.
وأما حفص فروى عن عاصم ذلك كلّه بالفتح، إلّا قوله:
مجراها [هود/ 41] فإنه أمالها.
وكان حمزة يميل ذوات الياء، مثل: (أعطى واتقى) و (استوى). وما أشبه ذلك، وأمات وأحيا [النجم/ 44] ويحيى من حيّ [الأنفال/ 42] ولا يميل (أحياكم) و (أحيا) إلّا إذا كان قبل الفعل واو. ويميل موسى، وعيسى، ويحيى، ولا يميل ذوات الواو مثل قوله: واللّيل إذا سجى [الضحى/ 2] و (دحاها)، و (طحاها)، و (تلاها)، ويميل ذلك أزكى لهم [النور/ 30] والأعلى [الأعلى/ 1] وكلّ فعل من ذوات الواو زيدت في أوله ألف فإنه يميله.
وكان الكسائي يميل ذلك كلّه، ويميل، (فأحياكم) و (أمات وأحيا)، ويميل ذوات الواو إذا كنّ مع ذوات الياء مثل:
(وضحاها) و (الضحى)، لا يفتح شيئا من ذلك، وكذلك (دحاها).
واتفقا في ترك الإمالة في قوله تعالى: ثمّ دنا [النجم/ 8] وما زكا منكم [النور/ 21] ودعا [آل عمران/ 38] وعفا [البقرة/ 187]، وما أشبه ذلك.
وابن عامر يفتح ذلك كلّه.
[الحجة للقراء السبعة: 1/378]
أبو عمرو يميل الكاف من (الكافرين) في موضع الخفض والنصب إذا كان جمعا، وإذا كان واحدا، كقوله تعالى: أوّل كافرٍ به [البقرة/ 41] أو جمعا في موضع رفع مثل قوله: قل يا أيّها الكافرون [الكافرون/ 1] لم يمل.
وكذلك روى أبو عمر الدّوري، ونصير بن يوسف النحوي جميعا عن الكسائي ولم يرو ذلك عن الكسائي إلا أبو عمر ونصير والباقون لا يميلون.
قال أبو علي: أما إمالة نافع (الهدى، والهوى، والعمى، واستوى، وأعطى، وأكدى، ويحيى، وموسى، وعيسى، والأنثى، واليسرى، والعسرى، ورأى، ونأى) فحسنة، لأنّها ألفات منقلبة عن الياء، أو في حكم المنقلب عنها.
فأمالوها ليدلوا على أن أصلها الياء، أو في حكم ذاك. وإذا كانوا قد أمالوا شيئا من الأسماء التي على ثلاثة أحرف نحو:
العشا والكبا والمكا مع أنها منقلبة عن الواو، فلا نظر في حسن إمالة ما كان انقلابه من هذه الألفات عن الياء، أو كان في حكم ذلك لتدل الإمالة والانتحاء بالألف نحو
الياء على الياء.
ومثل ذلك في إلزام الكلمة ما يدل على الحرف الذي وقع الانقلاب عنه إبدالهم من الهمزة المعترضة في الجمع الواو
[الحجة للقراء السبعة: 1/379]
ونحو هراوى وأداوى، ليدل ذلك على الواو التي كانت اللام في إداوة وهراوة.
ومثله أيضا قول من قال: قيل فانتحى بالكسرة نحو الضمة ليدل على أن الأصل فعل.
ومثل ذلك قولهم: أنت تغزين يا هذه. فأشموا الزاي الضمة لتدل على الواو المحذوفة التي هي لام الفعل، فكذلك إمالة الألف نحو الياء لتدل على أنّ انقلابها عن الياء دون الواو.
ومما يؤكد ذلك أنّ قوما قالوا هذا ماشّ وهذا جادّ، فأمالوا ليدلوا على الكسرة التي تكون في إظهار المثلين وفي عين الفعل في الدّرج.
وأما قصده في الإمالة بها نحو الياء وتوسطه في ذلك فلأنّه كره أن يبالغ في الانتحاء نحو الياء، فيصير كأنّه عائد إلى الياء التي كرهوها حتى أبدلوا منها الألف، وهكذا ينبغي أن تكون الألف في الإمالة.
قال وكان ابن كثير يفتح ذلك كلّه. وحكي عن ابن عامر أنّه كان يفتح ذلك كلّه.
قال أبو علي، الحجة له أنّه كره الإمالة في نحو:
هدى، وعمى، واستوى، لأنّه كره أن ينحو نحو الياء، وقد كان
[الحجة للقراء السبعة: 1/380]
كرهها وفرّ منها حتى قلبها ألفا، فكره أن يعود إلى مقاربة ما كان رفضه، وهو قول الأكثر فيما زعم سيبويه، أعني ألا يميل ما كان انقلابه من الألفات عن الياء كما أن الأكثر من يقول ردّ، فيصحح الضمة ولا ينحو بها نحو الكسرة، لأنّه قد كان كرهها حتى أذهبها بالإدغام.
ومما يؤكد ترك الإمالة في هذا الضرب، لأنّ فيها انتحاء نحو ما كان كرهه، تركهم الإمالة في جادّ ومجادّ ونحوه من المضاعف لأنّه فربّما تحقّق فيه الكسرة التي كانت تقع بعد الألف لو لم تدغم فلم يعد إلى ما يدل عليها من الإمالة بعد رفضه لها، ولم يميلوا في الجر فقالوا: مررت برجل جادّ.
فأمّا من أمال ذلك في الجر فكما أمال: مررت بماله، لا على ما يمال من نحو: عابد وعالم، وهذا قول الأكثر.
قال سيبويه: وكثير من العرب وأهل الحجاز لا يميلون هذه الألف.
قال: وأما أبو عمرو فكان يقرأ من ذلك ما كان من رءوس الآي بين الكسر والفتح، مثل آيات سورة طه، والنجم، وعبس وتولى، والضحى والليل، والشمس وضحاها، ودحاها، وطحاها، فإذا لم تكن رأس آية فتح.
قال أبو علي: إنّما أمال الألفات في رءوس الآي، لأنّ الفواصل بمنزلة القوافي في أنّها مواضع وقوف، كما أنّ أواخر
[الحجة للقراء السبعة: 1/381]
البيوت كذلك، وقد فصلوا بين الوصل والوقف، فأمالوا إذا وقفوا، ولم يميلوا إذا وصلوا، وذلك قولهم في الوقف: يريد أن يضربها ومنّا، ومنها وبنا، ونحو ذلك.
فإذا وصلوا نصبوا فقالوا: يريد أن يضربها زيد، وأن يضربا زيدا، ومنا زيد. وإنّما حملهم على هذا الفصل بين الوقف والوصل أنّهم أرادوا في الوقف تبيين الألف، فكما بيّنوها بأن قلبوا من الألف الياء في نحو هذه أفعى، كذلك بينوها بأن نحوا بها نحو الياء. فإذا وصل ترك الإمالة كما يترك إبدال الياء منها فيقول: هذه أفعى فاعلم، لأنّ
الألف في الوصل أبين منها في الوقف، فعلى هذا فصل أبو عمرو بين رءوس الآي وغيرها.
وأما تسويته بين ضحاها، وطحاها، فليشاكل بينها في اللّفظ، لأنّ الفواصل كالقوافي، فاستحب الملاءمة بين بعض الفواصل وبعض، كما استحبوا ذلك في القوافي، وأمال طحاها ونحوها لذلك ولأنّ الامالة في نحو: طحا وغزا سائغة.
وأما إمالة ما كان آخره ألف التأنيث نحو ذكرى وأنثى وشتى، فلأن هذه الألفات تبدل منها الياء ولا تبدل منها الواو أبدا، فصارت بمنزلة ما أصلها الياء، فأمالها بذلك. وإمالتها وترك إمالتها جميعا كثيران.
قال: فإذا كانت الراء بعدها همزة وبعد الهمزة ياء كسر الهمزة وفتح الراء، يريد بالياء الألف، ولعله سمّاها ياء لأنّ الكتّاب يكتبونها ياء، وذلك نحو: رأى أيديهم [هود/ 70]
[الحجة للقراء السبعة: 1/382]
فأمال الفتحة التي على الهمزة من رأى نحو الياء، لتميل الألف بإمالة الفتحة نحو الياء، وترك الراء مفتوحة لأنّها لم تل الألف، فتركها على فتحتها ولم يغيرها.
قال فإذا جاءت راء بعدها ياء كسر الراء مثل قوله:
(ترى، ونرى، والنصارى، وأرى).
قوله: بعدها ياء، يريد بها الألف الممالة أيضا.
فإن قلت: فهلّا لم يمل الألف هنا لأنّ الراء مفتوحة، والراء إذا كانت مفتوحة منعت الإمالة كما تمنعها الحروف المستعلية. فالقول إن فتح الراء هنا لا يمنع الإمالة كما أن المستعلية أنفسها لم تمنع منها في نحو: سقى وصفا، وكذلك الراء في (النصارى).
قال: فإذا سقطت الياء في الوصل لساكن لقيها لم يمل الراء، كقوله تعالى: حتّى نرى اللّه جهرةً [البقرة/ 55] والنّصارى المسيح [التوبة/ 30]، ويرى الّذين [سبأ/ 6].
قال أبو علي: هذا الذي ذهب إليه أبو عمرو مذهب، وللعرب في هذا مذهبان:
أحدهما ألّا يميلوا بالفتحة نحو الكسرة، لأنّ إمالتها إنّما كانت لتميل الألف نحو الياء، فلما سقطت الألف لالتقاء
[الحجة للقراء السبعة: 1/383]
الساكنين صحح الفتحة ولم يملها لسقوط الألف التي كانت الفتحة تمال لتميلها.
قال سيبويه: قالوا: لم يضربها الذي تعلم، فلم يميلوا، لأنّ الألف قد ذهبت.
والآخر أن يميل الفتحة نحو الكسرة وإن كانت الألف قد سقطت، لأنّ الألف لمّا كان حذفها لالتقاء الساكنين- والتقاء الساكنين غير لازم- صارت الألف كأنّها في اللفظ.
وقد روى أحمد بن موسى هذا الوجه الثاني أيضا عن أبي عمرو، فقال: روى عبد الوارث، وعباس بن الفضل عن أبي عمرو إمالة ذلك كلّه، استقبله ساكن أو لم يستقبله.
قال أحمد: والمعروف عن أبي عمرو ترك الإمالة في مثل نرى اللّه جهرةً [البقرة/ 55].
وقد حكى هذا الوجه أبو الحسن، وحكى الأول الذي حكيناه عن سيبويه فقال: إن شئت تركت الإمالة على حالها.
قال: وذلك نحو فلمّا رأى القمر [الأنعام/ 77] وفي القتلى الحرّ [البقرة/ 178] وهدىً للمتّقين [البقرة/ 2].
قال: وكان عاصم يفتح في رواية أبي بكر ذلك كلّه، إلّا رأى ورمى ورآه ونأى في سورة بني إسرائيل، وفتح التي في السجدة [فصلت/ 51] وأعمى [الاسراء/ 72]، فإذا سقطت الياء لساكن لقيها في الوصل أمال الراء وفتح الهمز مثل (رأى القمر).
[الحجة للقراء السبعة: 1/384]
قال: وكان غير خلف يروي عن يحيى عن أبي بكر عن عاصم في ذلك كلّه بفتح الهمزة بعد كسرة الراء مثل حمزة.
وأمّا حفص فروى عن عاصم ذلك كلّه بالفتح إلّا قوله:
(مجراها)، فإنّه أمالها.
قال: أبو علي: الفتح في ذلك هو الأصل، وأمّا الإمالة في رأى ورآه ونأى فإنّه أمال فتحة الهمزة لتميل الألف المنقلبة عن الياء في رأيت ونأيت نحو الياء، فلمّا أمال فتحة الهمزة لما ذكرناه أمال فتحة الراء لإمالة فتحة الهمزة، وكما أمالوا الألف لإمالة الألف في نحو رأيت عمادا، كذلك أمالوا الفتحة في راء: رأى لإمالة فتحة الهمزة، ألا تراهم أمالوا الفتحة في الراء من نحو: من الضرر، لكسرة الراء، والفتحة في الطاء من نحو: رأيت خبط الريف لكسرة الراء، فكذلك أمالوا الفتحة للفتحة الممالة، لأنّ الفتحة الممالة منتحى بها نحو الكسرة، كما أنّ الألف الممالة منتحى بها نحو الياء، فكما أمالوا الألف الآخرة في رأيت عمادا لإمالة الألف الأولى التي أميلت للكسرة، كذلك أميلت الفتحة في راء رأى لإمالة الفتحة من همزتها.
فأمّا فتحه الهمزة إذا سقطت الألف لساكن لقيها وتبقيته الإمالة في الراء مع فتحة الهمزة، فكان القياس أن يخلص فتحة
[الحجة للقراء السبعة: 1/385]
الراء ولا يميلها لزوال ما كانت أميلت له كما حكاه سيبويه في قولهم: لم يضربها الذي تعلم.
ولما فعله عاصم من إمالة فتحة الراء مع تفخيمه فتحة الهمزة وجه ظاهر، وقياس صحيح، وذلك أنهم قد قالوا:
رحمه الله، فكسروا الراء لكسرة حرف الحلق الذي هو العين، ثم أسكنوا الحاء فبقيت الراء على كسرتها ولم يردوها إلى الفتحة التي كانت الأصل في فعل، فكذلك بقّى في رأى إمالة فتحة الراء مع زوال الإمالة عن فتحة الهمزة، ومما يثبت ذلك قوله:
وإن شهد أجدى فضله وجداوله وممّا يقوي ذلك قولهم: صعق ثم نسبوا إليه فقالوا:
صعقي، فقرروا كسرة الصاد وإن كانت كسرة العين التي لها كسرت الصاد قد زالت.
فأمّا إمالة فتحة الراء من قوله تعالى: ولكنّ اللّه رمى [الأنفال/ 17] فإنّ إمالة الراء في رأى، أحسن من إمالة الراء في رمى، لأنّ الراء في رأى ونأى بعدهما همزة.
[الحجة للقراء السبعة: 1/386]
والكسر [في الفاء إذا كانت بعدها همزة] أو غيرها من حروف الحلق قد كثر.
قال أبو الحسن: وقد ذكروا أنّها لغة، ووجهه ما تقدم من أنّه لمّا أمال الميم أمال الراء لإمالتها.
وليس اختلاف رواية الرواة في هذه الحروف عنه بتدافع، لأنّه إذا كان لكل قراءة من ذلك وجه فقد يجوز أن يكون رأى أن يقرأ بكل واحد منها، ويجوز أن يكون رأى القراءة ببعض ذلك ثم انتقل عنه إلى وجه آخر.
ويقوي الوجه الأول ما رواه أبو بكر عنه من إمالة «نأى» في سورة بني إسرائيل، وفتح التي في السجدة.
وأمّا إمالة حمزة مثل: (أعطى، واتّقى، واستوى، وأمات، وأحيا) إلّا إذا كان قبل الفعل واو فيمكن أن يكون لمّا رأى الإمالة وتركها سائغين جائزين أخذ بهما جميعا فقرأ بعض ذلك ممالا، وبعضا غير ممال على نحو ما روي عن عاصم.
وإمالته موسى وعيسى ويحيى قد تقدّم القول في ذكر وجهه.
وترك إمالته ذوات الواو مثل: (والليل إذا سجا)، و (طحاها)، و (تلاها) حسن جميل، لأنّه لا ياء هنا ينحو بالألف نحوها: لتدلّ عليها فلم يمل الألف المنقلبة عن الواو إذ
[الحجة للقراء السبعة: 1/387]
كانت الإمالة في الألف المنقلبة عن الياء قد تترك، وفتح الألف في نحو رمى. فإذا جاء التفخيم في بنات الياء فبنات الواو أجدر.
والذين أمالوا نحو: طحا، أمالوا لأن اللام قد تنقلب ياء، والعدّة على ما هي عليه نحو: غزًّى [آل عمران/ 156].
وأمّا إمالته ذلكم أزكى لكم [البقرة/ 232] و (الأعلى) وكلّ فعل من ذوات الواو زيدت في أوله همزة، فحسنة، لأنّ الألف في هذه العدّة قد صارت في حكم المنقلب عن الياء لموافقتها لها في التثنية وغيرها، ألا ترى أنّك تقول:
الأزكيان، والأعليان، وتقول: أعليت زيدا، وزكيّته، فلما صار في حكم المنقلب عن الياء أمالها كما يميل ما انقلب عن الياء.
وموافقة الكسائي له في ذلك، واختصاص الكسائي بإمالة (وأحيا) في ذلك حسن، لأنّ الواو إذا لحقت أولا في هذا النحو فلا شيء فيه يمنع الإمالة، كما لا شيء فيه يمنع منها إذا لم تلحق في قياس العربية. ولعل حمزة اتبع في ذلك أثرا، لأنّ القراءة ليست موقوفة على مقاييس العربية دون اتباع الأثر فيها، أو أحبّ أن يجمع بين الأمرين الجائزين.
وأمّا اختصاص الكسائي من دون حمزة بإمالته ذوات
[الحجة للقراء السبعة: 1/388]
الواو إذا كنّ مع ذوات الياء في مثل (والشّمس وضحاها)، و (الضّحى)، و (دحاها)، وأنّه لا يفتح من ذلك شيئا، بل يسوي بين ذوات الياء وذوات الواو في هذه الفواصل- فهو في ذلك موافق لأبي عمرو، وقد تقدّم ذكر وجه ذلك عند ذكرنا لقول أبي عمرو.
قال: واتفقا في ترك الإمالة في قوله: ثمّ دنا [النجم/ 8]، وما زكا منكم [النور/ 21]، ودعا، وعفا، وقد تقدّم ذكر وجه ذلك.
قال: أبو عمرو يميل الكاف من الكافرين فى موضع الخفض والنصب إذا كان جمعا، وإذا كان واحدا مثل: أوّل كافرٍ به [البقرة/ 41]، أو جمعا مرفوعا مثل قل يا أيّها الكافرون [الكافرون/ 1] لم يمل، وكذلك رواه بعضهم عن الكسائي.
قال أبو علي: إمالته الكافرين في موضع النصب والخفض إنّما هي للزوم الكسرة الراء بعد الفاء المكسورة، والراء لما فيها من التكرير تجري مجرى الحرفين المكسورين، وكلّما كثرت الكسرات غلبت الإمالة وحسنت. فلمّا كانت الراء في الكافرين قد لزمتها الكسرة، والفاء قبلها مكسورة أيضا- حسنت الإمالة.
فأمّا الواحد المجرور نحو: أوّل كافرٍ به [البقرة/ 41]
[الحجة للقراء السبعة: 1/389]
فإنّما لم يمله كما أمال الجميع، لأنّ كسرة الإعراب غير لازمة فيه لزوم الكسرة للراء في الكافرين، فلم يلزم أن يميل الواحد من حيث أمال الجميع، ومع ذلك فإنّ الراء لما كانت مشبّهة بالمستعلي للتكرير الذي فيها، ولم يمل قوم كافرا في الرفع والنصب، كما لم يميلوا نافقا وشاحطا- لم يميلوها في الجر أيضا، وأتبعوا الجرّ الرفع والنصب، فتركوا الإمالة فيه كما تركوها فيهما.
وأمّا تركه إمالة الألف في الرفع نحو: قل يا أيّها الكافرون فللزوم الراء فيه الضمة، والراء تمنع الإمالة إذا انضمت أو انفتحت كما تجلبها إذا انكسرت). [الحجة للقراء السبعة: 1/390]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة يحيى بن يَعْمَر وابن أبي إسحاق وأبي السَّمال: [اشتروِا الضَّلالة].
قال أبو الفتح: في هذه الواو ثلاث لغات: الضم، والكسر، وحكى أبو الحسن فيها الفتح: {اشتروَا الضَّلالة}، ورويناه أيضًا عن قطرب، والحركة في جميعها لسكون الواو وما بعدها، والضم أفشى، ثم الكسر، ثم الفتح.
[المحتسب: 1/54]
وإنما كان الضم أقوى لأنها واو جمع، فأرادوا الفرق بينها وبين واو "أو" و"لو"؛ لأن تلك مكسورة، نحو قول الله سبحانه: {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ}، ومنهم مَن يضمها، فيقول: [لوُ اطلعت]، كما كسر أبو السَّمَّال وغيره من العرب واو الجمع تشبيهًا لها بواو "لو".
وأما الفتح فأقلها، والعذر فيه خفة الفتحة مع ثقل الواو، وأيضًا فإن الغرض في ذلك إنما هو التبلغ بالحركة لاضطرار الساكنين إليها، فإذا وقعت من أي أجناسها كانت أقنعت في ذلك، كما روينا عن قطرب من قراءة بعضهم: [قُمَ اللَّيْل] بالفتح، و[قُلَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ]، وبِعَ الثوب. قال: وقيس تقول: [اشْتَرَءوا الضَّلالَةَ]. قال: وقال بعض العرب: عصئوا الله مهموزة.
قال أبو الفتح: ينبغي أن يكون ذلك على إجراء غير اللازم مجرى اللازم، وقد كتبنا في هذا بابًا كاملًا في الخصائص، وذلك أنه شبه حركة التقاء الساكنين -وليست بلازمة- بالضمة اللازمة في [أُقتت] وأدؤر وأُجُوه، إلا أن همز نحو {اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ} من ضعيف ذلك.
ولو وقفتَ مستذكرًا وقد ضمت الواو؛ لقلت: اشتروُوا، ففصلت ضمة الواو، فأَنشأت بعدها واوا، كأنك تستذكر {الضَّلالَة} أو نحوها، فتمد الصوت إلى أن تذكر الحرف. ولو استذكرت وقد كسرت لقلت: اشتروِي، فأنشأت بعد الكسرة ياء. ولو استذكرت وقد فتحت الوو لقلت: اشتروَا، كما أنك لو استذكرت بعد مِن، وأنت تريد الرجل ونحوه لقلت: مِنا؛ لأنك أشبعت فتحة من الغلام، وفي منذ: منذو، وفي هؤلاء: هؤلائي. وحَكى صاحب الكتاب: أن بعضهم قال في الوقف: قالا، وهو يريد قال.

1. وحَكى أيضًا: هذا سَيْفُنِي، كأنه استذكر بعد التنوين، فاضطر إلى حركته فكسره، فأحدث بعده ياء. ولو استذكرت مع الهمز لقلت: اشترءوا، فالواو بعد الهمزة واو مَطْل الضمة، وليست كواو قولك: اجترءُوا، وأنت تريد: افتعلوا من الجرأة). [المحتسب: 1/55]

روابط مهمة:
- أقوال المفسرين

جمهرة علوم القرآن 25 محرم 1440هـ/5-10-2018م 11:28 PM

سورة البقرة
[من الآية (17) إلى الآية (20) ]

{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)}

قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17)}
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة الحسن وإبي السَّمَّال: {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلْمَاتٍ} ساكنة اللام.
قال أبو الفتح: لك في ظلمات وكسرات ثلاث لغات: إتباع الضم الضم، والكسر الكسر، ومَن استثقل اجتماع الثقيلين فتارة يعدل إلى الفتح في الثاني يقول: ظُلَمَات وكِسَرات، وأخرى يسكن فيقول: ظُلْمَات وكِسْرَات، وكل جائز حسن.
فأما فَعْلة بالفتح فلَا بُدَّ فيه من التثقيل إتباعًا، فتقول: ثَمَرَة وثَمَرَات، قال:
ولما رأونا باديًا رُكَبَاتُنا ... على موطن لا نخلط الجِد بالهزل
وقال النابغة:
وَمَقْعَدُ أيسار على رُكَبَاتهم ... ومربطُ أفراس وناد وملعب
وعليه قراءة أبي جعفر: [من وراء الْحُجَرات].
وقال بشر:
حتى سقيناهم بكأس مرة ... مكروهة حُسَواتها كالعلقم
وقد أسكنوا المفتوح، وهو ضروة، قال لبيد:
رُحلن لشقة ونُصبن نصبا ... لوغْرات الهواجرِ والسَّمُوم
وقال ذو الرمة:
أَبت ذكرٌ عَوَّدْنَ أحشاء قلبه ... خُفُوفًا ورفْضَاتُ الهوى في المفاصل
روينا ذلك كله، وروينا أيضًا أن بعض قيس قال: ثلاث ظَبْيَات، فأسكن موضع العين، وروينا عن أبي زيد أيضًا عنهم: شَرْيَة وشَرْيات وهو الحنظل، والتسكين عندي في هذا أسوغ منه في نحو رفْضات ووغْرات، من قِبَل أن قبل الألف ياء محركة مفتوحًا ما قبلها، وهذا شرط اعتلالها بانقلابها ألفًا، وتحتاج أن تعتذر من ذلك بأن تقول:
لو قلبت ألفًا لوجب حذفها لسكونها وسكون الألف بعدها، وليس في نحو: رفضات ما يوجب الاعتذار من الحركة، وكان رفضات أقرب مأخذًا من ثمرات من قِبَل أن رفضة حدث ومصدر،
[المحتسب: 1/56]
والمصدر قوي الشبه باسم الفاعل الذي هو صفة، والصفة لا تحرَّك في نحو هذا، نحو: صَعْبة وصَعْبات، وخَدْلة وخَدْلات، ويدلك على قوة شبه المصدر بالصفة وقوع كل واحد منهما موقع صاحبه، وذلك نحو قول الله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا} أي: غائرًا، وقولهم: قم قائمًا؛ أي: قيامًا، وعليه قول الفرزدق:
ألم ترني عاهدت ربي وإنني ... لبين رِتاج قائمًا ومقام
على حَلْفَة لا أشتُمُ الدهر مسلمًا ... ولا خارجًا من فيَّ زُورُ كلام
أي: ولا يخرج خروجًا. وعليه أيضًا كسروا المصدر، وهو فَعْلٌ عى ما يكسر عليه فاعل في الوصف وهو فواعل. أنشدنا أبو علي:
وإنك يا عم ابن فارس قُرْزُل ... معيدٌ على قيل الخنا والهواجر
يريد جمع هُجْر، فكأنه كسَّر هاجرًا على هواجر.
وأنشدنا أيضًا:
فليتك حال البحر دونك كله ... وكنت لقى تجري عليه السوائل
يريد السيول جمع سيل، وهو كثير جدًّا، فكذلك سَهُل شيئًا إسكان نحو: رَفْضة ووَغْرة؛ لكونهما حدثين ومصدرين لشبههما بالصفة. ويزيد في أُنْسك تسكن عين ما لامه حرف علة لما تُعقبُ من الاعتذار من تحريك عينه، امتناعهم من تحريك العين في فَعْلَة إذا كانت حرف علة، وذلك نحو: جَوْزَات ولَوْزَات وبَيْضَات، ألا ترى أنه لو حرك فقال: جَوَزَات وبَيَضَات؛ لوجب أن يعتذر من صحة العين مع حركتها وانفتاح ما قبلها بأن يقول: لو أعللتُ لوجب القلب، فأقول: جازات وباضات؛ فيلتبس ذلك بما عينه في الواحد ألف منقلبة نحو: قارة وقارات، وجارة
[المحتسب: 1/57]
وجارات.
وإذا جاز إسكان العين الصحيحة، نحو: تَمْرات وشَعْرات؛ صار المعتل أحرى بالضمة. نعم، وربما جاء الفتح في العين إذا كانت واوًا أو ياء كما قال الهذلي:
أبو بَيَضَات رائحٌ متأَوِّبٌ ... رفيقٌ بمسع الْمَنْكِبَيْنِ سَبُوحُ
وعذره في ذلك: أن هذه الحركة إنما وجبت في الجمع، وقد سبق العلم بكونها في الواحد ساكنة، فصارت الحركة في الجمع عارضة فلم تُحفل، وفي هذا بعد هذا ضعف، ألا ترى أن هذه الألف والتاء تبنى الكلمة عليهما، وليستا في حكم المنفصل؟ يدلك على ذلك صحة الواو في خُطُوات وكُسُوات، ولو كانت الألف والتاء في ذلك في حكم المنفصل لوجب إعلال الواو؛ لأنها لام وقبلها ضمة، كما أنك لو بنيت فُعُلَة على التذكير من غزوت لأعللت اللام فقلت: غُزُية، حتى كأنك نطقت بفُعِل منه فقلت: غُزٍ.
ولو بنيتها على التأنيث لصحت اللام فقلت: غُزُوَة، فعليه قلت: خُطُوات؛ لأنه مبني على التأنيث، ولو كان على التذكير قلت: خُطِيات، كما قلت: غُزٍ في فُعُل من الغزو.
قال أبو علي: يدلك على أن الكلمة مبنية على الألف والتاء اطِّراد إتباع الكسر للكسر في سِدِرات وكِسِرات مع عزة فِعِل في الواحد، وإنما حكى سيبويه منه: إبل لا غير، وهو كما ذَكر، إلا أن مما يؤنس بكون حركة العين غير ملازمة ما رويناه عن قطرب فيما حكاه عن يونس من قوله في جِرْوة: إذا قلت جِرِوات فصحة الواو وهي لام بعد الكسرة تدلك على قلة الاعتداد بها، وعلى ذلك أن يقال: إن هذا شاذ، يدل على شذوذه امتناعهم أن يحركوا عين كُلْية ومُدْية، وأن يقولوا: كُلُيات ومُدُيات؛ لما كان يعقب ذلك من وجوب قلب الياء إلى الواو، فدلنا ذلك على أن نحو جِرِوات شاذ.
وبإزاء هذا أن يقال: هلا قلبوا فقالوا: كُلُوات ومُدُوَات، كما أنهم لو بنوا مثل فُعُلة من قضيت ورميت على التأنيث قلبوا فقالوا: رُمُوَة وقُضُوَة، فهذه أشياء تراها متكافئة أو كذلك، وعلى كل حال فالاختيار خُطْوات بالإسكان، ألا ترى أن الألف والتاء وإن بني الاسم عليهما فإن الجمع على كل حال خارج من الواحد الذي هو الأصل، فمعنى الفرعية موجود في الجمع
[المحتسب: 1/58]
بتلفُّته إلى الواحد، وليست فُعُلَة إذا بنيت على التأنيث مما خرج عن تذكيره فيراعى فيه حكمه، كما رُوعي في الألف والتاء حكم الواحد، فاعرفه فصلًا). [المحتسب: 1/59]

قوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)}

قوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19)}

قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (21- وقوله {والله محيط بالكافرين}.
قرأ أبو عمرو والكسائي في رواية عمر {الكافرين} بالإمالة في موضع الجر والنصب.
وقرأ الباقون بالتفخيم. فمن فتح فعلى أصل الكلمة، ومن أمال قال: إنما أملت الألف لاجتماع أربع كسرات، كسرة الفاء والراء، والياء تنوب عن كسرتين، فلما اجتمعت في الكلمة أربع كسرات جذبن الألف إليهن بقوتهن فأملنها.
قال أبو عبد الله رضي الله عنه: فإن سأل سائل فقال: هلا أمال {الشاكرين} وقد اجتمعت فيه أربع كسرات؟
فالجواب في ذلك أنهم تركوا إمالة {الشاكرين} لثلاث علل:
إحداهن: أن اللام مدغمة في الشين فكرهوا الإمالة مع التشديد:
والعلة الثانية: أنه قليل الدَّور في القرآن ولم يكثر ككثرة الكافرين.
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/75]
فإن سأل سائل عن الكافرين فقال: الإمالة في ألف أو الكاف؟
فالجواب في ذلك: أن الإمالة لا تكون إلا في الألف، وإنما يشم الكاف الكسر لتصح الإمالة، وقد قال قومٌ: إنهما ممالان وذلك خطأ.
والعلة الثالثة: أن الشين والجيم والياء يخرجن من وسط اللسان بينه وبين الحنك، فلما كانت مجاورة الياء كرهوا الإمالة في الشين كما كرهوا في الياء). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/76]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في قوله (تعالى): في طغيانهم [البقرة/ 15] وفي آذانهم [البقرة/ 19].
قال أبو عمر الدّوري ونصير بن يوسف النحوي:
[الحجة للقراء السبعة: 1/365]
كان الكسائي يميل الألف في طغيانهم، وفي آذانهم، وقال غيرهما: كان يفتح.
وقال أبو الحارث الليث بن خالد وغيره: كان الكسائي لا يميل هذا وأشباهه. والباقون يفتحون.
قال أبو علي: الطغيان: مصدر طغى، كالكفران والعدوان والرضوان.
وحكى أبو الحسن: طغا يطغو، وقالوا: يطغى في المضارع، وفي التنزيل: ولا تطغوا فيه فيحلّ عليكم [طه/ 81] فألف طغا تكون منقلبة عن الياء، فيمن قال:
طغيت، وعن الواو فيمن قال: طغوت.
وقالوا: طغوت، وقالوا: تطغى، كما قالوا: صغوت تصغى، ومحوت تمحى، ففتحت العين في المضارع للحلقي.
وحكى بعضهم طغيت تطغى، فتطغى على هذا مثل يفرق، لا مثل يصغى، ويجوز على هذا أن تكسر حرف المضارعة منه فتقول: تطغى، وإن جعلته مضارع طغوت أو
[الحجة للقراء السبعة: 1/366]
طغيت لم يجز ذلك فيه.
فأمّا قوله تعالى: فأهلكوا بالطّاغية [الحاقة/ 5] فيحتمل ضربين:
أحدهما أن يكون مصدرا كالعافية والعاقبة، أي:
بطغيانهم.
والآخر أن يكون صفة، أي بالريح الطاغية.
وقوله: كذّبت ثمود بطغواها [الشمس/ 11] فالواو مبدلة من الياء: لأنّه اسم مثل التّقوى والرّعوى والبقوى، لأنّ لغة التنزيل الياء بدلالة الطغيان المذكور فيه في مواضع.
فأما لا تطغوا، فلا دلالة فيها على الياء ولا الواو. وإن جعلت طغوى من لغة من قال: طغوت، كان الواو فيها من نفس الكلمة كالدّعوى والعدوى.
وحجة من أمال الطغيان هي أنّ الألف قد اكتنفها شيئان:
كلّ واحد منهما يجلب الإمالة وهما الياء التي قبلها والكسرة التي بعدها، فإذا كان كلّ واحد منهما على انفراده يوجب الإمالة في نحو السّيال والضّياح. ومررت ببابه، وبداره، فإذا اجتمعا كانا أوجب للإمالة.
[الحجة للقراء السبعة: 1/367]
فإن قلت: إنّ أول الكلمة حرف مستعل مضموم، فكلّ واحد من المستعلي والضم يمنع الإمالة، فهلا منعاها هنا أيضا.
فالقول: إن المستعلي لما جاءت الياء بعده، وتراخى عن الألف بحرفين لم يمنع الإمالة. ألا ترى أنّ قوما أمالوا نحو المناشيط لتراخي المستعلي عن الألف مع أن المستعلي بعد الألف، فإذا تراخى في طغيان عنها بحرفين مع أنّه قبل الألف، كان أجدر بالإمالة، ألا ترى أنّهم قد أمالوا نحو صفاف، وقباب، ولم يميلوا نحو مراض، وفراض، لمّا كان المستعلي متأخرا عن الألف. وقالوا: بطارد [هود/ 29] وبقادر [يس/ 81] لمّا تقدم المستعلي الألف، ولم يميلوا فارق وبارض؟ وأما في (آذانهم) فجازت فيها الإمالة كما جازت في مررت ببابه، لمكان كثرة الإعراب، وهي حسنة جائزة.
والإمالة في طغيانهم أحسن). [الحجة للقراء السبعة: 1/368] (م)
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (9- {فِي طُغْيَانِهِمْ} [آية/ 15]:
و {آَذَانِهِمْ} [آية/ 19]:-
بالإمالة، قرأها الكسائي وحده.
وإنما أمال {طُغْيانِهِمْ}؛ لأن أَلِفَها قد اكتنفها شيئان، واحد منهما على الانفراد جالب للإمالة، وهما الياء قبلها والكسرة بعدها، فإذا أميلت الكلمة بواحدٍ منها لأن تمال باجتماعهما أولى.
وأما {فِي آذانِهِمْ آَذَانِهِمْ} فإنما أمالها لمكان كسرة الإعراب فيها، كمال يقال: مررت ببابه وداره، والإمالة في الأول أقوى). [الموضح: 249] (م)

قوله تعالى: {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (يكاد البرق يخطف أبصارهم).
[معاني القراءات وعللها: 1/141]
اتفق القراء على تخفيف "يخطف)، واختلفوا في سورة الحج، فقرأ نافع: (فتخطفه الطير) - بفتح الخاء وتشديد الطاء - وقرأ الباقون: (فتخطفه) - بالتخفيف وسكون الخاء -.
قال أبو منصور: من قرأ (يخطف " و(فتخطفه) فهو من خطف يخطف خطفًا، وهي لغة العالية التي عليها أكثر القراء.
ومن قرأ (فتخطّفه) - بفتح الخاء وتشديد الطاء - فأصل فيه (فتختطفه)، يقال: خطفت الشيء " واختطفته، إذا اجتذبته بسرعة.
وعلة هذه القراءة إدغام التاء في الطاء، وإلقاء فتحة الطاء على الخاء، وإتباع فتحة الخاء فتحة في الطاء.
وفيها لغة أخرى لم يقرأ بها هؤلاء القراء، وهي: (يخطّف " "فتخطّفه الطير"
روى ذلك عن الحسن أنه قرأ: (يخطّف) - بكسر الخاء والطاء -.
[معاني القراءات وعللها: 1/142]
ومن العرب من يقول: (يخطّف) - بفتح الياء والخاء، وكسر الطاء - ومنهم من يقول: (يخطّف) - بكسر الياء والخاء والطاء -.
وأجودها: (يخطّف)، وبعده: (يخطّف)، فمن قال: (يخطّف) فالأصل (يختطف)، فأدغمت التاء في الطاء، وألقيت على الخاء فتحة التاء.
ومن قال: (يخطّف) كسر الخاء لسكونها وسكون الطاء. وهذا قول الخليل، وزعم الفراء أن الكسر لالتقاء الساكنين ها هنا خطأ، وأنه يلزم من قال هذا أن يقول في "يعضّ ": "يعضّ)، وفي "يمدّ " "يمدّ).
وقال من احتج للخليل: هذا الذي قاله القراء غلط غير لازم، لأنه لو كسر "يعضّ" و"يمدّ" لالتبس ما أصله "يفعل " و"يفعل" بما أصله (يفعل).
وأما: (يختطف) فليس أصله غير هذا، ولا يكون مرة على (يفتعل) ومرة على غير (يفتعل)، فكسر لالتقاء الساكنين في موضع غير ملتبس، وامتنع في الملتبس من الكسر لالتقاء الساكنين، وألزمه حركة الحرف الذي أدغمه لتدل الحركة عليه). [معاني القراءات وعللها: 1/143]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (17- وقوله تعالى: {كلما أضاء لهم مشوا فيه}
قرأ ابن كثير وحده {فيهى} بياء بعد الهاء، وكذلك ما شاكل ذلك نحو عليهى، والباقون باختلاس الحركة في غير ياء، فقراءة ابن كثير الأصل؛ لأن الهاء حرف خفي، فقووها بحركة وحرف، فإذا انفتح ما قبل الهاء أتبعوها ضمةً وواوًا كقوله: {فقدر هو * ثم السبيل يسرهو} فإن سكن ما قبلها فابن كثير يُبقي الواو نحو: {منهو آيات محكمات} {واجتبهوا وهداهو} على أصل الكلمة. ومن حذف الواو والياء قال: كرهت الجمع بين ساكنين وليس بينهما حاجزٌ إلا الهاء، وهي حرف خفي ضعيف، والأصل في الهاء الضم، وإنما تكسر إذا تقدمتها كسرة أو ياء.
قال أبو عبد الله رضي الله عنه: وجدت في القرآن خمسة أحرف، قد ضمت الهاء فيها على الأصل من ذلك: قراءة حمزة {لأهله امكثوا} وقرأ حفص: {بما عاهد عليه الله} {وما أنسنيه إلا الشيطان} وروي أبو قرة عن نافع: {به انظر كيف نصرف الآيات}.
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/72]
وأما غير السبعة فمنهم من يضم كل هاء في القرآن، منهم مسلم بن جندب قرأ {لا ريب فيه هدى للمتقين} وقرأ شيبة: {فخسفنا به وبداره الأرض}، فمن ضم فهو الأصل، ومن كسر فلمجاورة كسرة أو ياء، وفي الهاء لغة أخرى، وهو حذف الواو إذا انفتح ما قبلها، ولم يقرأ به أحد، غير أن الشاعر قال:
له زجل كأنه صوت حاد = إذا سمع الوسيقة أو زمير
الوسيقة: الطريدة). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/73]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (18- وقوله تعالى: {إن الله على كل شيء قدير}
قرأ حمزة وحده بإشباع الفتحة طلبًا للألف، لأن حمزة يعتبر قراءته بحرف عبد الله، وفي مصحف عبد الله (شاي) ويسكت على الياء أعني حمزة سكتة خفيفة قبل الهمزة، وكذلك يفعل بالأرض والأسماء. وقرأ الباقون: {شيء} على وزن شيع). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/73]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (حدثنا أحمد بن موسى: قال: اتفقوا على يخطف [البقرة/ 20] أنّ طاءه مفتوحة.
واختلفوا في: فتخطفه [الحج/ 31] فقرأ نافع: فتخطفه الطير بفتح التاء والخاء والطاء مشددة.
قال أبو علي: أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن السري أنّ خطف يخطف أعلى من خطف يخطف.
وقال أبو الحسن: زعم يونس أن خطف يخطف أكثر في كلام العرب، وأنّها قراءة أبي عمرو، قال: وكذلك كان
[الحجة للقراء السبعة: 1/390]
يقرأ: إلّا من خطف الخطفة [الصافات/ 10].
قال: والقراء لم يقرءوا إلا يخطف، وخطف مثل علم قال ولا نعلم أحدا قرأ الأخرى.
فأما قوله تعالى: «فتخطفه الطير» فنذكره في موضعه إن شاء الله.
قوله تعالى: على كلّ شيءٍ قديرٌ [البقرة/ 20].
كان حمزة يسكت على الياء من (شيء) قبل الهمزة سكتة خفيفة، ثم يهمز فيقول: شيء قدير، وكذلك يسكت على اللام من الآخرة [البقرة/ 94] والأرض [البقرة/ 22] والأسماء [البقرة/ 31] وما أشبه ذلك.
وغيره من هؤلاء القراء يصل الياء من (شيء) بالهمز واللام من (الأرض) وأخواتها بالهمز بلا سكتة.
قال أبو علي: الحجة لحمزة في ذلك أنّه أراد بهذه الوقيفة التي وقفها تحقيق الهمزة وتبيينها، فجعل الهمزة بهذه الوقيفة التي وقفها قبلها على صورة لا يجوز فيها معها إلّا التحقيق، لأنّ الهمزة قد صارت بالوقيفة مضارعة للمبتدإ بها، والمبتدأ بها لا يجوز تخفيفها، ألا ترى أنّ أهل التخفيف لا يخفّفونها مبتدأة، فكذلك هذه الوقيفة آذنت بتخفيفها لموافقتها بها صورة ما لا يخفّف من الهمزات.
وقد زادوا مدّ الألف إذا وقعت قبل الهمزة نحو:
[الحجة للقراء السبعة: 1/391]
أنزل من السّماء ماءً [الحج/ 63] ألا ترى أن المدّ الذي في الألف قبل الهمزة أزيد من المدّ الذي في الألف في نحو قوله تعالى:
وما بكم من نعمةٍ فمن اللّه [النحل/ 53] ليكون ذلك أبين للهمزة، فكذلك وقف حمزة هذه الوقيفة الخفيفة ليكون أبين للهمزة كما مدوا جميعا الألف زيادة مدّ ليكون أبين للهمزة.
روى ورش عن نافع أنّه كان يلقي حركة الهمزة على اللام التي قبلها مثل: (الأرض) و (الآخرة) و (الأسماء) ويسقط الهمزة، وكذلك إذا كان الساكن. آخر كلمة والهمزة أول الأخرى ألقى حركتها على الساكن وأسقطها مثل: (قد افلح)، و (من اله)، ونحو ذلك، إلا أن يكون الساكن الأول واوا قبلها ضمة مثل: قالوا أنصتوا [الأحقاف/ 29]، أو ياء قبلها كسرة مثل: في أنفسكم [البقرة/ 235] فإنّه لم يكن يلقي حركة الهمزة عليها، فإذا انفتح ما قبل الواو والياء وهي ساكنة ولقيتها همزة ألقى عليها حركة الهمزة. وأسقط الهمزة مثل: خلوا إلى شياطينهم [البقرة/ 14] ونبأ ابني آدم [المائدة/ 27] وما كان مثله.
قال أبو علي: أما إلقاء نافع حركة الهمزة المتحركة على لام المعرفة في نحو: الأرض، والآخرة، والأسماء، وحذف الهمزة، فذلك قياس مستمر في الهمزة المتحركة إذا خففت،
[الحجة للقراء السبعة: 1/392]
وقبلها ساكن غير الألف، وسواء كان ذلك في كلمة واحدة، كقوله: الخب في السموات [النمل/ 25] أو في كلمتين منفصلتين مثل: (قد افلح)، و (من اله)، فإذا خفّفت الهمزة فحذفت وألقيت حركتها على لام المعرفة الساكنة كان فيها لغتان:
منهم من يحذف همزة الوصل فيقول: لحمر.
ومنهم من لا يحذفها وإن تحرك ما بعدها فيقول: الحمر.
فأما وجه حذف هذه الهمزة في التخفيف، فإنها إذا أريد تخفيفها لم تخل من أن تحذف، أو تجعل بين بين، فلو جعلتها بين بين وقبلها ساكن لم يستقم، كما لا يستقيم أن يجتمع ساكنان، ألا ترى أنهم لم يخففوا الهمزة مبتدأة، وأنهم رفضوا تخفيفها على هذه الحال، كما رفضوا الابتداء بالحرف الساكن؟
فكما كانت في حكم الساكن في الابتداء، كذلك إذا جعلتها بين بين بعد الساكن.
ومما يبين وجوب حذفها أن الحركة في التقدير كأنّها تلي الحرف المتحرك بها والحرف قبلها. يدلّك على ذلك أنّها لا تخلو من أن تكون قبله أو بعده، فلا يجوز أن تكون قبله، لأنّها لو كانت كذلك لكانت الياء من اليسار لا تنقلب واوا، والواو من الوعد لا تنقلب ياء في ميعاد أو موسر، ألا ترى أنّ الميم لا تقلب هذين الحرفين؟ فلما انقلبا علمت أن الموجب لقلبهما ملازمتهما الياء أو الواو.
[الحجة للقراء السبعة: 1/393]
فإذا خففت الهمزة قبل ساكن لم تحذف نحو: رأيته، لأنّ الحركة قد فصلت- وإن أضعف الصوت بها- بين الهمزة المخففة والساكن.
فأمّا ترك نافع أن يلقي حركة الهمزة في التخفيف على الواو إذا انضمّ ما قبلها نحو: قالوا أنصتوا [الأحقاف/ 29] وعلى الياء إذا انكسر ما قبلها نحو: في أنفسكم [البقرة/ 235] فإنّ ذلك لا يمتنع في قياس العربية. وقد قال أهل التخفيف في: اتبعوا أمره: اتبعوا مره، وفي: اتبعي أمره:
اتبعي مره، فلم يفصلوا بين هذا الحرف اللين إذا كانت حركة ما قبله منه، وبينه إذا لم تكن حركة ما قبله منه.
وقد فصل نافع بينهما فخفّف بعد ما لم تكن حركتها منها، نحو: خلو الى [البقرة/ 14] نبأ ابني آدم [المائدة/ 27] فألقى حركة الهمزة من إلى على الواو من (خلوا)، وحركة الهمزة من (نبأ ابني آدم) على ياء التثنية من ابني، وليست حركة ما قبل كل واحد منهما منه، فيجوز أن يكون أراد الأخذ بالأمرين: بالتخفيف، والتحقيق، إلّا أنّه حقق الهمزة بعد الواو والياء إذا كانت حركة ما قبلهما منهما، لأنّه لو خفف ولم يحقق في قوله: (قالوا أنصتوا) لاختل بالتخفيف زيادة المدّ التي في الواو إذا ألقي عليها حركة الهمزة، فأحب أن يسلم المدّ ولا يخلّ به.
[الحجة للقراء السبعة: 1/394]
وخفّف في: (خلوا إلى) و (ابني آدم)، لأنّه لمّا لم تكن حركة ما قبلهما منهما أمن اختلال المدّ بالتخفيف.
فأمّا إلقاء حركة الهمزة على ياء (في) من قوله: في أنفسكم [البقرة/ 235] فلا يمتنع في القياس، وذلك أنّها ليست كالتي في خطيئة، لأنّها من نفس الكلمة، فهو مثل:
يرمي خاه.
فإن قلت: فهل يجوز أن تدغم في المنفصل كما جاز إدغامها في المتصل نحو: فيّ خير فتجيز: فيّدها سوار؟ فالقول أن إدغامها في المنفصل لا ينبغي أن يجوز من حيث جاز في المتصل، ألا ترى أنّك تقول: هذا قاضيّ، ووضعته في فيّ، فتدغم فيما هو غير منفصل، ولا يجوز أن تدغم هذا قاضي ياسر، ولا يغزو واقد، لما يختل من المدّ؟
وعلى هذا لم يجيزوا الإدغام في ظلموا واقدا، واظلمي ياسرا، وكان الإدغام في هذا أبعد لمعاقبة الألف الواو إذا قلت ظلما، فصار بمنزلة ساير وسوير، ولا يكون تخفيف الهمزة بعد في، كما قال أبو عثمان في ميئل: إنه يلزم أن تكون الهمزة فيها بعد الياء على قياس قول الخليل بين بين، وذلك أن الخليل لم يدغم أووم فلما لم يدغمه صار عنده بمنزلة سوير وقوول، والياء في ميئل هي التي لم يدغمها في مثلها ولا في
[الحجة للقراء السبعة: 1/395]
مقاربها، فصار بمنزلة الألف التي لم تدغم في شيء، ولم ينبغ أن تلقى عليها حركة الهمزة كما لم تلق على الألف، فلزم أن تجعل الهمزة بعدها بين بين كما كانت بعد الألف كذلك.
وهذه الياء التي في (في) وإن لم تدغم في المنفصل، كما لم يدغموا: هو يرمي ياسرا، فقد أدغمت في المتصل كما أدغم قاضيّ، فلا يمتنع أن تخفّف الهمزة بعدها. وتلقى حركتها عليها، كما ألقيت على الياء من يقضي وما أشبهه.
وأما تخفيف الهمزة في قوله: شيء، فإنّه يكون بحذفها وإلقاء حركتها على الياء، كما كان في ضوء وسوأة.
ضو وسوة فكذلك تقول: شي.
وقد قال قوم في تخفيف الهمزة في المنفصل نحو: أبو أيوب: أبويّوب فأبدلوا من الهمزة الواو لمّا كان قبلها، وفعلوا ذلك في المنفصل لأمنهم الالتباس بباب قوّة وجوّ. وشبه قوم به المتصل فقالوا: ضوّ وسوّة، وهو ذوّنسه في ذو أنسه.
وقد حكي أن قوما قالوا في الياء: أنا أرميّ باك، في أنا أرمى أباك، فقياس هؤلاء أن يقولوا في تخفيف شيء شيّ، كما قالوا في ضوء: ضوّ، وسوّة، وموّلة.
وقد قال: إن من قال: سوّة قال: سيّ، يريد في نحو
[الحجة للقراء السبعة: 1/396]
قوله: سيء بهم [هود/ 77].
فأمّا ما قاله من نحو: مسوّ فينبغي أن يكون أبدل من الهمزة الواو، وأدغم الواو التي هي عين فيها، لأن المبقّى عنده عين الفعل، وواو مفعول محذوفة.
وقياس قول أبي الحسن في مسوء بالتخفيف القياسيّ:
مسوّ، كما يقول في مقروءة: مقروّة، وفي قول سيبويه مسو، ومقرو، لأنّ الواو العين وليست المدة التي في مثل الهدوء، فتقول في تخفيفه الهدوّ. وإنّما مسوّ الذي ذكره على قوله سوّة كما قالوا في المنفصل: أوّنت فهذا التخفيف على القولين جميعا.
فأمّا القياس فعلى ما أعلمتك في القولين.
فأمّا قولهم: الكمأة والمرأة، فقياسهما الكمة والمرة، وقد قالوا: الكماة والمراة. والقول في وجه ذلك أنّ الذي قال:
الكماة، قدر أن حركة الكاف على الميم، كما أنّ الذي قال:
مؤسى، قدرها على الواو، فلذلك استجاز همزها، فإذا قدرها عليها صارت الميم في تقدير الحركة، والهمزة بعدها مفتوحة، فكان ينبغي أن يجعلها بين بين ولا يقلبها ألفا، إلّا أنّه استجاز
[الحجة للقراء السبعة: 1/397]
القلب لأنّهم قد قالوا في الكلام: منساة فقلبوا.
وجاء في الشعر:
لا هناك المرتع ونحوه، وإن شئت قلت: إنّه قدر الحركة التي على الهمزة على العين، فلمّا انفتحت العين صارت الهمزة في تقدير السكون، فلمّا خففتها قلبتها ألفا كالتي في راس وفاس. والوجه الأول أقيس، لأنّ الحركة التي بعد الكاف في الكمأة أقرب إلى الميم من التي على الهمزة، ألا ترى أن الهمزة تحجز بينها وبين الميم، فحركة الكاف أقرب إليها.
وهذا الوجه أيضا لا يمتنع، لأنّ الحركة والحرف كأنّهما معا لقرب ما بينهما، وإن كان في الحقيقة أحدهما يلي الآخر بلا كبير فصل.
ذكر اختلافهم في إمالة الألف التي تليها الراء
قال أحمد بن موسى: كان نافع لا يميل الألف التي تأتي
[الحجة للقراء السبعة: 1/398]
بعدها راء مكسورة، مثل: من النّار ومن قرارٍ والأبرار والأشرار ودار البوار والأبصار، وبقنطارٍ وبدينارٍ وديارهم وعلى آثارهم بل كان في ذلك كلّه بين الفتح والكسر وهو إلى الفتح أقرب.
وكان ابن كثير وابن عامر وعاصم يفتحون ذلك كلّه.
قال أبو علي: قد تقدم ذكر وجه قولهم في ترك الإمالة.
وقول أحمد في حكايته عن نافع: لا يميل الألف التي تأتي بعدها راء مكسورة، يريد به - إن شاء الله- لا يميل الفتحة نحو الكسرة إمالة شديدة فتميل الألف نحو الياء كثيرا، ولكن لا يشبع إمالة الفتحة نحو الكسرة فيخف لذلك إجناح الألف وإضجاعها، لأنّ أحمد قد قال بعد: كان في ذلك كلّه بين الفتح والكسر، وهو إلى الفتح أقرب، وإذا زال عن الفتح الخالص فهو إمالة، وإن كان بعض الإمالة أزيد من بعض.
ووجه حسن إمالة الألف إذا كان بعدها راء مكسورة. أنّ الراء حرف فيه تكرير، وذلك يتبين فيها إذا وقف عليها، فكأنّ الكسر متكرر وإذا تكرر الكسر ازدادت الإمالة حسنا، ليتجانس الصوت، فكما أنّها إذا انضمت أو انفتحت منعت الإمالة، لأنّ كلّ واحد من الحرفين المضموم والمفتوح كأنّه
[الحجة للقراء السبعة: 1/399]
متكرر، والفتح والضمّ يمنعان الإمالة، كذلك إذا تكرر الكسر جلبها، كما أنّه إذا انضمّ أو انفتح منعها كما يمنعها الحرف المستعلي في نحو: طالب، وظالم، وناقد، ونافق.
قال أحمد: وأمّا الكسائي فروى عنه أبو الحارث أنّه لم يمل من ذلك شيئا، إلّا إذا تكررت الراء في موضع الخفض مثل: (الأشرار)، و (الأبرار)، و (من قرار).
وكان أبو عمر الدّوري يروي عنه أنّه كان يميل كل ألف بعدها راء مكسورة.
قال أبو علي: ما رواه عن الكسائي في إمالة مثل الأبرار والأشرار ونحو ذلك مما تكرر فيه الراء مستقيم في قياس العربية ظاهر الوجه، وذلك أنّ الراء المكسورة إذا غلبت المستعلي في نحو: قارب وطارد، فجازت الإمالة مع المستعلي لمكانها، فأن تغلب الراء المفتوحة في نحو: من الأشرار، أولى، لأنّ الرّاء لا استعلاء فيها.
ورواية أبي عمر الدّوري أنّه كان يميل كلّ ألف بعدها راء مكسورة أقيس، لأنّ الإمالة إنّما يجلبها ويحسنها التكرر الذي كأنّه في الراء، فإذا كان كذلك فسواء كانت قبل الألف التي تميلها الراء راء أو غيرها.
قال أحمد: وأمّا حمزة فكان لا يميل من ذلك شيئا إلّا قوله: (الأشرار) و (القرار) و (ذات قرار) و (القهار)
[الحجة للقراء السبعة: 1/400]
و (البوار). وكل ذلك بين الكسر والتفخيم. ذكر ذلك خلف وأبو هشام عن سليم عنه في هذين الحرفين.
قال أبو علي: ما رواه من تخصيص حمزة بإمالة الأشرار والقرار والحروف الأخر دون ما عداها من الكلم مما كان في قياسها وعلى صورتها- فالقياس في ذلك وفي غيرها واحد، ولعله تبع في ذلك أثرا ترك القياس إليه، أو أحبّ أن يأخذ بالوجهين، وكره أن يرفض أحدهما، ويستعمل الآخر مع أن كل واحد مثل الآخر في الحسن والكثرة.
قال أحمد: وكان أبو عمرو يميل كل ألف بعدها راء في موضع اللام من الفعل وهي مكسورة والكلمة في موضع خفض إلا في أحرف يسيرة، مثل قوله تعالى: والجار ذي القربى [النساء/ 36] و (جبارين)؛ فإنّه كان لا يميل في هذين الحرفين إلا ما رواه عنه عبيد الله بن معاذ بن معاذ عن أبيه عن أبي عمرو (والجار ذي القربى والجار) ممالة.
فإذا كانت الراء في موضع العين كعين فاعل لم يمل ألف
[الحجة للقراء السبعة: 1/401]
فاعل كقوله: باردٌ وشرابٌ [ص/ 42] والبارئ المصوّر [الحشر/ 24] وبارئكم [البقرة/ 54] ومن كلّ شيطانٍ ماردٍ [الصافات/ 7] وما كان مثل ذلك.
وروى عنه محبوب بن الحسن وعباس والأصمعي بخارجين [البقرة/ 167] ممالة ولم يروها غيرهم، وهذا خلاف ما عليه العامة من أصحابه مع فتح الإمالة لاستعلاء الخاء.
على أنّه قد روى اليزيدي عنه: كالفخّار [الرحمن/ 14] ممالة، وقرأ بقنطارٍ [آل عمران/ 75].
قال أبو علي: أما ما روي عن أبي عمرو من إمالته كل ألف بعدها راء في موضع اللام فقد تقدم القول في حسن الإمالة في ذلك.
وأمّا ما روي عنه من أنّه إذا كانت الراء في موضع العين كعين فاعل لم يمل ألف فاعل كقوله: باردٌ وشرابٌ والبارئ المصوّر، وبارئكم، ومن كلّ شيطانٍ ماردٍ، ونحوه، فلعله تبع في ذلك أثرا، وذلك أن الإمالة في ألف فاعل إذا كانت الراء عينا أقوى من الإمالة في الألف إذا كانت الراء لاما، لأنّ الكسرة في العين لازمة غير مفارقة، وكسرة اللام قد تنتقل عنها للرفع والنصب، وبحسب لزوم ما يوجب الإمالة تحسن الإمالة، ولا يكون غير اللازم كاللازم، ألا ترى أنّه قد يكون من الأشياء أشياء لا تلزم فلا يعتد بها لانتفاء لزومها.
[الحجة للقراء السبعة: 1/402]
وأمّا ما رواه عنه محبوب وعباس والأصمعي في قوله: (بخارجين من النّار) فإمالته حسنة لمكان كسرة الراء. فأمّا الحرف المستعلي في قوله: (بخارجين) فلا يمنع الإمالة، وإمالته أقوى في قياس العربية من إمالة (بقنطار) لما أعلمتك من لزوم الراء الكسرة، وليست في قوله بقنطار، ولا قوله (كالفخّار) كذلك.
قال سيبويه: مما تغلب فيه الراء قولك: قارب، وغارم، وطارد، وكذلك جميع المستعلية إذا كانت الراء مكسورة بعد الألف التي تليها وذلك أنّ الراء لما كانت تقوى على كسر الألف في فعال في الجر، وفعال لما ذكرنا من التضعيف قويت على هذه الإمالة.
وإنّما قويت عليها لأنّك تضع لسانك في موضع استعلاء ثم ينحدر فصارت المستعلية هاهنا وجواز الإمالة فيها بمنزلتها في صفاف وقفاف.
ولو قلت: ناقة فارق، وإبل مفاريق، لم تمل الألف هاهنا مع المستعلي لأنّه عكس ما تقدّم، ألا ترى أنّك لو أملت فارقا لانحدرت بالإمالة ثم أصعدت بالمستعلي؟ فالإصعاد بعد الانحدار يثقل ولا يثقل الانحدار بعد الاستعلاء، فلذلك
[الحجة للقراء السبعة: 1/403]
أملت طاردا، وقاربا، وغارما، ولم تمل فارقا، والذين يميلون قاربا يفخمون الألف في قادر، لأن الراء بعدت.
وزعم أنّ قوما يقولون: مررت بقادر فيميلون للراء. قال:
وسمعنا من نثق به من العرب يقول:
عسى الله يغني عن بلاد ابن قادر قال: وكان عبد الله بن كثير وابن عامر وعاصم يفتحون الياء في هذا الباب كلّه: فأحياكم [البقرة/ 28]، وأحيا [النجم/ 44] ونموت ونحيا، ويحيى من حيّ عن بيّنةٍ [الأنفال/ 42]، فأحيا به الأرض بعد موتها [النحل/ 65]، وهو الّذي أحياكم [الحج/ 66]، وما كان مثله.
قال أبو علي: قد مضى ذكر الحجة لمن لم يمل هذه الألفات.
قال: وكان نافع يقرأ ذلك كلّه بين الإمالة والتفخيم.
قال أبو علي: قد مضى ذكر الحجة في ذلك.
قال: وكان أبو عمرو لا يميل من ذلك إلا ما كان في رءوس الآي إذا كانت السورة أواخر آياتها الياء، مثل: أمات وأحيا فإنّه كان يلفظ بهذه الحروف في هذه المواضع بين
[الحجة للقراء السبعة: 1/404]
الإمالة والتفخيم، ويفتح سائر ذلك.
قال أبو علي: قد تقدّم ذكر الحجة لذلك، وهو أن أواخر الآي موضع وقوف، والوقف رأيناه قد أوجب إعلالا في الموقوف عليه، وتغييرا عمّا عليه في الوصل. ألا ترى أنّهم قد أبدلوا من النون الساكنة الألف في الاسم والفعل، وأبدلوا من التاء الهاء في نحو: رحمة، ومن الألف الياء أو الواو في نحو: أفعى وأفعو، وزادوا فيه في نحو: هذا فرجّ وهو يجعلّ، ونقصوا منه في نحو:
............... وبعـ ..... ـض القوم يخلق ثمّ لا يفر
فكما غيّر موضع الوقف بهذا النحو من التغيير، كذلك غيرت الألف بأن نحي بها نحو الياء، وكان ذلك حسنا إذ أبدلوا من الألف الياء في الوقف في نحو قوله: أفعى، فكذلك قربوا الألف منها، فليست الإمالة هاهنا لتدل على انقلاب الألف عن الياء، ولكن لتقرب من الياء التي أبدلت من الألف للوقف، ولهذا أمال قوم من العرب نحو: لم يضربها، فإذا أدرج قال: لم يضربها زيد.
[الحجة للقراء السبعة: 1/405]
قال: وكان حمزة لا يميل من ذلك إلّا الفعل الذي في أوله الواو، مثل: نموت ونحيا وأمات وأحيا ويحيى من حيّ ولا يحيى. كان يميل هذه الحروف أشد من إمالة أبي عمرو ونافع.
قال أبو علي: يشبه أن يكون بالغ في إجناح الألف ليقربها من الياء، إذ كانوا قد أبدلوا من الألف الياء في نحو أفعى في الوقف، فبالغ في الإجناح، ليقربها من الياء التي أبدلوها من الألف في الوقف.
قال: وكان الكسائي يميل ذلك كلّه، كان قبل الفعل واو أو فاء، أو لم يكن قبله ذلك، مثل: أحياكم وما أشبهه.
قال أبو علي: قد مضى ذكر الحجة لذلك، وما ذهب إليه الكسائي من ترك الفصل بين الفعل الذي قبله واو أو فاء، وبين ما ليس قبله من ذلك شيء- هو الوجه في قياس العربية.
اختلفوا في الهاء من قوله تعالى: (فهو) (وهي)
إذا كان قبلها لام، أو واو، أو ثم، أو فاء. فقرأ ابن كثير، وعاصم، وابن عامر، وحمزة: وهو، وفهو، ولهو، وثم هو، فهي، وهي. يثقّل ذلك كلّه في جميع القرآن.
وقرأ الكسائي بتخفيف ذلك كلّه وتسكين الهاء.
وكان أبو عمرو يضم الهاء في قوله: ثمّ هو في سورة
[الحجة للقراء السبعة: 1/406]
القصص [آية/ 61] ويسكنها في كل القرآن.
واختلف عن نافع، فروي عنه التثقيل، وروي عنه التخفيف.
قال أبو علي: من قال: وهو، فهو، ولهو، وثم هو- فوجهه ظاهر، وذلك أن الهاء كانت متحركة قبل دخول هذه الحروف عليها، فدخلت هذه الحروف، ولم تتغير عما كانت عليه من قبل، كما لم تتغير سائر الحروف سوى ألف الوصل عما كان عليه في الابتداء به والاستئناف له.
ومثل الهاء في هو وهي في تغييره في الوصل عما كان عليه في الابتداء به- لام الأمر في نحو: وليطّوّفوا [الحج/ 29].
وأما تسكين أبي عمرو هذه الهاء مع الواو، والفاء، واللام، فلأن هذه الكلم لمّا كنّ على حرف واحد أشبهت في حال دخولها الكلمة ما كان من نفسها، وذلك لأنّها لم تنفصل منها لكونها على حرف واحد كما لم تنفصل الباء من سبع وغيره منه- خفّف الهاء منها كما خفّفت العينات من سبع وعضد ونحوهما، ولم يستقم عنده أن يجعل ثمّ
بمنزلة الفاء وما كان على حرف، لأنّه قد يجوز أن تنفصل منها وتنفرد عنها، وليست الواو والفاء ونحوهما كذلك، فمن ثم قال: ثمّ هو.
وقد جعلوا في غير هذا ما كان من الحروف على حرف
[الحجة للقراء السبعة: 1/407]
واحد إذا اتصل بكلمة بمنزلة ما هو منها، فاستجازوا في ذلك ما استجازوا في الحرف الذي هو منها، وذلك قولهم: لعمري، ورعملي، فقلبوه كما قلبوا مسائية وقسيّا، ونحو ذلك. وكذلك قول من قال: كائن أبدل الألف من الياء كما أبدلها من طائي ونحو ذلك.
وقرأ الكسائي بتخفيف ذلك كلّه، ولم يفصل كما فصل أبو عمرو، كأنّه جعل الميم المتحركة من ثم هو بمنزلة الواو، فخفف الهاء معها كما خففها مع الواو.
ومثل تخفيف فهو ولهو لتنزيلهم ذلك منزلة ما ذكرناه قولهم: «أراك منتفخا» لما كان «تفخا» مثل كتف خفف، فكذلك فهو.
ومثله قول العجاج:
فبات منتصبا وما تكردسا فيمن رواه هكذا.
ومثل ذلك قول من قرأ: ويخش اللّه ويتّقه [النور/ 52]
[الحجة للقراء السبعة: 1/408]
لمّا كان (تقه) مثل كتف.
ومثل ذلك ما حكاه الخليل من قولهم: انطلق، لما كان (طلق) من انطلق مثل: كتف، أسكن ثم حرّك لالتقاء الساكنين.
ومثل ذلك ما أنشده الخليل:
ألا ربّ مولود وليس له أب... وذي ولد لم يلده أبوان
فهذه الأشياء متصلة، وقوله: وهو، وفهو، ولهو، في حكمها، وليس كذلك (ثم هو)، ألا ترى أن ثم منفصل من هو لإمكان الوقوف عليها وإفرادها مما بعدها، وليست الكلم التي على حرف واحد كذلك، وقد يستخف في المنفصلة أشياء لا تستخف في المتصلة وما في حكمها، فكذلك يحتمل (ثم هو) للانفصال، ولا يكون وهو وفهو ونحو ذلك مثلها، لكونها في حكم الاتصال.
وللكسائي أن يقول: إن ثم مثل الفاء، والواو، واللام، في أنهن لسن من الكلمة كما أن ثم ليس منها، وقد جعلوا المنفصل بمنزلة المتصل في أشياء. ألا ترى أنّهم أدغموا نحو:
يد داود، وجعل لك، كما أدغموا: ردّ وغلّ.
[الحجة للقراء السبعة: 1/409]
وقالوا: لم يضربها ملق، فامتنعوا من الإمالة لمكان المستعلي وإن كان منفصلا، كما امتنعوا من إمالة نافق ونحوه من المتصلة.
ومما يقوي قوله في ذلك أنّه قد جاء من هذا النحو في المنفصل أشياء أجريت مجرى المتصل مثل قوله:
فاليوم أشرب غير مستحقب ف «رب غ» مثل: سبع، وقد أسكن.
وأنشد أبو زيد:
قالت سليمى اشتر لنا سويقا وقول أبي عمرو أرجح عندنا.
فإن قلت: فلم لا تجعل قوله «اشتر لنا سويقا» على أنّه أجرى الوصل مجرى الوقف، كما فعلوا ذلك في: سبسبّا وعيهلّا ونحو ذلك مما قد أجري الوصل فيه مجرى الوقف؟
فالقول إنّ ذلك، وإن أمكن أن يقال، فما ذكرناه أولى، لأنّا رأيناهم قد أجروا المنفصل مجرى المتصل في الكلام كقولهم: «عبشمس»، فأجروه وإن كان منفصلا مجرى المتصل، فكذلك يحمل قوله: «اشتر لنا سويقا» على ذلك، لا على
[الحجة للقراء السبعة: 1/410]
مذهب الضرورة إذا أمكن توجيهه على غيرها). [الحجة للقراء السبعة: 1/411]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك ما حكاه الفراء عن بعض القراء فيما ذكر ابن مجاهد [يَخَطَّف] بنصب الياء والخاء والتشديد. قال ابن مجاهد: ولم يُرْوَ لنا عن أحد.
قال أبو الفتح: أصله يَخْتَطف، فآثر إدغام التاء في الطاء؛ لأنهما من مخرج واحد، ولأن التاء مهموسة والطاء مجهورة، والمجهور أقوى صوتًا من المهموس، ومتى كان الإدغام يُقوِّي الحرف المدغم حسن ذلك؛ وعلته أن الحرف إذا أدغم خفي فضعف، فإذا أدغم في حرف أقوى منه استحال لفظ المدغم إلى لفظ المدغم فيه فقوي لقوته، فكان في ذلك تدارك وتلاف لما جُني علي الحرف المدغم؛ فأَسكن التاءَ لإدغامها والخاءُ قبلها ساكنة، فنقلت الحركة إليها، وقلبت التاء طاء وأدغمت في الطاء؛ فصارت [يَخَطَّف].
ومنهم من إذا أسكن التاء ليدغمها كسر الخاء لالتقاء الساكنين، فاستغنى بحركتها عن نقل الحركة إليها، فيقول: يَخِطِّف.
ومنهم من يكسر حرف المضارعة إتباعًا لكسرة فاء الفعل ما بعده فيقول: يِخِطِّف، وأنا إِخِطِّف، وأنشدو لأبي النجم:
تدافُعَ الشِّيبِ ولم تِقِتِّل
أراد تقتتل، فأسكن التاء الأولى للإدغام، وحرك القاف لالتقاء الساكنين بالكسر فصار تَقتِّل، ثم أتبع أول الحرف ثانيه فصار تِقِتِّل.
وعلى هذا قالوا في ماضيه: خِطَّف، وأصلها اختطف، فأسكن التاء للإدغام فانكسرت الخاء لسكونها وسكون التاء، فحذف همزة الوصل لتحرك الخاء بعدها، وأُدغمت التاء في الطاء فصار [خِطَّف].
[المحتسب: 1/59]
ومنهم من يتبع الطاء كسرة الخاء فيقول: خِطِّف، وأنشدونا:
لا حِطِّب القومَ ولا القومَ سقى
أراد: احتطب على ما مضى.
وحكى أبو الحسن عنهم: فِتِّحوا الأبواب؛ أي: افتتحوا، على ما تقدم.
وكذلك الكلم في قوله: يَهَدِّي ويَهِدِّي ويِهِدِّي، وجاء المعذِّورن والْمُعِذِّرون والْمُعُذِّورن، ومُرَدِّفين ومُرِدِّفين ومُرُدِّفين، تُتْبِع الضم الضم، كما أتبعت الكسر الكسر. وأصله كله: المعتذرون ومرتدفون، وهو باب منقاد، وهذه طريقه.
ومن بعد فيسأل فيقال: ما مثال [يَخَطِّف]؟
قيل: إن أردت الأصل فيفتعِل؛ أي: يختطف، وإن أردت اللفظ ففيه الصنعة وعليه المسألة، فوزنه: يَفَطْعِل، وذلك أن التاء في يفتعل زائدة، فكما أنها لو ظهرت لكانت زائدة فكذلك إذا أَبدلت فالبدل منها زائد؛ لأن البدل من الزائد زائد، ألا ترى أن الطاء من "اصطبر" بدل من التاء في "اصتبر" الذي هو افتعل؟ فكما أن التاء زائدة فكذلك ما هو بدل منها -وهو
[المحتسب: 1/60]
الطاء- زائد، فوزن اصطبر على أصله: افتعل، وعلى لفظه: افطعل، فكذلك وزن [يَخَطِّف] من الفعل على لفظه: يَفَطْعِل، فإذا ثبت ذلك -وقد ثبت بحمد الله- فوزن خِطِّف: فِطْعِل، ووزن تِقِتِّل: تِفِعْتِل، ووزن مُرُدِّفين: مُفُدْعِلِين؛ لأن الدال فيه بدل من التاء الزائدة، فهي زائدة من هذا الوجه، كما كانت الطاء في خِطِّف زائدة من هذا الوجه.
وكذلك لو قائل: ما مثل "ازَّيَّنَتْ" على أصله؟
قلت: تفعَّلت؛ أي: تزينت، وعلى لفظه: ازْفَعَّلَت.
وكذلك قالوا: {اطَّيَّرْنَا} ووزنه: اطْفَعَّلْنا، وكذلك قول العجلي:
من عبس الصيف قرون الإِجَّل
يريد الإِيَّل، فإن اعتقدت أنه فِعْوَل أو فِعْيَل في الأصل فوزنه بعد البدل: فِعْجَل؛ لأن الجيم على هذا بدل من واو فِعْوَل أو ياء فِعْيَل، وهما زائدتان، فهي زائدة، فاعرف ذلك وقسه.
قال ابن مجاهد: وحكى الفراء أن بعض أهل المدينة يسكن الخاء والطاء ويشدد فيجمع بين ساكنين.
قال ابن مجاهد: ولا نعلم أن هذه القراءة رُويت عن أهل المدينة.
قال أبو الفتح: هذا الذي يجيزه الفراء من اجتماع ساكنين في نحو هذا لا يثبته أصحابنا؛
[المحتسب: 1/61]
وإنما هو اختلاس وإخفاء عليهم فيرون أنه إدغام، وإنما هو إخفاء للحركة وإضعاف للصوت، وهذا كما يُروى في قوله:
ومَسحِه مُرُّ عُقاب كاسِرِ
أن الحاء مدغمة في الهاء، ويا ليت شعري كيف يجوز لذي نظر أو من يُخْلِد ألى أدني تفكير أن يدَّعِي أن هنا إدغامًا، أو أن تجمع بين ساكنين، وقد قابل به جزء التفعيل، وإذا وقع التحاكم إلى بديهة الحس؛ فقد سقطت كلفة إتعاب النفس، ألا ترى أن وزن قوله: "ومسحهِي" مفاعلن، فالحاء مقابَل بها عين "علن"، والعين أول الوتد، وهي كما ترى وتعلم محركة، أفيقابَل في الوزن الساكن بالمتحريك؟ وإذا أفضى الأمر في السفور إلى هاهنا حَسَر شبهة اللبس والعناء، وقد قلنا في كتابنا الموسوم "بسر الصناعة" في هذا ما فيه كفاية وغناء.
قال ابن مجاهد: وقد رُوي عن مجاهد والحسن [يَخْطِف]، ولم يبلغنا أن أحدًا قرأ [خَطَف] بفتح الطاء، فيُقرأ هذا الحرف يَخْطِف، وأحسب أن هذا غلط ممن رواه.
قال أبو الفتح: قد قلنا في كتابنا الموسوم "بالمنصف" وهو شرح تصريف عثمان في نحو هذا من قوله:
وما كل مبتاع ولو سَلْفَ صَفْقُه ... يراجع ما قد فاته بِرِداد
فإذا تأملته أغنى عن إعادته إن شاء الله، وجملته: أن يكون استُغني بِخَطِف عن خَطَف في الماضي، وجاء المضارع عليه كما أن قوله: "سَلْف" يكون مُسَكَّنًا من "سَلِف" وإن لم يستعمل؛ استغناء بسلَف عنه، وقد شرحناه هناك فتركناه هنا). [المحتسب: 1/62]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (10- {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آية/ 20]:-
كان حمزة يسكت على الياء من «شيء» سكتةً خفيفةً، ثم يتلفظ بالهمزة، وكذلك يفعل في كل همزة قبلها ساكن، سواء كانا من كلمةٍ واحدةٍ أو كلمتين، كان يسكت على الساكن قليلاً ثم يهمز نحو «الأرض» «الآخرة» {قَدْ أَفْلَحَ} {هَلْ أتى} {سُورَةٌ أَنْزَلْناهَا}.
وإنما أراد بهذه السكتة تحقيق الهمزة وتبيينها؛ لأنه إذا وقف عليها وقيفة صارت الهمزة بحيث لا يكون فيها إلا التحقيق؛ لأنها تصير كالمبتدإ بها، والهمزة إذا ابتدئ بها لا يجوز فيها إلا التحقيق؛ لأن تخفيف الهمزة تقريب لها من الساكن، وإذا لم يجز الابتداء بالساكن لم يجز الابتداء بما يقرب من الساكن.
وروى ش- عن نافع أنه كان يلقي حركة الهمزة على الساكن الذي
[الموضح: 261]
قبلها، ويسقط الهمزة نحو: ألرض، ألاخرة.
وكذلك إذا كان الساكن آخر كلمةٍ، والهمزة أول كلمةٍ أخرى نحو {قَدَ فْلَح} و{مَن لهُ} إلا أن يكون الساكن واوًا قبلها ضمةٌ أو ياءً قبلها كسرة نحو: {قَالوُا أَنْصِتُوا} و{في أَنْفُسِكُمْ}.
القياس في تخفيف الهمزة المتحركة إذا كان قبلها ساكن غير الألف أن تحول حركتها على الساكن قبلها فتسقط الهمزة نحو: {يُخْرِجُ الخَبَ}.
ولا يختلف الحكم بأن يكون ذلك من كلمةٍ واحدةٍ أو كلمتين نحو {قَدَ افْلَحَ}.
وإنما لم يجز ش- هذا الحكم عليها إذا كان الساكن الذي قبلها واوًا قبلها ضمة، أو ياء قبلها كسرة؛ لأنه لو نقل حركة الهمزة إليهما لاختل المد الذي فيهما، فأراد أن يسلم المد ولا يلحقه اختلال.
ومما يدل على قصده لذلك أنه نقل حركة الهمزة إلى الواو في قوله تعالى {خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} لما لم يكن مد، وكذلك قوله {نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ}.
وإذا فعل هذا النقل الذي ذكرنا، ثم ابتدأ بالكلمة التي فيها لام التعريف، ففيها مذهبان:-
أحدهما: أن يحذف ألف الوصل فيقول لحمر، لرض، لاخرة؛ لأن ألف الوصل إنما جيء بها ليتوصل بها إلى النطق بالساكن الذي هو لام المعرفة،
[الموضح: 262]
فإذا تحركت فأية حاجة إلى ألف الوصل؟.
والثاني: أن لا يحذف ألف الوصل، فيقال: ألحمر، ألرض، ألاخرة؛ لأن حركة لام المعرفة منقولة إليها عن الهمزة المحذوفة، والهمزة في حكم الثبات، فكذلك اللام في حكم السكون، فحركتها إذن غير لازمة، وما لا يلزم لا يعتد به). [الموضح: 263]

روابط مهمة:
- أقوال المفسرين

جمهرة علوم القرآن 26 محرم 1440هـ/6-10-2018م 10:59 AM

سورة البقرة
[من الآية (21) إلى الآية (22) ]
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)}


قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)}

قوله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)}
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (19- وقوله تعالى: {وأنزل من السماء ماء} و{بناء} ونحوهما كان حمزة وحده يقف {بنا} {ما} لأنها في المصحف مكتوبة بألف واحدة.
والباقون يقفون {بنآءا} من السماء ماءا} {فلما ترءا} {أنشأناهن إنشاءا} قال الشاعر:
لا تدخلن حلقك شيئا ترى = حتى تجئ خلفه الماءا
جئت من البدو أبا خالد = كيف تركت الإبل والشاءا
قال وأنشدنا ابن دريد رحمه الله لنفسه:
أبقيت لي سقما يمازج مهجتي = من ذا يلذ مع السقام بقاءا
فأما الكسائي فإنه كان يقف على قوله: {فلما ترآءى) بالياء بعد الهمزة مثل «تداعى» «وتقاضى» فمن وقف بألفين أعني على قوله: {بناءا} {وماءا} فلأنه ثلاث ألفات. والأصل في ماء: موه فقلبوا من الواو ألفًا ومن الهاء ألفا أخرى والثالثة عوض من التنوين في الوقف، وأما «بناء» فألفه الأولى مجهولة، والثانية: سنخية والثالثة: عوض من التنوين، وزنه (فعال) و«ماء» وزنه (فَعَلٌ) ). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/74]

روابط مهمة:
- أقوال المفسرين

جمهرة علوم القرآن 26 محرم 1440هـ/6-10-2018م 11:00 AM

سورة البقرة
[من الآية (23) إلى الآية (25) ]
{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24) وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)}


قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23)}

قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)}
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة الحسن بخلاف ومجاهد وطلحة بن مصرِّف وعيسى الهمداني: [وُقُودُهَا النَّاسُ].
قال أبو الفتح: هذا عندنا على حذف المضاف؛ أي: ذو وُقودِها، أو أصحاب وقودها الناس؛ وذلك أن الوُقود بالضم هو المصدر، والمصدر ليس بالناس؛ لكن قد جاء عنهم الوَقود بالفتح في المصدر؛ لقولهم: وَقَدَت النارُ وَقودًا، ومثله: أُولِعْتُ به وَلُوعًا، وهو حسن القبول منك، كله شاذ، والباب هو الضم.
وكان أبو بكر يقول في قولهم: توضأت وَضوءًا: إن هذا المفتوح ليس مصدرًا؛ وإنما هو صفة مصدر محذوف، قال: وتقديره: توضأت وُضوءًا وَضُوءًا؛ لقولك: توضأت وُضوءًا حسنًا؛ لأن الوَضوء عنده صفة من الوضاءة.
وقرأت على أبي علي في نوادر أبي زيد: رجل ساكوت بَيِّن الساكوتة، فقال: قياس مذهب أبي بكر في الوَضوء أن يكون هذا على أنه أراد رجل ساكوت بَيِّن السكتة الساكوتة.
وعليه قولهم فيما حكاه الأصمعي: رجل بَيِّنُ الضارورة؛ أي: بين الضَّرة، أو المضرة الضارورة.
وأما قولهم: لص بين اللَّصوصية، وحُرٌّ بين الحروية، وخصصته بالشيء خَصوصِيَّة، فإن شئت قلت: هو على مذهب أبي بكر لص بين اللَّصة اللَّصوصية، والْخَصَّة الْخَصوصية، والْحُرِّية الْحَرورية.
وإن شئت قلت غير هذا؛ وذلك أن ما لا يجيء من الأمثلة بنفسه قد يجيء إذا اتصلت ياء الإضافة به، وذلك كقول الأعشى:
وما أَيْبُلِيٌّ على هيكل ... بناه وصلَّب فيه وصارا
[المحتسب: 1/63]
فأيبلي كما ترى فَيْعُلِيّ، ولولا ياء الإضافة لم يجز ذلك، ألا ترى أنه لم يأتِ عنهم فَيْعُل؟ وكذلك قولهم في الإضافة إلى تحبة: تَحَوِيّ، ومثاله: تَفَلِيّ. وليس في كلامهم اسم على تفل، فكذلك جاز خَصوصية وأختاها، هذا مع ما حُكي عنهم من القَبول والوَضوء والوَلُوع والوَقود، فإذا جاء هذا المثال في المصدر من غير أن تصحبه ياء الإضافة فهو بأن يأتي معهما أجدر). [المحتسب: 1/64]

قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)}


روابط مهمة:
- أقوال المفسرين

جمهرة علوم القرآن 26 محرم 1440هـ/6-10-2018م 11:02 AM

سورة البقرة
[من الآية (26) إلى الآية (29) ]

{إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27) كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)}

قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26)}
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (20- وقوله تعالى {إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا}.
قرأ ابن كثير في إحدى الروايات {لا يستحي} بياء واحدة كأنه كره الجمع بينهما فألقى كسرة الأولى على الحاء وحذف الياء الأولى لسكونها وسكون الثانية، والعرب تقول: استحييت واستحيت.
وقرأ الباقون وابن كثير معهم في سائر الروايات {يستحيي} بياءين، وشاهده: {يستحيون نساءكم} وإن كان الأولى في الحياء، والثانية في الحياة والاستبقاء). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/75]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة رؤبة: [مَثَلا مَا بَعُوضَةٌ] بالرفع.
قال ابن مجاهد: حكاه أبو حاتم عن أبي عبيدة عن رؤبة.
وقال أبو الفتح: وجه ذلك: أن "ما" هاهنا اسم بمنزلة الذي؛ أي: لا يستحيي أن يضرب الذي هو بعوضة مثلًا، فحذف العائد على الموصول وهو مبتدأ.
ومثله قراءة بعضهم: [تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنُ] أي: على الذي هو أحسن.
وحكى صاحب الكتاب عن الخليل: ما أنا بالذي قائل لك شيئًا؛ أي: الذي هو قائل لك شيئًا.
وعليه قوله:
لم أرَ مثل الفتيان في غِيَر الـ ... أيام ينسَوْن ما عواقبُها
أي: ينسون الذي هو عواقبها، وحَذْفُ الضمير من هنا ضعيف؛ لأنه ليس فضلة كالهاء في نحو قولك: ضربت الذي كلمت؛ أي: كلمته.
وإن شئت كان تقديره: ينسون أيُّ شيء عواقبها؟ فتكون ما استفهامًا، وعواقبها خبرًا عنها، والجملة في موضع نصب بينسون، وجاز فيها التعليق؛ لأنها ضد يذكرون ويعلمون، فيجري مجرى قولك: لا تنسَ أيُّنا أحق بكذا، وأَتذكُرُ أَزيدٌ أفضل أم عمرو؟). [المحتسب: 1/64]

قوله تعالى: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)}

قوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)}
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (22- وقوله تعالى: {فأحياكم ثم يميتكم}.
قرأ الكسائي وحده: {فأحياكم} بالإمالة و{لا يموت فيها ولا يحييى} و{أمات وأحيا}.
وقرأ الباقون بالفتح، إلا حمزة فإنه كان يُميل إذا تقدمتها واو، ولا يميل إذا تقدمتها فاء.
فمن فتح فعلى أصل الكلمة.
ومن أمال فلأجل الياء.
فأما حمزة فإنه فرق بين الفاء والواو؛ لأن الفاء متصلة بالكلمة خطًا، والواو منفصلة، وكره الإمالة مع الفاء استثقالاً للزائد، كما قرأ: {شا أنشره} بالإمالة، وقرأ {إنشاء} بالتفخيم ولم يحفل بالواو إذ لم تكن منفصلة وليست هذه العلة بالمرضية؛ لأن الإمالة والتفخيم في اللفظ لا في الخط، والنطق بالواو والفاء سيان، فمن أمال مع الفاء وجب أن يميل مع الواو، ومن فخم مع هذا وجب أن يفخم مع هذه). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/76]

قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (وهو بكلّ شيءٍ عليمٌ (29).
قرأ نافع وأبو عمرو والكسائي بجزم الهاء "وهو)، وحركها الباقون في كل القرآن.
قال أبو منصور: هما لغتان معروفتان، إذا اتصلت الهاء من (هو) و(هي) بواوٍ أو فاءٍ أو لام فإن كثيرا من العرب من يسكن الهاء لكثرة الحركات، ومنهم من يتركها على أصل حركتها، وكل جائز حسن.
وقاس الكسائي على الباب قوله: (ثمّ هو يوم القيامة)، وحركها الباقون). [معاني القراءات وعللها: 1/144]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (23- وقوله تعالى: {وهو بكل شيء عليم}.
قرأ ابن كثير وابن عامر وعاصم وحمزة بضم الهاء، وكذلك {فهو} {ولهو}، {ثم هو}، وكذلك {فهي كالحجارة} {وهي} {لهي}، كل ذلك بالتثقيل.
وقرأ الكسائي بتخفيف ذلك كله.
وقرأ أبو عمرو كذلك إلا مع ثم، وكذلك نافع في رواية قالون، والمسيبي مثل أبي عمرو، وفي رواية ورش مثل ابن كثير، فمن ضم الهاء وثقلها فعلى أصل الكلمة؛ لأن الأصل هو قبل أن يتصل بها حرف.
ومن خففها قال: لما اتصلت الحروف بالهاء أسكنوا الهاء تخفيفًا، كما قال الله تعالى: {ثم ليقضوا تفثهم} بكسر اللام على الأصل و{ثم ليقضوا تفثهم} بإسكان اللام تخفيفًا {وليوفوا نذورهم}.
فأما نافع وأبو عمرو فإنهما أسكنا مع الفاء والواو لاتصالهما بالهاء، ولم يسكنا مع «ثم»؛ لأنها كلمة منفصلة قائمة بنفسها، وهذا مما يؤيد قراءة حمزة؛ لأن «ثم» هو بمنزلة الواو إذا كانا منفصلين من الكلمة خطًا لا لفظًا، وفي «هو» لغة أخرى، وليست تدخل في القراءة، غير أن الشاعر قال:
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/77]
وإن لساني شهدة إن حبستها = وهو على من صبه الله علقم
ومثل هذا «لو» وأنت تريد «لو» وينشد:
* إن ليتا وإن لوا عناء *
وقال آخر:
فهي أحوى من الربعي حاذله = والعين بالإثمد الحاري مكحول). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/78]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({وهو بكل شيء عليم}
وقرأ أبو عمرو ونافع في رواية إسماعيل وقالون والكسائيّ وهو بكل لهو فهي ساكنة الياء
وحجتهم أن الفاء مع هي وهو قد جعلت الكلمة بمنزلة فخذ وفخذ فاستثقلوا الكسرة والضمة فحذفوها للتّخفيف
وقرأ الباقون فهو فهي بالتثقيل على أصل الكلمة وذلك أن الهاء كانت متحركة قبل دخول هذه الحروف عليها فلمّا دخلت هذه الحروف لم تتغيّر عمّا كانت عليه من قبل). [حجة القراءات: 93]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (17- قوله: «وهي: وهو، وفهي، ولهي، وثم هو» قرأ ذلك أبو عمرو والكسائي وقالون بإسكان الهاء، حيث وقع إذا كان قبل الهاء واو أو فاء أو لام أو ثم، وقرأ الباقون بضم الهاء من «هو» وكسرها من «هي» غير أن أبا عمرو ضم الهاء في «ثم هو» كالباقين.
وعلة من أسكن الهاء أنها، لما اتصلت بما قبلها من واو أو فاء أو لام، وكانت لا تنفصل منها، صارت كلمة واحدة، فخفف الكلمة، فأسكن الوسط وشبهها بتخفيف العرب لعضد وعجز، فهو كلفظ «عضد» فخفف كما يخفف «عضد» وهي لغة مشهورة مستعملة، يقولن: عضد وعجزن فيسكنون استخفافًا، وأيضًا فإن الهاء لما توسطت مضمومة بين واوين، وبين واو وياء، ثقل ذلك، وصار كأنه ثلاث ضمات في «وهو» وكسرتان وضمة في هي، فأسكن الهاء لذلك استخفافًا.
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/234]
18- وعلة من حرك الهاء أنه أبقاها على أصلها قبل دخول الحرف عليها لأنه عارض لا يلزمها في كل موضع، وأيضًا فإن الهاء في تقدير الابتداء بها، لأن الحرف الذي قبلها زاد، والابتداء فيها لا يجوز إلا مع حركتها، فحملها على حكم الابتداء بها وحكم لها، مع هذه الحروف على حالها، عند عدمهن، فأما اختصاص أبي عمرو بالضم مع «ثم هو» وبالإسكان مع الواو والفاء واللام، فإنه لما رأى الواو والفاء واللام لا يوقف عليهن، ولا ينفصلن من الهاء، أجرى الهاء مجرى الضاد من «عضد» إذ لا ينفصل من العين فأسكن، ولما رأى «ثم» تنفصل ويوقف عليها، ويبتدأ بها، أجرى الهاء مجراها في الابتداء فضمها، فأما من أسكن مع «ثم» فإنه لما كانت كلها حروف عطف، حملها محملًا واحدًا، والاختيار في ذلك حركة الهاء في جميعها لأنه الأصل، ولان ما قبل الهاء زائد، ولأن الهاء في نية الابتداء بها، ولأن عليه جماعة القراء، والإسكان لغة مشهورة حسنة). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/235] (م)
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (11- {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [آية/ 29]:-
وكذلك ما في القرآن من: {وَهُوَ} و{فَهُو} و{لَهُوَ} و{لَهِيَ} و{وَهِيَ} و{ثُمّ هُوَ}.
قرأ ابن كثير وعاصم وابن عامر وحمزة ويعقوب ويل- و-ش- عن نافع بتحريك الهاء في ذلك كله.
ووجهه واضح، وهو أنه هو الأصل؛ لأن هذه الهاءات قبل دخول هذه الحروف عليها متحركة، فبقيت بعد دخولها عليها على حركتها لم تتغير كما لا تتغير باتصال غيرها من الكلم بها.
وقرأ الكسائي و-ن- عن نافع بإسكان هذه الهاءات كلها مع هذه الحروف المذكورة، وكذلك أبو عمرو إلا {ثُمّ هُوَ} في القصص.
[الموضح: 263]
ووجه الإسكان أن هذه الضمائر لما كانت على حرفٍ واحدٍ، لزمها ما دخل عليها من الواو والفاء وما كان على حرف واحد، فصار معها كحروف أنفسها، وجرى مجرى ما لم ينفصل عنها، فخففت الهاءات لذلك مع هذه الحروف فقيل: «وَهْو» و«فهو» كما قيل: سبع، و«فهي» و«لهي» كفخذ وكتف.
وأجرى الكسائي و-ن- عن نافع «ثم» مجرى الواو والفاء وما كان على حرف واحد، فخففا الهاء مع «ثم» كما يخففانها مع هذه الحروف، وجعلا المنفصل بمنزلة المتصل؛ لأن الواو والفاء واللام وإن جرت مجرى ما اتصل بالكلمة فإنها ليست من الكلمة فهي مثل ثم في ذلك.
وأما أبو عمرو فإنه فرق بين ثم وبين ما كان على حرفٍ واحدٍ كالواو والفاء؛ لأن ثم تنفرد عن الكلمة ويوقف عليها، وليست الواو والفاء كذلك، والعرب تنزل ما كان على حرفٍ واحدٍ إذا اتصل بكلمةٍ منزلة ما هو منها، ألا ترى أنهم قالوا: لعمري، فأدخلوا اللام، ثم نزلوا اللام منزلة حرف الكلمة، فقلبوا فقالوا: رعملي، كما قالوا: قسي حين قلبوه من قووس، وهذا مذهب أبي عمرو، وهو أقوى). [الموضح: 264]


روابط مهمة:
- أقوال المفسرين

جمهرة علوم القرآن 26 محرم 1440هـ/6-10-2018م 11:04 AM

تفسير سورة البقرة

[من الآية (30) إلى الآية (32) ]

{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32)}

قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله عزّ وجلّ: (إنّي أعلم ما لا تعلمون (30)
و: (إنّي أعلم غيب السّماوات والأرض).
[معاني القراءات وعللها: 1/144]
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو بفتح الياءين، وأرسلهما الباقون.
وأخبرني المنذري عن أحمد بن يحيى أنه قال: إذا كان قبل ياء الإضافة متحرك يجوز أن تسكن الياء وتحرك، وإن كان ما قبلها ساكناً حركته لا غير.
قال: فإذا استقبلها ألف ولام كقوله: (اذكروا نعمتي الّتي أنعمت عليكم) حركت الياء لئلا تسقط.
وقال الفراء في نصب الياء من (نعمتي) كل ياء كانت من المتكلم فمعها لغتان الإرسال والفتح، فإذا لقيتها ألف ولام اختارت العرب التحريك، وكرهت السكون؛ لأن اللام ساكنة فتسقط الياء عندها لسكونها، فاستقبحوا أن يقولوا: (نعمت التي) فتكون كأنها مخفوضة على غير إضافة، فأخذوا بأوثق الوجهين.
قال: وقد يجوز إسكانها
[معاني القراءات وعللها: 1/145]
عند الألف واللام، قال الله جلّ وعزّ: (يا عبادي الّذين أسرفوا) فقرئت بإرسال الياء ونصبها، وكذلك ما في القرآن مما فيه ياء ثابتة ففيه الوجهان، وما لم يكن فيه الياء لم تنصب.
وأما قوله: (فبشّر عباد (17) الّذين يستمعون)، فإن هذا بغير ياء، فلا تنصب ياؤها.
على هذا يقاس كل ما في القرآن). [معاني القراءات وعللها: 1/146] (م)
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (24- وقوله تعالى: {إني أعلم ما لا تعلمون}
قرأ نافع بفتح ياء الإضافة المكسورة ما قبلها كقوله {إني أعلم} و{إن أجري إلا} و{إني أريد}.
وقرأ أبو عمرو كذلك إلا عند الألف المضمومة.
فأما ابن كثير فإنه أسكن الياء مع المكسور والمضموم وفتحها مع
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/78]
المفتوح إلا في موضعين {آبائي إبراهيم} وفي نوح {دعائي إلا} فإنه فتحهما.
وأسكن الباقون كل ذلك، أعني: عاصمًا وابن عامر وحمزة والكسائي إلا في أحرف ستمر بك إن شاء الله.
فمن فتح الياء فعلى أصل الكلمة؛ وذلك أن الياء اسم المتكلم، والاسم لا يخلو من أن يكون مكنيًا أو ظاهرًا، فإذا كان ظاهرًا أعرب، وإذا كان مكنيًا بني على حركة، كالكاف في ضربك، والتاء في قمت، وكذلك الياء وجب أن تكون مبنية على حركة، والدليل على ذلك في قوله تعالى: {وما أدراك ما هيه} و{حسابيه} لأن الهاء إنما أتي بها للسكت ليتبين بها حركة ما قبلها.
وفي ياء الإضافة أربع لغات؛ فتح الياء على أصل الكلمة وإسكانها تخفيفًا. وإثبات الهاء بعد الياء، والحذف اختصارًا تقول العرب: هذا غلامي، وغلامي، وغلاميه، وغلام.
قال الشاعر:
فطرت بمنصلي في يعملات = دوامي الأيد يخبطن السريحا
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/79]
أراد: الأيدي فحذف الياء اختصارًا، وليست بياء الإضافة وقال الشاعر في حذف ياء الإضافة -:
ومن كاشح ظاهر غمزه = إذا ما انتسبت له أنكرن
وقال الله تعالى: {وإياي فارهبون} و{فاتقون}، {وإذا مرضت فهو يشفين}، {ويطعمني ويسقين} بحذف الياء في ذلك كله.
فأما ابن كثير فإنه فتح الياء إذا استقبلها ألف مفتوحة، ولم يفتحها مع المضموم والمكسور استثقالاً لهما.
وأما أبو عمرو فإنه كان يفتح عند المكسور والمفتوح، ويسكن الياء مع المضموم نحو قوله: {فإني أعذبه عذابا} فقال بعض من احتج لأبي عمرو: إنما سكن؛ لأنه كره أن يخرج من كسر إلى ضم، وذلك غلط عنده؛ لأن ما قبل الياء مكسور، وليست الياء الساكنة بحاجز قوي، ولكنها إذا تحركت
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/80]
قويت فكانت حاجزًا فهو إذا أسكن فقد خرج من كسر إلى ضم، وإذا فتح لم يخرج. ونظيره قول البصريين: أُدخل، والأصل إدخل بكسر الألف، فلما كرهوا الخروج من كسر إلى ضم ضموا الألف لتتبع الضمة الضمة إذ كان الساكن بينهما ليس حاجزًا قويًا.
والحجة لأبي عمرو أنه إنما يسكن مع المضموم؛ لأن الضمة أثقل الحركات، والسكون أخف من الحركة، فأسكن الياء مع المضموم لتخف الكلمة. وما أعلم أحدًا تكلم فيه.
فأما فتح الياء في قراءة حفص في نحو: {ولي نعجة} وقراءة ابن كثير: {ولي دين}، فلأن الاسم الياء واتصلت بحرف واحد ففتحت تكثيرًا للكلمة، وكذلك تفعل العرب في نحو ولَّي ألفان لئلا تسقط الياء الالتقاء الساكنين لقلة حروف الكلمة. فأما قراءة حفص: {معي عدوا} ونحوه فإن حروف الصفات ما كان على حرفين نحو: «من» و«عن»، و«مع»، إذا أضفتهن إلى ما بعدهن أسكنت النون [في] نحو: «من«، «عن» وفتحت العين في «مع»، فقلت: من زيد، وعن زيد، ومع زيد؛ لأن العين من حروف الحلق، وحروف الحلق تفتح في الموضع الذي يسكن فيه غيرها، فلما انفتحت العين فتحوا الياء لمجاورتها العين). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/81]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (واختلفوا في تحريك الياء التي تكون اسما للمتكلم إذا انكسر ما قبلها، مثل قوله: إنّي أعلم [البقرة/ 30] وعهدي الظّالمين [البقرة/ 124]، وربّي اللّه [غافر/ 28].
فكان أبو عمرو يفتح ياء الإضافة المكسور ما قبلها عند الألف المهموزة المفتوحة والمكسورة إذا كانت متصلة باسم أو بفعل ما لم يطل الحرف.
فالخفيف إنّي أرى [الأنفال/ 48] وأجري إلّا على اللّه [يونس/ 72، وهود/ 29].
والثقيل مثل: ولا تفتنّي ألا [التوبة/ 49] ومن أنصاري إلى اللّه، وذروني أقتل موسى [غافر/ 26]، فأنظرني إلى [الحجر/ 36]، فاذكروني أذكركم [البقرة/ 152] سبيلي أدعوا [يوسف/ 108] وبين إخوتي إنّ ربّي [يوسف/ 100] وأرني أنظر [الأعراف/ 143] ويصدّقني إنّي [القصص/ 34] وما كان مثله.
قال أبو بكر، أحمد: وقد بينت آخر كل سورة ما يحرك منها ليقرب مأخذه.
قال: ولا يحرّك الياء التي ذكرت لك عند الألف
[الحجة للقراء السبعة: 1/411]
المضمومة كقوله: عذابي أصيب [الأعراف/ 156] فإنّي أعذّبه [المائدة/ 115]، إنّي أريد [المائدة/ 29] وما كان مثله.
فإذا استقبلت ياء الإضافة ألف وصل حركها، طالت الكلمة التي الياء متصلة بها أو لم تطل مثل: يا ليتني اتّخذت [الفرقان/ 27]، وما كان مثله.
وكان ابن كثير لا يستمر على قياس واحد كما فعل أبو عمرو.
قال أبو بكر، أحمد: فجعلت ما حرّك من الياءات مذكورا في آخر كل سورة.
وكان نافع يحرك ياء الإضافة المكسور ما قبلها عند الألف المكسورة والمفتوحة والمضمومة وألف الوصل إلا حروفا قد ذكرتها لك.
فمما لم يحرّك ياءه عند ألف الوصل ثلاثة أحرف في الأعراف: إنّي اصطفيتك [الآية/ 144] وفي طه: أخي اشدد [الآية/ 30، 31] وفي الفرقان: يا ليتني اتّخذت [الآية/ 27].
وروى أبو خليد عن نافع يا ليتني اتخذت محركة.
ومما ترك تحريك يائه عند الألف المقطوعة المتصلة بالفعل
[الحجة للقراء السبعة: 1/412]
المجزوم قوله فاذكروني أذكركم وأنظرني إلى، في الأعراف، والحجر [36]، وص [79] وفي مريم: فاتّبعني أهدك [43]، وفي النمل [19] والأحقاف [15]: أوزعني أن، وفي المؤمن [26]: ذروني أقتل، وادعوني أستجب [غافر/ 60]، ولا تفتنّي ألا [التوبة/ 49] وترحمني أكن [هود/ 47]، وأرني أنظر [الأعراف/ 143] يصدّقني إنّي [القصص/ 34]، آتوني أفرغ [الكهف/ 96].
وقد اختلف في بعض هذه الحروف عنه.
ومما لم يحرك ياءه عند الألف المقطوعة وهو مع فعل غير مجزوم فيما ذكر أحمد بن جماز وإسماعيل بن جعفر قوله: بعهدي أوف [البقرة/ 40] وأنّي أوفي الكيل [يوسف/ 59]، وفي ذرّيّتي إنّي [الأحقاف/ 15]،
[الحجة للقراء السبعة: 1/413]
وتدعونني إلى النّار [غافر/ 41] وأنّما تدعونني إليه [غافر/ 43].
قال أبو علي: حجة من فتح هذه الياء إذا تحرك ما قبلها أن أصل هذه الياء الحركة، لأنّها بإزاء الكاف للمخاطب فكما فتحت الكاف كذلك تفتح الياء.
فإن قلت: إنّ الحركة في حروف اللين مكروهة. قيل:
الفتحة من بينها لا تكره فيها، وإن كرهت الحركتان الأخريان، ألا ترى أن القاضي ونحوه، يحرّك بالفتح كما تحرك سائر الحروف التي لا لين فيها، أو لا ترى أنّ الياء في غواشٍ [الأعراف/ 41] ونحوها تثبت في النصب ولا تحذف كما تحذف في الوجهين الآخرين، فتجري في النصب مجرى مساجد ونحوها من الصحيح، فكذلك الياء. وإن تحرك ما قبلها يلزم أن تحرك بالفتح كما حركت الكاف بها، لأنّها قد جرت مجراها. ومجرى الحروف الصحيحة إذا تحركت بالفتح.
ومما يدل على استحقاقها التحرك بالفتح أنّها إذا سكن ما قبلها اتفقوا على تحريكها بالفتح، نحو: هذا بشراي، وغلاماي، وهذا قاضيّ، ورأيت غلاميّ، فاجتماعهم على تحريكها بالفتح في هذا النحو يدل على أن ذلك أصلها إذا تحرك ما قبلها.
ويدل على لزوم تحركها بالفتح تحريكهم النون في
[الحجة للقراء السبعة: 1/414]
فعلن، ويفعلن، وهو حرف ضمير كالياء، فكما اتفقوا على تحريك النون- وهي اسم كذلك- يلزم أن تحرّك الياء.
فإن قلت: ما تنكر أن تكون النون في فعلن إنّما حركت لالتقاء الساكنين في فعلن ويفعلن؟ ألا ترى أن ما قبلها لا يكون إلا ساكنا؟ فلما كان إسكانها يؤدي إلى التقاء الساكنين حركت لذلك، وحركة التقاء الساكنين غير معتد بها.
قيل: الذي يدلّ على أن تحريكها من حيث كانت اسما أنّها نظير الكاف، وقد حركوا تاء المخاطب والمتكلم أيضا.
فأمّا الألف في قاما، ويقومان، والواو في فعلوا، ويفعلون، فإنّما أسكنتا، لأنّ الألف إذا حركت انقلبت، والواو إذا انضم ما قبلها كره أكثر الحركات فيها، ومع ذلك فإنها جعلت في السكون مثل الألف، كما جعلت الكسرة في مسلمات بمنزلة الياء في مسلمين، ومع ذلك فما فيهما من المد قد صار عوضا فيهما من الحركة.
وحجة من أسكن أن الفتحة مع الياء قد كرهت في الكلام، كما كرهت الحركتان الأخريان فيها. ألا ترى أنّهم قد أسكنوها في الكلام في حال السعة إذا لزم تحريكها بالفتحة، كما أسكنوها إذا لزم تحريكها بالحركتين الأخريين؟ وذلك قولهم: قالي قلا، وبادي بدا، ومعد يكرب، وحيري دهر، فالياء في هذه المواضع في موضع الفتحة التي في آخر
[الحجة للقراء السبعة: 1/415]
أول الاسمين، نحو حضر موت، وبعلبكّ، وقد أسكنت كما أسكنت في الجر والرفع.
ومما يؤكد الإسكان فيها أنّها مشابهة للألف، والألف تسكن، في الأحوال الثلاث، فكما أسكنت الألف فيها كذلك تسكن الياء. والدليل على شبه الياء الألف قربها منها في المخرج، وإبدالهم إياها منها في نحو: طائيّ وحاريّ في النسب إلى: طيئ والحيرة، وقولهم: حاحيت وعاعيت.
و: لنضربن بسيفنا قفيكا فكما تسكن الألف في الأحوال الثلاث كذلك تسكن الياء فيها.
والدليل على صحة هذه الطريقة أن العرب قد فعلت ذلك بها في الكلام وحال السعة فيما أريناكه.
وأسكنوها أيضا في الشعر في موضع النصب لهذه
[الحجة للقراء السبعة: 1/416]
المشابهة، وكثر ذلك في الشعر حتى ذهب بعضهم إلى استجازته في الكلام.
فأمّا حجة أبي عمرو في فتحه الياء مما رآه خفيفا مع الهمزة، فهي أن الهمزة قد فتح لها ما لم يكن يفتح لو لم يجاور الهمزة، نحو: يقرأ، ويبرأ ولولا الهمزة لم يفتح شيء من ذلك.
فإذا فتح لها ما لا يفتح إذا لم يجاور الهمزة فأن يفتح لها ما قد يفتح مع غيرها أحرى.
والمفتوحة والمكسورة سيان في إتباع الياء لها في التحريك بالفتح، ألا ترى أنّهم قد غيروا للهمزة المكسورة الحرف الذي قبلها، فقالوا: الضئين، وصأى صئيّا، ورجل جئز، وشهد، ولم يفعلوا ذلك في رءوف، فكذلك لم تفتح الياء قبل الهمزة المضمومة في نحو عذابي أصيب، كما فتحت قبل المفتوحة والمكسورة في نحو: سبيلي أدعوا [يوسف/ 108] وإخوتي إنّ ربّي [يوسف/ 100].
فإن قلت: إن ما ذكرته من التغيير للهمزة المفتوحة
[الحجة للقراء السبعة: 1/417]
والمكسورة إنّما جاء في المتصل، نحو: يقرأ، ويبرأ، والضئين والصئي، وجئز، وما فعله أبو عمرو من فتح الياء مع المفتوحة والمكسورة منفصل.
قيل: يشبّه المنفصل بالمتصل هنا، كما شبهه به في: يا يا صالح يتنا [الأعراف/ 7] لما فعلته العرب من تشبيه المنفصل بالمتصل في مواضع كثيرة، قد ذكرنا منها أشياء في هذا الكتاب.
ومن قال إنّه إنّما فتح الياء مع الهمزة لتتبين الياء معها لأنّها خفية، كما بينوا النون مع حروف الحلق وأخفوها مع غيرها، فإنّا لا نرى أنّ أبا عمرو اعتبر هذا الذي سلكه هذا القائل، ولو كان كذلك لحرّك الياء مع الهمزة إذا كانت مضمومة، لأنّ النون تبيّن مع الهمزة، مضمومة كانت، أو مكسورة، أو مفتوحة، ومع ذلك فإنّ النون تبيّن مع سائر حروف الحلق، ولسنا نعلم أبا عمرو يفتح الياء مع سائر حروف الحلق). [الحجة للقراء السبعة: 1/418]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (بسم الله الرّحمن الرّحيم
استعنت بالله
فإن قلت: فإنّ الهمزة قد تفتح لها ما قبلها وإن كانت مضمومة نحو: يقرأ في موضع الرفع، فهلّا فتح الياء في عذابي أصيب [الأعراف/ 156] كما فتح قبل المفتوحة والمكسورة في نحو: سبيلي أدعوا [يوسف/ 108] وإخوتي إنّ ربّي [يوسف/ 100] فأقول: إنّ هذه الضمة إن كانت للإعراب، لم تكن في حكم الضمة عندهم، ألا ترى أنّهم قد قالوا نمرّ، وكتف ونحو ذلك في الرفع ورفضوا الضمة بعد الكسرة في كلامهم، فلم يجيء فيه فعل، فإذا كان كذلك، لم يلزمه أن يفتح الياء قبل الهمزة المضمومة لما ذكرت، لأنّها عندهم لمّا لم تثبت، لم تكن في حكم الضم، وأما ما رواه من ذلك غير مستخفّ، فأسكن الياء فيه، فهو حسن، وذلك أنّ هذه الياء، إذا لم تحرك، إذا كانت مع ما يستخفّ فلأن يكره حركتها مع ما لا يستخف أجدر وقد كرهوا الحركة
[الحجة للقراء السبعة: 2/5]
فيما تتوالى فيه الحركات وإن كانت للإعراب، فزعم أبو الحسن: أنّ بعضهم قال: رسلهم [إبراهيم/ 10].
ونحو هذا ما أنشده سيبويه من قوله:
إذا اعوججن قلت صاحب قوّم ونحوه قول جرير:
سيروا بني العمّ فالأهواز منزلكم... ونهر تيرى ولا تعرفكم العرب
فأمّا حدّ المستخفّ، والمستثقل، فإن جعل ما زاد على الثلاثة غير مستخفّ، كان مذهبا وإن جعل المستثقل ما توالى فيه أربع حركات كان مذهبا، لأنّك قد علمت استثقالهم له برفضهم إيّاه في الشّعر، إلّا في موضع الزّحاف، وإذا لم يستخفّ الأربعة فالخمسة أجدر بأن لا تستخفّ). [الحجة للقراء السبعة: 2/6]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({قال إنّي أعلم ما لا تعلمون}
قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو إنّي أعلم بفتح الياء وقرأ الباقون بإسكان الياء فأما من فتح الياء فعلى أصل الكلمة وذلك أن الياء اسم المتكلّم والاسم لا يخلو من أن يكون مضمرا أو مظهرا فإذا كان ظاهرا أعرب وإذا كان مضمرا بني على حركة كالكاف في ضربتك والتّاء في قمت وكذلك الياء وجب أن تكون مبنيّة على حركة لأنّها علامة إضمار وهي خلف من المعربة والدّليل على ذلك قوله وما أدراك ماهيه حسابيه لأن الهاء إنّما أتي بها للسكت لتبين بها حركة ما قبلها وأما من سكن الياء فإنّه عدل بها عن أصلها استثقالا للحركة عليها لأن الياء حرف ثقيل فإذا حرك ازداد ثقلا إلى ثقله
[حجة القراءات: 93]
وفي ياء الإضافة أربع لغات فتح الياء على أصل الكلمة وإسكانها تخفيفًا وإثبات الهاء بعد الياء والحذف تقول هذا غلامي قد جاء وغلامي وغلاميه وغلام). [حجة القراءات: 94]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (12- {إِنِّي أَعْلَمُ} [آية/ 30]:-
بفتح الياء، قرأها ابن كثير ونافع وأبو عمر.
أما ابن كثير فهكذا يفتح كل ياء إضافةٍ مكسورٍ ما قبلها عند الهمزة المفتوحة.
وأما نافع فإنه يفتحها عند كل همزةٍ، مفتوحةً كانت أم مكسورةً أم مضمومةً.
وأما أبو عمرو فانه يفتحها عند الهمزة المفتوحة والمكسورة، ولا يفتحها عند المضمومة ولا إذا طالت الكلمة، لكنه يفتحها مع كل ألف وصل.
اعلم أن أصل هذه الياء أن تكون مفتوحة؛ لأنها بإزاء كاف المخاطب، فكما أن الكاف مفتوحة، فكذلك حق هذه الياء الفتح، يدل على ذلك أنك تفتحها ألبتة إذا سكن ما قبلها نحو: غلاماي، وبشراي.
وأما فتح هذه الياء مع الهمزة، فإن الهمزة يفتح ما قبلها لمجاورتها ولا ينظر إلى حركتها أهي فتحة أم غيرها نحو: يقرأ ويبرأ، ولولا هذه الهمزة لجاءت على يفعل أو يفعل، فإذا فتح لمجاورة الهمزة ما لا يفتح إذا لم يجاورها، فلأن يفتح معها ما حقه الفتحة وإن لم يجاورها أولى، وهذا يقوي قراءة نافع.
[الموضح: 265]
وأما ابن كثير فإنه اختار فتح الياء إذا انفتحت الهمزة؛ لأنه إذا حسن انفتاح ما قبل الهمزة لأجل الهمزة المطلقة، فلأن يحسن للهمزة المفتوحة أولى.
وأما وجه قراءة أبي عمرو فهو أن الهمزة المكسورة مثل المفتوحة في أنهم غيروا الحرف الذي قبلها لأجلها نحو: صأى صئيًا ورجل جئز، فكسروا ما قبل الهمزة لحركة الهمزة، وإن كان أصله غير الكسرة، وليست كذلك الهمزة المضمومة؛ لأن الضمة في الهمزة ليست كالفتحة والكسرة في تغيير ما قبلها لأجلها، ألا ترى أنهم قالوا: رؤوف، فلم يغيروا حركة الراء المجاورة للهمزة المضمومة، كما غيروا مع الهمزة المكسورة.
فأما: يقرأ ونحوه، فإن ضمة الهمزة فيه ضمة إعراب، فهي غير لازمة فليس كرؤوف. وأما فتحة الياء مع ألف الوصل فلأنه احتاج إلى تحريك الياء لالتقاء الساكنين فرأى تحريكه بحركة الأصل وهي الفتحة أولى.
وأما تسكينه للياء إذا طالت الكلمة فهو منقاس، وذلك أنه إذا جاز أن تسكن هذه الياء في المستخف وهو ما كان على ثلاثة أحرف، فلأن تسكن في المستثقل وهو ما زاد على الثلاثة أولى.
وقرأ الباقون بإسكان الياء.
ووجهه أن الحركة على الياء تستثقل على الجملة، وإن كانت فتحة؛ لأنها وإن خفت فهي حركة في الجملة، والسكون أخف منها، ألا ترى أنهم أسكنوها حيث لزم تحريكها بالفتحة نحو: معدي كرب وقالي قلا؛ لأن
[الموضح: 266]
الفتحة تلزم في آخر الاسم الأول من الاسمين اللذين جعلا اسمًا واحدًا، كما لزمت في آخر الاسم المؤنث قبل هاء التأنيث، فلما أزيلت هذه الفتحة عن الياء وإن كانت لازمة علمنا أن الحركة وإن كانت فتحة تستثقل على حروف العلة). [الموضح: 267]

قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31)}
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة يزيد البربري: [وَعُلِّمَ آدَمُ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا].
[المحتسب: 1/64]
قال أبو الفتح: ينبغي أن يُعلم ما أذكره هنا؛ وذلك أن أصل وضع المفعول أن يكون فضلة وبعد الفاعل؛ كضرب زيد عمرًا، فإذا عناهم ذكر المفعول قدَّموه على الفاعل، فقالوا: ضرب عمرًا زيد، فإن ازدادت عنايتهم به قدموه على الفعل الناصبِه، فقالوا: عمرًا ضرب زيد، فإن تظاهرت العناية به عقدوه على أنه رَبُّ الجملة، وتجاوزوا به حد كونه فضلة، فقالوا: عمرو ضربه زيد، فجاءوا به مجيئًا ينافي كونه فضلة، ثم زادوه على هذه الرتبة فقالوا: عمرو ضرب زيد، فحذفوا ضميره ونَوَوه ولم ينصبوه على ظاهر أمره؛ رغبة به عن صورة الفضلة، وتحاميًا لنصبه الدال على كون غيره صاحب الجملة، ثم إنهم لم يرضوا له بهذه المنزلة حتى صاغوا الفعل له، وبنوه على أنه مخصوص به، وألغَوْا ذكر الفاعل مظهرًا أو مضمرًا، فقالوا: ضُرب عمرو، فاطُّرح ذكر الفاعل ألبتة. نعم، وأسندوا بعض الأفعال إلى المفعول دون الفاعل ألبتة، وهو قولهم: أُولعت بالشيء، ولا يقولون: أولعني له كذا، وقالوا: ثُلِجَ فؤاد الرجل، ولم يقولوا: ثَلَجَهُ كذا، وامتُقع لونه، ولم يقولوا: امتقعه كذا، ولهذا نظائر، فرفضُ الفاعل هنا ألبتة واعتماد المفعول به ألبتة دليل على ما قلناه، فاعرفه.
وأظنني سمعت: أولعني به كذا، فإن كان كذلك فما أقله أيضا!
وهذا كله يدل على شدة عنايتهم بالفضلة؛ وإنما كانت كذلك لأنها تجلو الجملة، وتجعلها تابعة المعنى لها، ألا ترى أنك إذا قلت: رغبت في زيد، أُفيد منه إيثارك له، وعنايتك به، وإذا قلت: رغبت عن زيد، أُفيد منه اطراحك له، وإعراضك عنه، ورغبت في الموضعين بلفظ واحد، والمعنى ما تراه من استحالة معنى رغبت إلى معنى زهدت، وهذا الذي دعاهم إلى تقديم الفضلات في نحو قول الله سبحانه: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}، وإنما موضع اللام التأخير؛ ولذلك قال سيبويه: إن الجفاة ممن لا يعلم كيف هي في المصحف يقرؤها: [وَلَمْ يَكُنْ كُفُوًا له أَحَدٌ].
فإن قلت: فقد قالوا: زيدًا ضربته فنصبوه، وإن كانوا قد أعادوا عليه ضميرًا يشغل الفعل
[المحتسب: 1/65]
بعده عنه حتى أضمروا له فعلًا ينصبه، ومع هذا فالرفع فيه أقوى وأعرب، وهذا ضد ما ذكرته من جعلهم إياه ربَّ الجملة ومبتدأها في قولهم: زيد ضربته.
قيل: هذا وإن كان على ما ذكرتَه فإن فيه غرضًا من موضع آخر؛ وذلك أنه إذا نصب على ما ذكرت فإنه لا يعدم دليل العناية به، وهو تقديمه في اللفظ منصوبًا، وهذه صورة انتصاب الفضلة مقدمة لتدل على قوة العناية به، لا سيما والفعل الناصب له لا يظهر أبدًا مع تفسيره، فصار كأن هذا الفعل الظاهر هو الذي نصبه، وكذلك يقول الكوفيون أيضًا.
فإذا ثبت بهذا كله قوة عنايتهم بالفضلة حتى ألغوا حديث الفاعل معها، وبنَوا الفعل لمفعوله فقالوا: ضُرب زيد -حَسُن.
قوله تعالى: [وَعُلِّمَ آدَمُ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا] لما كان الغرض فيه أنه قد عَرَفَها وعَلِمَها، وآنس أيضًا علم المخاطبين بأن الله سبحانه هو الذي علمه إياها بقراءة مَن قرأ: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا}، ونحوه قوله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا}، وقوله تعالى: {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا}، هذا مع قوله: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَق}، وقال سبحانه: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ، عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}، وقال تبارك اسمه: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ}.
فقد عُلم أن الغرض بذلك في جميعه أن الإنسان مخلوق ومضعوف، وكذلك قولهم: ضُرب زيد، إنما الغرض منه أن يُعلم أنه منضرب، وليس الغرض أن يُعلم مَن الذي ضربه، فإن أُريد ذلك ولم يدل دليل عليه فلَا بُدَّ أن يذكر الفاعل فيقال: ضرب فلان زيدًا، فإن لم يفعل ذلك كلف علم الغيب). [المحتسب: 1/66]

قوله تعالى: {قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32)}
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (26- وقوله تعالى: {يا آدم أنبئهم}
قرأ ابن عامر وحده في إحدى الروايتين {أنبئهم} وهذا غلط؛ لأن الهاء إنما تكسر إذا تقدمتها كسرة أو ياء وقرأ الباقون {أنبئهم} وهو الصواب). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/82]


روابط مهمة:
- أقوال المفسرين

جمهرة علوم القرآن 26 محرم 1440هـ/6-10-2018م 11:05 AM

تفسير سورة البقرة
[من الآية (33) إلى الآية (34) ]


{قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)}

قوله تعالى: {قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله عزّ وجلّ: (إنّي أعلم ما لا تعلمون (30)
و: (إنّي أعلم غيب السّماوات والأرض).
[معاني القراءات وعللها: 1/144]
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو بفتح الياءين، وأرسلهما الباقون.
وأخبرني المنذري عن أحمد بن يحيى أنه قال: إذا كان قبل ياء الإضافة متحرك يجوز أن تسكن الياء وتحرك، وإن كان ما قبلها ساكناً حركته لا غير.
قال: فإذا استقبلها ألف ولام كقوله: (اذكروا نعمتي الّتي أنعمت عليكم) حركت الياء لئلا تسقط.
وقال الفراء في نصب الياء من (نعمتي) كل ياء كانت من المتكلم فمعها لغتان الإرسال والفتح، فإذا لقيتها ألف ولام اختارت العرب التحريك، وكرهت السكون؛ لأن اللام ساكنة فتسقط الياء عندها لسكونها، فاستقبحوا أن يقولوا: (نعمت التي) فتكون كأنها مخفوضة على غير إضافة، فأخذوا بأوثق الوجهين.
قال: وقد يجوز إسكانها
[معاني القراءات وعللها: 1/145]
عند الألف واللام، قال الله جلّ وعزّ: (يا عبادي الّذين أسرفوا) فقرئت بإرسال الياء ونصبها، وكذلك ما في القرآن مما فيه ياء ثابتة ففيه الوجهان، وما لم يكن فيه الياء لم تنصب.
وأما قوله: (فبشّر عباد (17) الّذين يستمعون)، فإن هذا بغير ياء، فلا تنصب ياؤها.
على هذا يقاس كل ما في القرآن). [معاني القراءات وعللها: 1/146] (م)
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (أنبئهم)
اتفق القراء كلهم على ضم الهاء مع الهمزة.
قال أبو منصور: وإنما اتفقوا على ذلك ولم يشبهوه بـ (عليهم) و(إليهم) لأن الهمزة إذا سكنت فهي كالحرف الصحيح، والياء أخت الكسرة في (عليهم)، فأتبعوا الكسرة الكسرة.
[معاني القراءات وعللها: 1/146]
وقد روي عن ابن عامر أنه قرأ: (أنبئهم) بكسر الهاء.
وهذا غير جائز عند أهل العربية، ولكن لو قرئ: (أئبيهم) بحذف الهمزة كان جائزا في العربية، ولا يجوز في القراءة لأنه لم يقرأ به أحد). [معاني القراءات وعللها: 1/147]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (بسم الله: كلّهم قرأ: أنبئهم [البقرة/ 33] بالهمز وكذلك) روى بعض رواة المكيين عن ابن كثير أنبئهم
[الحجة للقراء السبعة: 2/6]
بكسر الهاء والهمز، قال أحمد: وهذا خطأ لا يجوز.
قال أبو علي: النبأ: الخبر، عن النّبإ العظيم [النبأ/ 2] أي: الخبر، وقالوا منه: نبأته وأنبأته. ونبّئهم عن ضيف إبراهيم [الحجر/ 51] أي: أخبرهم عن ضيفه. وضمّ الهاء، إلا ما رواه عن ابن عامر أنبئهم بكسر الهاء مع الهمز، وينبّؤا الإنسان يومئذٍ بما قدّم وأخّر [القيامة/ 13] أي يخبر به، فهذا كقوله تعالى: يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون [النور/ 24] وقال: وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا، قالوا أنطقنا اللّه الّذي أنطق كلّ شيءٍ [فصلت/ 21] وهذا كتابنا ينطق عليكم بالحقّ [الجاثية/ 29] ومن ثم قرأ من قرأ: هنالك تبلوا كلّ نفسٍ ما أسلفت [يونس/ 30] بالتاء، فهذه الآي في معنى إخبار الإنسان بأعماله، وتوقيفه عليها. وأنبئوني بأسماء هؤلاء [البقرة/ 31]. أخبروني بها، ويا آدم أنبئهم بأسمائهم [البقرة/ 33] أخبرهم، فلما كان النبأ مثل الخبر، كان أنبأته عن كذا، بمنزلة: أخبرته عنه. ونبأته عنه، مثل: خبّرته.
ونبّأته به، مثل: خبّرته به. وهذا مما يصحح ما ذهب إليه سيبويه، من أن معنى نبّئت زيدا: نبّئت عن زيد، فحذف حرف الجر، لأن نبّأت قد ثبت أن أصله خبّرت بالآي التي تلوناها، فلما حذف حرف الجرّ، وصل الفعل إلى المفعول الثاني،
[الحجة للقراء السبعة: 2/7]
فنبّأت يتعدّى إلى مفعولين، أحدهما يصل إليه بحرف جر، كما أن أخبرته عن زيد كذلك.
فأمّا المتعدي إلى ثلاثة مفعولين، نحو: نبّأت زيدا عمرا أبا فلان، فهو هذا في الأصل، إلّا أنّه حمل على المعنى، فعدّي إلى ثلاثة مفعولين وذلك أنّ الإنباء الذي هو إخبار: إعلام، فلما كان إياه في المعنى، عدّي إلى ثلاثة مفعولين، كما عدّي الإعلام إليهم، ودخول هذا المعنى فيه، وحصول مشابهته للإعلام، لم يخرجه عن الأصل الذي هو له من الإخبار، وعن أن يتعدى إلى مفعولين، أحدهما يتعدى إليه بالباء، أو بعن، نحو:
نبّئهم عن ضيف إبراهيم [الحجر/ 51] ونحو قوله: فلمّا نبّأت به [التحريم/ 3] كما أن دخول معنى أخبرني في «أرأيت» لم يخرجه عن أن يتعدى إلى مفعولين، كما كان يتعدّى إليهما، إذا لم يدخله معنى أخبرني به، إلّا أنّه امتنع من أجل ذلك أن يرفع المفعول به بعده على الحمل على المعنى، من أجل دخوله في حيّز الاستفهام، فلم يجز: «أرأيتك
زيد أبو من هو؟» كما جاز: «علمت زيد أبو من هو؟». و «رأيت زيد أبو من هو؟» حيث كان المعنى: علمت أبو من زيد فكذلك دخول معنى الإعلام في الإنباء، والتنبيء لم يخرجهما عن أصلهما وتعدّيهما إلى مفعولين، أحدهما: يصل إليه الفعل بحرف الجر، ثم يتّسع فيحذف الحرف، ويصل الفعل إلى الثاني.
[الحجة للقراء السبعة: 2/8]
فأمّا من قال: إنّ الأصل في نبّئت على خلاف ما ذكرنا، فإنّه لم يأت على ما ادعاه بحجة ولا شبهة. فأمّا قوله: نبّئ عبادي أنّي أنا الغفور الرّحيم [الحجر/ 49] فيحتمل ضربين أحدهما: أن يكون (نبّئ) بمنزلة أعلم، ويكون أنّي أنا الغفور الرّحيم قد سدّ مسدّ المفعولين، كما أنّه في قولك:
علمت أنّ زيدا منطلق، قد سدّ مسدّهما، فتكون (نبّئ) هذه المتعدية إلى ثلاثة مفعولين. ويجوز أن يكون (نبّئ) بمنزلة:
(خبّر) عبادي بأنّي، فحذف الحرف، ف (أنّ) في قول الخليل على هذا: في موضع جر، وعلى قول غيره: في موضع نصب.
فأمّا قوله: قل أأنبّئكم بخيرٍ من ذلكم للّذين اتّقوا عند ربّهم جنّاتٌ [آل عمران/ 15] فإن جعلت اللّام متعلقة (بأؤنبّئكم)، جاز الجرّ في جنات على البدل من خير، وإن جعلته صفة لخير، لأنه نكرة جاز الجرّ في جنات أيضا.
وإن جعلتها متعلقة بمحذوف، لم يجز الجرّ في جنات، وصار مرتفعا بالابتداء أو بالظرف. ولم يجز غير ذلك، لأن اللام حينئذ لا بد لها من شيء يكون خبرا عنه. فأما قوله: قد نبّأنا اللّه من أخباركم [التوبة/ 94] فلا يجوز أن تكون (من) فيه زيادة على ما يتأوّله أبو الحسن من زيادة (من) في الواجب، لأنه يحتاج إلى مفعول ثالث، ألا ترى أنه لا خلاف في أنه إذا تعدى إلى الثاني، وجب تعديه إلى المفعول الثالث، وإن قدرت تعديته إلى مفعول محذوف، كما تؤوّل قوله:
[الحجة للقراء السبعة: 2/9]
يخرج لنا ممّا تنبت الأرض من بقلها [البقرة/ 61]- أي شيئا- لزم تعديته إلى آخر. فإن جعلت (من) زيادة، أمكن أن تضمر مفعولا ثالثا، كأنّه: نبأنا الله أخباركم مشروحة. ويجوز أن تجعل (من) ظرفا غير مستقر، وتضمر المفعول الثاني، والثالث كأنه: نبأنا الله من أخباركم ما كنتم تسرونه تنبيئا، كما أضمرت في قوله: أين شركائي الّذين كنتم تزعمون [القصص/ 62] أما قوله: ويستنبئونك أحقٌّ هو [يونس/ 53] فيكون يستنبئونك: يستخبرونك، فيقولون: أحقّ هو؟ ويكون:
يستنبئونك: يستعلمونك، والاستفهام قد سدّ مسدّ المفعولين.
ومما يتّجه على معنى الإخبار دون الإعلام، قوله:
وقال الّذين كفروا هل ندلّكم على رجلٍ ينبّئكم إذا مزّقتم كلّ ممزّقٍ [سبأ/ 7] فالمعنى: يخبركم، فيقول لكم: إذا مزّقتم، وليس على الإعلام، ألا ترى أنهم قالوا: أفترى على اللّه كذباً أم به جنّةٌ [سبأ/ 8] قال أبو علي: فأما قوله: (أنبئهم) فحجة من قرأ بضم الهاء ظاهرة، وذلك أن أصل هذا الضمير أن تكون الهاء مضمومة فيه، ألا ترى أنك تقول: ضربهم وأنبأهم، وهذا لهم. وإنما تكسر الهاء إذا وليتها كسرة أو ياء، نحو: بهم وعليهم. وهذا أيضا يضمه قوم، فلا يجانسون بكسرتها الكسرة التي قبلها، ولا الياء، ولكن يضمّونها على الأصل، نحو: بهم، وبهو، وبدارهو، وعليهم، وقد تقدم ذكر
[الحجة للقراء السبعة: 2/10]
ذلك في أول الكتاب.
فأما وجه قراءة من قرأ: «أنبئهم» فكسر الهاء، والذي قبلها همزة مخففة، فإنّ لكسره الهاء وجهين من القياس على ما سمع منهم. أحدهما: أنه أتبع كسر الهاء الكسرة التي قبلها، والحركة للإتباع قد جاء مع حجز السكون وفصله بين المتحركين، ألا ترى أنّ أبا عثمان قد حكى عن عيسى عن ابن أبي إسحاق: هذا المرء، ورأيت المرء، ومررت بالمرء. فأتبعوا مع هذا الفصل، كما أتبعوا في اللغة الأخرى: هذا امرؤ، ورأيت امرأ، وبامرئ. وكذلك: أخوك، وأخاك، وأخيك. فكذلك يكون قوله: (أنبئهم) أتبعت كسرة الهاء الكسرة التي على الباء.
ومما يثبت ذلك، أن أبا زيد قال: قال رجل من بكر بن وائل: أخذت هذا منه يا فتى، ومنهما، ومنهمي. بكسر الاسم المضمر في الإدراج والوقف. قال: وقال عنه، وقال:
لم أعرفه، ولم أضربه. بكسر كل هذا. قال أبو زيد: وقال: لم أضربهما بكسر الهاء مع الباء. ففي ما حكاه أبو زيد: ما يعلم منه أنّ الإتباع مع حجز الساكن بين الحركتين، مثله إذا توالت الحركتان، فلم يحجز بينهما شيء. ألا ترى أنه قال: منه- ومنهما- ومنهمي، فأتبع الكسر الكسر مع حجز السكون بينهما، كما أتبع في: لم أضربه، ولم أضربهما، ولم أعرفه،
[الحجة للقراء السبعة: 2/11]
وإن لم يحجز بينهما شيء؟ فكذلك قوله: (أنبئهم) أتبع الكسرة في الهاء الكسرة التي قبلها.
والوجه الآخر: أنه لم يتعدّ بالحاجز الذي بين الكسرة والهاء لسكونها، فكأن الكسرة وليت الهاء، والكسرة إذا وليت الهاء كسرت نحو: به. ويكون تركهم الاعتداد- في «أنبئهم» - بالسكون كتركهم الاعتداد به في قولهم: هو ابن عمّي دنيا، وقنية، ألا ترى أنه من الدنوّ، وقالوا: قنوة. فكما قلبت الواو ياء في عارية ومحنية، لانكسار ما قبلهما، كذلك قلبوها مع حجز الساكن في دنيا. فإذا رأيتهم لم يعتدّوا بالحاجز إذا كان ساكنا، كذلك يجوز أن لا يعتدّ به حاجزا في قراءة ابن عامر، وما روي عن ابن كثير.
ولو ترك تارك الهمز في: (أنبئهم) فقال: (أنبيهم) لكان لكسر الهاء وجهان.
أحدهما: أنه لما خفف الهمزة لسكونها وانكسار ما قبلها فقلبها ياء كذيب وميرة أشبهت الياء التي هي غير منقلبة عن الهمزة، فكسر الهاء بعدها، كما تكسر «هم» بعد:
(ترميهم) و (يهديهم). ويقوي ذلك أن منهم من أدغم الواو الساكنة
[الحجة للقراء السبعة: 2/12]
المنقلبة عن الهمزة في الياء، كما تدغم الواو التي ليست منقلبة، وذلك في قولهم: ريّا، وريّة.
ويقوّي ذلك إيقاعهم الألف المنقلبة عن الهمزة ردفا، كإيقاعهم المنقلبة عن الياء أو الواو، وذلك قوله:
على رال كما تقول: على بال. والوجه أن لا تكسر الهاء على هذا المذهب، كما أن الوجه أن لا تدغم.
والوجه الآخر: أن تقلب الهمزة إلى الياء قلبا. وهذا وإن كان سيبويه لا يجيزه إلا في الشعر، فإن أبا زيد يرويه عن قوم من العرب. وإذا اتّجهت له هذه الوجوه لم ينبغ أن
يخطّأ، وإن أمكن أن يقال إن غيره أبين وجها منه وأظهر.
فأما آدم: فقال بعض أهل اللغة: إن الآدم من الإبل
[الحجة للقراء السبعة: 2/13]
والظباء: الأبيض، وما سوى ذلك، فالآدم الذي ليس بأبيض على ما يتكلم به الناس فيقولون: رجل آدم للذي ليس بأبيض، ورجل أسمر، وهو أصفى من الآدم. قال: ولا تقول العرب للرجل: أبيض، من اللون، إنما يقولون: أحمر،
قال: وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بعثت إلى الأسود والأحمر»
وإنما الأبيض: البعيد من الدّنس النقي، قال: ويقال: ظبي آدم- وظبية أدماء- وبعير آدم- وناقة أدماء- للأبيضين.
قال أبو الحسن: (أنبئهم بأسمائهم) الهاء مضمومة إذا همزت، وبها نقرأ، لأن الهاء لا يكسرها إلا ياء، أو كسرة، ومن العرب من يهمز ويكسر، وهي قراءة، وهي رديئة في القياس فإذا خفّفت الهمزة فكسر الهاء أمثل شيئا لشبهها بالياء). [الحجة للقراء السبعة: 2/14]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة الحسن رحمه الله: [أَنْبِهِمْ] بوزن أَعْطِهِم، ورُوي عنه: [أَنبيهُمُ] بلا همز، ورُوي عن ابن عامر: [أَنْبِئْهِم] بهمز وكسر الهاء. قال ابن مجاهد: وهذا لا يحوز.
قال أبو الفتح: أما قراءة الحسن: [أَنْبِهِمْ] كأعطهم، فعلى إبدال الهمزة ياء على أنه يقول: أَنْبَيْتُ كأَعْطَيْتُ، وهذا ضعيف في اللغة؛ لأنه بدل لا تخفيف، والبدل عندنا لا يجوز إلا في ضرورة الشعر.
[المحتسب: 1/66]
وحدثنا أبو علي قال: لقي أبو زيد سيبويه فقال: سمعت العرب تقول: قَرَيْتُ وتوضيت، فقال له سيبويه: فكيف تقول في المضارع؟ قال: أَقرأُ. هذا آخر الحكاية عن أبي علي.
وزاد أبو العباس محمد بن يزيد فيها: فقال له سيبويه: فقد تركت إذن مذهبك.
ونحوه قراءة: [أن تَبَوَّيَا].
ويجوز على هذه القراءة [أَنْبِهُم] على أصل حركة الهاء وهو الضم؛ كقراءة مَن قرأ: [فخسفنا بِهُو وبدارِهُو الأرض].
وأما قراءته على الرواية الأخرى: [أَنبيهُم] فهو على قياس التخفيف الصريح، ولك في هذه الهاء على هذه القراءة الضم والكسر.
أما الضم فمن وجهين:
أحدهما: وهو الأظهر؛ إخراجها على الأصل فيه.
والآخر: وفيه الصنعة؛ وهو أن هذه الياء ليست بلازمة؛ وإنما اجتلبها تخفيف الهمزة؛ وذلك أن الهمزة إذا سكنت مكسورًا ما قبلها فتخفيفها القياسي أن تخلصها في اللفظ ياء، وذلك قولك في ذئب: ذيب، وفي بئر: بير، فقوله: [أَنبِيهم] بياء ساكنة ينبغي أن يكون على التخفيف القياسي، لا على أنه أبدل الهمزة ياء إبدالًا مستكرهًا على حد قولهم في البدل: قريب كأعطيت، فإنما كان ذلك كذلك من قِبَل أنه لو أَبدل لكان قد أَخرج الهمزة على أصلها إلى ذوات الياء، ولو كان فعل ذلك لوجب حذفه كما تحذف لام: أَعطيت وأَغزيت للوقف والجزم، كما حذفها في القراءة الأخرى لما أبدل فقال: [أَنْبِهِمْ]، ولو اعتقد أنه قد أبدل ألبتة لما جاز إثبات الياء في موضع الوقف، كما لا يجوز: أَعطيهم ولا أَغزيهم، إلا أن يحمل ذلك على الضرورة، وإثبات الياء في موضع الجزم والوقف؛ كقوله:
ألم يأْتيك والأنباء تنمي ... بما لاقت لبونُ بني زياد
[المحتسب: 1/67]
فإن فعل ذلك ففيه على هذا ضرورتان:
إحداهما: الإبدال، ولا ضرورة إليه.
والآخر: إثبات حرف العلة في موضع الوقف، وذلك ضرورة أفحش من الأولى؛ لكثرة الإبدال على قبحه، وقلة إثبات حرف اللين في موضع الوقف؛ لكن إذا اعتقد أنه خُفف لم يكن في هذه القراءة ضرورة ألبتة، وفي هذا كافٍ.
وإذا كان [أَنبيهِم] إنما هو على التخفيف القياسي، فكأن الهمزة حاضرة لأنها هي الأصل؛ إذ كان التخفيف له أحكام التحقيق، ألا ترى إلى صحة الواو والياء في تخفيف ضوء وفيء؛ وذلك قولك: هذا ضَوٌ وفَيٌ ونَوٌ وشَيٌ، بضمة الواو والياء مع تحركهما وانفتاح ما قبلهما، وترك قبلهما ألفين لذلك يدل على أن الواو والياء لما تحركتا بحركة الهمزة المحذوفة للتخفيف كانتا لذلك في حكم الساكنين، فكما تصحان هنا سكانتين في ضوء ونوء وفيء وشيء، كذلك صحتا متحركتين في ضَوٍ ونَوٍ وشَيٍ، وعلى ذلك صحت الواو والياء أيضًا في تخفيف نحو: جَيْئَل وحَوْءَب إذا خَففت فقلت: جَيَل وحَوَب، فكما تكون الياء مضمومة مع التحقيق في قوله: {أَنْبِئْهُم}، فكذلك تكون مضمومة مع التخفيف في قولك: [أَنبيهُم]؛ لما بيناه من أن حكم الهمزة المخففة حكم المحققة.
وسألت أبا علي -رحمه الله- فقلت: من أجرى غير اللازم مجرى اللازم فقال: في تخفيف الأحمر: لَحْمر، أيجوز له على هذا أن يقلب الواو والياء في حَوَب وجَيَل ألفًا، فيقول: حاب وجال؟ فقال: لا، وأومأ إلى أن حكم القلب أقوى من حكم الاعتداد بالحركة في لَحمر؛ أي: فلا يبلغ في الجواز ذلك لشناعته، وهو كما ذكر.
وقد يجوز عندي في قراءة الحسن -رحمه الله- هذه أن يكون أراد [أَنبهم] كقراءته في الأخرى، إلا أنه أشبع الكسرة فأنشأ عنها ياء، فقال: [أَنْبِيهم]، كما قد يجوز ذلك في قوله: [أَلَم يَأْتِيَك]؛ فإنه أشبع الكسرة فمطها، فبلغت ياء، وعليه الرواية
[المحتسب: 1/68]
الأخرى التي ذكرها أبو الحسن وهي قوله: [أَلَمْ يَأْتِك]، وعليه أيضًا ما وجه بعضهم قوله:
كأن لم ترا قبلي أسيرًا يمانيا
قال: أراد لم ترَ، ثم أشبع الفتحة فأنشا عنها ألفًا.
فإذا جاز ذلك ساغ الضم في الهاء أيضًا على أصل ضمتها.
فإن قلت: فهل يجوز أن تقول: إنه لم يعتدد بالياء لما كانت زائدة مجتلبة للإشباع، فجرت لذلك مجرى ما ليس موجودًا، كما أن من مد "أوائل" إتباعًا كما ترى، على حد قوله:
نفي الدنانير تنقادُ الصياريف
قال على هذا: أَوائيل، أقر الهمزة بحالها بدلًا من واو أواول؛ لبعدها من الطرف بالياء الحاجزة؛ لأن هذه الياء لَحَقٌ ونَيِّفٌ مجتلبة للإشباع، وليست لها عصمة ولا مُسكة، فجرت مجرى المنفردة ألبتة، كما يهمز فيقول: أوائل، فكذلك يهمز، فتقول: أوائيل، ولا يحفل بالياء حاجزًا لما ذكرنا، ولا يجرى عندي مجرى ياء طواويس ونواويس؛ إذ كانت الياء هناك ثابتة القدم؛ لكونها بدلًا من واو ناووس وطاووس الثانية؟
فالجواب: أنه إن ذهب إلى هذا على ما رمته كسر الهاء أيضًا؛ وذلك أن أقصى ما في
[المحتسب: 1/69]
هذا أن تكون الياء في [أنبيهم] مدة إشباعًا لا حكم لها، فكأنها ليست هناك، وإذا لم تكن هناك كسرة الياء -وهي تدعو إلى كسر الهاء- فعلى أي الوجهين حملته، فكسر الهاء هو الكلام.
وأما حديث كسرها من القسمة الأولى -وأنت تنوي بأنبيهم التخفيف القياسي- فهو على معاملة اللفظ؛ وذلك أن الملفوظ به الآن وإن كان تخفيفًا إنما هو الياء ألبتة، فعومل لفظها معاملة نحوه ونظيره، فكُسِرَت الهاء مع هذه الياء كما تكسر في نحو: عليهم وإليهم، كما أن قول الله عز وجل: {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ} أصله: لكن أنا، فخففت الهمزة وألقيت حركتها على النون فانفتحت، فصارت في التقدير: [لكنَنَا]، فلما التقى الحرفان المثلان متحركين كُره ذلك، وإن كانت حركة النون الأولى غير لازمة من حيث كانت من أعراض التخفيف، وأجريت مجرى اللازمة، فأُسكنت الأولى وأدغمت في الثانية؛ حملًا على حاضر الحال وإجراء غير اللازم مجرى اللازم.
وقد كتبنا في الخصائص بابًا مفردًا في إجراء العرب غير اللازم مجرى اللازم، وإجراء اللازم مجرى غير اللازم، فاكتفينا به عن إعادته؛ لئلا يطول هذا الكتاب.
نعم، وإذا كانت العرب قد أجرت الحرف الصحيح في نحو هذا مجرى ما لا يعتد به حتى لم يحفلوا بلفظ، نحو قولهم: منهِم واضربهِم، فأن يجروا الياء الساكنة مجرى ذلك لخفائها، ولأن لفظها نفسها داعٍ إلى الكسر -أجدر.
وأما الرواية عن ابن عامر: [أَنبئهِم] بالهمز وكسر الهاء، فطريقه أن هذه الهمزة ساكنة، والساكن ليس بحاجز حصين عندهم، فكأنه لا همزة هناك أصلًا، وكأن كسرة الباء على هذا مجاورة للهاء، فلذلك كسرت فكأنه على هذا قال: [أَنبهِم].
ويدل على ما ذكرناه من ضعف الساكن أن يكون حاجزًا حصينًا قولهم: قِنْيَة، وهي وهي من قَنَوْت، وصِبْيَة وهي من صَبَوْت، وعِلْية وهي من عَلَوْت، وعِذْي وهو من قولهم: أَرَضُون عَذَوات، وبِلْيُ سفر لقولهم في معناه: بِلْوُ، وهو من بلوت، ومنه ناقة عِلْيَان وهي من علوت، ودَبَّة مهيار وهو من تهور، وفلان قِدْيَة في هذا الأمر وهو من القِدْوة، وأصله
[المحتسب: 1/70]
كله: قِنْوُ، وصِبْوة، وعِلْوة، وعِذْوُ، وبِلْو سفر، وناقة عِلْوان، ودَبة مِهْوَار، فقلبت الواو في ذلك كله للكسرة قبلها، ولم يعتدد الساكن بينهما حاجزًا لضعفه، فكأن الكسرة تباشر الواو فتقلبها لذلك ياء، كما تقلبها لو لم تجد بينهما حاجزًا، فكذلك الهمزة في [أَنْبِئهِم] لا تحجز على هذا النحو الذي ذكرناه.
وروينا عن أبي زيد فيما أخذناه عن أبي علي، وعن غير أبي زيد: منهِم ومنهِ ومنكِم وبِكِم، وأجرى كاف المضمر مجرى هائه، وسترى هذا فيما بعد إن شاء الله.
فقد علمت بذلك أن قول ابن مجاهد: هذا لا يجوز لأوجه له؛ لما شرحناه من حاله.
ورحم الله أبا بكر؛ فإنه لم يأْلُ فيما علمه نصحًا، ولا يلزمه أن يُرِي غيره ما لم يُره الله تعالى إياه، وسبحان قاسم الأرزاق بين عباده، وإياه نسأل عصمة وتوفيقًا وسدادًا بفضله). [المحتسب: 1/71]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (13- {أَنْبِئْهُمْ} [آية/ 33]:-
بالهمز وضم الهاء، اتفق القراء عليه كلهم إلا ابن عامر فانه قرأ «أنبئهم» بالهمز وكسر الهاء.
أما وجه قراءة الجمهور، فهو أن أصل هذه الهاء الضم كما قدمناه قبل، وإنما تكسر لكسرة أو ياءٍ تقع قبلها، وليس قبلها هنا كسرة ولا ياء، فلا نظر في وجوب ضمة الهاء.
وأما وجه قراءة ابن عامر بكسر الهاء مع تحقيق الهمزة قبلها فهو أنه أتبع كسرة الهاء كسرة الباء في «أنبئهم»، وإن حجز الهمز الساكن بينهما؛ لأن حركة الإتباع قد جاءت مع حجز السكون بين الحركتين، نحو ما روي من قولهم: المرء والمرء والمرء، بإتباع حركة الميم حركة الإعراب، وما روى أبو زيد عن العرب: أخذت هذا منه، بكسر الهاء إتباعًا لكسرة الميم،
[الموضح: 267]
ويجوز أن يكون أجرى هذه الهاء مجرى ما تليه الكسرة نحو: بهم، ولم يعتد بالحاجز لسكونه، كما قلبوا الواو ياءً في قولهم: ابن عمي دنيا، لكسرة الدال ولم يعتدوا بالنون حاجزًا لسكونه، فكأن الكسرة تلي الواو؛ لأن الأصل: دنوًا). [الموضح: 268]

قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)}
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة أبي جعفر يزيد: [لِلْمَلائِكَةُ اسْجُدُوا].
قال أبو الفتح: هذا ضعيف عندنا جدًّا؛ وذلك أن "الملائكة" في موضع جر، فالتاء إذن مكسورة، ويجب أن تسقط ضمة الهمزة من "اسجدوا" لسقوط الهمزة أصلًا إذا كانت وصلًا، وهذا إنما يجوز ونحوه إذا كان ما قبل الهمزة حرف ساكن صحيح، نحو قوله عز وجل: [وَقَالَتُ اخْرُج]، وادخلُ ادخلُ، فضُم لالتقاء الساكنين لتخرج من ضمة إلى ضمة، كما كنت تخرج منها إليها في قولك: اخرج.
فأما ما قبل همزته هذه متحرك -ولا سيما حركة إعراب- فلا وجه لأن تحذف حركته ويحرك بالضم، ألا تراك لا تقول: قل للرجلُ ادخُل، ولا: قل للمراةُ ادخُلي؛ لأن حركة الإعراب لا تُستهلك لحركة الإتباع إلا على لغة ضعيفة، وهي قراءة بعض البادية: [الْحَمْدِ لِلَّه] بكسر الدال، ونحو منه ما حكاه لي أبو علي: أن أبا عبيدة حكاه من قول بعضهم: دعه في حِرُمِّه، فحذف كسرة راء "حر"، وألقى عليها ضمة همزة أمه، وهذا عندنا على شذوذه أعذر من قوله: [لِلْمَلائِكَةُ اسْجُدُوا]؛ وذلك أنه خفف همزة تثبت في الوصل وهو قولك: في هنِ أمه، فإذا كانت تثبت في الوصل جاز تخفيفها فيه؛ بل لا يكون التخفيف بإلقاء الهمزة ونقل الحركة إلا في الوصل، وليس فيه إلا شيء واحد؛ وهو حذفه حركة الإعراب لحركة غير ملازمة؛ وإنما هي للهمزة.
[المحتسب: 1/71]
وأما قوله: [لِلْمَلائِكَةُ اسْجُدُوا] فإن همزة "اسجدوا" يحذفها في الواصل ألبتة، وإذا كانت محذوفة ألبتة لم يكن إلى تخفيفها سبيل؛ لأن الوصل يستهلكها أصلًا، فحركة ماذا -يا ليت شعري! - تنقل وقد حُذف المتحرك بحركته أصلًا فلم يبقَ إلا الإتباع، وحركة الإتباع لا تبلغ مبلغ حركة تخفيف الهمز؛ من حيث كانت حركة الهمزة موجودة فيها في الابتداء والوصل جميعًا، فعلمت بذلك قوتها، وحركة الإتباع تجري مجرى الصدى الذي لا اعتداد به، ولا هو عندهم مما يعقد على مثله، فإذا ضعفت الحركة القوية فما ظنك بالحركة الضعيفة؟
ونحو من هذه الحكاية عن أبي عبيدة: مارواه أحمد بن يحيى: قال: كنا عند سعيد بن سَلْم أنا وابن الأعرابي فخرجا لصلاة العصر، وتأخَّرت لتجديد الطهر بعدهما، فلما خرجتُ قال لي ابن الأعرابي: أين أنت؟ ألا تسمع لهذا؟ قلت: ما هو؟ وإذا أبو سَرَّار الغنوي يتحدث، قال:
كنت أحضر العراق فإذا أردت أهلي وقد اشتريت منها وتبتَّتُّ أجتاز بامرأة عجوز لها بنيَّات، فإذا نزلت عليها بَهَشْن إلَيَّ وأَطَفْن بِي، فأَفرز لهن مما اشتريت شيئًا أدفعه إليهن، فغبرت زمانًا، ثم جئت العجوز فوجدتها غائبة عن بيتها، وإذا أولئك الجواري قد صرن نساء، فبهشن إليَّ على عادتهن، وجاءت العجوز فوجدَتني خاليًا معهن، فقالت: ما هذا؟ أفي السَّوَتَنْتُنَّه؟ أفي السوتنتنه؟ فقلت: وما في هذا؟ أردات: أفي السوءة أنتنه؟ فحذفت الهمزة من السوءة تخفيفًا، وألقت حركتها على الواو فانفتحت الواو، وألقت حركة الهمزة في أنتنه على كسرة التاء من السوءة فانفتحت، وحذفت همزة أنتنه فصارت: أفي السوتنتنه؟
هكذا قال أحمد بن يحيى على كسرة التاء، وله وجه، إلا أنه مع هذا ضعيف؛ وذلك أن هذه الهمزة إذا خففت فحذفت، وألقيت حركتها على ما قبلها، لم يكن ذلك الذي قبلها إلا ساكنًا، نحو قوله تعالى في قراءة ورش عن نافع: [قَدَ افْلَحَ الْمُومِنُونَ]، [وَالَارْض].
وحكى أبو زيد في خُبَأَة: انه سمع بعضهم يقرأ: [ويمسك السماء أن تقع عَلَّرضِ]، يريد: على
[المحتسب: 1/72]
الأرض، فحُذفت همزة أرض تخفيفًا، وأُلقي حركتها على اللام وهي ساكنة كما ترى، فصارت عَلَلَرض، فكره اجتماع اللامين متحركتين، فأسكن اللام الأولى وأدغمها في الثانية فصارت [علَّرض]، كما أسكن أبو عمرو: [لَكنَ نَا] حتى صار لذلك "لكنَّا"، فهذا التحفيف مع النقل إنما يكون إذا كان الأول الملقي عليه ساكنًا، فأما إذا كان متحركًا فقد حَمَتْه حركته أن يَقبل حركة أخرى غيرها.
والتاء من السوءة محركة، فكيف يمكن إلقاء الحركة عليها مع وجود حركتها فيها؟ وعليه قراءة الكسائي فيما حدثنا به أبو علي سنة إحدى وأربعين: [بما أُنزلَّيك] قياسًا -فيما قال أبو علي- على لكنَّا.
قال أبو علي ما نحن عليه ونعى هذه القراءة، وقال لحركة لام أُنزل: فإذا قبح ذلك مع أن حركة اللام بناء، فما الظن بما حركته إعراب، وحرمة الإعراب أقوى من حرمة البناء، فالجناية إذن عليها فوقها عليها.
وقول أحمد بن يحيى: إنه ألقى فتحة أَنْتُنه على كسرة الهاء، طريقه: أنه لما نقل فتحة همزة أنتن إلى ما قبلها صادفت كسرة السوءة على شناعة النقل مع ذلك، فهجمت الفتحة على الكسرة فابتزَّتها موضعَها، وكلا القولين خبيث وضعيف، وعلى أننا قد أفردنا في كتاب الخصائص بابًا لهجوم الحركات على الحركات، مختلفات كن أو متفقات؛ لكنه ليس على هذا الذي كرهناه واستضعفناه.
فهذا كله يشهد بضعف قوله: [قُلْنَا لِلْمَلائِكَةُ اسْجُدُوا]. وفيه أكثر من هذا، ولولا تحامي الإملال لجئنا به، وفيما أوردناه كافٍ مما حذفناه). [المحتسب: 1/73]

روابط مهمة:
- أقوال المفسرين

جمهرة علوم القرآن 26 محرم 1440هـ/6-10-2018م 11:31 AM

سورة البقرة
[من الآية (35) إلى الآية (39) ]

{وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)}


قوله تعالى: {وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35)}
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قال عباس: سألت أبا عمرو عن [الشِّجَرة] فكرهها، وقال: يقرأ بها برابر مكة وسودانها.
[المحتسب: 1/73]
وقال هارون الأعور عن بعض العرب: تقول الشِّجرة، وقال ابن أبي إسحاق: لغة بني سُليم الشِّجرة.
قال أبو الفتح: حكى أبو الفضل الرياشي قال: كنا عند أبي زيد وعندنا أعرابي فقلت له: إنه يقول الشِّيَرَة، فسأله فقالها، فقالت له: سله عن تصغيرها، فسأله فقال: شُيَيْرَة.
وأنشد الأصمعي لبعض الرجاز في أرجوزة طويلة:
تحسبه بين الإكام شِيَرة
وإذا كانت الياء فاشية في هذا الحرف -كما ترى- فيجب أن تجعل أصلًا يساوق الجيم، ولا تُجعل بدلًا من الجيم، كما تجعل الجيم بدلًا من الياء في قولهم: رجل فُقَيْمِج؛ أي: فُقَيْمِي، وعَربَانِج؛ أي: عَرَبَانِيّ، وقوله:
حتى إذا ما أمسجت وأمسجا
يريد أمست وأمسى. قال أبو علي: هذا يدلك على أن ما حذف لالتقاء الساكنين في حكم الحاضر الملفوظ به. قال: ألا ترى أنه أبدل من لام أمسيت بعد أن قدرها ملفوظًا بها، ولو كان الحذف ثابتًا هنا لما جاز أن يبدل من اللام شيء؛ لأن البدل إنما هو من ملفوظ به، كما أن البدل ملفوظ به.
قال: وليست كذلك لام عَشِيَّة إذا حقرتها فقلت: عُشيَّة؛ لأن الياء الثانية من عُشَيِّية لم تحذف لالتقاء الساكنين؛ لأنه لا ساكنين هناك، وإنما حذفت حذفًا للتخفيف؛ فلذلك سقط
[المحتسب: 1/74]
قول أبي العباس في تحقير العرب عَشِيَّة على عُشَيْشِيَة؛ لأن الياء لم تثبت هنا فتبدل منها.
وقال أبو الحسن: إن قومًا يقولون في تحقير فَعلية من الياء: إن المحذوف منها الياء الثانية، فعلى هذا قال أبو علي ما قال.
ومما أبدلت فيه الجيم من الياء قوله -ورويناه عن غير وجه:
خالي عُوَيف وأبو عَلِجِّ ... المطعمان اللحمَ بالعَشجِّ
وبالغدواة فلق البَرْنِجِّ ... يُقْلَع بالوَد وبالصِّيصِجِّ
وروينا أيضًا قوله:
يا رب إن كنتَ قلبت حِجَّتِج ... فلا يزال شاحج يأتيك بِج
[المحتسب: 1/75]
قال أبو النجم:
كأن في أذنابهن الشُّوَّلِ ... من عبس الصيف قرون الإجَّل
يريد: الإيَّل.
فقد يجوز أن تكون الجيم في شِجرَة بدلًا من الياء في شيرة لفشو شيرة، وقلة شِجرة). [المحتسب: 1/76]

قوله تعالى: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (فأزلّهما الشّيطان)
قرأ حمزة وحده: (فأزالهما) بألف مع التخفيف.
وسائر القراء قرأوا: (فأزلّهما) بالتشديد بغير ألف.
قال أبو منصور: من قرأ: (فأزالهما) فهو من زال يزول، ومعناه: فنحّاهما.
ومن قرأ: (فأزلّهما) فهو من زللت أزلّ، وأزلني غيري، ولزللت وجهان: يصلح أن يكون الخطيئة، فأزلهما الشيطان، أي: كسبهما الزلة.
ويصلح أن يكون (فأزلّهما) أي: نحاهما.
وكلتا القراءتين جيدة حسنة، قال ذلك أبو إسحاق الزجاج، والله أعلم بما أراد). [معاني القراءات وعللها: 1/147]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (25- وقوله تعالى: {فأزلهما الشيطان عنها}
قرأ حمزة وحده: {فأزالهما}.
وقرأ الباقون: {فأزلهما} فحجة من قرأ {فأزلهما} أنه جعل من الزلل في
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/81]
الدين، ومن ذلك قولهم: «زلة العالم»، ومن قرأ {فأزالهما} أي: أزالهما عن مكانهما من الجنة، ومعنى قوله {فأزلهما الشيطان} أي: زلاهما بقبولهما من الشيطان، كما تقول: تعلم زيد من عمرو كلمة أهلكته، وإنما معناه: هلك هو بقبولها منه.
فأما رواية أبي عبيد عن حمزة {فأزالهما} بالإمالة فإنه غلط على حمزة؛ لأن من شرط حمزة أن يميل من نحو هذا ما كانت فاء الفعل مكسورة إذا ردها المتكلم إلى نفسه نحو: خاف وخفت، وضاق وضقت، وزال وزلت، {وأما فأزالهما} فإنك تقول: أزلت، فالزاي مفتوحة كما قرأ: {فلما زاغوا} بالإمالة {أزاغ الله} بالفتح). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/82]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في قوله تعالى: فأزلّهما الشّيطان عنها [البقرة/ 36].
فقرأ حمزة وحده: فأزالهما بألف خفيفة، وقرأ الباقون: فأزلّهما مشدّدا بغير ألف.
قال أبو بكر أحمد: وروى أبو عبيد: أنّ حمزة قرأ:
فأزالهما بالإمالة، وهذا غلط.
بسم الله: حجة حمزة في قراءته (فأزالهما الشيطان
[الحجة للقراء السبعة: 2/14]
عنها) أن قوله: يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنّة وكلا منها [البقرة/ 35] تأويله: أثبتا فثبتا، فأزالهما الشيطان، فقابل الثبات بالزوال، الذي هو خلافه. ومثل ذلك قوله تعالى:
فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق [الشعراء/ 63] تأويله: فضرب فانفلق، ومثله: فمن كان منكم مريضاً أو به أذىً من رأسه ففديةٌ [البقرة/ 196] أي:
فحلق، فعليه فدية. ونسب الفعل إلى الشيطان، لأن زوالهما عنها إنما كان بتزيينه ووسوسته، وتسويله، فلما كان ذلك منه سبب زوالهما عنها أسند الفعل إليه. ومثل هذا قوله تعالى:
وما رميت إذ رميت ولكنّ اللّه رمى [الأنفال/ 17] فالرمي
كان للنبي صلّى الله عليه وسلم حيث رمى فقال: «شاهت الوجوه»
إلا أنه لما كان بقوة الله وإرادته نسب إليه. ومما يقوي قراءته قوله تعالى:
فأخرجهما ممّا كانا فيه [البقرة/ 36] فقوله: فأخرجهما في المعنى قريب من أزالهما، ألا ترى أن إخراجه إياهما منها، إزالة منه لهما عما كانا فيه. فإن قال قائل: ما ننكر أن يكون فاعل أخرجهما، لا يكون ضمير الشيطان ولكن المصدر الذي ذكر فعله كقولهم: من كذب كان شرّا له، فالدّلالة على أن فاعله ضمير الشيطان، قوله في الأخرى: يا بني آدم لا يفتننّكم الشّيطان كما أخرج أبويكم من الجنّة [الأعراف/ 27].
[الحجة للقراء السبعة: 2/15]
ففاعل أخرجهما: الشيطان، كما بيّن ذلك في هذه.
ويقوي قراءته أيضا تأويل من تأوّل أن: فأزلّهما من زلّ، الذي هو عثر، ألا ترى أن ذلك قريب من الإزالة في المعنى.
فإن قال قائل: فإنه إذا قرأ: فأزالهما كان قوله بعد:
فأخرجهما تكريرا، فالقراءة الأخرى أرجح، لأنها لا تكون على التكرير، قيل: إن قوله: أخرجهما، ليس بتكرير لا فائدة فيه، ألا ترى أنه قد يجوز أن يزيلهما عن مواضعهما، ولا يخرجهما مما كانا فيه من الدعة والرفاهية، وإذا كان كذلك لم يكن تكريرا غير مفيد. وعلى أن التكرير في مثل هذا الموضع لتفخيم القصّة وتعظيمها بألفاظ مختلفة ليس بمكروه ولا مجتنب، بل هو مستحبّ مستعمل، كقول القائل: أزلت نعمته، وأخرجته من ملكه، وغلّظت عقوبته. وقالوا: زال عن موضعه وأزلته، وفي التنزيل: إنّ اللّه يمسك السّماوات والأرض أن تزولا [فاطر/ 41]. وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال [إبراهيم/ 46] وقال الهذليّ:
فأزال خالصها بأبيض ناصح... من ماء ألهاب بهنّ التّألب
[الحجة للقراء السبعة: 2/16]
فهذا على ضربين أحدهما: أن يريد: أزال خلوص خالصها بماء أبيض شاب هذه العسل به، فحذف المضاف. أو يكون وضع خالصها موضع خلوصها، كقولهم: العاقبة والعافية، وقوله:
ولا خارجا من فيّ زور كلام في قول من جعل «لا أشتم» جوابا للقسم. والخالص من الماء: الأبيض الصافي، فاستعاره للعسل، لأنهم يصفونها بالبياض في نحو:
وما ضرب بيضاء يأوي مليكها وأنشد السّكّريّ للعجاج:
من خالص الماء وما قد طحلبا حجة من قرأ فأزلّهما الشّيطان [البقرة/ 36] أن أزلّهما يحتمل تأويلين، أحدهما: كسبهما الزّلّة. والآخر: أن يكون أزلّ من زلّ الذي يراد به: عثر. فالدّلالة على الوجه الأول ما جاء في التنزيل من تزيينه لهما تناول ما حظر عليهما جنسه،
[الحجة للقراء السبعة: 2/17]
بقوله: ما نهاكما ربّكما عن هذه الشّجرة [الأعراف/ 20] إلى قوله: لمن النّاصحين وقوله: فوسوس لهما الشّيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما [الأعراف/ 20].
وقد نسب كسب الإنسان الزلّة إلى الشيطان في قوله تعالى:
إنّما استزلّهم الشّيطان ببعض ما كسبوا [آل عمران/ 55] واستزلّ وأزلّ كقولهم: استجاب وأجاب، واستخلف لأهله وأخلف، فكما أنّ استزلّهم من الزّلّة، والمعنى فيه كسبهم الشيطان الزّلّة، كذلك قوله تعالى: فأزلّهما الشّيطان والوجه الآخر أن يكون فأزلّهما من: زل عن المكان، إذا عثر فلم يثبت عليه، ويدل على هذا قوله تعالى:
فأخرجهما ممّا كانا فيه [البقرة/ 36] فكما أن خروجه عن الموضع الذي هو فيه انتقال منه إلى غيره، كذلك عثاره فيه وزليله.
فأما قوله تعالى: فإن زللتم من بعدما جاءتكم البيّنات فاعلموا [البقرة/ 209] فيحتمل وجهين، أحدهما: زللتم من الزّلة، كأن المعنى: فإن صرتم ذوي زلّة، ويجوز أن يراد به العثار، فشبّه المعنى بالعين، فاستعمل الذي هو العثار، والمراد به: الخطأ، وخلاف الصواب.
ومن هذا الباب قول ابن مقبل:
[الحجة للقراء السبعة: 2/18]
يكاد ينشقّ عنه سلخ كاهله... زلّ العثار وثبت الوعث والغدر
السّلخ: مصدر سلخته سلخا، إلا أنه أريد به في هذا المكان المسلوخ، ألا ترى أن المنشقّ إنما يكون الإهاب دون الحدث. وقوله: زلّ العثار، أي: زلّ عند العثار، يريد أنه لفطنته يزل عن الموضع الذي يعثر فيه فلا يعثر، ويكون المصدر في هذا الموضع يراد به المفعول كأنه: المكان المعثور فيه، ومثل ذلك قوله:
على حتّ البراية...
أي: عند البراية.
وقول النابغة:
رابي المجسّة...
أي: عند المجسّة.
[الحجة للقراء السبعة: 2/19]
ومثله: بضّة المتجرّد أي: عند المتجرّد، أي: التجريد.
ومثله للبيد:
صائب الجذمة أي: صائب عند الجذمة، يقول: هو قاصد عند القطع، ومثله قول أوس:
كشف اللّقاء أي: عنده.
فأما قوله: زلّ، فإنه صفة، ككهل، وغيل، وفسل، مما يدلّك على ذلك مقابلته بثبت الذي هو خلافه.
والغدر فيما فسّر عن أبي عمرو في أكثر ظني: مكان متعاد.
والوعث: السهل الذي تسوخ فيه أخفاف الإبل، والمعنى في:
ثبت الوعث، أي: ثبت عند الوعث كما كان في المعنى في:
زلّ العثار، أي: زلّ عند العثار، وإذا كان الغدر هذا الذي فسر،
[الحجة للقراء السبعة: 2/20]
فما أنشده أبو زيد:
يخبطن بالأيدي مكانا ذا غدر تقديره: مكانا غدرا. وتأويل إدخال قوله: «ذا» فيه أنه يوصف بهذا، كأنه قال: مكانا صاحب هذا الوصف. ومن هذا الباب قولهم: «من أزلّت إليه نعمة فليشكرها» كأنه زلّت النعمة إليه، أي: تعدّت. وأزللتها أنا إليه، عدّيتها، كما أنّ قوله:
قام إلى منزعة زلخ فزل معناه: تعدّى من مكانه إلى مكان آخر. وكذلك قوله:
وإنّي وإن صدّت لمثن وقائل... عليها بما كانت إلينا أزلّت
تقديره: أزلّته، ليعود الضمير إلى الموصول.
[الحجة للقراء السبعة: 2/21]
وأما الشيطان فهو فيعال من شطن مثل البيطار، والغيداق.
وليس بفعلان من قوله:
وقد يشيط على أرماحنا البطل ألا ترى أن سيبويه حكى: شيطنته فتشيطن، فلو كان من يشيط لكان شيطنته فعلنته، وفي أنّا لا نعلم هذا الوزن جاء في كلامهم ما يدلك أنه: فيعلته، مثل بيطرته، ومثل هينم، وفي قول أمية أيضا دلالة عليه، وهو قوله:
أيّما شاطن عصاه عكاه... ثم يلقى في السّجن والأكبال
فكما أنّ شاطن فاعل، والنون لام، كذلك شيطان فيعال.
ولا يكون فعلان من يشيط. فإن قلت: فقد أنشد الكسائيّ أو غيره:
[الحجة للقراء السبعة: 2/22]
وقد منّت الخذواء منّا عليهم... وشيطان إذ يدعوهم ويثوّب
ففي ترك صرف شيطان دلالة على أنه مثل: سعدان وحمدان. قيل: لا دلالة في ترك صرف شيطان على ما ذكرت، ألا ترى أنه يجوز أن يكون قبيلة، ويجوز أن يكون اسم مؤنّث؟
فلا يلزم صرفها لذلك، لا لأنّ النون زائدة). [الحجة للقراء السبعة: 2/23]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({فأزلهما الشّيطان عنها فأخرجهما ممّا كانا فيه}
قرأ حمزة (فأزالهما الشّيطان عنها) بالألف أي نحاهما عن الحال الّتي كانا عليها من قول القائل أزال فلان فلانا عن موضعه إذا نحاه عنه وزال هو وحجته قوله {يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنّة} أي اثبتا فثبتا فأزالهما الشّيطان فقابل الثّبات بالزوال الّذي هو خلافه وممّا يقوي قراءته قوله {فأخرجهما ممّا كانا فيه} فإخراجهما في المعنى قريب من إزالتهما
وقرأ الباقون فأزلهما من زللت وأزلني غيري أي أوقعهما في الزلل وهو أن يزل الإنسان عن الصّواب إلى الخطأ والزلة وحجتهم قوله إنّما استزلهم الشّيطان ونسب الفعل إلى الشّيطان لأنّهما زلا بإغواء الشّيطان إيّاهما فصار كأنّه أزلهما). [حجة القراءات: 94]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (19- قوله: {فأزلهما} قرأ حمزة بألف مخففة، وقرأه الباقون بغير ألف مشددًا.
وعلة من قرأ بالألف أنه جعله من الزوال، وهو التنحية، واتبع في ذلك مطابقة معنى ما قبله على الضد، وذلك أنه قال تعالى ذكره لآدم: {اسكن أنت وزوجك الجنة} «35» فأمرها بالثبات في الجنة، وضد الثبات الزوال، فسعى
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/235]
إبليس اللعين فأزالهما بالمعصية عن المكان الذي أمرهما الله بالثبات فيه مع الطاعة، فكان الزوال به أليق، لما ذكرنا، وأيضًا فإنه مطابق لما بعده في المعنى لأن بعده {فأخرجهما مما كانا فيه} والخروج عن المكان هو الزوال عنه، فلفظ الخروج عن الجنة يدل على الزوال عنها، وبذلك قرأ الحسن والأعرج وطلحة.
20- وعلة من قرأ بغير ألف الإجماع في قولهم: {إنما استزلهم الشيطان} «آل عمران 155»، أي: أكسبهم الزلة، فليس للشيطان قدرة على زوال أحد من مكان إلى مكان، إنما قدرته على إدخال الإنسان في الزلل، فيكون ذلك سببًا إلى زواله من مكان إلى مكان بذنبه، ويقوي ذلك أنه قال في موضع آخر: {فوسوس لهما الشيطان} «الأعراف 20»، والوسوسة إنما هي إدخالهما في الزلل بالمعصية، وليست الوسوسة بإزالة منه لهما من مكان إلى مكان، إنما هي تزين فعل المعصية، وهي الزلة لا الزوال، وايضًا فإنه قد يحتمل أن يكون معنى «فأزلهما» من: زل عن المكان، إذا تنحى عنه، فيكون في المعنى كقراءة من قرأ بألف من الزوال، والاختيار القراءة بغير ألف، لما ذكرنا من العلة، ولأنه قد يكون بمعنى «فأزالهما» فيتفق معنى القراءتين، ولأنه إجماع من القراء غير حمزة، ولأنه مروي عن ابن عباس، وبه قرأ أبو جعفر يزيد وشيبة، وأبو عبد الرحمن السلمي وقتادة ومجاهد وابن أبي إسحاق، وهي قراءة أهل المدينة، وأهل مكة، وهو اختيار أبي حاتم وأبي عبيد، قال أبو عبيد من قرأ بغير ألف ذهب إلى الزلل في الدين كقوله: {فتزل قدم بعد ثبوتها} «النحل 94» ومن خفف أراد إزالتهما عن موضعهما). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/236]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (14- {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ} [آية/ 36]:-
بالألف، قرأها حمزة وحده.
ووجه قراءته هذه أنه عز وجل قال أمام ذلك {يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ}، وتأويل ذلك: أثبتا في الجنة فثبتا فأزالهما الشيطان، فحصل في ذلك مقابلة الثبات بالزوال الذي هو خلافه؛ لأن الثبات في المكان استقرار فيه، والزوال مفارقة عنه، ويقوي ذلك قوله تعالى: {فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ}؛ لأن الإخراج قريب المعنى من الإزالة.
وقرأ الباقون {فَاَزَلَّهمَا} مشددة اللام من غير ألف.
فيجوز أن يكون المراد كسبهما الزلة، كما قال الله تعالى: {إِنَّمَا اسْتَزَلَّهمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا}، وأزل واستزل واحد، كأجاب
[الموضح: 268]
واستجاب.
ويجوز أن يكون {أَزَلَّهما} من قولهم: زل عن المكان إذا عثر عنه فلم يثبت عليه، فيكون حينئذٍ قريبًا في المعنى من أزالهما وأخرجهما؛ لأن الزلول عن الموضع انتقال عنه كالخروج). [الموضح: 269]

قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (فتلقّى آدم من ربّه كلماتٍ).
اتفق القراء على هذه القراءة، إلا ما روي عن ابن كثير أنه قرأ: (فتلقّى آدم من ربّه كلماتٌ).
[معاني القراءات وعللها: 1/147]
قال أبو منصور: والقراءة برفع (آدم) ونصب (كلمات)؛ لأن آدم تعلم الكلمات من ربه، فقيل: تلقى الكلمات.
والعرب تقول: تلقيت هذا من فلان.
معناه: أن فهمي قبله من لفظه.
والذي قرأ به ابن كثير جائز في العربية، لأن ما تلقيته فقد تلقاك.
والقراءة الجيدة ما عليه العامة). [معاني القراءات وعللها: 1/148]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (27- وقوله تعالى: {فتلقى ءادم من ربه كلمات}.
قرأ ابن كثير، {فتلقى ءادم} بالنصب {كلمت} بالرفع، جعل الفعل للكلمات.
وقرأ الباقون {ءادم من ربه كلمات} بالنصب وإنما كسرت التاء، لأنها غير الأصلية، فمن جعل الفعل لآدم فحجته أن الله تعالى علم آدم الكلمات وأمره بهن فقبلها آدم وتلقاها.
وأخبرنا ابن دريد رحمه الله عليه قال: حدثنا أبو حاتم عن أبي عبيدة
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/82]
قال: تلا أبو مهدي يوما آية فقال: تلقيتها عن عمرو، تلقاها عن أبيه تلقاها عن أبي هريرة، تلقاها عن نبي الله صلى الله عليه وسلم، أي: أخذها وقبلها.
فأما ابن كثير فإنه جعل الفعل للكلمات؛ لأن كل من لقيته فقد لقيك، وكل من استقبلته فقد استقبلك، وفي ذلك قراءة ابن مسعود: {لا ينال عهدي الظالمون}، لأن العهد لما نال الظالمين، نال الظالمون العهد، وينشد:
قد سالم الحيات منه القدما
الأفعوان والشجاع الشجعما
لأن القدم لما سالمت الحيات سالمت الحيات القدم). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/83]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في قوله تعالى: فتلقّى آدم من ربّه كلماتٍ [البقرة/ 37].
في رفع الاسم ونصب الكلمات، ونصب الاسم ورفع الكلمات. فقرأ ابن كثير وحده: فتلقّى آدم من ربّه كلماتٍ بنصب الاسم ورفع الكلمات. وقرأ الباقون: فتلقّى آدم من ربّه كلماتٍ برفع الاسم ونصب الكلمات.
قال أبو علي: قالوا: لقي زيد خيرا، فتعدى الفعل إلى مفعول واحد، وفي التنزيل: فإذا لقيتم الّذين كفروا [الأنفال/ 15] وفيه إذا لقيتم فئةً فاثبتوا واذكروا اللّه [الأنفال/ 45] ولقد لقينا من سفرنا هذا نصباً [الكهف/ 62] فإذا ضعّفت العين منه، تعدى إلى مفعولين،
[الحجة للقراء السبعة: 2/23]
فقلت: لقّيت زيدا خيرا، فيصير الاسم الذي كان الفاعل المفعول الأول، قال: ولقّاهم نضرةً وسروراً [الدهر/ 11] وليس تضعيف العين هنا، على حدّ فرّح وأفرحته، وخرّج وخرّجته وأخرجته، ألا ترى أنك إذا قلت: ألقيت كذا، فليس بمنقول من لقيته، كأشربته من شربته يدل على أنه ليس بمنقول منه، أنه لو كان كذلك لتعدى إلى مفعولين، كما تعدى لقّيت، فلما لم يتعدّ إلى الثاني إلا بحرف الجر نحو ألقيت بعض متاعك بعضه على بعض، علمت أنه استئناف بناء على حدة، وليست الهمزة همزة نقل كالتي في قولك:
ضربت زيدا، أو: أضربته إياه، وشربت الماء وأشربته الماء، فجعلوا ألقيته بمنزلة طرحته، في تعدّيه إلى مفعول واحد. فأما مصدر لقيت، فقال أبو زيد: لقيته لقية واحدة في التلاقي والقتال، ولقيته لقاء ولقيانا ولقاة.
فأمّا قوله: إنّ الّذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدّنيا [يونس/ 7] أي: بدلا من الآخرة كما قال: أرضيتم بالحياة الدّنيا من الآخرة [التوبة/ 38] ومعنى من الآخرة أي:
بدلا منها، كما قال: ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكةً في الأرض يخلفون [الزخرف/ 60] أي: بدلا منكم، ومثل هذا قوله: إن يشأ يذهبكم أيّها النّاس ويأت بآخرين
[الحجة للقراء السبعة: 2/24]
[النساء/ 133] وقوله: إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذرّيّة قومٍ آخرين [الأنعام/ 134].
وقال الراعي:
أخذوا المخاض من الفصيل غلبة... ظلما ويكتب للأمير أفيلا
وقال آخر:
كسوناها من الرّيط اليماني... ملاء في بنائقها فضول
أي: بدلا من الريط.
ويكون قوله: لا يرجون لقاءنا [يونس/ 7]. أي: لا يخافون ذلك، لأنهم لا يؤمنون بها، فلا يوجلون منها كما يوجل المؤمنون المصدقون بها، المعنيون بقوله: إنّما أنت منذر من يخشاها [النازعات/ 45] وقال: وهم من السّاعة مشفقون [الأنبياء/ 49] فيكون الرجاء هنا الخوف كما قال:
... لا ترجون للّه وقاراً [نوح/ 13] وكما قال:
إذا لسعته النّحل لم يرج لسعها
[الحجة للقراء السبعة: 2/25]
وقد يكون لا يرجون الرجاء الذي خلافه اليأس، كما قال: قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفّار من أصحاب القبور [الممتحنة/ 13] أي: من الآخرة، فحذف من الآخرة لتقدم ذكرها كما قال: يوم تبدّل الأرض غير الأرض والسّماوات [إبراهيم/ 48] فحذف المتأخّر لدلالة ما تقدم عليه، ويجوز أن تكون: كما يئس الكفار من حشر أصحاب القبور.
ومن ذلك قوله: وقال الّذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربّنا [الفرقان/ 21] وقال: قد خسر الّذين كذّبوا بلقاء اللّه [الأنعام/ 31] فالمعنى والله أعلم:
بالبعث، كما قال: بل كانوا لا يرجون نشوراً [الفرقان/ 40] ويقوي ذلك حتّى إذا جاءتهم السّاعة بغتةً [الأنعام/ 31] وعلى هذا قوله: بل هم بلقاء ربّهم كافرون [السجدة/ 10].
فأما قوله: تحيّتهم يوم يلقونه سلامٌ [الأحزاب/ 44] فالمعنى: يوم يلقون ثوابه، فهم خلاف من وصف بقوله:
فسوف يلقون غيًّا [مريم/ 59] وقوله: واتّقوا اللّه واعلموا أنّكم ملاقوه [البقرة/ 223] أي: ملاقون جزاءه، إن ثوابا وإن عقابا. وقوله: الّذين يظنّون أنّهم ملاقوا ربّهم [البقرة/ 46] أي ملاقو ثواب ربّهم، خلاف من وصف بقوله: لا يقدرون على شيءٍ ممّا كسبوا [البقرة/ 264] وقوله: حتّى إذا جاءه لم يجده شيئاً [النور/ 39]
[الحجة للقراء السبعة: 2/26]
ونحو ذلك مما يدل على إحباط الثّواب وأنهم إليه راجعون، أي: يصدّقون بالبعث ولا يكذبون به، كما حكي عن المنكرين له في نحو: أإذا متنا وكنّا تراباً وعظاماً أإنّا لمبعوثون [الواقعة/ 47] ونحو قولهم فيه: إن هذا إلّا أساطير الأوّلين [الأنعام/ 25].
والظنّ هاهنا العلم، وكذلك قول المؤمن: إنّي ظننت أنّي ملاقٍ حسابيه [الحاقة/ 20] فأما الآية الأولى التي هي قوله:
الّذين يظنّون أنّهم ملاقوا ربّهم [البقرة/ 46] أي: ثوابه، فقد يجوز أن لا يكون منهم القطع على ذلك والحتم به، بدلالة قول إبراهيم: والّذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدّين [الشعراء/ 82] فأما قوله: إنّي ظننت أنّي ملاقٍ حسابيه [الحاقة/ 20] فلا يكون إلا على العلم والتيقّن، لأن صحة الإيمان إنما يكون بالقطع على ذلك والتّيقّن به والشاكّ فيه لا إيمان له.
ويقال: لقيته ولاقيته، فمن لاقيت قوله: واعلموا أنّكم ملاقوه [البقرة/ 223] والّذين يظنّون أنّهم ملاقوا ربّهم [البقرة/ 46] وقال: تحيّتهم يوم يلقونه سلامٌ [الأحزاب/ 44] ولو كان يلاقونه كقوله: أنّكم ملاقوه [البقرة/ 223] كان حسنا، وقال: وإذا لقوا الّذين آمنوا
[الحجة للقراء السبعة: 2/27]
[البقرة/ 14] وقال:
يا نفس صبرا كلّ حيّ لاق كأنه: لاق منيّته وأجله.
وقال آخر:
فلاقى ابن أنثى يبتغي مثل ما ابتغى... من القوم مسقيّ السّمام حدائده
وقال:
وكان وإيّاها كحرّان لم يفق... عن الماء إذ لاقاه حتّى تقدّدا
وأما قوله: ولقد آتينا موسى الكتاب فلا تكن في مريةٍ من لقائه [السجدة/ 23] فيكون على إضافة المصدر إلى المفعول، مثل: بسؤال نعجتك [ص/ 24] وهم من بعد غلبهم
[الحجة للقراء السبعة: 2/28]
[الروم/ 3] لأن الضمير للرّوم وهم المغلوبون كأنه: لمّا قيل:
فخذها بقوّةٍ [الأعراف/ 145] أي بجد واجتهاد، أعلمنا أنه أخذ بما أمر به، وتلقاه بالقبول، فالمعنى: من لقاء موسى الكتاب، فأضيف المصدر إلى ضمير الكتاب، وفي ذلك مدح له على امتثاله ما أمر به، وتنبيه على الأخذ بمثل هذا الفعل كقوله: اتّبع ما أوحي إليك من ربّك [الأنعام/ 106] وفإذا قرأناه فاتّبع قرآنه [القيامة/ 18] ويجوز أن يكون الضمير لموسى، والمفعول به محذوف، كقوله: إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم [فاطر/ 14] فالدعاء مضاف إلى الفاعل، والمفعولون محذوفون. ومثل ذلك في إضافة المصدر إلى الفاعل، وحذف المفعول به قوله: لمقت اللّه أكبر من مقتكم أنفسكم [المؤمن/ 10] وهذا على قياس من قرأ: فتلقّى آدم من ربّه كلماتٍ لأن موسى هو اللاقي، كما أن آدم هو المتلقّي.
ويجوز أن يكون الضمير لموسى في قوله: من لقائه ويكون الفاعل محذوفا، والمعنى من لقائك موسى، ويكون ذلك في الحشر والاجتماع للبعث، أو في الجنة، فيكون كقوله: فلا يصدّنّك عنها من لا يؤمن بها [طه/ 16] فأما قوله: لينذر يوم التّلاق [المؤمن/ 15] فإنه يكون يوم تلاقي الظالم والمظلوم، والجائر والعادل، وتلاقي الأمم مع شهدائها كقوله: ونزعنا من كلّ أمّةٍ شهيداً [القصص/ 75] ومثل يوم التلاقي قوله: يوم يجمعكم ليوم الجمع [التغابن/ 9] وقوله: ليجمعنّكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه [النساء/ 87]. ونحو ذلك من الآي.
وقوله: ويوم تقوم السّاعة يومئذٍ يتفرّقون [الروم/ 14]، فإن
[الحجة للقراء السبعة: 2/29]
هذا التفرق بعد الاجتماع والتلاقي الذي أضيف اليوم إليهما، وذلك بعد الأخذ للمظلوم من الظالم، وقد بيّن هذا بقوله:
فريقٌ في الجنّة وفريقٌ في السّعير [الشورى/ 7] فأما قوله:
يوم يفرّ المرء من أخيه، وأمّه وأبيه [عبس/ 34، 35] وقد قال: يوم الجمع ويوم التّلاق، فليس يراد بالفرار المضاف إليه اليوم الشّراد ولا النّفار، وأنت قد تقول لمن تكلّم: فررت مما لزمك، لا تريد بذلك بعادا في المحل.
وتقدير يوم يفرّ المرء من أخيه: يوم يفر المرء من موالاة أخيه، أو من نصرته. كما كانوا، أو من مساءلة أخيه لاهتمامه بشأنه، فالفرار من موالاته يدل عليه قوله: إذ تبرّأ الّذين اتّبعوا من الّذين اتّبعوا [البقرة/ 166] وأما الفرار من نصرته على حد ما كانوا يتناصرون في الدنيا، فيدل عليه قوله:
يوم لا يغني مولًى عن مولًى شيئاً ولا هم ينصرون إلّا من رحم اللّه [الدخان/ 41، 42] والمسألة يدل عليها قوله: ولا يسئل حميمٌ حميماً [المعارج/ 10].
وقد روي أنّ بعضهم قرأ: يوم التّناد [المؤمن/ 32] وكأنه اعتبر يوم يفرّ المرء من أخيه، فجعل التنادّ تفاعلا من ندّ البعير: إذا شرد ونفر، وليس ذلك بالوجه، ألا ترى أنه ليس يسهل أن تقول: نددت من ما لزمك، ولا ناددت منه، كما تقول: فررت منه؟ ونرى سيبويه يستعمل في هذا المعنى فرّ كثيرا، ولا يستعمل ندّ، فليس هذا الاعتبار إذا بالوجه. وأما
[الحجة للقراء السبعة: 2/30]
التنادي الذي عليه الكثرة والجمهور، فإنه يدل عليه قوله: يوم يدع الدّاع إلى شيءٍ نكرٍ [القمر/ 6] وقوله: يوم ندعوا كلّ أناسٍ بإمامهم [الإسراء/ 71] ويوم يدعوكم فتستجيبون بحمده [الاسراء/ 52]. فالتنادي أشبه بهذه الآي. ألا ترى أن الدعاء والنداء يتقاربان به، إذ نادى ربّه نداءً خفيًّا [مريم/ 3] فنادته الملائكة [آل عمران/ 39] وقال: فدعا ربّه أنّي مغلوبٌ [القمر/ 10] فقد استعمل كلّ واحد من النداء والدعاء في موضع الآخر، وليس التنادّ والفرار كذلك.
وأما قوله: (كلمات) فالكلمات: جمع كلمة، والكلمة:
اسم الجنس، لوقوعها على الكثير من ذلك والقليل، قالوا:
قال امرؤ القيس في كلمته، يعنون قصيدته، وقال قسّ في كلمته، يعنون خطبته. وقال ابن الأعرابي: يقال: لفلان كلمة شاعرة، أي: قصيدة. وقد قيل لكل واحد من الكلم الثلاث:
كلمة، فالكلمة كأنها اسم الجنس، لتناولها الكثير والقليل.
كما أن الليل لما كان كذلك وقع على الكثير منه أو القليل، فالكثير نحو قوله: وجعلنا اللّيل لباساً [النبأ/ 10] ومن رحمته جعل لكم اللّيل والنّهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله [القصص/ 73] ومن ثمّ جعله سيبويه في جواب كم، إذا قيل: سير عليه الليل والنهار.
وأما وقوعه على القليل وما هو دون ليلة فنحو قوله:
[الحجة للقراء السبعة: 2/31]
وإنّكم لتمرّون عليهم مصبحين وباللّيل [الصافات/ 137 - 138].
فكذلك الكلمة قد وقعت على القليل والكثير. فأما وقوعها على الكثير فنحو ما قدمناه، وأما وقوعها على القليل، فإنّ سيبويه قد أوقعها على الاسم المفرد، والفعل المفرد، والحرف المفرد. فأما الكلام: فإن سيبويه قد استعمله فيما كان مؤلّفا من هذه الكلم، فقال: لو قلت: إن يضرب يأتينا، لم يكن كلاما، وقال أيضا: إنما يحكى: فقلت ونحوه، ما كان كلاما، لا قولا. فأوقع الكلام على المتألّف، وعلى هذا الذي استعمله جاء التنزيل، قال تعالى: سيقول المخلّفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتّبعكم يريدون أن يبدّلوا كلام اللّه قل لن تتّبعونا [الفتح/ 15] فالكلام المذكور هنا والله أعلم يعنى به قوله: فإن رجعك اللّه إلى طائفةٍ منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدوًّا [التوبة/ 83] ألا ترى قوله: كذلكم قال اللّه من قبل [الفتح/ 15]. والكلمات المذكورة في قوله: فتلقّى آدم من ربّه كلماتٍ [البقرة/ 37] فيما فسّر هي قولهما: ربّنا ظلمنا أنفسنا الآية [الأعراف/ 22]. وسئل بعض سلف المسلمين عما يقوله المذنب، فقال: يقول ما قال أبوه:
ظلمنا أنفسنا وما قاله موسى: قال ربّ إنّي ظلمت نفسي [القصص/ 16] وما قاله يونس: لا إله إلّا أنت سبحانك إنّي كنت من الظّالمين [الأنبياء/ 87]
[الحجة للقراء السبعة: 2/32]
وما قالته الملكة: إنّي ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان [النمل/ 44] وأما الكلمات في قوله تعالى: وإذ ابتلى إبراهيم ربّه بكلماتٍ فأتمّهنّ [البقرة/ 124] فالمراد بها انقياده لأشياء امتحن بها وأخذت عليه، منها: الكوكب، والشمس، والقمر، والهجرة، في قوله: إنّي مهاجرٌ إلى ربّي [العنكبوت/ 26] والختان، وعزمه على ذبح ابنه، فالمعنى: وإذ ابتلى إبراهيم ربّه بإقامة كلمات [أو بتوفية كلمات، والتقدير ذوي كلمات] أي: يعبّر بها عن هذه الأشياء المسمّيات وعلى هذا وصف في قوله: وإبراهيم الّذي وفّى [النجم/ 37].
فإن قلت: فهل يجوز أن يكون الكلم المتكلّم به، كما أنّ الصيد هو المصيد، والضرب المضروب، والنسخ المنسوخ؟ فالقول: إنّ هذا إنما جاء في المصادر، وليس قولهم الكلم بمصدر. فإن قلت: فقد أجرى قوم من العلماء ما كان من بناء المصدر مجرى المصدر، واستشهدوا على ذلك بأشياء، منها قولهم:
وبعد عطائك المائة الرّتاعا
[الحجة للقراء السبعة: 2/33]
فالقول: إنا لم نعلم لهم نصّا على ذلك. ومما ينبغي أن يحمل فيه الكلمات على الشرع كقوله: وإذ ابتلى إبراهيم ربّه بكلماتٍ قوله: وصدّقت بكلمات ربّها وكتبه [التحريم/ 12] فالكلمات والله أعلم تكون: الشرائع التي شرعت لها دون القول، لأن ذلك قد استغرقه قوله تعالى: وكتبه فكأن المعنى صدّقت بالشرائع فأخذت بها وصدّقت بالكتب فلم تكذّب بها. ومما يحمل من الكلم على أنّه قول، قوله تعالى: إنّما المسيح عيسى ابن مريم رسول اللّه وكلمته ألقاها إلى مريم [النساء/ 171] فهذا- والله أعلم- يعني به.
قوله: خلقه من ترابٍ ثمّ قال له كن فيكون [آل عمران/ 59] أي: قال من أجل خلقه: كن، فيكون، فسمّي كلمة لحدوثه عند قول ذلك.
وقوله: وتمّت كلمت ربّك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا [الأعراف/ 137] هي- والله أعلم- قوله: ونريد أن نمنّ على الّذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمّةً الآية [القصص/ 5] وقوله: وتمّت كلمة ربّك صدقاً وعدلًا لا مبدّل لكلماته [الأنعام/ 115] وهو كقوله: ما يبدّل القول لديّ [ق/ 29] أي: لا خلف فيه ولا تبديل له، والكلمات تقديرها: ذوي الكلمات أي ما عبر عنه بها من وعد ووعيد، وثواب وعقاب. وقوله: وألزمهم كلمة التّقوى
[الحجة للقراء السبعة: 2/34]
[الفتح/ 26] [حدثنا يوسف بن يعقوب الأزرق بإسناده] عن مجاهد، قال: لا إله إلا الله. وقد يجوز أن تكون كلمة التقوى: شرائعه، التي أمروا بالأخذ لها والتمسك بها. وأما قوله: واللّه أعلم بأعدائكم وكفى باللّه وليًّا وكفى باللّه نصيراً من الّذين هادوا يحرّفون الكلم عن مواضعه [النساء/ 45 - 46].
فسألني أحد شيوخنا عنه، فأجبت بأنّ التقدير: وكفى بالله نصيرا من الذين هادوا، فقوله: من الّذين هادوا متعلق بالنّصرة، كقوله: فمن ينصرنا من بأس اللّه إن جاءنا [المؤمن/ 29] أي: من يمنعنا؟ فيكون: يحرّفون الكلم- على هذا- حالا من الذين هادوا، تقديره: وكفى بالله مانعا لهم منكم محرّفين الكلم. وأكثر الناس فيما علمت يذهبون إلى أن المعنى: من الذين هادوا يحرّفون الكلم، أي: فريق يحرفون الكلم، فحذف الموصوف، وأقيمت الصفة مقامه، كقوله: ومن آياته يريكم البرق [الروم/ 24] أي:
أنه يريكم فيها البرق، أو يريكموها البرق، وهذا أشبه لقوله:
[الحجة للقراء السبعة: 2/35]
ومن الّذين هادوا سمّاعون للكذب سمّاعون لقومٍ آخرين لم يأتوك، يحرّفون الكلم [المائدة/ 41] فكما أن يحرفون في هذه الآية صفة لقوله: سمّاعون كأنه قال: ومن الذين هادوا فريق سمّاعون للكذب، أي: يسمعون ليكذبوا فيما يسمعونه منه، ويحرّفونه عنه، سمّاعون لقوم آخرين لم يأتوك، يحرفون الكلم.
فكما أن يحرفون هنا، صفة لقوله: سمّاعون، كذلك يكون في الآية الأخرى. فإن قلت: فلم لا يكون حالا من الضمير الذي في قوله: لم يأتوك؟ فإن ذلك ليس بالسهل في المعنى، ألا ترى أن المعنى: ومن الذين هادوا فريق يسمعون من النبي صلّى الله عليه وسلّم، ليكذبوا فيما يسمعونه، ويحرفون بكذبهم فيه، فإذا كان كذلك لم يكن حالا من الضمير الذي في: لم يأتوك، لأنهم إذا لم يأتوا لم يسمعوا فيحرفوا، فإذا كان كذلك، كان وصفا ولم يكن حالا، وتكون، يحرفون: على قياس ما قلناه، في قوله: وكفى باللّه نصيراً، من الّذين هادوا يحرّفون [النساء/ 45 - 46] حالا من الضمير الذي في اسم الفاعل، كأنه: سمّاعون محرفين للكلم، أي: مقدرين تحريفه، كقوله: معه صقر صائدا به غدا. وهدياً بالغ الكعبة [المائدة/ 95] وقد يجوز أن يكون التحريف المعنيّ بقوله:
من الّذين هادوا يحرّفون الكلم عن مواضعه [النساء/ 46] ما كانوا يقصدونه في قولهم: راعنا [البقرة/ 104] من السّب، وخلاف ما يقصده المسلمون، إذا خاطبوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، من المراعاة. قال أبو زيد: «قال الصّقيل: ما كلّمت فلانا إلا
[الحجة للقراء السبعة: 2/36]
مشاورة، تقول: أشرت إليه وأشار إليّ» فهذا على أمرين:
أحدهما: أن يكون استثناء منقطعا، والآخر على: كلامك المشاورة، كقولك: عتابك السيف. فأما النطق والمنطق فكان القياس في المنطق فتح العين، لأنه من نطق، لكنه قد جاء على الكسر كما قال: إليّ مرجعكم [آل عمران/ 55، لقمان/ 15] وقال: ويسئلونك عن المحيض [البقرة/ 222] وقد استعمل رؤبة الكلام في موضع النطق فقال:
لو أنني أوتيت علم الحكل... علم سليمان كلام النمل
فهذا إنما أراد به قوله: وورث سليمان داود وقال يا أيّها النّاس علّمنا منطق الطّير [النمل/ 16] فعبّر بالكلام بما عبّر عنه بالمنطق. وقول أوس:
ففاءوا ولو أسطو على أمّ بعضهم... أصاخ فلم ينطق ولم يتكلّم
على هذا تكرير وقال: لقد علمت ما هؤلاء ينطقون [الأنبياء/ 65] لأنها جماد لا كلام لها. وقال: يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون
[الحجة للقراء السبعة: 2/37]
[النور/ 24] والشهادة: كلام وقول. وقال: وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا؟ قالوا: أنطقنا اللّه الّذي أنطق كلّ شيءٍ [فصلت/ 21].
ومن ذلك قوله: يومئذٍ يودّ الّذين كفروا وعصوا الرّسول لو تسوّى بهم الأرض ولا يكتمون اللّه حديثاً [النساء/ 42] لأن ما ذكر من جوارحهم تشهد عليهم، فقيل: لا يكتمون، لمّا كان إظهار ذلك وإبداؤه بجوارحهم.
والقول، والكلام، والمنطق، يستعمل كل واحد من ذلك في موضع الآخر ويعبر بكل واحد منها كما عبر بالآخر، قال:
وأنّهم يقولون ما لا يفعلون [الشعراء/ 226] وقال: علّمنا منطق الطّير [النمل/ 16] وقال عن الهدهد: فقال أحطت بما لم تحط به [النمل/ 22] فأما قوله: هذا كتابنا ينطق عليكم بالحقّ [الجاثية/ 28] فهو في المعنى: كقوله: مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلّا أحصاها [الكهف/ 49] وقوله: وكلّ شيءٍ أحصيناه كتاباً [النبأ/ 29] أي: كل شيء من أعمالهم، كما قال: وكلّ شيءٍ فعلوه في الزّبر، وكلّ صغيرٍ وكبيرٍ مستطرٌ [القمر/ 52 - 53] وقال: أحصاه اللّه ونسوه [المجادلة/ 6] وقال: وكلّ إنسانٍ ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً [الإسراء/ 13] وقال: هنالك تبلوا كلّ نفسٍ ما أسلفت [يونس/ 30].
وأنشد أبو الحسن:
[الحجة للقراء السبعة: 2/38]
صدّها منطق الدّجاج عن القص*- د وصوت الناقوس فاجتنبتنا وأنشد:
فصبّحت والطير لم تكلّم خابية طمّت بسيل مفعم وقال:
فلم ينطق الديك حتى ملأ... ت كوب الرّباب له فاستدارا
فوضع كلّ واحد من الكلام والنطق موضع الصوت في قوله:
لمّا تذكّرت بالدّيرين أرّقني... صوت الدجاج وقرع بالنواقيس
وإنما يعني: انتظاره صوت الديكة. ولم نر النطق مسندا إلى القديم. كما أضيف إليه الكلام في قوله: حتّى يسمع كلام اللّه [التوبة/ 6] وقد جاءت هذه الكلمة في اللغة فيما يطيف بالشيء ويحيط به كقوله: النّطاق والمنطقة. وقال:
[الحجة للقراء السبعة: 2/39]
من خمر ذي نطف أغنّ منطّق... وافى بها لدراهم الأسجاد
فإذا كان كذلك لم يكن قول أوس: «لم ينطق ولم يتكلّم» تكريرا، وكان كلّ واحد منهما لمعنى غير الآخر.
وأنشد بعض البغداذيين:
فإن تنطق الهجراء أو تشر في الخنا... فإنّ البغاث الأطحل اللّون ينطق
فأسند إلى البغاث النطق.
الإعراب
الأفعال المتعدية إلى المفعول به على ثلاثة أضرب:
منها ما يجوز فيه أن يكون الفاعل له مفعولا به. ومنها: ما يجوز أن يكون المفعول به فاعلا له، نحو: أكرم بشر بكرا، وشتم زيد عمرا وضرب عبد الله زيدا.
ومنها: ما لا يكون فيه المفعول به فاعلا له نحو: دققت
[الحجة للقراء السبعة: 2/40]
الثوب، وأكلت الخبز، وسرقت درهما وأعطيت دينارا، وأمكنني الغوص.
ومنها: ما يكون إسناده إلى الفاعل في المعنى، كإسناده إلى المفعول به، وذلك نحو: أصبت، ونلت، وتلقّيت، تقول: نالني خير، ونلت خيرا، وأصابني خير، وأصبت خيرا، ولقيني زيد، ولقيت زيدا، وتلقاني، وتلقيته، قال:
إذا أنت لم تعرض عن الجهل والخنا... أصبت حليما أو أصابك جاهل
وقال: وقد بلغني الكبر [آل عمران/ 40] وقد بلغت من الكبر عتيًّا [مريم/ 8]. وكذلك: أفضيت إليه، وأفضى إليّ، وقال: وقد أفضى بعضكم إلى بعضٍ [النساء/ 21]. وإذا كانت معاني هذه الأفعال على ما ذكرنا، فنصب ابن كثير لآدم ورفعه الكلمات في المعنى، كقول من رفع آدم ونصب الكلمات.
ومن حجّة من رفع: أنّ عليه الأكثر، ومما يشهد للرفع قوله: إذ تلقّونه بألسنتكم [النور/ 15] فأسند الفعل إلى المخاطبين والمفعول به كلام يتلقّى، كما أنّ الذي تلقّاه آدم كلام متلقّى. فكما أسند الفعل إلى المخاطبين، فجعل التلقّي
[الحجة للقراء السبعة: 2/41]
لهم، كذلك يلزم أن يسند الفعل إلى آدم، فيجعل التّلقّي له دون الكلمات. ومن ذلك قول القائل: في آيات تلقّيتها عن عمّي، تلقّاها عن أبي هريرة. فجعل الكلام مفعولا به، وأسند الفعل إلى الآخذ له دون الكلام، فكذلك ينبغي أن يكون في الآية.
ومما يقوّي الرفع في آدم أنّ أبا عبيدة قال في تأويل قوله: فتلقّى آدم من ربّه كلماتٍ [البقرة/ 37] أي: قبلها.
فإذا كان آدم القابل، فالكلمات مقبولة. ومثل هذه الآية في إسناد الفعل فيها مرّة إلى الكلمات ومرة إلى آدم قوله: لا ينال عهدي الظّالمين [البقرة/ 124] وفي حرف عبد الله فيما قيل:
(لا ينال عهدي الظالمون) فلمن رفع أن يقول: ولا ينالون من عدوٍّ نيلًا [التوبة/ 120] فأسند الفعل إليهم، ولم يقل: ولا ينالهم من عدو نيل، والنّيل: يكون مصدرا كالبيع. ويكون الشيء الذي ينال، مثل الخلق، والصّيد، وضرب الأمير. وقوله:
تفرجة القلب قليل النيل.
يجوز أن يكون المعنى: قليل ما ينال، كما يقال: قليل الكسب، ويكون قليل النيل: قليل ما ينيل، وكلاهما ذمّ.
وقال: لن تنالوا البرّ حتّى تنفقوا ممّا تحبّون [آل عمران/ 92].
[الحجة للقراء السبعة: 2/42]
وحجّة من قرأ بالنصب قوله: لا ينالهم اللّه برحمةٍ [الأعراف/ 49] ولم يقل لا ينالون الله برحمة كما قال: ولكن يناله التّقوى منكم [الحج/ 37] فكما أسند الفعل إلى التقوى دون اسم الله سبحانه، كذلك كان يمكن لا ينالون الله برحمة أي: مرحوما به، يرحمون عباده به، وكأنّ المعنى في: لن ينال اللّه لحومها [الحج/ 37] لن ينال قربة الله أو ثواب الله قربة لحومها ودمائها، أو ثوابهما، لأن ذلك ليس بقربة على حدّ ما يتقرّبون به، ويتنسّكون فلا يقبله، ولا يثيب عليه، من حيث كان معصية، ولكن يقبل من ذلك ما كان عن تقوى الله وطاعته دون ما كان من المعاصي التي قد كرهها ونهى عنها. وكأنّ المراد بينال: معنى القبول. كما قال: ألم يعلموا أنّ اللّه هو يقبل التّوبة عن عباده ويأخذ الصّدقات [التوبة/ 104] فمعنى قبوله التوبة أن يبطل به ما كان يستحقّ من العقوبات التي تكفّرها التوبة، وأخذ الصّدقات هو الجزاء عليها والإثابة من أجلها). [الحجة للقراء السبعة: 2/43]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({فتلقى آدم من ربه كلمات} 37
قرأ ابن كثير فتلقى آدم نصب كلمات رفع جعل الفعل للكلمات لأنّها تلقت آدم عليه السّلام وحجته أن العرب تقول تلقيت زيدا وتلقاني زيد والمعنى واحد لأن من لقيته فقد لقيك وما نالك فقد نلته
[حجة القراءات: 94]
وقرأ الباقون {فتلقى آدم من ربه كلمات} آدم رفع بفعله لأنّه تلقى من ربه الكلمات أي أخذها منه وحفظها وفهمها والعرب تقول تلقيت هذا من فلان المعنى إن فهمي قبلها منه وحجتهم ما روي في التّفسير في تأويل قوله {فتلقى آدم من ربه كلمات} أي قبلها فإذا كان آدم القابل فالكلمات مقبولة). [حجة القراءات: 95]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (21- قوله: {فتلقى آدم من ربه كلمات} قرأه ابن كثير بنصب
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/236]
«آدم» ورفع «كلمات» وقرأه الباقون برفع آدم، ونصب «الكلمات» والتاء مكسورة في حال النصب، على سنن العربية.
وعلة من نصب «آدم» ورفع «الكلمات» أنه جعل الكلمات استنقذت «آدم» بتوفيق الله له، لقوله إياها، والدعاء بها، فتاب الله عليه، وأيضًا فإنه لما كان الله، جل ذكره، من أجل الكلمات تاب الله عليه، بتوفيقه إياه لقوله لها كانت هي التي أنقذته، ويسرت له التوبة من الله، فهي الفاعلة، وهي المستنقذ بها، وكان الأصل أن يقال على هذه القراءة: فتلقت آدم من ربه كلمات لكن لما كان بعد ما بين المؤنث وفعله حسن حذف علامة التأنيث، وهو أصل يجري في كل القرآن، إذا جعل فعل المؤنث بغير علامة، وقيل: إنما ذكر، لأنه محمول على المعنى؛ لأن الكلام والكلمات واحد، فحمل على الكلام فذكر، وقيل: ذكر لأن تأنيث الكلمات غير حقيقي؛ إذ لا ذكر لها من لفظها، وبذلك قرأ ابن عباس ومجاهد وأهل مكة.
22- وعلة من قرأ برفع «آدم» ونصب «الكلمات» أنه جعل «آدم» هو الذي تلقى الكلمات؛ لأنه هو الذي قبلها ودعا بها، وعمل بها، فتاب الله عليه، فهو الفاعل لقبوله الكلمات، فالمعنى على ذلك، وهو الخطاب وفي تقديم «آدم» على الكلمات تقوية أنه الفاعل، وقد قال أبو عبيد في معنى {فتلقى آدم من ربه كلمات} معناه: قبلها، فإذا كان آدم قابلا فالكلام مقبول، فهو المفعول وآدم الفاعل، وعليها الجماعة، وهي قراءة الحسن والأعرج وشيبة وأهل المدينة وعيسى بن عمر والأعمش، وهي قراءة العامة، وهي اختيار أبي
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/237]
عبيد وغيره). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/238]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (15- {فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} [آية/ 37]:-
بنصب {آدَمَ} ورفع الكلمات، قرأها ابن كثير وحده.
ووجهه أن {تَلَقّى} من الأفعال التي مفعولها فاعل، وفاعلها مفعول، وذلك لأنك إذا أسندتها إلى أيهما شئت لا يتغير المعنى، وذلك نحو: أصبت خيرًا وأصابني خير، ونلت مالاً ونالني مال، وتلقيت زيدًا وتلقاني زيد؛ لأن ما تلقيته فقد تلقاك، فإذن هذه وقراءة الجمهور سواءً في المعنى.
وقرأ الباقون {آدَمُ} بالرفع و{كَلِمَاتٍ} بالنصب، وهو أقوى وأحسن في العربية؛ لأن التلقي ههنا بمعنى التلقن والقبول، فآدم هو القابل والمتلقن، والكلمات مقبولة متلقنة، يؤيد ذلك قوله تعالى {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ} فأسند الفعل إلى المخاطبين، وجعل القول مفعولاً به). [الموضح: 269]

قوله تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (قوله جلّ وعزّ: (فلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون (38)
فالقراءة بتنوين (فلا خوفٌ).
قال أبو منصور: وهو الجيد عند النحويين، المختار إذا تكرر حرف النفي، وقرأ يعقوب وحده (فلا خوف) وهو جائز في العربية، وإن كان المختار ما عليه الجماعة). [معاني القراءات وعللها: 1/148]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (28- وقوله تعالى: {فمن اتبع هداي}
اتفق القراء السبعة على فتح الياء من {هداي} لالتقاء الساكنين، وهما الألف والياء، ففتحت الياء على أصل الكلمة، ومثله: {بشراي}
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/83]
{ومحياي} إلا ورشًا فإنه روى عن نافع {هداي} {وبشراي} بإسكان الياء، وإنما جمع بين ساكنين؛ لأن الألف قبل الياء حرف لين، كما فعل ذلك أبو عمرو في قوله {واللائي يئسن} بإسكان الياء، والاختيار فتح الياء، ومما لا يجوز ...... بحذف الياء الأخيرة، وقد ذكرته في (الأعراف).
وأما قوله: {وقولوا للناس حسنا} بالتنوين فالألف في الوقف عوض من التنوين ولا يجوز الإمالة فيها، قال الأخفش: وقرأ بعضهم {وقولوا للناس حسنى}، مثل: {ولله الأسماء الحسنى}، جعلها ألف التأنيث، قال البصريون: هذا غلط؛ لأن الاسم الذي على (فعلى) لا يجوز إلا بالألف واللام مثل: الصغرى والكبرى.
قال أبو عبد الله: قد يجوز؛ لأن الخليل وسيبويه ذكرا أن قوله: {وأخر متشابهات} جمع أخرى ولم يصرف آخر لأنه معدول من الألف واللام فيجوز أن يكون (حسنى) معدولاً، وقوله: {قولوا للناس حسنا} اليهود والنصارى، أي: لا تجادلوهم إلا بالتي هي أحسن. وقال آخرون: يعني جميع الناس.
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/84]
قال أبو عبد الله: والاختيار {وقولوا للناس حسنا} وإن كان حمزة قد قرأ {حسنى} لأن جعفر بن محمد عليهما السلام سأل رجلاً كيف تقرأ: {وقولوا للناس حسنا} أو {حسنى} فقال: ابن سيرين أقرأني {حسنا} فقال: أما نحن معشر أهل البيت فنقرأ {حسنى}.
وأما قوله: {ولا ءآمين البيت الحرام} فالياء التي قبل النون علامة الجميع، وقرأ الأعمش {ولا ءآمي البيت الحرام} مثل: {حاضري المسجد الحرام} فأسقط النون للإضافة، والياء سقطت لسكونها ولسكون اللام لفظًا، وتثبت خطا، فالوقف على هذه القراءة {آمي} بالياء، ولولا خلاف المصحف لكانت قراءة جيدة.
وأما قوله: {من نبإي المرسلين} و{من تلقائي نفسي} فكتبتا في المصحف {من نباي} و{تلقاي} بالياء، وقد ذكرت علته في (الأعراف).
وأما قوله: {وهو عليهم عمى} فالوقف عليها بالألف ولا تكون عوضًا في التنوين، وهي لام الفعل أصلية، والأصل: عمي، فانقلبت الياء ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها.
وقرأ ابن عباس: {وهو عليهم عم} فعلى هذه القراءة هي بالألف، وأما قوله: {يا ويلتا أعجزت} هذه الألف مبدلة من ياء والأصل يا ويلتي، كما قالوا: «يا ربي» و«يا ربا»، و«يا عجبي»، و«يا عجبا»، و«يا حسرتي»
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/85]
و «يا حسرتا»، فأما قوله: {يا أبت إني رأيت} فيجوز أن يكون أراد: «يا أبتي» ثم قلب فقال: «يا أبتا ثم حذف الألف».
ويجوز أن يكون أراد: «يا أبتاه».
وفيه قول ثالث: قال قطرب: أراد يا أبتا بالتنوين فحذف، كما قال الشاعر:
* يا دار أقوت بعد ساكنيها *
أراد: دارًا، وقال غيره من البصريين: أخطأ قطرب: لأن المنادي، المنكور منصوب معرب منون، ولا يجوز حذف التنوين فالرواية:
* يا دار أقوت .... *
بالرفع. وأما قوله: {هذا صراط علي مستقيم} الياء الأخيرة ياء الإضافة أدغمت فيها الياء الأولى التي في {على} وقرأ ابن سيرين: {صراط علي مستقيم} أي: رفيع، فالياء في هذه القراءة مبدلة من واو، والأصل: عليو، لأنه من علا يعلو فانقلبت الواو ياء، لسكون الياء، وأدغمت الياء في الياء. وأما قوله: {إنها لإحدى الكبر} «فإحدى» مونثة أحد، والياء التي في آخرها ألف مقصورة علامة التأنيث، وقرأ ابن كثير {لاحدى الكبر} بغير همزة، حدثنا بذلك ابن مجاهد، عن ابن أبي خيثمة، وإدريس، عن
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/86]
خلفٍ؛ عن أهل مكة كأنه حذف الهمزة اختصارًا و{نذيرًا للبشر} نصب على الحال، وقال الفراء: معناه: قم يا محمد نذيرًا للبشر، وفي قراءة أُبَيِّ {نذير للبشر} بالرفع.
وكل ما ورد في القرآن من نحو هذا فيجوز فيه الرفع على البدل، والنصب على الحال، والمدح والذم كقوله: {إنها لظى * نزاعة للشوى} و{نزاعة} و{إن هذه أمتكم أمة واحدة}، قرأ الحسن: {أمة واحدة} وأما قوله: {تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى} أي: مختلفة متفرقة، فالياء في آخر {شتى} ألف مقصورة علم التأنيث، وقرأ عبد الله: {وقلوبهم أشت} أي: أشد اختلافًا، وفي هذه السورة حرفان أيضًا عن عبد الله، {خالدان فيها} وفي قراءتنا {خالدين} لأن الخبر إذا وقع بين
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/87]
صفتين متفقتين كان الاختيار فيه النصب كقولك: إن زيدًا في الدار قائمًا فيها، ويجوز الرفع عند البصريين، ولا يجوز عند الكوفيين الرفع إلا مع الصفة المختلفة كقولك: إن زيدًا في الدار راغب فيك.
والحرف الثاني: {ولا تجعل في قلوبنا غمرا للذين آمنوا} وفي قراءتنا: {غلا}.
وحرف ثالث عن ابن مسعود: {أو تركتموها قوما}.
وأما قوله: {ولا يأتل أولو الفضل منكم} يفتعل من الألية وهو القسم، سقطت الياء للجزم، وقرأ أبو جعفر المدني {ولا يتأل أولو الفضل منكم} بفتح اللام، فالألف ساقطة للجزم في هذه القراءة والأصل: يتألى يتفعل من الألية أيضًا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من يتأل على الله يكذبه» وتقول العرب في الإيلاء من قوله: {للذين يؤلون من نسائهم} الألوة والألوة والألية، وفي العود يقال: مجامرهم الألوة بتشديد الواو.
حدثني ابن عرفة قال: حدثنا محمد بن يونس، عن الأصمعي قال:
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/88]
اطلع أعرابي في قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
ألا دفنتم رسول الله في سفط = من الألوة أحوى ملبسًا ذهبا
يقال للعود الذي يتبخر به الكباء والمندل والألوة، والمجمر والقطر، قال امرؤ القيس:
كأن المدام وصوب الغمام = وريح الخزامى ونشر القطر
يعل به برد أنيابها = إذا طرب الطائر المستحر
وأما قوله {سرابيلهم من قطران} فالقطران اسم واحد آخره نون مثل الظربان وهي: دويبة منتنة الريح، ومن قرأ على قراءة عكرمة: {من قطر آن} فالقطر: النحاس، والآني: الذي قد انتهى حره، من قوله تعالى: {من عين آنية} أي: حارة، ففي هذه القراءة آخر الاسم ياء سقطت لسكونها وسكون التنوين مثل {فاقض ما أنت قاض}
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/89]
حدثني ابن مجاهد عن السمري عن الفراء عن أبي بكر بن عياش عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنه قرأ: {قطر آن}.
وأما قوله: {واستوت على الجودي} بتشديد الياء فهو (فُعْلِيٌّ) مثل: بُخْتِيّ وكرسي وهو اسم جبلٍ. ذكر الفراء أن بعضهم. قرأ {على الجودي} بإرسال ........................................................................................................................................................
كانت عاملة جعلت «لا» عاملة، ولما كانت جوابا لـ «هل» ولم تعملها إذ كانت «هل» غير عاملة، فإذا رفعت نوَّنتَ، وإذا نصبتَ لم يجز التنوين، أعني فيما ولى «لا» وقد مرَّت علَّةُ هذا في قوله: {فلا رفث ولا فسوق}.
فإن سأل سائل فقال: فإن كان الأمر على ما قد زعمت فما وجه قول جرير:
ألم تعلم مسرحي القوافي = فلا عيا بهن ولا اجتلابا؟
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/90]
فالجواب في ذلك: ما قال سيبويه: إن عيا واجتلابا هما مصدران، ومعناه: فلا أعيا عيا ولا أجتلب اجتلابا). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/91]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبي الطفيل، وعبد الله بن أبي إسحاق، وعاصم الجحدري، وعيسى بن عمر الثقفي: [هُدَيَّ].
قال أبو الفتح: هذه لغة فاشية في هذيل وغيرهم؛ أن يقلبوا الألف من آخر المقصور إذا أضيف إلى ياء المتكلم ياء. قال الهذلي:
سبقوا هَوَيَّ وأعنقوا لهواهم ... فتُخِرِّمُوا ولكل جنب مَصْرَعُ
وروينا عن قطرب قول الشاعر:
يطوف بي عِكَبٌّ في مَعَدٍّ ... ويطعن بالصُّمُلَّة في قَفَيَّا
فإن لم تَثْأَرَا لي من عِكَبٍّ ... فلا أرويتما أبدًا صَدَيَّا
قال لي أبو علي: وجه قلب هذه الألف لوقوع ياء ضمير المتكلم بعدها، أنه موضع ينكسر فيه الصحيح، نحو: هذا غلامي، ورأيت صاحبي، فلما لم يتمكنوا من كسر الألف قلبوها ياء، فقالوا: هذه عَصَيّ، وهذا فتيّ؛ أي: عصاي وفتاي، وشبهوا ذلك بقولك: مررت بالزيدين، لما لم يتمكنوا من كسر الألف للجر قلبوها ياء، ولا يجوز على هذا أن تقلب ألف التثنية لهذه الياء، فتقول: هذان غلاميّ؛ لما فيه من زوال علم الرفع، ولو كانت ألف عصا ونحوها علمًا للرفع لم يجز فيها عصَيّ.
[المحتسب: 1/76]
ومنهم من يبدل هذه الألفات في الوقف ياءات، فيقول: هذه عصيْ، ورأيت حبليْ، وهذه رَجَيْ؛ أي: الناحية؛ يريد رجًا.
ومنهم من يبدلها في الوقف أيضًا واوًا، فيقول: هذه عَصَو وأَفعَو وحُبَلَو.
ومنهم من يبدلها في الوصل واوًا أيضًا، فيقول: هذه حُبْلَو يا فتى.
ومن البدل في الوقف ياء ما أنشده بعض أصحابنا؛ وهو محمد بن حبيب:
إن لِطيٍّ نسوة الفَضيْ ... يمنعهن الله ممن قد طغيْ
بالمشرفيات وطعن بالقَنيْ ... يا حبذا جفانك ابن قَحْطَبيْ
وحبذا قدورك الْمُنْصَّبيْ ... كأن صوت غليها إذا غَلَيْ
صوت جمال هَدَرَيْ فَقَبْقَبيْ
أراد: ابن قحطبة، فإما أن يكون حذف الهاء للترخيم في غير النداء، فبقيت الباء مفتوحة، فأشبع الفتحة للقافية؛ فصارت قحطبًا، ثم أبدل الألف ياء على ما مضى، وإما أن يكون أبدل الهاء ألفًا؛ فصارت قحطبة إلى قحطبا، ثم أبدل الألف ياء على ما مضى، وعلى ذلك يجوز أيضًا أن يكون قوله:
كفعل الْهِرِّ يحترِشُ العَظايا
أراد: العَظَاية، ثم أبدل الهاء ألفًا؛ فصار العظايا.
وإن شئت قلت: شبه ألف النصب بهاء التأنيث فقال: العظايا، كما تقول: العظاية، وهذا قول أبي عثمان.
[المحتسب: 1/77]
وفيه قول لي ثالث؛ وهو أن يكون العَظايا جمع عَظَاية على التكسير، كما تقول في حمامة حمائم، فعظايا على هذا كمطايا وحوايا جمع حَوِيَّة.
وأما قوله: الْمُنَصَّبَيْ فأراد المنصبة، فأبدل الهاء ألفًا، ثم أبدل الألف ياء على ما مضى، ولا يجوز أن يكون أراد هنا الترخيم؛ لأنه فيه لام التعريف، وما فيه هذه اللام فلا يجوز نداؤه أصلًا، فهو من الترخيم أبعد، وهذا يفسد قول من قال في قول العجاج:
أَوالِفًا مكة من وُرْقِ الْحَمِي
إنه أراد الحمام ثم رخم؛ لأن ما فيه لام التعريف لا يُنادى اصلًا فكيف يرخم؟
وأما قوله: هَدَرَيْ، فإنه أراد هدر، ثم أشبع الفتحة على حد قوله:
ينباع من ذِفرى غضوب جَسْرَةٍ
فصار هدَرَا، ثم أجرى الوصل مجرى الوقف فقال: هدَرَيْ.
وكذلك قوله: قَبْقَبيْ أراد قبقب، ثم أشبع فصار قبقبا، وعلى هذا التخريج يسقط قول سيبويه عن يونس في قوله محتجًّا عليه بقول الشاعر:
دعوت لما نا بني مِسْوَرًا ... فَلَبَّى فَلَبَّيْ يَدَيْ مِسْورِ
[المحتسب: 1/78]
قال سيبويه: لو كان لبيك اسمًا واحدًا -كما يقول يونس، وإنما قُلب في لبيك لاتصاله بالمضمر كما يُقلب في إليك وعليك -لما قال: فَلَبَّيْ يَدَيْ مِسْوَرِ، ولقال: فَلَبَّى يدَيْ مِسْوَرِ، على حد قولك: على يَدَيْ فلان، وإلى يَدَيْ جعفر، فثبات الياء مع المظهر يدلك على أنه لم يقلب في لبيك على حد ما قلب في إليك وعليك، وفي ذلك رد لقول يونس: إن لبيك مفرد كإلبيك وعليك.
قال أبو علي: يمكن يونس أن يقول: إنه أجرى الوصل مجرى الوقف، فكما تقول في الوقف: عَصيْ وفَتيْ كذلك قال: فَلَبَّيْ، ثم وصل على ذلك، هذا ما قاله أبو علي.
وعليه أن يقال: كيف يحسن تقدير الوقف على المضاف دون المضاف إليه؟
وجوابه: أن ذلك قد جاء، إلا ترى إلى ما أنشده أبو زيد من قول الشاعر:
ضَخْمٌ نجارى طيِّب عُنْصُرِّي
أراد: عنصري، فثقَّل الراء لنية الوقف، ثم أطلق بالإضافة من بعد.
نعم، وإذا جاز هذا التوهم مع أن المضاف إليه مضمر، والمضمر المجرور لا يجوز تصور انفصاله، فأن يجوز ذلك مع المظهر الذي هو "يَدي" أولى وأجدر، من حيث كان المظهر أقوى من المضمر.
ومثله قوله:
يا ليتها قد خرجت من فَمِّه
أراد: من فمه، ثم نوى الوقف على الميم فثقلها، على حد قوله في الوقف: هذا خالدّ، وهو يجعلّ، ثم أضاف على ذلك فهذا كقولهم: عنصرِّي.
ويُروى من فُمِّه بضم الفاء أيضًا، وفيه أكثر من هذا). [المحتسب: 1/79]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون}
قرأ ورش عن نافع {فمن تبع هداي} ساكنة الياء وقرأ الباقون بفتح الياء وإنّما فتحت لأنّها أتت بعد ساكن واصلها الحركة الّتي هي الفتح وقد ذكرته عند قوله إنّي أعلم). [حجة القراءات: 95]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (16- {فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} [آية/ 38]:
بالفتح من غير تنوينٍ، قرأها يعقوب وحده في جميع القرآن.
[الموضح: 269]
ووجهه أنه أراد نفي جميع أنواع الخوف؛ لأن {لا} إذا بني مع النكرة على الفتح كان النفي به عامًا نحو: لا رجل في الدار، فإنه نفي كون جميع أجناس الرجال في الدار؛ لأنه جواب: هل من رجل في الدار؟، فكما أن: هل من رجل في الدار عام في الاستفهام، كذلك: لا رجل، عام في النفي، فإذن {لا خوف} آكد في نفي الخوف، لما فيه من عموم النفي بجنس الخوف.
وقرأ الباقون {لا خَوْفٌ} بالرفع والتنوين، على الابتداء؛ لأنه يكون جواب: هل فيه خوف؟
والمعنيان يتقاربان في أن الفي يراد به العموم والكثرة؛ لأن النكرة فيها عموم، وإذا كانت في النفي فلا نظر في كونها عامة، يدل على ذلك قول أمية:-
7- فلا لغو ولا تأثيم فيها = وما فاهوا به أبدًا مقيم
[الموضح: 270]
لأنه أراد من نفي اللغو ما أراده من نفي التأثيم). [الموضح: 271]

قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)}

روابط مهمة:
- أقوال المفسرين

جمهرة علوم القرآن 26 محرم 1440هـ/6-10-2018م 11:33 AM

سورة البقرة
[من الآية (40) إلى الآية (43) ]
{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآَمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)}

قوله تعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40)}
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة الحسن والزهري وابن أبي إسحاق وعيسى الثفقي والأعمش: [إسْراييل] بلا همز.
[المحتسب: 1/79]
قال أبو الفتح: إن لم يكن ذلك همزًا مخففًا فخَفِيَ بتخفيفه فعُبر عنه بترك الهمز، فذلك من تخليط العرب في الاسم الأعجمي.
قال أبو علي: العرب إذا نطقت بالأعجمي خلَّطت فيه، أنشدنا:
هل تعرف الدار لأم الخزرج ... منها فظَلْتَ اليوم كالْمُزَرَّج
قال: وقياسه كالمزرجَن؛ لأنه من الزَّرَجون وهو الخمر، والنون في زَرَجون ينبغي أن يكون أصلًا بمنزلة السين من قَرَبُوس.
وأنشدنا لرؤبة:
في خِدْرِ ميَّاسِ الدُّمى الْمُعَرجن
فهذا من العُرجون، وكذا كان قياسه أن يقول: المزرجن. وإذا جاز للعرب أن تخلِّط في العربي وهو من لغتها، فكيف يكون -ليت شعري- فيما ليس من لغتها؟!
ومما خلطت فيه من لغتها قول لبيد:
دَرَس المنا بِمُتالع فأَبان
[المحتسب: 1/80]
يريد: المنازل. وقال علقمة:
مُفدَّم بسَبَا الكَتان مَلْثُومُ
أراد: بسبائب، وهو كثير، ونكره الاستكثار من الشواهد والنظائر؛ تحاميًا لطول الكتاب). [المحتسب: 1/81]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة الزهري: [وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوَفِّ بِعَهْدِكُمْ] مشددة.
قال أبو الفتح: ينبغي -والله أعلم- أن يكون قرأ بذلك؛ لأن فَعَّلت أبلغ من أفعلت؛ فيكون على {أوفوا بعهدي} أبالغ في توفيتكم؛ كأنه ضمان منه سبحانه أن يعطي الكثير عن القليل، فيكون ذلك كقوله سبحانه: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا}، وهو كثير). [المحتسب: 1/81]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (17- {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [آية/ 40]:-
بإثبات الياء في الوصل والوقف، قرأها يعقوب وحده، وكذلك {فاتّقُونِي} و{لا تَكْفُرُونِي} و{فَاسْمَعُونِي} و{أطِيعُونِي} و{يَسْقِيني} و{يَشْفِيني}، وكذلك {التَّلاقي} و{التّنادِي} و{بالوادِي} و{المُتعالِي} جميعًا سواء كانت فواصل أم غيرها، إلا في المنون نحو {واقٍ} و{والٍ}، وفي المنادى نحو: {يَا قَوْمِ} و{يَا رَبّ} و{يَا عِبادِ} إلا فيما أثبتت الياء منه في الكتاب وهو {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا} و{يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا}.
اعلم أن يعقوب إنما قرأ ما قرأه بالياء من هذه الحروف تمسكًا بالأصل؛ لأن الأصل في {فارْهَبُونِ} وأمثاله، هو إثباتُ الياءِ؛ لأن الياء هو ضمير
[الموضح: 271]
المنصوب في هذا الموضع، والنون دعامة أدخلت ليبقى آخر الكلمة التي لحقتها هذه الياء على حاله من حركةٍ أو سكونٍ أو واوٍ أو ياء، ولا يتغير، إذ لولا هذه النون لانكسر ما كان قبل الياء من حرف صحيح وانقلب ما كان من حرف علة، فأدخلت النون لتكسر لأجل الياء، ويسلم ما قبلها من التغيير، فإذا كان كذلك فالياء هي الأصل في الضمير، وإثبات الياء في هذه المواضع هو الأصل الذي عليه الوضع، وإنما حذفها من حذفها من رؤوس الآي؛ لأنها فواصل، وهي مثل القوافي في الشعر تطلب لها الموافقة والمشاكلة كما قال الأعشى:
8- ومن شانئٍ كاسفٍ وجهه = إذا ما انتسبت له أنكرن
ألا ترى أنه حذف الياء من أنكرني، وأسكن النون؛ لأنها قافية، وهي أيضًا موضع وقف، والوقف موضع تغيير.
وأما إثباته الياء في {التَلاَقِي} ونحوه مما فيه الألف واللام فإنه هو الأصل المنقاس أيضًا؛ لأن هذه الياء تحذف منها الحركة استثقالاً لها عليها، ولا تنوين يسقط لأجله الياء، فتثبت الياء ساكنة.
[الموضح: 272]
وإنما يحذفها من حذفها إرادة التخفيف، والأصل هو الإثبات.
وأما حذفه الياء من المنون والمنادى، فإن المنون تحذف (منه) الياء لاجتماعها مع التنوين؛ وهما ساكنان، فتحذف الياء لالتقاء الساكنين، وهي أولى بالحذف من التنوين؛ لأن التنوين إنما دخل لمعنىً، فلو حذف لزال ذلك المعنى، وهو علم التمكن، وإذا وقف عليه فالأولى أيضًا حذف الياء؛ لأن التنوين وإن زال في الوقف فهو في حكم الثبات.
وأما المنادى فإنه موضع حذفٍ، ألا ترى أنه يحذف منه التنوين للبناء، نحو: يا زيد، والحرف الأخير للترخيم نحو: يا حار.
وأما إثباته الياء فيما أثبت منه في الكتاب، فإنما تبع في ذلك المصحف وهو الإمام المتبع). [الموضح: 273]

قوله تعالى: {وَآَمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41)}

قوله تعالى: {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42)}

قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)}

روابط مهمة:
- أقوال المفسرين

جمهرة علوم القرآن 26 محرم 1440هـ/6-10-2018م 11:34 AM

سورة البقرة
[من الآية (44) إلى الآية (48) ]
{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48) }

قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44)}

قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45)}

قوله تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46)}

قوله تعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47)}

قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (ولا يقبل منها شفاعةٌ)
قرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب (ولا تقبل) - بالتاء -، وروي عن عاصم مثل ذلك. وقرأ الباقون بالياء.
قال أبو منصور: من قرأ بالتاء فلتأنيث الشفاعة، ومن قرأ بالياء فلأن الشفاعة كالمصدر وإن كان لفظها مؤنثا، وهو كقول الله جلّ وعزّ: (وأخذت الذين ظلموا الصيحة)، وقال في موضع آخر: (وأخذ الذين ظلموا الصيحة)، لأن الصيحة وإن كان لفظها مؤنثا فهي مصدر، وكل ذلك جائز في كلام العرب). [معاني القراءات وعللها: 1/149]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في الياء والتاء من قوله تعالى: ولا تقبل منها شفاعة [البقرة/ 48].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو: ولا تقبل بالتّاء. وقرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائيّ: ولا يقبل بالياء. وروى يحيى بن آدم وابن أبي أميّة والكسائي وغيرهم عن أبي بكر وحفص عن عاصم بالياء. وروى الحسين الجعفيّ عن أبي بكر عن عاصم بالتاء.
[الحجة للقراء السبعة: 2/43]
قال أبو عليّ: المعنى في قوله: لا يقبل منها شفاعةٌ. لا يقبل فيه منها شفاعة، فمن ذهب إلى أن (فيه) محذوفة من قوله: واتّقوا يوماً لا تجزي نفسٌ عن نفسٍ [البقرة/ 48] جعل (فيه) محذوفة بعد قوله: يقبل. ومن ذهب إلى أنه حذف الجارّ وأوصل الفعل إلى المفعول، ثم حذف الرّاجع من الصّفة. كما يحذف من الصّلة، كان مذهبه في قوله: لا يقبل أيضا مثله.
وحذف الهاء من الصفة يحسن، كما يحسن حذفها من الصلة، ألا ترى أن الفعل لا يتسلّط بحذف المفعول منه على الموصوف كما لا يتسلّط بذلك على الموصول؟
فممّا حذف منه الراجع من الصّفة قوله:
وما شيء حميت بمستباح وقول الأسود بن يعفر:
وفاقر مولاه أعارت رماحنا... سنانا كقلب الصّقر في الرّمح منجلا
[الحجة للقراء السبعة: 2/44]
فالهاء العائدة إلى المنكور الموصوف محذوفة، وهي المفعول الأوّل لأعارت. وموضع الجملة جرّ، كما أن موضع الجملة التي هي تقبل نصب بالعطف على الجملة التي هي وصف قبلها. ومن الحذف قوله:
تروّحي أجدر أن تقيلي... غدا بجنبي بارد ظليل
المعنى: تأتي مكانا أجدر أن تقيلي فيه. فحذف الجارّ، فوصل الفعل ثم حذف الضمير. وممّا لم يحذف فيه الرّاجع من الصفة قوله:
في ساعة يحبّها الطّعام وهذا في المعنى قريب من قوله: وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين ما للظّالمين من حميمٍ ولا شفيعٍ يطاع [المؤمن/ 18].
فالمعنى: ما للظالمين فيه من حميم ولا شفيع يطاع، وليست الجملة التي هي: ما للظّالمين من حميمٍ صفة كما
[الحجة للقراء السبعة: 2/45]
كانت في الآية الأخرى صفة. ومثل ذلك قوله: يوم لا يغني مولًى عن مولًى شيئاً ولا هم ينصرون إلّا من رحم اللّه [الدخان/ 41 - 42]. وقبول الشيء: هو تلقّيه والأخذ به
وخلاف الإعراض عنه، ومن ثم قيل لتجاه الشيء: قبالته، وقالوا: أقبلت المكواة الداء، أي: جعلتها قبالته. قال:
وأقبلت أفواه العروق المكاويا ويجوز أن يكون المخاطبون بذلك اليهود، لأنهم زعموا أن آباءها الأنبياء تشفع لها، فأويسوا من ذلك.
وقريب من هذا قوله: قل فلم يعذّبكم بذنوبكم [المائدة/ 18]. فأما الشفاعة فنراها من الشّفع الذي هو خلاف الوتر، قال:
وأخو الأباءة إذ رأى خلّانه... تلّى شفاعا حوله كالإذخر
فكأنه سؤال من الشفيع، يشفع سؤال المشفوع له.
وليس معنى لا تقبل منها شفاعة أنّ هناك شفاعة لا تقبل، ألا
[الحجة للقراء السبعة: 2/46]
ترى أن في قوله: ولا يشفعون إلّا لمن، ارتضى [الأنبياء/ 28] انتفاء الشفاعة عمن سوى المرتضين، فإذا كان كذلك، كان المعنى لا تكون شفاعة فيكون لها قبول، كما أن قوله: لا يسئلون النّاس إلحافاً [البقرة/ 273] معناه: لا يكون منهم سؤال فيكون منهم إلحاف، كقوله:
على لا حب لا يهتدى لمناره... إذا سافه العود الدّيافيّ جرجرا
وقوله:
لا يفزع الأرنب أهوالها... ولا ترى الضبّ بها ينجحر
[الحجة للقراء السبعة: 2/47]
فأما قوله: وكم من ملكٍ في السّماوات لا تغني شفاعتهم شيئاً إلّا من بعد أن يأذن اللّه لمن يشاء ويرضى [النجم/ 26] فالمعنى: لا تغني شفاعتهم أن لو شفعوا، ليس أنّ هناك شفاعة مثبتة، ومثله: ولا تنفع الشّفاعة عنده إلّا لمن أذن له [سبأ/ 23] ومثله: يومئذٍ لا تنفع الشّفاعة إلّا من أذن له الرّحمن ورضي له قولًا [طه/ 109] فأطلق على المعنى الاسم، وإن لم يحدث كما قال:
لما تذكّرت بالدّيرين أرّقني... صوت الدّجاج وقرع بالنّواقيس
والمعنى: انتظار أصواتها، فأوقع عليه الاسم، ولمّا يكن. فإضافة الشفاعة إليهم كإضافة الصوت إليها. ويدلك على أن المعنى في قوله: لا تغني شفاعتهم ما ذكرنا، الآية التي تقدم ذكرها. وقوله: يوم يقوم الرّوح والملائكة صفًّا لا يتكلّمون إلّا من أذن له الرّحمن [النبأ/ 38] والشفاعة: كلام.
فأما قوله: إلّا من بعد أن يأذن اللّه لمن يشاء ويرضى [النجم/ 26] فالمعنى: لمن يشاء شفاعته على إضافة المصدر إلى المفعول به، الذي هو مشفوع له، ثم حذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، فصار اللفظ: لمن يشاؤه. أي يشاء شفاعته، ثم حذف الهاء من الصلة. فأما قوله: ويرضى.
فتقديره: يرضاه، كما أنّ قوله: ولا يشفعون إلّا لمن ارتضى [الأنبياء/ 28] العائد منه إلى الموصول محذوف،
[الحجة للقراء السبعة: 2/48]
فكذلك العائد من يرضى. وأما قوله: ويعبدون من دون اللّه ما لا يضرّهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند اللّه [يونس/ 18] فإنما يعنون بقولهم: عند الله، في البعث. لأن منهم من قد كان معترفا بالبعث والنشور كالأعشى في قوله:
بأعظم منك تقى للحساب... إذا النّسمات نفضن الغبارا
وقول زهير:
يؤخّر فيوضع في كتاب فيدّخر... ليوم الحساب أو يعجّل فينقم
وقد كذّبهم الله في قولهم ذلك بقوله: قل أتنبّئون اللّه بما لا يعلم في السّماوات ولا في الأرض [يونس/ 18] وقوله: وإذا حشر النّاس كانوا لهم أعداءً وكانوا بعبادتهم كافرين [الأحقاف/ 60]. فالمصدر مضاف إلى الفاعلين، والمعنى: كانوا بعبادتهم إياها كافرين. ومثل هذا قوله:
وقال شركاؤهم ما كنتم إيّانا تعبدون [يونس/ 28] فالشركاء في هذه الآية هم الآلهة التي كانوا يعبدونها. وكذلك في قوله:
[الحجة للقراء السبعة: 2/49]
وإذا رأى الّذين أشركوا شركاءهم، قالوا ربّنا هؤلاء شركاؤنا الّذين كنّا ندعوا من دونك [النحل/ 86] فإنما أضيف الشركاء إلى الذين أثبتوهم شركاء لادّعائهم شركتهم للقديم سبحانه وتعالى عن ذلك. وقد جاء إضافة هؤلاء الشركاء أيضا إلى الله تعالى في قوله: ويوم يناديهم أين شركائي [فصلت/ 47] فهذا لم يثبت به شركاء الله تعالى، وإنما أضافهم إليه على حسب ما كانوا يضيفونهم إليه، فحكى ذلك.
وعلى هذا قوله: وقالوا يا أيّها السّاحر ادع لنا ربّك [الزخرف/ 49] وهذا مما يعلم به أنّ المضاف إذا كان له ضرب من الملابسة بالمضاف إليه، جازت إضافته إليه، وعلى هذا قوله:
لتغني عنّي ذا إنائك أجمعا فأضاف الإناء إلى الشارب لشربه منه وإن كان ملكا للمشروب لبنه، أو في يده على غير وجه الملك.
[الحجة للقراء السبعة: 2/50]
ومن ذلك قوله: أم اتّخذوا من دون اللّه شفعاء، قل أولو كانوا لا يملكون شيئاً ولا يعقلون، قل للّه الشّفاعة جميعاً [الزمر/ 43 - 44] فهذا مثل قوله: ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند اللّه [يونس/ 18]. وقوله: قل للّه الشّفاعة جميعاً معناه: في الآخرة. وإنما نسبت الشفاعة إليه سبحانه إبطالا لشفاعة من ادّعيت شفاعتهم لهم من الآلهة، ونفيا لها، وإعلاما أن الملائكة في الآخرة لا يشفعون إلا لمن أذن لهم في الشفاعة له، فنسبت الشفاعة إلى الله لمّا لم تكن إلا بأمره وإذنه فيها، وإن كانت الملائكة فاعليها في الحقيقة، فأما في الدنيا فقد تكون الشفاعة لغير الله. والضمير في (منها) من قوله: ولا تقبل منها عائد إلى نفس على اللفظ، وفي قوله: ولا هم ينصرون على المعنى، لأنه ليس المراد المفرد فلذلك جمع.
فأما حجة من قال: ولا تقبل فألحق علامة التأنيث، فهي أنّ الاسم الذي أسند إليه هذا الفعل مؤنّث، فيلزم أن يلحق المسند أيضا علامة التأنيث، ليؤذن لحاق العلامة بتأنيث
الاسم، كما ألحق الفصل حيث ألحق، ليؤذن بأنّ الخبر معرفة أو قريب من المعرفة.
ومما يقوي ذلك أن كثيرا من العرب إذا أسندوا الفعل إلى المثنى أو المجموع، ألحقوه علامة التثنية أو الجمع كقوله:
[الحجة للقراء السبعة: 2/51]
ألفيتا عيناك....
وقوله:... يعصرن السّليط أقاربه فكما ألحقوا هاتين العلامتين لتؤذنا بالتثنية والجمع، كذلك ألحقت علامة التأنيث الفعل ليؤذن بما في الاسم منه، وكانت هذه العلامة أولى من لحاق علامتي التثنية والجمع، للزوم علامة التأنيث الاسم، وانتفاء لزوم هاتين العلامتين الاسم، وبحسب لزوم المعنى تلزم علامته، ألا ترى أن ما لا يلزم في كلامهم قد لا يعتدّ به اعتداد اللازم، كالواو الثانية في قوله: (ووري) فبحسب لزوم علامة التأنيث الاسم يحسن إلحاقه الفعل، وقد قال: فأخذتهم الصّيحة مشرقين [الحجر/ 73]. فأخذتهم الصّيحة بالحقّ [المؤمنون/ 41].
فكما تثبت العلامة في هذا النحو، كذلك ينبغي أن تثبت في نحو قوله: تقبّل.
ومن حجة من لم يلحق: أن التأنيث في الاسم ليس بحقيقي، وإذا كان كذلك حمل على المعنى فذكّر، ألا ترى أن الشفاعة والتشفّع بمنزلة، كما أن الوعظ والموعظة، والصيحة والصوت كذلك، وقد قال: فمن جاءه موعظةٌ من ربّه [البقرة/ 275] وأخذ الّذين ظلموا الصّيحة [هود/ 67].
فكما لم تلحق العلامة هنا، كذلك يحسن أن لا تلحق في
[الحجة للقراء السبعة: 2/52]
قوله: ولا تقبل لاتفاق الجميع في أن ذلك تأنيث غير حقيقي. وكلا الأمرين قد جاء به التنزيل كما رأيت.
ومما يقوّي التّذكير أنه قد فصل بين الفعل والفاعل بقوله: منها. والتذكير يحسن مع الفصل، كما حكي من قولهم: حضر القاضي اليوم امرأة. فإذا جاء التذكير في الحقيقي مع الفصل فغيره أجدر بذلك. فأما ما قاله أحمد بن يحيى: من أن التذكير أجود لقول ابن مسعود: «ذكّروا القرآن» فإنّ قول ابن مسعود لا يخلو من أن يريد به التذكير الذي هو خلاف التأنيث، أو يريد به معنى غير ذلك. فإن أراد به خلاف التأنيث، فليس يخلو من أن يريد: ذكّروا فيه التأنيث الذي هو غير حقيقي، أو التأنيث الذي هو حقيقي، فلا يجوز أن يريد التأنيث الذي هو غير حقيقيّ لأن ذلك قد جاء منه في القرآن ما يكاد لا يحصى كثرة، كقوله: وللدّار الآخرة [الأنعام/ 32] وكقوله: النّار وعدها اللّه [الحج/ 72] وقوله: والتفّت السّاق بالسّاق [القيامة/ 29] و: قالت رسلهم [إبراهيم/ 10] و: كأنّهم أعجاز نخلٍ خاويةٍ [الحاقة/ 7] والنّخل باسقاتٍ [ق/ 10] وشجرةً تخرج من طور سيناء [المؤمنون/ 20] ينشئ السّحاب الثّقال [الرعد/ 12].
فإذا ثبت هذا النحو في القرآن على الكثرة التي تراها، لم يجز أن يريد هذا. وإذا لم يجز أن يريد ذلك، كان إرادته به
[الحجة للقراء السبعة: 2/53]
التأنيث الحقيقيّ أبعد، كقوله: إذ قالت امرأت عمران [آل عمران/ 35] وقوله: ومريم ابنت عمران الّتي أحصنت [التحريم/ 12] وكانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما [التحريم/ 10] وقالت لأخته قصّيه فبصرت به عن جنبٍ [القصص/ 11].
فإن قلت: إنّما يريد: إذا احتمل الشيء التأنيث والتذكير، فاستعملوا التذكير وغلّبوه. قيل: هذا أيضا لا يستقيم، ألا ترى أن فيما تلونا: والنّخل باسقاتٍ وكأنّهم أعجاز نخلٍ خاويةٍ فأنّث مع جواز التذكير فيه، يدلك على ذلك قوله في الأخرى: أعجاز نخلٍ منقعرٍ [القمر/ 20] وقوله: من الشّجر الأخضر ناراً [يس/ 80] ولم يقل: الخضر ولا الخضراء، وقوله: السّحاب الثّقال ولم يقل: الثقيل، كما قال: منقعرٍ. فهذه المواضع يعلم منها أنّ ما ذكرت ليس بمراد ولا بمذهب. فإذا لا يصحّ أن يريد بقوله: «ذكّروا القرآن». التذكير الذي هو خلاف التأنيث، وإذا لم يرد ذلك، كان معنى غيره. فممّا يجوز أن يصرف إليه قول ابن مسعود، أنه يريد به الموعظة والدعاء إليه، كما قال: فذكر بالقرآن من يخاف وعيدى [ق/ 45] إلا أنّه حذف الجار، وإن كان قد ثبت في الآية، وفي قوله: وذكّرهم بأيّام اللّه [إبراهيم/ 5] على القياس الذي ينبغي أن يكون عليه، ألا ترى أنك تقول:
ذكر زيد العذاب والنار. فإذا ضعّفت العين، قلت: ذكّرت زيدا
[الحجة للقراء السبعة: 2/54]
العذاب، وذكّرته النار. فإذا ألحقت الجارّ كان كقوله: ولا تلقوا بأيديكم إلى التّهلكة [البقرة/ 195] وإذا حذف كان كقوله: وألقى في الأرض رواسي [النحل/ 15] فمما جاء بغير الجار قولها:
يذكّرني طلوع الشّمس صخرا... وأذكره لكلّ غروب شمس
ومما يدل على صحة ما ذكرنا من أن الأصل أن لا يلحق الجار، أن النسيان الذي هو خلاف الذكر، لمّا نقل بالهمزة التي هي في حكم تضعيف العين، لم تلحق الباء المفعول الثاني، وذلك قوله: وما أنسانيه إلّا الشّيطان أن أذكره [الكهف/ 62] ويمكن أن يكون معنى قوله: «ذكّروا القرآن» أي: لا تجحدوه ولا تنكروه، كما أنكره من قال فيه:
أساطير الأوّلين [النحل/ 24] لإطلاقهم عليه لفظ التأنيث، فهؤلاء لم يذكّروه، لكنّهم أنّثوه بإطلاقهم التأنيث على ما كان مؤنث اللفظ، كقوله: إن يدعون من دونه إلّا إناثاً [النساء/ 117] فإناث جمع أنثى، وإنما يعني به ما اتخذوه آلهة، كقوله: أفرأيتم اللّات والعزّى. ومناة الثّالثة الأخرى [النجم/ 19، 20]. وقال العجّاج في صفة المنجنيق:
أورد حذّا تسبق الأبصارا وكلّ أنثى حملت أحجارا
[الحجة للقراء السبعة: 2/55]
فسمّاها أنثى، لتأنيثهم للفظها، وكذلك قول الفرزدق:
وكنّا إذا الجبّار صعّر خدّه... ضربناه تحت الأنثيين على الكرد
والأنثيان يريد بهما: الأذنين، وهذا النحو كثير في كلامهم). [الحجة للقراء السبعة: 2/56]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({ولا يقبل منها شفاعة}
قرأ ابن كثير وأبو عمرو ولا تقبل منها بالتّاء وقرأ الباقون بالياء من قرأ بالتّاء فلتأنيث الشّفاعة وسقط السّؤال فصار كقوله {وأخذت الّذين ظلموا الصّيحة}
وحجّة من قرأ بالياء هي أن تأنيث الشّفاعة ليست حقيقيّة فلك في لفظه في الفعل التّذكير والتأنيث تقول قد قبل منك الشّفاعة وقبلت منك وكذلك {فمن جاءه موعظة} لأن معنى موعظة ووعظ وشفاعة وتشفع واحد فلذلك جاز التّذكير والتأنيث على اللّفظ والمعنى
[حجة القراءات: 95]
وحجّة أخرى لما فصل بين اسم المؤنّث وفعله بفاصل ذكر الفعل لأن الفاصل صار كالعوض منه ومثله {لئلّا يكون للنّاس عليكم حجّة} ). [حجة القراءات: 96]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (23- قوله: «ولا يُقبل» قرأه ابن كثير وأبو عمرو بالتاء، وقرأه الباقون بالياء.
وعلة من قرأه بالتاء أنه أتت لتأنيث لفظ الشفاعة، فهو ظاهر التلاوة، وبه قرأ الأعرج وابن محيصن وأهل مكة، وهو الأصل.
24- وعلة من قرأه بالياء أنه ذكر لأربع علل: الأولى أنه لما فرّق بين المؤنث وفعله، قام التفريق مقام التأنيث، وحسن التذكير، والثانية أنه لما كان تأنيث الشفاعة غير حقيقي، إذ لا ذكر لهما من لفظها ذكر؛ لأن التذكير هو الأصل، والتأنيث داخل عليه أبدًا، والثالثة أنه لما كان الشفاعة والشفيع بمعنى واحد، حمل التذكير على الشفيع، والرابعة أن ابن مسعود وابن عباس قالا: إذا اختلفتم في الياء والتاء فاجعلوها ياء، وذكر أبو عبيد عن ابن مسعود أنه قال: ذكروا القرآن، وإذا اختلفتم في الياء والتاء فاجعلوها ياء، فإنه أكثر ما جاء في القرآن، وإذا اختلفتم في الياء والتاء من القراء، قال الله جل ذكره: {قد كان لكم آية} «آل عمران 13» وقال:
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/238]
{قد جاءكم بينة} «الأنعام 153» وقال: {وأخذ الذين ظلموا الصيحة} «هود 67» وقال: {لولا أن تداركه نعمة} «القلم 49» وهو كثير، أتى على التذكير إجماع، فكان حمل هذا على ما أجمعوا عليه أولى، ويقوى التذكير إجماع القراء على تذكير الفعل مع ملاصقته للمؤنث في قوله: {وقال نسوة} «يوسف 30» وقوله: {وإن كان طائفة} «الأعراف 87» فإذا جاء التذكير بغير حائل فهو مع الحائل أجود وأقوى، والاختيار الياء، لما ذكرنا من العلة، ولأن به قرأ أكثر القراء، وذلك حجة، وكل ما وقع مثل هذا في التأنيث والتذكير أقول: علته كعلة {ولا يقبل}، فيستغنى عن إعادة هذه العلل وتكريرها، فاعلم ذلك). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/239]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (18- {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} [آية/ 48]:-
بالتاء، قرأها ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب.
لأن الشفاعة مؤنثة لمكان التاء، فينبغي أن يكون في الفعل المسند إليها علامة التأنيث؛ لتكون العلامة مؤذنة بأن الفاعل مؤنث، وهذا هو القياس في جميع الكلام.
وقرأ الباقون {يُقْبَلُ} بالياء.
ووجه ذلك أن تأنيث الشفاعة ليس بحقيقي؛ لأنها مصدر، فهي بمنزلة
[الموضح: 273]
التشفع كالموعظة في قوله تعالى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ} إذ هي في معنى الوعظ، وكالصيحة في قوله تعالى: {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} إذ هي في معنى الصوت.
ثم إنه فصل بين الشفاعة وبين فعلها بقوله {مِنْها} فازداد التذكير حسنًا، إذ جاء التذكير مع الفصل في الحقيقي نحو: حضر القاضي اليوم امرأة، فلأن يجيء في غير الحقيق أولى). [الموضح: 274]


روابط مهمة:
- أقوال المفسرين

جمهرة علوم القرآن 26 محرم 1440هـ/6-10-2018م 11:42 AM

سورة البقرة
[من الآية (49) إلى الآية (53) ]
{وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50) وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) وَإِذْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53)}

قوله تعالى: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)}
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة ابن محيصن: [يَذْبَحُونَ أَبْنَاءَكُمْ].
قال أبو الفتح: وجه ذلك أن فعَلت بالتخفيف قد يكون فيه معنى التكثير؛ وذلك لدلالة الفعل على مصدره، والمصدر اسم الجنس، وحسبك بالجنس سَعَة وعمومًا، ألا ترى إلى قول عبد الرحمن بن حسان:
وكنتَ أذلَّ من وتِد بقاعٍ ... يشجِّجُ رأسه بالفِهْرِاوجِي
ولم يقل: مُوجِّئ، فكأنه قال: يشجج رأسه بالفهر شاج؛ لأن واجئ فاعل كشاج. وأنشد أبو الحسن:
أنت الفداء لقِبْلَة هدَّمتَها ... ونقرتَها بيديك كلَّ مُنَقَّر
[المحتسب: 1/81]
كأنه قال: ونقرتها؛ لأن قوله: كل منقَّر عليه جاء، وبعده قوله:
فطار كل مطير
فهذا على أنه كأنه قال: فطَيَّرَ كُلَّ مُطَيَّر، ولما في الفعل من معنى المصدر الدال على الجنس ما لم يجز تثنيته ولا جمعه؛ لاستحالة كل واحد من التثنية والجمع في الجنس.
فأما التثنية والجمع في نحو قولك: قمت قيامين، وانطلقت انطلاقين، وعند القوم أفهام، وعليهم أشغال. فلم يُثَن شيء من ذلك، ولا يُجمع ولم يرد وهو مُرادٌ به الجنس؛ ولكن المراد به النوع. وقد شرحنا ذلك في غير موضع من كتبنا، وما خرج من التعليق عنا). [المحتسب: 1/82]

قوله تعالى: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50)}
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة الزهري أيضًا: [وَإِذْ فَرَّقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ] مشددة.
قال أبو الفتح: معنى [فرَّقنا] أي: جعلناه فِرَقًا، ومعنى {فرَقنا}: شققنا بكم البحر، وفرَّقنا أشد تبعيضًا من فرَقنا، وقوله تعالى: {فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} يحتمل أن يكون فرقين، ويحتمل أن يكون أفراقًا؛ ألا ترى أنك تقول: قسمت الثوب قسمين، فكان كل قسم واحد منهما عشرين ذراعًا، كما تقول ذلك وهو جماعة أقسام.
ومن ذلك فرَقتُ شعره أي: جعلته فرقين، وفرَّقت شعره أي: جعلته فِرَقًا، وجاز هنا لفظ الجمع؛ لأن كل رجل منهم قد خرق من البحر وفَرَق خَرْقًا وفِرْقًا.
وقد يكون أيضًا في فرَقنا مخففة معنى فرَّقنا مشددة على ما مضى آنفًا في: [يَذْبَحُونَ أَبْنَاءَكُمْ] ). [المحتسب: 1/82]

قوله تعالى: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (وإذ واعدنا موسى أربعين ليلةً)
[معاني القراءات وعللها: 1/149]
قال أبو عمرو ويعقوب: (وإذ وعدنا)، وكذلك قوله: (ووعدنا موسى ثلاثين ليلة) و(وعدناكم) بغير ألف.
وقرأ سائر القراء: (وواعدناكم) بألف.
قال أبو منصور: من قرأ (وعدنا) بغير ألف فإنما اختار وعدنا لأن المواعدة إنما تكون بين الآدميين، واستدل بقوله تعالى: (إنّ اللّه وعدكم وعد الحقّ)، وهذا يشبه بعضه بعضا.
ومن قرأ (واعدنا) و(واعدناكم) فحجته أن الطاعة في القبول بمنزلة المواعدة، فهو من الله وعدٌ، ومن موسى قبول واتباع، فجرى مجرى المواعدة). [معاني القراءات وعللها: 1/150]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في إلحاق الألف وإخراجها من قوله تعالى: وإذ وعدنا [البقرة/ 51] ووعدناكم [طه/ 80] فقرأ أبو عمرو وحده ذلك كلّه بغير ألف، وقرأ الباقون ذلك كلّه بالألف.
قال أبو علي: قالوا: وعدته، أعده، وعدا، وعدة، وموعدا وموعدة. قال: إلّا عن موعدةٍ وعدها إيّاه [التوبة/ 114] وجاء وعد في الخير والشر. قال: وعد اللّه الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات [المائدة/ 9] وقال: ألم يعدكم ربّكم وعداً حسناً [طه/ 86] فتقول على هذا: وعدته خيرا.
وقال: النّار وعدها اللّه الّذين كفروا [الحج/ 72] فتقول على هذا: وعدته شرّا. وقال: وجعلنا لمهلكهم موعداً [الكهف/ 59]
[الحجة للقراء السبعة: 2/56]
فالموعد: مصدر وعد، وهو في الإهلاك.
فأما الإيعاد فإنه يكون في التهديد، قال:
أوعدني بالسّجن والأداهم وقال:
وموعدنا بالقتل يحسب أنّه... سيخرج منّا القتل ما القتل مانع
والوعيد: نحو من الإيعاد في أنه تهديد بشرّ، قال:
ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيدي [إبراهيم/ 14] وقال فذكر بالقرآن من يخاف وعيدي [ق/ 45] وقال أحمد بن يحيى: أوعدته، وتسكت. أو تجيء بالباء: أوعدته بشرّ، ولا تقول: أوعدته الشرّ.
قال أبو علي: ولا يمتنع في نحو هذا في القياس أن يحذف الحرف فيصل الفعل، ويدلّ على ذلك ما قدمناه. من قوله: أوعدني بالسجن، فأما الميعاد في قوله: إنّ اللّه لا يخلف الميعاد [آل عمران/ 9] فإن هذا البناء قد جاء في
[الحجة للقراء السبعة: 2/57]
الأسماء والصفات، فالاسم نحو: المصباح والمفتاح. والصفة نحو: المطعان، والمطعام. والميعاد: اسم، كما أن الميقات كذلك، وليس يخلو من أن يكون من أوعد، أو وعد. فإن كان من أوعد، فإن أوعد تختصّ بالتهديد. وإن كان من وعد في التهديد وخلافه كما تقدم ذكره، فلا إخلاف للميعاد، وقد أوقع على الإخلاف الكذب. أنشد أبو عبيدة:
أتوعدني وراء بني رياح... كذبت لتقصرنّ يداك دوني
فإن قلت: إن التكذيب واقع في الاستفهام، والاستفهام لا يحتمل الصدق ولا الكذب. فإن هذا الاستفهام تقرير والتّقرير عندهم مثل الخبر، ألا ترى أنهم لم يجيبوه بالفاء كما لم يجيبوا الخبر، وقد قال: لا تختصموا لديّ وقد قدّمت إليكم بالوعيد. ما يبدّل القول لديّ وما أنا بظلّامٍ للعبيد [ق/ 28، 29] وأما الموعود فصفة قال:
لعلّك والموعود حق لقاؤه... بدا لك في تلك القلوص بداء
التقدير: الأمر الموعود حق لقاؤه.
[الحجة للقراء السبعة: 2/58]
ومن جوّز مجيء المصدر على مفعول، جاز عنده أن يكون الموعود مثل الوعد. وقولهم: وعدت: فعل يتعدى إلى مفعولين يجوز فيه الاقتصار على أحدهما كأعطيت، وليس كظننت، قال: وواعدناكم جانب الطّور الأيمن [طه/ 80] فجانب مفعول ثان، ولا يكون ظرفا لاختصاصه، والتقدير:
وعدناكم إتيانه، أو مكثا فيه، وكذلك قول الشاعر:
فواعديه سرحتي مالك إنما هو: واعديه إتيانهما أو مكثا عندهما، أو نحو ذلك من الأحداث التي يقع الوعد عليها دون الأعيان، فأما قوله:
وعدكم اللّه مغانم كثيرةً تأخذونها [الفتح/ 20] فإن المغنم يكون الغنم كما أنّ المغرم يكون الغرم في قوله: فهم من مغرمٍ مثقلون [ن/ 46] فإن قلت فقد قال: تأخذونها والغنم الذي هو حدث لا يؤخذ، إنما يقع الأخذ على الأعيان دون المعاني. فالقول: إنه قد يجوز أن يكون المغنوم الذي هو العين، سمي باسم المصدر مثل الخلق والمخلوق، ونحو ذلك. وأنشد أحمد بن يحيى:
[الحجة للقراء السبعة: 2/59]
ضوامن ما جار الدّليل ضحى غد... من البعد ما يضمن فهو أداء
أي: مؤدّى أو ذو أداء. وجمعك للمغانم، وهو مصدر، إنما هو كالمذاهب والمجاري، ونحو ذلك من المصادر المجموعة، فإذا كان كذلك وجب أن تقدّر مضافا محذوفا، كأنه: وعدكم الله تمليك مغانم أو إيراثها، وكذلك لو جعلت المغنم اسما للأعيان المغنومة كالأموال والأرضين. فأما قوله: وعد اللّه الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات لهم مغفرةٌ [المائدة/ 9] وقوله: وعد اللّه الّذين آمنوا ثم قال: ليستخلفنّهم [النور/ 55] فإن الفعل لم يعدّ فيه إلى مفعول ثان وقوله: لهم مغفرةٌ وليستخلفنّهم تفسير للوعد وتبيين له، كما أنّ قوله للذّكر مثل حظّ الأنثيين [النساء/ 11] تفسير للوصية في قوله:
يوصيكم اللّه في أولادكم [النساء/ 11].
وأما قوله: ألم يعدكم ربّكم وعداً حسناً [طه/ 86] وقوله: إنّ اللّه وعدكم وعد الحقّ [إبراهيم/ 22] فإنّ هذا ونحوه يحتمل أمرين: يجوز أن يكون انتصاب الوعد بالمصدر.
ويجوز أن يكون انتصابه بأنّه المفعول الثاني. وسمّي الموعود به الوعد، كما سمّي المخلوق بالخلق، فإذا حملته على هذا فينبغي أن تقدر حذف المضاف، ويؤكّد الوجه الأول قوله:
[الحجة للقراء السبعة: 2/60]
ألم يعدكم ربّكم وعداً حسناً [طه/ 86].
وأما قوله: وإذ يعدكم اللّه إحدى الطّائفتين أنّها لكم [الأنفال/ 7] فإن إحدى الطائفتين في موضع نصب بأنه المفعول الثاني، وأنها لكم: بدل منه، والتقدير: وإذ يعدكم الله ثبات إحدى الطّائفتين أو ملك إحدى الطائفتين. ونحو هذا مما يدل عليه (لكم) ألا ترى أنّ (أنّ) وما بعدها في تأويل المصدر، والطائفتان: العير والنفير.
وأما قوله: أيعدكم أنّكم إذا متّم وكنتم تراباً الآية [المؤمنون 35] فمن قدر في أن الثانية البدل. فإنه ينبغي أن يقدر محذوفا ليتم بذلك الكلام، فيصح البدل، فيكون التقدير عنده: أيعدكم أن إخراجكم إذا متم، ليكون اسم الزمان خبرا عن الحدث المراد، إذ لا يصح أن يكون خبرا عن المخاطبين من حيث كانوا أعيانا، فيكون أنّكم الثانية بدلا من الأولى.
ومن قدّر في الثانية التكرير لم يحتج إلى تقدير محذوف، ومن رفع أنّكم الثانية بالظّرف- كأنه قال: أيعدكم أنكم يوم الجمعة إخراجكم- لم يحتج إلى ذلك أيضا وقد قلنا فيها في مواضع من مسائلنا.
وأما قوله: وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلّا عن موعدةٍ وعدها إيّاه [التوبة/ 114] فالجملة في موضع جرّ لأنها صفة للنكرة وقد عاد الذكر منها إلى الموصوف، والفعل متعدّ إلى مفعول واحد ألا ترى أن الذكر يعود إلى المصدر، وقد قال
[الحجة للقراء السبعة: 2/61]
إبراهيم لأبيه: سأستغفر لك ربّي [مريم/ 47]، وقال واغفر لأبي إنّه كان من الضّالّين [الشعراء/ 86] وقال: ربّنا اغفر لي ولوالديّ [إبراهيم/ 41] وقال: قد كانت لكم أسوةٌ حسنةٌ في إبراهيم والّذين معه إذ قالوا لقومهم إنّا برآؤا منكم وممّا تعبدون من دون اللّه إلى قوله إلّا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرنّ لك [الممتحنة/ 4].
والمعنى: لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة في تبرّئهم من كفار قومهم، وإن كانوا ذوي أنساب منهم وأرحام، فتأسّوا بهم في ذلك، ألا تراه قال: لا تجد قوماً يؤمنون باللّه واليوم الآخر يوادّون من حادّ اللّه ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم [المجادلة/ 22] وقال: لا يتّخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين [آل عمران/ 28] وقال: ومن يتولّهم منكم فإنّه منهم [المائدة/ 51] فالمعنى: تأسّوا بإبراهيم وبقومه في معاداتهم لأنسبائهم وذوي قرابتهم، وترك موالاتهم لهم لمخالفتهم إياهم في دينهم وكفرهم.
فأما استغفار إبراهيم لأبيه مع أنه كان مخالفا له في التوحيد، فلا ينبغي لكم أن تستغفروا لمن كفر من آبائكم كما استغفر، لأن الاستغفار كان منه بشرط وعلى تقييد، فلا تطلقوا أنتم ذلك لمن خالفكم في توحيد الله، فإنّ استغفاره لأبيه كان مقيّدا، وإن كان قد جاء مطلقا في بعض المواضع،
[الحجة للقراء السبعة: 2/62]
فإنه إنما كان من إبراهيم على التقييد الذي جاء في مواضعه.
وقال: وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أنّ وعد اللّه حقٌّ وأنّ السّاعة لا ريب فيها [الكهف/ 21] فالمعنى فيه، وفي قوله: وإذا قيل إنّ وعد اللّه حقٌّ والسّاعة لا ريب فيها [الجاثية/ 32]: أنّ وعد الله بالبعث حق في نحو قوله: قل بلى وربّي لتبعثنّ [التغابن/ 7] فإذا عاينوا ذلك وشاهدوه وجب أن يعلموا: أن الذي وعدوا به من البعث والنشور بعد الموت، مثل الذي عاينوه، فيلزمهم الاعتراف به لمشاهدتهم له وعلمهم إياه من الوجه الذي لا يدخله ارتياب ولا تشكّك، والساعة لا ريب فيها، لأنها إنما هي يوم البعث، وقد علموا البعث والإحياء بعد الموت على ما ذكرناه. ومثل هذه قوله:
فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحي اللّه الموتى [البقرة/ 73] المعنى: فقلنا: اضربوا المقتول ببعض البقرة، فضربوه به فحيي، كذلك يحيي الله الموتى، أي: يحييهم للبعث مثل هذا الإحياء الذي عوين وشوهد، ومثل ذلك، إلّا أنه في النبات قوله: فأخرجنا به من كلّ الثّمرات كذلك نخرج الموتى [الأعراف/ 57] وقوله: بل زعمتم ألّن نجعل لكم موعداً [الكهف/ 48] أي: موعدا للبعث، فجحدتم ذلك فقال: إنّ ما توعدون لآتٍ [الأنعام/ 134] وقال: بل لهم موعدٌ لن يجدوا من دونه موئلًا [الكهف/ 58] وقال: واليوم الموعود [البروج/ 2] وقال: كما بدأنا أوّل خلقٍ نعيده وعداً
علينا [الأنبياء/ 104]
[الحجة للقراء السبعة: 2/63]
دل قوله: نعيده على وعد فانتصب الوعد لدلالة الإعادة عليه في قياس قول سيبويه.
فأما قوله: ولكن لا تواعدوهنّ سرًّا [البقرة/ 235] فالمعنى: لا تصرّحوا للمعتدة بلفظ النكاح والتزويج، ولكن عرّضوا به، ولا تصرحوا، وذلك نحو ما حدّثنا أحمد بن محمد البصري: قال: حدثنا المؤمّل بن هشام، قال: حدثنا إسماعيل بن عليّة عن ليث عن مجاهد في قوله: ولا جناح عليكم فيما عرّضتم به من خطبة النّساء [البقرة/ 235] قال: يقول: إنك لجميلة، وإنّك لنافقة، وإنك إلى خير. وقوله: إلّا أن تقولوا قولًا معروفاً [البقرة/ 235] أي: معروفا منه الفحوى، والمعنى دون التصريح ويكون: إلّا أن تقولوا قولًا معروفاً فتعرّضوا بذلك، لأن التصريح به مزجور عنه، فهو منكر غير معروف.
فأما قوله: وإذ وعدنا موسى أربعين ليلة [البقرة/ 51] فليس يخلو تعلّق الأربعين بالوعد من أن يكون على أنه ظرف أو مفعول ثان، فلا يجوز أن يكون ظرفا، لأن الوعد ليس فيها كلها، فيكون جواب كم، ولا في بعضها، فيكون كما يكون جوابا لمتى، وإنما الموعد تقضّي الأربعين، فإذا لم يكن ظرفا، كان انتصابه بوقوعه موقع المفعول الثاني.
والتقدير: وعدنا موسى انقضاء أربعين ليلة، أو: تتمة
[الحجة للقراء السبعة: 2/64]
أربعين ليلة، فحذفت المضاف، كما تقول: اليوم خمسة عشر من الشهر، أي: تمامه، وفسّر أن الأربعين: ذو القعدة، وعشر من ذي الحجّة.
ومثل ذلك في المعنى قوله: وواعدنا موسى ثلاثين ليلةً [الأعراف/ 142] أي: انقضاء ثلاثين وأتممناها بعشرٍ فتمّ ميقات ربّه أربعين ليلةً [الأعراف/ 142] فالميقات هو الأربعون، وإنما هو ميقات وموعد، لما روي من أن القديم سبحانه وعده أن يكلّمه على الطور. فأما انتصاب الأربعين في قوله: فتمّ ميقات ربّه أربعين ليلةً [الأعراف/ 142] فكقولك: تم القوم عشرين رجلا، والمعنى: تم القوم معدودين هذا العدد، وتم الميقات معدودا هذا العدد وقد جاء الميقات في موضع الميعاد، كما جاء الوقت في موضع الوعد في قوله: إلى يوم الوقت المعلوم [الحجر/ 38] ومما يبين تقاربهما قوله: فتمّ ميقات ربّه أربعين ليلةً [الأعراف/ 142] ولمّا جاء موسى لميقاتنا [الأعراف/ 143] وفي الأخرى وإذ وعدنا موسى أربعين ليلة [البقرة/ 51] وقال: واليوم الموعود [البروج/ 2] وقال: إلى يوم الوقت المعلوم [الحجر/ 38] وقال: إلى ميقات يومٍ معلومٍ [الواقعة/ 50].
فإن قلت: لم لا يكون الوقت في قوله: إلى يوم الوقت الوقت الذي يراد به الزمان، كقولك: هذا وقت قدوم الحاج، تريد به: الأوان الذي يقدمون فيه؟
[الحجة للقراء السبعة: 2/65]
فإنّ ذلك يبعد. ألا ترى أن اليوم لا يخلو من أن تريد به وضح النهار، أو البرهة من الزمان، ولو قلت: برهة الزمان أو يوم الزمان، لم يكن ذلك بالسهل. وليس هذا كقوله:
ولولا يوم يوم..
ولا كقوله:
حين لا حين محنّ وأنت تريد به حين حين، لأن إضافة الاسمين هنا كإضافة البعض إلى الكل.
الحجة لمن قرأ: واعدنا [البقرة/ 51] أن يقول:
قد ثبت أن الله تعالى قد كان منه وعد لموسى، ولا يخلو موسى من أن يكون قد كان منه وعد، أو لم يكن. فإن كان منه وعد، فلا إشكال في وجوب القراءة بواعدنا. وإن لم يكن منه وعد، فإنّ ما كان منه من قبول الوعد والتّحرّي لإنجازه، والوفاء به، يقوم مقام الوعد، ويجري مجراه، فإذا كان كذلك كان بمنزلة الوعد، وإذا كان مثله، وفي حكمه، حسن القراءة بواعدنا، لثبات التواعد من الفاعلين، كما قال:
ولكن لا تواعدوهنّ [البقرة/ 235] لمّا كان الوعد من
[الحجة للقراء السبعة: 2/66]
الخاطب والمخطوبة. ومما يؤكد حسن القراءة بواعدنا، أنّ «فاعل» قد يجيء من فعل الواحد نحو: عافاه الله، وطارقت النعل، وعاقبت اللصّ. فإن كان الوعد من الله سبحانه، ولم يكن من موسى كان من هذا الباب. وإن كان من موسى موعد، كان الفعل من فاعلين، فإذا كان منهما لم يكن نظر في حسن واعدنا.
وحجة من قرأ وعدنا بلا ألف قوله: وعد اللّه الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات لهم مغفرةٌ [المائدة/ 9] وعد اللّه الّذين آمنوا منكم وعملوا الصّالحات ليستخلفنّهم [النور/ 55] وقال: ألم يعدكم ربّكم وعداً حسناً [طه/ 86] وإذ يعدكم اللّه إحدى الطّائفتين [الأنفال/ 7] إنّ اللّه وعدكم وعد الحقّ [إبراهيم/ 22] وعدكم اللّه مغانم كثيرةً تأخذونها [الفتح/ 20].
فكلّ هذا وعد من الله عباده، وهو على «فعل» دون «فاعل». فكذلك الموضع المختلف فيه، ينبغي أن يحمل على المتفق عليه، وعلى ما كثر في التنزيل من لفظ وعد دون واعد في هذا الموضع.
واختلفوا في قوله تعالى: اتّخذتم [البقرة/ 51] وأخذتم [آل عمران/ 81] ولاتّخذت [الكهف/ 77].
[الحجة للقراء السبعة: 2/67]
فأظهر الذّال في ذلك كلّه ابن كثير وعاصم في رواية حفص، وأدغمها الباقون وأبو بكر بن عياش عن عاصم أيضا معهم.
قال أبو زيد: تقول: اتخذنا مالا، فنحن نتّخذه اتّخاذا، وتخذت اتخذ تخذا.
قال أبو علي: اتّخذ: افتعل، وفعلت منه: تخذت، قال:
لو شئت لاتّخذت عليه أجراً [الكهف/ 77] وقال:
وقد تخذت رجلي إلى جنب غرزها... نسيفا كأفحوص القطاة المطرّق
ولم أعلم تخذت تعدّى إلا إلى مفعول واحد، فأما اتّخذت فإنه في التعدي على ضربين: أحدهما: أن يتعدى إلى مفعول واحد. والآخر: أن يتعدى إلى مفعولين.
فأمّا تعدّيه إلى مفعول واحد فنحو قوله: يا ليتني اتّخذت مع الرّسول سبيلًا [الفرقان/ 27] وأم اتّخذ ممّا يخلق بناتٍ [الزخرف/ 16] واتّخذوا من دون اللّه آلهةً [طه/ 82] لو أردنا أن نتّخذ لهواً لاتّخذناه من لدنّا [الأنبياء/ 17].
[الحجة للقراء السبعة: 2/68]
وأمّا ما تعدّى إلى مفعولين، فإن الثاني منهما الأول في المعنى قال: اتّخذوا أيمانهم جنّةً [المجادلة/ 16].
وقال: لا تتّخذوا عدوّي وعدوّكم أولياء [الممتحنة/ 1] فاتّخذتموهم سخريًّا [المؤمنون/ 110].
فأمّا قوله: واتّخذوا من مقام إبراهيم مصلًّى [البقرة/ 125] فإن من أجاز زيادة (من) في الإيجاب، جاز على قوله أن يكون قد تعدى إلى مفعولين، ومن لم يجز ذلك، كان عنده متعديا إلى مفعول واحد.
ونظير اتّخذ فيما ذكرناه من تعديه إلى مفعول واحد مرة، وأخرى إلى مفعولين الثاني منهما الأول في المعنى: «جعلت» قال: وجعل الظّلمات والنّور [الأنعام/ 1] أي: خلقهما.
فإذا تعدى إلى مفعولين كان الثاني الأول في المعنى، كقوله: واجعلوا بيوتكم قبلةً [يونس/ 87] وجعلناهم أئمّةً يدعون إلى النّار [القصص/ 41] وجعلنا منهم أئمّةً يهدون بأمرنا [السجدة/ 24].
فعلى الخلاف الذي تقدم ذكره: وجعلوا الملائكة الّذين هم عباد الرّحمن إناثاً [الزخرف/ 19].
فأمّا قوله: ثمّ اتّخذتم العجل من بعده [البقرة/ 51].
وقوله: باتّخاذكم العجل [البقرة/ 54]، اتّخذوه وكانوا ظالمين [الأعراف/ 148] واتّخذ قوم موسى من بعده من حليّهم عجلًا [الأعراف/ 148]. فالتقدير في ذلك كله:
[الحجة للقراء السبعة: 2/69]
اتخذوه إلها، فحذف المفعول الثاني، الدليل على ذلك: أن الكلام لا يخلو من أن يكون على ظاهره كقوله: كمثل العنكبوت اتّخذت بيتاً [العنكبوت/ 41] وقوله:
متّخذا من عضوات تولجا أو يكون على إرادة المفعول، فلا يجوز أن يكون على ظاهره دون إرادة المفعول الثاني لقوله: إنّ الّذين اتّخذوا العجل سينالهم غضبٌ من ربّهم وذلّةٌ في الحياة الدّنيا [الأعراف/ 152]، ومن صاغ عجلا، أو نجره، أو عمله بضرب من الأعمال، لم يستحقّ الغضب من الله، والوعيد عند المسلمين. فإذا كان كذلك علم أنه على ما وصفنا من إرادة المفعول الثاني المحذوف في هذه الآي.
فإن قال قائل:
فقد جاء في الحديث: «يعذّب المصوّرون يوم القيامة»
وفي بعض الحديث: «فيقال لهم: أحيوا ما خلقتم».
[الحجة للقراء السبعة: 2/70]
قيل: «يعذّب المصورون» يكون على من صوّر الله تصوير الأجسام. وأما الزيادة فمن أخبار الآحاد التي لا توجب العلم، فلا يقدح لذلك في الإجماع على ما ذكرنا.
ومن زعم أنّ «تخذت» أصله من: أخذت، لم يكن هذا القول بمستقيم ولا قريب منه، ولو قلب ذلك عليه لم يجد فصلا، ألا ترى أنّ الهمزة لم تبدل من التاء، ولا التاء أبدلت منها.
فإن قلت: فلم لا يكون اتّخذت: افتعلت، من اخذت، كأنّ الهمزة لمّا أبدلت منها التاء لالتقائها مع همزة الوصل، أدغمت في التاء الزائدة كما أبدلوا في قولهم اتّسروا الجزور وإنما هو من اليسر ؟
فالقول: إنّ ما ذكرته من الإبدال لا يجوز في قياس قول أصحابنا، والذين أجازوا من ذلك شيئا لا ينبغي أن يجوز ذلك على قولهم، لاختلاف معنى الحرفين وقد قدمنا ذكر ذلك في ذكر قوله: الّذين يؤمنون بالغيب [البقرة/ 3].
[الحجة للقراء السبعة: 2/71]
فأما «أخذتم» فإن الأخذ قد استعمل منه فعل وفاعل وفعّل واستفعل:
فأما فعل منه فيتصرّف على ضروب:
منها: أنه يوجب الضّمان على المعترف به، كما يوجبه غصبت، يدلّ على ذلك ما أنشده أبو زيد:
أخذن اغتصابا خطبة عجرفيّة... وأمهرن أرماحا من الخطّ ذبّلا
فالقول في أخذن اغتصابا على ضربين: أحدهما: أن أخذن بمنزلة غصبن، فانتصب اغتصابا بعده، كما ينتصب باغتصبن، والآخر: أنه ينتصب بما يدل عليه أخذن من الاغتصاب، وما يدل على الغصب بمنزلته، وفي حكمه.
ومنها: أن يدل على العقاب، كقوله: وكذلك أخذ ربّك إذا أخذ القرى وهي ظالمةٌ، إنّ أخذه أليمٌ شديدٌ [هود/ 103] فأخذناهم بالبأساء والضّرّاء [الأنعام/ 42] وأخذ الّذين ظلموا الصّيحة [هود/ 67] وأخذنا الّذين ظلموا بعذابٍ بئيسٍ [الأعراف/ 165] فأخذناهم أخذ عزيزٍ مقتدرٍ [القمر/ 42].
[الحجة للقراء السبعة: 2/72]
ومنها: أن يستعمل للمقاربة، قالوا: أخذ يقول، كما قالوا: جعل يقول، وكرب يقول، [وطفق يفعل].
ومنها: أن يتلقّى بما يتلقّى به القسم، نحو قوله: وإذ أخذ اللّه ميثاق الّذين أوتوا الكتاب لتبيّننّه للنّاس [آل عمران/ 187]، وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم [البقرة/ 84].
ومن ذلك قوله: خذوا ما آتيناكم بقوّةٍ [البقرة/ 93] فليس معنى هذا: تناولوه، كما تقول: خذ هذا الثوب، ولكن معناه:
اعملوا بما أمرتم فيه، وانتهوا عمّا نهيتم عنه فيه بجدّ واجتهاد.
ومثل أخذ في ما ذكرنا من معنى العقاب: «آخذ». قال:
لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجّل لهم العذاب، [الكهف/ 58] ولو يؤاخذ اللّه النّاس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابّةٍ [فاطر/ 45] لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا [البقرة/ 286] لا يؤاخذكم اللّه باللّغو [البقرة/ 225].
وقال أبو زيد: إنّ الحمّى لتخاوذ فلانا. إذا كانت تأخذه في الأيام، وفلان يخاوذ فلانا بالزيارة: إذا كان يتعهّده بالزيارة في الأيام. والقول في ذلك: إنه ليس من الأخذ على القلب، ولو كان منه لكان يخائذ إذا حقّقت، فإذا خفّفت قلت يخايذ، فتجعلها بين بين، فإذا كانت من الواو، لم يكن منه.
إلا أن أخذ قد جاء فيه لغتان في الفاء: الواو والهمزة، كما
[الحجة للقراء السبعة: 2/73]
جاء أكدت ووكّدت، وأوصدت وآصدت. وحكى أبو زيد في هذا الكتاب أيضا: وهو نابه ونبيه، أوسد فلان كلبه على الصيد يوسده إيسادا، وقد آسده إذا أغراه. فكذلك يكون يخاوذ، كأنه قلبه عن وخذ، فثبتت الواو التي هي فاء في القلب، فصار يخاوذ: يعافل في القلب.
وقال أبو زيد: في المصادر ائتخذنا في القتال، نأتخذ ائتخاذا.
قال أبو علي: فهذا افتعل من الأخذ، ولا يجوز الإدغام في هذا، كما جاز في قولنا: اتخذنا مالا.
وأما فعّل فقالوا: رجل مؤخّذ عن امرأته.
وقال أبو حنيفة في الرجل المؤخّذ عن امرأته: يؤجّل كما يؤجّل العنّين. وللنساء كلام فيما زعموا يسمّينه الأخذ.
وأما استفعل، فقال الأصمعي فيما روى عنه الزّياديّ الاستئخاذ: أشد الرّمد.
وقال الهذليّ:
[الحجة للقراء السبعة: 2/74]
يرمي الغيوب بعينيه ومطرفه... مغض كما كسف المستأخذ الرّمد
كما كسف المستأخذ، أي: عين المستأخذ، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. والرمد: الفاعل.
ويجوز: كما كسف المستأخذ الرّمد، أي: كسف عينه، فحذف المفعول كما يحذف في غير هذا.
وأما حجّة من لم يدغم أخذتم، واتخذتم، فلأن الذّال ليس من مخرج التاء والطاء، والذّال إنما هي من مخرج الظاء والثاء، فتفاوت ما بينهما، إذ كان لكل واحد من هذين القبيلين حيز ومخرج غير مخرج الآخر. وأيضا فإن الذال مجهورة، والتاء مهموسة، والمجهور يقرّب منه المهموس بأن يبدل مجهورا، ألا ترى أنّهم قالوا: في افتعل من الزين والذّكر:
ازدان وادّكر، ومزدان ومدّكر. فلمّا قرّبوا المهموس من المجهور بأن قلبوه إليه، لم يدغم المجهور في المهموس، لأنه تقريب منه، وهذا عكس ما فعل في مزدان، لأنهم في مزدان، إنّما قرّبوا المهموس من المجهور، وأنت إذا أدغمت الذّال في التاء، قرّبت المجهور من المهموس، قال سيبويه: حدثنا من لا نتّهم أنه سمع من يقول: أخذت، فيبيّن.
وحجّة من أدغم: أنّ هذه الحروف لمّا تقاربت، فاجتمعت في أنها من طرف اللسان وأصول الثنايا، قرب كلّ
[الحجة للقراء السبعة: 2/75]
حيّز منها من الحيّز الآخر. ألا ترى أنهم أدغموا الظاء والثاء والذال في الطاء والتاء والدال، وكذلك أدغموهنّ في الظاء، وأختيها في الانفصال، نحو: ابعث داود وأنفذ ثابتا، فإذا أدغمت في الانفصال، كان إدغامها فيما يجري مجرى المتّصل أولى). [الحجة للقراء السبعة: 2/76]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة} 51
قرأ ابو عمرو وإذ وعدنا موسى بغير ألف وكذلك في الأعراف وطه
وحجته أن المواعدة إنّما تكون بين الآدميّين وأما الله جلّ وعز فإنّه المنفرد بالوعد والوعيد ويقوّي هذا قوله {إن الله وعدكم وعد الحق}
وقرأ الباقون وإذ واعدنا بالألف وحجتهم أن المواعدة كانت من الله ومن موسى فكانت من الله أنه واعد موسى لقاءه على الطّور ليكلمه ويكرمه بمناجاته وواعد موسى ربه المصير إلى الطّور لما أمره به ويجوز أن يكون المعنى على إسناد الوعد إلى الله نظير ما تقول طارقت نعلي وسافرت والفعل من واحد على ما تكلّمت به العرب). [حجة القراءات: 96]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (25- قوله: {وإذ واعدنا} قرأ أبو عمرو بغير ألف، ومثله في الأعراف وطه، وقرأه الباقون بألف بعد الواو.
26- وعلة من قرأ بغير ألف إجماعهم على قوله: {ألم يعدكم} «طه 86» ولم يقل «يواعدكم» فالوعد من الله جل وعز وعده لموسى، وأيضًا فإن المفاعلة أكثر ما تكون من اثنين بين البشر، والوعد من الله وحده كان لموسى فهو منفرد بالوعد والوعيد، وعلى ذلك جاء القرآن، قال تعالى ذكره: {وعدكم} «إبراهيم 22»، و{إذ يعدكم} «الأنفال 7»، و{النار وعدها} «الحج 72» و{ألم يعدكم} «طه 86» وأيضًا فإن ظاهر اللفظ فيه وعد من الله لموسى، وليس فيه وعد من موسى فوجب حمله على الواحد بظاهر النص، لأن الفعل مضاف إلى الله وحده، وهو اختيار أبي عبيد، وهي قراءة الحسن وأبي رجاء وأبي جعفر وشيبة وعيسى بن عمر، وبه قرأ قتادة وابن أبي إسحاق، قال أبو حاتم: قراءة العامة عندنا «وعدنا» بغير ألف، وقال: إن المواعدة أكثر ما تكون بين المخلوقين والمتكافئين، كل واحد يعد صاحبه.
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/239]
27- وعلة من قرأ بألف أنه جعل المواعدة من الله ومن موسى، وعد الله موسى لقاءه على الطور ليكلمه ويناجيه، ووعد موسى الله المسير لما أمره به، والمواعدة أصلها من اثنين، وكذلك هي في المعنى، ويجوز أن تكون المواعدة من الله جل ذكره وحده، فقد تأتي المفاعلة من واحد في كلام العرب، قالوا: طارقت النعل، وداويت العليل، وعاقبت اللص، والفعل من واحد، فيكون لفظ المواعدة من الله خاصة لموسى كمعنى «وعدنا» فتكون القراءاتان بمعنى واحد، وليس يبعد أن تكون المواعدة في هذا من اثنين، فيصح «واعدنا»، لأن موسى لابد أن يكون منه وعد لإتيانه ما أمر به، فيكون من باب «واعدنا» أو يكون موسى كان منه قبول الوعد التحري لإنجازه، والوفاء به، فيقوم ذلك منه مقام الوعد، ويجري منه قبول إلى معنى المفاعلة، فتلزم القراءة بالألف في الوجهين جميعًا، وقد قال الله: {ولكن لا تواعدوهن سرًا} «البقرة 235» فأتى بالمواعدة لأن التواعد كان من الخاطب ومن المخطوبة والاختيار «واعدنا» بالألف لأنه بمعنى «وعدنا» في أحد معنييه، ولأنه لابد لموسى من وعد أو قبول، يقوم مقام الوعد، فتصح المفاعلة على الوجهين جميعًا، ولأنه عليه أكثر القراء، وهو اختيار أبي طاهر). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/240]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (19- {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى} [آية/ 51]:-
بالألف، قرأها ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي.
وهو من المواعدة التي تكون من اثنين، إذ كان من الله تعالى لموسى وعد، وكان من موسى عليه السلام قبول له، فجرى ذلك مجرى المواعدة، ويجوز أن يكون من موسى أيضًا وعد بالحضور في الطور أو بالصوم أو بشيءٍ من ذلك، فتصح المواعدة.
ويجوز أن يكون الوعد في {واعدنا} من الله تعالى فحسب، فيكون فاعل من واحدٍ كعاقبت اللص وطارقت النعل.
وقرأ أبو عمرو ويعقوب {وَعَدْنا} بغير ألف.
لأن أكثر ما في القرآن من هذا اللفظ قد جاء على وعد دون واعد نحو: {وَعَدَ الله الَّذِينَ آَمَنُوا} و{أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ} {وَعَدَكُمُ
[الموضح: 274]
الله مَغَانِمَ}، وكل هذا على أن الواعد هو الله تعالى، فإلحاق ذلك أيضًا بما كثر مثله في التنزيل أحرى.
ثم إذا حمل {وَاعَدْنَا} في بعض وجوهِهِ على {وَعَدْنا} فلأن يختار {وَعَدْنَا} الذي هو الأصل المحمول عليه أولى). [الموضح: 275]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (20- {اتَّخَذْتُمُ} [آية/ 51]:-
بإظهار الذال، وكذلك {أَخَذْتُمْ} و{لتّخَذْتَ}، قرأها ابن كثير و- ص- عن عاصم.
ووجه ذلك أن الذال ليس من مخرج التاء، ثم إنها مجهورة، والتاء مهموسة، وهما متباينان، ثم إن المهموس قد يقرب من المجهور بأن يقلب إياه في نحو: ادكر وازدان حيث قلب التاء وهو مهموس دالاً وهو مجهور، فلو كنت تدغم الذال في التاء لكنت قربت المجهور من المهموس، وهذا عكس ما ذكرناه، وإدغام الأقوى صوتًا في الأضعف صوتًا ليس بقياس عندهم.
وقرأ الباقون بالإدغام في ذلك كله في جميع القرآن.
ووجهه أن الحرفين اجتمعا في أنهما جميعًا من طرف اللسان وأصول الثنايا، وحيز أحدهما قريب من حيز الآخر وإن تباينا في المخرج وتخالفا
[الموضح: 275]
في الهمس والجهر، وقد فعلوا مثل هذا الإدغام في: أنقذ ثابتًا، والحرفان منفصلان، فلأن يفعل فيما هو كالمتصل أولى). [الموضح: 276]

قوله تعالى: {ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52)}

قوله تعالى: {وَإِذْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53)}

روابط مهمة:
- أقوال المفسرين

جمهرة علوم القرآن 26 محرم 1440هـ/6-10-2018م 11:43 AM

سورة البقرة
[من الآية (54) إلى الآية (57) ]

{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57) }

قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (فتوبوا إلى بارئكم)
روى اليزيدي عن أبي عمرو (بارئكم) بجزم الهمزة.
وروى عباس عن أبي عمرو أنه قال: قراءتي (بارئكم) مهموزة لا يثقّلها. وقال سيبويه: كان أبو عمرو يختلس الحركة من (بارئكم)، وهو صحيح، وسيبويه أضبط لما
[معاني القراءات وعللها: 1/150]
روى عن أبي عمرو من غيره، لأن حذف الكسر في مثل هذا إنما يأتي في اضطرار الشعر، ولا يجوز ذلك في القرآن، وسائر القراء قرأوا بالإشباع، وكسر الهمزة، وهي القراءة المختارة، وليس كل لسان يطوع ما كان يطوع له لسان أبي عمرو، لأن صيغة لسانه صارت كصيغة ألسنة العرب الذين شاهدهم وألف عادتهم). [معاني القراءات وعللها: 1/151]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (واختلفوا في بارئكم [البقرة/ 54] في كسر الهمز واختلاس حركتها.
فكان عبد الله بن كثير ونافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائيّ يكسرون العين من غير اختلاس ولا تخفيف.
واختلف عن أبي عمرو، فقال العباس بن الفضل الأنصاريّ: سألت أبا عمرو كيف تقرأ: إلى بارئكم مهموزة مثقّلة، أو إلى بارئكم مخففة؟ فقال: قراءتي مهموزة غير مثقّلة بارئكم.
وروى اليزيديّ وعبد الوارث عنه: إلى بارئكم ولا يجزم الهمزة.
[الحجة للقراء السبعة: 2/76]
قال أحمد: وقال سيبويه: كان أبو عمرو يختلس الحركة من: بارئكم ويأمركم [البقرة/ 67] وما أشبه ذلك، مما تتوالى فيه الحركات، فيري من يسمعه أنه قد أسكن ولم يكن يسكن، وهذا مثل رواية عباس بن الفضل عنه التي ذكرتها أنه لا يثقّلها. وهذا القول أشبه بمذهب أبي عمرو، لأنه كان يستعمل التخفيف في قراءته كثيرا. من ذلك ما حدثني عبيد الله بن عليّ الهاشميّ عن نصر بن علي عن أبيه عنه أنه كان يقرأ ويعلّمهم الكتاب [البقرة/ 129] ويلعنهم [البقرة/ 159] يشمّ الميم والنون التي قبل الهاء الضمّ من غير إشباع. وكذلك: عن أسلحتكم وأمتعتكم [النساء/ 102] يشمّ التاء فيها شيئا من الخفض. أخبرني بذلك أبو طالب عبد الله بن أحمد بن سوادة قال: حدّثنا إبراهيم بن سعد الزّهراني، قال: حدثنا عبيد بن عقيل عن أبي عمرو بذلك.
قال: وكذلك: ويزكّيكم ويعلّمكم [البقرة/ 151] يشمّها شيئا من الضم، وكذلك: يوم يجمعكم [التغابن/ 9] يشمّ العين شيئا من الضم، وكذلك قوله: وأرنا مناسكنا [البقرة/ 128] لا يسكن الراء ولا يكسرها.
روى ذلك عنه علي بن نصر وعبد الوارث واليزيديّ وعباس بن الفضل وغيرهم، أعني: وأرنا وكذلك قراءته
[الحجة للقراء السبعة: 2/77]
في: يأمركم [البقرة/ 67] ويأمرهم [الأعراف/ 157] وينصركم [آل عمران/ 160] وما أشبه ذلك من الحركات المتواليات.
وروى عبد الوهاب بن عطاء وهارون الأعور عن أبي عمرو: وأرنا ساكنة الراء. وقال اليزيدي في ذلك كله:
إنه كان يسكّن اللام من الفعل في جميعه. والقول: ما خبرتك من إيثاره التخفيف في قراءته كلها، والدليل على إيثاره التخفيف أنه كان يدغم من الحروف ما لا يكاد يدغمه غيره، ويليّن الساكن من الهمز، ولا يهمز همزتين وغير ذلك.
وقال عليّ بن نصر: عن أبي عمرو: ولا يأمركم [آل عمران/ 80] برفع الراء مشبعة.
قال أبو علي: حروف المعجم على ضربين: ساكن ومتحرك. والساكن على ضربين:
أحدهما: ما أصله في الاستعمال السّكون مثل راء برد، وكاف بكر.
والآخر: ما أصله الحركة في الاستعمال فيسكن عنها.
وما كان أصله الحركة يسكن على ضربين، أحدهما: أن تكون حركته حركة بناء، والآخر: أن تكون حركة الإعراب.
[الحجة للقراء السبعة: 2/78]
وحركة البناء التي تسكن على ضربين:
أحدهما: أن يكون الحرف المسكن من كلمة مفردة، نحو: فخذ وسبع وإبل، وضرب وعلم. يقول من يخفف:
سبع، وفخذ، وعلم وضرب.
والآخر: أن يكون هذا المثال من كلمتين، فيسكن على تشبيه المنفصل بالمتصل، كما جاء ذلك في مواضع من كلامهم نحو الإمالة والإدغام، وذلك قولهم: «أراك منتفخا» ويخش اللّه ويتّقه [النور/ 52] ومن ذلك قول العجاج:
فبات منتصبا وما تكردسا ألا ترى أنّ نفخا من منتفخ، مثل كتف، وكذلك تقه من يتّقه، وكذلك ما أنشده أبو زيد من قوله:
قالت سليمى اشتر لنا سويقا فنزّل مثل كتف. فأما حركة البناء فلا خلاف في تجويز إسكانها في نحو ما ذكرنا من قول العرب والنحويين. وأما حركة الإعراب فمختلف في تجويز إسكانها، فمن الناس من ينكره فيقول إن إسكانها لا يجوز من حيث كان علما للإعراب.
وسيبويه يجوّز ذلك، ولا يفصل بين القبيلين في الشعر، وقد روى ذلك عن العرب، وإذا جاءت الرواية لم تردّ بالقياس، فمن ما أنشده في ذلك قوله:
[الحجة للقراء السبعة: 2/79]
وقد بدا هنك من المئزر وقوله:
فاليوم أشرب غير مستحقب وقال: إذا اعوججن قلت صاحب قوّم ومما جاء في هذا النحو قول جرير:
سيروا بني العمّ فالأهواز منزلكم... ونهر تيرا ولا تعرفكم العرب
ومن ذلك قول وضاح اليمن:
[الحجة للقراء السبعة: 2/80]
إنما شعري شهد... قد خلط بالجلجلان
فأسكن الفتحة في مثال الماضي، وهذه الفتحة تشبه النصبة. كما أن الضمة في: صاحب قوّم، تشبه الرفعة. وجاز إسكان حركة الإعراب، كما جاز تحريك إسكان البناء، فشبّه ما يدخل على المعرب من المتحركات من الحركة بما يدخل على المبني، كما شبهوا حركات البناء بحركات الإعراب، فمن ثمّ أدغم نحو: ردّ، وفرّ، وعضّ ونحو ذلك، كما أدغموا نحو:
يردّ، ويشدّ. وذلك أن حركة غير الإعراب لما كانت تعاقب على المبني، كما تعاقب حركة الإعراب على المعرب أدغموه، كما أدغموا المعرب، والحركات المتعاقبة على
ذلك، نحو:
حركة الهمزة إذا سكن ما قبلها، نحو: اضرب أخاك، ونحو:
حركة التقاء الساكنين، وحركة النونين الخفيفة والشديدة فكما شبهوا تعاقب هذه الحركات التي للبناء على أواخر الكلم بتعاقب حركات الإعراب، حتى أدغم من أدغم نحو: ردّ، واستعدّ، كما يدغم نحو: يردّ، ويستعدّ، كذلك شبهوا حركة الإعراب بالبناء في نحو ما ذكرنا فأسكنوا.
فأما من زعم أن حذف هذه الحركة لا يجوز من حيث كانت علما للإعراب، فليس قوله بمستقيم، وذلك أن حركات
[الحجة للقراء السبعة: 2/81]
الإعراب قد تحذف لأشياء، ألا ترى أنها تحذف في الوقف، وتحذف من الأسماء والأفعال المعتلّة. فلو كانت حركة الإعراب لا يجوز حذفها من حيث كانت دلالة الإعراب، لم يجز حذفها في هذه المواضع، فإذا جاز حذفها في هذه المواضع لعوارض تعرض، جاز حذفها أيضا في ما ذهب إليه سيبويه وهو التشبيه بحركة البناء، والجامع بينهما: أنهما جميعا زائدان. وأنها قد تسقط في الوقف والاعتلال، كما تسقط التي للبناء للتخفيف.
فإن قلت: إن سقوطها في الوقف إنما جاز لأنه إذا وصلت الكلمة ظهرت الحركة ويستدل عليه بالموضع.
قيل: وكذلك إذا أسكن نحو: هنك، استدلّ عليه بالموضع، وإذا فارقت هذه الصّيغة التي شبّهت لها بسبع، ظهرت كما تظهر التي للإعراب في الوصل.
ومما يدل على أن هذه الحركة إذا أسكنت كانت مرادة، كما أن حركة الإعراب مرادة، قولهم: رضي، ولقضو الرجل، فأسكنوا، ولم يرجعوا الياء والواو إلى الأصل، حيث كانت مرادة. كذلك تكون حركة الإعراب لمّا كانت مرادة، وإن حذفت لم يمتنع حذفها، وكان حذفها بمنزلة إثباتها في الجواز كما كانت الحركة فيما ذكرنا كذلك.
فإن قلت: إنّ حركات الإعراب تدل على المعنى، فإذا
[الحجة للقراء السبعة: 2/82]
حذفت اختلّت الدّلالة عليه، قيل: وحركات البناء أيضا قد تدل على المعنى وقد حذفت، ألا ترى أن تحريك العين بالكسر في نحو: ضرب يدل على معنى، وقد جاز إسكانها، فكذلك يجوز إسكان حركة الإعراب. وكذلك الكسر في مثل حذر، والضمة في نحو: حذر.
واعلم أن الحركات التي تكون للبناء والإعراب يستعملون في الضمة والكسرة منهما ضربين، أحدهما: الإشباع والتمطيط، والآخر: الاختلاس والتخفيف، وهذا الاختلاس والتخفيف إنما يكون في الضمة والكسرة، فأما الفتحة فليس فيها إلا الإشباع ولم تخفّف الفتحة بالاختلاس، كما لم تخفّف بالحذف، في نحو: جمل، وجبل، كما خفّف نحو: سبع وكتف، وكما لم يحذفوا الألف في الفواصل والقوافي من حيث حذفت الياء والواو فيهما، نحو: واللّيل إذا يسر [الفجر/ 4] وقوله:
... ثم لا يفر وكما لم يبدل الأكثر من التنوين الياء ولا الواو في الجر والرفع كما أبدلوا الألف في النصب، وهذا الاختلاس، وإن كان الصوت فيه أضعف من التمطيط، وأخفى، فإن الحرف المختلس حركته بزنة المتحرك، وعلى هذا المذهب حمل
[الحجة للقراء السبعة: 2/83]
سيبويه قول أبي عمرو: إلى بارئكم [البقرة/ 54] فذهب إلى أنه اختلس الحركة ولم يشبعها فهو بزنة حرف متحرك.
فمن روى عن أبي عمرو الإسكان في هذا النحو، فلعلّه سمعه يختلس فحسبه لضعف الصوت به والخفاء إسكانا، وعلى هذا يكون قوله: ويعلّمهم الكتاب [البقرة/ 129] ويلعنهم اللّه [البقرة/ 159] وكذلك عن أسلحتكم [النساء/ 102] وكذلك يزكّيكم ويعلّمكم [البقرة/ 151] ويوم يجمعكم [التغابن/ 9] ولا يأمركم [آل عمران/ 80] هذا كله على الاختلاس مستقيم حسن، ومن روى عنه الإسكان فيها، وقد جاء ذلك في الشعر، فلعله ظن الاختلاس إسكانا.
فأمّا قوله: وأرنا مناسكنا [البقرة/ 128] فالإسكان فيه حسن على تشبيه المنفصل بالمتصل، والاختلاس حسن، وليس إسكان هذا مثل إسكان: يأمركم، وأسلحتكم لأن الكسرة في: أرنا ليست بدلالة إعراب، ومثل ذلك قول من قال: ويتّقه ومن روى الإسكان في حروف الإعراب فقال:
تسكن لام الفعل، فعلى تجويز ما جاء في الشعر وفي الكلام، وقد تقدم ذكر ذلك.
فإن قال قائل: فهلا لم تسكن أرنا لأنّ الراء متحركة بحركة الهمزة فإذا حذفها لم تدلّ على الهمزة كما تدلّ إذا
[الحجة للقراء السبعة: 2/84]
أثبتها عليها، قيل: ليس هذا بشيء، ألا ترى أن الناس أدغموا: لكنّا هو اللّه ربّي [الكهف/ 28] فذهاب الحركة في أرنا في التخفيف ليس بدون ذهابها في الإدغام). [الحجة للقراء السبعة: 2/85]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قال ابن مجاهد: حدثني عبد الله بن محمد قال: حدثنا خالد بن مرداس قال: حدثنا الحكم بن عمر الرُّعَيْني قال: أرسلني خالد بن عبد الله القسري إلى قتادة أسأله
[المحتسب: 1/82]
عن حروف من القرآن؛ منها قوله: {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}، فقال قتادة: [فاقتالوا أنفسكم] من الاستقالة.
قال أبو الفتح: اقتال هذه افتعل، ويصلح أن يكون عينها واوًا كاقتاد، وأن يكون ياء كاقتاس.
وقول قتادة: إنها من الاستقالة، يقتضي أن يكون عينها ياء؛ لما حكاه أصحابنا عمومًا: من قِلت الرجل في البيع بمعنى أقلته، وليس في قِلت دليل على أنه من الياء؛ لقولهم: خِفت ونِمت، وهما من الخوف والنوم؛ لكنه في قولهم في مضارعه: أقيله.
وليس يحسن أن يحمله على مذهب الخليل في طِحت أطيح وتهت أتيه، أنهما فَعِلت أَفْعِل من الواو؛ لقلة ذلك.
وعلى أن أبا زيد قد حكى: ما هت الركِيَّةُ تميهُ، ودامت السماء تديم؛ لقلة ما هت تميه، ولأن أبا زيد قد حكى في دامت تديم المصدر وهو دَيْمًا، فقد يكون هذا على أن أصل عينه ياء.
وحدثني أبو علي بحلب سنة ست وأربعين قال: قال بعضهم: إن قِلت الرجل في البيع ونحوه إنما هو من: قُلْتُ له افسخ هذا العقد، وقال لي: قد فعلتُ، فهي عند من ذهب إلى ذلك من الواو.
قال أبو علي: ويفسد هذا ما حكوه في مضارعه من قولهم: أقيله، فهذا دليل الياء.
قال: ولا ينبغي أن يحمل على أنه فَعِلَ يَفْعِلُ من الواو -يريد مذهب الخليل- لقلة ذلك.
قال: لكنه من قولهم: تَقَيَّلَ فلان أباه، إذا رَجَعَتْ إليه أشباه منه. فمعنى أقلته على هذا: أني رجعت له عما كنت عقدته معه، ورجع هو أيضًا؛ فقد ثبت بذلك أن عين استقال من الياء، ولا يعرف في اللغة افتعلت من هذا اللفظ في هذا المعنى ولا غيره؛ وإنما هو استفعلت استقلت.
وقد يجوز أن يكون قتادة عرف هذا الحرف على هذا المثال، وعلى أنه لو كان بمعنى استقلت لوجب أن يُستعمل باللام، فيقال: استقلت لنفسي أو على نفسي، كما يقال: استعطفت فلانًا
[المحتسب: 1/83]
لنفسي وعلى نفسي، وليس معناه أن يسأل نفسه أن يُقِيلَه؛ وإنما يريد: أن يسأل ربه -عز وجل- أن يعفو عن نفسه. وكان له حرى -لو كان على ذلك- أن يقال: فاقتالوا لأنفسكم؛ أي: استقيلوا لها، واستصفحوا عنها.
فأما اقتال متعديًا، فإنما هو في معنى ما يجتره الإنسان لنفسه من خير أو شر ويقترحه، وهو من القول. قال:
بما اقتال من حُكْم عَلَيَّ طبيبُ
أي: بما أراده واقترحه واستامه، وليس معنى هذا معنى الآية، بل هو بضده؛ لأنه بمعنى استَلِينُوا واستعطفوا. هذا ما يُحْضِرُه طريق اللغة، ومذهب التصريف والصنعة، إلا أن قتادة ينبغي أن يحسن الظن به، فيقال: إنه لم يورد ذلك إلا بحجة عنده فيه من رواية أو دراية). [المحتسب: 1/84]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({فتوبوا إلى بارئكم} {إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة}
[حجة القراءات: 96]
قرأ أبو عمرو إلى بارئكم ويأمركم وينصركم بالاختلاس وحجته في ذلك أنه كره كثرة الحركات في الكلمة الواحدة وروي عنه إسكان الهمزة قال الشّاعر:
إذا اعوججن قلت صاحب قوم
والكلام الصّحيح يا صاحب أقبل أو يا صاحب اقبل
وقرأ الباقون بارئكم ويأمركم بالإشباع على أصل الكلمة وهو الصّواب ليوفى كل حرف حقه من الإعراب). [حجة القراءات: 97] (م)
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (28 قوله: «ينصركم، وبارئكم» وشبهه، قرأه أبو عمرو في رواية الرقيين عنه بإسكان الراء والهمزة في «بارئكم» و«يأمرهم» و«يشعركم» و«ينصركم» و«بارئكم» على ما ذكرنا في الكتاب الأول، وقرأ في رواية العراقيين عنه باختلاس حركة الراء والهمزة في ذل، واختيار اليزيدي
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/240]
الإشباع كالباقين، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو في رواية الرقيين عنه «أرني، وأرنا» بإسكان الراء، وقرأ أبو عمرو في رواية العراقيين عنه بالاختلاس، وقرأ ابن عامر وأبو بكر بإسكان الراء في السجدة في قوله: {أرنا اللذين} «29»، خاصة، وقرأ الباقون بحركة تامة في ذلك كله.
29- وعلة من أسكن أنه شبه حركة الإعراب بحركة البناء، فأسكن حركة الإعراب استخفافًا، لتوالي الحركات، تقول العرب: «أراك منتفخًا» بسكون الفاء، استخفافًا لتوالي الحركات، وأنشدوا:
وبات منتصبًا وما تكردسا
فأسكن الصاد لتوالي الحركات فشبه حركات الإعراب بحركات البناء، فأسكنها وهو ضعيف مكروه.
30- وعلة من اختلس الحركة أنها لغة للعرب في الضمات والكسرات تخفيفًا لا ينقص ذلك الوزن، ولا يتغير المعرب، ولما كان تمام الحركة مستثقلًا، لتوالي الحركات وكثرتها، والإسكان بعيدًا؛ لأنه يغير الإعراب عن جهته فتوسط الأمرين، فاختلس الحركة، فلم يخل بالكلمة من جهة الإعراب، ولا ثقلها من جهة توالي الحركات، فتوسط الأمرين.
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/241]
31- وعلة من أتم الحركة، لم يسكن، ولا اختلس أنه أتى بالكلمة على أصلها، وأعطاها حقها من الحركات، كما يفعل بسائر الكلام، ولم يستثقل توالي الحركات؛ لأنها في تقدير كلمتين، المضمر كلمة، وما قبله كلمة، ولأن حذف الإعراب إنما يجوز في الشعر، ولا يحمل القرآن على ما يجوز في الشعر، وأيضًا فإنه فرق بين حركة الإعراب، التي تدل على معنى، وبين حركة البناء، التي لا تدل على معنى في أكثر الكلام، وأنه فرق أيضًا بين حركة البناء، التي لا تتغير عن حالها، وبين حركة الإعراب، التي تتغير، وتنتقل عن حالها، فألزم حركة الإعراب ترك التغييرين، إذ هي تتغير، فلم يجز أن يلحقها تغيير آخر، وجوز ذلك في حركة البناء إذ لا تتغير، وأجاز أن تغير بالإسكان استخفافًا، وأيضًا فإن عليه الجماعة، والإسكان في «أرنا» و«أرني» أخف من الإسكان في «يأمركم، وبارئكم» وشبهه لأن تلك حركة بناء، لا تتغير، وهذه حركة إعراب تتغير، وتنتقل، وإسكان حرف الإعراب بعيد ضعيف، وإسكان حركة البناء، إذا استثقلت، مستعمل كثير؛ لأن قولك: «أرني» بمنزلة «كتفي»، و«أرنا» بمنزلة «كتفا» والعرب تسكن الثاني من هذا استخفافًا، فحمل «أرني، وأرنا» على ذلك، لأن الكسرة في كل ذلك بناء، والاختيار تمام الحركات لأنه الأصل، وعليه جماعة القراء، وهو اختيار اليزيدي، ولأن الإسكان إخلال بالكلام، وتغيير للإعراب، والاختلاس فيه تكلف وتعمد ومؤونة، وهو خارج عن الأصول، قليل العمل به، قليل الرواية له، وقد اختار أبو أيوب إشباع الحركة في «أرنا»، وهو الأصل والاختيار). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/242]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (21- {بَارِئِكُمْ} [آية/ 54]:-
مختلسة الهمز، قرأها أبو عمرو، وكذلك {يَنْصُرُكُمْ} و{يَأْمُرُكُمْ} بالاختلاس في هذه الأحرف الثلاثة.
وذلك لأن العرب تستعمل في الضمة والكسرة الإشباع مرة للتحقيق، والاختلاس أخرى للتخفيف، ولا تختلس الفتحة لما فيها من الخفة، إذ الخفيف لا يخفف، فيقولون: سبع وكتف، ولا يقولون: جمل وجبل، والاختلاس وإن كان قريبًا من الإسكان لضعف الصوت فيه، فإنه بمنزلة التحريك؛ لأن المختلس على وزن المتحرك، فلا يبلغ أن يكون ساكنًا.
ومن روى عن أبي عمرو الإسكان في ذلك، فإنه ظن الاختلاس إسكانًا لقربه منه؛ فإن الإسكان في مثل هذا إنما بابه الشعر.
[الموضح: 276]
وقرأ الباقون {بَارِئِكُمْ} بحركةٍ بينةٍ، وكذلك في أمثاله في جميع القرآن.
وذلك أنه هو الأصل، ولا اعتراض على من تمسك بالأصل، ولم يعدل عنه إلى غيره). [الموضح: 277]

قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55)}
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة سهل بن شعيب النهمي: [جَهَرةً] "وزَهَرةً"، كل شيء في القرآن محرَّكًا.
قال أبو الفتح: مذهب أصحابنا في كل شيء من هذا النحو مما فيه حرف حلقي ساكن بعد حرف مفتوح: أنه لا يحرك إلا على أنه لغة فيه؛ كالزَّهْرة والزَّهَرة، والنَّهْر والنهَر، والشَّعْر والشَّعَر، فهذه لغات عندهم كالنشْز والنشَز، والحلْب والحلَب، والطرْد والطرَد.
ومذهب الكوفيين فيه أنه يحرك الثاني لكونه حرفًا حلقيًّا، فيجيزون فيه الفتح وإن لم يسمعوه؛ كالبحْر والبحَر والصخْر والصخَر.
وما أرى القول من بعد إلا معهم، والحق فيه إلا في أيديهم؛ وذلك أنني سمعت عامة عُقَيل تقول ذاك ولا تقف فيه سائغًا غير مستكره، حتى لسمعت الشجري يقول: أنا محَموم بفتح الحاء، وليس أحد يدعي أن في الكلام مفَعول بفتح الفاء.
[المحتسب: 1/84]
وسمعته مرة أخرى يقول -وقد قال له الطبيب: مَصَّ التفاح وارم بثُفله: والله لقد كنت أبغي مصه وعِلْيَتُهُ تَغَذُو بفتح الغين، ولا أحد يدعى أن في الكلام يفَعَل بفتح الفاء.
وسمعت جماعة منهم -وقد قيل لهم: قد أقيمت لكم أَنزالكم من الخبز- قالوا: فاللحَم -يريدون: اللحْم- بفتح الحاء.
وسمعت بعضهم وهو يقول في كلامه: ساروا نَحَوه بفتح الحاء، ولو كانت الحاء مبنية على الفتح أصلًا لما صحت اللام لتحركها وانفتاح ما قبلها؛ ألا تراك لا تقول: هذه عصَوٌ ولا فتَوٌ؟ ولعمري إنه هو الأصل؛ لكن أصل مرفوض للعلة التي ذكرنا، فعلى هذا يكون جَهَرة وزَهَرة -إن شئت- مبنيًّا في الأصل على فَعَلة، وإن شئت كان إتباعًا على ما شرحنا الآن). [المحتسب: 1/85]

قوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56)}

قوله تعالى: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)}

روابط مهمة:
- أقوال المفسرين

جمهرة علوم القرآن 26 محرم 1440هـ/6-10-2018م 11:44 AM

سورة البقرة
[من الآية (58) إلى الآية (59) ]

{وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59) }

قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (قوله جلّ وعزّ: (نغفر لكم خطاياكم)
قرأ نافع: (يغفر لكم خطاياكم) - بالياء -.
وقرأ ابن عامر (تغفر لكم) بالتاء مضمومة -.
وقرأ الباقون (نغفر لكم خطاياكم) بالنون -.
قال أبو منصور: من قرأ (يغفر لكم خطاياكم) - بالياء - فلتقدم فعل الجماعة، ومن قرأ (تغفر) - بالتاء - فلتأنيث الخطايا، وهي جمع خطيئة وخطايا، ومن قرأ (نغفر لكم خطاياكم) فالفعل لله جلّ وعزّ، نغفر نحن، وخطاياكم على هذه القراءة في موضع النصب؛ لوقوع الفعل عليها.
ومن قرأ بالتاء والياء فخطاياكم في موضع الرفع، لأنه لم يسم فاعلها، والإعراب لا يتميز فيها؛ لأنها مقصورة.
والخطايا هي: الآثام التي تعمدها كاسبها). [معاني القراءات وعللها: 1/152]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في نغفر لكم خطاياكم [البقرة/ 58] في النون والتاء والياء.
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي: نغفر لكم بالنون. وقرأ نافع: يغفر لكم بالياء مضمومة على ما لم يسمّ فاعله. وقرأ ابن عامر تغفر لكم مضمومة التاء.
ولم يختلفوا في: خطاياكم في هذه السورة، غير أن الكسائي كان يميلها وحده، والباقون لا يميلون.
قال أبو علي: حجة من قال: نغفر لكم بالنون أنه أشكل بما قبله. ألا ترى أنّ قبله: وإذ قلنا ادخلوا هذه [البقرة/ 58] فكأنه قال: قلنا ادخلوا، نغفر.
وحجة من قال: يغفر أنه يؤول إلى هذا المعنى، فيعلم من الفحوى أن ذنوب المكلفين وخطاياهم لا يغفرها إلا الله، وكذلك القول في من قرأ: تغفر. إلا أنّ من قال: يغفر لم يثبت علامة التأنيث في الفعل لتقدّمه، كما لم يثبت لذلك في نحو قوله: وقال نسوةٌ في المدينة [يوسف/ 30].
ومن قال: تغفر فلأن علامة التأنيث قد ثبتت في هذا النحو نحو قوله: قالت الأعراب [الحجرات/ 14] وكلا
[الحجة للقراء السبعة: 2/85]
الأمرين قد جاء به التنزيل قال: وأخذ الّذين ظلموا الصّيحة [هود/ 67] وفي موضع فأخذتهم الصّيحة [الحجر/ 83] والأمران جميعا كثيران.
فأما إمالة الكسائي الألف في: خطاياكم فجوازها حسن، وحسنها: أن الألف إذا كانت رابعة فصاعدا اطّردت فيها الإمالة، والألف في خطايا خامسة، ومما يبين جواز الإمالة في ذلك، أنك لو سمّيت بخطايا ثم ثنّيته، لأبدلت الياء من الألف، كما تبدل من ألف قرقرى وجحجبى، وألف مرامى، ونحو ذلك. ويقوي ذلك أن غزا ونحوها قد جازت إمالة ألفها، وإن كانت الواو تثبت فيها وهي على هذه العدّة، فإذا جاز في باب غزا مع ما ذكرناه، فجوازها في خطايا أولى، لأنها بمنزلة ما أصله الياء، ألا ترى أن الهمزة لا تستعمل هنا في قول الجمهور والأمر الكثير الشائع.
ومما يبين ذلك أن الألف قد أبدلت من الهمزة في العدّة التي يجوز معها تحقيق الهمزة. وذلك إذا كانت ردفا في نحو:
ولم أورا بها
[الحجة للقراء السبعة: 2/86]
ونحو:
... على رال فلو لم تنزّل منزلة الألف التي لا تناسب الهمزة، لم يجز وقوعها في هذا الموضع، فإذا جاز ذلك فيها، مع أن الهمزة قد يجوز أن تخفف في نحو: أورا، إذا لم يكن ردفا، فأن تجوز الإمالة في خطايا أولى). [الحجة للقراء السبعة: 2/87]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين}
قرأ نافع يغفر لكم بالياء وفتح الفاء على ما لم يسم فاعله خطاياكم في موضع رفع لأنّه مفعول ما لم يسم فاعله وحجته في الياء أن الفعل متقدم وقد حيل بينه وبين الخطايا ب لكم فصار الحائل كالعوض من التّأنيث وحجّة أخرى وهي أن الخطايا جمع وجمع ما لا يعقل يشبه بجمع ما يعقل من النّساء كما قال وقال
[حجة القراءات: 97]
نسوة في المدينة فلمّا ذكر فعل جميع النّساء ذكر فعل الخطايا ونحوه أم هل يستوي الظّلمات
وقرأ ابن عامر تغفر بالتّاء وقد ذكرنا إعرابها وحجته في التّاء أنه فعل متقدم نحو قوله قالت الأعراب
وقرأ الباقون نغفر بالنّون وحجتهم في ذلك أن نغفر بين خبرين من أخبار الله عن نفسه قد أخرجا بالنّون وذلك قوله {وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية} فخرج ذلك بالنّون ولم يقل وإذ قيل فيقال تغفر ويغفر والآخر قوله {وسنزيد المحسنين} ولم يقل وسيزاد المحسنون
واعلم أن من قرأ يغفر فهو يؤول أيضا إلى هذا المعنى فيعلم من الفحوى أن ذنب الخلائق وخطاياهم لا يغفره إلّا الله ويقوّي هذا قوله {قل للّذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} ). [حجة القراءات: 98]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (32- قوله: {يغفر لكم} قرأه نافع بالياء، وقرأه ابن عامر بالتاء، وقرأه الباقون بالنون، وأدغم أبو عمرو في رواية الرقيين عنه، الراء في اللام، وأظهرها الباقون.
33- ووجه القراءة بالنون أنه مردود على ما قبله، وهو قوله: {وإذ قلنا}، فجرى «نغفر» على الإخبار عن الله جل ذكره، كما أتى «قلنا» على الإخبار، فالتقدير: وقلنا ادخلوا الباب سجدًا نغر لكم.
34- ووجه القراءة بالتاء أنه أنث، لتأنيث لفظ «الخطايا» لأنها جمع «خطية» على التكسير.
35- ووجه القراءة بالياء أنه ذَكَّرَ لما حال بين المؤنث وفعله، والعلل المذكورة في ولا «يقبل» تحسن في هذا على قراءة من قرأ بالياء، وحسن فيه الياء والتاء، وإن كان قبله إخبار عن الله، جل ذكره، في قوله: {وإذ قلنا} لأنه قد علم أن ذنوب الخاطئين لا يغفرها إلا الله، فاستغنى عن النون، ورد الفعل إلى الخطايا المغفورة، فأما من أدغم الراء في اللام فقد ذكرنا أنه قبيح لزوال تكرير الراء، ولأن الحرف ينتقل في الإدغام إلى أضعف من حاله قبل الإدغام، وذلك مرفوض قبيح والإظهار هو الأصل، وعليه الجماعة، فهو أبقى لقوة الحذف). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/243]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (22- {نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ} [آية/ 58]:-
بالياء مضمومةً، قرأها نافع وحده.
وهذا على إسناد الفعل إلى المفعول به؛ لأنه معلوم أن خطايا العباد لا يغفرها إلا الله سبحانه، وتذكير الفعل إنما هو على حد تذكيره في قوله تعالى: {وَقَالَ نِسْوَةٌ} إذ كان جمعًا وقد تقدم فعله، وزاده الفصل ههنا جوازًا وحسنًا.
وقرأ ابن عامر {تُغْفَرْ لَكُمْ} بالتاء مضمومة، فأثبت علامة التأنيث؛ لأن العلامة قد ثبتت في نحو ذلك وهو {قَالَت الأعْرَابُ} وهذا لأنه إذا جاز ترك
[الموضح: 277]
العلامة في ذلك فإثبات العلامة أجوز؛ لأن معنى التأنيث حاصل فيه بكونه جماعة.
وقرأ الباقون {نَغْفِرْ لَكُمْ} بالنون مفتوحةً.
لأنه أليق بما تقدمه، وهو قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ} كأنه قال: قلنا ادخلوا نغفر.
وأمال الكسائي {خَطَايَاكُمْ} و{خَطَايَاهُمْ} و{خَطَايَانَا} في جميع القرآن، وقد تقدمت علة هذا النحو؛ وذلك أن الألف إذا وقعت رابعةً فصاعدًا حسنت فيها الإمالة، وهذه الألف وقعت خامسة فلا نظر في حسن الإمالة فيها). [الموضح: 278]

قوله تعالى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59)}

روابط مهمة:
- أقوال المفسرين

جمهرة علوم القرآن 26 محرم 1440هـ/6-10-2018م 11:45 AM

تفسير سورة البقرة
[من الآية (60) إلى الآية (61) ]

{وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61) }

قوله تعالى: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (فانفجرت منه اثنتا عشرة عينًا)
اتفق القراء على تسكين الشين من "عشرة" ها هنا، وهي لغة العالية
الفصيحة، وفيها لغة أخرى "عشرة) بكسر الشين، وقد قرأ بها
[معاني القراءات وعللها: 1/152]
بعض القراء،: هي قليلة.
وأما (عشرة) في مثل هذا الموضع فإن أهل اللغة لا يعرفونها، وقد قرأ بها الأعمش، والعرب لا تعرفها. والقراءة المختارة (عشرة) بسكون الشين.
وانتصب قوله: (عيناً) على التمييز، وجاء في التفسير: أن الله تبارك وتعالى فجّر لهم من حجر واحد اثنتا عشرة عينا لاثني عشر فريقا، لكل فريق عين يشربون منها، تنفجر إذا نزلوا، وتغور إذا ارتحنوا). [معاني القراءات وعللها: 1/153]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة الأعمش: [اثْنَتَا عَشَرَةَ] بفتح الشين.
قال أبو الفتح: القراءة في ذلك: {عَشْرة} و[عَشِرة]، فأما [عَشَرة] فشاذ، وهي قراءة الأعمش.
وعلى الجملة فينبغي أن يعلم أن ألفاظ العدد قد كثر فيها الانحرافات والتخليطات، ونُقضت في كثير منها العادات؛ وذلك أن لغة أهل الحجاز في غير العدد نظير عشْرة: عشِرة، وأهل الحجاز يكسرون الثاني، وبنو تميم يسكنونه، فيقول الحجازيون: نَبِقة وفَخِذ، وبنو تميم تقول: نبْقة وفخذ، فلما ركب الاسمان استحال الوضع فقال بنو تميم: إحدى عشِرة وثنتا عشِرة إلى تسع عشِرة بكسر الشين، وقال أهل الحجاز: عشْرة بسكونها، ومنه قولهم في الواحد: واحد وأَحد، فلما صاروا إلى العدد قالوا: إحدى عشرة، فبنوه على فِعْلَى، ومنه قولهم: عشْر وعَشرة، فلما صاغوا منه اسمًا للعدد بمنزلة ثلاثون وأربعون قالوا: عشرون، فكسروا أوله، ومنه قولهم: ثلاثون وأربعون إلى التسعون، فجمعوا فيه بين لفظين ضدين؛ أحدهما يختص بالتذكير والآخر بالتأنيث.
أما المختص بالتذكير فهو الواو والنون، وأما المختص بالتأنيث فهو قولهم: ثلاث وأربع وتسع في صدر ثلاثون وأربعون وتسعون. وكل واحد من ثلاث وأربع وخمس وست إلى تسع هكذا بغير هاء مختص بالتأنيث. ولما جمعوا في هذه الأعداد -من عشرين إلى تسعين- بين لفظي التذكير والتأنيث صلحت لهما جميعًا، فقيل: ثلاثون رجلًا، وثلاثون امرأة، وخمسون جارية وخمسون غلامًا، وكذلك إلى التسعين.
ومنه أيضًا اختصارهم من ثلثمائة إلى تسعمائة على أن أضافوه إلى الواحد، ولم يقولوا: ثلاث مئين،
[المحتسب: 1/85]
ولا أربع مئات إلا مستكرهًا وشاذًّا، فكما ساغ هذا وغيره في أسماء العدد قالوا أيضًا: [اثنتا عَشَرَة] في قراءة الأعمش هذه، وينبغي أن يكون قد روى ذلك رواية، ولم يره رأيًا لنفسه.
وعلى ذلك ما يُروى: من أن أبا عمرو حضر عند الأعمش فروى الأعمش: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يتخولنا بالموعظة، فقال أبو عمرو: إنما هو يتخوننا بالنون، فأقام الأعمش على اللام، فقال له أبو عمرو: إن شئت أعلمتك أن الله لم يعلمك من هذا الشأن حرفًا فعلت، فسأل عنه الأعمش، فلما عرف أبا عمرو وكبر عنده وأصغى إليه، وعلى أن هذا الذي أنكره أبو عمرو صحيح عندنا؛ وذلك أن معنى يتخولنا: يتعهدنا، فهو من قوله:
يساقِطُ عنه ورقُه ضارياتِها ... سِقاط حديد القَين أَخول أَخولا
أي: شيئًا بعد شيء، ومنه قولهم: فلان يَخُولُ على أهله: أي يتفقدهم، ويتعهد أحوالهم، ومنه قولهم: خالُ مالٍ، وخائل مال: إذا كان حسن الرِّعْيَة والتفقد للمال. والتركيب مما تُغير فيه أوضاع الكلم عن حالها في موضع الإفراد؛ من ذلك حكاية أبي عمرو الشيباني من قول بعضهم في حضَرَمَوْت: حضْرَمُوت بضم الميم؛ ليصير على وزن المفردات نحو عَضْر فُوط ويَسْتَعُور.
ومن تحريف ألفاظ العدد ما أنشده أبو زيد في نوادره:
علام قتل مسلم تعمُّدا ... مذ سنة وخَمِسُون عددا
بكسر الميم من خمسون، وعذره وعلته عندي أنه احتاج إلى حركة الميم لإقامة الوزن، فلم ير أن يفتحها فيقول: خَمَسون؛ لأنه كان يكون بين أمرين: إما أن يُظن أنه كان الأصل فتحها ثم أُسكنت، وهذا غير مألوف؛ لأن المفتوح لا يسكن لخفة الفتحة، وإما أن يقال: إن الأصل السكون فاضظر ففتحها، وهذا ضرورة إنما جاء في الشعر، نحو قوله:
مُشْتَبِهِ الأَعلَامِ لَمَّاعِ الْخَفَق
[المحتسب: 1/86]
أي: الْخَفْق. ومنه قول زهير:
ثم استمروا وقالوا إن مشرَبكم ... ماء بشرقي سلمى فَيْدُ أو رَكَكُ
قال أبو عثمان: قال الأصمعي: سألت أعرابيًّا -ونحن في الموضع الذي ذكره زهير- يعني هذا البيت؛ فقلت له: هل تعرف رككًا؟ فقال: قد كان هاهنا ماء يسمى رَكًّا.
قال الأصمعي: فعلمت أن زهيرًا احتاج إليه فحركه، فعدل عن الفتح؛ لئلا يُعرف بأثر الضرورة، فعدله إلى موضع آخر فكسر الميم، فكأنه راجَع بذلك أصلًا حتى كأنه كان خمِسون ثم أسكن تخفيفًا، فلما اضطر إلى الحركة كسر، فكان بذلك كمراجع أصلًا لا مستَكرَهًا على أن يُرى مضطرًّا.
وأنَّسه أيضًا بذلك: ما جاء عنهم من قولهم: إحدى عشْرة وعشِرة، فصار خَمِس من خَمِسون بمنزلة عَشِرة، وصار خَمْسون بمنزلة عَشْر). [المحتسب: 1/87]

قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (قوله جلّ وعزّ: (النّبيّين)، و(الأنبياء)
قرأ نافع وحده: (النّبيّئين) و(الأنبئاء)، و: (النبيئون)، و(النبيء) بالهمز في كل القرآن إلا في موضعين في سورة الأحزاب: (إن وهبت نفسها للنّبيّ إن أراد النّبيّ)، وقوله: (لا تدخلوا بيوت النّبيّ إلّا أن يؤذن لكم).
وسائر القراء لم يهمزوا (النبي).
[معاني القراءات وعللها: 1/153]
قال أبو منصور: من همز (النبيء) و(الأنبئاء) و(النبيئين) فهو من النبأ، ومن أنبأ عن الله، أي: أخبر، وكأنه على هذا (فعيل) بمعنى (مفعل)، مثل (نذير) بمعنى (منذر)، ولها نظائر في القرآن.
ومن لم يهمز (النبي) ذهب به إلى: نبا الشيء ينبو إذا ارتفع، ويقال للمكان المرتفع: نبى.
وكذلك النبوة والنباوة، وأكثر العرب على ترك الهمز في (النبي)، وهو اختيار أهل اللغة؛ لأنه لو كان مهموزا لجمع على النبئاء، وقد جمعه الله على (الأنبياء). مثل (تقي) و(أتقياء) و(غني) و(أغنياء).
وحجة من همز وإن كان مجموعا على الأنبياء، أنه مثل: نصيب وأنصباء، وجمع ربيع: النهر على أربعاء.
والقراءة المختارة ترك الهمز). [معاني القراءات وعللها: 1/154]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (واختلفوا في قوله: النّبيّين [البقرة/ 61] والنّبيّون [البقرة/ 136] والنّبوّة [آل عمران/ 79] والأنبياء [آل عمران/ 112] والنّبيّ [آل عمران/ 68] في الهمز، وتركه.
فكان نافع يهمز ذلك كلّه في كلّ القرآن إلا في موضعين في سورة الأحزاب: قوله: وامرأةً مؤمنةً إن وهبت نفسها للنّبيّ إن أراد [الآية/ 50] بلا مدّ ولا همز. وقوله:
[الحجة للقراء السبعة: 2/87]
لا تدخلوا بيوت النّبيّ إلّا [الآية/ 53] وإنما ترك همز هذين لاجتماع همزتين مكسورتين من جنس واحد، هذا قول المسيبي وقالون، وقال ورش عن نافع: إنه كان يهمزها جميعا، إلا أنه كان يروي عن نافع: أنه كان يترك الهمزة الثانية في المتّفقتين والمختلفتين، وتخلف الأولى الثانية، فيقول فيه للنبيء ان اراد، مثل: النّبيعن راد و: بيوت النبيء يلا، وكان الباقون لا يهمزون من ذلك شيئا.
قال أبو زيد: نبأت من أرض إلى أخرى، فأنا أنبأ نبأ ونبوءا: إذا خرجت منها إلى أخرى، وليس اشتقاق النبيء من هذا وإن كان من لفظه، ولكن من النبأ الذي هو الخبر، كأنه المخبر عن الله سبحانه. فإن قلت: لم لا يكون من النباوة، ومما أنشده أبو عثمان قال: أنشدني كيسان:
محض الضّريبة في البيت الذي وضعت... فيه النّباوة حلوا غير ممذوق
أو يجوّز فيه الأمرين، فتقول: إنه يجوز أن يكون من النباوة، ومن النبأ، كما أجزت في عضة أن تكون من الواو، لقوله:
[الحجة للقراء السبعة: 2/88]
وعضوات تقطع اللهازما ومن الهاء لقوله:
.. لها بعضاه الأرض تهزيز فالقول: إن ذلك ليس كالعضة، لأن سيبويه زعم: أنهم يقولون في تحقير النّبوّة: كان مسيلمة نبوّته نبيّئة سوء، وكلّهم يقول: تنبّأ مسيلمة، فلو كان يحتمل الأمرين جميعا ما أجمعوا على تنبّأ، ولا على النّبيّئة، بل جاء فيه الأمران: الهمز وحرف اللين، فأن اتفقوا على تنبّأ والنّبيّئة دلالة على أن اللام همزة.
[الحجة للقراء السبعة: 2/89]
ومما يقوّي أنه من النبأ الذي هو الخبر أن النباوة الرفعة، فكأنه قال: في البيت الذي وضعت فيه الرّفعة. وليس كلّ رفعة نبوءة، وقد تكون في البيت رفعة ليست بنبوءة. والمخبر عن الله بوحي إليه المبلّغ عنه نبيء ورسول، فهذا الاسم أخصّ به وأشدّ مطابقة للمعنى المقصود إذا أخذ من النّبأ. فإن قلت: فلم لا تستدلّ بقولهم: أنبياء، على جواز الأمرين في اللام من النبي، لأنهم قالوا: أنبياء ونباء، قال:
يا خاتم النّباء إنّك مرسل بالحقّ......
قيل: ما ذكرته لا يدلّ على تجويز الأمرين فيه، لأن أنبياء إنما جاء لأن البدل لما لزم في نبيّ صار في لزوم البدل له، كقولهم: عيد وأعياد، فكما أن أعيادا لا تدل على أن عيدا من الياء، لكونه من عود الشيء، كذلك لا يدل أنبياء على أنه من النباوة، ولكن لمّا لزم البدل جعل بمنزلة تقيّ وأتقياء، وصفيّ وأصفياء ونحو ذلك، فلما لزم صار كالبريّة والخابية، ونحو ذلك مما لزم الهمز فيه حرف اللين بدلا من الهمزة. فما دل على أنه من الهمز قائم لم يعترض فيه شيء، فصار قول من حقّق الهمزة في النبيّ، كردّ الشيء إلى الأصل المرفوض استعماله
[الحجة للقراء السبعة: 2/90]
نحو: وذر، وودع، فمن ثمّ كان الأكثر فيه التخفيف. فإن قلت فقد قال سيبويه: بلغنا أن قوما من أهل الحجاز من أهل التحقيق يحققون: نبيئا وبريئة. قال: وذلك رديء، وإنما استردأه لأن الغالب في استعماله التخفيف على وجه البدل من الهمز، وذلك الأصل كالمرفوض، فردؤ عنده ذلك لاستعمالهم فيه الأصل الذي قد تركه سائرهم، لا لأن النبيء الهمز فيه غير الأصل، ولا لأنه يحتمل وجهين كما احتمل عضة وسنة.
ومن زعم أن البريّة من البرا الذي هو التراب كان غالطا، ألا ترى أنه لو كان كذلك لم يحقّق همزه من حقق من أهل الحجاز، فتحقيقهم لها يدل على أنها من برأ الله الخلق، كما أن تحقيق النبيء يدل على أنه من النبأ، وكما كان اتفاقهم على تنبأ يدل على أن اللام في الأصل همزة.
فالحجة لمن همز النبيء [حيث همز] أن يقول: هو أصل الكلمة، وليس مثل عيد، الذي قد ألزم البدل، ألا ترى أن ناسا من أهل الحجاز قد حققوا الهمزة في الكلام، ولم يبدلوها. كما فعل أكثرهم، فإذا كان الهمز أصل الكلمة وأتى به قوم في كلامهم على أصله لم يكن كماضي يدع، ونحوه مما رفض استعماله واطّرح.
فأما ما
روي في الحديث: «من أن بعضهم. قال: يا
[الحجة للقراء السبعة: 2/91]
نبيء الله! فقال: «لست بنبيء الله، ولكني نبيّ الله»
فأظنّ أن من أهل النقل من ضعّف إسناد الحديث. ومما يقوي تضعيفه أنّ من مدح النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال:
يا خاتم النبآء لم يؤثر فيه إنكار عليه فيما علمنا، ولو كان في واحده نكير لكان الجمع كالواحد، وأيضا فلم نعلم أنه عليه السّلام أنكر على الناس أن يتكلموا بلغاتهم.
ولمن أبدل ولم يحقّق أن يقول: مجيء الجمع في التنزيل على أنبياء يدل على أن الواحد قد ألزم فيه البدل، وإذا ألزم فيه البدل ضعف التحقيق. وقال الفرّاء في قراءة عبد الله النبية إلى (ال ن ب ي ي). قال الفراء: لا يخلو من أن يكون النبيّة مصدرا للنبإ، أو يكون النبيّة مصدرا نسبه إلى النبي عليه السلام.
[قال أبو علي]: والقول في ذلك أنه لا يخلو من أن يكون من النباوة التي في قول ابن همام، أو يكون من النّبأ وقلبت الهمزة. أو يكون نسبا، فلا يكون من النباوة، فيكون
[الحجة للقراء السبعة: 2/92]
مثل مطيّة، لأنّ فيما حكاه سيبويه من أنهم كلّهم يقولون: تنبّأ مسيلمة، دلالة على أنه من الهمزة [فإذا لم يجز ذلك ثبت أنه من الهمز] وجاز أن يكون ياء ألزمت البدل من الهمزة، وعلى ذلك قالوا: أنبياء، وجاز أن يكون من قول من حقّق، إلا أنه خفف فوافق لفظ التخفيف عن التحقيق لفظ من يرى القلب. وقد حكى سيبويه كما رأيت أن بعضهم يحقق النبيء، فإذا كان نسبا أمكن أن يكون إلى قول من حقق، وإلى قول من خفّف، وأمكن أن يكون إلى قول من أبدل. فلا يجوز أن يكون على قول من حقّق ثم خفّف لأنه لو كان كذلك لكان:
النبئيّة، لأنه نسب إلى فعيلة، فرددت الهمزة لمّا حذفت الياء التي كنت قلبت الهمزة في التخفيف من أجلها، فلما لم يردّ، وقال النبيّة، علمت أن النسب إليه على قول من قلب الهمزة ياء، وهم الذين قالوا: أنبياء، فحذفت الياءين لياءي النسب، فبقيت الكلمة على فعيّة. هذا على قياس قولهم: عبد بيّن العبديّة، وقد حكاه الفرّاء.
وأما تخفيف نافع: النبيّ في الموضعين اللذين خفف فيهما في رواية المسيّبي وقالون، فالقول في ذلك أنه لا يخلو من أن يكون ممن يحقّق الهمزتين أو يخفّف إحداهما، فإن حقّق الهمزتين جاز أن يجعل الثانية بين بين، لأن الهمزة إذا
[الحجة للقراء السبعة: 2/93]
كانت بين بين كانت في حكم التحقيق، فتقول: (للنّبيء إن)، وإن لم يحقّق الهمزتين قلب الثانية منهما ياء قلبا فقال: (للنّبيء ين) كما قلبوا في: (أيمّة)، وكما قلبوا في: جاء وشاء ويجعل المنفصل بمنزلة المتصل في أيمّة وجاء.
ووجه رواية قالون، والمسيّبيّ: أنه إذا خفّف الهمزة من النبيء لم يجتمع همزتان، فإن شاء حقق الهمزة المكسورة من (إلّا) ومن (إن) وإن آثر التخفيف جعلهما بين
الياء والهمزة). [الحجة للقراء السبعة: 2/94]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة يحيى بن وثاب والأشهب: [وَقُثَّائِهَا].
قال أبو الفتح: بالضم في القُثاء حسن الطريقة؛ وذلك أنه من النوابت، وقد كثر عنهم في هذه النوابت الفُعَّال كالزُّبَّاد والقُلَّام والعُلَّام والثُّقاء، ومن هاهنا كان أبو الحسن يقول في رمان: أنه فُعَّال؛ لأنه من النبات، وقد كثر فيه الفعال على ما مضى، وأما قياس مذهب سيبيويه: فأن يكون فُعلان بزيادة النون؛ لغلبة زيادة النون في هذه المواضع بعد الألف.
وله أيضًا وجه من القياس: أنه من معنى رَمَتْتُ الشيء: غذا جمعت أجزاءَه، وهذه حال الرمان، وقد جاء بهذا الموضع نفسه بعض المولدين فقال:
ما يُحسِن الرُّمان يجمع نفسه ... في قِشِره إلا كما نحن
[المحتسب: 1/87]
ويدل على أنه من معنى الاجتماع والتضام تسميتهم لرمان البر: الْمَظَّ؛ وذلك لقوة اجتماعه، واتصال أجزائه، فهو من معنى المماظَّة المعازَّة، وهو إلى الشدة، ويدل على صحة مذهب سيبويه في أن الألف والنون إذا جاءتا بعد المضاعف كانتا بحالهما وهما بعد غير المضاعف، ما ورد في الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن قومًا وردوا عليه فقال لهم: "مَن أنتم؟ " فقالوا: بنو غيَّان، فقال عليه السلام: "بل أنتم بنو رَشْدان"، أفلا تراه كيف اشتق الاسم من الغي والغَوَاية حتى حكم بزيادة النون؛ لأنه قابله بضده وهو قوله: "رشدان"، وترك أن يشتقه من الغَيْن، وهو إلباس الغيم؟ ألا ترى إلى قوله:
كأني بَيْنَ خافِيتى عُقاب ... أصاب حَمامة في يوم غَيْن
فصار "غَيَّان" عنده مع التضعيف الذي فيه بمنزلة ما لا تضعيف فيه من نحو: مَرْجان وسَعْدان، فكما يحكم بزيادة النون في مثل هذا من غير التضعيف، كذلك حكم بزيادتها مع التضعيف). [المحتسب: 1/88]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة ابن مسعود وابن عباس: [وثُومِها] بالثاء.
قال أبو الفتح: يقال: الثُّوم والفُوم بمعنى واحد؛ كقولهم: جدث وجدف، وقام زيد ثم عمرو، ويقال أيضًا: فم عمرو؛ فالفاء بدل فيهما جميعًا؛ ألا ترى إلى سَعَة تصرف الثاء في جدث، لقولهم: أجداث، ولم يقولوا: أجداف، وإلى كثرة ثُمَّ وقلة فُمَّ؟ ويقال: الفوم: الحنطة، قال:
قد كنت أحسبني كأغنى واجد ... وَرَد المدينة عن زراعة فُوم
أي: حنطة). [المحتسب: 1/88]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة زهير الفُرقُبي: [الذي هو أَدْنَأ] بالهمز.
قال أبو الفتح: أخبرنا أبو علي عن أبي الحسن علي بن سليمان عن أبي العباس محمد بن يزيد
[المحتسب: 1/88]
عن الرياشي عن أبي زيد قال: تقول: دَنُؤ الرجل يَدْنُؤ دناءَة، وقد دَنأ يدنأ إذا كان دنيئًا لا خير فيه، غير أن القراءة بترك الهمز: {أدنى}، وينبغي أن يكون من دنا يدنو؛ أي: قريب.
ومنه قولهم في المعنى: هذا شيء مقارب للشيء ليس بفاخر ولا موصوف في معناه، ومن هذه المادة قولهم: هذا شيء دونٌ؛ أي: ليس بذاك، وقولهم: هذا دونك، فينتصب هذا على الظرف؛ أي: هو في المحل الأقرب، وينبغي أن يكون "دون" من قولك: هذا رجل دون، وصفًا على فُعْل كحُلْو ومُر، ورجل جُدٍّ؛ أي: ذي جَدٍّ.
وقد يجوز أن يكون في الأصل ظرفًا ثم وصف به، ويُؤنِّسُ هذا المذهب الثاني أنَّا لا نعرف فعلًا تصرف من هذا اللفظ كدان يدون ولا نحوه، ولو كان في الأصل وصفًا لكان حرى أن يستعملوا منه فِعلا؛ كقولهم: قد حلا يحلو، ومن يَمَرُّ وأَمَرَّ يُمِرُّ، وقد جَدِدْتَ يا رجل. قال الكميت:
وجدت الناس غير ابني نزار ... ولم أذمهم شرطًا ودُونَا). [المحتسب: 1/89]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة يحيى وإبراهيم: [ما سِأَلْتم] بكسر السين.
قال أبو الفتح: فيه نظر؛ وذلك أن هذه الكسرة إنما تكون في أول ما عينه معتلة كبِعت وخِفت، أو في أول فُعِل إذا كانت عينه معتلة أيضًا كقِيل وبِيع وحِلَّ وبِلَّ؛ أي: حُلَّ وبُلَّ، وصِعْق الرجل نحوه، إلا أنه لا تكسر الفاء في هذا الباب إلا والعين ساكنة أو مكسورة كنعم وبئس وصِعْق، فأما أن تكسر الفاء والعين مفتوحة في الفعل فلا.
فإذا كان كذلك فقراءتهما [سِأَلْتم] مكسورة السين مهموزة غريب، والصنعة في ذلك: أن في سأل لغتين: سِلْتَ تَسَال كخِفْتَ تَخَاف، وسأَلْتَ تَسْأَل كسَبَحَتَ تَسْبَح، فإذا أَسندت الفعل إلى نفسك قلت على لغة الواو: سِلْتُ كخِفْتُ، وهي من الواو؛ لما حكاه أصحابنا من قولهم: هما يتساولان.
ومن همز قال: سألت، فأما قراءته: [سِأَلْتم]، فعلى أنه كسر الفاء على قول مَن قال: [سِلْتُم] كخِفْتُم، ثم تنبه بعد ذلك للهمزة، فهمز العين بعدما سبق الكسر في الفاء فقال: [سِأَلْتم]؛ فصار ذلك من تركيب اللغة.
[المحتسب: 1/89]
ومثله ما رويناه عن أبي بكر محمد بن الحسن عن أبي العباس أحمد بن يحيى من قول بلال بن جرير:
إذا جِئْتَهم أو سآيلْتَهُم ... وجدتَ بِهِمْ علَّة حاضِرَه
وذلك أنه أراد فاعلتهم ساءلتهم.
ومن العادة أيضًا أن تُقلب الهمزة في هذا الثاني، فيقال: سايلت زيدًا، ثم إنه أراد الجمع بين العوض والمعوض منه، فلم يمكنه أن يجمع بينهما في موضع واحد كالعرف في ذلك؛ لأنه لا يكون حرفان واقعين في موضع واحد عينين كان أو غيرهما، فأجاءه الوزن إلى تقديم الهمزة التي هي العين قبل ألف فاعلت، ثم جاء بالياء التي هي بدل منها بعدها؛ فصار سآيلتهم.
فإن قيل ما مثال: سآيلتهم؟
قلت: هو فعاعلتهم؛ وذلك لأن الياء بدل من الهمزة التي هي عين، والبدل من الشيء يوزن بميزانه، ألا ترى أن من اعتقد في ياء أَيْنُق أنها عين أبدلت قال هي أَعْفُل؛ لأن الياء بدل من الواو التي هي عين نُوق، فالياء إذن عين في موضع العين، كما كانت الواو لو ظهرت في موضع العين، كما أن ياء ريح وعيد في المثال عين فِعْل، كما كانت الواو التي الياء بدل منها عين فعل في رِوْح وعِوْد، وهذا واضح.
وكذلك قوله أيضًا: [سِأَلْتم] بكسر الفاء على حد كسرها في سِلتم، ثم استذكر الهمزة في اللغة الأخرى فقال: سِأَلْتم، ويجوز أيضًا أن يكون أراد سَأَلْتم، فأبدل العين ياء كما أبدلها الآخر في قوله:
سالَتْ هذيلٌ رسول الله فاحشةً ... ضلَّتْ هذيلٌ بما قالت ولم تُصِبِ
فصار تقديره على هذا إلى سِلْتُم من الوجه؛ أي: من طريق البدل، لا على لغة مَن قال: هما يتساولان، فلما كسر السين استذكر الهمزة فراجعه هنا، كما راجعه في القول الأول.
[المحتسب: 1/90]
وقد أفردنا في كتاب الخصائص بابًا في أن صاحب اللغة قد يعتبر لغة غيره ويراعيها؛ فأغنى عن إعادته هنا). [المحتسب: 1/91]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({ويقتلون النّبيين بغير الحق}
قرأ نافع (ويقتلون النبيئين) بالهمز من أنبأ أي أخبر عن الله كما قال جلّ وعز من أنبأك هذا فالنبي صلى الله عليه وسلم ينبئ أي يخبر عن الله وهو فعيل من أنبأ وإنّما كان الاسم منه منئ ولكنه صرف عن مفعل إلى فعيل
[حجة القراءات: 98]
وحجته في أن النبئ مهموز قول عبّاس بن مرداس في مدحه نبي الله صلى الله عليه وسلم:
يا خاتم النباء إنّك مرسل ... بالحقّ خير هدى السّبيل هداكا
فقال يا خاتم النباء فجمعه على فعلاء لأن الواحد مهموز فقد صحّ على أن أصله الهمز وأنه من باب الصّحيح لا من باب المعتل لأن الصّحيح كذا يجمع كما تجمع النعوت الّتي على فعيل من غير ذوات الياء والواو مثل الشّريك والشركاء والحكيم والحكماء والعليم والعلماء ولو كان النّبي غير مهموز لم يجمع على فعلاء لأن النعوت الّتي تكون على فعيل من ذوات الياء والواو إنّما تجمع على أفعلاء كفعلهم ذلك في ولي ووصي ودعي إذا جمع يجمع أولياء وأوصياء وأدعياء ولا يجمع على فعلاء
وقرأ الباقون النّبيين بغير همز من نبانبو إذا ارتفع فيكون فعيلا من الرّفعة والنبوة الارتفاع وإنّما قيل للنّبي نبي لارتفاع منزلته وشرفه تشبيها له بالمكان المرتفع على ما حوله وحجتهم في ذلك أن كل ما في القرآن من جميع ذلك على أفعلاء نحو أنبياء الله وفي ذلك الحجّة الواضحة على أن الواحد منه بغير همز كما جمع ولي وأولياء ووصي وأوصياء ولو كان في التّوحيد مهموزا لكان الجمع منه فعلاء وحجّة أخرى روي أن رجلا قال للنّبي صلى الله عليه وسلم يا نبيء الله قال
لست بنيء الله ولكنّي
[حجة القراءات: 99]
نبي الله قال أبو عبيد كأنّه كره الهمز). [حجة القراءات: 100]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (36- قوله: «النبي، والنبوة، والأنبياء، والنبيين» قرأه نافع وحده
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/243]
بالهمز، وقرأ الباقون بغير همز إلا في موضعين في سورة الأحزاب، فإن قالون لا يهمزهما ويشدد الياء على أصله في الهمزتين المكسورتين، وتسهيله للأولى منها، فهذه همزة قبلها ياء زائدة، زيدت للم، فحكمها أن تبدل منها ياء، وتدغم فيها الياء الزائدة التي قبلها، على الأصول المتقدمة في تخفيف الهمزة.
37- وحجة من همز أنه أتى به على الأصل، لأنه من النبأ الذي هو الخبر؛ لأن النبي مخير عن الله جل ذكره، فهي تبنى على «فعيل» بمعنى «فاعل» أي: منبئ عن الله، أي مخبر عنه بالوحي الذي يأتيه من الله، فأصله بالهمز، فأتى به على أصله، ومعناه من الله، قال سيبويه: وكلٌ يقول تنبأ مسيلمة فيهمزون، وأجمعوا على الهمزة في «النبآء» جمع «نبيء»، فدل ذلك على أنه من «النباء»، وليس من النباوة، التي هي الرفعة، وأيضًا فإن وقوع اسم الأخبار عن الرسول أولى من وقوع اسم الرفعة؛ لأنه للإخبار عن الله أرسل، فأما من ترك همزة فإنه أجراه على التخفيف، لكثرة دوره واستعماله، فأبدل من الهمزة حرفًا من جنس ما قبلها، وأدغم ما قبلها في البدل، فقال: «النبي، والنبوة» ولما أتى الجمع المكسر، ولم يكن قبل الهمزة حرف زائد، وجب أن يجري على الأصول في التخفيف، فأبدل منها ياء مفتوحة؛ لانكسار ما قبلها، وذلك «الأنبياء» فهو مثل قوله: «من الشهادايِن تضل» في قراءة الحرميين
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/244]
وأبي عمرو، فأما الهمزة الثانية التي بعد الألف فهي همزة ثابتة، بدل من ياء «فعيل» كـ «صديق وأصدقاء» فلا اختلاف في همزة إلا لحمزة وهشام فإنها إذا وقفا يبدلان من الهمزة ألفًا، لأنهما يقفان بالسكون، ثم يحذفان إحدى الألفين لاجتماعهما، على ما قدمنا من الاختلاف في ذلك، وتمد إن قدرت الألف الثانية هي المحذوفة، ولا تمد إن قدرت الأولى هي المحذوفة، وكان الأصل أن يجعلاها في التخفيف بين الهمزة والواو، في حال روم الحركة، إذا كانت الهمزة مضمومة، وبين الهمزة والياء إذا كانت الهمزة مكسورة، لكن يؤدي ذلك إلى مخالفة الخط، فيرجع إلى السكون والبدل، وقد بينا هذا فيما تقدم، وزدناه بيانًا في هذا الموضع، فأما إذا كانت الهمزة مفتوحة فبالإسكان تقفن ثم تبدل من الهمزة ألفًا، على ما ذكرنا، لأن الفتح خفيف، فترك الروم فيه القراء. ترك الهمز، في هذا الباب كله، أحب إلي لأنه أخف، ولإجماع القراء عليه، ولما روي عن النبي عليه السلام من كراهة همز «النبي»، وهو اختيار أبي عبيد، ويجوز أن يكون من لم يهمز جعله من «النباوة» وهي الارتفاع فيون لا أصل له في الهمز). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/246]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (23- {النَّبِيِّينَ} [آية/ 61]:-
بالمد والهمز، قرأها نافع وحده، وكذلك همز: الأنبياء، والنبوة، والنبي، إلا في موضعين من الأحزاب: {للنَبِيِّ إِنْ} و{بُيُوتَ النَبِيِّ إِلاّ} في رواية ن- و- يل-.
[الموضح: 278]
ووجه الهمز هو أن {النبيء} فعيل من النبأ وهو الخبر، ومعناه: المخبر عن الله تعالى، فهو فعيل بمعنى مفعل، كأليم بمعنى مؤلم، فالهمز إذن أصل الكلمة، وليست هذه الكلمة مما ألزم فيه البدل كعيد وأعياد، إلا أن بعض العرب قد خفف فيها الهمزة، والمخفف في حكم المحقق.
وقد جاء جمع نبي على نبئاء على وزن فعلاء، قال:-
9- يا خاتم النبئاء إنك مرسل = بالخير كل هدى السبيل هداكا
فمجيء جمعه على فعلاء يدل على أن الكلمة مهموزة؛ لأن ما كان من الصحيح على فعيل فجمعه في الأغلب على فعلاء، وهمز النبئاء ظاهر.
وقد جاء فعيل في الصحيح على أفعلاء وإن كان قليلاً نحو نصيب وأنصباء.
وقرأ الباقون {النبِيِّينَ} ونحوه بغير همز.
لأن جمع النبي قد جاء في القرآن على أنبياء، كصفي وأصفياء وتقي وأتقياء، فمجيء جمعه على هذا المثال يدل على أنه قد ألزم فيه البدل، حتى صار كأن آخره ياء؛ لأن هذا المثال إنما يأتي غالبًا في جمع المعتل.
وقد قيل في النبي بغير همز أنه مشتق من النباوة وهي المرتفع من الأرض.
وأما رواية ن- و- يل- عن نافع في الأحزاب من ترك همز {للنّبِيِّ إِنْ}
[الموضح: 279]
و {بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا} فلأنهما ذهبا في الهمزتين المكسورتين إذا التقيا إلى تخفيف الأولى منهما وتحقيق الثانية. وتخفيف الهمزة ههنا هو أن تقلب حرفًا من جنس الذي قبلها وهو الياء، ثم يدغم الياء في الياء، ولا تجعل الهمزة بين بين؛ لأن في ذلك تقريبًا لها من الساكن ولا يجوز ذلك؛ لأن ما قبلها ساكن، ولا يجوز أيضًا حذفها بعد نقل حركتها إلى ما قبلها؛ لأن ما قبلها مدة زائدة، ولا يجوز نقل حركة الهمزة إلى حرف زائدٍ). [الموضح: 280]

روابط مهمة:
- أقوال المفسرين

جمهرة علوم القرآن 26 محرم 1440هـ/6-10-2018م 02:28 PM

سورة البقرة
[من الآية (62) إلى الآية (64) ]

{إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64) }

قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (قوله جلّ وعزّ: (الصّابئين)
قرأ نافع وحده (الصابين " و(الصابون) - بغير همز - في كل القرآن.
وهمز الباقون (الصّابئين).
والهمز فيها هي اللغة الجيدة، ومن قولك: صبأ فلان يصبأ: إذا خرج من دين إلى دين.
وصبأ نابه، أي: خرجت، وصبأت النجوم: إذا طلعت كل ذلك مهموز.
ومن قرأ بغير الهمز ففيه قولان:
أحدهما: أنه من صبا يصبو؟ إذا مال إلى هواه.
والقول الآخر: أنه على تخفيف الهمز على لغة من يخففها.
والقراءة المختارة أن يهمز الباب لاتفاق أكثر القراء). [معاني القراءات وعللها: 1/155]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في الصّابئين [البقرة/ 62]، والصّابئون [المائدة/ 69]. في الهمز وتركه فقرأ نافع: الصابين والصابون في كلّ القرآن بغير همز، ولا خلف للهمز، وهمز ذلك كلّه الباقون.
[قال أبو علي]: قال أبو زيد: صبأ الرجل في دينه، يصبأ صبوءا: إذا كان صابئا. وصبأ ناب الصبي يصبأ صبأ: إذا طلع.
وقال أبو زيد: صبأت عليهم، تصبأ، صبأ، وصبوءا: إذا طلعت عليهم، وطرأت على القوم أطرأ طرءا وطروءا مثله.
فكأنّ معنى الصابئ: التارك دينه الذي شرع له إلى دين غيره، كما أن الصابئ على القوم تارك لأرضه، ومنتقل إلى سواها والدّين الذي فارقوه، هو تركهم التوحيد إلى عبادة النجوم أو تعظيمها، ومن ثمّ خوطب المسلمون بقوله:... ولا تكونوا من المشركين من الذين فارقوا دينهم وكانوا شيعا
[الحجة للقراء السبعة: 2/94]
[الروم/ 31 - 32] فالدّين الذي فارقه المشركون هو: التوحيد الذي نصب لهم عليه أدلّته، لأنّ المشركين لم يكونوا أهل كتاب، ولا متمسكين بشريعة، فهم في تركهم ما نصب لهم الدليل عليه، كالصابئين في صبوئهم إلى ما صبئوا إليه. ومثل قوله: فارقوا دينهم قوله كذلك زيّنّا لكلّ أمّةٍ عملهم [الأنعام/ 108] أي: عملهم الذي فرض عليهم ودعوا إليه، وكذلك قوله: وكذلك زيّن لكثيرٍ من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم [الأنعام/ 137] أي:
دينهم الذي دعوا إليه، وشرع لهم، ألا ترى أنهم لا يلبسون عليهم التّديّن بالإشراك، وإنما سمّي شريعة الإسلام دينهم، وإن لم يجيبوا إليه ولم يأخذوا به، لأنهم قد شرع لهم ذلك ودعوا إليه، فلهذا الالتباس الذي لهم به جاز أن يضاف إليهم، كما أضاف الشاعر الإناء إلى الشارب لشربه منه وإن لم يكن ملكا له في قوله:
إذا قال قدني قلت بالله حلفة... لتغني عنّي ذا إنائك أجمعا
وهذا النحو من الإضافة كثير، فالمعنى: على أن لام الكلمة همزة، فالقراءة بالهمز هو الوجه الذي عليه المعنى.
فأما من قال: الصابون فلم يهمز، فلا يخلو من أحد أمرين: إمّا أن يجعله من صبا، يصبو، وقول الشاعر:
[الحجة للقراء السبعة: 2/95]
صبوت أبا ذيب وأنت كبير أو تجعله على قلب الهمزة فلا يسهل أن تأخذ، من صبا إلى كذا، لأنه قد يصبو الإنسان إلى الدين فلا يكون منه تديّن به مع صبوّه إليه، فإذا بعد هذا، وكان الصابئون منتقلين من دينهم الذي أخذ عليهم إلى سواه، ومتدينين به، لم يستقم أن يكون إلّا من صبأ الذي معناه: انتقال من دينهم الذي شرع لهم إلى آخر لم يشرع لهم، فيكون الصابون إذا: على قلب الهمزة، وقلب الهمز على هذا الحدّ لا يجيزه سيبويه إلا في الشعر، ويجيزه غيره، فهو على قول من أجاز ذلك، وممن أجازه أبو زيد، وحكي عن أبي زيد قال: قلت لسيبويه:
سمعت: قريت، وأخطيت قال: فكيف تقول في المضارع؟
قلت: أقرأ، قال: فقال: حسبك. أو نحو هذا، يريد سيبويه: أنّ قريت مع أقرأ، لا ينبغي، لأن أقرأ على الهمز وقريت على القلب. فلا يجوز أن يغيّر بعض الأمثلة دون بعض، فدلّ ذلك على أن القائل لذلك غير فصيح، وأنه مخلّط في لغته.
الإعراب:
من حقق الهمزة فقال: الصابئون، مثل: الصابعون، ومن خفّفها جعلها في قول سيبويه، والخليل: بين بين، وزعم
[الحجة للقراء السبعة: 2/96]
سيبويه أنه قول العرب، والخليل. وفي قول أبي الحسن:
يقلبها ياء قلبا، وقد تقدم ذكر ذلك في هذا الكتاب. ومن قلب الهمزة التي هي لام ياء، فقال: الصابون. نقل الضمة التي كانت تلزم أن تكون على اللام إلى العين فسكنت الياء فحذفها لالتقاء الساكنين هي وواو الجمع، وحذف كسرة عين فاعل، فحرّكها بالضمة المنقولة إليها، كما أن من قال: خفت، وحبّ بها، وحسن ذا أدبا، فنقل الحركة من العين إلى الفاء حذف الحركة التي كانت للفاء في الأصل، وحرّكها بالحركة المنقولة كما حرّك العين من فاعل بالحركة المنقولة، وقياس نقل الحركة التي هي ضمة إلى العين أن تحذف كسرة عين فاعل، وتنقل إليها الكسرة التي كانت تكون للّام، ألا ترى أن الضمة منقولة إليها بلا إشكال، وإن شئت قلت لا أنقل حركة اللام التي هي الكسرة كما نقلت حركتها التي هي الضمة، لأني لو لم أنقل الحركة التي هي الضمة، وقررت الكسرة، لم يصحّ واو الجميع، فليس الكسرة مع الياء كالكسرة مع الواو، فإذا كان كذلك أبقيت الحركة التي كانت تستحقّها اللام فلم أنقلها، كما أبقيت حركة المدغم، ولم أنقلها في قول من قال: يهدي فحرّك الهاء بالكسر لالتقاء الساكنين، ولم ينقلها كما نقل من قال: يهدي، [يونس/ 35].
ومثل ذلك في أنّك تنقل الحركة مرة ولا تنقل أخرى قوله:
[الحجة للقراء السبعة: 2/97]
وحبّ بها مقتولة وحبّ بها مقتولة! وحسن ذا أدبا، وحسن ذا أدبا، ونحو ذلك.
فإن قلت: فلم لا تنقل الحركة التي تستحقّها اللام إذا انقلبت ألفا نحو: المصطفى والمعلّى إلى ما قبلها، كما نقلت حركة الياء في نحو قولك: فأولئك هم العادون [المعارج/ 31] فجاء: وأنتم الأعلون [آل عمران/ 139] وهم المصطفون، مفتوحا ما قبل الواو منه، وهلّا نقلت الحركة كما نقلت في نحو: هم العادون [المعارج/ 31]، فالقول في ذلك أنّ المحذوف لالتقاء الساكنين في حكم الثابت في اللفظ، كما كان المحرّك لالتقائهما في حكم السكون، يدلك على ذلك نحو: رمت المرأة، واردد ابنك، فإذا كان كذلك، كان الألف في الأعلون، في حكم الثبات، وإذا كان في حكمه لم يصحّ تقدير نقل الحركة منها، لأنّ ثبات الألف
[الحجة للقراء السبعة: 2/98]
ألفا في تقدير الحركة فيها. وإذا كان في تقديرها، لم يجز نقلها، لأنه يلزم منه تقدير ثبات حركة واحدة في موضعين، وليس كذلك الياء لأنها قد تنفصل عن الحركة، وتحرّك بالضمة والكسرة في نحو:
ألم يأتيك والأنباء..
و: غير ماضي فإن قال: فهلّا إذا كان الأمر على ما وصفت لم يجز أن يجمع ما كان آخره ألف التأنيث، نحو: حبلى، إذا سمّيت به رجلا أن تقول في جمعه: حبلون، لأنه
يلزم من ذلك اجتماع علامة التذكير والتأنيث في اسم، فيلزم أن يمتنع كما امتنع أن يجمع طلحة بالواو والنون- اسم رجل- في قول العرب والنحويين، إذا أثبتّ التاء فيه لاجتماع علامة تأنيث وتذكير في اسم واحد.
فالقول في ذلك أن الألف في حبلى اسم رجل، إذا قلت: حبلون، إنما جاز لأنك إذا سميت به لا تريد به معنى التأنيث، كما أردت به ذلك قبل التسمية، فجاز لأنك تخلع منها علامة التأنيث، فتجعل الألف لغيره، ألا ترى أن في كلامهم ألفا ليست للتأنيث، ولا للإلحاق ولا هي منقلبة نحو: قبعثرى،
[الحجة للقراء السبعة: 2/99]
ونحو: ما حكاه سيبويه: من أن بعضهم يقول: بهماه، فإذا قدّرت خلع علامة التأنيث منها جاء جمع الكلمة بالواو والنون، كما أنك لما قلبتها ياء جاز جمعها بالألف والتاء نحو: حبليات وحباريات، فخلع علامة التأنيث منها في التسمية بما هي فيه كقلبها إلى ما قلبت إليه في حبليات، وصحراوات، وخضراوات). [الحجة للقراء السبعة: 2/100]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة أبي السَّمَّال، رواها أبو زيد فيما رواه ابن مجاهد: [وَالَّذِينَ هَادَوْا] بفتح الدال.
قال أبو الفتح: ينبغي أن يكون فاعَلوا من الهداية؛ أي: رامُوا أن يكون أهدى من غيرهم، كقولك: رامَوْا من رميت، وقاضَوْا من قضيت، وساعَوْا من سعيت، فيقول في مصدر هادَوا: مهاداة؛ كقاضوا مقاضاة، وساعوا مساعاة، وقد هودِي الرجل يُهَادى مهاداة، إذا كان حوله من يمسكه ويهديه الطريق، ومنه قولهم في الحديث: "مر بنا يهادى بين اثنين"، ومنه قوله:
من أن يرى تهديه فتـ ... يان المقامة بالعشيه). [المحتسب: 1/91]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({إن الّذين آمنوا والّذين هادوا والنّصارى والصّابئين من آمن باللّه واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون}
قرأ نافع والصابين والصابون بغير همز من صبا يصبو أي مال إلى دينه وحجته قوله تعالى وإلّا تصرف عني كيدهن أصب إليهنّ أي أمل إليهنّ ومنه سمي الصّبي صبيا لأن قلبه يصبو إلى كل لعب لفراغ قلبه
وقرأ الباقون الصابئين بالهمز أي الخارجين من دين إلى دين يقال صبأ فلان إذا خرج من دينه يصبأ ويقال صبأت النّجوم إذا ظهرت وصبأ نابه إذا خرج). [حجة القراءات: 100]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (38- قوله: «والصابئين، والصابئون» قرأه نافع بغير همز، وهمزه الباقون.
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/245]
39- فمن همز جعله من «صبا الرجل في دينه» إذا خرج منه وتركه، ومنه قولهم: صبأ ناب الصبي، إذا طلع، وصبأت النجوم إذا ظهرت، والصابئ التارك لدينه الخارج منه، فلام الفعل همزة، فكذلك يجب أن تكون في الصابئين.
40- فأما من لم يهمز فهو على أحد وجهين، إما أن يكون خفف الهمزة على البدل، فأبدل منه ياء مضمومة، أو واوًا مضمومة، في الرفع، فلما انضمت الياء إلى الواو ألقى الحركة على الياء استثقالًا للضم على حرف علة، فاجتمع حرفان ساكنان، فحذف الأول لالتقاء الساكنين، وهذا الحذف والاعتلال كالحذف والاعتلال في «العاصين والعاصون» فقسه عليه، وكذلك أبدل منه ياء في النصب مكسورة، ثم حذف الكسرة لاجتماع ياءين الأولى مكسورة، فاجتمع له ياءان ساكنتان، فحذف احداهما لالتقاء الساكنين، فقال: «الصابين» والبدل في مثل هذا للهمزة في التخفيف، مذهب الأخفش وابي زيد، فأما سيبويه فلا يجيز البدل في المتحركة ألبتة، إلا إذا كانت مفتوحة وقبلها ضمة أو كسرة، وقد ذكرنا ذلك وبيناه، فإن وقع في شعر أجازه سيبويه.
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/246]
والوجه الثاني أن يكون من «صبا، يصبو» إذا فعل ما لا يجب له فعله، كما يفعل الصبي، فيكون في الاعتلال، قد حذف لامه في الجمع، وهي واو مضمومة في الرفع، وواو مكسورة في الخفض والنصب، فجرى الاعتلال على إلقاء حركة الواو على الياء، وحذف الواو الأولى لسكونها وسكون واو الجمع أو يائه بعدها، فهي في الاعتلال مثل اعتلال قولك: رأيت الغازين، وهؤلاء الغازون، فقسه عليه). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/247]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (24- {الصَّابِئِينَ} [آية/ 62] و{الصَابِئُون} بالهمز فيهما حيثما وقعا:-
اتفق عليه القراء كلهم إلا نافعًا وحده فإنه قرأ: {الصَابِينَ} و{الصَابُونَ} بلا همز.
ووجه قراءة الجماعة أن الكلمة من صبأ الرجل في دينه إذا ترك دينه وانتقل إلى دين آخر، وأصل ذلك من قولهم: صبأ ناب البعير إذا طلع، وصبأت على القوم إذا طلعت عليهم؛ لأن الصابئ ينتقل من عبادة الله إلى عبادة النجوم، كما أن الصابئ على القوم ينتقل من أرض إلى أرضٍ أخرى، فالوجه على هذا هو القراءة بالهمز؛ لما أريتك من كون الهمزة لام الكلمة.
ووجه قراءة نافع هو أن الكلمة وإن كانت من الهمزة على ما سبق فإنه قلب منها الهمزة قلبًا، وقلب الهمزة وإن كان لا يجيزه سيبويه إلا في الشعر، فإن أبا زيدٍ يجيزه، على أنه أيضًا لا يجعله لغة جيدة.
[الموضح: 280]
فإذا قلب الهمزة على مذهب أبي زيد قال في صبأت: صبيت، كما قال في قرأت: قريت، وفاعله على هذا صاب كقاضٍ، والجمع الصابون مثل القاضون، وفي الجر والنصب الصابين مثل القاضين سواء.
وإن جعل نافع الكلمة مأخوذةً من صبا إلى الشيء يصبو إذا مال إليه لم يستقم المعنى؛ لأنه ليس كل من يصبو إلى دين كان متدينًا به). [الموضح: 281]

قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63)}

قوله تعالى: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64)}

روابط مهمة:
- أقوال المفسرين

جمهرة علوم القرآن 26 محرم 1440هـ/6-10-2018م 02:29 PM

سورة البقرة
[من الآية (65) إلى الآية (66) ]

{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)}

قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65)}

قوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)}



روابط مهمة:
- أقوال المفسرين

جمهرة علوم القرآن 26 محرم 1440هـ/6-10-2018م 02:31 PM

سورة البقرة
[من الآية (67) إلى الآية (74) ]

{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآَنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)}


قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (قوله جلّ وعزّ: (أتتّخذنا هزوًا)
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر والكسائي (هزؤًا)، و(كفؤًا) بالهمز والتخفيف، واختلف عن نافع وعاصم، وأما
[معاني القراءات وعللها: 1/155]
حمزة فإنه قرأ (كفؤا) " و(هزؤا)، وهما لغتان جيدتان، فاقرأ كيف شئت). [معاني القراءات وعللها: 1/156]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في قوله: أتتخذنا هزؤا [البقرة/ 67] في الهمز وتركه، والتخفيف والتثقيل، وكذلك جزا وكفواً [الإخلاص/ 4].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر والكسائيّ: هزواً، وكفواً بضمّ الفاء والزّاي والهمز، وجزا بإسكان الزاي والهمز.
وروى القصبيّ عن عبد الوارث عن أبي عمرو، واليزيديّ أيضا عن أبي عمرو: أنه خفّف «جزا» وثقل «هزواً، وكفواً».
وروى عليّ بن نصر وعباس بن الفضل عنه أنه خفّف «جزءا وكف ءا».
[الحجة للقراء السبعة: 2/100]
وروى محبوب عنه «كف ءا» خفيفا.
وروى أبو زيد وعبد الوارث في رواية أبي معمر أنه خيّر بين التّثقيل والتّخفيف.
وروى الأصمعيّ أنّه خفّف «هزءا وجزءا». وقرأهنّ حمزة ثلاثهنّ بالهمز أيضا. غير أنه كان يسكّن الزّاي من قوله «هزءا»، والفاء من قوله: «كف ءا» والزّاي من «جزء»، وإذا وقف قال: «هزوا» بلا همز، ويسكّن الزاي والفاء، ويثبت الواو بعد الزّاي وبعد الفاء، ولا يهمز، ووقف على قوله: «جزّا» بفتح الزّاي من غير همز، حكى ذلك أبو هشام عن سليم عن حمزة يرجع في الوقف إلى الكتاب.
واختلف عن عاصم، فروى يحيى عن أبي بكر عنه:
«جزؤا وهزؤا وكفؤا» مثقّلات مهموزات. وروى حفص:
أنه لم يهمز «هزوا ولا كفوا» ويثقّلهما، وأثبت الواو وهمز «جزءا» وخفّفها.
[الحجة للقراء السبعة: 2/101]
[حدثنا أبو بكر بن مجاهد قال]: حدثني وهيب بن عبد الله، عن الحسن بن المبارك، عن عمرو بن الصّباح، عن حفص، عن عاصم: «هزوا وكفوا» يثقّل ولا يهمز. ويقرأ «جزءا» مقطوعا بلا واو، يهمز ويخفّف. وكذلك قال هبيرة عن حفص عن عاصم «جزءا» خفيف مهموز. وحدّثني وهيب بن عبد الله المروذيّ قال: حدّثنا الحسن بن المبارك قال: قال أبو حفص: وحدّثني سهل أبو عمرو عن أبي عمر عن عاصم أنه كان يقرأ: «هزؤا وكفوا» يثقّل، فربما همز، وربّما لم يهمز. قال: وكان أكثر قراءته ترك الهمز.
حدّثني محمد بن سعد العوفيّ عن أبيه، عن حفص عن عاصم أنه لا ينقص، نحو «هزؤا وكفؤا» ويقول: أكره أن تذهب عني عشر حسنات بحرف أدعه إذا همزته. وذكر عاصم أن أبا عبد الرحمن السلميّ كان يقول ذلك، وروى حسين الجعفيّ عن أبي بكر عن عاصم «هزوا وكفوا» بواو ولم يذكر الهمز.
[الحجة للقراء السبعة: 2/102]
وروى المفضّل عن عاصم «هزءا» مهموزا ساكنة الزاي في كل القرآن.
واختلفوا عن نافع في ذلك، فروى ابن جمّاز وورش وخلف بن هشام عن المسيّبي وأحمد بن صالح المصري عن قالون: أنه ثقّل «هزؤا وكفؤا» وهمزهما [وخفف جزءا وهمزها] وكذلك قال يعقوب بن حفص عنه.
وقال إسماعيل بن جعفر عن نافع وأبو بكر بن أبي أويس عن نافع «هزءا وجزءا وكف ءا» مخففات مهموزات.
وأخبرني محمد بن الفرج، عن محمد بن إسحاق، عن أبيه، عن نافع، وحدثنا القاضي عن قالون، عن نافع: أنه ثقّل (هزؤا) وهمزها، وخفّف (جزءا وكفؤا) وهمزهما.
وقال الحلوانيّ عن قالون: أنّه ثقّل (كفؤا) أيضا.
حدثني أبو سعيد البصريّ الحارثيّ عن الأصمعيّ عن
[الحجة للقراء السبعة: 2/103]
نافع أنه قرأ: «هزؤا» مثقّلة مهموزة.
وروى أبو قرّة عن نافع: هزءا خفيفة مهموزة. ولم يذكر غير هذا الحرف.
قال أبو زيد: هزئت هزءا ومهزأة. وقال: [أبو علي:
قوله تعالى] أتتّخذنا هزواً فلا يخلو من أحد أمرين:
أحدهما: أن يكون المضاف محذوفا، لأن (الهزء) حدث، والمفعول الثاني في هذا الفعل يكون الأول، قال: لا تتّخذوا عدوّي وعدوّكم أولياء [الممتحنة/ 1] أو يكون: جعل الهزء المهزوء به مثل: الخلق، والصيد في قوله: أحلّ لكم صيد البحر [المائدة/ 96] ونحوه.
فأما قوله: لا تتّخذوا الّذين اتّخذوا دينكم هزواً ولعباً [المائدة/ 57]. فلا تحتاج فيه إلى تقدير محذوف مضاف كما احتجت في الآية الأخرى، لأن الدّين ليس بعين.
وقول موسى عليه السلام: أعوذ باللّه أن أكون من الجاهلين [البقرة/ 67]
[الحجة للقراء السبعة: 2/104]
في جواب: أتتخذنا هزؤا يدلّ على أن الهازئ جاهل.
قال أبو الحسن: زعم عيسى أنّ كلّ اسم على ثلاثة أحرف أوله مضموم، فمن العرب من يثقّله ومنهم من يخفّفه، نحو: العسر واليسر والحكم والرّحم، فممّا يقوي هذه الحكاية أن ما كان على فعل من الجموع، مثل: كتاب، وكتب، ورسول ورسل، قد استمرّ فيه الوجهان، فقالوا: رسل، ورسل، حتى جاء ذلك في العين إذا كانت واوا نحو:
...... سوك الإسحل ونحو قوله:
وفي الأكفّ اللامعات سور
[الحجة للقراء السبعة: 2/105]
وحكى أبو زيد: قوم قول. فأما فعل في جمع أفعل نحو: أحمر وحمر: فكأنهم ألزموه الإسكان للفصل بين الجمعين. وقد جاء فيه التحريك في الشعر، وإذا كان الأمر على هذا يجب أن يكون ذلك مستمرا في نحو: الجزء، والكفء، والهزء. إلّا أنّ من ثقّل فقال: رأيت جزؤا، وكفؤا، فجاء به مثقّل العين محقّق الهمزة، فله أن يخفّف الهمزة، فإذا خفّفها وقد ضمّ العين لزم أن يقلبها واوا فيقول: رأيت جزوا، ولم يكن له كفواً أحدٌ [الإخلاص/ 4]. فإن خفّف كما يخفف الرحم فأسكن العين، قال: هزواً وجزوا فأبقى الواو التي انقلبت عن الهمزة لانضمام ما قبلها، وإن لم تكن ضمة العين في اللفظ لأنها مرادة في المعنى، كما قالوا: لقضو الرجل، فأبقوا الواو ولم يردّوا اللام التي هي ياء من قضيت، لأن الضمة وإن كانت محذوفة من اللفظ مرادة في المعنى.
وكذلك قالوا: رضي زيد، فيمن قال: علم ذاك، فلم يردّوا الواو التي هي لام لزوال الكسرة، لأنها مقدّرة مرادة، وإن كانت محذوفة من اللفظ. ومما يقوي أنّ هذه الحركة، وإن كانت محذوفة في اللفظ، مرادة في التقدير- رفضهم جمع كساء، وغطاء، ونحوه من المعتل اللام على فعل. ألا ترى أنّهم رفضوا جمعه على فعل لمّا كان في تقدير فعل، واقتصروا على أدنى العدد، نحو: أغطية وأكسية، وخباء وأخبية، فكذلك تقول: رأيت كفوا، فتثبت الواو وإن كنت قد حذفت الضمة الموجبة لاجتلابها.
[الحجة للقراء السبعة: 2/106]
فأما من أسكن فقال: (الجزء والكفء)، كما تقول:
اليسر، فتكلّم به مسكّن العين، وخفّف الهمزة على هذا، فإنّ تخفيف الهمزة في قوله: أن يحذفها ويلقي حركتها على الساكن الذي قبلها. فيقول: رأيت جزا، كما يقول: يخرج الخب في السماوات [النمل/ 25] فإذا وقف على هذا في القول الشائع، أبدل من التنوين الألف كما تقول: رأيت زيدا، فإذا وقف في الرفع والجرّ، حذف الألف كما يحذف من يد، وغد، فيهما. وعلى ما وصفنا تقول: لبؤة، فإذا خففت الهمزة قلت: لبوة، فإن أسكنت العين في من قال: عضد، وسبع، قلت: لبوة فلم تردّ الهمزة لتقدير الحركة،
وزعموا أنّ بعضهم قال: لباة، فهذا كأنّه كان: لبأة، ساكن العين ولم يقدّر فيها الحركة التي في لبؤة فخفّفها على قول من قال: «المراة والكماة» وليس هذا مما يقدح فيما حكاه عيسى. ألا ترى أنّهم قد قالوا: رضيوا، فجعلوا السكون الذي في تقدير الحركة بمنزلة السكون الذي لا تقدّر فيه الحركة، ولولا ذلك للزم حذف الياء التي هي لام كما لزم حذفها في قول من حرّك العين ولم يسكن.
فإذا كان الأمر في هذه الحروف على ما ذكرنا، فقراءة من قرأ بالضم وتحقيق الهمز في الجواز والحسن، كقراءة من
[الحجة للقراء السبعة: 2/107]
قرأ بالإسكان وقلب الهمزة واوا، لأنه تخفيف قياسيّ. ويجوز أن يأخذ الآخذ باللغتين جميعا كما روى أبو زيد عن أبي عمرو، أنه خيّر بين التخفيف والتثقيل. فأمّا قراءة حمزة للحروف الثلاثة بالإسكان والهمز فعلى قول من قال: اليسر والرّحم.
فأما اختياره في الوقف: هزواً بإسكان الزاي، وإثبات الواو بعدها، وبعد الفاء من كفو ورفضه الهمز في الوقف، فإنه ترك الهمز في الوقف هنا كما تركه في غير هذا الموضع ووجه تركه الهمز في الوقف أن الهمزة حرف قد غيّر في الوقف كثيرا. ألا ترى أنها لا تخلو من أن تكون ساكنة أو متحركة، فإذا كانت ساكنة، لزمها بدل الألف إذا انفتح ما قبلها. وبدل الياء إذا انكسر ما قبلها، وبدل الواو إذا انضمّ ما قبلها في لغة أهل الحجاز، وذلك قولك: لم أقرأ، تبدلها ألفا، ولم أهني تبدلها ياء، وهذه أكمو، تبدلها واوا.
فإذا كانت متحركة لزمها القلب في نحو: هذا الكلو، وبالكلي، ورأيت الكلا. فلما رأى هذه التغييرات تعتقب عليها في الوقف، غيّرها فيه. ألا ترى أن الهمزة الموقوف عليها لا تخلو من أن تكون في الوصل ساكنة أو متحركة، وقد تعاورها ما ذكرنا من التغيير في حال حركتها وسكونها، ألزمها التغيير في الوقف ولم يحقّقها فيه، لأن الوقف موضع يغيّر فيه الحروف التي لم تتغيّر تغيّر الهمزة فألزمها في الوقف التغيير، ولم يستعمل فيه التحقيق، لما رأى من حال الهمز في الوقف.
[الحجة للقراء السبعة: 2/108]
فإن قلت: فإنه قد غيّر ذلك في الوقف وإن لم يكن الهمز آخر الحرف الموقوف عليه: نحو يستهزؤن [النحل/ 34].
قيل: إن الوقف قد يغيّر فيه الحرف الذي قبل الحرف الموقوف عليه نحو: النقر والرّحل، فصار لذلك بمنزلة الموقوف عليه في التغيير.
فإن قلت: إن الهمزة في يستهزؤن ليس على حدّ النّقر.
قيل: يجوز أن تكون النون لما كانت تسقط للجزم والنصب عنده لم يعتدّ بها كما لا يعتدّ بأشياء كثيرة لا تلزم.
ويؤكد ذلك، أن النون إعراب وأنها بمنزلة الحركة من حيث كان إعرابا مثلها، فلم يعتدّ بها كما لا يعتدّ بالحركة.
فاختياره في الدّرج التحقيق، وفي الوقف التخفيف، مذهب حسن متجه في القياس. فأمّا وقفه على قوله: جزا بفتح الزاي من غير همز، فعلى قياس قوله: كفوا وهزوا.
ألا ترى أن (الجزء)، من أسكن العين منه فقياسه في الوقف في النصب جزا إذا وقف على قوله: وجعلوا له من عباده جزا [الزخرف/ 15] فإن وقف في الجرّ والرّفع، أسكن الزّاي في اللغة الشائعة فقال: هذا جز، ومررت بجز، وإن كان ممّن يقول: هذا فرجّ، فثقّل، لزمه أن يثقّل الحرف
[الحجة للقراء السبعة: 2/109]
الذي ألقى عليه حركة الهمزة. فإذا عضد هذا القياس أن يكون الكتاب عليه، جمع إليه موافقة الكتاب، وإنما جاء الكتاب فيما نرى على هذا القياس. وكذلك قراءة عاصم، وما روي عنه في ذلك، ليس يخرج من حكم التحقيق والتخفيف، والتخيير فيهما. وكذلك قول نافع ليس يخرج عما ذكرنا من حكم التحقيق والتخفيف). [الحجة للقراء السبعة: 2/110]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({فتوبوا إلى بارئكم} {إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة}
[حجة القراءات: 96]
قرأ أبو عمرو إلى بارئكم ويأمركم وينصركم بالاختلاس وحجته في ذلك أنه كره كثرة الحركات في الكلمة الواحدة وروي عنه إسكان الهمزة قال الشّاعر:
إذا اعوججن قلت صاحب قوم
والكلام الصّحيح يا صاحب أقبل أو يا صاحب اقبل
وقرأ الباقون بارئكم ويأمركم بالإشباع على أصل الكلمة وهو الصّواب ليوفى كل حرف حقه من الإعراب). [حجة القراءات: 97] (م)
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({قالوا أتتخذنا هزوا}
قرأ حمزة وإسماعيل عن نافع هزءا ساكنة الزّاي وقرأ
[حجة القراءات: 100]
الباقون هزؤا بضم الزّاي وهما لغتان التّخفيف لغة تميم والتثقيل لغة أهل الحجاز
قال الأخفش وزعم عيسى بن عمر أن كل اسم على ثلاثة أحرف أوله مضموم فمن العرب من يثقله ومنهم من يخففه نحو اليسر واليسر والعسر والعسر فمن خفف طلب التّخفيف لأنّه استثقل ضمتين في كلمة واحدة
وقرأ حفص هزوا بغير همز لأنّه كره الهمز بعد ضمتين في كلمة واحدة فلينها). [حجة القراءات: 101]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (41- قوله: «هزوا، وكفوا، وجزءا» قرأه حمزة بإسكان الزاي والفاء، وضمها الباقون، وكلهم همز إلا حفصًا، فإنه أبدل من الهمزة واوًا مفتوحة، على أصل التخفيف؛ لأنها همزة مفتوحة قبلها ضمة، فهي تجري على البدل كقوله: «السفهاء لا» في قراءة الحرميين وأبي عمرو، كذلك يفعل حمزة إذا وقف كأنه يعمل الضمة التي كانت على الزاي والفاء في الأصل، وكان يجب عليه على أصل التخفيف لو تابع لفظه، أن يُلقي حركة الهمزة على الساكن الذي قبلها، كما يفعل في «جزءا» فقال في الوقف «جُزا» فكان يجب أن يقول: «كفا، وهزا» لكنه رفض ذلك لئلا يخالف الخط، فأعمل الضمة الأصلية التي كانت على الزاي والفاء في الهمزة، فأبدل منها واوًا مفتوحة، ليوافق الخط، ثم يأتي بالألف التي هي عوض من التنوين، بعد ذلك. وكل القراء أسكن الزاي من «جزءا» إلا أبا بكر فإنه ضمها، فأما «جزء» المرفوع فأبو بكر يضم الزاي وحده، وكلهم همزه إلا حمزة وهشامًا إذا وقفا،
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/247]
فإنهما يُلقيان حركة الهمزة على الزاي، ويقفان بالروم لتلك الحركة، أو بالإشمام، فمن ضم الزاي والفاء أتى بهما على الأصل، ومن أسكنهما فعلى الاستخفاف، وهي لغة للعرب، حكى الأخفش عن عيسى بن عمر أن كل اسم على ثلاثة أحرف، أوله مضموم، ففيه لغتان: التثقيل والتخفيف نحو: «اليسر، والعسر، والهزؤ» ومثله ما كان من المجموع على «فعل» لك فيه التخفيف والتثقيل أيضًا، وقد تقدم ذكر علل تخفيف الهمزة وأحكامه، لكن لتخفيف الهمزة في: «هزوا وكفوا» مزية على ما تقدم، وذلك لما فيه من الثقل، لهمزة وضمتان في الأصل). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/248]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (25- {هُزُوًا} [آية/ 67] و{جُزْؤًا} و{كُفْؤًا}:-
قرأها حمزة و- يل- عن نافع مخففات مهموزات.
وقرأ ياش- عن عاصم بالهمز والتثقيل في الأحرف الثلاثة.
و- ص- عن عاصم بالواو والتثقيل في {هُزُوًا} و{كُفُوًا} فقط، وهَمَزَ {جُزْءًا} وخففها.
وقرأ يعقوب {هُزُؤًا} بالتثقيل والهمز، وخفف {جُزْءًا} و{كُفْؤًا} وهمزهما.
و- ش- و- ن- عن نافع {كُفُؤًا} و{هُزُؤًا} بالتثقيل والهمز، و{جزْءًا} بالتخفيف والهمز.
وكذلك قراءة الباقين.
وكان حمزة يترك الهمز في الوقف، فيقف في {هزوًا} و{كفوًا} على التثقيل والواو، وفي {جُزَا} على فتح الزاي من غير همز.
[الموضح: 281]
الباقون يقفون كما يصلون إلا في المنون يبدلون من التنوين ألفًا كسائر الأسماء.
اعلم أن كل ما كان على فعل مضموم الفاء، فإن للعرب فيه وجهين:
أحدهما: تسكين عينه، والآخر: تحريكها بالضم، وذلك كاليسر واليسر ونحوه.
وقد استمرت هذه الطريقة في الجمع أيضًا فقالوا: كتب وكتب ونحوه، فإذا صح ذلك فإن تسكين العين في هزو وجزو وكفو وتحريكها معًا جائزان، ثم إن آخر الكلمة همزة، وتحقيق الهمزة وتخفيفها معًا فيها جائزان، وقد تمسك بكل واحد من هذه الأوجه الجائزة قوم، ومن ذلك حصل الاختلاف، فاذا حركت العين بالضم وأريد تخفيف الهمزة وجب قلبها واوًا لضمة ما قبلها، فيقال: رأيت كفوًا، فإن سكنت العين بعد تخفيف الهمزة أبقيت الواو المنقلبة عن الهمزة بحالها فيقال: كفوًا؛ لأن الضمة وإن زالت في اللفظ فهي في حكم الثبات؛ لأنها مرادة في المعنى، فأما إذا سكنت العين من أول الأمر على لغة من قال: اليسر بالإسكان، فأريد تخفيف الهمزة من الهزء، فإن تخفيفها إنما هو بحذفها وإلقاء حركتها على الساكن قبلها، وذلك أن تقول: رأيت جزًا وكفًا بغير همز، وهذا جز وكف، ومررت بجز وكفٍ كيد ودم.
وأما ترك حمزة الهمزة في حال الوقف؛ فلأن الهمزة كثيرًا ما تغير في الوقف، ألا ترى أنك تبدل منها في حال الوقف حروف العلة على حسب حركات ما قبلها إن كانت ساكنةً، وعلى حسب حركات أنفسها إن كانت متحركةً.
فالساكنة نحو: لم أقرا ولم أهني وهذه أكمو، والمتحركة: هذا الكلو
[الموضح: 282]
ومررت بالكلي ورأيت الكلا، فإنما ذلك لأن الوقف موضع تغييرٍ، والهمزة قد تغير في غير حال الوقف فلأن تغير في حال الوقف أولى.
فلما كان كذلك اختار حمزة ترك الهمزة في حال الوقف). [الموضح: 283]

قوله تعالى: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68)}

قوله تعالى: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69)}

قوله تعالى: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70)}


قوله تعالى: {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآَنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71)}

قوله تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72)}

قوله تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)}

قوله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (من خشية اللّه وما اللّه بغافلٍ عمّا تعملون (74)
قرأ ابن كثير ها هنا: (عمّا يعملون) - بالياء -.
وقوله: (إلى أشدّ العذاب وما اللّه بغافلٍ عمّا يعملون (85) ) - بالياء - وقوله: (الحقّ من ربّهم وما اللّه بغافلٍ عمّا يعملون (144)) - بالياء - في هذه الثلاثة المواضع، وقرأ الباقي - بالتاء - وقرأ أبو عمرو في موضعين بالياء، قوله: (الحقّ من ربّهم وما اللّه بغافلٍ عمّا يعملون (144)، وقوله: (للحقّ من ربّك وما اللّه بغافلٍ عمّا يعملون (149). والباقي بالتاء.
وقرأ نافع وعاصم في رواية
[معاني القراءات وعللها: 1/156]
أبي بكر ويعقوب في موضعين بالياء، وهو قوله: (إلى أشدّ العذاب وما اللّه بغافلٍ عمّا يعملون (85)، و: (الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعملون).
وروى حفص عن عاصم موضعا بالياء، قوله: (الحقّ من ربّهم وما اللّه بغافلٍ عمّا يعملون (144).
هذه وحدها بالياء.
وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي: (وما الله بغافل عما تعملون) بالتاء وهي ستة مواضع: خمسة في البقرة، وواحدة في آل عمران، رأس تسع وتسعين منها.
قال أبو منصور: من قرأ (يعملون) فعلى الإخبار عنهم، ومن قرأ بالتاء فهو مخاطبة لهم). [معاني القراءات وعللها: 1/157]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في التاء والياء في قوله: وما اللّه بغافلٍ عمّا تعملون [البقرة/ 74]. فقرأ ابن كثير كلّ ما في القرآن من قوله: وما اللّه بغافلٍ عمّا تعملون بالتاء، إلا ثلاثة أحرف: قوله: لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما يعملون [البقرة/ 74] بالياء وقوله: يردون إلى أشد العذاب، وما الله بغافل عما يعملون [البقرة/ 85] بالياء.
وقوله: ليعلمون أنّه الحقّ من ربّهم وما اللّه بغافلٍ عمّا يعملون [البقرة/ 144]، بالياء. وقرأ ما كان من قوله: وما ربّك بغافلٍ عمّا يعملون بالياء [الأنعام/ 132 والنمل/ 93].
وقرأ نافع من هذه الثلاثة الأحرف حرفين بالياء: قوله:
إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما يعملون بالياء، وكذلك:
ليعلمون أنّه الحقّ من ربّهم وما اللّه بغافلٍ عمّا يعملون بالياء، وسائر القرآن بالتاء.
[الحجة للقراء السبعة: 2/110]
وكذلك قرأ ما كان من قوله: وما ربّك بغافلٍ عمّا تعملون. بالتاء، وهما حرفان في آخر سورة هود، [الآية/ 123]، وآخر سورة النّمل [الآية/ 93] فهما عنده بالتاء.
وقرأ في سورة الأنعام: وما ربّك بغافلٍ عمّا يعملون بالياء [الآية/ 132].
وقرأ ابن عامر كلّ ما جاء في القرآن من قوله: وما الله بغافل عما تعملون بالتاء. وقرأ في سورة الأنعام وآخر سورة هود وما ربّك بغافلٍ عمّا تعملون بالتاء، وقرأ في آخر سورة النّمل، وما ربّك بغافلٍ عمّا يعملون بالياء فهذه حروف كذلك في كتابي عن أحمد بن يوسف عن ابن ذكوان. ورأيت في كتاب موسى بن موسى الختّلي عن ابن ذكوان: بالتاء.
وفي آخر النمل: بالتاء أيضا.
وقال الحلوانيّ عن هشام بن عمار بإسناده عن ابن عامر ذلك كلّه بالتاء وما ربّك بغافلٍ، وما اللّه بغافلٍ.
وقرأ عاصم في رواية أبي بكر: وما اللّه بغافلٍ عمّا يعملون بالياء في موضعين، قوله: يردّون إلى أشدّ العذاب، وما اللّه بغافلٍ عمّا يعملون بالياء. وقوله: ليعلمون أنّه الحقّ من ربّهم وما اللّه بغافلٍ عمّا يعملون بالياء، وسائر القرآن بالتاء.
[الحجة للقراء السبعة: 2/111]
وكلّ ما في القرآن من قوله: وما ربّك بغافلٍ عمّا يعملون فهو بالياء، وهذا قول أبي بكر بن عيّاش عن عاصم. وقال حفص عن عاصم في رأس الأربع والأربعين والمائة: ليعلمون أنّه الحقّ من ربّهم وما اللّه بغافلٍ عمّا يعملون [البقرة] بالياء، هذه وحدها، وسائر القرآن بالتاء.
وقال حفص: قرأ عاصم في سورة الأنعام: ولكلٍّ درجاتٌ ممّا عملوا وما ربّك بغافلٍ عمّا يعملون [الآية/ 132] بالياء، وقرأ في آخر هود وآخر النّمل: وما ربّك بغافلٍ عمّا تعملون بالتاء مثل قراءة نافع.
وقرأ أبو عمرو رأس الأربع والأربعين والمائة، والتسع والأربعين والمائة: وما اللّه بغافلٍ عمّا يعملون بالياء، وسائر القرآن من قوله: وما اللّه بغافلٍ عمّا تعملون بالتاء.
وما كان من قوله: وما ربّك بغافلٍ عمّا يعملون فهو بالياء.
وقرأ حمزة والكسائيّ كلّ ما كان من قوله: وما ربّك بغافلٍ عمّا يعملون بالياء، وما اللّه بغافلٍ عمّا تعملون بالتاء.
وكلّ ما في القرآن من قوله: وما اللّه بغافلٍ فهو ستّة مواضع. خمسة منها في سورة البقرة، وحرف في آل عمران عند المائة. وما ربّك بغافلٍ ثلاثة مواضع: في الأنعام وآخر هود وآخر النّمل.
[الحجة للقراء السبعة: 2/112]
قال أبو عليّ: القول في جملة ذلك أنّ ما كان قبله خطاب جعل بالتاء، ليكون الخطاب معطوفا على خطاب مثله- كقوله: ثمّ قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة [البقرة/ 74] وما اللّه بغافلٍ عمّا تعملون، فالتاء هنا حسن، لأنّ المتقدّم خطاب. ولو كان: وما اللّه بغافلٍ عمّا يعملون على لفظ الغيبة. أي: وما الله بغافل عما يفعل هؤلاء الذين اقتصصنا عليكم قصصهم أيها المسلمون، لكان حسنا.
وإن كان الذي قبله غيبة، حسن أن يجعل على لفظ الغيبة، ليعطف ما للغيبة على مثله، كما عطفت ما للخطاب على مثله.
ويجوز فيما كان قبله لفظ غيبة الخطاب. ووجه ذلك أن تجمع بين الغيبة والخطاب، فتغلّب الخطاب على الغيبة، لأنّ الغيبة يغلب عليها الخطاب فيصير كتغليب المذكّر على المؤنّث، ألا ترى أنّهم قد بدءوا بالخطاب على الغيبة في باب الضمير، وهو موضع يردّ فيه كثير من الأشياء إلى أصولها؟
نحو: لك، ونحو قوله:
فلا بك ما أسال ولا أغاما فلمّا قدّموا المخاطب على الغائب فقالوا: أعطاكه ولم
[الحجة للقراء السبعة: 2/113]
يقولوا: أعطاهوك. علمت أنه أقدم في الرّتبة. كما أن المذكّر مع المؤنث كذلك. فإذا كان الأمر على هذا، أمكن في الخطاب في هذا النحو أن يعنى به الغيب والمخاطبون، فيغلّب الخطاب على الغيبة ويكون المعنى: ما الله بغافل عمّا تعملون.
أي فيجازي المحسن على إحسانه والمسيء على إساءته.
ويجوز في الخطاب بعد الغيبة وجه آخر، وهو أن يراد به: قل لهم أيها النبيّ: ما الله بغافل عمّا تعملون، فعلى هذا النحو تحمل هذه الفصول). [الحجة للقراء السبعة: 2/114]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة قتادة: [وَإِنْ مِنَ الْحِجَارَةِ]، وكذلك قراءته: [وَإِنْ مِنْهَا] مخففة.
قال ابن مجاهد: أحسبه أراد بقوله مخففة الميم؛ لأني لا أعرف لتخفيف النون معنى.
قال أبو الفتح: هذا الذي أنكره ابن مجاهد صحيح؛ وذلك أن التخفيف في إِنَّ المكسورة شائع عنهم؛ ألا ترى إلى قول الله تعالى: {إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا}، {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ} أي: إنهم على هذه الحال. وهذه اللام لازمة مع تخفيف النون
[المحتسب: 1/91]
فرقًا بين إِنْ مخففة من الثقيلة، وبين إِنْ التي للنفي بمنزلة "ما" في قوله سبحانه: {إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ}، وقوله:
فما إنْ طبنا جُبْنٌ ولكن ... منايانا ودولة آخرينا
وهذا واضح). [المحتسب: 1/92]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة الأعمش: [لما يَهْبُطُ] بضم الباء.
قال أبو الفتح: قد بينا في كتابنا "المنصف" -وهو تفسير تصريف أبي عثمان- أن باب فَعَل المتعدي أن يجيء على يفعِل مكسور العين؛ كضرب يضرب وحبس يحبس، وباب فَعَل غير المتعدي أن يكون على يفعُل مضموم العين؛ كعقد يقعد وخرج يخرج، وأنهما قد يتداخلان فيجيء هذا في هذا، وهذا في هذا؛ كقتل يقتُل، وجليس يجلِس، إلا أن الباب ومجرى القياس على ما قدمناه، فهبط يهبُط على هذا بضم العين أقوى قياسًا من يهبِط، فهو كسقط يسقط؛ لأن هبط غير متعدٍّ في غالب الأمر كسقط.
وقد ذُهب في هذا الموضع إلى أن هبط هنا متعد، قالوا ومعناه: لما يهبُطُ غيره في طاعة الله عز وجل؛ أي: إذا رآه الإنسان خشع لطاعة خالقه، إلا أنه حُذف هنا المفعول تخفيفًا، ولدلالة المكان عليه، ونسب الفعل إلى الحجر؛ لأن طاعة رائيه لخالقه إنما كانت مسببة عن النظر إليه؛ أي: منها ما يهبُط الناظر إليه؛ أي: يُخْضِعه ويُخْشِعه، وقد جاء هبطته متعديًا كما ترى، قال:
ما راعني إلا جناح هابطا ... على البيوت قَوطَهُ العلابِطَا
وأعمله في القوط، فعلى هذا تقول: هبط الشيء وهبطته، وهلك الشيء وهلكته، قالوا في قول العجاج:
ومهمهٍ هالِك من تَعرَّجا
[المحتسب: 1/92]
قولين؛ أحدهما: أنه كأنه قال: هالكِ المتعرجين، والآخر: هالكِ مَن تعرجا؛ أي: مهلك من تعرج، فتقول على هذا: أصبحت ذا مال مهلوك، وهلكه الله يهلِكه هُلكًا. وإذا كانت كذلك، وكانت هبط هنا قد تكون متعدية، فقراءة الجماعة: {لما يَهْبِطُ} بكسر الباء أقوى قياسًا من يهبُط؛ لأن معناه لما يهبِط مبصرَه ويحطه من خشية الله.
ومن ذهب فيه إلى أن يهبط هنا غير متعد فكأنه قال: وإن منها لما لو هبط شيء غير ناطق من خشية الله لهبط هو، لا أن غير الناطق تصح منه الخشية؛ ألا ترى أن قوله:
لها حافِرٌ مثل قُعب الوليـ ... ـد تتخذُ الفار فيه مَغَارا
أي: لو اتخذت فيه مغارًا لغوره وتقعبه لوسعها وصلح لها، لا أنها هي تتخذ ألبتة.
ومثله مسألة الكتاب: أَخَذَتْنَا بالْجَودِ وفوقَه؛ أي: لو كان فوق الجود شيء من المطر لكانت قد أخذتْنا به.
وكلام العرب لمن عرفه، ومَن الذي يعرفه؟ ألطف من السحر، وأنقى ساحة من مشوف الفكر، وأشد تساقطًا بعضًا على بعض، وأمس تساندًا نفلًا إلى فرض). [المحتسب: 1/93]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({وما الله بغافل عمّا تعملون * أفتطمعون أن يؤمنوا لكم}
قرأ ابن كثير {وما الله بغافل عمّا يعملون} بالياء أي وما الله بغافل عمّا يعمل هؤلاء الّذين اقتصصنا عليكم قصصهم أيها المسلمون
وقرأ الباقون بالتّاء على الخطاب وحجتهم قوله قبلها {ثمّ قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة} {وما الله بغافل عمّا تعملون} ). [حجة القراءات: 101] (م)
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (42- قوله: {وما الله بغافل عما تعملون} قرأه ابن كثير بالياء رده على قوله تعالى: {وما كادوا يفعلون} «71» ورده أيضًا على ما بعده من قوله: {وقد كان فريقٌ منهم}، وقوله: {يحرفون}، وقوله: {وهم يعملون} «75» فلما أتى ما قبله وما بعده على لفظ الغيبة، أجراه على ذلك، ولم يجره على قوله: {أفتطمعون}؛ لأنه خطاب للمؤمنين، و«يعلمون» يُراد به اليهود، وقرأه الباقون بالتاء، ردوه على الخطاب الذي قبله في قوله: {ويريكم آياته} «73» وقوله: {ثم قست قلوبكم} «74» فجرى آخر الكلام على أوله بالخطاب كله لليهود، وهو الاختيار؛ لأن عليه الجماعة، وهو اختيار أبي عبيد). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/248]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (26- {وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [آية/ 74]:-
بالياء، قرأ ابن كثير في ثلاثة مواضع بالياء ههنا وهو بعد قوله: {مِنْ خَشْيَةِ الله}، وقوله {إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ}، وقوله {الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ}، والباقي بالتاء. وقرأ أبو عمرو في موضعين بالياء بعد {الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ}، والباقي بالتاء. وقرأ أبو عمرو في موضعين بالياء بعد {الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} و{لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ}، والباقي بالتاء. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي {وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} بالتاء في جميع القرآن.
[الموضح: 283]
أما القراءة بالياء فمحمولة على لفظ الغيبة، كأنه قال: وما الله بغافل عما يعمل هؤلاء الذين أخبرناكم عن حالهم وقصصنا عليكم قصتهم أيها المؤمنون.
وأما القراءة بالتاء فإنها على الخطاب؛ لأن ما قبله خطاب، فيكون معطوفًا على مثله، وهو قوله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً}). [الموضح: 284]

روابط مهمة:
- أقوال المفسرين

جمهرة علوم القرآن 26 محرم 1440هـ/6-10-2018م 02:32 PM

سورة البقرة

[من الآية (75) إلى الآية (77) ]

{أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77)}


قوله تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)}
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة الأعمش: [يَسْمَعُونَ كَلِمَ اللَّهِ].
الكلام كل ما استقل برأسه؛ أعني: الجمل المركبة، نحو: قام محمد، وأبوك منطلق. وقد فَصَلْنَا في أول باب من الخصائص بين الكلام والقول، وأن كل كلام قول، وليس كل قول كلامًا.
فأما الكلم فلا يكون أقل من ثلاث، وذلك أنه جمع كلمة كثَفِنَة وثَفِن، ونَبِقَة ونَبِق، وسَلِمَة وسَلِم؛ ولذلك ما اختاره صاحب الكتاب على الكلام، فقال: هذا باب علم ما الكلم من العربية، ولم يقلك: ما الكلام؛ وذلك لأن الكلام كما قد يكون فوق الاثنين فكذلك أيضًا قد يكون اثنين، وسيبويه إنما أراد هنا ثلاثة أشياء:
[المحتسب: 1/93]
الاسم والفعل والحرف، فترك اللفظ الذي قد يكون أقل من الجماعة إلى اللفظ الذي لا يكون إلا جماعة). [المحتسب: 1/94]

قوله تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76)}

قوله تعالى: {أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77)}

روابط مهمة:
- أقوال المفسرين

جمهرة علوم القرآن 26 محرم 1440هـ/6-10-2018م 02:34 PM

سورة البقرة
[من الآية (78) إلى الآية (82) ]

{وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79) وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80) بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82)}

قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (قوله جلّ وعزّ: (إلّا أمانيّ)
روى هارون عن أبي عمرو (إلّا أماني) مخففة الياء، وسائر القراء قرأوا بتشديد الياء، لأن الواحدة منها أمنية.
قال أبو منصور: سمعت المنذري عن أبي العباس، أحمد بن يحيى أنه قال: من شدد الأماني فهو مثل قولهم: قرقور وقراقير، ومن خفف الأماني فهو مثل قولهم: قرقور وقراقر، غير أن القراءة بالتشديد لاجتماع القراء عليه.
ومعنى الأماني: الأكاذيب، يقال: أنت تمنيت هذا القول، أي: اختلقته.
[معاني القراءات وعللها: 1/158]
وقال غيره: تكون الأماني أيضًا جمع الأمنية، وهي التلاوة، ومنه قول الله جلّ وعزّ (وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ ولا نبيٍّ إلّا إذا تمنّى ألقى الشّيطان في أمنيّته) أي: في تلاوته). [معاني القراءات وعللها: 1/159]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة أبي جعفر وشيبة والحسن بخلاف والحكم بن الأعرج: [إِلَّا أَمَانِيْ وَإِنْ هُمْ]، و[لَيْسَ بِأَمَانِيْكُمْ وَلا أَمَانِيْ أَهْلِ الْكِتَابِ] الياء فيه كله خفيفة ساكنة.
قال أبو الفتح: أصل هذا كله التثقيل -أَمَانِيُّ جمع أُمْنِيَّة- والتخفيف في هذا النحو كثير وفاشٍ عندهم.
قال أبو الحسن في قولهم أثاف: لم يسمع من العرب بالتثقيل ألبتة.
وقال الكسائي: قد سمع فيها التثقيل، وأنشد:
أثافي سُفعًا في مُعَرَّسِ مِرجل
والمحذوف من نحو هذا هو الياء الأولى التي هي نظيرة ياء المد مع غير الإدغام، نحو ياء قراطيس، وجراميق، وأراجيح، وأعاجيب، جمع أرجوحة وأعجوبة، ألا تراها قد حذفت في قوله:
والبكراتِ الفُسَّجَ العطامسا
[المحتسب: 1/94]
وقوله:
وغير سُفْع مثل يحامِم
يريد: يحاميم وعطاميس.
وروينا لعبيد الله بن الحر قوله:
وبُدِّلْتُ بعد الزَّعْفَران وطيبه ... صَدا الدِّرع من مستحكِماتِ الْمَسامِر
وعلى أن حذف الياء مع الإدغام أسهل شيئًا من حذفه ولا إدغام معه؛ وذلك أن هذه الياء لما أُدغمت خفيت وكادت تستهلك، فإذا أنت حذفتها فكأنك إنما حذفت شيئًا هو في حال وجوده في حكم المحذوف. نعم، وقد يحذف هذا الحرف ويؤتى بالعوض منه حرفًا في حال وجوده في حكم ما ليس موجودًا، وهو تاء التأنيث في نحو قولهم: فرازنة وزنادقة وجحاجحة، فالتاء عوض من ياء فرازين وجحاجيح وزناديق، وكذلك قالوا مع الإدغام، وذلك قولهم في أثاني وأناسي: أثانية وأناسية، رواها أبو زيد. وإذا كانوا قد رضوا بالكسرة قبلها دليلًا عليها، وعوضًا منها فهم بأن يقنعوا بالتاء عوضًا منها أجدر). [المحتسب: 1/95]

قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)}

قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80)}

قوله تعالى: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (وأحاطت به خطيئته)
قرأ نافع وحده: (وأحاطت به خطيئاته).
وقرأ سائر القراء: (خطيئته).
قال أبو منصور: والخطيئة تنوب عن الخطيئات، وقد تجمع الخطيئة خطايا وخطيئات). [معاني القراءات وعللها: 1/159]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في قوله تعالى: وأحاطت به خطيئته [البقرة/ 81]، فقرأ نافع وحده: خطيئاته، وقرأ الباقون:
خطيئته واحدة.
قال أبو علي: قوله: وأحاطت به خطيئته لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يكون المعنى أحاطت بحسنته خطيئته أي:
أحيطتها من حيث كان المحيط أكبر من المحاط به فيكون بمنزلة قوله: وإنّ جهنّم لمحيطةٌ بالكافرين [العنكبوت/ 54]، وقوله أحاط بهم سرادقها [الكهف/ 29]، أو يكون المعنى في: أحاطت به خطيئته:
أهلكته، من قوله: لتأتنّني به إلّا أن يحاط بكم [يوسف/ 66] وقوله: وظنّوا أنّهم أحيط بهم [يونس/ 22] وأحيط بثمره [الكهف/ 42] فهذا كلّه في معنى البوار والهلكة.
ويكون للإحاطة معنى ثالث وهو: العلم. كقوله:
[الحجة للقراء السبعة: 2/114]
كذلك وقد أحطنا بما لديه خبراً [الكهف/ 91] و: ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربّهم وأحاط بما لديهم [الجن/ 28].
وقال: واللّه بما يعملون محيطٌ [الأنفال/ 47] أي: عالم.
وأما الخطيئة: فقال أبو زيد: خطئت، من الخطيئة.
أخطأ خطئا والاسم الخطء، وأخطأت إخطاء، والاسم الخطاء.
وقال أبو الحسن: الخطء: الإثم، وهو ما أصابه متعمّدا والخطأ: غير التعمّد. ويقال من هذا: أخطأ يخطئ وقال:
وليس عليكم جناحٌ فيما أخطأتم به ولكن ما تعمّدت قلوبكم [الأحزاب/ 5] واسم الفاعل من هذا مخطئ.
فأمّا خطئت: فاسم الفاعل فيه: خاطئ، وهو المأخوذ به فاعله، وفي التنزيل: لا يأكله إلّا الخاطؤن [الحاقة/ 37] وقد قالوا: خطئ في معنى أخطأ، قال:
يا لهف نفسي إذ خطئن كاهلا المعنى: أخطأتهم، ويدلّك على هذا قول الأعشى:
[الحجة للقراء السبعة: 2/115]
فأصبن ذا كرم ومن أخطأنه... جزأ المقيظة خشية أمثالها
يصف أيضا خيلا.
ومما جاء فيه: خطئ في معنى أخطأ قول الشاعر:
والناس يلحون الأمير إذا هم... خطئوا الصّواب ولا يلام المرشد
فأما الخطيئة فتقع على الصغير وعلى الكبير، فمن وقوعها على الصغير قوله: والّذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدّين [الشعراء/ 82] ومن وقوعها على الكبير قوله: وأحاطت به خطيئته [البقرة/ 81].
فأمّا قولهم: خطيئة يوم لا أصيد فيه، فالمعنى فيه:
قلّ يوم لا أصيد فيه.
وأما قوله: ربّنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا [البقرة/ 286] فالمعنى أن يكون أخطأنا في معنى: خطئنا،
[الحجة للقراء السبعة: 2/116]
ونسينا في معنى تركنا. لأن الخطأ والنسيان موضوعان عن الإنسان وغير مؤاخذ بهما. فيكون أخطأنا بمنزلة خطئنا كما جاء خطئنا في معنى أخطأنا.
ويجوز أن تكون أخطأنا في قوله: أو أخطأنا على غير التعمّد. والنّسيان: خلاف الذّكر، وليس التّرك، ولكن تعبّدنا بأن ندعو لذلك، كما جاء في الدعاء: قال ربّ احكم بالحقّ [الأنبياء/ 112] والله سبحانه لا يحكم إلا بالحقّ.
وكما قال: ربّنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك [آل عمران/ 194] وما وعدوا به على ألسنة الرّسل يؤتونه. وكذلك قول الملائكة في دعائهم للمسلمين: ربّنا وسعت كلّ شيءٍ رحمةً وعلماً، فاغفر للّذين تابوا واتّبعوا سبيلك، وقهم عذاب الجحيم [غافر/ 7] وكذلك قوله: ربّنا ولا تحمّلنا ما لا طاقة لنا به [البقرة/ 286] يكون على ما يكرثهم ويثقل على طباعهم، وتكون الطاقة: الاستطاعة.
وقد يكون: أخطأنا: أتينا بخطإ. كقولك: أبدعت: أتيت ببدعة. ونحو هذا مما يراد به هذا النّحو.
وتقول: خطّأته فأخطأ. فيكون هذا كقولهم: فطّرته فأفطر.
فأمّا ما روي عن ابن عباس من قوله: خطّ الله نوءها.
[الحجة للقراء السبعة: 2/117]
فقال أبو عبد الله اليزيديّ وغيره. ليس ذلك من الخطأ، وإنّما هو خطّ مثل ردّ، من الخطيطة قال: وهي أرض لم تمطر بين أرضين ممطورتين.
السيئة في قوله: بلى من كسب سيّئةً [البقرة/ 81] يجوز أن يكون. الكفر. ويجوز أن يكون: كبيرا يوتغ ويهلك، ويجوز أن يكون: من للجزاء الجازم، ويجوز أن يكون للجزاء غير الجازم، فتكون: السيّئة. وإن كانت مفردة، تراد بها الكثرة فكذلك تكون خطيئة مفردة... وإنما حسن أن تفرد لأنه مضاف إلى ضمير مفرد، وإن كان يراد به الكثرة كما قال: من أسلم وجهه للّه وهو محسنٌ فله أجره عند ربّه [البقرة/ 112] فأفرد الوجه والأجر، وإن كان في المعنى جمعا في الموضعين. فكذلك المضاف إليه: الخطيئة، لما لم يكن جمعا لم تجمع كما جمعت في قوله: نغفر لكم خطاياكم [البقرة/ 58]
[الحجة للقراء السبعة: 2/118]
لأنه مضاف إلى جماعة لكل واحد منهم خطيئة. وكذلك قوله: إنّا نطمع أن يغفر لنا ربّنا خطايانا [الشعراء/ 51] وقوله: إنّا آمنّا بربّنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السّحر [طه/ 73] وكذلك قوله: وقولوا حطّةٌ نغفر لكم خطاياكم [البقرة/ 58] لأن كل لفظة من ذلك مضافة إلى جمع. فجمعت كجمع ما أضيف إليه.
فأمّا قوله: وأحاطت به خطيئته. فمضاف إلى مفرد.
فكما أفردت السيئة ولم تجمع، وإن كانت في المعنى جمعا، فكذلك ينبغي أن تفرد الخطيئة، وأنت إذا أفردته لم يمتنع وقوعه على الكثرة وإن كان مضافا. ألا ترى أنّ في التنزيل:
وإن تعدّوا نعمة اللّه لا تحصوها [إبراهيم/ 34] فالإحصاء إنما يقع على الجموع والكثرة، وكذلك ما أثر في الحديث من قوله: «منعت العراق درهمها وقفيزها. ومصر إردبّها» فهذه أسماء مفردة مضافة، والمراد بها الكثرة فكذلك الخطيئة. ومما يرجّح به قول من أفرد ولم يجمع لأنه مضاف إلى مفرد، فأفرد لذلك وكان الوجه: قوله: بلى من أسلم وجهه للّه وهو محسنٌ فله أجره عند ربّه [البقرة/ 112]
[الحجة للقراء السبعة: 2/119]
فأفرد الأجر لما كان مضافا إلى مفرد، ولم يجمع كما جمع قوله: وآتوهنّ أجورهنّ بالمعروف [النساء/ 25] فكما لم يجمع الأجر في الإضافة إلى الضمير المفرد، كما جمع لمّا أضيف إلى الضمير المجموع، كذلك ينبغي أن تكون الخطيئة مفردة إذا أضيفت إلى الضمير المفرد، وإن كان المراد به الجميع. ومن قال «خطيئاته» فجمع، حمله على المعنى، والمعنى: الجمع والكثرة. فكما جمع ما كان مضافا إلى جمع كذلك جمع ما كان مضافا إلى مفرد، يراد به الجمع من حيث اجتمعا في أنهما كثرة، ويدلّك على أنّ المراد به الكثرة. فيجوز من أجل ذلك أن تجمع خطيئة على المعنى لأن الضمير المضاف إليه جمع في المعنى.
قوله: فأولئك أصحاب النّار [البقرة/ 81] فأولئك خبر المبتدأ الذي هو: من في قول من جعله جزاء غير مجزوم كقوله: وما بكم من نعمةٍ فمن اللّه [النحل/ 53] أو مبتدأ في قول من جعله جزاء مجزوما. وفي كلا الوجهين يراد به: من في قوله: بلى من كسب سيّئةً [البقرة/ 81].
ومما يدلّ على أن من يراد به الكثرة فيجوز لذلك أن تجمع خطيئة لأنها مضافة إلى جمع في المعنى. قوله بعد هذه: والّذين آمنوا وعملوا الصّالحات أولئك أصحاب الجنّة هم فيها خالدون [البقرة/ 82]، ألا ترى أن الّذين جمع، وهو معادل به من. فكذلك المعادل به يكون جمعا مثل ما عودل به.
[الحجة للقراء السبعة: 2/120]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({بلى من كسب سيّئة وأحاطت به خطيئته}
قرأ نافع وأحاطت به خطيئاته بالألف وحجته أن الإحاطة لا تكون للشّيء المنفرد إنّما تكون لأشياء كقولك أحاط به الرّجال وأحاط النّاس بفلان إذا داروا به ولا يقال أحاط زيد بعمرو وحجّة أخرى جاء في التّفسير قوله بلى من كسب سيّئة وأحاطت به خطيئاته أي الكبائر أي أحاطت به كبائر ذنوبه
وقرأ الباقون خطيئته على التّوحيد وحجتهم أن الخطيئة ليست بشخص فإذا لم تكن شخصا واشتملت على الإنسان جاز أن يقال أحاطت به خطيئته وحجّة أخرى جاء في التّفسير من كسب سيّئة أي الشّرك وأحاطت به خطيئته أي الشّرك الّذي هو سيّئة). [حجة القراءات: 102]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (43- قوله: «خطيئته» قرأه نافع بالجمع، حمله على معنى الإحاطة، والإحاطة إنما تكون بكثرة المحيط، فحمله على معنى الكبائر، والسيئة الشرك، فالمعنى: بلى من كسب شركًا وأحاطت بن كبائره فأحبطت أعماله، فأولئك أصحاب النار، والهاء في «خطيآته» بمعنى الجمع، تعود على «من»، و«من» للجماعة، يدل على ذلك قوله: {فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}، وقرأ الباقون بالتوحيد على أن تأويل الخطيئة الشرك، فوحَّدوه على هذا المعنى، وتكون السيئة الذنوب، وهي بمعنى السيئات، ويجوز أن تكون الخطيئة في معنى الجمع، لكن وُحِّدت، كما وُحِّدت السيئة، وهي بمعنى الجمع، فتكون كالقراءة بالجمع في المعنى، وحسن انفراد لفظ الخطيئة، وهي بمعنى الجمع؛ لإضافتها إلى مفرد في اللفظ بمعنى الجمع، وقد يجوز أن يكون لفظ الخطيئة مفردًا، يُراد به الكثرة، كما قال: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} «إبراهيم 34» أي: نعم الله؛ لأن المعدود لا يكون إلا كثيرًا، فتكون «الخطيئة» الكبائر و«السيئة» الذنوب). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/249]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (27- {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} [آية/ 81]:-
بالجمع، قرأها نافع وحده.
وذلك لأنه حمله على المعنى، ومعناه على الكثرة؛ لأن المخبر عنهم جماعة وإن عبر عنهم بلفظ المفرد، ألا ترى أن قوله: {مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً} ليس يريد به واحدًا، وإنما يدخل تحته كل كاسب للسيئة محيط به خطاياه لما يتضمنه من معنى الشرط، فالمعنى على الكثرة والعموم، والدليل على أن المراد به الكثرة قوله تعالى: {فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ}؛ لأن هؤلاء هم كاسبو السيئة الذين تقدم ذكرهم، ويدل على ذلك أيضًا قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا} وهم جماعة عودل بهم من تقدمهم، والمعادل ينبغي أن يكون مثل من عودل به.
ويقوي هذه القراءة أنه وصف الخطيئة بالإحاطة، والإحاطة بالشيء شمول
[الموضح: 284]
له فهي تقتضي الكثرة في حقيقة الأصل؛ لأن الجسم لا يحيط بالجسم حتى يكون كثير الأجزاء.
وقرأ الباقون {خَطِيئتُهُ} على الإفراد.
ووجه ذلك أنها لما كانت مضافة إلى مفردٍ في اللفظ كان الإفراد فيها أولى، لا سيما وقد أفردت السيئة في قوله تعالى: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً} لما كان مسندًا إلى لفظ {مَنْ}، ولفظه واحد وإن كان المراد به الجمع والكثرة ولا يمتنع في المفرد أن يقع للكثرة والجمع نحو قوله تعالى {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ الله لَا تُحْصُوهَا} فإن الإحصاء يقتضي الكثرة، فإن لم يمتنع نحو هذا لا يمتنع أيضًا أن يراد بالخطيئة وإن كانت واحدةً معنى الجمع، وكذلك السيئة). [الموضح: 285]

قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82)}


روابط مهمة:
- أقوال المفسرين

جمهرة علوم القرآن 26 محرم 1440هـ/6-10-2018م 02:35 PM

سورة البقرة
[من الآية (83) إلى الآية (86) ]

{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)}


قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (قوله جلّ وعزّ: (لا تعبدون إلّا اللّه)
قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي (لا يعبدون إلّا اللّه) - بالياء - وقرأ الباقون (لا تعبدون) بالتاء.
من قرأ: (لا يعبدون) فعلى أنهم غيّب، وعلامة الغائب الياء.
[معاني القراءات وعللها: 1/159]
وكان في الأصل (أن لا يعبدوا)، فلما حذف (أن) رفعه، مثل قول طرفة:
ألا أيّهذا اللائمي أحضر الوغى... وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي
أراد: أن أحضر، فلما حذف (أن) رفعه.
ومن قرأ بالتاء فهو خطاب، ومثله في الكلام: تقدمت إلى فلان لا تشرب الخمر ولا يشرب الخمر.
قوله جلّ وعزّ: (وقولوا للنّاس حسنًا).
قرأ حمزة والكسائي ويعقوب (حسنًا) بفتح الحاء والسين.
وقرأ الباقون: (حسنًا).
[معاني القراءات وعللها: 1/160]
قال أبو منصور: (حسنًا) فالمعنى: قولوا للناس قولاً ذا حسن.
والخطاب لعلماء اليهود، قيل لهم: اصدقوا في صفة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ومن قرأ (حسنًا) فالمعنى: قولوا لهم قولاً حسنًا.
واتفق القراء على قوله في العنكبوت: (حسنًا)
وافترقوا في الأحقاف.
فقرأ حمزة وعاصم والكسائي (إحسانًا) بالألف، وقرأ الباقون (حسنًا) بغير ألف، مضمومة الحاء، ومعنى إحسانا، أي: أحسنوا بالوالدين إحسانًا، فإحسانًا بدل من اللفظ بـ (أحسنوا).
[معاني القراءات وعللها: 1/161]
وأخبرني المنذري عن أحمد بن يحيى أنه قال: قال بعض أصحابنا: اخترنا (حسنًا) لأنه يريد: قولا حسنًا.
قال: ومن قرأ (حسنًا) فهو مصدر حسن يحسن حسنًا، قال: وهو جائز، ونحن نذهب إلى أن الحسن شيء من الحسن، وبجوز هذا وهذا). [معاني القراءات وعللها: 1/162]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في التاء والياء من قوله تعالى: لا تعبدون إلّا اللّه [البقرة/ 83] فقرأ ابن كثير وحمزة والكسائيّ: لا يعبدون بالياء.
وقرأ أبو عمرو ونافع وعاصم وابن عامر لا تعبدون بالتاء.
قال أبو علي: الألفاظ التي جرت في كلامهم مجرى القسم، حتى أجيبت بجوابه. تستعمل على ضربين: أحدهما:
أن يكون كسائر الأخبار التي ليست بقسم، فلا يجاب كما لا يجاب.
والآخر: أن يجري مجرى القسم فيجاب كما يجاب القسم. فممّا لم يجب بأجوبة القسم قوله: وقد أخذ ميثاقكم إن كنتم مؤمنين [الحديد/ 8].
ومنه قوله: وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطّور، خذوا ما آتيناكم بقوّةٍ [البقرة/ 63] وقال: فيحلفون له كما يحلفون لكم، ويحسبون.
فما جاء بعد من ذلك فيه ذكر الأوّل ممّا يجوز أن يكون حالا احتمل ضربين: أحدهما: أن يكون حالا، والآخر:
[الحجة للقراء السبعة: 2/121]
أن يكون قسما، وإنما جاز أن تحمله على الحال دون جواب القسم، لأنه قد جاز أن يكون معرّى من الجواب، وإذا جعلت ما يجوز أن يكون حالا، فقد عرّيتها من الجواب. فمما يجوز أن يكون حالا قوله تعالى: وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطّور خذوا... [البقرة/ 63] فقوله: ورفعنا يجوز أن يكون حالا وتريد فيه قد. وإن شئت لم تقدّر فيه الحال.
ومما يجوز أن يكون ما بعده فيه حالا غير جواب، قوله:
وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلّا اللّه [البقرة/ 83] فهذا يكون حالا كأنه أخذ ميثاقهم موحّدين، وكذلك: وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم [البقرة/ 84] أي: غير سافكين، فيكون حالا من المخاطبين المضاف إليهم. وإنما جاز كونهما لما ذكرنا من أجل أن هذا النحو قد تعرّى من أن يجاب بجواب القسم. ألا ترى أن قوله (خذوا) في الآية ليس بجواب قسم، ولا يجوز أن يكون جوابا له؛ وكذلك من قرأ:
«لا تعبدوا» فجعل لا للنهي كما كان: وإذ أخذ اللّه ميثاق الّذين أوتوا الكتاب لتبيّننّه [آل عمران/ 187] قسما- وكذلك:
وأقسموا باللّه جهد أيمانهم لا يبعث اللّه [النحل/ 38] فكما أن لتبيّننّه لا يكون إلا جوابا، كذلك يكون قوله: لا تعبدون ولا تسفكون. يجوز أن يكون جوابا للقسم. ويجوز أن يكون «لا تسفكون» ونحوه في تقدير: أن لا تسفكوا كأنّ تقديره: أخذنا ميثاقهم بأن لا يسفكوا. ولا يكون ذلك جواب
[الحجة للقراء السبعة: 2/122]
قسم كما كان فيمن قدّره حالا غير جواب قسم. إلا أنه لما حذف (أن) ارتفع الفعل.
واعلم أن ما يتصل بهذه الأشياء الجارية مجرى القسم في أنّها أجيبت بما يجاب به القسم. لا يخلو من أن يكون لمخاطب أو لمتكلم، أو لغائب جاز أن يكون على لفظ الغيبة من حيث كان اللفظ لها. وجاز أن يكون على لفظ المخاطب.
وإنما جاز كونه على لفظه، لأنّك تحكي حال الخطاب، وقت ما يخاطب به، ألا ترى أنهم قد قرءوا: قل للذين كفروا سيغلبون ويحشرون إلى جهنم [آل عمران/ 12] على لفظ الغيبة، وبالتاء على لفظ الخطاب على حكاية حال الخطاب في وقت الخطاب، فإذا كان هذا النحو جائزا، جاز أن تجيء القراءة بالوجهين جميعا، وجاز أن تجيء بأحدهما، كما جاء قوله: وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون [البقرة/ 83] بالوجهين كما جاء سيغلبون، ويحشرون بالوجهين، ويجوز في قياس العربية في قوله: إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف [الأنفال/ 38] على الوجهين اللذين قرئ بهما في «سيغلبون، وستغلبون».
وإن كان الكلام على الخطاب لم يجز فيما يكون في تقدير ما يتلقّى به القسم إلا الخطاب، كقوله:
[الحجة للقراء السبعة: 2/123]
وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم [البقرة/ 84] فهذا لا يجوز أن يكون إلا على الخطاب، لأن المأخوذ ميثاقهم مخاطبون ولأنّك إن حكيت الحال التي يكون الخطاب فيها فيما يأتي لم يجز أن تجعل المخاطبين كالغيب، كما جاز في الغيب الخطاب من حيث قدّرت الحال التي يكون فيها الخطاب فيما تستقبل، ألا ترى أنّه لا يجوز أن تجعل المخاطبين غيبا، فتقول:" أخذنا ميثاقكم لا يسفكون" لأنك إذا قدّرت الحكاية، كان التقدير:
أخذنا ميثاقكم فقلنا لكم: لا تسفكون، كان بالتاء ولم يجز الياء، كما لا يجوز أن تقول للمخاطبين: هم يفعلون، وأنت تخاطبهم. وإن لم تقدّر الحكاية فهو بالتاء، فلا مذهب إذن في ذلك غير الخطاب.
فقوله: وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون [البقرة/ 83] لا يخلو قوله: تعبدون من أن يكون حالا، أو يكون تلقّي قسم، أو يكون على لفظ الخبر. والمعنى معنى الأمر، أو تقدّر الجارّ في (أن) فتحذفه ثم تحذف أن فإن جعلته حالا جعلته على قول من قرأ بالياء فقال: لا يعبدون ليكون في الحال ذكر من ذي الحال.
فإن قلت: وإذا قرئ بالياء فالمراد به هو بنو إسرائيل، والحال مثل الصفة، وقد حملت الصفة في هذا النحو على المعنى. فإن هذا قول، والأول البيّن.
وإن جعلته تلقّي قسم، فإنّ هذا اللفظ الذي هو: أخذنا ميثاقكم
[الحجة للقراء السبعة: 2/124]
مجاز ما يقع بعده على ثلاثة أضرب: أحدها: أن لا يتبع شيئا مما يجري مجرى الجواب كقوله: وقد أخذ ميثاقكم إن كنتم مؤمنين [الحديد/ 8] والآخر: أن يتلقّى بما يتلقّى به القسم. نحو: وإذ أخذ اللّه ميثاق الّذين أوتوا الكتاب لتبيّننّه للنّاس [آل عمران/ 187] والثالث: أن يكون أمرا نحو: وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطّور، خذوا. ولم يجيء شيء من هذا النحو فيما علمنا تلقّي بجواب قسم، ووقع بعده أمر فإن جعلت: لا تعبدون جواب قسم وعطفت عليه الأمر جمعت بين أمرين لم يجمع بينهما.
فإن قلت: لا أحمل الأمر على القسم، ولكن أضمر القول كأنّه: وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا يعبدون إلّا الله... وقلنا لهم: وأحسنوا بالوالدين إحسانا.
فالقول: إن إضمار القول في هذا النحو لا يضيق، وقلنا على هذا معطوف على: أخذنا، وأخذ الميثاق قول، وكأنّه: قلنا لهم كذا، وقلنا لهم كذا.
فإن جعلته على أنّ اللفظ في: لا تعبدون لفظ خبر.
والمعنى معنى الأمر، فإن ذلك يقويه ما زعموا من أنّ في إحدى القراءتين: ولا تعبدوا ومثل ذلك قوله: تؤمنون باللّه ورسوله [الصف/ 11] يدلّك على ذلك قوله يغفر
لكم
[الصف/ 12] وزعموا أن في بعض المصاحف آمنوا، ويؤكد ذلك أنه قد عطف عليه بالأمر، وهو قوله: وبالوالدين إحساناً، [البقرة/ 83]
[الحجة للقراء السبعة: 2/125]
وأقيموا الصّلاة [البقرة/ 43] وإن حملته على أن المعنى:
أخذنا ميثاقهم بأن لا تعبدوا، فإن هذا قول، إن حملته عليه كان فيه حذف بعد حذف. وزعم سيبويه أن حذف (أن) من هذا النحو قليل.
وحجة من قرأ: «لا تعبدون» بالخطاب، قوله: وإذ أخذ اللّه ميثاق النّبيّين لما آتيتكم من كتابٍ وحكمةٍ. ثمّ جاءكم رسولٌ مصدّقٌ لما معكم [آل عمران/ 81].
فجاء على الخطاب وقولوا. قال: وإذ أخذ اللّه ميثاق الّذين أوتوا الكتاب لتبيّننّه للنّاس ولا تكتمونه [آل عمران/ 187].
ومما يقوّيه قوله: ثمّ تولّيتم إلّا قليلًا منكم وأنتم معرضون [البقرة/ 83] فإذا كان خطابا لا يحتمل غيره، وهو عطف على ما تقدّم، وجب أن يكون المعطوف عليه في حكمه.
ومن قرأ: لا يعبدون بالياء فإنه يدل عليه قوله: قل للّذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف [الأنفال/ 38] فحمله على لفظ الغيبة فكلّ واحد من المذهبين قد جاء التنزيل به.
اختلفوا في ضم الحاء والتخفيف وفتحها والتثقيل من قوله: وقولوا للنّاس حسناً [البقرة/ 83] فقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع وعاصم وابن عامر، حسناً بضم الحاء والتخفيف.
وقرأ حمزة والكسائيّ حسناً بفتح الحاء والتثقيل.
[الحجة للقراء السبعة: 2/126]
وقرأ الكوفيون: عاصم وحمزة والكسائيّ في سورة الأحقاف إحساناً [الآية/ 15] بألف.
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر حسناً خفيفة بغير ألف.
قال أبو علي: من قرأ حسناً احتمل قوله وجهين: يجوز أن يكون الحسن لغة في الحسن، كالبخل والبخل والرّشد والرّشد، والثّكل والثّكل، وجاء ذلك في الصفة، كما جاء في الاسم، ألا تراهم قالوا: العرب والعرب، وهو صفة يدلّك على ذلك: مررت بقوم عرب أجمعون. فيكون الحسن على هذا صفة، كالحسن ويكون: كالحلو والمرّ، ويجوز أن يكون الحسن مصدرا كالكفر والشّكر والشّغل، وحذف المضاف معه كأنّه: قولا ذا حسن.
ويجوز أن تجعل القول نفسه الحسن في الاتّساع، وعلى هذا: زورة وعدلة، فأنّثوا كما يؤنّثون الصفة التي تكون إياها، نحو: ظريفة وشريفة وحسنة، والدّليل على أن زورا مصدر، وليس كراكب وركب ما أنشده أحمد بن يحيى:
ومشيهنّ بالخبيب مور... كأنهنّ الفتيات الزور
[الحجة للقراء السبعة: 2/127]
يسألن عن غور وأين الغور والغور منهنّ بعيد جور ومن قال: حسنا جعله صفة، وكان التقدير عنده: وقولوا للنّاس قولا حسنا. فحذف الموصوف وحسن ذلك في حسن لأنها ضارعت الصفات التي تقوم مقام الأسماء.
نحو الأبرق، والأبطح، وعبد، ألا تراهم يقولون: هذا حسن، ومررت بحسن، ولا يكادون يذكرون معه الموصوف.
ومثل ذلك في حذف الموصوف قوله: قال ومن كفر فأمتّعه قليلًا [البقرة/ 126] أي متاعا قليلا. يدلك على ذلك قوله:
قل متاع الدّنيا قليلٌ [النساء/ 77] وقوله: لا يغرّنّك تقلّب الّذين كفروا في البلاد. متاعٌ قليلٌ [آل عمران/ 197] فحسن هذا وإن كان قد جرى على الموصوف في قوله: إنّ هؤلاء لشرذمةٌ قليلون [الشعراء/ 54] فكذلك يحسن في قوله:
وقولوا للنّاس حسناً. فأمّا قوله: ثمّ بدّل حسناً بعد سوءٍ [النمل/ 11] فينبغي أن يكون اسما، لأنه قد عودل به ما لا يكون إلا اسما وهو «السّوء».
وأمّا قوله: وإمّا أن تتّخذ فيهم حسناً [الكهف/ 86] فيمكن أن يكون أمرا ذا حسن، ويمكن أن يكون الحسن مثل الحلو.
وأما قراءة الكوفيين في الأحقاف إحساناً وهو قوله: ووصّينا الإنسان بوالديه إحساناً [الآية/ 15] فيدل عليه قوله: وبالوالدين إحساناً [البقرة/ 83] والتقدير:
[الحجة للقراء السبعة: 2/128]
وأحسنوا بالوالدين إحسانا. كأنّه لما قال: أخذنا ميثاقهم قال:
وقلنا لهم أحسنوا بالوالدين إحسانا، كما قال: وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطّور، خذوا ما آتيناكم بقوّةٍ [البقرة/ 63] فالجارّ متعلق بالفعل المضمر، ولا يجوز أن يتعلّق بالمصدر، لأن ما يتعلّق بالمصدر لا يتقدّم عليه، وأحسن: يصل بالباء كما يصل بإلى، يدلّك على ذلك قوله:
وقد أحسن بي إذ أخرجني من السّجن [يوسف/ 100] كما تعدّى بإلى في قوله: وأحسن كما أحسن اللّه إليك [القصص/ 77] والتقدير أنه لمّا قال: ووصّينا الإنسان، فكان هذا الكلام قولا صار كأنّه قال: وقلنا أحسن أيّها الإنسان بالوالدين إحسانا. وممّا يؤكّد ذلك ويحسّنه قوله في الأخرى:
واعبدوا اللّه ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً...
[النساء/ 36].
ووجه من قرأ في الأحقاف: بوالديه حسناً [الآية/ 15] أن يكون أراد بالحسن الإحسان، فحذف المصدر وردّه إلى الأصل كما قال الشاعر:
فإن يبرأ فلم أنفث عليه... وإن يهلك فذلك كان قدري
أي: تقديري.
[الحجة للقراء السبعة: 2/129]
ويجوز أن يكون وضع الاسم موضع المصدر كما قال:
وبعد عطائك المائة الرّتاعا والباء في هذين الوجهين متعلق بالفعل المضمر كما تعلّقت به في قول الكوفيين في قراءتهم إحسانا، ويدلّك على ذلك قولهم: عمرك الله. فنصب المصدر محذوفا كما ينصبه غير محذوف.
ويجوز أن تكون الباء متعلقة ب وصّينا ويكون حسناً محمولا على فعل كأنه «وصيناه» فقلنا: اتّخذ فيهم حسنا، واصطنع حسنا. كما قال: وإمّا أن تتّخذ فيهم حسناً [الكهف/ 86] وحكى أبو الحسن: حسنى ولا أدري أهي قراءة أم لغة غير قراءة. إلا أنّه يحتمل ضربين: أحدهما: أن تكون فعلى الأفعل، إلا أنّه استعمل استعمال الأسماء، فأخرج منها لام المعرفة حيث صارت بمنزلة الأسماء نحو قوله:
في سعي دنيا طال ما قد مدّت والآخر: أن يكون بمنزلة: الرّجعى والشّورى والبشرى). [الحجة للقراء السبعة: 2/130]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلّا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للنّاس حسنا}
وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائيّ {وما يعبدون إلّا الله} بالياء
وقرأ الباقون بالتّاء وحجتهم قوله {وقولوا للنّاس حسنا وأقيموا الصّلاة} {وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم} فحكى ما خاطبهم به فجرى الكلام على لفظ المواجهة
واحتج من قرأ بالياء أن قال أول الآية إخبار عن غيب يعنون
[حجة القراءات: 102]
بذلك قوله {وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل} قالوا فإجراء الكلام على ما ابتدئ به أول الآية وافتتح به الكلام أولى وأشبه من الإنصراف عنه إلى الخطاب
قرأ حمزة والكسائيّ {وقولوا للنّاس حسنا} بفتح الحاء والسّين وحجتهم أن حسنا وصف للقول الّذي كف عن ذكره لدلالة وصفه عليه كأن تأويله وقولوا للنّاس قولا حسنا فترك القول واقتصر على نعته وقد نزل القرآن بنظير ذلك فقال جلّ وعز وجعل فيها رواسي ولم يذكر الجبال وقال {أن اعمل سابغات} ولم يذكر الدروع إذ دلّ وصفها على موصوفها
وقرأ الباقون حسنا بضم الحاء وحجتهم أن الحسن يجمع والحسن يتبعّض أي قولا للنّاس الحسن في الأشياء كلها فما يجمع أولى ممّا يتبعّض قال الزّجاج وفي قوله {حسنا} قولان المعنى قولا للنّاس قولا ذا حسن وزعم الأخفش أنه يجوز أن يكون حسنا في معنى حسن كما قيل البخل والبخل والسقم والسقم وفي التّنزيل {إلّا من ظلم ثمّ بدل حسنا} {ووصينا الإنسان بوالديه حسنا} ). [حجة القراءات: 103]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (44- قوله: {لا تعبدون إلا الله} قرأه ابن كثير وحمزة والكسائي بالياء، وردوه إلى لفظ الغيبة الذي قبله، في قوله: {وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون}، وقرأه الباقون بالتاء حملوه على الخطاب، وعلى ما بعده من الخطاب في قوله: {ثم توليتم}، وقوله: {وأنتم معرضون}، وقوله: {ومن يفعل ذلك منكم} «85» ووقوع الأمر بعده يدل على قوة الخطاب، وذلك قوله: {وقولوا للناس حسنًا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} فجرى صدر الكلام في ذلك على حكم آخره، وأيضًا فإن نظائر هذا المعنى أتى على لفظ المخاطبة في
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/249]
القرآن، قال الله جل ذكره: {وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم} «آل عمران 81»، وقال: {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه} «آل عمران 187» والقراءة بالتاء أحب إلي لما ذكرنا، وقد ذكرنا وجه رفع هذا الفعل في كتاب «مشكل الإعراب»). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/250]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (45- قوله: {حُسنا} قرأه حمزة والكسائي بفتح الحاء والسين، جعلاه صفة لمصدر محذوف تقديره: وقولوا للناس قولًا حسنًا، وقرأه الباقون بضم الحاء وإسكان السين على أنها لغة في «الحسن»، يقال: الحُسن والحَسن، والبُخل والبَخل، والرُشد والرَشد، فهو كالأول، وتقديره: وقولوا للناس قولًا حسنًا، ويجوز أن يكون «الحسن» مصدرًا كالكفر والشكر، فيلزم تقدير حذف مضاف، تقديره: وقولوا للناس قولًا ذا حسن، ويؤول في المعنى إلى حسن). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/250]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (28- {لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا الله} [آية/ 83]:-
بالتاء، قرأها نافع وابن عامر وأبو عمرو وعاصم ويعقوب.
ووجه ذلك أن أخذ أن أخذ الميثاق لما يتضمنه من معنى القول يحسن بعده وقوع الخطاب كالأمر، تقول: أخذت على فلانٍ العهد لا يضرب زيدًا ولا تضرب زيدًا، وأمرته لا يشرب الخمر ولا تشرب الخمر، وأكد حسن الخطاب في هذا الموضع قوله في آخر الآية {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ} على الخطاب، وهو معطوف على الأول فوجب كون الأول أيضًا خطابًا.
[الموضح: 285]
وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي {لا يَعْبُدُونَ} بالياء.
لأن مبنى الكلام على الغيبة، وهو قوله {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ}، وقد جاء على الغيبة ما وقع بعد القول في نحو قوله تعالى {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} فلأن يجيء سواه على الغيبة أولى). [الموضح: 286]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (29- {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [آية/ 83]:-
بفتح (الحاء) والسين، قرأها حمزة والكسائي ويعقوب.
ووجه ذلك أنه صفة حذف موصوفها، وتقدير الكلام: قولوا للناس قولاً حسنًا فحذف الموصوف، وهذه الصفة أعني {حَسَنًا} يكثر حذف موصوفها نحو قولهم: هذا حسن ومررت بحسن ورأيت حسنًا، وقلما يذكر معه الموصوف.
وقرأ الباقون {حُسْنًا} بضم الحاء وإسكان السين.
وفي علته وجهان:
أحدهما: أن الحسن مصدر كالشكر والكفر، فيكون على حذف المضاف، والتقدير: قولوا للناس قولاً ذا حسن، أو يكون على أن القول جعل الحسن نفسه على الاتساع، كما قالت الخنساء:
10- فإنما هي إقبال وإدبار
[الموضح: 286]
جعلها إقبالاً وإدبارًا لكثرة وقوعهما منها.
والثاني: أن الحسن صفة كالحسن، وذلك نحو: الحلو والمر، وقد جاء الحسن والحسن بمعنى، كقولك عرب وعرب، وكثيرًا ما يقع ف عل وفعل بمعنى واحد كالبخل والبخل والرشد والرشد). [الموضح: 287]

قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84)}

قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (تظاهرون عليهم)
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر ويعقوب: (تظّاهرون) مشددة، وقرأ الكوفيون: (تظاهرون) بتخفيف الظاء.
من قرأ (تظّاهرون) بالتشديد فالأصل فيه تتظاهرون، فأدغمت التاء في الظاء لقرب المخرجين، وشددت الظاء، ومن قرأ بالتخفيف فالأصل فيه (تتظاهرون) بتاءين أيضًا، فحذفت التاء الثانية لاجتماعهما.
وتفسير تظاهرون: تتعاونون، يقال: ظاهر فلان فلانا: إذا عاونه.
وقال الله تعالى: (وإن تظاهرا عليه) معناه: وإن تعاونا.
والظهير: المعين، وقال الله تعالى: (وكان الكافر على ربه ظهير)، أي: معينا.
[معاني القراءات وعللها: 1/162]
قوله جلّ وعزّ: (أسارى تفادوهم)
قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر (أسارى) بألف "تفدوهم، بغير ألف. وقرأ نافع وعاصم والكسائي ويعقوب (أسارى تفادوهم)، بألفين فيهما. وقرأ حمزة "أسرى تقدوهم" بغير ألف فيهما.
ولم يقرأ أحد (أسارى) بفتح الألف.
فمن قرأ (أسارى) جمع الأسير على أسارى، على (فعالى).
ومن قرأ (أسرى) جمعه على (فعلى).
وقال نصير الرازي: أسارى جمع أسرى، والأصل: أسارى، فضمت الألف، كما قالوا: سكارى وسكارى، وكسالى وكسالى.
قال: ومثل أسير وأسرى: قتيل وقتلى، وجريح وجرحى.
وأما قوله: (تفدوهم) و(تفادوهم) فمن قرأ (تفادوهم) فإن العرب تقول: فاديت الأسير، وكان أخي أسيراً ففاديته بأسير
وقال نصيب:
ولكنّني فاديت أمّي بعدما... علا الرأس كبرةٌ ومشيب
بعبدين مرضيّين لم يك فيهما... لئن عرضا للناظرين معيب
ومن قرأ (تفدوهم) فهو على وجهين:
أحدهما: تفدوهم بالمال، كقوله: (وفديناه بذبحٍ عظيمٍ).
والوجه الثاني: أن يكون معنى فديته: خلصته مما
[معاني القراءات وعللها: 1/163]
كان فيه.
وقال أبو معاذ النحوي: من قرأ (تفدوهم) فمعناه: تشترونهم من العدو وتنقذونهم، ومن قرأ (تفادوهم) فمعناه تماكسون من هم في أيديهم بالثمن ويماكسونكم). [معاني القراءات وعللها: 1/164]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في تشديد الظّاء وتخفيفها من قوله تعالى: تظاهرون عليهم [البقرة/ 85]. فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر تظاهرون عليهم مشددة الظاء بألف،
[الحجة للقراء السبعة: 2/130]
وكذلك في سورة الأحزاب والتحريم.
وروى عليّ بن نصر عن أبي عمرو تظاهرون بفتح التاء والظاء خفيفة.
[وقرأ عاصم وحمزة والكسائيّ تظاهرون خفيفا].
وفي التحريم تظاهرا عليه [الآية/ 4] خفيفة أيضا. وفارقهما عاصم في التي في سورة الأحزاب فقرأ: تظاهرون منهنّ [الآية/ 4] بضم التاء مع التخفيف.
وقرأ حمزة والكسائيّ تظاهرون بفتح التاء مع التخفيف مثل سورة البقرة.
قال أبو علي: تظّاهرون: تعاونون. وإن تظّاهرا عليه:
إن تتعاونا عليه.
وقال الأصمعي: اتخذ معك بعيرا، أو بعيرين ظهريّين.
يقول: عدّة وقال: والملائكة بعد ذلك ظهيرٌ [التحريم/ 4] أي معين، فالتقدير فيه الجمع، واللفظ على الإفراد من التنزيل: وحسن أولئك رفيقاً [النساء/ 69].
وقال رؤبة:
دعها فما النّحويّ من صديقها
[الحجة للقراء السبعة: 2/131]
أي: من أصدقائها. وقال: قالوا ساحران تظاهرا [القصص/ 48] أي: تعاونا على سحرهما، وسحران تظاهرا [القصص/ 48] أي: تعاون أصحابهما، لأنه إنما يتعاون السّاحران لا السّحران.
وأما قوله: وكان الكافر على ربّه ظهيراً [الفرقان/ 55]. فإنه يحتمل تأويلين:
أحدهما: وكان الكافر على أولياء ربه معينا. أي يعادونهم ولا يوالونهم. كما قال: تعرف في وجوه الّذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالّذين يتلون عليهم آياتنا [الحج/ 72] وقال: وإن يكاد الّذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لمّا سمعوا الذّكر [القلم/ 51].
والآخر: أن يكون هينا عليه لا وزن له ولا منزلة.
وكأنه من قولهم: ظهرت بحاجتي: إذا لم تعن بها قال الشاعر:
تميم بن مرّ لا تكوننّ حاجتي... بظهر ولا يعيا عليّ جوابها
المعنى: لا يعيا عليّ جواب ردّها، فحذف المضاف.
[الحجة للقراء السبعة: 2/132]
ويمكن أن يكون من هذا قوله:
وتلك شكاة ظاهر عنك عارها أي: تلك شكاة هي عنك بظهر فلا يعبأ بها.
والكافر في قوله: وكان الكافر على ربّه ظهيراً [الفرقان/ 55] كقولهم: كثر الشاه والبعير، في أنه يراد به الكثرة، وقد جاء ذلك في اسم الفاعل، كما جاء في سائر أسماء الأجناس. أنشد أبو زيد:
إن تبخلي يا جمل أو تعتلّي... أو تصبحي في الظاعن المولّي
وقال: فأيّدنا الّذين آمنوا على عدوّهم فأصبحوا ظاهرين [الصف/ 14] أي غالبين لهم. قاهرين. ومنه ظهر المسلمون على دور الحرب.
فأما قول الشاعر:
مظاهرة نيّا عتيقا وعوططا... فقد أحكما خلقا لها متباينا
[الحجة للقراء السبعة: 2/133]
فمن قولهم: ظاهر بين درعين. إذا لبس إحداهما فوق الأخرى. وكذلك مظاهرة نيّا. أي: كأنّها قد لبست الجديد على العتيق، وقال:
هل هاجك الليل كليل على... أسماء من ذي صبر مخيل
ظاهر نجدا فترامى به... منه توالي ليلة مطفل
ظاهر نجدا، أي: علا نجدا، وتوالي السحاب: أواخره، ومطفل، أي: مطر لنتاج ليلته، أي: نشأ الغيم فيها ومطر.
فقراءة الفريقين من ابن كثير ونافع وأبي عمرو وابن عامر، ومن عاصم وحمزة والكسائي، في البقرة وفي التحريم في المعنى سواء. ألا ترى أن الكلمة: تتفاعلون في المعنى، فأما في اللفظ، فمن قال: تظاهرون أدغم التاء في الظاء لمقاربتها لها، ومن قال: تظاهرون حذف التاء التي أدغمها الآخرون من اللفظ فكلّ واحد من الفريقين كره اجتماع الأمثال والمقاربة. فمن قال: تظاهرون خفّف بالإدغام. ومن قال:
[الحجة للقراء السبعة: 2/134]
تظاهرون خفّف بالحذف. فالتاء التي أدغمها ابن كثير، ومن قرأ كقراءته، حذفها عاصم وصاحباه، والدليل على أنها هي المحذوفة: أنها كما اعتلّت بالإدغام اعتلّت بالحذف. قال سيبويه: الثانية أولى بالحذف لأنها هي التي تسكن وتدغم في نحو: فادّارأتم [البقرة/ 72]، وازّيّنت [يونس/ 24] وممّا يقوّي ذلك أن الأولى لمعنى، فإذا حذفت لم يبق شيء يدلّ على المعنى. والثانية من جملة كلمة إذا حذفت دلّ ما بقي من الكلمة عليها.
وتفاعل مطاوع فاعل، كما أنّ تفعّل مطاوع فعّل. فتفاعل نحو: تضارب، وتمادى. وفعّل نحو: قطّعته فتقطّع، وملّأته فتملّأ.
وقد جاء (ظاهر) متعديا. قال: وأنزل الّذين ظاهروهم [الأحزاب/ 26] والتي في البقرة والتحريم في المعنى واحد، وإنّما هما من المعاونة. فأما التي في الأحزاب فليس من المعاونة لكنّها من الظّهار.
قال أبو الحسن: قالوا: ظاهر من امرأته. ومعنى الظّهار أن يقول لامرأته: أنت عليّ كظهر أمّي. أو يشبهها بعضو منها غير الظّهر مما يحرم على الرجل من أمّه.
وخالف عاصم الفريقين في ما معناه الظّهار. فقرأ الذي معناه: الظّهار على فاعل. وزعموا أنه قراءة الحسن، وكذلك قرأ هذا المعنى في المجادلة على فاعل فقال:
[الحجة للقراء السبعة: 2/135]
الّذين يظاهرون بضم الياء وبالألف.
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو في المجادلة: الذين يظهرون [الآية/ 2] بغير ألف.
وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي: يظاهرون بفتح الياء بألف مشدّدة الظّاء.
فمن قرأ يظهرون جعله مطاوع ظهّر.
ومن قال يظاهرون جعله مطاوع ظاهر.
فإن قلت: فإن (ظهّر) لم يتعدّ، فكيف يكون له مطاوع؟. فإنّه قد يجيء على لفظ المطاوع ما لا يكون منه فعل متعد نحو: انطلق وفعّل وفاعل قد يستعملان بمعنى كقولهم:
ضاعف وضعّف. فكذلك ظاهر وظهّر.
فأمّا من ذهب من المتأخّرين إلى أنّ الظهار لا يقع في أول مرّة حتى يعيد لفظ الظّهار مرة أخرى، فيقول: «أنت عليّ كظهر أمّي»، لأن ذلك عنده هو الظاهر لقوله: والّذين يظاهرون من نسائهم ثمّ يعودون لما قالوا فتحرير رقبةٍ [المجادلة/ 3] فليس في ذلك ظاهر كما ادّعاه، وذلك أنّ قوله: يعودون العود على ضربين: أحدهما: أن يصير إلى شيء قد كان عليه قبل- فتركه ثم صار إليه، والآخر: أن يصير إلى شيء وإن لم يكن على ذلك قبل. وكأن هذا الوجه غمض على هذا القائل. وهذا عند من خوطب بالقرآن مثل الوجه
[الحجة للقراء السبعة: 2/136]
الأول في الظّهور، وفي أنّهم يعرفونه كما يعرفون ذاك. فمن ذلك ما أنشده أبو عثمان أو الرّياشيّ:
إذا التّسعون أقصدني سراها... وسارت في المفاصل والعظام
وصرت كأنني أقتاد عيرا... وعاد الرأس مني كالثّغام
ومنه قول الهذلي:
وعاد الفتى كالكهل ليس بقائل... سوى الحقّ شيئا واستراح العواذل
المعنى: وصار لون الرأس كلون الثّغام، ولم يكن ثمّ لون ثغام عاد إليه. وإنما المعنى صار لون الرأس كلون الثّغام. فكذلك قوله: ثمّ يعودون لما قالوا [المجادلة/ 3] أي: يصيرون إليه، ومن ذلك قول العجّاج:
[الحجة للقراء السبعة: 2/137]
وقصب حنّي حتى كادا يعود بعد أعظم أعوادا وسمّيت الآخرة المعاد، ولم يكن فيها ثمّ صار إليها.
فالمعاد كقوله: وإليك المصير [البقرة/ 285] في المعنى.
وقال ساعدة أو غيره:
فقام ترعد كفّاه بمحجنه... قد عاد رهبا رذيّا طائش العدم
وقال امرؤ القيس:
وماء كلون البول قد عاد آجنا... قليل بها الأصوات ذي كلأ مخلي
وقال آخر:
فإن تكن الأيام أحسنّ مرّة... إليّ فقد عادت لهنّ ذنوب
وهذا إذا تتبّع وجد كثيرا. وفي بعض ما ذكر منه كفاية تدلّ على غلط من ذهب إلى: أنّ العود لا يكون إلا أن يفارق
[الحجة للقراء السبعة: 2/138]
شيئا كان عليه ثم يصير إليه بعد.
وقد قيل في الآية قولان: يجوز أن يكون في كلّ واحد منهما على غير ما قاله هذا القائل.
قال أبو الحسن: تقديرها: والذين يظاهرون من نسائهم فتحرير رقبة لما قالوا ثم يعودون إلى نسائهم. وقال عبيد الله بن الحسين. تأويلها: الّذين يظاهرون من نسائهم ثمّ يعودون لما قالوا المعنى: ثم يعودون إلى المقول فيه. والمقول فيه هو النساء. فتحرير رقبةٍ أي: فتحرير رقبة لكفّارة التحريم الواقع من الزوج.
فتقدير قول أبي الحسن الأخفش: والذين يظّاهرون من نسائهم فعليهم تحرير رقبة لما قالوا أي: لما نطقوا به من لفظ التحريم الموجب الامتناع من الوطء إلّا بعد التكفير، فيكون قوله: لما قالوا الجارّ فيه متعلق بالمحذوف الذي هو خبر المبتدأ- والجارّ قد يتعلق بالمعنى. وإن تقدم عليه لكونه بذلك مثل الظرف في نحو: أكلّ يوم لك ثوب. ومعنى: يعودون إلى نسائهم، أي: إلى وطئهنّ الذي كانوا حرّموه على أنفسهم بالظّهار منهنّ.
فأمّا التقديم والتأخير الذي قدّره في الآية فهو كثير جدا.
فمثل الآية قوله: اذهب بكتابي هذا، فألقه إليهم ثمّ تولّ عنهم فانظر ماذا يرجعون [النمل/ 28]
[الحجة للقراء السبعة: 2/139]
فالمعنى: اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم، فانظر ماذا يرجعون، ثم تولّ عنهم فكما قدم قوله: ثمّ تولّ عنهم والتقدير به التأخير، كذلك في آية الظّهار، التقدير بثمّ وما تعلّق به التأخير.
وقال أبو الحسن عبيد الله بن الحسين: التأويل: والذين يظّاهرون ثمّ يعودون [لما قالوا] أي: يعودون إلى المقول فيه، والمقول فيه: هو القول. فما قالوا والمقالة والقول بمعنى، والمراد بقوله: لما قالوا هو المقول فيه. كما أنّ قولهم: هذا الدرهم ضرب الأمير، يراد به مضروبه. وهذا الثوب نسج اليمن. يراد به منسوج اليمن. وهذا النحو كثير في كلامهم، كأنّهم وصفوا المفعول في هذا النحو بالمصدر كما وصفوا الفاعل به في قولهم: «رجل عدل» يراد به عادل. وماء غور أي غائر، فسوّوا بين الفاعل والمفعول في هذا كما سوّوا بينهما في إضافة المصدر إليهما. وفي بناء الفعل لكل واحد منهما.
ومما جاء فيه- المقالة يراد به القول قول كثير:
وإنّ ابن ليلى فاه لي بمقالة... ولو سرت فيها كنت ممّن ينيلها
فالمقالة هنا يراد بها: المقول فيه. ألا ترى أنّ المعنى ولو سرت في طلبها، كنت ممن ينيله إيّاها. فإنما يسأل ويطلب
[الحجة للقراء السبعة: 2/140]
ما تعد به الملوك من صلاتها وجوائزها لا ما تلفظ به. وكان أبو الحسن يقول: إنّ ذلك بمنزلة قوله: «العائد في هبته كالعائد في قيئه» أي: العائد في موهوبه. قال: ألا ترى أن العود لا يكون إلى الهبة التي هي نطق بلفظ يوجب التمليك مع القبض. فإذا لم يجز ذلك، كان المراد الموهوب.
قال: ومن ثمّ لم يوجب أبو حنيفة الكفّارة على من حلف بعلم الله ثم حنث، لأن العلم صار في تعارف الناس:
المعلوم، ألا تراهم يقولون: غفر الله لك علمه فيك، وإنما يراد معلومه. فكذلك قوله: لما قالوا يراد به المقول فيه. ومن ذلك قوله: وهو الّذي يبدؤا الخلق ثمّ يعيده
[الروم/ 27] والخلق هنا المخلوق، فهذا في المعنى كقوله: كما بدأكم تعودون [الأعراف/ 29] ألا ترى أن الذي يعاد هو الأجسام المنشرة.
فاللّام في قوله: ثمّ يعودون لما قالوا [المجادلة/ 3] على قول أبي الحسن عبيد الله بن الحسين بمعنى إلى. وإلى واللام يتعاقبان في هذا النحو. ويقع كلّ واحد منها موقع الآخر. قال: الحمد للّه الّذي هدانا لهذا [الأعراف/ 43] وقال فاهدوهم إلى صراط الجحيم [الصافات/ 23] وقال:
قل اللّه يهدي للحقّ، أفمن يهدي إلى الحقّ أحقّ أن يتّبع
[الحجة للقراء السبعة: 2/141]
[يونس/ 35] فوصل الفعل مرة باللام ومرة بإلى كما قال:
بأنّ ربّك أوحى لها [الزلزلة/ 5] وقال: وأوحي إلى نوحٍ [هود/ 26].
فأمّا قوله: يعودون في الآية، فهو في القولين يجوز على كلّ واحد من المذهبين اللّذين ذكرناهما في العود، من أنّه يكون للحال التي يكون عليها الشيء، ثم ينتقل عنها، ثم يصير إليها.
ويكون للمصير إلى الشيء، وإن لم يكن فيه قبا.
فقول أبي الحسن الأخفش تقديره: فعليهم تحرير رقبة من أجل ما قالوه من لفظ الظهار الموجب للتحريم، ثم يعودون إلى نسائهم على ما كانوا عليه من قبل من وطئهنّ، ويجوز أن يكون: فتحرير رقبة لما قالوا، ثمّ يصيرون إلى استباحة وطئهنّ الذي كان قد حرم عليهم. وكذلك قول أبي الحسن: أي يصيرون إلى الحالة التي كانوا عليها من فعل الوطء. كما كانوا من قبل أن يحدثوا التحريم بالظّهار.
ويجوز أن يكون المعنى: ثمّ يصيرون إلى استباحة الوطء برفع الكفّارة التحريم الحادث ويخرجون عنه.
فإذا أمكن في الآية كلّ واحد من التأويلين اللذين تحتملهما الكلمة، لم يجز أن يدّعى: أنّ أحدهما هو الظاهر دون الآخر.
[الحجة للقراء السبعة: 2/142]
اختلفوا في: أسارى تفدوهم [البقرة/ 85] في إثبات الألف في الحرفين وإسقاطها وفي فتح الراء وإمالتها.
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر: أسارى تفدوهم.
وقرأ نافع وعاصم والكسائيّ: أسارى تفادوهم بألف فيهما.
وقرأ حمزة: أسرى تفدوهم بغير ألف فيهما. وكان أبو عمرو وحمزة والكسائيّ يكسرون الراء، وكان ابن كثير وعاصم يفتحان الراء. وكان نافع يقرأ بين الفتح والكسر.
قال أبو علي: أسير، فعيل، بمعنى مفعول. ألا ترى أنّك تقول: أسرته، كما تقول: قتلته، وفعيل إذا كان بمعنى مفعول، لم يجمع بالواو والنون كما لم يجمع فعول بهما، ولكن يكسّر على فعلى، نحو لديغ ولدغى. وقتيل وقتلى، وجريح وجرحى، وعقير وعقرى. فإذا كان كذلك، فالأقيس:
الأسرى وهو أقيس من أسارى، كما كان أقيس من قولهم:
أسراء، ألا ترى أنّهم قد قالوا: أسراء، فشبّهوه بظرفاء، كما قالوا في جمع قتيل: قتلاء، فكما أن أسراء وقتلا في جمع قتيل، وأسير، ليس بالقياس، كذلك أسارى ليس بالقياس.
ووجه قول من قال: أسارى أنّه شبّهه بكسالى، وذلك أن الأسير لما كان محبوسا عن كثير من تصرّفه للأسر، كما أن الكسلان محتبس عن ذلك لعادته السيّئة شبّه به، فقيل في جمعه:
أسارى كما قيل: كسالى، وأجري عليه هذا الجمع للحمل
[الحجة للقراء السبعة: 2/143]
على المعنى، كما قيل: مرضى وموتى وهلكى ووجيا. لما كانوا مبتلين بهذه الأشياء ومدخلين فيها مكرهين عليها مصابين بها، فأشبه في المعنى فعيلا الذي بمعنى مفعول. فلما أشبهه في المعنى أجري عليه في الجمع اللفظ الذي لفعيل بمعنى مفعول، كما قالوا: امرأة حميدة فألحقوها الهاء، وإن كان بمعنى مفعول لمّا كان بمعنى رشيدة ورشيد- فهذه الأشياء مما تحمل على المعنى. وإن لم يكن حملها على المعنى الأصل. عند سيبويه، قال: ولو كان أصلا قبح: هالكون وزمنون، وكذلك أسارى ليس بالأصل في هذا الباب، ولكنه قد استعمل كثيرا في هذا النحو، وإن لم يكن مستمرا كاستمرار فعلى في جمع فعيل الذي بمعنى مفعول. قال سيبويه: وقالوا كسلى، فشبّهوه بأسرى، كما قالوا: أسارى، فشبّهوه بكسالى.
فهذا يعلم منه أنّ الأصل في فعيل الذي يراد به مفعول أن يجمع على فعلى، وأنّ فعلان نحو: سكران، وكسلان، يجمع على فعالى أو فعالى. وقالوا: كسالى. وكسالى، فكأنّهم جمعوه على فعالى، وإن كانت من أبنية الآحاد نحو: حبارى ورخامى، لما كان فعال قد جاء في بعض أبنية الجموع نحو:
رخال وظؤار وثناء، وقد لحقته تاء التأنيث فقالوا في جمع نقوة نقاوة، كما قالوا: الحجارة والذّكارة، فكما لحق التاء في هذا النحو الّذي يراد به الجمع، كذلك لحق علامة التأنيث في
[الحجة للقراء السبعة: 2/144]
سكارى وكسالى. فجعلت الألف بمنزلة التاء. كما جعلت بمنزلتها في نحو قولهم: قاصعاء وقواصع، ودامّاء ودوامّ فصار بمنزلة: حاوية وحوايا، وجابية وجوابي، كما صارت، الدّني والقصا بمنزلة الظّلم والثّقب، وقلّ مغالى في الجمع كما قلّ فعالة فيه.
الرّبيع عن أبي العالية في قوله: ثمّ أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم الآية [البقرة/ 85] قال: كان بنو إسرائيل إذا استضعف قوم قوما أخرجوهم من ديارهم وقد أخذ عليهم الميثاق. أن لا يسفكوا دماءهم ولا يخرجوا أنفسهم من ديارهم، وأخذ عليهم الميثاق إن أسر بعضهم بعضا أن يفادوهم، فأخرجوهم من ديارهم ثم فادوهم. فآمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض: آمنوا بالفداء ففدوا، وكفروا بالإخراج من الديار فأخرجوهم. ومرّ عبد الله بن سلّام على رأس الجالوت بالكوفة، وهو يفادي من النساء من لم تقع عليه العرب، ولا يفادي من وقع عليها العرب فقال ابن سلام:
أما إنه مكتوب عندك في كتابك أن تفاديهنّ كلّهنّ.
قتادة: أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعضٍ [البقرة/ 85] كان إخراجهم كفرا، وفداؤهم إيمانا.
غيره: ثمّ أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم الآية [البقرة/ 85] كانت قريظة والنضير
[الحجة للقراء السبعة: 2/145]
أخوين، وكانوا من اليهود، وكان الكتاب بأيديهم، وكان الأوس والخزرج أخوين، فافترقا وافترقت قريظة والنّضير، فكانت النّضير مع الخزرج، وكانت قريظة. مع الأوس فاقتتلوا، وكان بعضهم يقتل بعضا. قال الله: ثمّ أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم [البقرة/ 85] قال أبو علي: ثمّ أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم: أي:
يقتل بعضكم بعضا. كقوله: فإذا دخلتم بيوتاً فسلّموا على أنفسكم [النور/ 61] أي ليسلّم [بعضكم على بعض].
فديت: فعل يتعدّى إلى مفعولين، ويتعدّى إلى الثاني بالجارّ كقوله: وفديناه بذبحٍ عظيمٍ [الصافات/ 107] وكقوله:
يودّون لو يفدونني بنفوسهم... ومثنى الأواقي والقيان النواهد
فإذا ثقّلت العين زدت على المفعولين ثالثا، كقوله:
لو يستطعن إذا نابتك مجحفة... فدّينك الموت بالأبناء والولد
وقالوا: فادى الأسير: إذا أطلقه وأخذ عنه شيئا.
قال الأعشى:
عند ذي تاج إذا قيل له... فاد بالمال تراخى ومزح
[الحجة للقراء السبعة: 2/146]
المفعول الأول محذوف. التقدير: فاد الأسرى بالمال.
ومما يؤكّد فاعل في هذا الباب ويثبته أنّه، قد جاء تفادى، وتفاعل إنما هو مطاوع فاعل، كما أن تفعّل مطاوع فعّل. قال:
تفادى إذا استذكى عليها وتتّقي... كما يتّقي الفحل المخاض الجوامز
فأمّا الفداء: فيجوز أن يكون مثل الكتاب، ويجوز أن يكون مصدر فاعل، وقد قالوا: فديته، وافتديته، وأنشد أبو زيد:
ولو أنّ ميتا يفتدى لفديته... بما اقتال من حكم عليّ طبيب
فافتدى يجوز أن يكون بمعنى تفاعل، مثل: ازدوجوا وتزاوجوا، واعتونوا وتعاونوا، ودلّ على ذلك تصحيح العين في افتعلوا، ويجوز أن يكون: فدى وافتدى، مثل: حفر واحتفر، وقلع واقتلع، والأخلق في البيت أن يكون بمنزلة فعلت، على تقدير: ولو أنّ ميتا يفدى لفديته. فمن قرأ: تفادوهم فلأنّ من كلّ واحد من الفريقين فعلا، فمن الآسر دفع الأسير، ومن
[الحجة للقراء السبعة: 2/147]
المأسور منهم دفع لفدائه، فإذا كان كذلك فوجه. تفادوهم ظاهر.
والمفعول الثاني الذي يصل إليه الفعل بالحرف محذوف، كما كان المفعول الأوّل الذي يصل إليه الفعل بلا حرف محذوفا في قوله: فاد بالمال.
ومن قرأ تفدوهم فالمعنى فيه مثل معنى من قرأ:
تفادوهم إلا أنّه جاء بالفعل على يفعل، ألا ترى أنّ في هذا الوجه أيضا دفعا من كلّ واحد من الآسرين والمأسور منهم على وجه الفدية للأسير، والاستنقاذ له من الأسر.
فأمّا الإمالة في الرّاء من أسارى، والتفخيم، فكلاهما حسن، فالإمالة لأن هذه الألف إذا كانت الكلمة على هذه العدّة، لم تكن الألف إلا مثل الألف المنقلبة عن الياء). [الحجة للقراء السبعة: 2/148]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم
[حجة القراءات: 103]
إلّا خزي في الحياة الدّنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عمّا تعملون} 85
- قرأ عاصم وحمزة والكسائيّ {تظاهرون عليهم} بالتّخفيف وقرأ الباقون {تظاهرون} بالتّشديد الأصل فيه تتظاهرون فمن قرأ بالتّشديد أدغم التّاء في الظّاء لقرب المخرجين وأتى بالكلمة على أصلها من غير حذف ومن قرأ {تظاهرون} بالتّخفيف والأصل أيضا فيه تتظاهرون حرف التّاء الثّانية لاجتماع تاءين إحداهما تاء الاستقبال والثّانية تاء تزاد في الفعل فأسقط الثّانية وحجته قوله {ولقد كنتم تمنون الموت} فطرح الثّانية منها
قرأ حمزة {وإن يأتوكم أسارى} بغير ألف جمع أسير وحجته أن كل فعيل من نعوت ذوي العاهات إذا جمع فإنّما يجمع على فعلى وذلك كجمعهم المريض مرضى والجريح جرحى والقتيل قتلى والصريع صرعى وكذلك اسير وأسرى لأنّه قد ناله المكروه والأذى
وقرأ الباقون {أسارى} قال بعض علمائنا هما لغتان كما يقال سكران وسكارى وقال أبو عمرو إذا أخذوا فهم عند الأخذ أسارى وما لم يؤسر بعد منهم أسرى كقوله {ما كان لنبيّ أن يكون له أسرى}
قرأ نافع وعاصم والكسائيّ {تفادوهم} بالألف وحجتهم
[حجة القراءات: 104]
أن هذا فعل من فريقين أي يفدي هؤلاء أساراهم من هؤلاء وهؤلاء أساراهم من هؤلاء وكان أبو عمرو يقول تعطوهم ويعطوكم وتفدوهم تعطوهم فقط
وقرأ الباقون (تفدوهم) أي تشتروهم من العدو وحجتهم في ذلك أن في دين اليهود ألا يكون أسير من أهل ملتهم في إسار غيرهم وأن عليهم أن يفدوهم بكل حال وإن لم يفدهم القوم الآخرون كا قال ابن عبّاس
قرأ نافع وابن كثير وأبو بكر {وما الله بغافل عمّا يعملون} بالياء وحجتهم قوله {ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب} فيكون قوله {عمّا يعملون} إخبارًا عنهم
وقرأ الباقون {عمّا تعملون} بالتّاء وحجتهم قوله {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض} ). [حجة القراءات: 105]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (46- قوله: {تظاهرون} قرأه الكوفيون مخففًا، ومثله في التحريم: {وإن تظاهرا عليه} «التحريم 4»، وشددهما الباقون.
47- وعلة ذلك لمن خفف أن الأصل «تتظاهرون» بتاءين، فاستثقل التكرير في فعل، والفعل ثقيل في الجمع، والجمع ثقيل، فحذف إحدى التاءين استخفافًا، وكأنه استثقل الإدغام، لأن الحرف باق بدله مع الإدغام، والمحذوف هي التاء الثانية عند سيبويه، لأن بها يقع التكرير والاستثقال؛ لأن التاء الأولى تدل
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/250]
على الاستثقال، ولو حذفت لذهبت الدلالة، والتاء الأولى هي المحذوفة عند الكوفيين لزيادتها.
48- وعلة من شدد أنه كره الحذف، فأدغم التاء الثانية في الظاء، فزال لفظ التكرير، وحسن الإدغام؛ لأنك تبدل من التاء في الإدغام حرفًا أقوى من التاء، وهو الظاء). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/251]
85
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (49- قوله: {أسارى تفادوهم} قرأ حمزة «أسرى» على وزن «فعلى» وقرأ الباقون «أسارى» على وزن «فعالى» وقرأ نافع وعاصم والكسائي «تفادوهم» بضم التاء وبالألف، وقرأ الباقون «تفدوهم» بفتح التاء وإسكان الفاء من غير ألف.
50- وعلة من قرأ «أسرى» على «فعلى» أنه جمع أسير كـ «جريح، وقتيل» بمعنى مأسور ومجروح ومقتول، فلما كان «جريح وقتيل» يُجمعان على «فعلى»، ولا يجمعان على «فعالى» فعل بـ «أسير» ذلك فهو أصله، وبه قرأ الحسن وابن وثاب وابن أبي إسحاق والنخعي وطلحة وعيسى والأعمش.
51- وحجة من قرأ «أسارى» على وزن «فعالى» أنه شبهه بـ «كسالى» وذلك أن الأسير لما كان محبوسًا عن كثير من تصرفاته، صار كالكسلان، الذي حبسه الكسل عن كثير من تصرفه، فلما اشتبها في هذا المعنى حملا في الجمع على بناء واحد، فجمع «كسلان» على «كسلى» وهو باب
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/251]
أسير، وجمع «أسير» على «أسارى» وهو باب «كسلان»، فكل واحد محمول على الآخر.
52- وعلة من قرأ «تفادوهم» بألف وضمه التاء أنه ناه على أصل المفاعلة من اثنين لأن كل واحد من الفريقين يدفع من عنده من الأسارى ويأخذ من عند من الآخرين من الأسرى فكل واحد مفادٍ فاعل، والفاعلان بابهما المفاعلة، وأيضًا فإن المفاعلة قد تكون من واحد، فيكون معناه معنى قراءة من قرأ بغير ألف، فيتفق معنى القراءتين، فأما من قرأه بفتح التاء من غير ألف فإنه بناه على أن أحد الفريقين يفدي أصحابه من الفريق الآخر، بمال أو غيره، من عرض، وكذلك العادة في المغلوب، هو يفدي ما أخذ له الغالب، فالفعل من واحد؛ إذ لا يكون كل واحد من الفريقين غالبًا، وإنما تحمل المفاعلة على القراءة بالألف أن لكل واحد من الفريقين أسيرًا فيفادي كل واحد منهما ويدفع ما عنده من الأسرى بما عند الفريق الآخر من الأسرى، ويجوز أن يكون تقاتلا فغلب أحدهما الآخر، وأسرى الغالب، ثم تقاتلا فغلب المغلوب وأسر، ثم تفادوا، وإنما أسروا أسرى هؤلاء وأسرى هؤلاء، والاختيار «أسارى» على «فعالى» وتفدوهم بغير ألف لما ذكرنا من العلة، ولأن القراءتين قد ترجعان إلى معنى، ولأن أكثر القراء على ذلك، وبذلك قرأ مجاهد وابن محيصن والأعرج وشبل، وبه قرأ قتادة وأبو عبد الرحمن وغيرهم، وكان أبو عمرو يقول: الأسرى الذين جاؤوا مستأمنين، والأسارى الذين في الوثاق والسجون أُخذوا قسرا). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/252]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (53- قوله: {تعملون أولئك} قرأه الحرميان وأبو بكر بالياء،
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/252]
ردوه على قوله: {يردون} وعلى قوله: {أولئك الذين}، وقوله: {عنهم}، {ولاهم} فلما أتى كله بلفظ الغائب، حمل صدر الكلام عليه، وقرأ الباقون بالتاء، حملوه على ما تقدم من الخطاب في قوله: {يأتوكم أسارى}، و{محرم عليكم}، وقوله: {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض}، وقوله: {فما جزاء من يفعل ذلك منكم}، فلما تكرر الخطاب حُمل عليه، وهو الاختيار لكثرة ما قبله من الخطاب؛ ولأن أكثر القراء عليه). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/253]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (30- {تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ} [آية/ 85]:-
بتخفيف الظاء، قرأها الكوفيون: عاصم وحمزة والكسائي، وكذلك {تَظَاهَرَا} في المتحرم.
ووجه ذلك أن الأصل تتظاهرون، فاستثقلوا اجتماع التاءين سيما مع حرف مقارب لهما في المخرج وهو الظاء، فحذفوا التاء الثانية كراهة اجتماع المثلين مع المقارب. وإنما حذفوا الثانية دون الأولى؛ لأن هذه الثانية هي التي يلحقها الإعلال بالإسكان والإدغام في الماضي نحو: {ادّارَأْتُمْ}
[الموضح: 287]
و {ازَّيَّنَتْ} في تدارأتم وتزينت، ثم إن الأولى جاءت لمعنى المضارعة، فلو حذفت لزال ذاك المعنى.
وقرأ الباقون (تَظَّاهَرُون) بتشديد الظاء، والأصل: تتظاهرون كما سبق، فأدغموا التاء الثانية في الظاء للمقاربة التي بينهما كراهة ما كرهه الآخرون من اجتماع المثلين والمقارب، فخفف هؤلاء بالإدغام ما خفف أولئك بالحذف). [الموضح: 288]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (31- (أسْرى) [آية/ 85]:
قرأ حمزة وحده (أسْرى) بغير ألف.
وذلك لأن أسرى أقيس من الأسارى؛ لأن فعيلاً إنما جاء جمعه على فعلى نحو: قتيل وقتلى وجريح وجرحى، وأصل ذلك إنما يكون لما كان بمعنى مفعول، وقد حمل عليه أشياء وقعت مقاربة له في المعنى نحو مرضى وموتى وهلكى، لما كان هؤلاء مبتلين بهذه الأشياء التي وقعت على غير اختيارهم شبهوا بالجرحى والقتلى إذ كانوا أيضًا كذلك.
وقرأ الباقون {أُسارى} بالألف وضم الهمزة.
ووجه ذلك أن أسيرًا جمع ههنا على أُسارى تشبيهًا بكُسالى، لما كان الأسير ممنوعًا عن الكثير من تصرفه شبه بالكسلان الذي يمتنع عن ذلك بما فيه من العادة المذمومة التي هي الكسل، فلما أشبهه في المعنى شاركه في الجمع على فعالى). [الموضح: 288]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (32- (تفدُوهُمْ) [آية/ 85]:-
بغير ألف، قرأها ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وابن عامر.
وذلك لأنه يقال: فديت الأسير بالمال، قال الله تعالى {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ}، وجاء في ذلك أيضًا: فاديته، وقد قيل: إن فديت يكون بالمال، وفاديت بالأسير يقال فاديت أسيري بأسيرٍ آخر، وقيل فديته اشتريته من العدو وفاديته ما كسبت به العدو في الثمن.
وقرأ الباقون، تُفَادوُهُمْ} بالألف.
ووجهه عند من لم يفرق في المعنى بينهما، أن هذا من باب المفاعلة؛ لأنه يكون من كل واحدٍ من الآسر والمستنقذ فعل، فأحدهما يدفع الفداء والآخر يدفع الأسير، فلفظ المفاعلة به أليق). [الموضح: 289]

قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)}

روابط مهمة:
- أقوال المفسرين


الساعة الآن 01:59 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
جميع الحقوق محفوظة