جمهرة العلوم

جمهرة العلوم (http://jamharah.net/index.php)
-   منتدى جمهرة علوم القرآن الكريم (http://jamharah.net/forumdisplay.php?f=661)
-   -   مسائل كتاب بيان فضل القرآن (http://jamharah.net/showthread.php?t=26394)

جمهرة علوم القرآن 22 محرم 1439هـ/12-10-2017م 12:36 PM

أنواع بركة القرآن في الدنيا

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (أنواع بركة القرآن في الدنيا
وأنواع بركة القرآن كثيرة يتعذّر حصرها واستقصاؤها.

· وأصل بركاته وأعظمها: ما تضمّنه من بيان الهدى والتبصير بالحقائق في كل ما يُحتاج إليه؛ كما قال الله تعالى: {هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203)}.
وقال تعالى: {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم}.
وقال تعالى: {ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل}.
وقال تعالى: { قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104)}
والبصيرة هي أصل الهداية ؛ فإنّ من تبصّر عرف فاعتبر وادّكر، وحاجة العبد إلى التبصّر دائمة متعددة، ولذلك يزداد العبد بصيرة كلما أحسن تدبر القرآن كما قال الله تعالى: {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب} ، والتذكّر ثمرة التبصّر.
وبركة بصائر القرآن لها أصل وأنواع؛ فأصلها إخراج الناس من الظلمات إلى النور، وهدايتهم إلى الصراط المستقيم.
وأما أنواعها وتفصيلاتها فكثيرة متجددة، وكم من حَدَثٍ عارضٍ يحارُ فيه المؤمن ثمّ يجد البصيرة فيه في كتاب الله تعالى.
وكل بصيرة يتبصّر بها العبد بالقرآن فهي من آثار بركة القرآن؛ لأنها تعرّفه بحقيقة الأمر، وتدلّه على الهدى، وتحذّر من مخالفته، وتبيّن له زيف ما تُزيّن به الضلالة من زخرف القول وأباطيل الشُّبه؛ فللبصيرة الواحدة بركات متعددة، وهكذا في كلّ بصيرة يتبصّر بها العبد من القرآن؛ فكم من إنسان سعد بآية قرأها فاعتبر بها؛ أو سمعها فاهتدى بها.
· ومن بركات القرآن: أنّه حياة للمؤمن ورفعة له؛ وقد وصفه الله بأنّه روح لما يحصل به من الحياة الحقيقية، التي هي حياة القلب.
قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)}
وقال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا..}
وكلما ازداد نصيب العبد من الإيمان بالقرآن وتلاوته واتّباع هداه ازداد نصيبه من بركته والحياة به حتى يكون القرآنُ ربيعَ قلبه؛ لما يرى من حسنه وبركاته، وكثرة ما ينتفع به من ثمراته؛ فهو كالمقيم في الربيع يعجبه حسنه ويجد من رَوحه وطيبه، وينتفع بأنواع الثمرات التي يجتنيها منه، وكذلك حال صاحب القرآن، جنّته في صدره؛ يأنس به، ويتبصّر به، ويحيا به، ويجد من أنواع بركاته ما تقرّ به عينه، وتطيب به حياته.
· ومن بركته على النفس المؤمنة به: أنه يجلو الحزن، ويذهب الهمّ، وينير البصيرة، ويُصلح السريرة، ويشفي ما في الصدر، فيطمئنّ به القلب، وتزكو به النفس، ويحصل به اليقين، ويزداد به الإيمان، ويندفع به كيد الشيطان.
· ومن بركاته ما جعل الله فيه من الشفاء الحسي والمعنوي؛ فكم تعافت به النفس من علل مُضرّة، وأهواء مردية، وكم شُفي به من سقيم، وكم أُبطِلَ به من سحر وعين، وكم زال به من وسواس، وكم رفع به من بلاء؛ فآياته رقية ناجعة يُرقى بها، وشفاء للمؤمنين، وكلّ ذلك من بركات هذا القرآن العظيم.
· ومن بركاته: أن قارئه يُثاب عليه أنواعاً من الثواب: فيثاب على الإيمان به، ويثاب على تلاوته، ويثاب على الاستماع إليه، ويثاب على تدبّره، ويثاب على تعظيمه، ويثاب على حفظه، ويثاب على التفقّه فيه وطلب تفسيره، ويثاب على اتّباع هداه، حتى إنه ليثاب على النظر في المصحف.
· ومن بركاته أيضاً: كثرة وجوه الخير فيه؛ فهو علم لطالب العلم، وحكمة لطالب الحكمة، وهداية للحيران، وتثبيت للمبتلى، ورحمة للمؤمن، وشفاء للمريض، وبيان لمن يريد كشف الشبهات، ودليل لمن يدعو إلى الله، وحجّة لمن ينتصر لدين الله؛ وهو لكل صاحب حاجة مشروعة غنية وكفاية {أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون}.
· ومن بركاته: بركة ألفاظه وأساليبه؛ فألفاظه ميسرة للذكر، معجزة في النظم، حسنة بديعة، لها حلاوة في السمع، وبهجة في النفس، وتأثير في القلب، يدلّ اللفظ الوجيز منه على معانٍ كثيرة مباركة.
· ومن بركاته: بركة معانيه وكثرتها واتّساعها وعظيم دلالتها حتى أدهش البلغاء وأبهرهم؛ وصنف العلماء الكبار في بيان معاني بعض آياته رسائل كثيرة مفردة؛ فصنف الحافظ ابن رجب رسالة طويلة في تفسير قول الله تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} بيّن فيها من بديع المعاني ما يتعجب منه القارئ، وصنّف الحافظ ابن الجزري رسالة طويلة سماها "كفاية الألمعي في معنى قوله تعالى: {وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي}، وصنف الحافظ السيوطي رسالة في تفسير قول الله تعالى: {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور...} الآية، واستخرج منها نحو مائة وعشرين وجها بلاغياً، وسمى رسالته "فتح الرب الجليل للعبد الذليل"، ومصنفات العلماء المفردة في تفسير بعض الآيات كثيرة، وهي من دلائل كثرة معاني القرآن العظيم وبركتها واتّساعها.
· ومن بركاته: أنه لا تنقضي عجائبه ولا يحاط بمعرفته فلو درس المرء تفسيره من فاتحته إلى خاتمته لم يحط بمعانيه، فإذا درسه مرة أخرى ظهرت له معان لم تكن قد ظهرت له من قبل.
· ومن بركاته على صاحبه الذي يقرأه وهو مؤمن به: أنه يرفع شأنه، ويعلي ذكره، ويوجب له حقاً لم يكن ليناله بغير هذا القرآن من الإجلال والتقديم، والرعاية والتكريم، وأجلّ ذلك أن يكون صاحب القرآن من أهل الله وخاصّته، وذلك أشرف ما لأهل القرآن، وهم في هذه الدنيا خير الأمة وأفضلها.
- روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تعالى يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين».
- وروى الإمام أحمد والنسائي في السنن الكبرى من حديث عبد الرحمن بن بديل بن ميسرة، عن أبيه، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لله أهلين من خلقه» قالوا: ومن هم يا رسول الله؟ قال: «أهل القرآن هم أهل الله وخاصته»
· ومن بركاته: عموم فضله على الأمة وعلى الفرد؛ فإذا اتّبعت الأمّة هداه أعزّها الله ونصرها، ورفع عنها الذلة، والطائفة التي تقيم ما أمر الله به فيه لا يضرها من خذلها ولا من خالفها.
· ومن بركاته العظيمة أنه حيثما كان فهو مبارك:
- فهو مبارك في قلب المؤمن ونفسه وحواسّه وجوارحه، يهديه ويثبّته، ويرشده ويبصّره، ويزداد بتلاوته إيمانا ويقينا، وطمأنينة وسكينة.
- وهو مبارك في المجلس الذي يُقرأ فيه؛ وتُتَدارس فيه آياته؛ فتنزل على أهله السكينة، وتحفّهم الملائكة، ويذكرهم الله فيمن عنده، كما في سنن أبي داوود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله تعالى يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم: إلا نزلت عليهم السكينة, وغشيتهم الرحمة, وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده).
- وهو مبارك في البيت الذي يتلى فيه، يكثر خيره، ويتّسع بأهله، ويطرد الشياطين ، كما روى ثابت البناني عن أبي هريرة أنه كان يقول في البيت إذا تلي فيه كتاب الله اتّسع بأهله وكثر خيره وحضرته الملائكة، وخرجت منه الشّياطين، والبيت إذا لم يُتْلَ فيه كتاب الله ضاق بأهله، وقلّ خيره , وحضرته الشّياطين. رواه ابن أبي شيبة.
وقال ابن سيرين: (البيت الّذي يقرأ فيه القرآن تحضره الملائكة، وتخرج منه الشّياطين، ويتّسع بأهله ويكثر خيره، والبيت الّذي لا يقرأ فيه القرآن تحضره الشّياطين، وتخرج منه الملائكة، ويضيق بأهله ويقلّ خيره). رواه ابن أبي شيبة.
ولذلك عدّ بعض السلف البيت الذي لا يُقرأ فيه القرآن صِفْراً من الخير، كما قال عبد الله بن مسعودٍ: (إنّ أصفر البيوت البيت الّذي صَفِرَ من كتاب الله). رواه ابن أبي شيبة.
ورواه عبد الرزاق بلفظ: (إن أصفر البيوت من الخير البيت الذي ليس فيه من كتاب الله تعالى شيء، وإن البيت الذي ليس فيه من كتاب الله شيء خَرِبٌ كخراب البيت الذي لا عامر له، وإن الشيطان يخرج من البيت يسمع سورة البقرة تقرأ فيه).
- وهو مبارك على الورق الذي يُكتب فيه؛ فالورق الذي يكتب فيه القرآن تكون له حرمة عظيمة، وأحكام كثيرة في الشريعة بسبب تضمّنه لهذا القرآن العظيم المبارك؛ فتشرع الطهارة لمسّه، ويجب تعظيمه، ويحرم الاستخفاف به بل يكفر من يدنّسه أو يطأ عليه امتهاناً له، وما كان ذلك الورق لينال تلك المكانة والحرمة في الشريعة إلا لتضمّنه كتاب الله تعالى؛ فما الظنّ بقلب حفظه ووعاه واتّبع هداه). [بيان فضل القرآن:76 - 82]

جمهرة علوم القرآن 22 محرم 1439هـ/12-10-2017م 12:40 PM

بركة القرآن في الآخرة

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (بركة القرآن في الآخرة
وأما بركاته على صاحبه يوم القيامة فبركات جليلة القدر عظيمة الأثر: فهو أنيسه في قبره، وظلّه في الموقف العظيم، وقائده في عرصات القيامة، وحجيجه وشفيعه، ولا يزال به حتى يقوده إلى الجنة مكرماً.
- روى الإمام مسلم بإسناده عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: «اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه، اقرءوا الزهراوين البقرة، وسورة آل عمران، فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان، أو كأنهما غيايتان، أو كأنهما فرقان من طير صواف، تحاجان عن أصحابهما، اقرءوا سورة البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة».
ومن أراد أن تحسن صحبة القرآن له في الآخرة فليحسن صحبته في الدنيا.
- وروى الترمذي من طريق عاصم بن أبي النجود عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:« يجيء القرآن يوم القيامة فيقول: يا رب حَلِّه، فيلبس تاج الكرامة، ثم يقول: يا رب زده، فيلبس حلة الكرامة، ثم يقول: يا رب ارض عنه، فيرضى عنه، فيقال له: اقرأ وارق، ويزاد بكل آية حسنة » .
- وروى الدارمي من طريق عاصم، عن مجاهد، عن ابن عمر أنه قال:« يجيء القرآن يشفع لصاحبه، يقول: يا رب لكل عامل عمالة من عمله، وإني كنت أمنعه اللذة والنوم؛ فأكرمْه. فيقال: ابسط يمينك، فيملأ من رضوان الله، ثم يقال: ابسط شمالك، فيملأ من رضوان الله، ويكسى كسوة الكرامة، ويحلى حلية الكرامة، ويلبس تاج الكرامة».

ومما ينبغي أن يُعلم أن بركات القرآن إنما ينالها من آمن به واتّبع هداه؛ كما قال الله تعالى: { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44)}
وقال تعالى: { وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82)}). [بيان فضل القرآن:82 - 83]

جمهرة علوم القرآن 22 محرم 1439هـ/12-10-2017م 12:44 PM

الباب الخامس: فضل تلاوة القرآن

فضل تلاوة القرآن

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (فضل تلاوة القرآن

من دلائل فضل القرآن ما جعل الله لتاليه من الثواب العظيم والفضل الكبير، وما فتح له به من أبواب الخيرات والبركات، والتجارة العظيمة الرابحة.
قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29)} لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) }
وقال تعالى: { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121)}). [بيان فضل القرآن:85]

جمهرة علوم القرآن 22 محرم 1439هـ/12-10-2017م 12:46 PM

معنى تلاوة القرآن

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (معنى تلاوة القرآن

وتلاوة القرآن يُرادُ بها معنيان متلازمان:
المعنى الأول: قراءته.
والمعنى الثاني: اتّباعه.
قال عبد اللّه بن مسعودٍ رضي الله عنه في تفسير قول الله تعالى: {يتلونه حقّ تلاوته}: (والّذي نفسي بيده إنّ حقّ تلاوته أن يحلّ حلاله ويحرّم حرامه، ويقرأه كما أنزله اللّه، ولا يحرّف الكلم عن مواضعه، ولا يتأوّل منه شيئًا على غير تأويله). رواه ابن جرير.
وقال عبد الله بن عباس: «يتبعونه حق اتباعه». رواه أبو عبيد القاسم بن سلام وأبو داوود في الزهد وزاد: (ألا ترى إلى قوله: {والقمر إذا تلاها}).
وقال مجاهد: (يعملون به حقّ عمله). رواه سعيد بن منصور وابن جرير.
وقال الحسن البصري: (يعملون بمُحْكَمِه، ويؤمنون بمتشابهه، ويكلون ما أشكل عليهم إلى عالمه). رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.
وقال قتادة: (يتّبعونه حقّ اتّباعه يحلّون حلاله، ويحرّمون حرامه، ويقرؤونه كما أُنزل). رواه ابن جرير.

فتلاوة القرآن جامعة بين معنيَي قراءته واتّباعه.
قال الله تعالى: {واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك}
وقال تعالى: {اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة...}
وقال تعالى في مواضع أخرى: {اتّبع ما أوحي إليك من ربك}.
وقال تعالى: { وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155)}
وقال تعالى: { المص (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3)}
وقال تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ}
فورد الأمر بالقراءة، وورد الأمر بالاتباع، وورد الأمر بالتلاوة الجامعة بين المعنيين.
والتلاوة المعتبرة هي التلاوة التي يحبّها الله ويقبلها، وهي التلاوة التي تكون بإيمان واتّباع؛ أما القراءة من غير اتّباع فإنها لا تنفع صاحبها، بل هي حجّة عليه). [بيان فضل القرآن:85 - 87]

جمهرة علوم القرآن 22 محرم 1439هـ/12-10-2017م 12:51 PM

مراتب تلاوة القرآن

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (مراتب تلاوة القرآن
وتلاوة القرآن على مراتب:

- فأعلاها مرتبة أهل الإحسان في تلاوة القرآن، وهم الذين جمعوا بين المهارة في قراءة القرآن، وحسن اتّباع هداه؛ فهؤلاء بأفضل المنازل، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29)} لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) }
فوعدهم الله التجارةَ الرابحة التي ضمن لهم أنها لن تبور؛ فهي تجارة يجدون من ثوابها وبركاتها والرفعة بها ما تقرّ به أعينهم، وتطيب به حياتهم، وتحسن به عاقبتهم.
ووعدهم مع توفيتهم أجورهم أن يزيدهم من فضله زيادة كريمة من عنده جلّ وعلا؛ وأضاف الفضل إليه إضافة تشريف وتنبيه على أنّه فضل عظيم.
{إنه غفور شكور} وفي هذا تنبيه على وعد بمغفرة ذنوبهم، وعلى أنّ الله تعالى يحبّ هذه الأعمال، ويشكر من يتقرّب بها إليه؛ فيثيبهم ثواباً وافياً، ويزيدهم عليه زيادة كريمة.
قال قتادة: (كان مطرّف بن عبد الله إذا مرّ بهذه الآية: {إنّ الّذين يتلون كتاب اللّه} يقول: هذه آية القرّاء). رواه ابن جرير.
وذلك لما فيها من الشرف والفضل العظيم لهم.
- وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويَتَتَعْتَعُ فيه، وهو عليه شاقّ، له أجران». رواه مسلم.
الماهر: الحاذق الذي يقرأ بإتقان من غير تردد.
فلما جمعوا مهارة القراءة وبرّ العمل به نالوا إكرام الله تعالى لهم.
قال ابن حجر: (والمراد بالمهارة بالقرآن جودة الحفظ وجودة التلاوة من غير تردد فيه، لكونه يسَّره الله تعالى عليه كما يسَّره على الملائكة؛ فكان مثلها في الحفظ والدرجة).
ويشهد لما قاله ابن حجر رواية البخاري رحمه الله لهذا الحديث في صحيحه بلفظ: «مثل الذي يقرأ القرآن، وهو حافظ له مع السفرة الكرام البررة، ومثل الذي يقرأ، وهو يتعاهده، وهو عليه شديد فله أجران».
وحفظ القرآن هنا يشمل حفظ تلاوته وحفظ رعايته بالعمل به وما يوجبه الإيمان به.
وقوله: (مع السفرة الكرام البررة) إشارة إلى قول الله تعالى: {في صحف مكرّمة . مرفوعة مطهّرة . بأيدي سفرة . كرام بررة}.
وفي المراد بالسفرة أربعة أقوال:
القول الأول: هم الملائكة، واحدهم سافر، والجمع سَفَرة، وهذا القول رُوي عن ابن عباس بإسناد ضعيف، وقال به عبد الرحمن بن زيد بن أسلم والفراء والبخاري في صحيحه، ورجّحه ابن جرير وابن عطية وابن كثير.
قال الفراء: (فَجُعِلَت الملائكة إذا نزلت بوحي الله تبارك وتعالى وتأديبه كالسفير الذي يصلح بين القوم، قال الشاعر:
ومــا أدع السّـفـارة بـيـن قـومـي ... وما أمشي بغشٍّ إن مشيت)ا.ه.
والقول الثاني: هم الكَتَبة؛ وهو قول ابن عبّاس، ورواية معمر عن قتادة، وقال به من علماء اللغة أبو عبيدة معمر بن المثنّى.
والقول الثالث: هم القرّاء، وهو رواية سعيد بن أبي عروبة عن قتادة أخرجها ابن جرير الطبري.
والقول الرابع: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا قول وهب بن منبّه؛ رواه عنه عبد بن حميد وابن المنذر كما في الدر المنثور.
وجمع الخليل بن أحمد وابن قتيبة والزجاج بين القولين الأولين؛ فذهبوا إلى أن معنى "السفرة" أي الكَتَبة، وأنّ المراد بهم الملائكة، وهو جمع حسن.
والمقصود أن قول النبي صلى الله عليه وسلم في الماهر بقراءة القرآن (مع السفرة الكرام البررة) تشريف عظيم للماهر بالقرآن، وقد اختلف في كونه معهم على أقوال:
القول الأول: المعيّة في المكانة والمنزلة.
والقول الثاني: هي معيّةُ مصاحَبة في الدنيا؛ فلكثرة تلاوته وتنزّل الملائكة لاستماع الذكر والتلاوة كان مصاحباً لهم.
والقول الثالث: هي معيّة مشاكلة ومشابهة؛ فهو بطاعته وكثرة ذكره قد شابه الملائكة وسلك مسلكهم.
وعلى كلّ هذه الأقوال فوصفه بأنه مع السفرة دون ذكر عين الجزاء دليل على إبهامه لتعظيمه، وأنّه أجر عظيم يكفي في وصفه أن يعدّ صاحبه مع السفرة الكرام البررة، ونظيره ما في الحديث الصحيح: (فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله)؛ فتذهب الآمال كل مذهب في رجاء عِظَمِ هذا الثواب، فيثابون بما لم يخطر على قلوبهم، ولم يبلغه علمهم، ولم تدركه أمانيهم من عظيم الفضل وجزيل الثواب.
ولذلك ذهب بعض أهل العلم إلى أن مضاعفة الثواب للماهر بالقرآن لا تُحصَر، وأنّ الله تعالى يضاعف له الأجر أضعافاً كثيرة؛ فكما يضاعف الحسنات لبعض عباده إلى سبعمائة ضعف وإلى أضعاف كثيرة؛ فكذلك يكون في خير ما يُتقرَّب به إليه – جلّ وعلا - وهو تلاوة كلامه واتّباع هداه.

والمقصود أنّ ثواب تلاوة القرآن يتفاضل بتفاضل القراء في معنيي التلاوة؛ وهما القراءة والاتباع؛ فمن بلغ فيهما مرتبة الإحسان فهو بأفضل المنازل.
ومن قصّر فيهما حصل له من النقص بحسب تقصيره وتفريطه.
وأما من كان يحسن القراءة ويخالف هدى الله تعالى فإنّ قراءته لا تنفعه عند الله، بل هي حجّة عليه). [بيان فضل القرآن:87 - 90]

جمهرة علوم القرآن 22 محرم 1439هـ/12-10-2017م 01:01 PM

أنواع ثواب تلاوة القرآن

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (أنواع ثواب تلاوة القرآن
ومن أحسن تلاوة القرآن فإنّه يُثاب بأنواع من الثواب العظيم في الدنيا والآخرة فضلاً من الله تعالى، وإكراماً منه لصاحب القرآن:

أ: فمما يثاب به في الدنيا:
1: أن تلاوته للقرآن طمأنينة للقلب وسكينة للنفس ونور للصدر، وجلاء للحزن وذهاب للهَمّ؛ كما قال الله تعالى: {ألا بذكر الله تطمئنّ القلوب} ، وقد فسّر الذكر هنا بالقرآن، ولا شكّ أن القرآن من الذكر، وهو يدخل في معنى هذه الآية دخولاً أوّلياً؛ وتلاوته والاستماع له بقلب منيب يحصل بهما من الطمأنينة والسكينة ما يدفع عن المؤمن انزعاجه من المقلقات والأحداث العارضة والإيذاءات الشيطانية؛ ويثبّته في مواضع الفتن؛ وهذا الثواب النفسي الذي يجده قارئ القرآن بركته على روحه وجسده حتى كأنّ كلَّ عضو من أعضائه تناله بركة تلاوته، من أعظم الثواب المعجّل لقارئ القرآن.
وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما قال أحد قط إذا أصابه هم أو حزن: اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي، إلا أذهب الله همه، وأبدله مكان حزنه فرحا ".
قال: فقيل: يا رسول الله، ألا نتعلمها؟
فقال: " بلى، ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها " رواه أحمد وابن أبي شيبة وأبو يعلى وابن حبان والحاكم وغيرهم.
2. ومن ثواب تلاوة القرآن: محبة الله تعالى لمن يتلو كتابه مؤمنا به؛ معظّما لهداه؛ فرحاً بفضله ورحمته؛ وهذه المحبة العظيمة لها آثار مباركة على حياة المؤمن، وكلما كان أحسن تلاوة للقرآن كان نصيبه من هذه المحبة وآثارها أعظم.
ومن دلائل محبّة الله تعالى لمن يتلو كتابه مؤمنا به ثناؤه عليهم في مواضع من كتابه الكريم، ثناء يشرّفهم به ويرغّب به عباده في تلاوة كتابه، والتقرّب به إليه.
وتزداد محبّة الله تعالى بازدياد صدق العبد في التقرّب إلى الله تعالى بتلاوة كتابه وتقديمه إيّاه على ما تشتهيه نفسه كما دلّ عليه الحديث الذي رواه منصور بن المعتمر عن ربعي بن حراش، عن أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله يحب ثلاثة ويبغض ثلاثة:
- يبغض الشيخ الزاني، والفقير المختال، والمكثر البخيل.
- ويحب ثلاثة: رجل كان في كتيبة؛ فكَرَّ يحميهم حتى قُتِل أو فتح الله عليه، ورجل كان في قوم فأدلجوا فنزلوا من آخر الليل، وكان النومُ أحبَّ إليهم مما يُعدل به، فناموا وقام يتلو آياتي ويتملَّقني، ورجل كان في قوم فأتاهم رجل يسألهم بقرابة بينهم وبينه فبخلوا عنه، وخلف بأعقابهم فأعطاه حيث لا يراه إلا الله ومن أعطاه). رواه الإمام أحمد والنسائي والترمذي بإسناد صحيح.
وقال فروة بن نوفل الأشجعي: كنت جاراً لخباب بن الأرتّ؛ فخرجنا مرة من المسجد، فأخذ بيدي فقال: « يا هناه، تقرب إلى الله بما استطعت، فإنك لن تَقَرَّب إليه بشيء أحبَّ إليه من كلامه » رواه الحاكم والبيهقي واللالكائي، واحتجّ به الإمام أحمد.
وقد فقه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فَضْلَ هذا العمل الجليل فكانوا أحسن الأمّة عناية به.
- قال عثمان بن عفان رضي الله عنه: « لو أن قلوبنا طهرت ما شبعنا من كلام ربنا، وإني لأكره أن يأتي عليَّ يوم لا أنظر في المصحف ». رواه البيهقي في كتاب الاعتقاد.
- وقال عبد الله بن مسعود: « لو أن رجلا بات يحمل على الجياد في سبيل الله، وبات رجل يتلو كتاب الله لكان ذاكرُ الله أفضلَهما» رواه ابن أبي شيبة
- وقال عبد الله بن عمر: « لو بات رجل ينفق دينارا دينارا، ودرهما درهما، ويحمل على الجياد في سبيل الله، وبات رجل يتلو كتاب الله حتى يصبح متقبَّلا منه، وبتُّ أتلو كتاب الله حتى أصبح متقبلا مني، لم أحبَّ أن لي عملَه بعملي » رواه ابن أبي شيبة.
- وروى سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي عن سلمان الفارسي أنه قال: «لو بات رجل يعطي البِيضَ القِيَان، وبات آخر يتلو كتاب الله عز وجل ويذكر الله تعالى» قال سليمان التيمي: (كأنه يرى أن الذي يذكر الله أفضل). رواه أبو نعيم الأصبهاني.
البيض القيان: الجواري ذوات الحسن في الصوت والصورة، وذكرها لأنّها من أَنفَسِ ما يُهدى؛ لمظنّة الشحّ بها.

3: ومن ثواب تلاوته: أن القارئ يتبصّر به ويعتبر فيهديه إلى معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته، ويذكّره بآلائه ونعمائه، ويبصّره بالصراط المستقيم والهدي القويم في جميع شؤونه، ويفقّهه في أحكام دينه وسلوكه وتعامله، ويعلّمه الاعتبار والتفكّر، والتبصّر والتذكر، والحكمة والسداد؛ فيستفيد من القرآن علماً كثيراً مباركاً بما تضمّنه من الآيات البيّنات، والأمثال التي صرّفها الله عزّ وجل عن علم وحكمة وحسن تقدير، وما فيه من القصص الكثيرة المباركة بما حوته من الدروس والمواعظ والعبر، إلى غير ذلك من أنواع البصائر والبيّنات التي تحصل لمن أحسن تلاوة القرآن؛ كما قال الله تعالى: { لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46)} ،
- وقال تعالى: { هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9)}
- وقال تعالى: { بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} .
- وقال تعالى: { فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُإِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11)}
- وقال تعالى: { قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)}
وفي القرآن من أنواع البصائر والبيّنات ما يفتح للعبد أبواب الإيمان واليقين والحكمة؛ فإنّه يرى الأمور بعين البصيرة، ويَنظر إلى الأحداث كما يحبُّ اللهُ أن يُنظر إليها، ولا تغرّه الظواهر التي تغرّ الجاهلين وتخدعهم، بل ينفذ بصره إلى حقيقة ما أراده الله، ويفقه سنن الابتلاء وعواقبه؛ ويعرف هدى الله فيما يعرض له؛ فيتّبع رضوان الله، ويفوز بمحبّته ومعيّته الخاصة، حتى ينال ما وعده الله من الكفاية وحسن العاقبة، وذلك أنّ عالم الغيب يختلف عن عالَم الشهادة، وأكثر الناس إنما ينظرون إلى ظواهر عالم الشهادة ويتخرّصون في عالم الغيب؛ فيغترون بما يرون في الحياة الدنيا، ويضلون عما تحصل لهم به العاقبة الحسنة في أمورهم، وصاحب القرآن يتّبع هدى الله الذي هو عالِمُ الغيب والشهادة، ومن بيده ملكوت كلّ شيء، وإليه عاقبة الأمور؛ فهو الذي يقدّر الأقدار ، ويدبّر الأمر، ويتولّى الجزاء، فتصديق وعده جلّ وعلا واتّباع ما بيّن من الهدى في كتابه الكريم يفضي بصاحبه إلى العاقبة الحسنة.
ولتفاصيل ذلك أمثلة كثيرة تبيّن تفاوت الناس في انتفاعهم من القرآن، فأوفرهم حظا وأحسنهم نصيباً من يحسن تلاوة القرآن بقلب منيب؛ لأنّ الله تعالى قد وعد أهل الإنابة بالهداية؛ كما قال تعالى: {قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب} وقال تعالى: {الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب}.
ومن هدى الله قلبه، ونوّره بنور وحيه، وأحياه بروح أمره : آتاه فرقانا يميّز به بين الحقّ والباطل، ويثبت به في مواضع الفتن التي تزلّ فيها الأقدام، ويبصّره بالحقائق على ما هي عليه، وينظر إلى العواقب كأنه يراها رأي عين، لا يرتاب فيها، ولا يتردد في اتّباع هدى الله، وهذا علم يقيني خاصّ خالص لأهل الخشية والإنابة الذين ينتفعون بما أنزل الله تعالى في كتابه، ويعتبرون بما فيه من الآيات والعبر، ويعقلون أمثاله، ويصدّقون أخباره، ويؤمنون به ويعظّمونه؛ فلا يستوي هؤلاء الموفّقون المهديّون ومن كانوا في غفلة عن هدى القرآن متبعين لما تهواه أنفسهم، كما قال الله تعالى: { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14)}، وقال تعالى: { أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22)}.
والمقصود أن من أعظم ما يثاب به قارئ القرآن بقلب منيب ما يحصل له من العلم اليقيني الخاصّ المبارك القائم على بصائر القرآن وبيّناته، وهذا العلم الجليل أصلٌ لهدايات عظيمة، وبركات كثيرة.
ولو ذهبنا نشرح كل نوع من أنواع ثواب القرآن لطال بنا المقام، وتشعّب الحديث شُعَباً كثيرة؛ ورأينا في كل شعبة ما يدعونا للوقوف عليها، والتفكّر فيها، وتأمّل آثارها المباركة، وتعرّف خلاصة ما ذكره أهل العلم فيها من الفوائد والتنبيهات؛ ولطائف الاستدلالات؛ فيفضي بنا ذلك إلى التطويل والإكثار من حيث أردنا التلخيص والاختصار، وحسبنا فيما بقي أن نوجز العبارة بما يكفي للدلالة والتنبيه على ما نَقْصُر عن تَقَصِّيه.

4: ومن أنواع ثواب تلاوة القرآن؛ زيادة الإيمان بتلاوته وبالاستماع إليه؛ كما قال الله تعالى: {وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا}، وقال تعالى: {فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا} ، وأوجه زيادة الإيمان بتلاوة القرآن وبالاستماع إليه متعددة؛ فإنّ الإيمان يزيد بالطاعات؛ وتلاوة القرآن عبادة قولية يثاب عليها العبد ويزداد بها إيمانه، ودعاء العبد لربّه إذا مرّ بآية رحمة أو آية عذاب؛ عبادة قولية قلبية يثاب عليها.
وما يقوم بقلب قارئ القرآن من أنواع العبادات القلبية من التصديق وزيادة اليقين والخشية والإنابة والرغبة والرهبة والصدق والإخلاص والتوكل والاستعانة وتعظيم حرمات الله وشعائره وغير ذلك من العبادات القلبية العظيمة؛ كل ذلك مما يزداد به إيمان العبد إذا أحسن تلاوة القرآن؛ فإنَّ القرآن يخاطبُ القلبَ وينمِّي فيه هذه العبادات العظيمة ؛ التي إذا صحّت في القلب صلح القلب وصلح سائر الجسد.
ثمّ ما يقوم به قارئ القرآن من أنواع العبادات العملية التي أرشد الله إليها في كتابه الكريم كإقامة الصلاة وإحسان الإنفاق في سبيله، والاجتهاد في فعل الخيرات، والكفّ عن المحرمات، مما يزداد به العبد إيمانا وصلاحاً ؛ فإنّ القارئ الصادق إذا وقف على أمر لله تعالى حرص على أن يكون من أهل ذلك الأمر، وإذا وقف على نهي عن أمر من الأمور حرص على اجتنابه، ولا يزال كذلك حتى يحقق التقوى التي مبناها على فعل ما أمر الله به، واجتناب ما نهى الله عنه.
والخلاصة أن زيادة الإيمان بتلاوة القرآن تكون بقراءته وبما يترتّب عليها من أنواع العبادات القولية والقلبية والعملية، وأنّ زيادة الإيمان من عاجل ثواب قارئ القرآن.
5: ومن أنواع ثواب قراءة القرآن ما جعل الله تعالى لقارئه من الحسنات الكثيرة المضاعفة، وقد ورد في ذلك أحاديث كثيرة:
- منها حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول "الم" حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف». رواه الترمذي وصححه والبيهقيّ في شعب الإيمان وغيرهما، وقد رُوي عن ابن مسعود مرفوعاً وموقوفاً من طرق يشدّ بعضها بعضاً، وصححه الألباني وجماعة من أهل العلم.
- ومنها حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيحب أحدكم إذا رجع إلى أهله أن يجد فيه ثلاث خَلِفَات عظام سمان؟» قلنا: نعم، قال: «فثلاث آيات يقرأ بهن أحدكم في صلاته، خير له من ثلاث خلفات عظام سمان» رواه مسلم في صحيحه.
ورواه البخاري في جزء القراءة خلف الإمام، ولفظه: «هل يُحِبُّ أحدكم إذا أتى أهله أن يجد عندهم ثلاث خلفات عظاما سمانا» قلنا: نعم يا رسول الله؛ قال: «فثلاث آيات يقرأ بهن»
الخَلِفة: الناقة التي في بطنها ولدها.
- ومنها حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في الصفة، فقال: «أيكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بطحان، أو إلى العقيق، فيأتي منه بناقتين كوماوين في غير إثم، ولا قطع رحم؟»، فقلنا: يا رسول الله نحب ذلك، قال: «أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد فيَعْلَمُ أو يقرأُ آيتين من كتاب الله عز وجل، خير له من ناقتين، وثلاث خير له من ثلاث، وأربع خير له من أربع، ومن أعدادهن من الإبل» رواه مسلم، وأحمد وأبو داوود ، وفي روايتهما (فيتعلم آيتين من كتاب الله..).
- الكوماء: الناقة العظيمة السنام). [بيان فضل القرآن:91 - 99]

جمهرة علوم القرآن 22 محرم 1439هـ/12-10-2017م 01:03 PM

أوجه تفاضل ثواب التلاوة

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (أوجه تفاضل ثواب التلاوة
ومما ينبغي أن يعلم أن ثواب التلاوة يتفاضل من وجوه:

فمن ذلك: أن التلاوة بحضور قلب وتدبّر وخشوع أعظم أجراً من التلاوة التي يضعف فيها حضور القلب وعقل المعاني وتدبّر الآيات.
فإنّ العبد يثاب على ما يقوم في قلبه من العبادات القلبية عند تلاوته، وما يظهر من آثارها على جوارحه؛ كما قال الله تعالى: { وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85)}
فهؤلاء بلغوا مرتبة الإحسان في استماع تلاوة القرآن؛ وأثنى الله عليهم بما يدل على محبّة عملهم؛ من معرفة الحقّ وظهور أثره عليهم وقولهم ما أحبّه الله تعالى؛ حتى نوّه بذكرهم في كتابه الكريم، وأعلى شأنهم وأحسن جزاءهم وأغرى بالاتّساء بهم.
- ومن أوجه التفاضل أن الإقبال على تلاوة القرآن في حال الفتن والعوارض والصوارف أعظم أجراً لصاحبها مع سلامته من تلك الفتن المثبّطة.
- ومن أوجه التفاضل في ثواب التلاوة: أن سور القرآن تتفاضل؛ وآياته تتفاضل كذلك، فتلاوة السور والآيات الفاضلة أعظم أجراً من تلاوة غيرها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (حروف القرآن تتفاضل لتفاضل المعاني وغير ذلك؛ فحروف الفاتحة له بكل حرف منها حسنة أعظم من حسنات حروف من {تبت يدا أبي لهب}).
وهذا مبني على أصل تفاضل آيات القرآن وسوره؛ فإنّ تفاضل ثواب التلاوة من آثار تفاضل الآيات نفسها؛ فقراءة الآية الأعظم فضلاً ثوابها أعظم، لعظمة معانيها ودلائلها وما تقتضيه من عبادات تقوم في قلب التالي.

ومن أوجه التفاضل أيضاً: أنَّ التلاوة الحسنة التي يرتّل القارئ فيها ما يقرأ، ويحبّر قراءته ويزيّن صوته بها، أعظم أجراً من التلاوة التي لا تكون كذلك.
وقد اختلف العلماء في المفاضلة بين إكثار التلاوة مع الإسراع وبين ترتيلها وتحبيرها، ولكل أصحاب قول أدلّتهم.
وخلص ابن القيّم رحمه الله من بحث هذه المسألة إلى قوله: (والصواب في المسألة أن يقال: إن ثواب قراءة الترتيل والتدبر أجل وأرفع قدرا، وثواب كثرة القراءة أكثر عددا
- فالأول: كمن تصدق بجوهرة عظيمة، أو أعتق عبدا قيمته نفيسة جدا.
- والثاني: كمن تصدق بعدد كثير من الدراهم، أو أعتق عددا من العبيد قيمتهم رخيصة)ا.هـ.
وقد يحتاج القارئ إلى التنويع في قراءته؛ فيقرأ أحيانا بتحبير وتجويد، وأحيانا يحدر في قراءته لتحقيق مقاصد أخرى كالتيسير على النفس بالتنويع، ومراجعة الحفظ، والاستكثار من الختمات في الأوقات الفاضلة والأماكن الفاضلة.
وهذه المسألة من مباحث آداب تلاوة القرآن، وإنما المراد هنا التنبيه على أسباب التفاضل في ثواب التلاوة.
وهذه الحسنات العظيمة التي جعلها الله للمؤمن الذي يقرأ القرآن؛ داخلة في جملة الفضل الكبير الذي بشّر الله به المؤمنين في قوله تعالى: {وبشّر المؤمنين بأنّ لهم من الله فضلاً كبيراً}.
فإن الحسنات تذهب السيئات، وترتفع بها الدرجات، وتقود إلى حسنات أخرى؛ فلا يزال المؤمن يستكثر من الحسنات بتلاوته حتى يكون القرآن ربيع قلبه ونور صدره، وجلاء حزنه، وذهاب غمّه، فإنّ الغم والحزن من جملة عقوبات السيئات؛ فإذا كفّرت السيئات بالحسنات؛ ذهب أثرها، واستقبل القلب أثر الحسنات وبركاتها وهو في عافية من آثار السيئات). [بيان فضل القرآن:99 - 101]

جمهرة علوم القرآن 22 محرم 1439هـ/12-10-2017م 01:05 PM

ثواب تلاوة القرآن في الآخرة

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (ثواب تلاوة القرآن في الآخرة
وإذا انتقل صاحب القرآن من هذه الحياة الدنيا إلى الدار الآخرة تبيّن له من ثواب تلاوته للقرآن ما يحمد به عاقبة إقباله على تلاوته في الدنيا وتمسّكه به، واتّباعه لهداه؛ فإنّه يظلّه في الموقف، ويشفع له، ويحاجّ عنه، ويقوده إلى الجنة، ويجد بسببه من الكرامة والرفعة ما لا يخطر له على بال.

وقد رُوي في الثواب الأخروي لتلاوة القرآن أحاديث جليلة القدر عظيمة النفع:
- منها: حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه، اقرءوا الزهراوين البقرة، وسورة آل عمران، فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان، أو كأنهما غيايتان، أو كأنهما فرقان من طير صواف، تحاجان عن أصحابهما، اقرءوا سورة البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة».
قال معاوية بن سلام: بلغني أن البطلة: السحرة،. رواه مسلم في صحيحه.
- ومنها: حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( يؤتى يوم القيامة بالقرآن وأهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا تقدمه سورة البقرة وآل عمران تحاجان عن صاحبهما )). رواه مسلم.
- ومنها: حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( القرآن شافع مشفَّع ومَاحِلٌ مصدَّق، مَن جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلف ظهره ساقه إلى النار )). رواه ابن حبان في صحيحه، وصححه الألباني.
- ومنها: حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقال لصاحب القرآن اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها» رواه أحمد وأبو داوود والترمذي والنسائي في الكبرى، ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه ولفظه: (يقال لصاحب القرآن حين يدخل الجنة: اقرأ وارقه في الجنة، ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلك في الدرجات عند آخر ما تقرأ).
- ومنها: حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه قال: كنت جالسا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فسمعته، يقول: «تعلموا سورة البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا يستطيعها البطلة» ثم سكت ساعة، ثم قال: " تعلموا سورة البقرة وآل عمران، فإنهما الزهراوان، وإنهما تظلان صاحبهما يوم القيامة، كأنهما غمامتان، أو غيايتان، أو فرقان من طير صواف، وإن القرآن يأتي صاحبه يوم القيامة حين ينشق عنه قبره كالرجل الشاحب، فيقول له: هل تعرفني؟ فيقول: ما أعرفك، فيقول: أنا صاحبك القرآن الذي أظمأتك بالهواجر، وأسهرت ليلك، وإن كل تاجر من وراء تجارته، وإنك اليوم من وراء كل تجارة، فيعطى الملك بيمينه، والخلد بشماله، ويوضع على رأسه تاج الوقار، ويكسى والداه حلتين لا يقوم لهما أهل الدنيا، فيقولان: بم كسينا هذا؟ فيقال لهما: بأخذ ولدكما القرآن، ثم يقال: اقرأ واصعد في درج الجنة وغرفها، فهو في صعود ما دام يقرأ هذًّا كان أو ترتيلا)). رواه أحمد وابن أبي شيبة والدارمي ومحمد بن نصر والطبراني والبغوي كلهم من طريق: بشير بن المهاجر الغنوي، عن عبد الله بن بريدة عن أبيه.
وهذا الحديث حسّنه الألباني رحمه الله في الصحيحة). [بيان فضل القرآن:102 - 104]

جمهرة علوم القرآن 22 محرم 1439هـ/12-10-2017م 01:26 PM

الباب السادس: فضل أهل القرآن

المراد بأهل القرآن

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (المراد بأهل القرآن
مما يتصّل ببيان فضل القرآن بيان فضل أهله؛ فإنّ فضلهم من آثار فضله، وما ورد في فضلهم من نصوص الكتاب والسنّة مما يضاف إلى دلائل فضله؛ لما عُلم من أنّهم لم يكتسبوا هذا الفضل إلا بسببه؛ فبه أحبّهم الله، وبه نفعهم، وبه رفعهم وشرّفهم، واصطفاهم على من سواهم لصحبة كتابه؛ كما قال الله تعالى: {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا}.
ومن أشرف ما ورد في فضل أهل القرآن حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن لله عز وجل أهلين من الناس »
قالوا : ومن هم يا رسول الله ؟
قال : « أهل القرآن ؛ أهل الله وخاصته ». رواه أحمد والنسائي بإسناد صحيح.
فوصفهم بأهل القرآن لكثرة مصاحبتهم له كما يصاحب المرء أهله وينتمي إليهم ويواليهم.
وأضافهم إلى الله إضافة تشريف؛ تقتضي تخصيصهم بمزيّة شريفة ينفردون بها عن سائر حزب الله؛ فإنّ اسم الأهل أخصّ من الحزب.
والإضافة في قوله "أهل الله" كالإضافة في "أنصار الله" ، و"أولياء الله" ؛ هي إضافة مخلوق إلى خالقه؛ لكنّها تقتضي زيادة تشريف مع بيان وصف مخصوص تمتاز به تلك الإضافة.
فالإضافة في "أنصار الله" تقتضي تشريفهم بنصرتهم لله عزّ وجلّ وتولّيهم إيّاه إذ نصروا دينه وجاهدوا في سبيله بما أمكنهم من أنواع الجهاد.
والإضافة في "أولياء الله" تجمع مع معنى النصرة معنى المحبة الخالصة.
والإضافة في "أهل الله" تجمع مع ما تقدّم تشريفاً زائداً نالوه بكثرة مصاحبتهم لكتابه؛ وكثرة تلاوته وذكره جلّ وعلا بأحبّ الكلام إليه؛ وقد قال الله تعالى: {فاذكروني أذكركم}، وقال في الحديث القدسي: «أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني، إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ هم خير منهم » متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربّه جلّ وعلا.
وأهل القرآن هم خاصّة أصحابه، وأعرفهم بحدوده وحروفه، وأبصرهم بهداه وبيّناته؛ وهُم لكثرة تلاوتهم له وسماع الله تعالى لتلاواتهم، وذكرهم لله عزّ وجلّ وذكر الله لهم، وتبصّرهم بكلام الله وتبصير الله لهم، واتّباعهم لهدى الله وهداية الله لهم، ورضاهم عن الله ورضوان الله عليه؛ سمّاهم أهله تشريفاً لهم؛ إذ كانوا معه بالاستجابة والتعبّد والتقرّب، وهو معهم بالإجابة والإثابة والقرب، {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)}
وهم في هذه الحياة الدنيا مع هذا القرآن بقلوبهم وجوارحهم وتطلّعاتهم وأمانيهم، يتلونه حقّ تلاوته، ويتبّعونه حقّ اتّباعه، قد انحازوا للقرآن انحياز المرء إلى أهله، وألفوه كما يألف المرء أهله، وأحبّوه كما يحبّ المرء أهله، فكانوا أهل القرآن بحق.
وشرّفهم الله بأن عوّضهم عمّا تركوه لأجله بأشرف العوَض وأحسنه، وأثابهم على صدقهم في تلاوته واتّباعه أجزل الثواب وأجمله؛ بأن سمّاهم أهله، وفي تلك التسمية الشريفة - مع إبهام عين الجزاء إبهامَ تعظيم وتفخيم - ما يملأ قلوبهم طمأنينة وثقة بعظيم فضله جلّ وعلا، فتذهب آمالهم كلَّ مذهب في كَرَمه جلّ وعلا، ثمّ يعلمون أنّ ما لديه أعظم من أن تبلغه أمنياتهم أو أن يخطر على قلوبهم). [بيان فضل القرآن:105 - 107]

جمهرة علوم القرآن 22 محرم 1439هـ/12-10-2017م 01:32 PM

المراد بصاحب القرآن

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (المراد بصاحب القرآن
ومما ينبغي أن يُعلم أن صاحب القرآن هو المؤمن به المتبع لما تضمنه من الهدى الذي يتعاهد تلاوته بالليل والنهار حفظاً أو نظراً من المصحف، حتى يكون له به اختصاص وصف الصحبة.
وهذه الصفات يتفاضل المسلمون فيها تفاضلاً كبيراً، فأكثرهم إيماناً واتباعاً وتلاوة أكثرهم صحبة للقرآن وأعظمهم حظاً بالفضائل المترتبة على ذلك.
ولا يشترط في صاحب القرآن أن يكون حافظاً لجميع ألفاظه عن ظهر قلب، بل يَصْدُق هذا الوصف على من يقرأُه نظراً بالشروط المذكورة آنفاً، والتي دلت عليها النصوص، ودلت على أن من اتصف بأضدادها لم يكن من أهل القرآن.
فالذي لا يؤمن بالقرآن ليس من أصحابه، والذي يهجره هجر عمل أو هجر تلاوة ليس من أصحابه أيضاً.
ومما يدل على عدم اشتراط حفظ القرآن عن ظهر قلب قول النبي صلى الله عليه وسلم : (اقرؤوا القرآن فإنه يأتي شفيعا لأصحابه يوم القيامة) رواه مسلم.
فجعلهم بالقراءة المعتبرة شرعاً أصحاباً للقرآن، والقراءة قد تكون من المحفوظ، وقد تكون من المكتوب، فبقراءة القرآن قراءة صحيحة تحصل الصحبة، فمستقل ومستكثر.
والمراد بالقراءة الصحيحة هنا هي القراءة الصحيحة في حكم الشرع، وليس المراد صحّة الأداء عند أهل الاصطلاح، فالقراءة الصحيحة المعتبرة شرعاً هي ما توفر فيها شرطا الإخلاص والمتابعة على قدر الاستطاعة؛ فيدخل في ذلك من يقرأُه ويتتعتع فيه وهو عليه شاقّ؛ ويدخل فيه من يقرؤه ويخطئ في قراءته عن غير عمد، فإنّه ينال حظه من صحبة القرآن بصدقه وصلاح نيّتِه، وتعاهدِه تلاوةَ القرآن مع الإيمان به واتّباع ما يعرفه من هداه، وليس شيء أضرّ على المسلم من مخالفته لما يعرف من هدى القرآن.
وهذا يدلّك على أنّ أصحاب القرآن يتفاضلون في وصف صحبته تفاضلاً كبيراً، وأنّ الأصل الذي يُبنى عليه وصف الصحبة هو الإيمان بالقرآن.

ولفظ الصحبة يطلق في اللغة على معانٍ كثيرة ترجع إلى معنيين كبيرين:
أحدهما: صحبة الملازمة والاختصاص.
والآخر: صحبة الموالاة والمناصرة.
فأمّا صحبة الملازمة والاختصاص؛ فكما في قوله تعالى: {والصاحب بالجنب}، وقوله: {وما صاحبكم بمجنون}، وقوله: {يا صاحبي السجن..}، وقوله: {إذ يقول لصاحبه لا تحزن}، ومن هذا المعنى: {أصحاب الجنّة}، و{أصحاب النار} لملازمتهم إياها واختصاصهم بها.
والاختصاص قد يكون اختصاص مُلك كما في قوله تعالى: {إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنّة}، وتقول: أنا صاحب هذه الدار، أي: مالكها.
وقد يكون اختصاصاً من غير إرادة معنى الملك؛ كأصحاب السبت؛ لاختصاصهم بفتنة يوم السبت وما كان بسببه من العذاب، وكقوله: {ولا تكن كصاحب الحوت}، وقوله: {ألم تر كيف فعل ربّك بأصحاب الفيل}.
وأمّا صحبة الموالاة والمناصرة؛ فمن شواهدها قول الله تعالى: {لا يستطيعون نصر أنفسهم ولا هم منّا يُصحبون} أي ليس لهم صاحب يناصرهم ويمنعهم منّا، ومن هذا المعنى قولهم: هذا من أصحابنا، وهذا من خصومنا.
وقال لبيد بن ربيعة:
فحمَى مقاتلَه وذادَ برَوقِه ... حَمْيَ المحاربِ عورةَ الصُّحْبَان

والمقصود أن لفظ الصحبة يطلق على المعنيين كليهما إطلاقاً صحيحاً؛ وقد يجتمعان؛ فصاحبك الذي يلازمك، وصاحبك الذي ينصرك ويؤيدك، والثاني خير من الأوّل، ومن جمعهما فهو بخير المنازل، ومن قصّر في صحبة الموالاة لم تجعله كثرة الملازمة أفضل حالاً ممن أحسن الموالاة؛ فإنّ الصحبة لها واجبها، ومن واجبها النصرة والموالاة والنصيحة للمصحوب.
وبهذا النوع من الصحبة امتاز الصحابة رضي الله عنهم على من سواهم، مع أنّ الذين جمعوا القرآن من الصحابة رضي الله عنهم قليل في جنب من لم يجمعه، ومنهم من مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يجمعه، ثم جمعه بعد موته وكان في حياة النبي صلى الله عليه وسلم من أهل القرآن الذين يعلّمونه ويُقرِئُونه.
فامتياز الصحابة على من سواهم باتّباعهم للقرآن، وحسن تلاوته، ومعرفتهم بتأويله، وجهادهم به ونصرتهم له أكثر من امتيازهم بحفظه عن ظهر قلب؛ والقرّاء الذين جمعوا القرآن حفظاً من التّابعين ومن بعدهم كانوا أكثر عدداً، والصحابة كانوا أحسن عملاً وأحسن مصاحبةً للقرآن، وتلاوة له، وقياماً به، ورعاية لحقّه، وكان تعلّمهم للقرآن أحسن التعلّم الدالّ على حسن الصحبة للقرآن.
- قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (كان الرجل منَّا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن، والعمل بهن). رواه ابن أبي شيبة وابن جرير.
- وقال جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه: « كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن فتيان حزاورة، فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن، ثم تعلمنا القرآن فازددنا به إيمانا» رواه البخاري في التاريخ الكبير وابن ماجه في سننه.
- وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنه: «لقد عشنا برهة من دهرنا وإن أحدنا يؤتى الإيمان قبل القرآن، وتنزل السورة على محمد صلى الله عليه وسلم فيتعلم حلالها وحرامها، وما ينبغي أن يوقف عنده فيها كما تعلمون أنتم القرآن، ثم لقد رأيت رجالا يؤتى أحدهم القرآن؛ فيقرأ ما بين فاتحته إلى خاتمته ما يدري ما آمره ولا زاجره، ولا ما ينبغي أن يوقف عنده منه، ينثره نثر الدقل». رواه الطحاوي والحاكم والبيهقي.
ومن عرف مقاصد القرآن أدرك أن مَن استوعب ألفاظ القرآن حفظاً عن ظهر قلب مع تفريطه في كثير من فقهه وآدابه ليس بأولى بوصف الصحبة ممن تعلّم القرآن على طريقة الصحابة رضي الله عنهم وإن لم يبلغ استيعابَ حفظه.
ولا شكّ أن من حفظ القرآن عن ظهر قلب مع حسن اتّباعه لهدى القرآن خير ممن لم يحفظه، لكن من الخطأ البيّن تقديم معيار حفظ ألفاظه على معيار اتّباع هداه في وصف الصحبة.

وقد ذهب بعض المتأخرين من شرّاح الأحاديث إلى أنّ المراد بصاحب القرآن هو من يحفظه عن ظهر قلب، ومنهم من استدلّ بحديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقال لصاحب القرآن اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها» رواه أحمد وأبو داوود والترمذي وغيرهم.

وفي هذا الاشتراط غفلة عن مقصد الحديث ولازمه؛ فإنّ قوله "فإنّ منزلتك عند آخر آية تقرؤها" صريح في تفاضلهم في حفظ القرآن، ولا يكاد يخلو ملازمُ تلاوةِ القرآن مع العمل به من حفظ شيء من آيات القرآن؛ فلو كان حِفْظ القرآن كاملاً من شرط صحبته لكانوا سواء في الدرجة.
ويشهد لهذا التفسير قول الضحّاك بن قيس رضي الله عنه: (يا أيها الناس، علموا أولادكم وأهاليكم القرآن، فإنه من كُتب له من مسلم يدخله الله الجنة أتاه ملكان، فاكتنفاه، فقالا له: اقرأ وارتق في درج الجنة، حتى ينزلا به حيث انتهى علمه من القرآن). رواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح.
ومقصد الحديث ظاهر في الحثّ على أخذ القرآن بقوّة والاجتهاد في التقرّب إلى الله به، لا مجرّد حفظ ألفاظه.
والقول في أصحاب القرآن نظير القول في أصحاب الصلاة، وأصحاب الصيام، وأصحاب الصدقة، وأصحاب الجهاد؛ فإنّ من الناس من تغلب عليه العناية بأنواع من الأعمال الصالحة حتى يكون له اختصاص بها لطول ملازمتها وإحسانها؛ فكذلك صاحب القرآن.
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من أنفق زوجين في سبيل الله نودي في الجنة: يا عبد الله، هذا خير؛ فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان).
قال أبو بكر الصديق: يا رسول الله! ما على أحد يدعى من تلك الأبواب من ضرورة؛ فهل يُدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم، وأرجو أن تكون منهم»). [بيان فضل القران:107 - 112]


جمهرة علوم القرآن 22 محرم 1439هـ/12-10-2017م 01:34 PM

قوادح صحبة القرآن

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (قوادح صحبة القرآن
مما ينبغي أن يعلم ويُحترز منه قوادح صحبة القرآن؛ وهي على أربع درجات:
الدرجة الأولى: ما يقدح في صحّة الإيمان بالقرآن، وذلك بارتكاب ناقض من نواقض الإيمان بالقرآن؛ فمن فعل ذلك فقد خان الله عزّ وجلّ، وخان صُحبة كتابه، ووقع في الشرك الأكبر المخرج عن الملة، والعياذ بالله.
ومن تلك النواقض: التكذيب بالقرآن، والاستهزاء ببعض آياته، والاستخفاف بالمصحف وإهانته، والمراءاة الكبرى بقراءته، وهي أن تكون قراءته من غير إيمان به وإنما ليقال: هو قارئ، أو ليصيب به عرضاً من الدنيا.
والدرجة الثانية: المراءاة الصغرى بقراءته، وهي المراءاة بتحسين التلاوة وإكثارها أحياناً، لما يرى من نظر بعض الناس إليه، أو لأجل أن يُثنى عليه بذلك، أو ليصيب عرضاً من الدنيا، مع بقاء أصل الإيمان بالله في قلبه، واجتنابه نواقض الإسلام؛ وهذا شركٌ أصغر؛ وهو من أعمال النفاق، وهو من أشنع القوادح التي يجب على صاحب القرآن تجنّبها والاحتراز منها؛ فإنّ الوعيد عليها شديد.
والدرجة الثالثة: هجر العمل به أحياناً؛ فأمّا الهجر التامّ فيلحق صاحبه بالدرجة الأولى، لأنه إعراض مطلق مخرج عن الملّة، وأما هجر العمل ببعض واجباته بما لا يخرج صاحبه من الملّة؛ فهو مما يقع من بعض المسلمين؛ فيقع منهم ارتكاب لبعض الكبائر التي يستحقون عليها العذاب إن لم يتوبوا إلى الله؛ ويقع منهم مخالفة لهدى القرآن في بعض الأمور؛ فيستحقون العقاب على مخالفتهم؛ وقد حذّر الله تعالى عباده من المخالفة؛ فقال: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم}.
والدرجة الرابعة: هجر تلاوته مع بقاء العمل به؛ باجتناب الكبائر، وأداء الفرائض؛ وهذا قد يقع من بعض المسلمين؛ فتمضي عليه أيام لا يقرأ من القرآن إلا ما تصحّ به صلاته، وهذا الهجر مما يتخلّف به صاحبه عن الرتب العليا ودرجات الكمال التي فيها شرفه ورفعته.
وفي الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة ريحها طيب وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة لا ريح لها وطعمها طيب حلو، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة ليس لها ريح وطعمها مر))). [بيان فضل القرآن:113 - 114]

جمهرة علوم القرآن 22 محرم 1439هـ/12-10-2017م 01:36 PM

تقديم أهل القرآن

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (تقديم أهل القرآن
من فضائل أهل القرآن، وتشريف الله تعالى لهم؛ أن رفعهم به، وحكم بتقديمهم، وجعل لهم حُرمة تُرعى، وإجلالاً يُتقرّب به إليه تعالى، وقد دلّ على هذا جُملة من الأحاديث:
منها: حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً، ويضع به آخرين». رواه مسلم.
ومنها: حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء، فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء، فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء، فأقدمهم سِلْما » رواه مسلم، وفي رواية عنده: « فأقدمهم سِنّا ».
ومنها: حديث عمرو بن سلمة الجرمي قال: (كان يمر علينا الركبان فنتعلم منهم القرآن، فأتى أبي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «ليؤمكم أكثركم قرآنا»، فجاء أبي فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «يؤمكم أكثركم قرآنا»، فنظروا؛ فكنت أكثرهم قرآنا؛ فكنت أؤمّهم، وأنا ابن ثمان سنين). رواه النسائي في الكبرى.
ومنها: حديث هشام بن عامر الأنصاري رضي الله عنه قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، فقلنا: يا رسول الله! الحفر علينا لكل إنسان شديد؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «احفروا وأعمقوا وأحسنوا، وادفنوا الاثنين والثلاثة في قبر واحد» قالوا: فمن نقدّم يا رسول الله؟ قال: «قدموا أكثرهم قرآنا» قال: فكان أبي ثالث ثلاثة في قبر واحد). رواه أحمد وأبو داوود والنسائي واللفظ له، وفي رواية عنده: (فكان أبي ثالث ثلاثة، وكان أكثرهم قرآنا فقدّم).
ومنها: حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد، ثم يقول: «أيهم أكثر أخذا للقرآن»، فإذا أشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد، وقال: «أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة» رواه البخاري في صحيحه.
ومنها: حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط» رواه ابن المبارك وأبو داوود والبيهقي مرفوعاً، ورواه البخاري في الأدب المفرد وابن أبي شيبة وابن المبارك في رواية موقوفاً على أبي موسى، وله شواهد من أقوال الصحابة رضي الله عنهم مما يدلّ على أنّ له أصلاً، وقد حسّنه الألباني.
ومنها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « لا حسد إلا في اثنتين: رجل علمه الله القرآن؛ فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار؛ فسمعه جار له، فقال: ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان، فعملت مثل ما يعمل، ورجل آتاه الله مالا فهو يهلكه في الحق؛ فقال رجل: ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان، فعملت مثل ما يعمل » رواه البخاري.
ومنها: حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل، وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالا، فهو ينفقه آناء الليل، وآناء النهار ». رواه مسلم.
ومنها: حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويَتَتَعْتَعُ فيه، وهو عليه شاقّ، له أجران». رواه مسلم). [بيان فضل القرآن:114 - 116]

جمهرة علوم القرآن 22 محرم 1439هـ/12-10-2017م 01:38 PM

فضل تعلّم القرآن وتعليمه

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (فضل تعلّم القرآن وتعليمه
إن السبيل إلى إدراك فضيلة أهل القرآن هو تعلّمه على منهاج الصحابة رضي الله عنهم؛ الذين أمرنا بإحسان اتّباعهم كما قال الله تعالى: { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)}.
فيتعلّمه كما تعلّموه؛ فيتحفّظ ألفاظه، ويتعرّف معانيه، ويهتدي بهداياته، ويأخذه شيئاً فشيئاً على قصد من غير غلوّ ولا جفاء.
وبسلوك المؤمن هذا السبيل صدقاً وإخلاصاً يكون من زمرة خير هذه الأمّة وأفضلها؛ بلغ غايته أو مات دونها.
- وفي صحيح البخاري من حديث سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن السلمي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « خيركم من تعلم القرآن وعلمه ».
وفي رواية في صحيح البخاري: «إن أفضلكم من تعلم القرآن وعلمه»
قال سعد بن عبيدة: وأقرأ أبو عبد الرحمن في إمرة عثمان حتى كان الحجاج قال: « وذاك الذي أقعدني مقعدي هذا ».
قال ابن كثير: (كان أبو عبد الرحمن السلمي الكوفي أحد أئمة الإسلام ومشايخهم من رغب في هذا المقام، فقعد يعلم الناس من إمارة عثمان إلى أيام الحجاج قالوا: وكان مقدار ذلك الذي مكث فيه يعلم القرآن سبعين سنة، رحمه الله، وآتاه الله ما طلبه).
وقد رفع الله قدره، وأعلى شأنه، وأبقى ذكره؛ فعامّة مصاحف المسلمين اليوم وقراءاتهم إنما هي من طريقه؛ حتى دوّن اسمه في كثير من المصاحف عند توثيق روايته.
وأبو عبد الرحمن السلمي هو عبد الله بن حبيب بن ربيعة ، وهو القائل: « حدثنا من كان يقرئنا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يقترئون من رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر آياتٍ فلا يأخذون في العشر الأخرى حتى يعلموا ما في هذه من العلم والعمل قالوا فعلمنا العلم والعمل ». رواه الإمام أحمد.
وتعلّم القرآن يشمل تعلّم ألفاظه ومعانيه وهداياته.
- وعن أبي مالك الأشجعي عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((من علَّم آية من كتاب الله عز وجل كان له ثوابها ما تليت)). رواه أبو سهل القطّان، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة.
- وعن عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما ونحن في الصفة، فقال: «أيكم يحب أن يغدو إلى بطحان أو العقيق، فيأتي كل يوم بناقتين كوماوين زهراوين، فيأخذهما في غير إثم، ولا قطع رحم؟» قال: قلنا: كلنا يا رسول الله يحب ذلك.
قال: «فلأن يغدو أحدكم إلى المسجد، فيتعلم آيتين من كتاب الله خير له من ناقتين، وثلاث خير من ثلاث، وأربع خير من أربع، ومن أعدادهن من الإبل» رواه أحمد وأبو داوود.
- وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «إن هذا القرآن مأدبة الله، فمن استطاع أن يتعلم منه شيئا فليفعل، فإن أصفر البيوت من الخير البيت الذي ليس فيه من كتاب الله تعالى شيء، وإن البيت الذي ليس فيه من كتاب الله شيء خرب كخراب البيت الذي لا عامر له، وإن الشيطان يخرج من البيت يسمع سورة البقرة تقرأ فيه» رواه عبد الرزاق والدارمي والطبراني في المعجم الكبير من طرق عن أبي إسحاق إبراهيم الهجري عن أبي الأحوص عن ابن مسعود، واللفظ لعبد الرزاق.
وأخرجه أيضاً عبد الرزاق وأبو عبيد وابن أبي شيبة والدارمي والحاكم والبيهقي في شعب الإيمان وغيرهم بلفظ: «إن هذا القرآن مأدبة الله، فتعلموا من مأدبة الله ما استطعتم، إن هذا القرآن حبل الله، وهو النور المبين، والشافع النافع، عصمة لمن يتمسك به، ونجاة لمن تبعه، لا يعوج فيقوم، ولا يزيغ فيستعتب، ولا تنقضي عجائبه، ولا يخلق عن كثرة الرد، اتلوه فإن الله يأجركم على تلاوته بكل حرف منه عشر حسنات، أما إني لا أقول ألف ولام، ولكن ألف عشرا، ولام عشرا».
وإبراهيم الهجري فيه لين ؛ لكن لهذا الأثر طرق يشدّ بعضها بعضاً، فيصحّ به.
وقوله : (مأدبة الله ) اختلف في ضبطه ومعناه على قولين:
أحدهما: (مأدَبة): مَفْعَلة من الأدَب، أي أنّه يؤدّب من يقرأُه ويفقهه ؛ فيحمله على محاسن الأقوال والأعمال، وما تحسن به حاله وعاقبته، ويعظه عن المساوئ فيجتنبها، ولكثرة ما يؤدّب القرآنُ قرَّاءه سمّاه (مأدَبة) على المبالغة، أي كثير الأدب حسن التعليم، وإضافته إلى الله تعالى إضافة لها آثارها وبركاتها.
والقول الآخر: (مأدُبة) بضمّ الدال، وهي في الأصل: الصَّنيعة من الطعام يدعى لها الناس، فسمّى القرآن مأدُبة لما فيه من الخير الكثير الذي ينتفع به الناس، وهو أصل غذاء الأرواح، وفيه شفاء لما في الصدور، وزكاة للنفوس، وطمأنينة للقلوب، فلا يحرم خير هذا القرآن إلا مريض القلب جداً أو ميّته.
وفي شعب الإيمان للبيهقي من حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
« كل مؤدب يحب أن تؤتى مأدبته، ومَأدبة الله القرآن فلا تهجروه » ، وفي إسناده ضعف.
والقولان صحيحان في نفسيهما، لكن سياق الحديث يرجّح المعنى الأوّل فإنه قال: « إن هذا القرآن مأدبة الله، فتعلموا من مأدبة الله ما استطعتم » ، وهذا ظاهر في أنّه أراد معنى الأدَب والتعليم.
وذهب الخليل بن أحمد إلى أنّ المأدَبة والمأدُبة لغتان صحيحتان في صنيعة الطعام التي يُدعى إليها وحكاه أبو عبيد عن خلف الأحمر.
وأرجع أبو منصور الأزهري المعنيين إلى معنى واحد؛ فقال: (الأدَبُ الذي يتأدَّب به الأديبُ من الناس، سُمّيَ أَدَبا لأنه يَأْدِبُ الناسَ الذين يتعلَّمونه إلى المحامد وينهاهم عن المقابح، يأدِبهم أي يدعوهم، وأصل الأدب الدعاء، وقيل للصنيع يدعى إليه الناس: مدعاة ومأدبة)). [بيان فضل القرآن:117 - 120]

جمهرة علوم القرآن 22 محرم 1439هـ/12-10-2017م 01:43 PM

فضل حفظ القرآن

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (فضل حفظ القرآن
عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مثل الذي يقرأ القرآن، وهو حافظ له مع السفرة الكرام البررة، ومثل الذي يقرأ، وهو يتعاهده، وهو عليه شديد فله أجران». رواه البخاري في صحيحه.
والمراد بحفظ القرآن في النصوص يشمل معنيين لا يتمّ الحفظ إلا بهما:
المعنى الأول: حفظ حدوده وأمانته ورعايتها.
المعنى الثاني: حفظ ألفاظه واستظهارها عن ظهر قلب.
والمعنى الأوّل أجلّ من الثاني، بل هو شرط الانتفاع به.
وقد قال الله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)}
فقال: {استحفظوا} أي أمروا بحفظه، ولم يقل: بما حَفِظوا، فإنهم لم يحفظوه حقّاً، وإن كان عندهم مكتوباً، وكان أكبر إثمهم في عدم حفظ حدوده وأداء أمانته، وتغييرهم فيه.
وكانت الآية قد نزلت في كتم اليهود لآية الرجم وهي مكتوبة عندهم في التوراة يعرفونها، ومنهم من يحفظ ألفاظها ويعرف موضعها، لكنّهم لم يحفظوا أمانة الله فيها، ولم يرعوا حدوده بالحكم بها.
ففي صحيح مسلم من حديث البراء بن عازب، قال: مُرَّ على النبي صلى الله عليه وسلم بيهودي محمَّما مجلودا، فدعاهم صلى الله عليه وسلم، فقال: «هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟»، قالوا: نعم، فدعا رجلا من علمائهم، فقال: «أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى، أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم» قال: لا، ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك، نجده الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا، فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، قلنا: تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع، فجعلنا التحميم، والجلد مكان الرجم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه» فأمر به فرُجِمَ، فأنزل الله عز وجل: {يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر} إلى قوله {إن أوتيتم هذا فخذوه}، يقول: ائتوا محمدا صلى الله عليه وسلم، فإن أمركم بالتحميم والجلد فخذوه، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا، فأنزل الله تعالى {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون}).
قال ابن عاشور: (الاستحفاظ: الاستئمان، واستحفاظ الكتاب أمانة فهمه حق الفهم بما دلت عليه آياته. استعير الاستحفاظ الذي هو طلب الحفظ لمعنى الأمر بإجادة الفهم والتبليغ للأمة على ما هو عليه.. ويدخل في الاستحفاظ بالكتاب الأمر بحفظ ألفاظه من التغيير والكتمان)ا.هـ.
ومما يبيّن إرادة هذا المعنى قول الله تعالى: { مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا}
فهم حُمّلوا أمانة حفظ التوراة حفظَ رعاية وصيانة وعمل بما فيها وحُكم بها بينهم؛ فلم يحفظوا أمانة الله فيها.
وإذا أطلق لفظ الحفظ في النصوص فإنّ أولى ما يُحمل عليه حفظ الأمانة والصيانة وأداء الحق وعدم تضييعه، قال الله تعالى: {واحفظوا أيمانكم}، {والحافظين فروجهم والحافظات}.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس: {احفظ الله يحفظك}، وقال لوفد عبد القيس لمّا أوصاهم بوصايا: «احفظوهن وأخبروا بهن من وراءكم» ، وقال: «لله تسعة وتسعون اسما من حفظها دخل الجنة » كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة بهذا اللفظ، ومن المعلوم أنه ليس المراد مجرد حفظ ألفاظها دون الإيمان بها والتعبّد لله تعالى بمقتضاها.
وكتب عُمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أمراء الأمصار في عهده: « إن أهم أمركم عندي الصلاة. فمن حفظها وحافظ عليها، حفظ دينه. ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع ». رواه مالك في الموطّأ.
فذكر الحفظ وذكر مقابله وهو الإضاعة.

وقال عنترة بن شداد العبسي:
ولقد حفظتُ وَصَاة عمّي بالضحّى .. إذ تقلص الشفتان عن وضح الفمِ
فحفظ الوصاة لمّا ضبط نصّها وعهدها، ولو أنه خالف مقتضى الوصيّة لم يكن حافظاً لها، ولو عرفها.

وهذا يدلّك على أنّ المراد الأعظم من حفظ القرآن حفظ أمانته وحدوده وأداء حقّه، وأنّ حفظ ألفاظه من تمام حفظه، لكن لا يعدّ في الشريعة حافظاً للقرآن من ضيّع حدوده ولو استظهر ألفاظه عن ظهر قلب.

وبذلك تعرف أن معنى الحفظ ينتقض بأحد أمرين:
1. بتضييع النصّ وعدم ضبطه.
2. وبتضييع أمانته وعهده.
وكان من السلف من يعبّر عن معنيي الحفظ بالوعي، وهو في معنى العقل والتبصّر والتذكّر والاهتداء بالقرآن، ومن ذلك قول أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه: «اقرءوا القرآن ولا تغرَّنكم هذه المصاحف المعلقة، فإن الله لن يعذب قلباً وعى القرآن» رواه الدارمي من طريق حريز بن عثمان عن شرحبيل بن مسلم عنه، وهذا إسناد صحيح.
وقال أبو وائل شقيق بن سلمة: جاء رجل يقال له نهيك بن سنان إلى عبد الله [وهو ابن مسعود]، فقال: يا أبا عبد الرحمن كيف تقرأ هذا الحرف؟ ألفا تجده أم ياء {من ماء غير آسن}، أو (من ماء غير ياسن)؟
قال: فقال عبد الله:
« وكل القرآن قد أحصيت غير هذا؟ »
قال: إني لأقرأ المفصل في ركعة.
فقال عبد الله: « هذّا كهذّ الشعر، إنَّ أقواما يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع » رواه مسلم.

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في شأن ذي الخويصرة: « إن من ضئضئ هذا قوما يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية، يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، لئن أنا أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد ». رواه البخاري ومسلم.
فهؤلاء لمّا خالفوا هدى القرآن وضلّوا عن اتّباع ما أمرهم الله به فيه من سنّة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن اتّباع المهاجرين والأنصار بإحسان؛ لم يكونوا حافظين للقرآن؛ بل ضيّعوا أمانته، وخالفوه أشدّ المخالفة؛ فقاتلوا من أُمروا باتّباعهم بإحسان، وابتغوا تفريق جماعتهم، وكسر شوكتهم، والتغلّب عليهم، ولكنّ الله ردّ كيدهم في نحورهم، وأخزاهم، ولو أنّهم حفظوا القرآن لرعوا حدوده وأدّوا حقّ الله تعالى فيه.


وقد شاع في القرون المتأخّرة استعمال حفظ القرآن مقصوراً على المعنى الثاني، ولم يكن هذا الاستعمال شائعاً في القرون الأولى، وإنما كان الشائع التعبير عنه بـ"جمع القرآن" و"استظهاره"، ونحو ذلك مما يدلّ على استيعاب حفظ ألفاظه عن ظهر قلب.
ولشيوع هذا الاستعمال المتأخّر غلب على كثير من الأذهان، وعلّق عليه بعضهم كثيراً من أحاديث فضائل القرآن، وهي متعلّقة بنوعي الحفظ جميعاً). [بيان فضل القرآن:120 - 125]

جمهرة علوم القرآن 22 محرم 1439هـ/12-10-2017م 01:45 PM

تفاضل الحفّاظ في حفظ القرآن

قال عبد العزيز بن داخل المطيري:
(تفاضل الحفّاظ في حفظ القرآن
وحفظ القرآن يجري فيه التفاضل الكبير بين الحفظة لتفاضلهم في معنيي حفظ حروفه وحدوده.

- فأمّا حفظ حدوده فهو على درجات:
الدرجة الأولى: حفظ حدود الإيمان به؛ فلا يرتكب ما ينقض الإيمان بالقرآن؛ والمخالف في هذه الدرجة كافر خارج عن الملة؛ بارتكابه ما ينقض إسلامه؛ فإن كان ممن يُظهر الإسلام فهو منافق نفاقاً أكبر والعياذ بالله.
ومن أدّى هذه الدرجة فقد حفظ دينه في أعظم درجاته وهو ما يبقى به على أصل دين الإسلام، وله نصيب من فضل الحفظ بما حفظ من هذه الحدود العظيمة، وإن كان متوعّداً بالعذاب على ما ارتكب من الذنوب والمعاصي.
والدرجة الثانية: حفظ حدوده الواجبة؛ وهي درجة عباد الله المتّقين؛ فيحفظون حدود أوامره ونواهيه، فيؤدّون الواجبات وينتهون عن المحرّمات، وبذلك تحصل لهم الاستقامة الواجبة التي يسلمون بها العذاب، وينالون بها ما وعد الله به عباده المتّقين من الثواب العظيم والفضل الكبير.
والدرجة الثالثة: درجة إحسان حفظ حدوده ورعاية أمانته، والقيام به آناء الليل وآناء النهار، إيماناً واحتساباً، وهذه درجة أهل الإحسان الذين هم بأعلى المنازل.

- وأما تفاضلهم في حفظ ألفاظه؛ فظاهر في تفاضلهم في جودة الحفظ ومقداره والمهارة فيه، وتفاضل ثوابهم ومنازلهم بسبب ذلك، وقد تقدّم حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مثل الذي يقرأ القرآن، وهو حافظ له مع السفرة الكرام البررة، ومثل الذي يقرأ، وهو يتعاهده، وهو عليه شديد فله أجران». رواه البخاري في صحيحه.
- وحديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يقال لصاحب القرآن اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها » رواه أحمد وأبو داوود وغيرهما.
- وحديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه مرفوعاً، وفيه: « ثم يقال: اقرأ واصعد في درج الجنة وغرفها، فهو في صعود ما دام يقرأ هذًّا كان أو ترتيلا ». رواه أحمد وابن أبي شيبة والدارمي وغيرهم). [بيان فضل القرآن:125 - 126]

جمهرة علوم القرآن 22 محرم 1439هـ/12-10-2017م 01:47 PM

كيف يحفظ القرآن؟

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (كيف يحفظ القرآن؟

وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما يُمسك المرء به حفظه للقرآن ويجوّده، وهو تعاهده بالتلاوة والقيام، وقد ورد في ذلك أحاديث صحيحة منها:

- حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنما مثل صاحب القرآن، كمثل صاحب الإبل المعقلة، إن عاهد عليها أمسكها، وإن أطلقها ذهبت» متفق عليه من حديث مالك عن نافع عن ابن عمر، وفي رواية لمسلم من طريق موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر مرفوعاً: « وإذا قام صاحب القرآن؛ فقرأه بالليل والنهار ذكره، وإذا لم يقم به نسيه».
- وحديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « تعاهدوا القرآن فوالذي نفسي بيده لهو أشد تفصّيا من الإبل في عقلها » متفق عليه، وفي رواية مسلم "تفلّتاً".
- وحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « بئسما لأحدهم يقول: نسيت آية كيت وكيت، بل هو نُسِّي، استذكروا القرآن فلهو أشد تفصيا من صدور الرجال من النَّعَم بعقلها » متفق عليه.
- وقال عبد الله بن مسعود: (تعاهدوا هذه المصاحف - وربما قال: القرآن - فلهو أشدّ تفصيا من صدور الرجال من النعم من عقله). رواه مسلم.
وتعاهد القرآن يشمل:
1. تعاهد ألفاظه بالحفظ والضبط.
2. وتعاهد معانيه بالعلم والفهم.
3. وتعاهد هداه بالاتّباع والرعاية.
فمن جمع هذه الأمور الثلاثة فقد أحسن تعاهد القرآن). [بيان فضل القرآن:127 - 128]

جمهرة علوم القرآن 22 محرم 1439هـ/12-10-2017م 01:51 PM

الباب السابع: تفاضل الآيات والسور
تفاضل الآيات والسور

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (تفاضل الآيات والسور
قال الله تعالى: {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها}.
وقال تعالى: {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هنّ أم الكتاب وأخر متشابهات}.
وقال تعالى : {ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم}.
- وعن أبي سعيد بن المعلَّى رضي الله عنه، قال: كنت أصلي في المسجد فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلم أجبْه، فقلت: يا رسول الله إني كنت أصلي؛ فقال: ألم يقل الله: {استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم}.
ثم قال لي: «لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن، قبل أن تخرج من المسجد». ثم أخذ بيدي، فلما أراد أن يخرج، قلت له: «ألم تقل لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن»، قال: {الحمد لله رب العالمين} «هي السبع المثاني، والقرآن العظيم الذي أوتيته». رواه البخاري من طريق خبيب بن عبد الرحمن، عن حفص بن عاصم، عن أبي سعيد بن المعلى.
- وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم: في مسيرٍ له فنزل ونزل رجل إلى جانبه؛ فالتفتَ إليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم فقال: «ألا أخبرك بأفضل القرآن» قال:
«فتلا عليه الحمد لله رب العالمين». رواه النسائي في السنن الكبرى وابن حبان والحاكم من طريق سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن أنس.
- وعن أبيّ بن كعب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا المنذر، أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟»
قال: قلت: الله ورسوله أعلم.
قال: «يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟»
قال: قلت: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم}.
قال: فضرب في صدري، وقال: «والله ليهنك العلم، أبا المنذر». رواه مسلم من طريق أبي السليل، عن عبد الله بن رباح الأنصاري عن أبيّ.
- وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو راكب فوضعت يدي على قدمه فقلت: أقرئني سورة هود أو سورة يوسف، فقال: «يا عقبة، اقرأ بقل أعوذ برب الفلق؛ فإنك لن تقرأ سورة أحب إلى الله عز وجل وأبلغ عنده منها، فإن استطعت أن لا تفوتك فافعل» رواه النسائي في السنن الكبرى وابن حبان من طريق يزيد بن أبي حبيب، عن أبي عمران أسلم بن عمران التجيبي عن عقبة.

فهذه الأدلة وما في معناها تدلّ دلالة بيّنة على أنّ بعض السور والآيات أفضل وأحبّ إلى الله من بعض، وهي وإن كانت كلّها في الذروة العليا من حسن البيان والإحكام، مكرَّمة عن كلّ وصف نقص وضعف واختلاف؛ إلا أنها ليست على درجة واحدة في الفضل؛ فبعضها أعظم من بعض، وبعضها أحبّ إلى الله من بعض، وتلاوة بعضها أعظم أجراً من بعض، ولبعضها خواصّ اختصّها الله بها:
- فجعل قراءة الفاتحة من آكد واجبات الصلاة؛ فلا تصحّ الصلاة إلا بها لمن استطاعها.
-وجعل لآخر آيتين من البقرة خصائص وفضائل في تشريف نزولها وتعظيم شأنها وفضل تلاوتها، وعظم ثوابها.
- وجعل للمعوّذتين فضلاً عظيماً، وبركة واسعة، ورتّب على تلاوتها من الثواب الجزيل، والحفظ من الشرور والآفات؛ ما فضّلهما به على سائر سور القرآن؛ كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهما:
«ما تعوّذ الناس بأفضل منهما». رواه النسائي من حديث عبد الله بن خبيب رضي الله عنه.
- وجعل لسورة الإخلاص فضلاً عظيماً حتى أقسم النبي صلى الله عليه وسلم أنها تعدل ثلث القرآن؛ كما في صحيح البخاري من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن».
ولِيَتبيّن الأمر للصحابة رضي الله عنه وللأمّة من بعدهم بياناً شافياً لا لبس فيه، تنتفي به احتمالات المعاني غير المرادة، وليقرّ في نفوسهم ويرسخ في أذهانهم اليقين بعظم فضلها قرن النبيُّ صلى الله عليه وسلم هذا البيان بحادثة عملية؛ ففي صحيح مسلم من حديث يزيد بن كيسان عن أبي حازم عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «احشدوا، فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن»، فحشد من حشد، ثم خرج نبي الله صلى الله عليه وسلم، فقرأ: {قل هو الله أحد}، ثم دخل، فقال بعضنا لبعض: إني أرى هذا خبراً جاءه من السماء فذاك الذي أدخله، ثم خرج نبي الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال: «إني قلت لكم سأقرأ عليكم ثلث القرآن، ألا إنها تعدل ثلث القرآن».

قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
«والقول بأن كلام الله بعضه أفضل من بعض هو القول المأثور عن السلف، وهو الذي عليه أئمة الفقهاء من الطوائف الأربعة وغيرهم، وكلام القائلين بذلك كثير منتشر في كتب كثيرة».

وقد خالف في هذه المسألة أبو حاتم ابن حبان صاحب الصحيح، ومكّي بن أبي طالب القيسي، ونسب القاضي عياض والقرطبيّ والزركشي القول بعدم التفضيل إلى أبي الحسن الأشعري وأبي بكر محمد بن الطيّب الباقلاني وهو من كبار الأشاعرة ونظّارهم.

قال ابن حبّان (ت: 354هـ): (قوله صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبرك بأفضل القرآن» أراد به: بأفضل القرآن لك، لا أن بعض القرآن يكون أفضل من بعض، لأن كلام الله يستحيل أن يكون فيه تفاوت التفاضل).
وقال في حديث أبي سعيد بن المعلّى: (قوله صلى الله عليه وسلم: " هي أعظم سورة "، أراد به في الأجر، لا أن بعض القرآن أفضل من بعض).
وقال مكّي بن أبي طالب القيسي (ت: 437هـ) في تفسير قول الله تعالى: {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها}، قال:
«ولا يجوز لذي علم ودين أن يتأوَّل بهذا النص تفضيلَ بعض القرآن على بعض؛ لأن القرآنَ كلام الله جلَّ ذكره ليس بمخلوق وإنما يقع التفضيل بين المخلوقات فاعلمه».
وقال القاضي عياض (ت:544هـ): (قوله عليه السلام لأبىّ: "أتدرى أيَّ آية من كتاب الله أعظم "، وذكر آية الكرسىّ، فيه حجة للقول بتفضيل بعض القرآن على بعض، وتفضيل القرآن على سائر كتب الله عند من أجازه، منهم إسحاق بن راهويه، وغيره من العلماء والمتكلمين، وذلك راجع إلى عظم أجر قارئ ذلك وجزيل ثوابه على بعضه أكثر من سائره، وهذا مما اختلف أهل العلم فيه، فأبى ذلك الأشعرى والباقلانى وجماعة من الفقهاء وأهل العلم؛ لأن مقتضى الأفضل نقص المفضول عنه، وكلام الله لا يتبعّض، قالوا: وما ورد من ذلك بقوله: " أفضل وأعظم " لبعض الآي والسور فمعناه: عظيم وفاضل)ا.هـ.
وقال أبو عبد الله القرطبي (ت:671هـ): (اختلف العلماء في تفضيل بعض السور والآي على بعض، وتفضيل بعض أسماء الله تعالى الحسنى على بعض:
فقال قوم: لا فضل لبعض على بعض، لأن الكل كلام الله، وكذلك أسماؤه لا مفاضلة بينها، ذهب إلى هذا الشيخ أبو الحسن الأشعري، والقاضي أبو بكر بن الطيب، وأبو حاتم محمد بن حبان البستي، وجماعة من الفقهاء، وروي معناه عن مالك.
قال يحيى بن يحيى: تفضيل بعض القرآن على بعض خطأ، وكذلك كره مالك أن تعاد سورة أو تردد دون غيرها.
وقال عن مالك في قول الله تعالى: {نأت بخير منها أو مثلها} قال: محكمة مكان منسوخة، وروى ابن كنانة مثل ذلك كله عن مالك.
واحتج هؤلاء بأن قالوا: إن الأفضل يشعر بنقص المفضول، والذاتية في الكلّ واحدة، وهي كلام الله، وكلام الله تعالى لا نقص فيه.
قال البستي: ومعنى هذه اللفظة (ما في التوراة ولا في الإنجيل مثل أم القرآن): أن الله تعالى لا يعطي لقارئ التوراة والإنجيل من الثواب مثل ما يعطي لقارئ أم القرآن، إذ الله بفضله فضل هذه الأمة على غيرها من الأمم، وأعطاها من الفضل على قراءة كلامه أكثر مما أعطى غيرها من الفضل على قراءة كلامه، وهو فضل منه لهذه الأمة. قال ومعنى قوله: (أعظم سورة) أراد به في الأجر، لا أن بعض القرآن أفضل من بعض. وقال قوم بالتفضيل، وأن ما تضمنه قوله تعالى" وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم" وآية الكرسي، وآخر سورة الحشر، وسورة الإخلاص من الدلالات على وحدانيته وصفاته ليس موجودا مثلا في" تبت يدا أبي لهب" وما كان مثلها.
والتفضيل إنما هو بالمعاني العجيبة وكثرتها، لا من حيث الصفة، وهذا هو الحق.
وممن قال بالتفضيل إسحاق بن راهويه وغيره من العلماء والمتكلمين، وهو اختيار القاضي أبي بكر بن العربي وابن الحصار)ا.هـ.
البُسْتي هو أبو حاتم ابن حبّان صاحب الصحيح.
وقال بدر الدرين الزركشي (794هـ): (ذهب الشيخ أبو الحسن الأشعري والقاضي أبو بكر وأبو حاتم بن حبان وغيرهم إلى أنه لا فضل لبعض على بعض؛ لأن الكل كلام الله وكذلك أسماؤه تعالى لا تفاضل بينها، وروي معناه عن مالك قال يحيى بن يحيى تفضيل بعض القرآن على بعض خطأ وكذلك كره مالك أن تعاد سورة أو تردد دون غيرها احتجوا بأن الأفضل يشعر بنقص المفضول وكلام الله حقيقة واحدة لا نقص فيه)ا.هـ.

واحتجاج القرطبي والزركشي لهذا القول بأنّ القرآن كلام الله تعالى، وكلام الله تعالى صفة من صفاته، وصفات الله لا تتفاضل، كما أنّ أسماءه لا تتفاضل؛ احتجاج غير صحيح؛ بل هو خطأ مخالف لدلالة الأدلّة الصحيحة، وللمأثور عن السلف الصالح من القول بمقتضى أدلّة التفاضل في القرآن وفي أسماء الله تعالى وصفاته.
- فأمّا التفاضل في القرآن وأن بعض السور أفضل من بعض، وبعض الآيات أفضل من بعض؛ فقد مضت أدلّته الصحيحة الصريحة.
- وأما التفاضل في أسماء الله تعالى فإنّ الله تعالى قد اختصّ بعض أسمائه بمزيد فضل، وفي الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد وغيره من طريق مالك بن مغول، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه، قال: سَمِعَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم رجلاً يقول: (اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله الذي لا إله إلا أنت، الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد؛ فقال: " قد سأل الله باسم الله الأعظم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب").
وفي صحيح مسلم من حديث الأعرج عن أبي هريرة، عن عائشة رضي الله عنهما، قالت: فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلةً من الفراش؛ فالتمستُه فوقَعت يدي على بطن قدميه، وهو في المسجد، وهما منصوبتان، وهو يقول: «اللهم أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك».
وفي صحيح البخاري من حديث أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " إن الله لما قضى الخلق، كتب عنده فوق عرشه: إن رحمتي سبقت غضبي".
فأسماء الله تعالى كلّها حسنى وبعضها أحبّ إليه من بعض، وصفاته كلّها عليا، وبعضها أحبّ إليه من بعض، وكذلك كلامه جلّ وعلا كلّه حسن لا نقص فيه ولا اختلاف، وبعضه أفضل من بعض؛ وقد فضّل الله القرآن على سائر كتبه المنزّلة، وجعل له فضلاً بتلاوته وحفظه على سائر ما أوحى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم من كلامه الذي ليس في القرآن، فتفاضل سور القرآن وآياته كذلك.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
«السلف والجمهور على أن بعض كلامه أفضل من بعض، وبعض صفاته أفضل من بعض، مع كونها كلها كاملة لا نقص فيها، كما دلت على ذلك نصوص الكتاب والسنة»ا.هـ.
وقال أيضاً: (ثبت عنه في الصحيحين من غيره وجه أن: {قل هو الله أحد} تعدل ثلث القرآن.
وذلك أن القرآن: إما خبر، وإما إنشاء، والخبر: إما خبر عن الخالق، وإما عن المخلوق؛ فثلثه قصص، وثلثه أمر، وثلثه توحيد، فهي تعدل ثلث القرآن بهذا الاعتبار.
وأيضاً فالكلام وإن اشترك من جهة المتكلِّم به في أنه تكلَّم بالجميع؛ فقد تفاضل من جهة المتكلَّم فيه، فإن كلامه الذي وصف به نفسه، وأمر فيه بالتوحيد، أعظم من كلامه الذي ذكر فيه بعض خلقه، وأمر فيه بما هو دون التوحيد.
وأيضاً فإذا كان بعض الكلام خيراً للعباد وأنفع، لزم أن يكون في نفسه أفضل من هذه الجهة، فإن تفاضل ثوابه ونفعه إنما هو لتفاضله في نفسه، وإلا فالشيئان المتساويان من كل وجه، لا يكون ثواب أحدهما أكثر، ولا نفعه أعظم)ا.هـ.

وأمّا أبو الحسن الأشعري ومن قال بقوله القديم في القرآن وأنه عبارة عن كلام الله تعالى، وليس هو من كلامه حقيقة، وأنه لا يتبعّض، ولا يتجزّأ، وليس بحرف ولا صوت؛ فهذا مما لا ينبغي أن يُعتدّ به؛ لأنه مبنيّ على اعتقاد باطل في كلام الله تعالى مخالف لنصوص الكتاب والسنة وإجماع السلف الصالح؛ فلا يُتلفت إليه؛ على أنّ أبا الحسن الأشعري قد رجع عن قوله هذا في آخر حياته، وألّف كتاب "الإبانة" الذي أعلن فيه رجوعه إلى مذهب أهل السنة وتأسّيه بالإمام أحمد بن حنبل ، وقد كان رجوعه رجوعاً مجملاً لم يخلُ من أخطاء في تفصيل الاعتقاد.
وأما أبو بكر ابن الطيّب الباقلاني ففي كتابيه "إعجاز القرآن" و "الانتصار للقرآن" مواضع فيها النص على تفضيل القرآن على سائر الكتب، وتفضيل بعض آيات القرآن في أوجه الإعجاز على بعض.
وقد أشكل على بعض الأشاعرة الجمع بين مذهبهم في صفة الكلام وصراحة أدلّة التفاضل بين الآيات والسور، ولهم في جواب هذا الإشكال أوجه متعدّدة لا تخلو من التكلّف والبعد، وقد ذكر الحليمي والزركشي والسيوطي طائفة منها.

والمقصود أن القول بتفاضل سور القرآن وآياته هو القول الصحيح الذي دلّت عليه النصوص الكثيرة، وهو القول المأثور عن السلف.
وأما ما روي عن الإمام مالك في النهي عن التفضيل بين سور القرآن؛ فهو محمول – إن صحّ عنه – على النهي عن التفضيل المُشْعِر بتنقّص المفضول أو التزهيد فيه والترغيب عنه). [بيان فضل القرآن:129 - 138]

جمهرة علوم القرآن 22 محرم 1439هـ/12-10-2017م 05:30 PM

الباب الثامن:أنواع المرويات في فضائل القرآن


أنواع المرويات في فضائل القرآن

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (أنواع المرويات في فضائل القرآن

المرويات في فضائل القرآن كثيرة جداً، وهي على أقسام ودرجات متفاوتة، ولها تقسيمات باعتبارات متعددة.

ويحسن بطالب العلم أن يكون على إلمام حسن بالأصول والقواعد الضابطة لأحكام المرويات في فضائل القرآن، مع إلمامه بقدرٍ حَسَن من المعرفة بما صَحَّ من فضائل القرآن عامة، وفضائل السور والآيات، ومعرفة بما شاع من المرويات الضعيفة في هذا الباب.
ولكثرة المرويات الضعيفة في هذا الباب فإنّه يصعب تقصّيها ويتعذّر حصرها، وقد حاول استيعابها جماعة من العلماء فأعياهم ذلك لسببين:
أحدهما: أن المرويات في تلك الفضائل منها الصريح وغير الصريح.
وغير الصريح بحرٌ لا ساحل له، فما يمكن أن يستنبط منه بيان فضل السورة يصعب حصره وتقصّيه لتفاوت الأفهام في الاستنباط، ولكثرة المعاني التي يمكن أن يستخرج المتأمّل بينها وبين بعض السور أوجها من المناسبات التي تدلّ على فضلها.
والسبب الآخر: أن المرويات في هذا الباب متفرّقة في كتب كثيرة جداً، ومنها أجزاء حديثية صغيرة لا يكاد يعرفها كثير من طلاب العلم، ومنها كتب كثيرة مفقودة ينقل عنها بعض المفسّرين وشرّاح الأحاديث مرويات في فضائل القرآن وغيرها، وكثير منها لا يمكن الوقوف على إسناده؛ فمحاولة تقصّيها ودراستها تستأثر بشطر من عمر الإنسان.
ومن أراد أن يستجلي هذه الحقيقة فلينظر إلى مصادر كتاب "فضائل القرآن" لعبد الواحد الغافقي (ت:619هـ) الذي سمّاه "لمحات الأنوار ونفحات الأزهار"، وهو من أكثر الكتب جمعاً لمرويات فضائل القرآن، وبعض مصادره مفقود، على أنه حذف الأسانيد، وأكثر من ذِكر المرويات الضعيفة من غير تنبيه على ضعفها). [بيان فضل القرآن:139 - 140]


جمهرة علوم القرآن 22 محرم 1439هـ/12-10-2017م 05:34 PM

أسباب عناية العلماء بجمع المرويات الضعيفة

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (أسباب عناية العلماء بجمع المرويات الضعيفة

وقد اعتنى العلماء بجمع الضعيف من المرويات لثلاث فوائد:
الأولى: التنبيه على ضعفها، وبيان سببه، لئلا يُغترّ بها، وهذه من شأن الحذّاق من أهل الحديث، وقد أبقى الله من كتبهم ما حقق لأهل العلم فائدة كبيرة في معرفة أسباب ضعف بعض المرويات.
وقد قال أبو بكر الأثرم: (رأى أحمد بن حنبل يحيى بن معين بصنعاء في زاوية وهو يكتب صحيفة معمر عن أبان عن أنس، فإذا اطلع عليه إنسان كتمه. فقال له أحمد: تكتب صحيفة معمر عن أبان عن أنس وتعلم أنها موضوعة؟ فلو قال لك قائل: أنت تتكلم في أبان ثم تكتب حديثه على الوجه؟
فقال: رحمك الله يا أبا عبد الله! أكتب هذه الصحيفة عن عبد الرزاق عن معمر على الوجه فأحفظها كلها، وأعلم أنها موضوعة حتى لا يجئ إنسان بعده فيجعل أبان ثابتا ويرويها عن معمر، عن ثابت، عن أنس، فأقول له: كذبت إنما هو عن معمر، عن أبان لا عن ثابت).
وروى ابن الأبّار عن يحيى بن معين أنه قال: (كتبنا عن الكذابين وسجرنا به التنور، وأخرجنا به خبزا نَضِجا!).
يريد أنّه انتفع بما كتبه عنهم فعرف به علل بعض المرويات المنكرة، وسبب نكارتها.

والثاني: جمع الطرق للاستعانة بها على دراسة الأحاديث التي تقبل التقوية بتعدد الطرق والشواهد؛ فقد يقف المرء على حديث في إسناده رجل يضعّف في الحديث لضعف ضبطه أو فيه انقطاع يسير؛ فإذا تعددت طرق هذا الحديث أو كانت له شواهد صحيحة فإنه يحكم بصحّته.
والثالث: رصد ما روي في هذا الباب، وحفظه من الضياع، وجمعه في موضع واحد مع عزوه إلى مصادره، أو تصنيفه على الأبواب أو المسانيد ليسهل وصول أهل الحديث إليه، وليستفيد منه أهل العلم بعده؛ بالدراسة والتمحيص.
وهذه الأسباب الثلاثة هي أكثر ما يدعو أهل العلم لتدوين المرويات الضعيفة، والأصل هو السبب الأول، والآخران معينان عليه). [بيان فضل القرآن:140 - 141]


جمهرة علوم القرآن 22 محرم 1439هـ/12-10-2017م 05:38 PM

صيانة العلم من واجبات أهله

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (صيانة العلم من واجبات أهله

ومن واجبات أهل العلم نَفْيُ الكذب عن كتاب الله، وعن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فيحترزون من نشر الضعيف الواهي، والمكذوب، ويبيّنون للناس – عند الحاجة – ما شاع من ذلك، وما يُسألون عنه.
ومن إحسان طالب العلم في طلبه أن يُحسن العدّة في كلّ علمٍ يتعلّمه، ومن ذلك أن يعدّ العدّة الحسنة له في علم فضائل القرآن.
ومما أوصي به طلاب العلم ليختصروا على أنفسهم كثيراً من الجهد والوقت ، وليستعينوا به في الدعوة والتعليم أن يعتنوا ببناء أصل علمي في كلّ علم يتعلمونه، ليكون مرجعاً لهم.

ومن ذلك أن يبني الطالب لنفسه أصلاً علمياً في فضائل القرآن يحقّق له خمسة أمور:
الأول: جمع الصحيح الصريح من فضائل القرآن وفضائل سوره وآياته، ليتفقّه فيها، وينتفع بها، ويدعو غيره ويعلّمهم.
والثاني: جمع ما اشتهر من المرويات الضعيفة في فضائل القرآن في دواوين السنّة الكبار، وفي كتب التفسير وشروح الأحاديث مما يشيع عند العامّة، أو يكثر السؤال عنه؛ ليكون على علم بحال تلك المرويات، ويحذّر منها ويبيّن حالها عند الحاجة إلى ذلك.
والثالث: جمع الأصول والقواعد الضابطة لبحث هذه المرويات وتعرّف أنواعها ودرجاتها وأحكامها، فيستعين بهذه المعرفة التأصيلية على معرفة أحكام كثير من المرويات التي تبلغه في هذا الباب.
والرابع: التدرّب على بحث هذه المرويات وتعرّف أحكامها، ليكون حاضر الأداة حين يُحتاج إلى بحثه، أو يُسأل عن شيء من تلك المرويات، أو يرى انتشار مرويات لم تبلغه في هذا الباب؛ فيتعرّف حالها ويبيّنه.
والخامس: المعرفة بالكتب والمراجع التي يرجع إليها في هذا الباب، واكتساب حسن المعرفة بمراتب كتب التفسير في تناول تلك المرويات، فلا يغترّ بشهرة بعض التفاسير ولا يقبل ما فيها علّاته؛ لعلمه بأنّ من المفسّرين من يكون محسناً في جوانب من التفسير ومقصّراً في معرفة أحكام الأحاديث والآثار؛ فيوردها من غير تمييز، وربما أوردها من غير نسبة.
وكثير من العامة وبعض المبتدئين من طلاب العلم ربما اعتقد صحّة بعض المرويّات الواهية لمجرّد ذكر بعض المفسّرين لها في كتبهم.
وهذا يقع لكثير من الخطباء والوعّاظ الذي ليس لهم معرفة بالحديث، ولا يتثبّتون من أهل العلم فيما يذكرون منها، فوقوعه ممن هو دونهم ورواجه لديهم من باب أولى.

وقد ذُكر أن خطيبا قرأ حديثاً من الأحاديث التي رواها ابن الجوزي في كتاب "الموضوعات" وهو لا يدري ما معنى "الموضوعات" فأعجبه، وخطب به على المنبر متأثّراً به ، وقال: "رواه ابن الجوزي في الموضوعات"

ومن الأمانة التي يتحمّلها صاحب كلّ علم: أن يعلّمه لمن يطلبه، وأن يحميه بنفي الكذب عنه وادّعاء المنتحلين المبطلين له، وبذلك يظهر العلم وينتشر). [بيان فضل القرآن:141 - 143]

جمهرة علوم القرآن 22 محرم 1439هـ/12-10-2017م 05:41 PM

شروط صحّة الحديث

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (شروط صحّة الحديث

ومما ينبغي أن يعلم أنَّ الحديث لا يُحكم بصحته إلا إذا صَحَّ إسنادُه ومتنُه.
وصحة الإسناد لا تتحقّق إلا بثلاثة أمور:
الأمر الأول: أن يكون رجاله ممن تُقبل روايتهم؛ والذين لا تُقبل روايتهم على درجتين:
الدرجة الأولى: الذين يكون سبب جرحهم ضعف ضبطهم وهم أهل صدق في الجملة فهؤلاء لا يُطّرح حديثهم جُملة، ولا يقبلون مطلقاً، بل يُعتبر حديثهم فإذا ورد من طريق أخرى أو كان له شواهد فيُحكم بصحّته لانتفاء علّة ضعف الضبط.
والدرجة الثانية: الذين لا تُقبل مرويّاتهم مطلقاً، ولا يعتبر بها، وهم متروكو الحديث، من الكذّابين، والمتّهمين بالكذب، والذين بلغوا من كثرة الخطأ والتساهل في الرواية عن الواهين من غير تبيين مبلغاً استحقّوا به ترك حديثهم؛ فهؤلاء لا يُجبر ضعف حديثهم بمتابعة غيرهم.

والأمر الثاني: أن يكون الإسناد متّصلاً غير منقطع؛ فانقطاع الإسناد موجب لضعف الحديث.
والأمر الثالث: انتفاء العلّة القادحة في صحّة الإسناد؛ كالمخالفة، والتدليس، والاضطراب.
فالمخالفة أن يخالف الرواي من هو أوثق منه فيَصِل إسناداً منقطعاً، أو يُغفل ذِكْرَ راوٍ ضعيف.
والتدليس أن يسقط راوياً ضعيفاً من الإسناد ويروي عن شيخه بصيغة "عن" أو "أنّ"، ومن عُرف بالتدليس فلا يُقبل حديثه إلا أن يصرّح بالسمّاع.
والاضطراب أن يختلف الرواة في الإسناد اختلافاً شديداً فلا يُوقف على صحّته، والاضطراب موجب للضعف.

وصحة المتن لا تتحقّق إلا بأمرين:
الأمر الأول: صحّة الإسناد إليه.
والأمر الثاني: انتفاء العلّة القادحة في المتن؛ كالمخالفة، والنكارة، والاضطراب، والرواية بالمعنى المخلّ، والتصحيف والتحريف، وغيرها). [بيان فضل القرآن:144- -145]

جمهرة علوم القرآن 22 محرم 1439هـ/12-10-2017م 05:44 PM

تنبيه:

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (تنبيه:

وليُعلم أنّ ضعف الإسناد المعيّن لا يقتضي ضعف المتن مطلقاً ؛ فقد يروى بإسناد آخر صحيح، ولذلك أمثلة منها: حديث مسلمة بن علي الخشني عن حريز بن عثمان عن سليم بن عامر عن أبي أمامة مرفوعاً: «اقرؤوا القرآن فإنَّ الله لا يعذّبُ قلباً وَعَى القرآن».رواه تمّام في فوائده وابن عساكر في تاريخه، وأورده الألباني في السلسلة الضعيفة، وقال: ضعيف جدا.
ثم قال بعد ذكر إسناده:«وهذا إسناد واهٍ جدا، مسلمة بن علي - وهو الخشني - متروك؛ كما في " التقريب"».
وقد صدق رحمه الله وأعلى منزلته في حكمه على هذا الإسناد؛ فقد انفرد مسلمة برفعه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم.
والصحيح فيه أنّه موقوف على أبي أمامة رضي الله عنه بلفظ: «اقرءوا القرآن ولا تغرَّنكم هذه المصاحف المعلَّقة، فإنَّ الله لن يعذّب قلباً وَعَى القرآن».
وهذا الأثر رواه عن أبي أمامة: شرحبيل بن مسلم الخولاني، وسليم بن عامر الخبائري، والقاسم بن عبد الرحمن الشامي.
أ: فأمّا شرحبيل بن مسلم فروى عنه هذا الأثر حَريزُ بن عثمان الرَّحبي وهو ثقة ثبت، ورواه عن حريز ثلاثة هم: يزيد بن هارون عند ابن أبي شيبة، والحكم بن نافع عند الدارمي، وحجّاج بن محمد عند ابن بطة العكبري.
ب: وأما سليم بن عامر الخبائري فروى هذا الأثر عنه معاوية بن صالح، ورواه عن معاوية عبد الله بن صالح كاتب الليث، ورواه عن عبد الله بن صالح: البخاري في "خلق أفعال العباد" والدارمي في سننه.
ج: وأما القاسم بن عبد الرحمن فرواه عنه حريز، ورواه عن حريز شبابة بن سوّار عند ابن أبي شيبة.
وهؤلاء كلهم رووه موقوفاً على أبي أمامة باللفظ المتقدّم، وتفرّد مسلمة بن عليّ بروايته عن حريز عن سليم عن أبي أمامة مرفوعاً وأسقط قوله: «ولا تغرنَّكم هذه المصاحف المعلقة».
ومسلمة بن عليّ متروك الحديث كما تقدّم فلا تعتبر مخالفته.
وبمجموع الطرق المعتبرة المتقدّمة فالأثر ثابت عن أبي أمامة رضي الله عنه، وهو وإن كان موقوفا على أبي أمامة فإنّه مما لا يقال بالرأي؛ فيأخذ حكم الرفع من جهة المعنى لا من جهة الرواية.

والمقصود بهذا المثال بيان أن ضعف الإسناد المعيّن لا يقتضي ضعف الحديث مطلقاً لأنه قد يصحّ من طريق آخر، وأنّ الموقوف قد يأخذ حكم المرفوع إذا صحّ عن الصحابي وكان مما لا مدخل للاجتهاد فيه، ولم تعرف له علّة أخرى توجب منع القول بالرفع). [بيان فضل القرآن:145 - 147]

جمهرة علوم القرآن 22 محرم 1439هـ/12-10-2017م 05:47 PM

درجات المرويات

قال عبد العزيز بن داخل المطيري:
(درجات المرويات

المرويّات تعمّ ما يُروى بالأسانيد من الأحاديث المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم والمرسلة عنه، والآثار التي تُروى عن الصحابة والتابعين.
وهي على خمس درجات:
الدرجة الأولى: المرويّات الصحيحة لذاتها، وهي التي ثبتت بإسناد صحيح من غير شذوذ ولا علّة قادحة في الإسناد ولا في المتن.
والدرجة الثانية: المرويات الصحيحة لغيرها، وهي التي يكون في أسانيدها بعض الضعف الذي يُجبر بالشواهد وتعدّد الطرق، ويكون المتن سالماً من العلّة القادحة.
والدرجة الثالثة: المرويات الضعيفة ضعفاً محتملاً، وهي التي يكون متنُها غيرَ منكر من جهة المعنى، وفي الإسناد ضعف قابلٌ للتقوية لو وُجدت.
والدرجة الرابعة: المرويات الواهية، وهي التي يكون في إسنادها ضعف شديد، أو يكون متنها منكراً مخالفاً للنصوص الصحيحة والقواعد الشرعية.
والدرجة الخامسة: المرويّات الموضوعة، وهي التي يتبيّن أنّها مكذوبة مختلقة.
فمرويات الدرجتين الأولى والثانية يحتجّ بهما.
ومرويات الدرجة الثالثة من أهل العلم من يحتجّ بها في الفضائل والرقاق والأخبار، ومنهم من يستأنس بها ولا يحتجّ بها، ومنهم من يذكرها لفائدة كأن يكون المتن حسناً جامعاً، أو لينبّه على ضعفه مع شهرته.
ومرويات الدرجة الرابعة لا يجوز أن تذكر إلا لبيان ضعفها، والتنبيه على عللها، وقد يرويها بعض المحدّثين لفوائد عارضة أو لغرض جمع الطرق ويعدّون ذكر الإسناد تبيينا لحالها، ثم يتساهل في نقلها بعض المفسّرين والفقهاء وشرّاح الأحاديث من غير معرفة بحال رواتها، وقد يحذفون الأسانيد اختصاراً.
وأما مرويات الدرجة الخامسة فلا تحلّ روايتها إلا على التبيين، وقد ورد الوعيد الشديد في التحديث بما هو مكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم). [بيان فضل القرآن:147 - 148]

جمهرة علوم القرآن 22 محرم 1439هـ/12-10-2017م 05:51 PM

أنواع المرويات الضعيفة

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (أنواع المرويات الضعيفة

الضعفُ له أنواع وأسباب عائدة إلى الإسناد أو إلى المتن أو إليهما معاً، ومن تلك الأنواع:

النوع الأول: الإرسال، والمرسل هو ما أسنده التابعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والإرسال انقطاع في الإسناد، فلا يقبل إلا أن يرد من طريق آخر موصولا بإسناد صحيح أو يكون المرسل معتبراً يتقوّى بالشواهد والمتابعات.
والمراسيل على أنواع ودرجات فمن أهل العلم من يضعّفها مطلقاً، ومنهم من يقبلها بشروط منها أن يكون المرسِل من كبار التابعين، وأن يُعرف عنه أنه لا يروي إلا عن ثقة، وأن لا يعرف عنه شذوذ في الرواية، وأن يكون الحديث الذي أرسله غير منكر المتن.
والمراسيل المروية في فضائل القرآن كثيرة منها:
- مرسل الحسن البصري الذي أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن من طريق أبي نصيرة مسلم بن عبيد، عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ فاتحة الكتاب فكأنما قرأ التوراة والإنجيل والزبور والفرقان».
- ومرسل عبد الملك بن عمير، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «في فاتحة الكتاب شفاء من كل داء» رواه الدارمي والبيهقي في شعب الإيمان وابن مروان الدينوري في المجالسة من طريق سفيان الثوري عن عبد الملك بن عمير مرسلاً.

والنوع الثاني: الانقطاع في السند، وهو أعمّ مما قبله، ويعرف الانقطاع بأمور:
- منها: معرفة تواريخ وفاة الشيخ وولادة الراوي عنه.
- ومنها: تصريح الراوي بأنّه لم يسمع ممن روى عنه، كما صرّح الضحّاك بن مزاحم أنّه لم يسمع من ابن عباس.
- ومنها : أن يحصر الراوي ما سمعه من شيخه، فيكون ما رُوي عنه مما سواه منقطعاً، كما ذكر الشعبي أنّه لم يسمع من ابن عمر سوى حديثين، وقد صحبه ثمانية أشهر.
- ومنها: نصّ الأئمّة النقّاد على أنّ ذلك الراوي لم يسمع من شيخه أو حصروا ما سمعه منه.
ومن أمثلة الضعيف لانقطاع إسناده ما رواه عبد الرزاق والدارمي من طريق أيوب، عن أبي قلابة الجرمي أن رجلاً قال لأبي الدرداء: إن إخوانك من أهل الكوفة، من أهل الذكر، يقرئونك السلام. فقال: «وعليهم السلام، ومرهم فليعطوا القرآن بخزائمهم فإنه يحملهم على القصد والسهولة، ويجنّبهم الجور والحزونة».
وهذا إسناد رجاله ثقات غير أنّ أبا قلابة لم يدرك أبا الدرداء.

النوع الثالث: المخالفة بالرواية بالمعنى المغيّر للفظ.
ومن أمثلته: حديث عبادة بن الصامت مرفوعاً: «أم القرآن عوض من غيرها، وليس غيرها منها بعوض» رواه الدارقطني والحاكم من طريق: محمد بن خلاد الإسكندراني، ثنا أشهب بن عبد العزيز، ثنا سفيان بن عيينة، عن ابن شهاب، عن محمود بن الربيع، عن عبادة بن الصامت.
قال الدارقطني: «تفرد به محمد بن خلاد عن أشهب عن ابن عيينة».
ومحمد بن خلاد مختلف فيه؛ وقد احترقت كتبه فصار يحدّث من حفظه ويروي بالمعنى فيقع في بعض حديثه ما يُنكر عليه.
وهذا الحديث قد رواه البخاري ومسلم وغيرهما من طريق سفيان بن عيينة عن ابن شهاب، عن محمود بن الربيع، عن عبادة بن الصامت بلفظ: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب»
فلعلّ ابن خلاد روى الحديث بالمعنى فأخطأ فيه.

النوع الرابع: الخطأ في الإسناد
ومن أمثلته: حديث هدبة بن خالد: ثنا حماد بن سلمة، ثنا أشعث بن عبد الرحمن الجرمي، عن أبي قلابة، عن أبي أسماء، عن شداد بن أوس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل كتب كتابا قبل أن يخلق السماوات والأرض بألفي عام، وأنزل فيه آيتين ختم بهما سورة البقرة، لا يقرآن في دار ثلاث ليال، فيقربها شيطان»رواه الطبراني في الكبير.
فهذا الحديث أخطأ في إسناده هدبة بن خالد، وليس هو من حديث شداد بن أوس، وإنما هو من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما؛ فقد روى الحديثَ أبو عبيد في فضائل القرآن والدارمي والترمذي وابن الضريس في فضائل القرآن، والنسائي في الكبرى والبزار وابن حبان والطبراني والحاكم والبيهقي في شعب الإيمان كلهم من طرق عن الأشعث بن عبد الرحمن الجرمي، عن أبي قلابة الجرمي، عن أبي الأشعث الصنعاني، عن النعمان بن بشير رضي الله عنه.
ورواه النسائي في الكبرى والطبراني في الأوسط من طريق أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي صالح الحارثي، عن النعمان بن بشير.
فالصحيح أنه من حديث أبي الأشعث الصنعاني عن النعمان بن بشير، وهو ما صححه أبو زرعة الرازي رحمه الله.
ولا تصح روايته من حديث شداد بن أوس.


النوع الخامس: المرويات التي يكون في إسنادها مجهول العين أو مجهول الحال.
- ومن أمثلة الضعيف لجهالة عين أحد رواته: ما رواه الإمام أحمد وأبو يعلى والروياني والطبراني في الكبير وأبو الشيخ في العظمة كلهم من طريق معتمر بن سليمان بن طرخان التيمي، عن أبيه، عن رجل، عن أبيه، عن معقل بن يسار رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «البقرة سنام القرآن وذروته، نزل مع كل آية منها ثمانون ملكا، واستخرجت {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} من تحت العرش، فوصلت بها، أو فوصلت بسورة البقرة، ويس قلب القرآن، لا يقرؤها رجل يريد الله والدار الآخرة إلا غفر له، واقرءوها على موتاكم».
فشيخ سليمان التيمي مجهول العين لمّ يُسَمَّ، وكذلك أبوه الراوي عن معقل.

- ومن أمثلة رواية مجهول الحال ما رواه أبو عبيد في فضائل القرآن والدارمي في سننه وابن أبي شيبة في مصنفه والبيهقي في شعب الإيمان وغيرهم من طرق عن زياد بن مخراق، عن أبي إياس، عن أبي كنانة، عن أبي موسى، أنه قال: «إن هذا القرآن كائن لكم أجرا، وكائن لكم ذكرا، وكائن عليكم وزرا، اتبعوا القرآن ولا يتبعنكم القرآن، فإنه من يتبع القرآن، يهبط به في رياض الجنة، ومن اتبعه القرآن يزخ في قفاه، فيقذفه في جهنم».
وأبو كنانة هذا مجهول الحال.
- ومن أمثلته أيضاً: ما رواه ابن أبي شيبة في مصنفه من طريق أبي إسحاق السبيعي، عن عبد الله بن قيس، عن ابن عباس قال: «من قرأ سورة النساء؛ فعلم ما يحجب مما لا يحجب علم الفرائض».
وعبد الله بن قيس مجهول الحال.

النوع السادس: الضعيف لكون أحد رواته متروك الحديث.
ومن أمثلته ما رواه الإمام أحمد والترمذي وغيرهما من طريق حفص بن سليمان، عن كثير بن زاذان، عن عاصم بن ضمرة، عن علي بن أبي طالب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من قرأ القرآن واستظهره، فأحل حلاله، وحرم حرامه أدخله الله به الجنة وشفعه في عشرة من أهل بيته كلهم قد وجبت له النار ».
وحفص بن سليمان إمام في القراءة متروك الحديث لكثرة خطئه فيه.

النوع السابع: منكر المتن
ونكارة المتن غالباً ما يكون معها علة ظاهرة في الإسناد، وما كان كذلك فأمره بيّن؛ لأن ضعف الإسناد يدلّ على سبب نكارة المتن.
لكن ربما روي حديث أو أثر بإسناد ظاهره الصحّة، ومتنه منكر؛ ففي هذه الحالة:
- إما أن يُجاب عن الإشكال بما يزيل النكارة بحيث يكون للمتن معنى مقبول غير منكر يصحّ أن يُحمل عليه بلا تكلّف.
- وإمّا أن يُتعرّف على علة الإسناد التي أدّت إلى رواية هذا المتن المنكر.

ومن أمثلة ذلك: ما رواه أبو عبيد وسعيد بن منصور وابن جرير من طريق أبي معاوية عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: سألتُ عائشة عن لَحْنِ القرآن: {إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون}، {والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة}، و{إن هذان لساحران}؛ فقالت: «يا ابن أختي، هذا عَمَلُ الكُتَّاب، أخطأوا في الكِتَاب».
ورواه عمر بن شبّة من طريق علي بن مسهر عن هشام بن عروة عن أبيه، قال: سألت عائشة رضي الله عنها عن لحن القرآن: إن هذان لساحران، وقوله: {إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى} ، {والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة}، وأشباه ذلك فقالت: «أي بني إن الكتاب يخطئون»
فهذا الأثر إسناده في ظاهره صحيح، فقد رواه عن هشام بن عروة رجلان هما: أبو معاوية محمد بن خازم الضرير، وعلي بن مسهر؛ فبرئت عهدة أبي معاوية من التفرّد به كما أعلّه بعضهم، وإن كان أبو معاوية قد انتقد بسبب اضطراب بعض حديثه، لكنّه قد توبع في هذا الأثر، وتابَعَه ثقة ثبت وهو علي بن مسهر.
ومتنه منكر جداً، يبعد أن يصدر عن مثل عائشة رضي الله عنها، وهي تقرأ هذه الآيات كما يقرؤها المسلمون، وتعلم أنَّ الأصل في القراءة الرواية مشافهة، وتعلم أيضاً أنّ كتابة المصاحف كانت عن إجماع من الصحابة رضي الله عنهم، وأن الذين انتدبوا لكتابته ومراجعته جماعة يستحيل تواطؤهم على الخطأ واللحن.
فهذه الأصول البيّنة توجب النظر والتدقيق في الإسناد للتعرف على علّته الخفيّة، وتَبيُّن منشأ الخطأ.
فنظرنا في الذين رووا هذا الحديث عن هشام فإذا هما عراقيّان، وحديث العراقيين عن هشام بن عروة متكلّم فيه لسبب يأتي شرحه.
فقد ذكر الذهبي عن عبد الرحمن بن خراش أنه قال: (بلغني أن مالكا نقم على هشام بن عروة حديثه لأهل العراق، وكان لا يرضاه).
ثم قال: (قدم الكوفةَ ثلاث مرات: قَدْمَةٌ كان يقول فيها: حدثني أبي، قال: سمعت عائشة، والثانية فكان يقول: أخبرني أبي، عن عائشة، وقَدِمَ الثالثة؛ فكان يقول: "أبي، عن عائشة"، يعني: يرسل عن أبيه).
وقال يعقوب بن شيبة: (هشام ثبت لم ينكر عليه إلا بعد ما صار إلى العراق، فإنه انبسط في الرواية وأرسل عن أبيه بما كان سمعه من غير أبيه عن أبيه).
حتى رماه ابن القطّان بالاختلاط، لأنّ تحديثه بالعراق كان بعدما أسنّ في خلافة أبي جعفر المنصور بعد أن قارب الثمانين من عمره، فإنّه قد التقى بأبي جعفر المنصور وهو حينذاك خليفة المسلمين.
فلأجل ما أنكر على هشام في بعض ما حدّث به أهل العراق وكبر سنّه رماه ابن القطّان بالاختلاط.
وقد ردّ الذهبي هذه التهمة عنه ردّاً شديداً، وعدّ ما أخطأ فيه من الأوهام التي لا يكاد يسلم منها مَن كثر حديثهم من الثقات؛ فقال في تاريخ الإسلام: (قول ابن القطان إنه اختلط قول مردود مرذول؛ فأرني إماماً من الكبار سلم من الخطأ والوهم!
فهذا شعبة، وهو في الذروة له أوهام، وكذلك معمر، والأوزاعي، ومالك رحمة الله عليهم).
وقال في ميزان الاعتدال في ترجمة هشام بن عروة: (حجة إمام، لكن في الكبر تناقص حفظه، ولم يختلط أبدا، ولا عبرة بما قاله أبو الحسن ابن القطان من أنه وسهيل بن أبي صالح اختلطا وتغيرا.
نَعَم الرجل تغير قليلا ولم يبق حفظه كهو في حال الشبيبة، فنسي بعض محفوظه أو وهم، فكان ماذا! أهو معصوم من النسيان!
لما قدم العراق في آخر عمره حدث بجملة كثيرة من العلم، في غضون ذلك يسير أحاديث لم يجودها، ومثل هذا يقع لمالك ولشعبة ولوكيع ولكبار الثقات)ا.هـ
وقد عدّ وليّ الدين العراقي وابن حجر العسقلاني هشام بن عروة من المدلّسين، لكن ابن حجر جعله من أهل المرتبة الأولى، وهم الذين لم يوصفوا بالتدليس إلا نادراً كيحيى بن سعيد الأنصاري.
وحديث هؤلاء حجّة ما لم تكن له علّة توجب ردّه.
والمقصود أنّ هذا الحديث مما أخطأ فيه هشام بن عروة؛ فرواه عن أبيه من غير ذكر الواسطة.
وهذه العلّة مع نكارة المتن كافية في ردّه.

النوع الثامن: الضعيف الذي لا أصل له.
وهو الذي لا يُعرف له إسناد ولا مخرج.
ومن أمثلته ما ذكره مكي بن أبي طالب القيسي في الهداية بقوله: (روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «سورة المائدة تدعى في ملكوت الله: المنقذة، تنقذ صاحبها من أيدي ملائكة العذاب وتخلصه». ).
وهذا الحديث لا أصل له.
ومن المتقدّمين من يصف الخبر الذي ليس له إسناد مخرجه صحيح بأنّه لا أصل له، وإن كان مروياً بإسناد من الأسانيد الواهية.
النوع التاسع: الموضوع
وهو شرّ هذه الأنواع، وهو ما كان من رواية الكذّابين.
ومن أشهر الموضوعات في فضائل القرآن الحديث الطويل المكذوب على أبيّ بن كعب رضي الله عنه في فضائل القرآن سورة سورة.
وقد رواه أبو بكر بن أبي داود السجستاني في "فضائل القرآن" له كما في الموضوعات لابن الجوزي من طريق مخلد بن عبد الواحد عن علّي بن زيد بن جدعان وعطاء بن أبي ميمونة عن زر بن حبيش عن أبي بن كعب أنه قال: «أيّما مسلم قرأ فاتحة الكتاب أعطي من الأجر كأنّما تصدق على كل مؤمن ومؤمنة، ومن قرأ آل عمران بكل آية منها أمانًا على جسر جهنّم، ومن قرأ سورة النّساء أعطي من الأجر كأنّما تصدق على كل مؤمن ومؤمنة، ومن قرأ المائدة أعطي عشر حسنات ومحي عنه عشر سيئات ورفع له عشر درجات بعدد كل يهوديّ ونصراني تنفس في الدّنيا.. » إلخ.
- ورواه ابن مردويه من طريق مخلد بن عبد الواحد عن الحجّاج بن عبد الله عن أبي الخليل عن علّي بن زيد وعطاء بن أبي ميمونة عن زر بن حبيش عن أبي بن كعب.
- ورواه الثعلبي والواحدي في تفاسيرهم من طريق سلام بن سليمٍ، حدّثنا هارون بن كثيرٍ، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن أبي أمامة، عن أبيّ بن كعبٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم .. به مفرّقاً على السور.
- ورواه العقيلي من طريق بزيع بن حسان ثنا علّي بن زيد بن جدعان وعطاء بن أبي ميمونة كلاهما عن زر بن حبيش عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم «يا أبي من قرأ فاتحة الكتاب أعطي من الأجر...» فذكر فضل سورة سورة إلى آخر القرآن انتهى بحروفه.
قال ابن الجوزي: (وقد فرق هذا الحديث أبو إسحاق الثّعلبيّ في تفسيره فذكر عند كل سورة منها ما يخصها وتبعه أبو الحسن الواحدي في ذلك ولم أعجب منهما لأنّهما ليسا من أصحاب الحديث، وإنّما عجبت من الإمام أبي بكر بن أبي داود كيف فرقه على كتابه الّذي صنفه في فضائل القرآن وهو من أهل هذا الشّأن ويعلم أنه حديث محال ولكن شرَه جمهور المحدثين، فإنّ من عادتهم تنفيق حديثهم ولو بالبواطيل، وهذا قبيح منهم؛ فإنّه قد صحّ عن رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال: «من حدث عني حديثا يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين».
قال: (وهذا حديث فضائل السّور مصنوع بلا شكّ وفي إسناد الطّريق الأول بزيع، قال الدّارقطنيّ: متروك.
وفي الطّريق الثّاني مخلد بن عبد الواحد، قال ابن حبان: منكر الحديث جدا.
وقد اتّفق بزيع ومخلد على رواية هذا الحديث عن علّي بن زيد قال أحمد وابن معين علّي بن زيد ليس بشيء وأيضًا فنفس الحديث.
يدل على أنه مصنوع فإنّه قد استنفذ السّور وذكر في كل واحدة ما يناسبها من الثّواب بكلام ركيك في نهاية البرودة لا يناسب كلام الرّسول).
ثمّ روى ابن الجوزي بإسناده عن محمود بن غيلان شيخ الترمذي أنه قال: (سمعت مؤمّلا يقول حدثني شيخ بفضائل سور القرآن الذي يروي عن أبي بن كعب، فقلت للشيخ من حدثك؟ فقال حدثني رجل بالمداين وهو حي فصرت إليه فقلت من حدثك؟ فقال حدثني شيخ بواسط وهو حي فصرت إليه، فقال حدثني شيخ بالبصرة فصرت إليه
فقال حدثني شيخ بعبَّادان فصرت إليه، فأخذ بيدي فأدخلني بيتا فإذا فيه قوم من المتصوفة ومعهم شيخ، فقال: هذا الشيخ حدثني، فقلت يا شيخ من حدثك؟ فقال لم يحدثني أحد ولكنا رأينا الناس قد رغبوا من القرآن فوضعنا لهم هذا الحديث ليصرفوا وجوههم إلى القرآن).
قال الحافظ العراقي: (كلّ من أودع حديث أبيّ - المذكور - تفسيره، كالواحدي، والثعلبي والزمخشري مخطئ في ذلك؛ لكن من أبرز إسناده منهم، كالثعلبي، والواحدي فهو أبسط لعذره، إذ أحالَ ناظرَه على الكشف عن سنده، وإن كان لا يجوز له السكوت عليه من غير بيانه، وأما من لم يبرز سنده، وأورده بصيغة الجزم فخطؤه أفحش، كالزمخشري).
قلت: وقد أورده البيضاوي أيضاً في تفسيره مفرقاً على السور من غير إسناد ولا تنبيه.

وممن روى الموضوعات في فضائل السور رجل يقال له: ميسرة بن عبد ربه.
وقد ذكر ابن الجوزي عن عبد الرحمن بن مهدى أنه قال: قلت لميسرة من أين جئت بهذه الأحاديث من قرأ كذا فله كذا؟
قال: وضعته أرغب الناس فيه).
وروى الحاكم في المدخل عن جعفر بن أحمد بن نصر أنه قال: سمعت أبا عمار المروزي يقول: قيل لأبي عصمة من أين لك عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه في فضائل القرآن سورة سورة وليس عند أصحاب عكرمة هذا؟
فقال: «إني قد رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن واشتغلوا بفقه أبي حنيفة ومغازي محمد بن إسحاق فو
ضعت هذا الحديث حسبة»). [بيان فضل القرآن:148 - 160]

جمهرة علوم القرآن 22 محرم 1439هـ/12-10-2017م 05:55 PM

تنبيه:

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (تنبيه:

ومن المرويات ما يجتمع فيها أكثر من علّة، فيكون فيها انقطاع في الإسناد، وضعف في بعض رجال السند، ونكارة في المتن، وكلما زادت العلل اشتدّ الضعف.

ومن أمثلة ما تعددت علله: حديث أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم، عن ضمرة بن حبيب، عن عطية بن قيس الكلابي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المائدة من آخر القرآن تنزيلا، فأحلوا حلالها وحرموا حرامها» رواه أبو عبيد في فضائل القرآن.
وهو على إرساله ضعيف الإسناد؛ فابن أبي مريم متروك الحديث على ما يذكر من صلاحه، وذلك لسوء حفظه وكثرة خطئه.
ومتنه منكر ليس مما يشبه كلام النبي صلى الله عليه وسلم). [بيان فضل القرآن:160]

جمهرة علوم القرآن 22 محرم 1439هـ/12-10-2017م 06:03 PM

الباب التاسع:خواص القرآن

خواص القرآن

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (خواص القرآن

من المباحث المتعلّقة بفضائل القرآن مبحث ما يسمّى بخواصّ القرآن، وهذه التسمية تسمية اصطلاحية متأخرة يطلقها بعض العلماء على ما عرف من الانتفاع ببعض السور والآيات في أحوال مخصوصة، ولم تكن هذه التسمية معروفة عند السلف الصالح وإن كان قد جرى في زمانهم بعض ما يدخل في هذا المعنى.
ولا مشاحّة في الاصطلاح إذا كان له معنى معقول، ولم يُستعمل فيما يخالف هدى الشريعة.
على أنّ كلمة "خواصّ القرآن" يستعملها العلماء لمعاني متعددة:
منها: ما تقدّم ذكره من تأثير بعض السور والآيات في أحوال مخصوصة في الرّقى والكرب وغيرها.
ومنها: ما يختصّ به القرآن من خصائص وأحكام يتميّز بها عن غيره.
ومنها: التأثير الإعجازي للقرآن، وهذا المعنى يذكره بعض من يكتب في إعجاز القرآن، ويغلب عليهم العناية ببلاغة القرآن وحسن بيانه وتأثير خطابه.
ومقصودنا في هذا الباب هو المعنى الأوّل). [بيان فضل القرآن:161]

جمهرة علوم القرآن 22 محرم 1439هـ/12-10-2017م 06:08 PM

دلائل معرفة خواصّ القرآن

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (دلائل معرفة خواصّ القرآن
الدلالة الأولى: دلالة نصوص الكتاب والسنة الصحيحة على تأثير بعض السور والآيات في أحوال مخصوصة

فأمّا القرآن فباب الفهم فيه واستخراج الخواصّ منه بابٌ واسع، وإذا أصاب فيه المؤمن دلالة صحيحة على بعض الخواصّ فهو فضل عظيم، وقد ذكر العلماء جملة من الأمثلة التي تدلّ اللبيب على ما ورائها:
- فمن ذلك: قول الله تعالى في شأن يونس عليه السلام إذ التقمه الحوت: {فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فاستجبنا له ونجيناه من الغمّ وكذلك ننجي المؤمنين}، وقال تعالى: {فلولا أنه كان من المسبّحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون}
فتبيّن بدلالة الآيتين أثر التسبيح والتوحيد في النجاة من الغمّ والكرب، ودلّ قوله تعالى: {وكذلك ننجي المؤمنين} على أنّ هذا الأمر لا يختصّ بيونس عليه السلام، بل هو عامّ للمؤمنين إذا دعوا واستغاثوا بالله وسبّحوه معترفين ذنوبهم.
ومما يدلّ على صحّة استنباط هذا المعنى ما رواه الإمام أحمد في مسنده والنسائي في سننه وغيرهما من طريق إبراهيم بن محمد بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
«دعوة ذي النون إذ هو في بطن الحوت: {لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين} فإنه لم يدع بها مسلم ربه في شيء قط إلا استجاب له».
- ومن ذلك أيضاً: قول الله تعالى: { وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84)}؛ والقول في هذه الآية نظير ما سبق؛ فإن قوله تعالى: {وذكرى للعابدين} تذكير لهم وحثّ على الاتّساء به عليه السلام.
- ومن ذلك أيضاً: قوله تعالى: { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)}.
فقول هذه الكلمة بإيمانٍ عند الخبر المفزِع والخوف له أثر في دفع البلاء والسلامة منه.
- ومن ذلك أيضاً: قوله تعالى: {
وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد } فقولها مع الإيمان بالله والتوكّل عليه وبذل ما يستطاع من الأسباب له أثر عظيم في دفع كيد الأعداء، لقول الله تعالى بعدها: {فوقاه الله سيئات ما مكروا}.
قال الأمين الشنقيطي: (
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد فوقاه الله سيئات ما مكروا} دليل واضح على أن التوكل الصادق على الله، وتفويض الأمور إليه سبب للحفظ والوقاية من كل سوء).

وأما الأحاديث النبوية التي رويت في هذا الباب فكثيرة، وفيها دلالة بيّنة على بعض ما يُسمّى بخواصّ القرآن:

- فمن ذلك رقية اللديغ بسورة الفاتحة، وفيها حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه المتقدّم في رقيته للديغ بسورة الفاتحة، وقول النبي صلى الله عليه وسلم له:
«وما يدريك أنها رقية».
فهذا مما يُعدّ من خواصّ سورة الفاتحة.
وفي الحديث فائدة أخرى، وهي اجتهاد الراقي في اختيار الآيات التي يرى مناسبتها للحالة التي يرقيها، وأنّ النبي صلى الله عليه وسلم أقرّه على ذلك.
وللرُّقَى أثرٌ معروف في الرّوح والجسد، وقد صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم الإذن العامّ بالرّقى ما لم يكن فيها شرك، كما في صحيح مسلم من حديث عبد الرحمن بن جبير، عن أبيه، عن عوف بن مالك الأشجعي، قال: كنا نرقي في الجاهلية فقلنا يا رسول الله كيف ترى في ذلك؟
فقال: «اعرضوا عليَّ رُقاكم، لا بأس بالرُّقى ما لم يكن فيه شرك».
وفي صحيح مسلم أيضاً من حديث الأعمش عن أبي سفيان، عن جابر، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرُّقى، فجاء آل عمرو بن حزم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله إنه كانت عندنا رقية نرقي بها من العقرب، وإنك نهيت عن الرُّقَى، قال: فعرضوها عليه، فقال: «ما أرى بأسا من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه».
وفي هذا إقرار من النبي صلى الله عليه وسلم لرقية آل عمرو بن حزم وكانوا يرقون في الجاهلية ويُنتفع برُقَاهم، وسبب استئذانهم من النبي صلى الله عليه وسلم أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لمّا هاجر إلى المدينة نهى عن الرّقى لما كان الغالب على الرّقى التي كانت في الجاهلية الشرك، وفي مسند الإمام أحمد وسنن أبي داوود من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«إنّ الرّقى والتمائم والتولة شرك».
والتعريف في "الرقى" في هذا الحديث للعهد الذهني وليس للجنس.
أي أنّ الرقى التي يعهدونها من الجاهلية عامّتها شرك؛ لما فيها من الاستغاثة والتعوّذ بغير الله تعالى، فلمّا كان هذا هو الغالب عليها، نهى النبيّ صلى الله عليه وسلّم عنها، وبيّن حالها وحكمها.
فامتنع من كان يُعرف بالرُّقى من الصحابة رضي الله عنهم امتثالاً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، ثمّ استثنى النبي صلى الله عليه وسلم الرقى التي ليس فيها شرك، ومن ذلك الرّقى التي تضمّنت عهوداً ومواثيق أخذها سليمان عليه السلام على الجنّ وبعض الهوامّ، وكانت العرب تأثر شيئاً منها.

قال الزهري: (بلغنا عن الرجال من أهل العلم أنّهم كانوا يقولون: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الرقى حين دخل المدينة، وكانت الرّقى في ذلك الزمان فيها كثير من كلام الشرك؛ فانتهى الناس عنها حين نهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبيناهم كذلك إذ لُدغ رجلٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بنهشة حيّة أو عقرب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«هل من راقٍ؟»
قالوا: يا رسول الله قد كان آل حزم يرقون برقية من الحيّة فلمّا نهيت عن الرُّقَى تركوها.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«ادعوا لي عمارة بن حزم»، ولم يكن له ولد، وقد شهد بدراً، فدُعي له، فقال رسول الله عليه السلام: «اعرض عليّ رقيتك»
فعرضها عليه فلم يرَ بها بأساً فأذن له أن يرقيَها). رواه ابن وهب في جامعه.
وكان الإذن أوّلاً بالرقية من العين والحُمة؛ ثمّ ورد الإذن العامّ بكلّ رقية ليس فيها شرك.
- ففي الصحيحين من حديث الأسود بن يزيد النخعي قال: سألتُ عائشة عن الرقية من الحُمَة؛ فقالت:
«رخّص النبي صلى الله عليه وسلم لأهل بيت من الأنصار في الرُّقية من كل ذي حُمَة».
- وفي مسند الإمام أحمد وسنن أبي داوود من حديث حصين بن عبد الرحمن عن الشعبي عن عمران بن الحصين رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«لا رقية إلا من عين أو حُمة».
قال الخليل بن أحمد: (الحُمَة: اسم كلّ شيء يلدغ أو يلسع).
وقال الأصمعي: (هي فَوْعَة السُّمّ) أي حرارته وحدّته وانتشاره.
- وفي صحيح مسلم من حديث عاصم الأحول عن يوسف بن عبد الله بن الحارث عن أنس قال: (رخّص رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرقية من العين والحُمَة والنملة).
والنملة: قروح تخرج في الجنب وغيره.

ثمّ ورد الإذن العام في الرّقى ما لم يكن فيها شرك كما دلّ عليه:
أ- حديث عوف بن مالك الأشجعي المتقدّم ذكره.
ب- وحديث عمير مولى آبي اللحم أنّه عرض على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في خيبَر رقية كان يرقي بها المجانين في الجاهلية؛ فقال له: (اطرح منها كذا وكذا، وارقِ بما بقي). رواه أحمد والترمذي والنسائي.
ج- وحديث ابن أبي حثمة القرشي قال: حدثتني أمّي [وهي الشفاء بنت عبد الله] أنها كانت ترقي في الجاهلية فلمّا جاء الإسلام قالت: لا أرقي حتى أستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأتته فاستأذنته؛ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ارقي ما لم يكن فيها شرك). رواه ابن حبان والطبراني في الكبير بإسناد حسن.

قال ابن حجر: (وقد تمسّك قوم بهذا العموم فأجازوا كلّ رقية جُرّبت منفعتها، ولو لم يُعقل معناها، لكن دلّ حديث عوف أنّه مهما كان من الرُّقى يؤدّي إلى الشرك يُمنعْ، وما لا يعقل معناه لا يُؤمنُ أن يؤدي إلى الشرك فيُمنع احتياطاً).

والمقصود أنّ الرّقى لها تأثير مجرّب وقد أقرّت الشريعة الرُّقَى السَّالمة من الشرك، ولم تكن لتقرّ أمراً باطلاً، وإذا كان لبعض كلام الناس تأثير في الأرواح والأجساد التي تُرقَى بها، فتأثير كلام الله تعالى أولى وأقوى.

قال ابن القيّم رحمه الله: (ومن المعلوم أن بعض الكلام له خواصّ ومنافع مجربة، فما الظن بكلام رب العالمين، الذي فَضْلُه على كلِّ كلام كفضل الله على خلقه الذي هو الشفاء التام، والعصمة النافعة، والنور الهادي، والرحمة العامة الذي لو أنزل على جبل؛ لتصدع من عظمته وجلالته.
قال تعالى: {وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين}، و" من " هاهنا لبيان الجنس لا للتبعيض، هذا أصح القولين كقوله تعالى: {وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما} وكلهم من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وكقوله: {فاجتنبوا الرجس من الأوثان} والأوثان كلها رجس.
فما الظنّ بفاتحة الكتاب التي لم ينزل في القرآن، ولا في التوراة، ولا في الإنجيل، ولا في الزبور مثلها؟!!
المتضمنة لجميع معاني كتب الله المشتملة على ذكر أصول أسماء الربّ تعالى ومجامعها، وهي الله، والرب، والرحمن، وإثبات المعاد، وذكر التوحيدين: توحيد الربوبية، وتوحيد الإلهية، وذكر الافتقار إلى الرب سبحانه في طلب الإعانة، وطلب الهداية، وتخصيصه سبحانه بذلك، وذكر أفضل الدعاء على الإطلاق، وأنفعه وأفرضه، وما العباد أحوج شيء إليه، وهو الهداية إلى صراطه المستقيم، المتضمن كمال معرفته، وتوحيده وعبادته بفعل ما أمر به، واجتناب ما نهى عنه، والاستقامة عليه إلى الممات، ويتضمن ذكر أصناف الخلائق، وانقسامهم إلى منعم عليه بمعرفة الحق، والعمل به، ومحبته، وإيثاره، ومغضوب عليه بعدوله عن الحق بعد معرفته له، وضال بعدم معرفته له، وهؤلاء أقسام الخليقة مع تضمنها لإثبات القدر والشرع، والأسماء والصفات، والمعاد، والنبوات، وتزكية النفوس، وإصلاح القلوب، وذكر عدل الله وإحسانه، والرد على جميع أهل البدع والباطل، كما ذكرنا ذلك في كتابنا الكبير " مدارج السالكين " في شرحها.
وحقيقٌ بسورة هذا بعضُ شأنها أن يُستشفى بها من الأدواء، ويرقى بها اللديغ)ا.هـ.

وخلاصة ما تقدّم أنّ من خواصّ سورة الفاتحة الرقية بها، ولا سيما من السمّ؛ فقد ثبت نفعها بالأدلّة الصحيحة، وانتفع كثير من الناس بالرقية بها.
والخواصّ تعمّ الرقى وغيرها، وقد ورد في جملة من الأحاديث الصحيحة ذكر بعض الخواصّ لبعض سور القرآن وآياته.
- فمن خواصّ سورة البقرة نفور الشياطين من البيت الذي تُقرأ فيه، كما دلّ على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: « إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة» رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
- ومن خواصّها ما ثبت من حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « اقرءوا سورة البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة» رواه مسلم.
وفي مسند الإمام أحمد عن بريدة بن الحصيب مرفوعاً نحوه.
وقال معاوية بن سلام: بلغني أن البطلة السحرة.
- ومن خواصّ آية الكرسي ما ثبت في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: وكَّلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان؛ فأتاني آتٍ فجعل يحثو من الطعام فأخذته؛ فقلت لأرفعنَّك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - فذكر الحديث - فقال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي، لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «صدقك وهو كذوب ذاك شيطان».
وقد روي في هذا المعنى عدد من الأحاديث.
وهذا من خواصّ آية الكرسي ودلائل تأثير قراءتها.
- ومن خواصّ آخر آيتين في سورة البقرة أنهما « لا تقرآن في دار ثلاث ليال فيقربها شيطان » كما في فضائل القرآن لأبي عبيد وسنن الدارمي والترمذي من حديث أبي قلابة الجرمي عن أبي الأشعث الصنعاني عن النعمان بن بشير رضي الله عنه مرفوعاً.

- ومن خواصّ القرآن ما ثبت من أثر فواتح سورة الكهف في العصمة من فتنة الدجال؛ كما في صحيح مسلم وغيره من حديث معدان بن أبي طلحة اليعمري، عن أبي الدرداء، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال».
وفي سنن أبي داوود من حديث عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه، عن النواس بن سمعان الكلابي، قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدجال، فقال: «إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم، وإن يخرج ولست فيكم، فامرؤ حجيج نفسه، والله خليفتي على كل مسلم، فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف، فإنها جِواركُم من فتنته» وأصل الحديث في صحيح مسلم.

ومحاولة استيعاب ما روي في الخواصّ من الأحاديث وتمييز صحيحها من ضعيفها أمرٌ يطول، وما ذُكر من الأمثلة كافٍ في التعريف بالمقصود، غيرَ أنه ينبغي التنبّه إلى توسّع بعض الرواة في هذا الباب؛ فقد رُويت فيه أحاديث كثيرة واهية الإسناد، ومنها ما هو معضود بدعوى تجربة قد تكون صحيحة، وقد تكون مكذوبة أو متوهّمة.

والدلالة الثانية: ما ثبت عن الصحابة رضي الله عنهم.
وقد روي عن الصحابة رضي الله عنهم في هذا الباب آثار كثيرة، وما يصحّ منها قليل.
فمن ذلك: ما رواه أبو داوود والبيهقي في الدعوات والضياء في المختارة من طريق النضر بن محمد، قال: حدثنا عكرمة -يعني ابن عمار- قال: وحدثنا أبو زميل، قال: سألت ابن عباس، فقلت: ما شيء أجده في صدري؟ قال: ما هو؟ قلت: والله ما أتكلم به، قال: فقال لي: أشيء من شك؟ قال: وضحك، قال: ما نجا من ذلك أحد، قال: حتى أنزل الله عز وجل: {فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك} الآية ، قال فقال لي: إذا وجدت في نفسك شيئا فقل: {هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم}).
وقد حسَّنه الألباني في السلسلة الصحيحة.

ومن أهل العلم من يعمل بما كان فيه ضعف يسير ومتنه غير منكر.
- ومن ذلك: ما رواه ابن أبي شيبة والطبراني من طريق محمد بن عبد الرحمن ابن أبي ليلى، عن الحكم بن عتيبة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: إذا عسر على المرأة ولدها، فيكتب هاتين الآيتين والكلمات في صحفة ثم تغسل فتسقى منها: «بسم الله لا إله إلا هو الحليم الكريم، سبحان الله رب السموات السبع ورب العرش العظيم» {كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها}، {كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار، بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون}).
وابن أبي ليلى يُضعّف في الحديث لسوء حفظه.
لكن هذا الأثر عمل به بعض الأئمة، بناء على أصل الإذن في الرقية، ولظهور المناسبة بين الحالة والرقية، ولكون الضعف في الإسناد غير شديد، ولوجود الحاجة وهي تعسّر الولادة.
قال الخلال: حدّثني عبد الله بن الإمام أحمد قال: رأيت أبي يكتب للمرأة إذا عسر عليها ولادتها في جام أبيض أو شيء نظيف، يكتب حديث ابن عباس رضي الله عنه: لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان الله رب العرش العظيم، الحمد لله رب العالمين، {كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ} ، {كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها}).
وقال ابن مفلح في الآداب الشرعية: (قال أحمد: يكتب للمرأة إذا عسر عليها ولدها في جام ٍأبيض أو شيء نظيف: (بسم الله الرحمن الرحيم: لا إله إلا الله الحليم الكريم...) فذكره بلفظه.
ثم قال: (ثُمَّ تُسقى منه، ويُنضح ما بقي على صدرها).

- ومن ذلك أيضا: ما رواه الدارمي وابن الضريس من طريق عاصم بن بهدلة عن عامر الشعبي، عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: «من قرأ أربع آيات من أول سورة البقرة، وآية الكرسي، وآيتين بعد آية الكرسي، وثلاثاً من آخر سورة البقرة، لم يقربه ولا أهله يومئذ شيطان، ولا شيء يكرهه، ولا يُقرَأْن على مجنون إلا أفاق».
عاصم يُضعَّف في الحديث، والشعبي لم يدرك ابن مسعود.

والآثار التي تصحّ عن الصحابة رضي الله عنهم في هذا الباب محمولة على أحد أمرين:
الأول: أن تكون مما تعلّموه من النبي صلى الله عليه وسلم.
والثاني: أن تكون مما فعلوه اجتهاداً بناء على أصل الإذن الشرعي.

وأما الآثار المروية عن الصحابة رضي الله عنهم بأسانيد واهية في هذا الباب فكثيرة لا ينبغي أن يُغترّ بها، ولا تقبل في هذا الباب إلا أن تظهر المناسبة بين الآيات والحالة ولا يكون في المتن ما ينكر فتؤخذ على أنّها رقية لا على اعتقاد ثبوتها عن الصحابة رضي الله عنهم.
ومن ذلك: ما رواه البيهقي في الدعوات من طريق الحَسَن بن عمارة عن الحكم بن عتيبة عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (إذا استصعبت دابة أحدكم أو كانت شَموساً فليقرأ هذه الآية في أذنها {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ}).
الشَّموس: المتمنّعة.
والحسن بن عمارة متروك الحديث.

الدلالة الثالثة: ما ثبت عن الصالحين من التابعين وتابعيهم.
- ومن ذلك: ما رواه سعيد بن منصور والدارمي من طريق أبي الأحوص، عن أبي سنان الشيباني، عن المغيرة بن سبيع العجلي أنه قال: (من قرأ عند منامه آيات من البقرة لم ينسَ القرآن: أربع آيات من {وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم}، وآية الكرسي، والثلاث آيات من آخرها).
والمغيرة تابعي ثقة من أصحاب ابن مسعود رضي الله عنه، والإسناد إليه صحيح.

واشتهر في هذا الباب عن جماعة من التابعين ما لا يصحّ عنهم.
- ومن ذلك: ما رواه أبو عبيد في فضائل القرآن والدارمي في سننه عن محمد بن كثير، عن الأوزاعي، عن عبدة بن أبي لبابة، قال: سمعت زِرَّ بنَ حبيش، يقول: «من قرأ آخر سورة الكهف لساعةٍ يريد أن يقومها من الليل قامها»
قال عَبْدَة: فجربناه، فوجدناه كذلك.
قال أبو عبيد: (وقال ابن كثير: وقد جربناه أيضا في السرايا غير مرة، فأقوم في الساعة التي أريد. قال: وأبتدئ من قوله: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا خالدين} إلى آخرها).
محمد بن كثير المصيصي قال فيه الإمام أحمد: منكر الحديث، وقال البخاري: ليّن جدا، وقال ابن عدي: (له روايات عن معمر، والأوزاعي خاصة عداد لا يتابعه عليها أحد).
فهذا الأثر لا يثبت عن زرّ.
- ومن ذلك نشرة وهب بن منبّه المذكورة في جامع معمر بن راشد من غير إسناد.
قال عبد الرزاق: وفي كتب وهب: «أن تؤخذ سبع ورقات من سدر أخضر فيدقه بين حجرين، ثم يضربه في الماء، ويقرأ فيه آية الكرسي، وذوات قل، ثم يحسو منه ثلاث حسوات، ويغتسل به، فإنه يذهب عنه كل ما به إن شاء الله، وهو جيد للرجل، إذا حبس من أهله».
على أنّ هذه النشرة يعمل بها بعض أهل العلم من باب الرقية لا على اعتقاد ثبوتها.
- ومن ذلك أيضاً ما رواه ابن أبي حاتم في تفسيره عن أبي جعفر الرازي عن ليث بن أبي سليم أنه قال: (بلغني أن هؤلاء الآيات شفاء من السحر بإذن الله تقرأ في إناء فيه ماء ثم يصب على رأس المسحور الآية التي في سورة يونس: {فلما ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون} والآية الأخرى: {فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون} إلى انتهاء أربع آيات، وقوله: {إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى}).
وليث بن أبي سليم ضعيف الحديث، ولم يسمّ من أخذ عنه هذه الرقية.

الدلالة الرابعة: الاجتهاد في إدراك التناسب بين الآيات والأحوال المخصوصة.
ومن ذلك أن يرقي الراقي كلَّ حالة بما يناسبها من الآيات، وقد ورد عن جماعة من العلماء استعمال ذلك:
ومن أمثلته:
- أن الإمام أحمد بن حنبل بلغه أنّ صاحبه المرّوذِيّ أصابته حُمّى؛ فكتب إليه رقعة فيها: (بسم الله الرحمن الرحيم، بسم الله، وبالله، محمد رسول الله، {قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم . وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين}، اللهم رب جبرائيل، وميكائيل، وإسرافيل، اشف صاحب هذا الكتاب بحولك وقوتك وجبروتك، إله الحق آمين).
فهذه الرقية فيها معنى التوسّل إلى الله تعالى بقدرته على جعل النار برداً وسلاماً على إبراهيم أن يذهب عن المحموم حرارة الحمّى التي من فيح جهنّم.
- وذكر ابن القيّم رحمه الله في زاد المعاد أن شيخ الإسلام ابن تيمية كان يكتب على جبهة الراعف: {وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر}.
قال: وسمعته يقول: (كتبتها لغير واحد فبرأ) وقال: (لا يجوز كتابتها بدم الراعف، كما يفعله الجهال، فإن الدم نجس، فلا يجوز أن يكتب به كلام الله تعالى).
وهذه الرقية مبناها على التوسّل إلى الله تعالى بقدرته على إيقاف انهمار المطر الشديد الذي جعله عذاباً على قوم نوح، وأَمْرِهِ الأرض أن تبلعَ ماءها حتى غاض الماء وقضى الله الأمر؛ فيتوسّل إليه تعالى أن يأمر جَسد المرعوف بإيقاف نزفه دمه، وأن يُذهب عنه ما يجد من ذلك النزف.
فدلالة المناسبة ظاهرة؛ فالأرض والجسد من خلق الله تعالى، ومن قدر على تلك الآية العظيمة من تصريف ماء الطوفان العظيم لا يعجزه أن يشفي المرعوف من رعافه.
وهذا التوسّل إذا صدر من قلب مؤمنٍ موقنٍ متوكّلٍ على الله مفتقرٍ إليه نفع بإذن الله.
- وذكر ابن القيّم رحمه الله في زاد المعاد أيضاً كتاباً لمن تعسّرت ولادتها، قال: (يكتب في إناء نظيف: {إذا السماء انشقت - وأذنت لربها وحقت - وإذا الأرض مدت - وألقت ما فيها وتخلت} وتشرب منه الحامل، ويرش على بطنها).
- وكتب بعض أهل العلم لمن تعسّرت ولادتها سورة الزلزلة.
- ومن هذا الباب أيضاً رقية الثآليل بقوله تعالى: {ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفاً} لظهور المناسبة بأنّ القادر على نسف الجبال لا يعجزه إزالة الثآليل.
- وقال ابن القيّم رحمه الله في مدارج السالكين: (كان شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - إذا اشتدت عليه الأمور: قرأ آيات السكينة.
وسمعته يقول في واقعة عظيمة جرت له في مرضه، تعجز العقول عن حملها - من محاربة أرواح شيطانية، ظهرت له إذ ذاك في حال ضعف القوة - قال: فلما اشتد علي الأمر، قلت لأقاربي ومن حولي: اقرءوا آيات السكينة، قال: ثم أقلع عني ذلك الحال، وجلست وما بي قَلَبَة.
وقد جربت أنا أيضا قراءة هذه الآيات عند اضطراب القلب بما يرد عليه. فرأيت لها تأثيرا عظيما في سكونه وطمأنينته)ا.هـ.
- ومن هذا الباب أن يقرأ من يجد ضيقاً في صدره سورة الشرح فيجد راحة وانشراحاً.
- ومن ذلك أن يقرأ من يخشى عدوّا يتربّص به قول الله تعالى: {وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يُبصرون}، وقول الله تعالى: {وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً مستورا}.
وهذا مبناه على التوسل بقدرة الله تعالى في أمر مخصوص مناسب لحالة المتوسّل وكربه، ولو كان العدوّ الذي يخافه مسلماً ظالماً فالتوسّل هو بالقدرة وهي معنى متحقق.
وقد رُوي أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قرأ آية يس على رَصد أحاط به من كفار قريش فخرج من بينهم وهم لا يبصرون حتى جعل على رؤوسهم التراب، وهذه الحادثة من رواية الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، وقد اشتهرت في كتب السيرة وهي لا تصح لوهاء سندها.
لكن استعملها كثير من الصالحين، وانتفعوا بها في مثل هذه الأحوال.

والخلاصة في هذا الباب أن يقرأ صاحب كلّ بلاء ما يناسب بلاءه من السور والآيات؛ فيجد فيما يقرأ ما يشفي صدره، ويطمئن قلبه، ويتبصّر به سبيل الهدى فيما هو فيه، ويتوسّل إلى الله تعالى بآياته الباهرة، وقدرته الظاهرة، وعزّته القاهرة، ورحمته وإحسانه على أن يذهب عنه ما يجد ويحاذر، وأن يحفظه ويلطف به.
وقيام هذا الباب بالافتقار إلى الله تعالى والتوسّل إليه بآياته وما دلّت عليها من صفاته الجليلة لدفع أنواع من البلاء والكروب، وسؤال الله من فضله). [بيان فضل القرآن:162 - 178]

جمهرة علوم القرآن 22 محرم 1439هـ/12-10-2017م 06:12 PM

التحذير من الغلوّ في باب خواصّ القرآن

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (التحذير من الغلوّ في باب خواصّ القرآن
وليحذر المسلم من الغلوّ في هذا الباب؛ فإنّه قد قاد الغلاة إلى فساد كبير، وضلال مبين، وانحلال من الدين، والعياذ بالله.
ومن ذلك ما ابتدعه بعض الصوفية الغلاة في خواصّ القرآن من دعاوى وضلالات، واستعمال أشياء غير معقولة المعنى
من رسوم وأحوال، وجداول وأوفاق تبيّن للمحققين أنها من طلاسم السحر، لكنّهم موّهوا بها على أتباعهم، وسموّا الأمور بغير أسمائها، فسمّوا الشياطين الذين يتقرّبون إليهم خُدّام الآيات، وسمّوا الاستغاثات الشركية عزائم، وسمّوا غرائب أسماء الشياطين أسراراً، ولولا خشية الإغراء بها مع ضعف النفوس لذكرت أمثلة مما ذكروه في هذا الباب مما يدلّ على ضلالهم وتضليلهم وبعدهم عن هدى القرآن، وتلبيسهم على الناس.
وقد اعترف بذلك بعضُ مَنْ مَنَّ الله عليه بالتوبة من السِّحْر من أصحاب تلك الطرق، وذكر أنه كان يعتقد أنه يكلّم الملائكة ويخاطبهم، وأنّ ما هو فيه إنما هو من الكرامات التي يُؤتاها الأولياء والأقطاب عندهم.
وتلا قول الله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42)}
ثم قال ما معناه: كانت هذه حالنا، كنا نظنّ أننا نخاطب الملائكة ونتقرب إليهم ويخدموننا؛ فإذا بهم شياطين.

والمقصود أن غلاة الصوفية قد أدخلوا على الأمّة من هذا الباب شرّا عظيماً، وبلاء وفتنة ضلّ بها طوائف من أتباع الطُّرُق والعامّة المخدوعين بضلالاتهم؛ فلبسوا الحق بالباطل، وموّهوا على الجهّال والعامّة، وروّجوا أباطيلهم وأسحارهم باسم خواصّ القرآن، وكان منهم من يكتب الحُجب والتمائم ويبيعها، ويزعم أنّ فيها من الخواصّ ما يدفع البلاء، ويجلب السعد، ويحفظ من العين والعدوّ، وأكلوا أموال الناس بالباطل والتمويه والتضليل.

ولكبار الصوفية مؤلفات فيما يدّعون أنّه من "خواصّ القرآن" فيها غلوّ وضلال مبين، ومنها:
1. كتاب "خواصّ القرآن الحكيم" لمحمّد بن أحمد بن سعيد التميمي (ت: 390هـ)، ولم أقف على كتابه، لكن ذُكرت عنه عظائم، وله مخطوطات يعتني بها السحرة.
2. ورسالة في "خواص بسم الله الرحمن الرحيم" لأحمد بن علي بن يوسف البوني (622هـ).
3. وكتاب "العقد المنظوم فيما تحتويه الحروف من الخواص والعلوم" لابن عربي الطائي (ت:638هـ) زعيم الصوفية في زمانه ، وهو كتاب سحرٍ ضمّنه ما ادّعى فيه أنه من خواص القرآن لقضاء الحاجات ودفع المضار تدليساً وتمويهاً.
4. وكتاب "السر الجليل في خواص حسبنا الله ونعم الوكيل " لأبي الحسن الشاذلي (ت: 656هـ ) زعيم الطريقة الشاذلية، وكتابه هذا كتاب سحر في حقيقته.
5. وكتاب "فضائل القرآن وخواصها" لأبي بكر الغساني الودياشي (ت696هـ).
6. وكتاب "البرهان والدليل في خواصّ سور التنزيل" لابن منظور القيسي الأندلسي (ت:750هـ)
7. وكتاب "الدر النظيم في خواصّ القرآن العظيم" لعبد الله بن أسعد اليافعي (ت:768هـ) وكان صوفيّاً أشعرياً متعصّبا، ومبالغاً في تعظيم ابن عربي وعلومه، وكانت الصوفيّة في زمانه تعظّمه وتقدّمه، وكتابه هذا قد أكثر فيه من الموضوعات والأباطيل، وذكر فيه تقاسيم وجداول وأوفاق، وتراسيم يذكرها لقضاء الحاجات؛ كلّها بواطيل تدلّ على اعتمادهم على طرق السحر وتلبيس صناعتهم لباس خواصّ القرآن وأسراره.

وكتب الصوفيّة في هذا الباب كثيرة، والمقصود التنبيه على باطلها بذكر أمثلة منها؛ فليحذرها طلاب العلم، وليحذّروا من اغترّ بها.
وما يذكرونه مما يُحذّر منه في هذا الباب على صنفين:
1. صنف حقيقته سحر وتقرّب إلى الشياطين بأعمال بدعية، ورسوم وأحوال وهيئات، واستغاثات وعزائم.
2. وصنف دعاوى مجرّدة، وكذب على الصالحين بذكر تجارب مزعومة، ودعاوى متوهّمة.
ومن ذلك ما ذُكر عن ابن منظور القيسي في خواصّ قوله تعالى: {واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين} أنه نسب إلى ابن الجوزي رحمه الله أن من خواصّها أنها تُقرأ عند شراء البطّيخ، فمن أراد ذلك فليقرأها سراً وهو يقلب البطيخ فإنه يرشد إلى طيب ما فيها، فإذا أراد أكلها قرأ عليها عند شقها بالسكين {فذبحوها وما كادوا يفعلون} فإنه يجدها طيبة إن شاء الله تعالى.
فهذا كذب بيّن على ابن الجوزيّ رحمه الله.

وقد كتب في هذا الباب من غير الصوفية مَن خلط فيه وأساء، وجمع فيه ما يجمع حاطب الليل من الغثّ والسمين، والضعيف والصحيح، والباطل المكذوب، والحكايات البليدة التي تلوح عليها أمارات الكذب والاختلاق.
ومنهم من يأتي بدعاوى منكَرة كما قال الشاه ولي الله بن عبد الرحيم الدهلوي في كتابه "الفوز الكبير في أصول التفسير": (تكلمت طائفة من المتقدمين في خواص القرآن من ناحيتين: إحداهما ما يشبه الدعاء، والثانية ما يشبه السحر، أعوذ بالله منه، ولكنَّ الله تعالى فتح على الفقير باباً وراء ما نُقل من خواصّ القرآن، وألقى في حجري الأسماء الحسنى والآيات العظمى والأدعية المباركة مرة واحدة، وقال: إنها عطاؤنا للتصريف، إلا أن كل آية واسم ودعاء مشروط بشروط لا تضبطها قاعدة من القواعد، بل قاعدتها انتظار عالم الغيب، كما يكون في حالة الاستخارة، حتى ينظر بأي آية أو اسم يشار عليه من عالم الغيب ثم يتلو الآية أو الاسم على طريق من الطرائق المعلومة لدى أهل هذا الفن)ا.ه.
وكلام الدهلوي هذا ضرب من الجهل والغلو في هذا الباب، ودعواه هذه منكرة جداً،
وهو وإن لم يكن معدودا من الصوفية، بل ذكر عنه ما يدل على منابذتهم والتحذير منهم وإصلاح ما أفسدوه في بلاد الهند إلا أنّه لم يسلم من التأثّر بهم في بعض الأبواب، فكلامه فيها مضطرب غير مقبول.
وإنما أوردته للتنبيه على أنّ بعض ما يكتب في هذا الباب غلوّ وابتداع حتى يُحذر مما يُكتب باسم "خواصّ القرآن" جهلاً وتخليطاً أو تمويهاً وتلبيساً، وحقيقته
لغو وتضليل، أو سحر وتدجيل.

***
اللهمّ اغفر لنا ذنوبنا وخطايانا، ووفّقنا لاتّباع رضوانك، ومنّ علينا بفضلك وإحسانك، وأصلح لنا شؤوننا كلها، لا إله إلا أنت.
وصلى الله وسلّم على نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين). [بيان فضل القرآن:179 - 183]


الساعة الآن 06:35 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
جميع الحقوق محفوظة