جمهرة العلوم

جمهرة العلوم (http://jamharah.net/index.php)
-   توجيه القراءات (http://jamharah.net/forumdisplay.php?f=1080)
-   -   توجيه القراءات في سورة البقرة (http://jamharah.net/showthread.php?t=27802)

جمهرة علوم القرآن 1 صفر 1440هـ/11-10-2018م 07:56 AM

سورة البقرة
[من الآية (272) إلى الآية (274)]

{لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272) لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)}

قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272)}

قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (يحسبهم الجاهل أغنياء... (273).
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو والكسائي والحضرمي (يحسبهم) و(يحسبون " و(يحسب) بكسر السين في كل القرآن.
وقرأ ابن عامر
[معاني القراءات وعللها: 1/230]
وحمزة وعاصم بفتح السين في ذلك كله.
قال أبو منصور: هما لغتان معروفتان عن العرب، على (فعل يفعل) حسب يحسب، والكسر لغة أهل الحجاز، والفتح لغة تميم، وحسب يحسب. جاء نادرا، ومثله من باب السالم: نعم ينعم، وزاد بعضهم يئس ييئس وييأس). [معاني القراءات وعللها: 1/231]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (41- وقوله تعالى: {يحسبهم الجاهل أغنياء} [273]
قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة بفتح السين في جميع القرآن.
وقرأ الباقون بكسر السين، فمن فتح السين، ذهب إلى محض العربية أن ما كان ماضيه بالكسر كان مستقبله بالفتح نحو: قضم يقضم، وعلم يعلم.
ومن كسر السين وهو الاختيار ذهب إلى أن العرب تفتح الفعل المستقبل إذا كان ماضيه مكسورًا إلا أربعة أحرف، فإنه جاء على فعل يفعل نحو: حسب يحسب، ونعم ينعم، ويبس ييبس، ويئس ييئس، ومع هذا فإنه لغة رسول الله صلى الله عليه وسلم). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/103]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في كسر السين وفتحها من قوله جلّ وعزّ: يحسبهم [البقرة/ 273] وتحسبنّ [آل عمران/ 278].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو والكسائي: يحسبهم وتحسبنّ بكسر السين في كلّ القرآن.
وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة: يحسبهم، وتحسبنّ. بفتح السين في كلّ القرآن.
وقال هبيرة عن حفص أنّه كان يفتح ثم رجع إلى الكسر.
قال أبو عليّ: قال أبو زيد: يقال: حسبت الشّيء أحسبه وأحسبه حسبانا. وحكى سيبويه أيضا: حسب يحسب ويحسب. وقال أبو زيد: حسبت ذلك الحقّ حسابا وحسابة من الحساب، فأنا أحسبه. قال أبو زيد: وقال رجل من بني نمير: حسبانك على الله أي: حسابك على الله، وقال الشاعر:
[الحجة للقراء السبعة: 2/402]
على الله حسباني إذا النّفس أشرفت... على طمع أو خاف شيئا ضميرها
وأحسبت الرجل إحسابا إذا أطعمته وسقيته حتى يشبع ويروى، وتعطيه حتى يرضى.
قال أبو علي: القراءة بتحسب بفتح السّين أقيس، لأنّ الماضي إذا كان على فعل نحو حسب، كان المضارع على يفعل مثل: فرق يفرق، وشرب يشرب، وشذّ يحسب فجاء على يفعل في حروف أخر. والكسر حسن لمجيء السمع به، وإن كان شاذا عن القياس). [الحجة للقراء السبعة: 2/403]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف}
قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة {يحسبهم} بفتح السّين وقرأ الباقون بالكسر وهما لغتان حسب يحسب وحسب يحسب وقال قوم يحسب بكسر السّين من حسب وقالوا وقد جاءت كلمات على فعل يفعل مثل حسب يحسب ونعم ينعم ويئس ييئس). [حجة القراءات: 148]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (198- قوله: «يحسبهم، ويحسبن» قرأه عاصم وحمزة وابن عامر
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/317]
بفتح السين، حيث وقع إذا كان مستقبلًا، وكسر الباقون وهما لغتان مشهورتان، يقال: حسب يحسَب ويحسِب، والفتح أقوى في الأصول؛ لأن «فعل» في الماضي إنما يأتي مستقبله على «يفعل» بالفتح في الأكثر، والكسر فيه لغة شذت عن القياس، وله نظائر أتت بالكسر في المستقبل والماضي مسموعة، وروي أن النبي عليه السلام كان يقرأ بكسر السين، وهي لغة حجازية، وهو الاختيار). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/318]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (102- {يَحْسَبُهُمُ} [آية/ 273]:-
بفتح السين، قرأها ابن عامر وعاصم وحمزة، وكذلك يحسب في كل القرآن، وذلك لأن فتح السين أقيس، فإن الماضي إذا كان فعل بكسر العين كان القياس في مضارعه أن يكون على يفعل بفتح العين نحو: فرق يفرق وشرب يشرب. وقرأ الباقون بكسر السين في جيمع القرآن، لمجيء السماع، فقد جاء فعل يفعل بالكسر فيهما جميعًا في حروف قليلة، مع شذوذه عن القياس). [الموضح: 349]

قوله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)}

روابط مهمة:
- أقوال المفسرين

جمهرة علوم القرآن 1 صفر 1440هـ/11-10-2018م 07:57 AM

سورة البقرة
[من الآية (275) إلى الآية (276) ]

{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)}


قوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275)}

قوله تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)}

روابط مهمة:
- أقوال المفسرين

جمهرة علوم القرآن 1 صفر 1440هـ/11-10-2018م 07:58 AM

سورة البقرة
[من الآية (277) إلى الآية (281)]

{إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)}

قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277)}

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278)}
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة الحسن: [اتقوا الله وذروا ما بَقِيْ من الربا] بكسر القاف وسكون الياء.
قال أبو الفتح: قد سبق ما في سكون هذه الياء المكسور ما قبلها في موضع النصب والفتح بشواهده، ومنه قول جرير:
هو الخليفة فارضَوْا ما رضِي لكم ... ماضي العزيمة ما في حكمه جَنَفُ). [المحتسب: 1/141]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك ما رواه ابن مجاهد عن أبي زيد عن أبي السمال: أنه كان يقرأ: [ما بقِي مِن الرِّبُو] مضمومة الباء ساكنة الواو.
قال أبو الفتح: في هذا الحرف ضربان من الشذوذ:
أحدهما: الخروج من الكسر إلى الضم بناء لازمًا.
والآخر: وقوع الواو بعد الضمة في آخر الاسم، وهذا شيء لم يأتِ إلا في الفعل نحو: يغزو ويدعو ويخلو، فأما "ذو" الطائية التي بمعنى الذي نحو قوله:
لأَنْتحيا للعظم ذو أنا عارقه
فشاذ، وعلى أن منهم مَن يغير هذه الواو إذا فارق الرفع فيقول: رأيت ذا قام وأخوه، ومررت بذي قام أخوه.
وسألت أبا علي عن حكاية أبي زيد "فعلتُه من ذي إلينا"، فقال: أراد من الذي إلينا.
فقلت: فهذا يوجب عليه أن يقول: من ذو إلينا.
فقال -وهو كما قال: قد تغير هذه الواو في النصب والجر، وعلى أن "ذو" هذه لما كانت موصولة وقعت واوها حشوًا فأَشبهت واو طُومار، كما أَشبهت عند صاحب الكتاب ياء معديكرب ياء دردبيس.
والذي ينبغي أن يُتعلَّل به في الرِّبُو بالواو هو أنه فخَّم الألف انتحاء بها إلى الواو التي الألف بدل منها على حد قولهم: الصلاة والزكاة، وكمشكاة، وكقولهم: عالم وسالم وسالف وآنف، وكأنه بيَّن التفخيم فقوي الصوت فكان الواو أو كاد، إلا أن الراوي أبو زيد، وما أبعده مع علمه وفقهه باللغة من أن تتطرق ظِنَّةٌ عليه في تحصيل ما يسمعه.
فإن قلت: فلعله شبه ذوات العلة بذوات الهمز فوقف على الواو، كما قالوا: هو الرِّدُو والبُطُو.
قيل: هذه الواو إنما تكون مع الهمزة في هذا الكَلَو ومررت بالكَلَيْ في موضع الرفع، وموضع
[المحتسب: 1/142]
الرِّبُو جر بمن في قوله: [مِنَ الرِّبُو]، وعلى أن الكَلو مفتوح ما قبل الواو، والباء من الرِّبُو مضمومة، وعلى أي الأمر حملته فهو شاذ). [المحتسب: 1/143]

قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (فأذنوا بحربٍ من اللّه ورسوله... (279).
قرأ عاصم في رواية أبي بكر، وحمزة: (فآذنوا) بالمد وكسر الذال.
وقرأ الباقون وحفص عن عاصم: (فأذنوا) مقصورا، وفتحوا الذال: قال أبو منصور: من قرأ (فآذنوا) بالمد، المعني: فأعلموا من وراءكم أن
[معاني القراءات وعللها: 1/231]
كل من لم يترك الربا فهو حرب، يقال: آذتته أوذنه، إذا أعلنته.
ومن قرأ (فأذنوا) بالقصر فمعناه: فاعلموا وأيقنوا بحرب من الله، يقال: أذنت آذن إذنًا، إذا علمت الشيء واستيقتت به، وأذن يأذن إذنًا، إذا سمعت.
وقوله جلّ وعزّ: (لا تظلمون ولا تظلمون (279).
روى المفضل عن عاصم: (لا تظلمون ولا تظلمون).
وقرأ الباقون بفتح الأولى وضم الثانية.
قال أبو منصور: المعنى: (لكم رءوس أموالكم لا تظلمون بأن تأخذوا أكثر منها، ولا تظلمون بأن تنقصوا من رءوس أموالكم شيئا، والتأخير والتقديم لا يغيّر المعنى، غير أن أجود القراءتين: (لا تظلمون) على أنهم فاعلون، و(لا تظلمون) على أنهم مفعولون). [معاني القراءات وعللها: 1/232]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (3- وقوله تعالى: {فأذنوا بحرب من الله} [279].
قرأ حمزة وعاصم في رواية أبي بكر {فآذنوا} بالمد وكسر الذال.
وقرأ الباقون بالقصر أرادوا {فأذنوا} أنتم، أي: اعلموا وكونوا على علم، ومن مد أراد: فآذنوا غيركم). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/103]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في قوله تعالى: فأذنوا [البقرة/ 279] في مدّ الألف وقصرها وكسر الذّال وفتحها.
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر والكسائي فأذنوا مقصورة مفتوحة الذال.
وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وحمزة فآذنوا ممدودة مكسورة الذّال. وروى حفص عن عاصم والمفضّل فأذنوا مقصورة.
حدثني وهيب بن عبد الله [المروزي] عن الحسن بن المبارك عن [أبي حفص] عن عمرو بن الصبّاح عن أبي
[الحجة للقراء السبعة: 2/403]
يوسف الأعشى عن أبي بكر عن عاصم أنّه قال: فأذنوا وفآذنوا ممدودا ومقصورا.
قال أبو علي: قال سيبويه: آذنت: أعلمت، وأعلمت:
آذنت، وأذّنت: النداء، والتصويت بالإعلام. قال: وبعض العرب يجري آذنت مجرى أذّنت، فمن أذّن الّذي معناه: التصويت والنداء قوله: ثمّ أذّن مؤذّنٌ أيّتها العير إنّكم لسارقون [يوسف/ 70] فالأشبه في هذا الإعلام بالتصويت لقوله:
أيّتها العير إنّكم لسارقون فالتقدير: يقال: إنّكم لسارقون.
فأمّا قوله: فأذّن مؤذّنٌ بينهم أن لعنة اللّه على الظّالمين [الأعراف/ 44]. فإنّ قوله: بينهم يحتمل أمرين:
الأحسن فيه: أن يكون بينهم ظرفا لمؤذن، كما تقول:
أعلم وسطهم ولا تجعله صفة للنكرة؛ لأنّك توصله بالباء إلى أن، واسم الفاعل إذا أعمل عمل الفعل، لم يوصف، كما لا يصغّر، لأنّ الصفة تخصيص والفعل وما أجري مجراه لا يلحقه تخصيص، والتصغير كالوصف بالصغر فمن ثمّ لم يستحسن: هذا ضويرب زيدا، كما لا يستحسن: هذا ضارب ظريف زيدا، ولأنّك في هذا أيضا تفصل بين العامل والمعمول بالأجنبي.
[الحجة للقراء السبعة: 2/404]
وإن شئت جعلت «بينهم» صفة، وقلت: إنّ معنى الفعل قد يعمل في الجارّ ويصل إليه، ألا ترى أنّك تقول: هذا مارّ أمس بزيد، فيصل اسم الفاعل إذا كان لما مضى؟ والمعنى:
بأن لعنة الله، فإن شئت جعلت الباء متعلقة بمؤذّن مع أنّه قد وصف، وإن شئت جعلت «بين» ظرفا للمؤذن لا صفة، وإن شئت جعلته متعلقا بأذّن، كلّ هذا لا يمتنع.
فأما قوله: وأذانٌ من اللّه ورسوله إلى النّاس يوم الحجّ الأكبر أنّ اللّه بريءٌ من المشركين [التوبة/ 3] فإن قوله: من اللّه صفة فيها ذكر من الموصوف، وكذلك إلى النّاس ولا يكون من صلة أذان لأنّه اسم، وليس بمصدر، ومن أجرى هذا الضرب من الأسماء مجرى المصادر، فينبغي أن لا يعلّق به هذا الجارّ، ألا ترى أنّ المصدر الّذي هذا منه، لا يصل بهذا الحرف كما يصل قوله: براءةٌ من اللّه ورسوله [التوبة/ 1] به؟ كقوله:
برئت إلى عرينة من عرين وإذ تبرّأ الّذين اتّبعوا من الّذين اتّبعوا [البقرة/ 166]
[الحجة للقراء السبعة: 2/405]
فأمّا قوله: يوم الحجّ الأكبر [التوبة/ 3] فيجوز أن يتعلق بالصفة ويجوز أن يتعلق بالخبر الذي هو ب أنّ اللّه.
ولا يجوز أن يتعلق ب أذانٌ لأنك قد وصفته، والموصوف إذا وصفته لم يتعلق بشيء ولا بدّ من تقدير الجارّ في قوله:
(بأن الله) لأنّ: أنّ اللّه بريءٌ من المشركين لا يكون الإعلام، كما يكون الثاني الأول في قولك: خبرك أنّك خارج.
فأمّا قوله تعالى: فقل آذنتكم على سواء [الأنبياء/ 109]، فقوله: على سواء يحتمل ضربين: أحدهما أن يكون صفة لمصدر محذوف، والآخر: أن يكون حالا، فإذا جعلته وصفا للمصدر كان التقدير: آذنتكم إيذانا على سواء.
ومثل وصف المصدر هاهنا، قوله تعالى: كتب عليكم الصّيام كما كتب على الّذين من قبلكم [البقرة/ 183] التقدير: كتب عليكم الصيام كتابة كما كتب على الذين، فحذف المصدر، فكذلك يحذف في قوله: آذنتكم على سواء [الأنبياء/ 109] وفيه ذكر من المحذوف، ومعنى إيذانا على سواء: أعلمتكم إعلاما نستوي في علمه لا أستبدّ أنا به دونكم لتتأهبوا لما يراد منكم. وقال أبو عبيدة: إذا أنذرته وأعلمته فأنت وهو على سواء.
[الحجة للقراء السبعة: 2/406]
وأمّا إذا جعلته حالا، فإنّه يمكن فيه ثلاثة أضرب:
أحدها: أن يكون حالا من الفاعل.
والآخر: أن يكون من المفعول به.
والثالث: أن يكون منهما جميعا على قياس ما جاء من قول عنترة:
متى ما تلقني فردين ترجف... روانف أليتيك وتستطارا
وما أنشده أبو زيد:
إن تلقني برزين لا تغتبط به وكذلك قوله تعالى: فانبذ إليهم على سواءٍ
[الحجة للقراء السبعة: 2/407]
[الأنفال/ 58]، قياسه قياس قوله: آذنتكم على سواء، قال أبو عبيدة معناه الخلاف والغدر في هذا الموضع فانبذ إليهم على سواءٍ: فأظهر لهم أنّك عدو وأنّك مناصب لهم. فأمّا قوله:
آذناك ما منا من شهيد [فصلت/ 47] فإن شئت جعلته مثل:
علمت أزيد منطلق؟ وإن شئت جعلته على معنى القسم، كما قال:
ولقد علمت لتأتينّ منيّتي فإن قلت: إنّ عامّة ما جاء مجيء القسم لم يتعدّ إلى مفعول به كقولهم: علم الله لأفعلنّ.
قيل: قد جاء: وأقسموا باللّه جهد أيمانهم [فاطر/ 42]، [النور/ 53] متعديا بالحرف.
وقد قرأ حمزة: وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب
[الحجة للقراء السبعة: 2/408]
وحكمة [آل عمران/ 81] وقد أجيب بما يجاب به القسم، فكذلك قوله: آذناك يكون على القسم، وإن كان قد تعدّى إلى مفعول به.
وبعد فإذا جاء نفس القسم متعديا إلى المفعول به نحو: بالله، ونحو: الله لأفعلنّ، فما يقوم مقامه، ينبغي أن يكون في حكمه.
وأمّا قوله: وأذنت لربّها وحقّت [الانشقاق/ 2، 5] فقد فسّر أذنت أنها استمعت،
وفي الحديث: «ما أذن الله لشيء كإذنه لنبيّ».
وقال عديّ:
في سماع يأذن الشّيخ له... وحديث مثل ماذيّ مشار
وأنشد أبو عبيدة:
صمّ إذا سمعوا خيرا ذكرت به... وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا
[الحجة للقراء السبعة: 2/409]
وأما قول عدي:
أيها القلب تعلّل بددن... إنّ همّي في سماع وأذن
فالسماع مصدر يراد به المسموع نحو: الخلق والمخلوق، والصيد والمصيد، يدلّك على ذلك أنّه لا يخلو من أن يكون على ما ذكرنا، أو على أنّه السماع الذي هو الاستماع، فلا يستقيم هذا؛ لأنّ المعنى يكون: إنّ همي في سماع وسماع، وليس هكذا، ولكن إنّ همي في مسموع، أي في غناء واستماع له.
وأمّا قوله: وإذ تأذّن ربّك [الأعراف/ 167] فقد قدّمنا ذكر ما قاله سيبويه: من أنّ من العرب من يجعل أذّن وآذن
[الحجة للقراء السبعة: 2/410]
بمعنى، كأنّه جعله بمنزلة سمّى وأسمى، وخبّر وأخبر، فإذا كان أذّن: أعلم في لغة بعضهم، فتأذّن: تفعّل من هذا، وليس تفعّل هاهنا بمنزلة: تقيّس وتشجّع، ولكنّه بمنزلة فعّل، كما أنّ تكبّر في قوله سبحانه: الجبّار المتكبّر [الحشر/ 23] ليس على حدّ: تكبّر زيد، إذا تعاطى الكبر، ولكنّ المتكبر بمنزلة الكبير، كما أنّ قوله عزّ وجلّ: وتعالى عمّا يقولون [الإسراء/ 43] تقديره: وعلا، وليس على حدّ تعاقل وتغاشى إذا أظهر شيئا من ذلك ليس فيه.
فبناء الفعلين يتفق والمعنى يختلف، وكذلك تأذّن بمنزلة علم ومثل تفعّل، في أنّه يراد به فعل قول زهير:
تعلّم أنّ شرّ النّاس قوم... ينادى في شعارهم يسار
وكذلك قوله:
تعلّماها لعمر الله ذا قسما... فاقصد بذرعك وانظر أين تنسلك
[الحجة للقراء السبعة: 2/411]
ليس يريد: تعلّم هذا عن جهل به، إنّما يريد به:
اعلم، كأنّه ينبهه ليقبل على خطابه. ومثله:
تعلّمن أنّ الدّواة والقلم... تبقى ويفني حادث الدّهر الغنم
وهذا كثير يريدون به: اعلم، وليس يريدون تعلّم كما يريدون بقولهم: تعلّم الفقه، إنّما يريدون: اعلم.
فكذلك تأذّن معناه: علم. ومما يدل على أنّ معناه العلم، وقوع لام اليمين بعدها كما تقع بعد العلم في نحو:
علم الله لأفعلنّ، فكأنّ المعنى في تأذّن: علم ليبعثنّ عليهم إلى يوم القيامة، وليس هو من الاستماع نحو: أذنت لربّها وحقّت [الانشقاق/ 2] ونحو: «ما أذن الله لشيء» ألا ترى أنّك لو قلت سمع ليفعلنّ، أو تسمّع ليفعلن، لم يسهل ذلك كما يكون في علم من حيث استعمل استعمال القسم، فتعلق الجواب به كما يتعلق بالقسم؟ وأمّا قوله: قل أذن خيرٍ لكم [التوبة/ 61] فإنّه يذكر في موضعه إن شاء الله، وأمّا قوله سبحانه: فإن لم تفعلوا فأذنوا بحربٍ من اللّه [البقرة/ 279] المعنى: فإن لم تضعوا الرّبا عن النّاس الّذي قد أمركم الله بوضعه عنهم، فأذنوا بحرب من الله.
[الحجة للقراء السبعة: 2/412]
قال أبو عبيدة: آذنتك بحرب فأذنت به. فمن قال:
فأذنوا بحربٍ من اللّه فقصر، فمعناه: اعلموا بحرب من الله، والمعنى: أنّكم في امتناعكم من وضع ذلك حرب لله ورسوله.
ومن قال: فآذنوا بحرب فتقديره: فأعلموا من لم ينته عن ذلك بحرب، والمفعول هنا محذوف على قوله: وقد أثبت هذا المفعول المحذوف هنا، في قوله فقل آذنتكم على سواءٍ وإذا أمروا بإعلام غيرهم علموا هم أيضا لا محالة، ففي أمرهم بالإعلام ما يعلمون هم أيضا أنهم حرب إن لم يمتنعوا عمّا نهوا عنه من وضع الرّبا عمن كان عليه. وليس في علمهم دلالة على إعلام غيرهم، فهذا في الإبلاغ آكد.
قال أحمد بن موسى: قرءوا كلّهم: لا تظلمون ولا تظلمون [البقرة/ 279] بفتح التاء الأولى وضم الثانية.
وروى المفضّل عن عاصم لا تظلمون ولا تظلمون بضم التاء الأولى وفتح الثانية.
قال أبو علي: موضع «لا تظلمون» نصب على الحال من لكم، التقدير: فلكم رءوس أموالكم غير ظالمين ولا مظلومين.
والمعنى: إن تبتم فوضعتم الرّبا الذي أمر الله بوضعه عن النّاس فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون بأن تطالبوا المستدين بالرّبا
[الحجة للقراء السبعة: 2/413]
الموضوع عنه، ولا تظلمون بأن تبخسوا رءوس أموالكم. أو تمطلوا بها.
وقد جاء: «ليّ الواجد ظلم».
والمعنى؛ والتقدير في التقديم والتأخير الذي روي عن عاصم؛ سواء.
ويرجح تقديم: لا تظلمون بأنّه أشكل بما قبله، لأنّ الفعل الذي قبله مسند إلى فاعل، وهو قوله: وإن تبتم فلكم، فتظلمون أشكل بما قبله لإسناد الفعل فيه إلى الفاعل من تظلمون المسند فيه الفعل إلى المفعول به). [الحجة للقراء السبعة: 2/414]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله}
قرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم {فإن لم تفعلوا فأذنوا} مفتوحة الهمزة والذال مكسورة أي فاعلموهم وأخبروه بأنكم على حربهم تقول آذنت الرجل بكذا أي أعلمته
وقرأ الباقون {فأذنوا} ساكنة الهمزة أي فاعلموا أنتم يقال أذن به يأذن إذنا إذا علم به
قال أبو عبيد الاختيار القصر لأنّه خطاب بالأمر والتحذير وإذا قال {فأذنوا} بالمدّ والكسر فكأن المخاطب خارج من التحذير
[حجة القراءات: 148]
مأمور بتحذير غيره وإعلامه). [حجة القراءات: 149]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (199- قوله: {فأذنوا بحرب} قرأه أبو بكر وحمزة بالمد، وكسر الذال، وقصره الباقون، وفتحوا الذال.
200- ووجه القراءة بالقصر أنه أمر للمخاطبين بترك الربا، أمروا أن يعلموا ذلك هم أنفسهم، فالمعنى: فإن لم تتركوا الربا فأيقنوا بحرب من الله ورسوله، فهم المقصودون بأن يعلموا ذلك في أنفسهم، إن لم يتركوا الربا.
201- ووجه القراءة بالمد أنه جعله أمرًا للمخاطبين بترك الربا، أن يعلموا بذلك غيرهم، ممن هو على مثل حالهم في المقام على الربا، فالمد يتضمن معنى القصر؛ لأنهم إذا أعلموا غيرهم بالحرب من الله ورسوله فقد عليه السلام لموا هم ذلك، إن أقاموا على فعل الربا، وليس في علمهم ذلك، لأنفسهم، دلالة على إعلام غيرهم، فالمد أعم وآكد في أنهم، إن لم يتركوا الربا في أنفسهم، ويتركه غيرهم، ممن هو على مثل حالهم فالحرب من الله ورسوله لازم لهم، نازل عليهم، وعلى من هو مثلهم، ولولا أن الجماعة على القصر لكان الاختيار المد، وبالقصر قرأ علي بن أبي طالب وأبو عبد الرحمن والأعرج وشيبة وعيسى وأبو جعفر، وبالمد قرأ طلحة والأعمش، واستبعد أبو حاتم المد، إذ الأمر فيه لغيرهم بالحرب، والمراد هم، وهم المخاطبون بترك الربا، والمد حسن في
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/318]
المعنى على ما ذكرنا). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/319]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (103- {فآذِنُوا} [آية/ 279]:-
بالمد وكسر الذال، قرأها عاصم ياش- وحمزة.
والمعنى: فأعلموا غيركم ممن لم يترك ما بقي من الربا بحرب من الله ورسوله، والمفعول به على هذا محذوف، يقال آذنته بالشيء إذا أعلمته،
[الموضح: 349]
وإذا أعلموا غيرهم فهم عالمون لا محالة فهو أبلغ.
وقرأ الباقون {فَأْذَنُوا} بسكون الهمزة وفتح الذال.
ومعناه: اعلموا بحرب من الله ورسوله، فإنكم إن امتنعتم من تركه، ورسوله حرب لكم، يقال: آذنته بالشيء فأذن به). [الموضح: 350]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (104- {لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [آية/ 279]:-
اتفق القراء كلهم على فتح الأول منهما وضم الثاني، إلا ما روى المفضل عن عاصم {لا تُظْلَمون} بالضم {ولا تَظْلِمون} بالفتح.
ووجه قراءة الجمهور أن المعنى: إن تبتم من الربا وتركتم ما بقي منه على من عاملتموه، فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون بطلب الربح المأمور بوضعه، ولا تظلمون بمنع رأس المال، ثم إن التقديم والتأخير سواء في المعنى، إلا أن تقديم {لا تظلمون} بفتح التاء وكسر اللام أولى؛ لأن ما قبله على إسناد الفعل إلى الفاعل وهو قوله تعالى {وإنْ تُبْتُمْ}، فقوله {تَظلمون} بالفتح أليق به وأشبه لإسناد الفعل فيه أيضًا إلى الفاعل). [الموضح: 350]

قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (فنظرةٌ إلى ميسرةٍ... (280).
قرأ نافع وحده: (إلى ميسرةٍ) بضم السين.
وقرأ الباقون بفتح
[معاني القراءات وعللها: 1/232]
السين.
قال أبو منصور: هما لغتان: ميسرة وميسرة، ومثله: مقبرة ومقبرة، ومشربة ومشربة: للغرفة.
وقوله جلّ وعزّ: (وأن تصدّقوا (280).
قرأ عاصم: (وأن تصدّقوا) خفيفة الصاد.
وقرأ الباقون: (تصّدّقوا) بتشديد الصاد والدال.
قال أبو منصور: من قرأ بتخفيف الصاد فالأصل: تتصدقوا فحذفت إحدي التاءين، وبقي تصدّقوا.
ومن قرأ بتشديد الصاد فالأصل أيضًا: تتصدّقوا، فأدغمت التاء الثانية في الصاد، وشددت، والمعنى واحد). [معاني القراءات وعللها: 1/233]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (42- وقوله تعالى: {فنظرة إلى ميسرة} [280].
قرأ نافع وحده {ميسرة} بضم السين مثل مشرقة.
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/103]
وقرأ الباقون {ميسرة} مثل مشرقة، ولم يختلفوا في {نظرة} ولا {ذو عسرة} إلا ما روي عن عثمان فإنه قرأ {فإن كان ذا عسرة} جعله خبر كان، والاسم مضمر والتقدير، وإن كان المدين ذا عسرة، ومن رفع جعل «كان» بمعنى حدث ووقع، ولم يحتج إلى خبر تقول: قد كان الأمر، أي: قد وقع). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/104]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (43- وقوله تعالى: {وأن تصدقوا خير لكم} [280].
قرأ عاصم وحده {تصدقوا} خفيفة.
وقرأ الباقون بتشديد الصاد والدال على أصل الكلمة؛ لأن الأصل تتصدقوا فأدغمت التاء في الصاد، ومن خفف حذف تاءه). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/104]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (واختلفوا في ضمّ السّين وفتحها من قوله تعالى: فنظرةٌ إلى ميسرةٍ [البقرة/ 280] فقرأ نافع وحده: إلى ميسرةٍ بضمّ السّين.
وقرأ الباقون: ميسرةٍ بفتح السّين، وكلّهم قلب الهاء تاء ونوّنها.
قال أبو عليّ: حجّة من قرأ إلى ميسرةٍ أنّ مفعلة قد جاء
[الحجة للقراء السبعة: 2/414]
في كلامهم كثيرا. وأمّا من قرأ إلى ميسرةٍ بضمّ السّين فلأنّ مفعلة قد جاء أيضا في كلامهم.
قالوا: المسربة، وقالوا: المشرقة وليس بكثرة مفعلة. فالقراءة الأولى أولى لأنّ الكلمة بفتح العين منها أكثر من الضمّ، ومفعلة بناء مبني على التأنيث، ألا ترى أن مفعلا بغير هاء بناء لم يجيء في الآحاد؟.
قال سيبويه: وأمّا ما كان يفعل منه مضموما، فهو بمنزلة ما كان يفعل منه مفتوحا، ولم يبنوه على مثال يفعل، لأنّه ليس في الكلام مفعل، فلمّا لم يكن إلى ذلك سبيل، وكان مصيره إلى إحدى الحركتين ألزموه أخفّهما.
قال أبو علي: كلامه هذا في الآحاد، ألا ترى أنّه يقصد مكان الفعل، وهو معلوم أنّه لا يكون إلّا مفردا.
وما جاء في الشّعر من معون ومكرم جمع معونة ومكرمة لا يدخل على هذا لأنه جمع ومراد سيبويه فيما ذكر المفرد دون الجمع.
[الحجة للقراء السبعة: 2/415]
قال أحمد بن موسى: وكلّهم قلب الهاء تاء ونوّنها، يعني: في الوصل، يريد أنّه: لم يقرأ أحد منهم إلى ميسرة لأنّ مفعل لا يجيء في الآحاد إلّا بالتاء، وقد جاء في الجمع، [قال جميل]:
بثين الزمي (لا) إنّ (لا) إن لزمته... على كثرة الواشين أيّ معون
وروي:
أبلغ النعمان عني مألكا... إنّه قد طال حبسي وانتظاري
فالأول جمع معونة، ومألكا جمع مألكة وهي: الرسالة، ومثل هذا الذي يقلّ قد لا يعتدّ به سيبويه، فربّما أطلق القول،
[الحجة للقراء السبعة: 2/416]
فقال: ليس في الكلام كذا، وإن كان قد جاء عليه حرف أو حرفان، كأنّه لا يعتدّ بالقليل، ولا يجعل له حكما). [الحجة للقراء السبعة: 2/417]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة الحسن بخلاف وأبي رجاء ومجاهد فيما رُوي عنه: [فنَظْرَة إلى ميْسُرة]، وقراءة عطاء بن أبي رباح: [فناظِرُهُ] بالألف، والهاء كناية، ورُوي أيضًا عن عطاء: [فنِاظِرْهُ إلى ميْسُرِه] أمر.
قال أبو الفتح: أما [فنَظْرَة] بسكون الظاء فمسكَّنة للتخفيف من "نَظِرة "، كقولهم في كلمة: كَلْمة، وفي كَبِد كَبْد، لغة تميمية، وهم الذين يقولون في كَرُم: كَرْم، وفي كُتُب: كُتْب.
وأما [فنَاظِرْه] فكقولك: فياسره فسامحه وليس أمرًا من المناظرة؛ أي: المحاجة والمجادلة؛ لكنها من المساناة والمسامحة، فيقول على هذا: قد تناظر القوم بينهم الحقوق، كقولك: قد تسامحوا فيها ولم يضايق بعضُهم بعضًا.
ويقول عليه: لله متبايعان رأيتهما، فقد تناظرا؛ أي: تسامحا ولم يتحاجا.
[المحتسب: 1/143]
وأما [إلى مَيْسُره] فغريب؛ وذلك أنه ليس في الأسماء شيء على مفْعُل بغير تاء؛ لكنه بالهاء، نحو: المقْدُرة والمقْبُرة والمشرُقة والمقنُوة، وأما قوله:
أَبلغ النعمان عني مألُكا ... أنه قد طال حبسي وانتظار
فطريقه عندنا: أنه أراد مألُكة -وهي الرسالة- غير أنه حذف الهاء وهو يريدها، كما قال كثير:
خليلي إنْ أمُّ الحكيم تَحَملت ... وأَخْلت لخيمات الْعُذَيب ظلالها
يريد: العُذيْبَة، وكما قال ملك بن جبار الطائي:
إنا بنو عمكم لا أن نُباعلكم ... ولا نصالحكم إلا على ناح
يريد ناحية. وكذلك قول الآخر:
بُثَيْن الزمى لا إن لا إن لزمتِه ... على كثرة الواشين أيُّ معون
يريد معونة فحذف، وقيل: أراد جمع معونة، وكذلك قول الآخر:
ليوم روع أو فَعالِ مَكْرُم
يريد: مكرمة ثم حذف، وقيل: أراد جمع مكرمة، وكذلك أراد هنا إلى ميسرته، فحذف الهاء. وحسن ذلك شيئًا أن ضمير المضاف إليه كاد يكون عوضًا من علم التأنيث، وإليه ذهب الكوفيون في قوله تعالى: {وَإِقَامِ الصَّلاةِ} أنه أراد إقامة، وصار المضاف إليه كأنه عوض من التاء.
[المحتسب: 1/144]
ويشهد لهذا قراءة مَن قرأ: [فنَظِرَةٌ إلى مَيْسُرة]، قرأ بها نافع في جماعة من الصحابة، فاعرف). [المحتسب: 1/145]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون}
قرأ نافع {إلى ميسرة} بضم السّين وقرأ الباقون بالنّصب وهما لغتان مثل المشرقة والمشرقة
قرأ عاصم {وأن تصدقوا} بتخفيف الصّاد وقرأ الباقون بالتّشديد
الأصل تتصدقوا من خفف حذف التّاء الثّانية اكتفاء بعلامة الاستقبال منها ومن شدد أدغم التّاء في الصّاد لقرب المخرجين). [حجة القراءات: 149]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (202- قوله: {ميسرة} قرأه نافع بضم السين، وفتح الباقون، وهما لغتان إلا أن الفتح أكثر وأشهر، و«مفعل» بغير هاء، وبفتح العين في الكلام كثير، وليس في الكلام «مفعل» بضم العين، وبغير هاء، إلا حرفان ونحوهما قالوا: معون، ومكرم، جمع معونة ومكرمة، وجاء مألك، جمع مألكة، وهي الرسالة. و«مفعل» بالفتح كثير مستعمل، وبالفتح قرأ علي بن أبي طالب وابن عمر والأعرج وأبو جعفر وابن جندب والحسن وقتادة وأبو رجاء، وبالضم قرأ مجاهد وابن محيصن، وشيبة وعطاء وحميد والحسن وهي لغة هذيل، واختلف عن الحسن فيه، والفتح هو الاختيار، لإجماع القراء عليه، ولأنه الأكثر في الاستعمال بالهاء وبغير هاء.
203- قوله: {وأن تصدقوا} قرأه عاصم بالتخفيف، وقرأ الباقون مشددًا، وهو مثل «تظاهرون» في الحجة في التخفيف والتشديد، لكن في التشديد معنى التكثير، وهو الاختيار؛ لأن الجماعة عليه، وهو الأصل، والتخفيف حدث). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/319]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (105- {إِلَى مَيْسَرَةٍ} [آية/ 280]:-
بضم السين، قرأها نافع وحده، والباقون على الفتح، وكلهم أعني الثمانية نون التاء.
وهما لغتان: ميسرة وميسرة، إلا أن مفعلة بالفتح أكثر في كلامهم، وقد جاء مفعلة بالضم أيضًا في نحو: المشرقة والمشربة والمقبرة، وليس في كثرة مفعلة بالفتح، فالقراءة الأولى أولى). [الموضح: 351]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (106- {وَأَنْ تَصَدَّقُوا} [آية/ 280]:-
بتخفيف الصاد، قرأها عاصم وحده.
وذلك لأن الأصل: تتصدقوا، فحذفت إحدى التاءين، وهي الثانية، وقد مضى مثله.
وقرأ الباقون {تَصَّدَّقُوا} بتشديد الصاد.
والأصل أيضًا: تتصدقوا، فأدغمت التاء الثانية في الصاد، فبقي: تصدقوا. والمعنى واحد). [الموضح: 351]

قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (واتّقوا يومًا ترجعون فيه إلى اللّه... (281).
[معاني القراءات وعللها: 1/233]
قرأ أبو عمرو ويعقوب: (ترجعون) بفتح التاء.
وقرأ الباقون: (ترجعون) بضم التاء، قال أبو منصور: (ترجعون) فعله لازم غير واقع.
و (ترجعون) مفعول من رجعته، فالأول واقع، والثاني لازم). [معاني القراءات وعللها: 1/234]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (44- قوله تعالى: {واتقوا يوما ترجعون} [281]
قرأ أبو عمرو وحده {يوما ترجعون فيه} بفتح التاء وكسر الجيم.
والباقون بضم التاء وفتح الجيم). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/104]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (واختلفوا في قوله عزّ وجلّ: واتّقوا يوماً ترجعون فيه إلى اللّه [البقرة/ 281] في فتح التاء من ترجعون وضمها.
فقرأ أبو عمرو وحده ترجعون بفتح التاء وكسر الجيم.
واختلف عنه في آخر سورة النور، فروى علي بن نصر، وهارون الأعور وعبيد بن عقيل، وعباس بن الفضل، وخارجة بن مصعب ويوم يرجعون إليه [النور/ 64] بضم الياء.
وقرأ الباقون: يوماً ترجعون فيه ويوم يرجعون بضم التاء والياء فيهما، وكذلك في النّور.
قال أبو علي: حجة من قرأ: يرجعون: ثمّ ردّوا إلى اللّه [الأنعام/ 62] ولئن رددت إلى ربّي [الكهف/ 36].
[الحجة للقراء السبعة: 2/417]
وحجة أبي عمرو: إنّ إلينا إيابهم [الغاشية/ 25] فأضيف المصدر إلى الفاعل فهذا بمنزلة: (يرجعون) وآبوا: مثل رجعوا.
ومن حجته: وإنّا إليه راجعون [البقرة/ 156] وقال:
فإلينا مرجعهم [يونس/ 46] فأضاف المصدر إلى الفاعل، كما أضيف في الآية الأخرى. وقال تعالى: كما بدأكم تعودون [الأعراف/ 29].
فأمّا انتصاب (يوم) من قوله: واتّقوا يوماً [البقرة/ 48] فانتصاب المفعول به لا انتصاب الظرف، وليس المعنى: اتّقوا في هذا اليوم، ولكن تأهبوا للّقاء به، بما تقدمون من العمل الصالح. ومثل ذلك: فكيف تتّقون إن كفرتم يوماً [المزمل/ 17]؟ أي: كيف تتّقون هذا اليوم الذي هذا وصفه مع الكفر بالله، أي: لا يكون الكافر مستعدّا للّقاء به لكفره، ومثل ذلك قوله: وارجوا اليوم الآخر [العنكبوت/ 36] أي: خافوه). [الحجة للقراء السبعة: 2/418]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة الحسن: [واتقوا يومًا يُرجعون فيه] بياء مضمومة.
قال أبو الفتح: فيه أنه ترك الخطاب إلى لفظ الغيبة كقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ}، غير أنه تصور فيه معنى مطروقًا هنا فحمل الكلام عليه؛ وذلك أنه كأنه قال: واتقوا يومًا يَرجع فيه البشر إلى الله فأَضمر على ذلك، فقال: يُرجعون فيه إلى الله.
وقد شاع واتسع عنهم حمل ظاهر اللفظ على معقود المعنى، وترك الظاهر إليه، وذلك كتذكير المؤنث وتأنيث المذكر وإفراد الجماعة وجمع المفرد، وهذا فاشٍ عنهم، وقد أفردنا له بابًا في كتابنا في الخصائص ووسمناه هناك بشجاعة العربية، وكأنه -والله أعلم- إنما عدل فيه عن الخطاب إلى الغيبة فقال: يُرْجَعُون بالياء رفقًا من الله -سبحانه- بصالحي عباده المطيعين لأمره.
وذلك أن العود إلى الله للحساب أعظم ما يخوَّفُه ويُتَوعَّدُ به العباد، فإذا قرئ: [تُرجعون فيه إلى الله] فقد خوطبوا بأمر عظيم يكاد يستهلك ذكره المطيعين العابدين، فكأنه -تعالى- انحرف عنهم بذكر الرجعة فقال: [يرجعون فيه إلى الله]. ومعلوم أن كل وارد هناك على أهول أمر وأشنع خطر، فقال: يرجعون فيه، فصار كأنه قال: يجازَوْن أو يعاقبون أو يطالبون بجرائرهم فيه، فيصير محصوله من بعد؛ أي: فاتقوا أنتم يا مطيعون يومًا يُعذَّب فيه العاصون.
ومَن قرأ بالتاء {ترجعون}[فإنه فضل تحذير للمؤمنين نظرًا لهم واهتمامًا بما يُعقِب السلامة بحذرهم، وليس ينبغي أن يُقْتَصَر في ذكر علة الانتقال من الخطاب إلى الغيبة ومن الغيبة إلى الخطاب بما عادة توسط أهل النظر أن يفعلوه، وهو قولهم: إن فيه ضربًا من الاتساع في اللغة لانتقاله من لفظ إلى لفظ، هذا ينبغي أن يقال إذا عَرِي الموضع من غرض معتمد، وسر على مثله تنعقد اليد.
[المحتسب: 1/145]
فمنه قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، هذا بعد قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فليس ترك الغيبة إلى الخطاب هنا اتساعًا وتصرفًا؛ بل هو لأمر أعلى ومهم من الغرض أَعْنَى، وذلك أن الحمد معنًى دون العبادة، ألا تراك قد تحمد نظيرك ولا تعبده؛ لأن العبادة غاية الطاعة والتقرب بها هو النهاية والغاية؟ فلما كان كذاك استعمل لفظ "الحمد" لتوسطه مع الغيبة، فقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} ولم يقل: لك، ولما صار إلى العبادة التي هي أقصى أمد الطاعة قال: {إِيَّاكَ نَعْبُد} فخاطب بالعبادة إصراحًا بها، وتقربًا منه -عز اسمه- بالانتهاء إلى محدوده منها.
وعلى نحو منه جاء آخر السورة، فقال: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} فأصرح بالخطاب لَمَّا ذكر النعمة، ثم قال: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} ولم يقل: غير الذين غضبتَ عليهم؛ وذلك أنه موضع تقرب من الله بذكر نعمه، فلما صار الكلام إلى ذكر الغضب قال: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ}، حتى كأنه قال: غير الذين غُضِب عليهم، فجاء اللفظ مُنْحَرَفًا به عن ذكر الغاضب، ولم يقل: غير الذين غضبتَ عليهم، كما قال: {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} فأسند النعمة إليه لفظًا، وزَوَى عنه لفظ الغضب تحسنًا ولطفًا.
فانظر إلى هذه اللغة الكريمة وشرفها، وتلاقي هذه الأغراض اللطيفة وتعطفها، الأقدام تكاد تطؤها، والأفهام مع ثقوبها صافحة عنها، ويا ليت شعري هل تكون سورة أكثر استعمالًا من سورة الحمد، وهذا جزء من أجزاء ما فيها ولم توضع عليه يد؟ شرح الله لإعظام أوامره صدرونا، وأحسن الأخذ إلى طاعته بأيدينا بقدرته وماضي مشيئته.
ومما يتلقاه عامة من يُسْأَل عنه بأنه أَخْذٌ باللغتين، وسعة باختلاف اللفظين: قراءة أبي عمرو: [وتفقَّد الطير فقال ما لِيْ لا أرى الهُدهُدَ] بسكون الياء من [لي]، وقراءته أيضًا: [وما لِيَ لا أعبْد الذي فطرني] بتحريك الياء.
وعلة ذلك ليس الجمع بين اللغتين كما يُفتي به جميع من تسأله عنه؛ لكنه لما جاز الوقف على قوله تعالى: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ}، وأن يستأنف فيقول: {لا أَرَى الْهُدْهُدَ}، سكن الياء من "لي"؛ أمارة لجواز الوقوف عليها، ولما لم يحسن الابتداء بقوله: {لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} حرك الياء من "لي" قبلها؛ أمارة لإدراج الكلام ووصله؛ وذاك أن الحركة من أعراض الوصل،
[المحتسب: 1/146]
والسكون من أعراض الوقف، فهل يحسن مع وجود هذا الفرق الواضح الكريم أن يُخلد دونه إلى التعذر بما يُخْلِدُ إليه الموهون المضيم؟ اللهم انفعنا بما استودعتناه، واجعل بك اعتصامنا، وإلى طاعتك توجهنا، إنك لطيف بنا وأنت حسبنا). [المحتسب: 1/147]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({واتّقوا يومًا ترجعون فيه إلى الله}
قرأ أبو عمرو {واتّقوا يومًا ترجعون فيه إلى الله} بفتح التّاء أي تصيرون نسب الفعل إليهم
وحجته قوله {وأنّهم إليه راجعون} فأنسد الرّجوع إليهم فكذلك قوله {ترجعون}
وقرأ الباقون {ترجعون} بضم التّاء أي تردون وحجتهم قوله {ثمّ إلى ربهم يحشرون} {وإليه تقلبون} ). [حجة القراءات: 149]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (204- قوله: {يومًا ترجعون فيه} قرأه أبو عمرو بفتح التاء وكسر الجيم، أضاف الفعل إلى المخاطبين، فهم الفاعلون، وقرأ الباقون بضم التاء وفتح الجيم، أضافوا الفعل إلى من يرجع المخاطبين، فالمخاطبون مفعول بهم، قاموا
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/319]
مقام الفاعل، والقول في هذا كالقول في «ترجع الأمور» وقد مضى الكلام فيه). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/320]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (107- {تُرْجَعُونَ فِيهِ} [آية/ 281]:-
بفتح التاء وكسر الجيم، قرأها أبو عمرو ويعقوب.
وذلك أن المعنى على هذه القراءة: تصيرون إليه، فالفعل فيه لازم، ومثله {وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} و{إلَيْنا مَرْجِعُهُم} و{إِنَّ إلَيْنا إيابَهُمْ}، والإياب: الرجوع.
وقرأ الباقون {تُرْجَعُونَ} بضم التاء وفتح الجيم.
والفعل على هذا متعدٍّ؛ لأن رجع قد جاء لازمًا ومتعديًا، وهو مبني ههنا على ما لم يسم فاعله، وحجته من التنزيل: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى الله} و{لَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي} ). [الموضح: 352]

روابط مهمة:
- أقوال المفسرين

جمهرة علوم القرآن 1 صفر 1440هـ/11-10-2018م 07:59 AM

سورة البقرة
[ الآية (282) ]

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)}

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (قوله جلّ وعزّ: (أن تضلّ إحداهما... (282).
قرأ حمزة: (إن تضلّ) بكسر الألف على محض الشرط، (فتذكّر) بتشديد الكاف وضم الراء، والفاء جواب الشرط.
وفتح الباقون الألف من (أن تضلّ) والراء من (فتذكّر).
وأسكن الذال من قوله: (فتذكر) ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب، وخفضوا الكاف.
وقرأ الباقون: (فتذكّر).
وأذكرت وذكّرت واحد.
قال أبو منصور: من قرأ (أن تضلّ) المعنى: أن تنسى إحداهما
[معاني القراءات وعللها: 1/234]
فتذكرها الذاكرة.
وقوله: (فتذكّر) رفع مع كسر (إن) لا غير، وهي قراءة حمزة.
ومن قرأ (إن تضل إحداهما فتذكر) فالمعنى: لأن تذكر إحداهما الأخرى، ومن أجل أن تذكر إحداهما الأخرى.
وقال سيبويه: لم جاز (أن تضل) وإنما أعدّ هذا للإذكار؟
فالجواب: أن الإذكار لما كان سببه الإضلال جاز (أن تضلّ)؛ لأن الإضلال هو السبب الذي أوجب الإذكار.
قال: ومثله في الكلام: أعددت هذا أن يميل الحائط فأدعمه، وإنما أعددته للدغم لا للميل، ولكن الميل ذكر لأنه سبب الدعم، كما ذكر الإضلال لأنه سبب الإذكار، وهذا بيّن إن شاء الله.
وقوله جلّ وعزّ: (إلّا أن تكون تجارةً حاضرةً... (282).
قرأ عاصم وحده: (تجارةً حاضرةً) نصبا.
وقرأ الباقون: (تجارةٌ حاضرةٌ) رفعا.
قال أبو منصور: من نصب (تجارةً حاضرةً) فالمعنى: إلا أن تكون المداينة تجارةً حاضرةً.
ومن رفع (تجارةٌ حاضرةٌ) جعل (كان) مكتفية بالاسم دون
[معاني القراءات وعللها: 1/235]
الخبر، وذلك كثير.
و (حاضرة) من نعت (تجارة)، وذلك جائز في كلام العرب). [معاني القراءات وعللها: 1/236]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (45- قوله تعالى: {أن تضل إحداهما فتذكر} [282]
قرأ حمزة وحده {إن تضل} بالكسر {فتذكر} بالرفع والتشديد.
وقرأ الباقون (أن تضل) بالفتح {فتذكر} بالنصب والتشديد غير أن ابن كثير وأبا عمرو خففاه، فمن فتح نصب (تضل) بـ «أن» ونسق عليه {فتذكر} ومن قرأ بالتخفيف فيكون: أذكرت وذكرت بمعنى، مثل كرمت وأكرمت.
وأما حمزة فإنه جعل «إن» حرف الشرط «وتضل» جم بالشرط، «وتذكر» فعل مستقبل). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/104]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (46- وقوله تعالى: {إلا أن تكون تجارة حاضرة} [282]
قرأ عاصم {تجارة حاضرة} بالنصب.
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/104]
وقرأ الباقون بالرفع، فمن قرأ بالرفع ففيه جوابان:
أحدهما: أن يجعل (التجارة) اسمًا لكان {تديرونها} الخبر وتلخيصه: تجارة حاضرة مدارة بينكم.
والاختيار أن تجعل «كان» بمعنى حدث ووقع، ولا خبر له. ومن قرأ بالنصب ولا وجه له أضمر اسم «كان»، فأما قوله: {إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} في (النساء) فالنصب جيد، قد قرأ به أهل الكوفة؛ لأن ذكر المال قد تقدم في قوله: {ولا تأكلوا أموالكم} إلا أن تكون الأموال تجارة). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/105]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (واختلفوا في كسر الألف وفتحها من قوله تعالى: أن تضلّ إحداهما [البقرة/ 282] ورفع الراء ونصبها من فتذكّر إحداهما الأخرى [البقرة/ 282].
فقرأ حمزة وحده: أن تضلّ بكسر الألف فتذكّر بالتشديد والرفع وكسر إن.
[الحجة للقراء السبعة: 2/418]
وقرأها الباقون: أن تضلّ إحداهما فتذكّر نصبا، غير أنّ ابن كثير وأبا عمرو خفّفا الكاف وشدّدها الباقون.
قال أبو علي: قوله تعالى: أن تضلّ إحداهما فتذكّر إحداهما الأخرى لا يكون متعلقا بقوله: واستشهدوا شهيدين من رجالكم [البقرة/ 282] ألا ترى أنّك لو قلت: استشهدوا شهيدين من رجالكم أن تضلّ إحداهما؛ لم يسغ، ولكن تتعلق أن بفعل مضمر دلّ عليه هذا الكلام، وذلك أنّ قوله: فإن لم يكونا رجلين، فرجل وامرأتان يدلّ على قولك:
فاستشهدوا رجلا وامرأتين؛ فتعلّق أن إنّما هو بهذا الفعل المدلول عليه من حيث ذكرنا.
وقال أبو الحسن في قوله تعالى: فرجلٌ وامرأتان [البقرة/ 282] التقدير: فليكن رجل وامرأتان، وهذا قول حسن، وذاك أنّه لما كان قوله: أن تضلّ إحداهما لا بدّ من أن يتعلق بفعل، وليس في قوله: فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء، شيء يتعلق به أن جعل المضمر فعلا ترتفع النكرة به، ويتعلق به المصدر، وكان هذا أولى من تقدير إضمار المبتدأ الذي هو: ممن يشهد رجل وامرأتان. لأنّ المصدر الذي هو أن تضلّ إحداهما لا يجوز أن يتعلق به لفصل الخبر بين الفعل والمصدر. فإن قلت: من أيّ الضربين تكون كان المضمرة في قوله، هل تحتمل أن تكون الناصبة للخبر أو تكون التامّة؟. فالقول في ذلك: أن كلّ واحد منهما يجوز أن يقدّر
[الحجة للقراء السبعة: 2/419]
إضماره. فإذا أضمرت التي تقتضي الخبر، كان تقدير إضمار الخبر: فليكن ممّن تشهدون رجل وامرأتان، وإنّما جاز إضمار هذه، وإن كان قد قال: لا يجوز: عبد الله المقتول، وأنت تريد:
«كن عبد الله المقتول»،
لأنّ ذكرها قد تقدّم، فتكون هذه إذا أضمرتها لتقدّم الذكر بمنزلة المظهرة، ألا ترى أنّه لا يجوز العطف على عاملين، ولمّا تقدّم ذكر كلّ في قوله:
أكلّ امرئ تحسبين امرأ كان كلّ بمنزلة ما قد ذكر في قوله:
ونار توقّد بالليل نارا وكذلك جاز إضمار «كان» المقتضية للخبر بعد إن في
[الحجة للقراء السبعة: 2/420]
قوله: إن خنجرا فخنجر، لما كان الحرف يقتضيها، ويجوز أن تضمر التامة التي بمعنى الحدوث والوقوع، لأنّك إذا أضمرتها أضمرت شيئا واحدا، وإذا أضمرت الأخرى احتجت أن تضمر شيئين، وكلّما قلّ الإضمار كان أسهل. وأيّهما أضمرت فلا بدّ من تقدير حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه.
المعنى: فلتحدث شهادة رجل وامرأتين، أو تقع، أو نحو ذلك، ألا ترى أنّه ليس المعنى: فليحدث رجل وامرأتان، ولكن لتحدث شهادتهما، أو تقع، أو تكن شهادة رجل وامرأتين مما تشهدون، ويجوز أن تتعلق «أن» في قوله تعالى: أن تضلّ إحداهما [البقرة/ 282] بشيء ثالث؛ وهو أن تضمر خبر المبتدأ الذي هو: فرجل وامرأتان يشهدون، فيكون يشهدون خبر المبتدأ. ويكون العامل في أن وموضع إضماره فيمن فتح الهمزة من أن تضلّ: ما قبل أن.
وفيمن كسر إن بعد انقضاء الشرط بجزائه. فقد جاز في: أن تضلّ أن يتعلق بأحد ثلاثة أشياء:
[الحجة للقراء السبعة: 2/421]
أحدها: المضمر الذي يدلّ عليه قوله: واستشهدوا شهيدين.
والثاني: الفعل الذي هو: (فليشهد رجل وامرأتان).
والثالث: الفعل الذي هو خبر المبتدأ.
وأمّا إحدى: فمؤنث الواحد، والواحد الذي مؤنّثه إحدى، إنّما هو اسم وليس بوصف؛ ولذلك جاء إحدى على بناء لا يكون للصّفات أبدا، كما كان الذي هو مذكّرة كذلك.
وقال أحمد بن يحيى: قالوا: هو إحدى الإحد، وأحد الأحدين، وواحد الآحاد، وأنشد:
عدّوني الثّعلب فيما عدّدوا... حتى استثاروا بي إحدى الإحد
ليثا هزبرا ذا سلاح معتدي قال أحمد: إحدى الإحد: كما تقول: واحد لا مثل له، وقالوا: الإحد، كما تقول: الكسر، جعلوا الألف بمنزلة التاء، كما جعلوها مثلها، في الكبرى، والكبر، والعليا، والعلى، فكما جعلوا هذه: كظلمة وظلم، جعلوا الأول بمنزلة كسر وسدر، وكما جعلوا المقصورة بمنزلة التاء، كذلك جعلوا
[الحجة للقراء السبعة: 2/422]
الممدودة بمنزلتها في قولهم: قاصعاء وقواصع، ودامّاء ودوامّ.
وحكى أحمد بن يحيى: أن الواحد والوحد والأحد، بمعنى وقد شرحنا ذلك في المسائل.
فأمّا بدل الهمزة من الواو إذا كانت مكسورة، فإنّ أبا عمر يزعم أنّ ذلك لا يجاوز به المسموع، وغيره يذهب إلى أن بدل الهمزة منها، مطرد كاطراد البدل من المضمومة.
والقول في أنّه ينبغي أن يكون مطّردا أنّ الكسرة بمنزلة الياء، ولا تخلو الحركة في الحرف المتحرك من أن تكون مقدرة قبله أو بعده، فإن كانت قبله، فالواو إذا وقعت قبلها الياء أعلّت، وكذلك إذا وقعت بعدها، فإذا كان كذلك اعتلّت الواو مع الكسرة كما اعتلت مع الياء، ألا ترى أنّها إذا تحركت بالفتح لم تعتل، كما لا تعتلّ الواو إذا كانت قبلها ألف نحو: عوان وطوال؟. فإن قلت:
[فإذا وجب القلب من حيث ذكرت] فهلّا أبدلت غير أوّل مكسورة كما اعتلت الواو بالياء إذا كانت قبلها أو بعدها!.
قيل: هذا لا يلزم وذلك أن القلب في المكسورة كالقلب في المضمومة، ألا ترى أنّ الضمّة مع الواو كالواوين.
كما أنّ الكسرة مع الواو كالياء والواو؟ فكما تعلّ الواو مع الياء،
[الحجة للقراء السبعة: 2/423]
كذلك أعلّت مع الكسرة، كما أنّ الواو لمّا اعتلّت مع الواو كذلك أعلّت مع الضمة، ولم يجب من هذا أن تعلّ الواوان غير أول في نحو: أحوويّ، ولوويّ، فكذلك لم يلزم أن تعلّ الواو مع الكسرة غير أوّل، ألا ترى أنّ مواقع الإبدال ينبغي أن تعتبر كما أن مواقع الزيادة ينبغي أن تعتبر؟ فكما أن الحرف إذا كثرت زيادته في موضع، واستمر، لم يلزم أن تجعل في غير ذلك الموضع، كذلك لا يلزم إذا استمرّ إبداله في موضع أن يبدل في غير ذلك الموضع. ومن ثمّ جعل أبو عثمان دلامصا من غير دليص، لأن الميم لم تزد هنا، وإن كانت زيادتها قد استمرت أولا.
وأمّا قوله تعالى: أن تضلّ إحداهما [البقرة/ 282] فقال أبو عبيدة: أن تضلّ إحداهما أي تنسى، قال تعالى: قال فعلتها إذاً وأنا من الضّالّين [الشعراء/ 20] أي نسيت، أي:
ضللت وجه الأمر. وقال أبو زيد: ضللت الطريق والدار أضلّه ضلالا، وأضللت الفرس والناقة والشيء إضلالا، وكلّ ما ضلّ عنك فذهب.
[الحجة للقراء السبعة: 2/424]
قال: وإذا كان الحيوان مقيما فهو بمنزلة ما لا يبرح نحو:
الدار، والطريق، فهو كقولك: ضللته ضلالة. وقال أبو الحسن: تقول: ضللت دار فلان، وقال الفرزدق:
ولقد ضللت أباك تدعو دارما... كضلال ملتمس طريق وبار
وفي كتاب الله تعالى: في كتابٍ لا يضلّ ربّي ولا ينسى [طه/ 52] أي: لا يضلّ الكتاب عن ربّي. وأمّا موضع أن فنصب وتعلّقه إنّما هو بأحد الأشياء التي تقدّم ذكرها.
والمعنى: استشهدوا رجلين أو رجلا وامرأتين لأن تضلّ إحداهما فتذكّر. فإن قيل: فإنّ الشهادة لم توقع للضلال الذي هو النسيان إنّما وقعت للذكر والحفظ. فالقول في ذلك أنّ سيبويه قد قال: أمر بالإشهاد لأن تذكّر إحداهما الأخرى، ومن أجل أن تذكّر إحداهما الأخرى. قال: فإن قال إنسان: كيف جاز أن يقول: «أن تضلّ إحداهما» ولم يعدّ هذا للضلال والالتباس ؟ فإنّما ذكر «أن تضلّ» لأنّه سبب للإذكار كما
[الحجة للقراء السبعة: 2/425]
تقول: أعددته أن يميل الحائط، فأدعمه، وهو لا يطلب بذلك ميلان الحائط، ولكنّه أخبر بعلة الدعم وسببه. انتهى كلام سيبويه.
[قال أبو علي] وقوله: فتذكّر: معطوف على الفعل المنصوب بأن، فأمّا قوله: ممّن ترضون من الشّهداء فالظرف وصف للأسماء المنكورة، وفيه ذكرها.
وأمّا وجه قراءة حمزة: أن تضلّ إحداهما بكسر الألف، فإنّه جعل إن للجزاء، والفاء في قوله: فتذكّر: جواب الجزاء، ومواضع الشرط وجزائه رفع بكونهما وصفا للمنكورين وهما المرأتان في قوله: فرجلٌ وامرأتان وقوله: فرجلٌ وامرأتان:
خبر مبتدأ محذوف تقديره: فمن يشهد رجل وامرأتان. ويجوز أن يكون «رجل» مرتفعا بالابتداء، والمرأتان معطوفتان عليه وخبر الابتداء محذوف تقديره: فرجل وامرأتان يشهدون.
وقوله: ممّن ترضون من الشّهداء فيه ذكر يعود إلى الموصوفين الذين هم: «فرجل وامرأتان»، ولا يجوز أن يكون فيه ذكر لشهيدين المتقدم ذكرهما، لاختلاف إعراب الموصوفين، ألا ترى أنّ شهيدين منصوبان، ورجل وامرأتان إعرابهما الرفع،
[الحجة للقراء السبعة: 2/426]
فإذا كان كذلك علمت أنّ الوصف الّذي هو ظرف إنّما هو وصف لقوله: «فرجل وامرأتان» دون من تقدّم ذكرهما من الشهيدين.
والشرط وجزاؤه وصف للمرأتين؛ لأنّ الشرط وجزاءه جملة يوصف بها كما يوصل بها في نحو قوله تعالى: الّذين إن مكّنّاهم في الأرض أقاموا الصّلاة [الحج/ 41] واللّام التي هي لام في قوله: أن تضلّ فيمن جعل إن جزاء في موضع جزم، وإنّما حرّكت بالفتح لالتقاء الساكنين، ولو كسرت للكسرة التي قبلها لكان جائزا في القياس.
وأمّا قوله تعالى: فتذكّر إحداهما الأخرى فقياس قول سيبويه في قوله: ومن عاد فينتقم اللّه منه [المائدة/ 95] والآي التي تلاها معها أن يكون بعد الفاء في: فتذكّر إحداهما مبتدأ محذوف ولو أظهرته لكان فيما تذكّر إحداهما الأخرى، فالذكر العائد إلى المبتدأ المحذوف الضمير في قوله:
«إحداهما».
وأمّا قوله: فتذكر، فإنّ الذّكر على ضربين:
ذكر هو خلاف النسيان.
وذكر، هو قول.
[الحجة للقراء السبعة: 2/427]
فممّا هو خلاف النسيان قوله: فإنّي نسيت الحوت وما أنسانيه إلّا الشّيطان أن أذكره [الكهف/ 63].
وقال: نسيا حوتهما [الكهف/ 61] فأسند النسيان إليهما، والناسي فتى موسى، فيجوز أن يكون المعنى؛ نسي أحدهما، فحذف المضاف، وقد تقدم ذكر شيء من هذا النحو.
والذكر الذي هو قول يستعمل على ضربين: قول لا ثلب فيه للمذكور، والآخر يراد به ثلب المذكور. فمن الأول قوله:
فاذكروا اللّه كذكركم آباءكم [البقرة/ 200]، وقوله:
فاذكروا اللّه عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم [البقرة/ 198] واذكروا اللّه في أيّامٍ معدوداتٍ [البقرة/ 203] ولا تأكلوا ممّا لم يذكر اسم اللّه عليه [الأنعام/ 121].
ومن الذّكر الّذي يراد به الثلب، قوله: قالوا سمعنا فتًى يذكرهم يقال له إبراهيم [الأنبياء/ 60]، فهذا الذكر يشبه أن يكون من جنس ما واجههم به في قوله تعالى: قال أفتعبدون من دون اللّه ما لا ينفعكم شيئاً ولا يضرّكم أفٍّ لكم ولما تعبدون من دون اللّه [الأنبياء/ 67]. ومن ذلك قول الشاعر:
بذكركم منّا عديّ بن حاتم... لعمري لقد جئتم حبولا ومأثما
[الحجة للقراء السبعة: 2/428]
وقالوا في مصدر ذكرته، ذكرى قال:
هبّت شمالا فذكرى ما ذكرتكم... عند الصفاة الّتي شرقيّ حورانا
وقال:
صحا قلبه عن سكره وتأمّلا... وكان بذكرى أمّ عمرو موكّلا
فمن قدّر في «ذكرى» التنوين، نصب الاسم بعده، ومن لم يقدر فيه التنوين جر الاسم، وأضاف المصدر إلى المفعول به.
قال سيبويه: قالوا ذكرته ذكرا كحفظته حفظا، وقالوا: ذكرا كما قالوا: شربا.
فأمّا قوله: قد أنزل اللّه إليكم ذكراً رسولًا [الطلاق/ 10] فإنّ قوله: ذكرا، يحتمل أمرين: أحدهما: أن تقدّر حذف المضاف إلى الذكر، والآخر أن لا تقدر ذلك، فإن قدرت
حذف المضاف، كان إظهاره: قد أنزل الله إليكم ذا ذكر، والذكر يحتمل تأويلين: أحدهما: ذا شرف وصيت كما قال:
[الحجة للقراء السبعة: 2/429]
وإنّه لذكرٌ لك ولقومك [الزخرف/ 44] فسّر أنّه شرف لهم، والآخر ذا قرآن، وقد سمّي القرآن ذكرا في قوله تعالى:
وأنزلنا إليك الذّكر لتبيّن للنّاس ما نزّل إليهم [النحل/ 44] فإذا قدرت حذف المضاف كان المعنى في أنزل: الإحداث والإنشاء، كما قال: وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواجٍ [الزمر/ 6] وأنزلنا الحديد فيه بأسٌ شديدٌ [الحديد/ 25] يبيّن أنّه الإنشاء والإحداث. قوله: وهو الّذي أنشأ جنّاتٍ معروشاتٍ [الأنعام/ 141] ثم قال بعد: ثمانية أزواجٍ [الأنعام/ 143] فحمل الأزواج على الإنشاء كما حمله على الإنزال في قوله تعالى: وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواجٍ، [الزمر/ 6] وقال: قد أنزل اللّه إليكم [الطلاق/ 10] فوصل الفعل مرّة باللّام ومرّة بإلى كما قال: وأوحى ربّك إلى النّحل [النحل/ 68] وفي أخرى: بأنّ ربّك أوحى لها [الزلزلة/ 5] وقال: وإنّك لتهدي إلى صراطٍ مستقيمٍ صراط اللّه [الشورى/ 52] و (الحمد لله الّذي هدانا لهذا) [الأعراف/ 43] فإنّ لم تقدّر حذف المضاف، كان المعنى:
قد أنزل الله إليكم ذكرا رسولا فيكون: رسولا معمول المصدر، والتقدير: أن ذكر رسولا أي: ذكر رسولا لأن يتبعوه، فيهتدوا بالاقتداء به، والانتهاء إلى أمره، وذلك نحو قوله: الّذين يتّبعون الرّسول النّبيّ الأمّيّ [الأعراف/ 157] إلى قوله أولئك هم المفلحون [الأعراف/ 157] ومثل ذلك
[الحجة للقراء السبعة: 2/430]
في إعمال المصدر قوله تعالى: ما لا يملك لهم رزقاً من السّماوات والأرض شيئاً [النحل/ 73] فشيئاً مفعول المصدر، والذكر: كتاب الله الذي ذكره في قوله سبحانه:
ولقد كتبنا في الزّبور من بعد الذّكر أنّ الأرض [الأنبياء/ 105] وفي قوله: يمحوا اللّه ما يشاء ويثبت وعنده أمّ الكتاب [الرعد/ 39] فأمّا قول الشاعر:
يذكّر نيك حنين العجول... ونوح الحمامة تدعو هديلًا
[الحجة للقراء السبعة: 2/431]
فإنّ ذكرت فعل يتعدى إلى مفعول واحد، فإذا ضعّفت منه العين أو نقلته بالهمزة تعدّى إلى مفعول آخر، وذلك نحو فرّحته وأفرحته، وغرّمته وأغرمته.
فمن قال: فتذكّر إحداهما الأخرى كان ممن جعل التعدية بالتضعيف، ومن قال: فتذكّر إحداهما كان ممن نقل بالهمزة وكلاهما سائغ.
ومن حجة من قال: فتذكّر قوله تعالى: وذكّر فإنّ الذّكرى تنفع المؤمنين [الذاريات/ 55] فهذا مضارعه ينبغي أن يكون يذكّر.
وقول ابن كثير وأبي عمرو مثل أغرمته وأفرحته، وقول الباقين على غرّمته وفرّحته. والمفعول الثاني من قوله سبحانه:
فتذكّر إحداهما الأخرى محذوف. المعنى: فتذكر إحداهما الأخرى الشهادة التي احتملتاها.
وروي عن سفيان بن عيينة في قوله: فتذكّر إحداهما الأخرى، أي: تجعلها ذكراً، وأحسب أنّ أحداً من أهل
[الحجة للقراء السبعة: 2/432]
التأويل، لم يذهب إلى ذلك غيره، وليس هو في المعنى بالقوي، ألا ترى أنّهنّ لو بلغن ما بلغن ولم يكن معهنّ رجل لم تجز شهادتهنّ حتى يكون معهنّ رجل. فإذا كان الأمر على هذا لم يذكّرها. والحاجة في إنفاذ الشهادة إلى الرجل قائمة.
ومما يبعّد قوله: أن تضلّ إحداهما، والضلال قد فسّره أبو عبيدة: بالنسيان، فالذي ينبغي أن يعادله ما هو مقابل للنسيان من التذكير.
فأمّا من ذهب في قوله: أن تضلّ إحداهما وقوله: إنّ الجزاء فيه مقدّم، أصله التأخير، فلمّا تقدّم اتّصل بأوّل الكلام، ففتحت أن؛ فإنّ هذه دعوى لا دلالة عليها، والقياس على ما عليه كلامهم يفسدها، ألا ترى أنّا نجد الحرف العامل
[الحجة للقراء السبعة: 2/433]
إذا تغيرت حركته لم يوجب ذلك تغييراً في عمله ولا معناه؟.
وذلك فيمن فتح اللّام الجارة مع المظهر فقال: لزيد ضربت، وضربت لزيد، روى أبو الحسن فتح هذه اللّام عن يونس، وعن أبي عبيدة وعن خلف الأحمر، وزعم أنّه سمع هو ذلك من العرب، قال: وعلى ذلك أنشدوا:
تواعدني ربيعة كلّ يوم... لأهلكها وأقتني الدّجاجا
فكما أنّ هذه اللّام لما فتحت لم يتغيّر من عملها ومعناها شيء عمّا كان عليه في الكسر، كذلك أن الجزاء لو فتحت لم يجب على قياس اللّام أن يتغيّر له معنى ولا عمل. ومما يبعّد ذلك: أنّ الحروف العاملة إذا تقدمت كانت مثلها إذا تأخّرت، لا تتغيّر بالتقدّم عمّا كانت عليه في التأخّر. ألا ترى أنّ من قال: بزيد مررت، وإلى عمرو ذهبت. فقدّم الحرف كان تقديمه مثل تأخيره، لا يغيّر التّقديم شيئاً كان عليه في التأخير؟ وممّا يبعّد ذلك قولهم: ربّ غارة، وربّت غارة، وربّتما غارة، وربّ هيضل، فكما لم يختلف في التخفيف عن
[الحجة للقراء السبعة: 2/434]
حال التثقيل، ولحاق حرف التأنيث به، وكذلك ثمّ وثمّت، كذلك ينبغي أن لا يتغير أن، بل أن أجدر أن لا تتغيّر لأنّ التغيير بالحركة أيسر من التغيير بحذف حرف وزيادة آخر، وكذلك الحذف من «إنّ، وكأنّ» لم يغيرهما عن عملهما، ولا يلزم من حيث تغيّرت، إنّ المكسورة بالحذف فدخلت على الفعل أن تتغير بإبدال حركة وتغييرها لأنّ الحذف والتغيير في إنّ أكثر.
وممّا يبعّد ذلك أنّ الحرف قد أبدل منه غيره، وهو مع الإبدال، يعمل عمله غير مبدل، وذلك نحو بدل الواو من الباء في: «والله» وبدل التاء من الواو في تاللّه، فإذا كانت هذه الحروف مع التغيير الحادث فيها من الحذف منها، والتغيير باختلاف حركاتها ليست تزول عمّا كانت عليه من العمل والمعنى؛ فأن لا تتغير أن بكسر الهمزة منها أجدر.
ومما يفسد ذلك إبدالهم الألف من نون إذن ألا ترى أنّها إذا أبدلت كان عملها ومعناها على ما كان قبل الإبدال؟، وإبدال الحرف أكثر من تغيير الحركة، فلو كان لما ذكره مجاز أو مساغ، لكان ذلك في هذه الحروف المغيرة أيضاً، فإن لم يكن ذلك فيها مع ما ذكرنا من ضروب التغيير اللّاحق لها ما يبيّن أنّ ما ذهب إليه يفسده ما عليه مقاييس كلامهم، وما كان من هذا الضرب من الدعاوى التي يفسدها ردّها إلى ما ذكرناه ساقط.
[الحجة للقراء السبعة: 2/435]
واختلفوا في قوله تعالى: تجارةً حاضرةً [البقرة/ 282] في رفعها ونصبها.
فقرأ عاصم وحده تجارةً نصباً. وقرأ الباقون: بالرفع.
[قال أبو بكر]: وأشكّ في ابن عامر.
قال أبو علي: كان كلمة استعملت على أنحاء:
أحدها: أن تكون بمنزلة حدث، ووقع، وذلك قولك: قد كان الأمر، أي وقع وحدث، والآخر: أن تخلع منه معنى الحدوث فتبقى الكلمة مجردة للزّمان، فتلزمها الخبر المنصوب.
ونظير خلعهم معنى الحدث من كان وأخواتها، خلعهم معنى الاسم من التاء والكاف اللتين للخطاب في قولهم: أنت وذلك، والنّجاءك، وذلك قولك: كان زيد ذاهباً. والثالث:
أن تكون بمعنى صار.
أنشد أحمد بن يحيى:
بتيهاء قفر والمطيّ كأنها قطا الحزن قد كانت فراخا بيوضها
[الحجة للقراء السبعة: 2/436]
أي: صارت، فيجوز أن يكون من هذا قوله تعالى:
كيف نكلّم من كان في المهد صبيًّا [مريم/ 29]، أي صار في المهد.
والرابع: أن تكون زيادة، وذلك: قولهم: ما كان أحسن زيداً، المعنى فيه: ما أحسن زيداً، وأنشد لبعض البغداديين:
سراة بني أبي بكر تساموا... على كان المسوّمة الجياد
[الحجة للقراء السبعة: 2/437]
في أخرى: العراب.
فأمّا موضع أن في قوله: إلّا أن تكون تجارةً حاضرةً تديرونها بينكم [البقرة/ 282] فنصب، المعنى: ولا تسأموا كتابته إلّا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم.
أي: يداً بيد لا أجل فيه، فلا يحتاج في تبايع ذلك إلى التّوثّق باكتتاب الكتاب، ولا ارتهان الرهن، لوقوع التقابض في المجلس، ومثل موضع «أن» هذه في النصب موضع التي في قوله: إلّا أن تكون تجارةً عن تراضٍ منكم [البقرة/ 282] فالعامل في قوله: «أن» تكون من قوله: إلّا أن تكون تجارة عن تراض منكم، قوله عزّ وجلّ: لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل [النساء/ 29] بتوسّط إلّا، وكلا الاستثناءين منقطع.
وزعم سيبويه: أنّه قد نصب في القراءة تجارةً عن تراضٍ منكم.
[الحجة للقراء السبعة: 2/438]
فأمّا حجة من رفع: فإنّه جعل كان بمعنى وقع وحدث كأنّه: إلّا أن تقع تجارة حاضرة، ومثل ذلك في الرفع قوله:
وإن كان ذو عسرةٍ فنظرةٌ [البقرة/ 280] المعنى فيه على الرفع وذلك أنه لو نصب، فقيل: وإن كان ذا عسرة لكان المعنى: وإن كان المستربي ذا عسرة فنظرة، فتكون النظرة مقصورة عليه وليس الأمر كذلك لأنّ المستربي، وغيره، إذا كان ذا عسرة فله النظرة. ألا ترى أنّ المستربي والمشتري وسائر من لزمه حقّ إذا كان معسراً فله النظرة إلى الميسرة؟ فكذلك المعنى في قوله: إلّا أن تكون تجارةً حاضرةً، إلّا أن تقع تجارة حاضرة في هذه الأشياء التي اقتصّت، وأمر فيها بالتوثقة بالشهادة
والارتهان، فلا جناح، في ترك ذلك فيه لأن ما يخاف في بيع النّساء، والتأجيل يؤمن في البيع يداً بيد.
ومما جاء فيه كان بمعنى وقع قول أوس:
هجاؤك إلّا أنّ ما كان قد مضى * عليّ كأثواب الحرام المهينم ومن ذلك قول الشاعر:
فدى لبني ذهل بن شيبان ناقتي... إذا كان يوم ذو كواكب أشنعا
[الحجة للقراء السبعة: 2/439]
فهذا أيضاً من باب وقع ولا يكون (أشنع) خبراً لأنّك لو جعلته خبراً لم تستفد به إلّا ما استفدت بما تقدّم، فلم يجيء الخبر هكذا كما جاء الحال في نحو قوله.
كفى بالنأي من أسماء كافي وأمّا وجه قول من نصب فقال: إلّا أن تكون تجارةً حاضرةً، فالذي في الكلام الذي تقدّمه مما يظن أنّه يكون اسم كان ما دلّ عليه: تداينتم، من قوله إذا تداينتم بدينٍ، والحقّ من قوله: فإن كان الّذي عليه الحقّ سفيهاً أو ضعيفاً فلا يجوز أن يكون التداين اسم كان، لأنّ حكم، الاسم أن يكون الخبر في المعنى، والتداين حقّ في ذمّة المستدين، للمدين المطالبة به، فإذا كان ذلك لم يكن اسم
[الحجة للقراء السبعة: 2/440]
كان، لأنّ التداين معنى، والمنتصب يراد به العين، ومن حيث لم يجز أن يكون التداين اسم كان، لم يجز أن يكون الحقّ اسمها، لأنّ الحقّ يراد به الدين في قوله: فإن كان الّذي عليه الحقّ فكما لم يجز أن يكون التداين اسمها، كذلك لا يجوز [أن يكون] هذا في الحقّ، فإذا لم يجز ذلك لم يخل اسم كان من أحد شيئين:
أحدهما أنّ هذه الأشياء التي اقتصّت من الإشهاد والارتهان قد علم في فحواها التبايع؛ فأضمر التبايع لدلالة الحال عليه، كما أضمر لدلالة الحال فيما حكاه من قوله: إذا كان غدا فأتني، أو يكون أضمر التجارة، كأنّه: إلّا أن تكون التجارة تجارة حاضرة. ومثل ذلك قول الشاعر:
فدى لبني ذهل بن شيبان ناقتي... إذا كان يوماً ذا كواكب أشنعا
أي: إذا كان اليوم يوماً، فأمّا التجارة فهي تقليب الأموال وتصريفها لطلب النماء بذلك، وهو اسم حدث واشتقّ التاجر منه إلّا أنّ المراد به في الآية العين، ولا يخلو وقوع اسم الحدث على هذا المعنى الذي وصفناه من أحد ثلاثة أشياء:
إمّا أن يكون المراد: إلّا أن يقع ذو تجارة أي: متاع ذو تجارة.
والآخر: أن يراد بالتجارة: المتّجر فيه الذي هو: عين،
[الحجة للقراء السبعة: 2/441]
فيكون كقوله: هذا الدرهم ضرب الأمير، وهذا الثوب نسج اليمن، أي مضروبه ومنسوجه، وكذلك ليبلونّكم اللّه بشيءٍ من الصّيد [المائدة/ 94] أي المصيد.
ألا ترى أن الأيدي والرماح إنّما تنالان الأعيان.
والثالث: أن يوصف بالمصدر فيراد به العين كما يقال: عدل، ورضى، يراد به عادل ومرضيّ، وعلى هذا قالوا: عدلة، لما جعلوه الشيء بعينه. وليس هذا كالوجه الذي قبله لأنّ ذاك مصدر يراد به المفعول، وليس هذا مقصوراً على المفعول، فالمراد بالمصدر الذي هو تجارة: العروض وغيرها مما يتقابض، يبيّن ذلك وصفها بالحضور وبالإدارة بيننا، وهذا من أوصاف الأعيان، والاسم المشتق من هذا الحدث يجري مجرى الصفات الغالبة؛ ولذلك كسّر تكسيرها في قولهم: تاجر وتجار، كما قالوا: صاحب وصحاب، وراع ورعاء، قال الشاعر:
كأنّ على فيها عقاراً مدامة... سلافة راح عتّقتها تجارها). [الحجة للقراء السبعة: 2/442]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك ما رواه مَتُّ بن عبد الرحمن قال: كان أهل مكة يقرءون: [وامرأْتَان] بسكون الهمزة.
قال أبو الفتح: وجه ذلك -والله أعلم- أنهم كانوا يخففون الهمزة فيضعفون حركتها على المعتاد من أمرها، فتقرب من الساكن.
ويدل على أن الهمزة المحركة إذا خففت في نحو هذا قريبة من الساكن، امتناعُ العرب من أن تبتدئ بها مخففة كما تمتنع من الابتداء بالساكن، فلما صارت إلى قولك: [وامراتان] بالَغوا في ذلك فأبدلوها ألفًا؛ فصارت: [وامراتان] بألف ساكنة، كما قال:
يقولون جهلًا ليس للشيخ عَيِّل ... لعمري لقد أعيلت وانَ رَقُوب
يريد: وأنا، فخفف الهمزة فصار "وان"، ثم تجاوز ذلك إلى البدل فأخلصها في اللفظ ألفًا فقال: وان، فكذلك لما أبدل من همزة "وامرأتان" ألفًا فصار تقديره: "وامراتان"، ثم أبدل الهمزة من الألف وإن كانت ساكنة على ما قدمنا ذكره فيما قبل، وعليه قراءة ابن كثير: [وكَشفَتْ عن سأْقَيْها]، ومنه: البأز والخأتم والعألم وتَأْبَلْتُ القدر، ونحو ذلك مما قدمنا ذكره، هذا طريق الصنعة فيه والتأتي له.
فأما أن يقدِّر به مقدِّرٌ على أنه أسكن الهمزة المتحركة اعتباطًا ألبتة هكذا فلا؛ لأنه لا نظير له، ألا ترى أن ما قبل تاء التأنيث لا يكون أبدًا إلا مفتوحًا، نحو: جوزة ورطبة، إلا أن تكون الألف المدة نحو: قتادة وقطاة؟ فأما الهمزة فحرف صحيح حامل للحركة؛ فتجب فتحته ألبتة.
[المحتسب: 1/147]
فإن قلت: أسكن الهمزة تشبيهًا لها بالألف من حيث تساوتا في الجهر، وفي الزيادة، وفي البدل، وفي الحرف، وفي قرب المخرج، وفي الخفاء -فقولٌ ما، غير أنه مخشوب لا صنعة فيه، ولا يكاد يُقنع بمثله). [المحتسب: 1/148]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة عمرو بن عبيد وأبي جعفر يزيد بن القعقاع: [ولا يُضارّْ] بتشديد الراء وتسكينها.
قال أبو الفتح: أما تشديد الراء فلا سؤال فيه؛ لأنه يريد يضارَِر، بفتح الراء الأولى أو بكسرها، وكلاهما قد قرئ به؛ أعني: الفتح في الراء الأولى والكسر، والإدغام لغة تميم، والإظهار لغة الحجازيين على ما مضى؛ لكن تسكين الراء مع التشديد فيه نظر.
وطريقه: أنه أَجرى الوصل مجرى الوقف، كقوله: سَبْسَبًّا
[المحتسب: 1/148]
وكلْكَلَّا، وقد ذكرنا هذا الوصل على نية الوقف فيما مضى، وقد كنا ذكرنا فيما قبل ما يُروى عن الأعرج عن أبي جعفر من تسكين الراء على أنها مخففة، وأيًّا كان ففيه ما مضى.
وقراءة ابن محيصن: [ولا يضارُّ] رفع، قال ابن مجاهد: لا أدري ما هي؟
وهذا الذي أنكره ابن مجاهد معروف؛ وذلك على أن تجعل "لا" نفيًا؛ أي: وليس ينبغي أن يضار، كقوله:
على الحكم المأتي يومًا إذا قضى ... قضيتَه ألا يجور ويقصِدُ
فرفع "ويقصد " على أنه أراد: وينبغي له أن يقصد، فرفع يقصد كما يرتفع ينبغي. فكذا هذا؛ أي: وينبغي ألا يضار. وإن شئت كان لفظ الخبر على معنى النهي حتى كأنه قال: ولا يضارِرْ، كقولهم في الدعاء: يرحمه الله؛ أي: ليرحمه الله، ويغفرُ الله لك؛ أي: ليغفر الله لك، ولا يرحمُ الله قاتلك، فرُفع على لفظ الخبر وأنت تريد: لا يرحمْه الله جزمًا، فتأتي بلفظ الخبر وأنت تريد معنى الأمر والنهي على ما ذكرنا). [المحتسب: 1/149]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممّن ترضون من الشّهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى}
قرأ ابن كثير وأبو عمرو {من الشّهداء أن تضل} بفتح أن فتذكر بإسكان الذّال وفتح الرّاء
[حجة القراءات: 149]
وقرأ حمزة {أن تضل} بكسر {إن} فتذكر بتشديد الكاف ورفع
وقرأ الباقون {أن تضل} بفتح {إن} {فتذكر} بالتّشديد ونصب الرّاء
فمن فتح فلأن المعنى عند الفراء لئلّا تضل إحداهما فتذكرها الأخرى
وقال سيبويهٍ إنّما فتح أن لأنّه أمر بالشّهادة المعنى استشهدوا امرأتين لأن تذكر إحداهما الأخرى من أجل أن تذكر فإن قال قائل كيف جاز أن تقول تضل ولم يعد هذا للإضلال فالجواب أنه إنّما ذكر {أن تضل} لأنّه سبب الإذكار كما يقول الرجل أعددت الخشب أن يميل الحائط فأدعمه وهو لا يطلب إعداده ذلك لميلان الحائط ولكنه أخبر بالشّيء الّذي الدعم بسببه
وأما حمزة فإنّه جعل {إن} حرف شرط وتضل جزم بالشّرط والأصل إن تضلل فلمّا أدغمت اللّام في اللّام فتحت لإلتقاء الساكنين كقوله {من يرتد منكم عن دينه} والفاء جواب الشّرط وتذكر فعل مستقبل لأن ما بعد فاء الشّرط يكون الفعل فيه مستأنفا كقوله ومن عاد فينتقم الله منه
وحجّة من قرأ {فتذكر} بالتّخفيف حكاها الأصمعي عن أبي
[حجة القراءات: 150]
عمرو قال أبو عمرو إذا شهدت المرأة على شهادة ثمّ جاءت الأخرى فشهدت معها أذكرتها أي جعلتها ذكرا لأنّهما تقومان يعني صارت المرأتان كذكر وكذا روي عن أبي عينيّة
وحجّة أخرى وهي أنّك تقول أذكرت النّاسي الشّيء حتّى ذكره وأذكرتك ما قد نسيت ولا تقول ذكرته وإنّما تقول ذكرته في الموعظة قال الله تعالى {وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين} وقال {وذكرهم بأيام الله}
وحجّة التّشديد أنّهما لغتان وتأويله فجعل الله المرأتين بإزاء رجل لضعفهما وضعف عقولهم ولمزية الرّجال على النّساء وفضل رأيهم إن لم يكن الشّاهدان رجلين فرجل وامرأتان فمتى نسيت إحداهما ذكرتها الأخرى تقول تذكري يوم شهدنا في موضع كذا وكذا فجعل بدل رجل امرأتين). [حجة القراءات: 151]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({إلّا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها}
قرأ عاصم إلّا {أن تكون تجارة} بالنّصب المعنى إلّا أن تكون المداينة تجارة حاضرة والمعاملة تجارة حاضرة
وقرأ الباقون بالرّفع المعنى إلّا أن تقع تجارة حاضرة كقوله قبلها وإن كان ذو عسرة أي وقع ذو عسرة). [حجة القراءات: 151]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (205- قوله: {أن تضل} قرأه حمزة بكسر الهمزة، وفتح الباقون.
206- ووجه القراءة بالكسر أنها «إن» التي للشرط، و«فتذكر» جواب الشرط، مرفوع في هذه القراءة؛ لأنه بالفاء، فالفاء جواب الشرط وما بعدها مستأنف، فلذلك رفع، والشرط جوابه في موضع رفع وصف للرجل والمرأتين وخبر، فـ {رجل وامرأتان} محذوف، والتقدير: فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء يشهدون، و{ممن ترضون من الشهداء} صفة أيضًا لـ {رجل وامرأتان}.
207- ووجه القراءة بالفتح أن «أن» بالفتح في موضع نصب على حذف اللام تقديره: لئلا تضل احداهما، أي تنسى، وقيل: المعنى: لا تضل، كما قال: {فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوًا وحزنا} «القصص 8» لم يلتقطوه ليكون لهم عدوًا، لكن لما آل الأمر إلى ذلك في حال من التقطه، ليكون لهم عدوًا، فأخبر بما آل أمرهم إليه، كذلك هذا لم يؤمن بشهادة امرأتين عوضًا من رجل، لضلال الذي هو النسيان، لكن لما آل الأمر إلى النسيان صار الأمر، كأنهم أمروا بشهادة امرأتين عوضًا من رجل للنسيان، فيكون «فتذكر» معطوفًا على «تضل» تقديره فرجل وامرأتان يشهدون أن تضل احداهما وأن تذكر احداهما، كأنه بين علة كون امرأتين مقام رجل أي ذلك إنما فعل لتذكر احداهما الأخرى عند النسيان.
208- قوله: {فتذكر} قرأه ابن كثير وأبو عمرو بالتخفيف، وشدد الباقون، وكلهم نصب إلا حمزة فإنه رفع، على ما ذكرنا من الرفع في جواب الشرط
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/320]
مع الفاء، وقد قال الفراء: إن من خفف فهو من الذكر الذي هو ضد الأنثى، والمعنى: إن المرأة الثانية إذا شهدت مع الأولى ذكرتها، أي جعلتها كالذكر، أي: كالرجل الذي لا يحتاج إلى غيره في الشهادة.
209- ووجه القراءة بالتشديد أنه عدى الفعل إلى مفعولين بالتشديد، فالأول «الأخرى» والثاني محذوف، تقديره: «فتذكر احداهما الأخرى الشهادة» والتذكير يحتاج إلى مذكر ومذكر به، وقد أجمعوا على التشديد في قوله: {وذكر فإن الذكرى} «الذاريات 55» وهو كثير.
210- وحجة من خفف أنه عدى الفعل بالهمز، والهمز كالتشديد في التعدي، تقول: ذكرته كذا، وأذكرته كذا، فالمفعول الثاني أيضًا محذوف، كالأول فالقراءتان بمعنى، إلا أن التشديد معه معنى التكثير، على معنى تذكير بعد تذكير، ويحتمل أن يكون في المعنى كأذكرته، فالقراءتان متعادلتان، ومن نصب «فتذكر» فعلى العطف على «أن تضل» ومن رفع فعلى القطع بعد الفاء.
211- قوله: {تجارة حاضرة} قرأ ذلك عاصم بالنصب، وقرأهما الباقون بالرفع.
212- وحجة من نصب أنه أضمر في «تكون» اسمها، ونصب «تجارة» على خبر «يكون»، و«حاضرة» نعت لـ «تجارة» والتقدير: إلا أن تكون التجارة تجارة، وإلا أن تكون المبايعات تجارة، ولا أن يكون المضمر التداين والدين، لتقدم ذكره، ولا أن يكون الحق لتقدم ذكره؛ لأن ذلك غير التجارة، ولأن التجارة تقليب الأموال في البيع والشراء للنماء، وهو غير الدّين وغير التداين، وغير الحق والخبر في كان هو الاسم، وحسن إضمار التبايع، لأنه تقليب الأموال للنماء، فهو التجارة في المعنى.
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/321]
213- وحجة من رفع أنه جعل «كان» بمعنى «وقع وحدث» تامة، لا تحتاج إلى خبر، بمنزلة: {وإن كان ذو عسرة} الذي هو عام في كل معسر، وبهذا العموم أجمع على الرفع، إذ لو نصب «ذا» على خبر «كان» لصار الكلام مخصوصًا لصنف بعينه، غير عام في جميع المعسرين؛ لأنه يصير التقدير، لو نصب «ذا» وإن كان المشتري ذا عسرة فنظرة، فتكون النظرة مقصورة عليه، وقد يجوز أن يكون التقدير: وإن كان المداين ذا عسرة، فيكون عامة فيمن عليه دين، وهو معسر، والرفع على كل حال أعم، لأنه يعم من عليه دين، من قرض أو من شراء، وغير ذلك). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/322]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (108- {أَنْ تَضِلَّ} [آية/ 282]:-
بكسر الألف، قرأها حمزة وحده، على أنه جعل إن للشرط، و{تضلّ} مجزوم بالشرط، وفتحة لامه هي لالتقاء الساكنين؛ لأنها أخف الحركات، وجعل الفاء في قوله {فَتُذَكِّرَ} جواب الشرط، والشرط وجوابه جميعًا موضوعهما رفع على هذا؛ لأنهما وصف للمرأتين في قوله تعالى {فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ}.
[الموضح: 352]
وقرأ الباقون {أَنْ تَضِلَّ} بفتح الألف، على إضمار اللام، والتقدير: لأن تضل إحداهما فتذكر، فتضل ههنا منصوب بأن، وقوله {تُذَكّرَ} عطف على {أنْ تُضِلّ} وحقيقة معنى لام العلة إنما هو في التذكير لا في الضلال؛ لأن الضلال هو سبب الإذكار، والمعنى لأجل أنها إذا نسيت إحداهما الشهادة ذكرتها الأخرى، والضلال ههنا النسيان). [الموضح: 353]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (109- {فَتُذَكِّرَ} [آية/ 282]:-
بتشديد الكاف ورفع الراء، قرأها حمزة وحده، وذلك لأنه قرأ {إنْ تَضِلّ} بالكسر، على الشرط، وجعل {فَتُذَكّرُ} جوابه، فيكون مرفوعًا، كما تقول: إن تضرب زيدًا فيضربك، بالرفع، أي فهو يضربك، فيكون موضع الفاء وما دخل عليه جزمًا، والتقدير: إن تضل تذكر.
وقرأ نافع وابن عامر وعاصم والكسائي بتشديد الكاف ونصب الراء، على أنه معطوف على {تَضِلَّ} المنصوب بأن.
وذكر في هاتين القراءتين معدى بالتضعيف، وهو أكثر من المنقول بالهمزة في هذه الكلمة، يقال ذكر فلان الشيء فذكرته إياه، بالتشديد.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب {فَتُذْكِرَ} بتخفيف الكاف وفتح الراء، جعلوه منقولاً بالهمزة، وهو شائع كثير، يقال ذكر الشيء فأذكرته أنا وذكرته
[الموضح: 353]
كما تقول: أغرمته وغرمته، وأفرحته وفرحته، وذهب بعض أهل التفسير إلى أن المعنى في {تُذَكِّر} المشدد بجعل إحداهما الأخرى مذكرًا، أي تلحقها بالرجال في الشهادة). [الموضح: 354]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (110- {تِجَارَةً حَاضِرَةً} [آية/ 282]:-
بالنصب فيهما، قرأها عاصم وحده، وذلك أنه جعل كان ناقصة، وأضمر الاسم وهو التبايع أو التجارة، كأنه قال: إلا أن يكون التبايع تجارة أو التجارة تجارة حاضرة.
وقرأ الباقون {تِجارَةٌ حاضِرَةٌ} بالرفع فيهما، لأنهم جعلوا كان بمعنى وقع فهي تامة، ويرتفع ما بعدها بفعلها، والتقدير: إلا أن تقع تجارة، ومثله {وإنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ} ). [الموضح: 354]


روابط مهمة:
- أقوال المفسرين

جمهرة علوم القرآن 1 صفر 1440هـ/11-10-2018م 08:00 AM

سورة البقرة
[من الآية (283) إلى الآية (284) ]

{وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)}

قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (فرهانٌ مقبوضةٌ... (283).
قرأ ابن كثير وأبو عمرو: (فرهنٌ) بغير الألف.
وقرأ الباقون: (فرهانٌ) بالألف.
قال أبو منصور: من قرأ (فرهنٌ) أراد أن يفصل بين الرهان في الخيل وبين الرهن: جمع الرّهن.
وقال الفراء: رهن: جمع الرّهان.
[معاني القراءات وعللها: 1/236]
وقال غيره: رهن ورهن، مثل: سقف وسقف.
ومن قرأ: (فرهانٌ) فهو جمع رهن.
وأنشد أبو عمرو في الرهن:
بانت سعاد وأمسى دونها عدن... وغلّقت عندها من قبلك الرّهن
وأخبرني المنذري عن الحسن بن فهم عن ابن سلام عن يونس قال: الرّهن والرّهان واحد، عربيتان.
والرّهن في الرّهن أكثر، والرّهان في الخيل أكثر.
وأخبرني المنذري عن أحمد بن يحيى قال: الاختيار (رهان) مثل: كبشٍ وكباشٍ وحبلٍ وحبالٍ وما أشبههما.
قال: (ورهن) قراءة ابن عباس). [معاني القراءات وعللها: 1/237]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (47- وقوله تعالى: {فرهان مقبوضة} [283]
قرأ ابن كثير وأبو عمرو (فرهن).
وقرأ الباقون (فرهان) وهما جمعان فـ (رَهْن) و(رهان) كبحر وبحار، وأما «رهن» فقال أهل الكوفة: أن رهانًا جمع رهن، ثم جمع الرهان رهنًا، فهو جمع الجمع). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/105]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (48- وقوله تعالى: {فليؤد الذي اؤتمن} [283]
قرأ حمزة وعاصم في رواية أبي بكر بضم الهمزة وهو خطأ.
وقرأ الباقون بإسكان الهمزة، وهو الصواب؛ لأن وزنه افتعل فالهمزة فاء الفعل، وهي ساكنة، فإذا ابتدأت على همزة قلت: أأتمن بهمزتين.
والباقون يكرهون اجتماع همزتين فيقلبون الثانية واوًا فيبدلون أوتمن). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/105]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في ضمّ الرّاء وكسرها وإدخال الألف وإخراجها، وضمّ الهاء وتخفيفها من قوله تعالى: فرهن مقبوضة [البقرة/ 283].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو: فرهن، واختلف عنهما
[الحجة للقراء السبعة: 2/442]
فروى عبد الوارث وعبيد بن عقيل عن أبي عمرو:
فرهن ساكنة الهاء.
وروى اليزيديّ عنه فرهن بضم الهاء. وروى عبيد بن عقيل عن شبل ومطرّف الشّقريّ عن ابن كثير فرهن ساكنة الهاء.
وروى قنبل عن النبال والبزّيّ عن أصحابهما، ومحمد بن صالح المرّيّ عن شبل عن ابن كثير: فرهن
[الحجة للقراء السبعة: 2/443]
مضمومة الهاء.
وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي فرهانٌ بألف مكسورة الراء.
قال أبو علي: قال أبو زيد: رهنت عند الرجل رهنا ورهنته رهنا، فأنا أرهنه: إذا وضعته عنده. وارتهن فلان من رجل رهنا ارتهانا: إذا أخذه منه، وقد أرهنت في السلعة من مالي حتى أدركتها إرهانا، وذلك إذا غاليت بها في الثمن، فالارتهان- في المغالاة وفي القرض والبيع-: الرّهن، قال الشاعر:
يطوي ابن سلمى بها عن راكب بعداً... عيديّة أرهنت فيها الدّنانير
[الحجة للقراء السبعة: 2/444]
كأنّها بحسير الرّيح صادية... وقد تحرّز ملحرّ
اليعافير وأرهنّا بيننا خطراً إرهانا، وهو أن يبذلوا من الخطر ما يرضى به القوم بالغا ما بلغ، فيكون لهم سبقا، وأخطرت لهم خطراً إخطاراً وهو مثل الإرهان. وأنشد غير أبي زيد للعجاج:
وعاصما سلّمه من الغدر... من بعد إرهان بصمّاء الغبر
فقال بعض أصحاب الأصمعي: إرهان: إثبات وإدامة.
ويقال: أرهن لهم الشرّ أي أدامه، وقال أبو موسى: رهن لهم، أي: دام، وأنشد:
[الحجة للقراء السبعة: 2/445]
والخبز واللحم لهم راهن فقد فسروا الرهن بالإثبات والإدامة، فمن ثم يبطل الرهن إذا خرج من يد المرتهن بحق لزوال إدامة الإمساك، والرّهن الذي يمسكه المرتهن توثقة لاستيفاء ماله من الراهن: اسم مصدر كما كان الكتاب كذلك في قوله تعالى: وكتابه [التحريم/ 12] وهذه المصادر إذا نقلت فسمّي بها يزول عنها عمل الفعل، وذلك فيها إذا صارت على ما ذكرنا بيّن، إذ لم يعملوا من المصادر ما كثر استعمالهم له، كما ذهب إليه في قولهم: لله درّك، وتمثيله إياه بقولهم: لله بلادك، فإذا قال:
رهنت زيداً رهناً وارتهنت رهنا، فليس انتصابه انتصاب المصدر، ولكن انتصاب المفعول به كما تقول: رهنت زيداً ثوباً، ورهنته ضيعة.
وقد قالوا في هذا المعنى: أرهنته، وفعلت فيه أكثر.
قال الأعشى:
حتى يفيدك من بنيه رهينة... نعش ويرهنك السّماك الفرقدا
وقال آخر:
فلمّا خشيت أظافيره... نجوت وأرهنتهم مالكا
[الحجة للقراء السبعة: 2/446]
وقال آخر:
يراهنني فيرهنني بنيه... وأرهنه بنيّ بما أقول
فرهنت في كل هذه الأبيات قد تعدى إلى مفعولين، فكذلك إذا قال: رهنت زيداً رهناً، فالرهن مصدر، ولمّا نقل فسمّي به ما ذكرت كسّر كما تكسّر الأسماء، كما كسّر غيره من المصادر المسمى بها.
وتكسير رهن على أقل العدد لم أعلمه جاء، ولو جاء لكان قياسه أفعل، مثل كلب وأكلب، وفلس وأفلس، وكأنّه استغني ببناء الكثير عن القليل كما استغني ببناء الكثير عن القليل في قولهم: ثلاثة شسوع، وكما استغني ببناء القليل عن بناء الكثير في نحو: رسن وأرسان، فرهن جمع على بناءين من أبنية الجموع، وهو فعل وفعال وكلاهما من أبنية الكثير فممّا جاء على فعل. قول الأعشى:
آليت لا أعطيه من أبنائنا... رهنا فيفسدهم كمن قد أفسدا
فرهن: جمع رهن، ثم يخفّف العين كما خفّف في
[الحجة للقراء السبعة: 2/447]
رسل وكتب ونحو ذلك فقيل: رسل وكتب. ومثل رهن ورهن، سقف وسقف، وفي التنزيل: لبيوتهم سقفاً من فضّةٍ [الزخرف/ 33] ومثل تخفيفهم الرّهن وقولهم: رهن؛ أنّهم جمعوا أسداً على أسد، ثم خفّفوا فقالوا: أسد قال:
كأنّ محرّبا من أسد ترج... ينازلهم لنابيه قبيب
ومثل رهن ورهن فيما حكاه أبو الحسن: لحد القبر، ولحد، وقلب وقلب، لقلب النخلة، وقالوا: ثطّ، وثطّ، وورد وورد، وسهم حشر، وسهام حشر.
فإن قلت: أيجوز أن يكون رهان جمع رهن، ولا يكون جمع رهن. فالقول: إنّ سيبويه لا يرى جمع الجمع مطّرداً، فينبغي أن لا يقدم عليه حتى يعلم، فإذا كان رهن قد صار مثل كعب، وكلب، قلنا: إنّ «رهان» مثل كعب وكعاب، ولم يجعله جمع الجمع إلّا بثبت. فإن قلت: إنّهم
[الحجة للقراء السبعة: 2/448]
قد جمعوا فعلا في قولهم: طرقات وجزرات، وحكى أبو عثمان أنّ الرّياشي حكى أنّه سمع من يقول: عندنا معنات، فإذا جمعوه هذا الجمع جاز أن يكسّر أيضاً لاجتماع البابين في التكسير والتصحيح في أنّ كلّ واحد منهما جمع فهذا قياس، التوقف عنه نراه أولى، وقد ذهب إليه ناس. وكذلك لو قال:
إنّ فعل مثل فعال، في أنّ كلّ واحد منهما بناء للعدد الكثير، وقد كسّروا «فعالًا» في نحو قول ذي الرّمة.
وقرّبن بالزّرق الجمائل بعد ما... تقوّب عن غربان أوراكها الخطر
فيكون رهان جمع رهن لا جمع رهن، وجمعوا فعلًا، على فعال، كما جمعوا فعالًا على فعائل في قولهم: جمائل، لم نر هذا القياس؛ لأنّه إذا جمع شيء من هذا لم يجز قياس الآخر عليه عنده، حتى يسمع، وليست الجموع عنده في هذا كالآحاد.
[الحجة للقراء السبعة: 2/449]
قال أحمد بن موسى: قرأ حمزة وعاصم في رواية يحيى بن آدم عن أبي بكر عن عاصم وحفص عن عاصم الّذي اؤتمن [البقرة/ 283] بهمزة وبرفع الألف، ويشير بالضم إلى الهمز.
قال أحمد: وهذه الترجمة غلط.
وقرأ الباقون: الذي ائتمن الذال مكسورة، وبعدها همزة ساكنة بغير إشمام الضمّ، وهذا هو الصواب الذي لا يجوز غيره.
وروى خلف وغيره عن سليم عن حمزة: الّذي اؤتمن، يشمّ الهمزة الضمّ، وهذا خطأ أيضاً، لا يجوز إلّا بتسكين الهمزة.
قال أبو علي: لا تخلو الحركة التي أشمّوها الهمزة من أن تكون لنفس الحرف، أو تكون حركة حرف قبل الهمزة أو بعدها: فلا يجوز أن تكون الحركة لنفس الحرف الذي هو الهمزة، لأنّ الحرف ساكن لا حظّ له في الحركة، وذلك أن اؤتمن افتعل من الأمان، والفاء من افتعل ساكنة في جميع الكلام صحيحه ومعتلّه، تقول: اقتتل اقترع، ايتكل، ايتجر، اختار، انقاد، اتّعد، ارتدّ، اتّزن، فتكون فاء افتعل في
[الحجة للقراء السبعة: 2/450]
جميع هذه الأبنية ساكنة، ولا يجوز أن تكون حركة حرف قبلها لأنّ حركة ما قبل لم تلق على ما بعد في شيء علمناه، كما تلقى حركة الحرف على ما قبله في نحو: استعدّ، واستمرّ، وقيل، واختير، وردّ، والخب ونحوه.
فإذا لم يكن لشيء من هذه الأقسام مساغ ثبت أن الحركة لا تجوز فيها على الإشمام، كما لا تجوز فيها على الإشباع، فإن قيل: إن هذا الإشمام إنّما هو ليعلم أنّ قبلها همزة وصل مضمومة، وذلك أنّك إذا ابتدأت قلت: اؤتمن.
قيل: فهذا يلزم قائله أن يقول في نحو: إلى الهدى ائتنا [الأنعام/ 71] أن يشير إلى الهمز بالكسر، وكذلك يلزمه أن يشير إلى الكسر في قوله: فأتنا بما تعدنا [الأعراف/ 70] وفي قوله تعالى: ومنهم من يقول ائذن لي [التوبة/ 49] ونحو ذلك أن يشير إلى الكسر في الهمز لأنّ قبل الهمزة في كل ذلك في الابتداء همزة مكسورة كما كانت في قوله اؤتمن في الاستئناف همزة مضمومة. فإن مرّ على قياس هذا الذي لزم كان مارّاً على خطأ وآخذاً به من غير وجه. ومن ذلك أنّ الحرف الذي بعد الحرف لا يحرّك بحركة ما قبله، كما يحرّك الحرف الذي قبل الحرف لحركة الحرف الذي بعده نحو:
[الحجة للقراء السبعة: 2/451]
يستعدّ، ويهدي [يونس/ 35] والخبء [النمل/ 25] ونحو ذلك. ولو جاز ذلك في كلامهم، لم يلزم في هذا الموضع في الإدراج؛ وذلك أنّ همزة الوصل تسقط في الإدراج، فإذا سقطت سقطت حركتها، ولم تبق الحركة بعد سقوط الحرف، فإذا كان كذلك لم يجز أن تقدّر إلقاء حركة ما قبلها عليها لأنّها ليس قبلها شيء وإذا لم
يجز ذلك، تبيّن أن الهمزة لا وجه لها إلّا السكون، كما ذهب الآخرون إليه غير عاصم وحمزة من إسكانها. إلّا أنه يجوز في الهمزة التخفيف والتحقيق فمن خفف: الّذي اؤتمن قال:
الذيتمن، فحذف الياء من الذي لالتقائها ساكنة مع فاء افتعل، لأنّ همزة الوصل قد سقطت للإدراج، فيصير: ذيتمن بمنزلة: بير، وذيب، وإن حقّق كان بمنزلة من حقّق الذئب والبئر.
[الحجة للقراء السبعة: 2/452]
وليس إشمام الحركة الهمزة في قوله الّذي اؤتمن كإشمام أبي عمرو فيما حكى سيبويه من قراءاته قوله: يا صالح يتنا [الأعراف/ 77] لأنّه أشمّ الحركة التي على الحاء، ولها حركة هي الضمة، ولا حركة للهمزة في: الّذي اؤتمن.
ولم يقلب أبو عمرو الياء التي أبدلت من الهمزة التي هي فاء واواً لتشبيهه المنفصل بالمتصل نحو: قيل. ولا يلزمه على هذا أن يقول ومنهم من يقول: ائذن لي لأنّه إنّما فعل ذلك في حركة بناء وحركة البناء في النداء المفرد كحركة البناء في قيل. فإذا فعل ذلك في حركة البناء، لم يلزمه أن يجري حركة الإعراب كحركة البناء، ومن شبّه حركة الإعراب بحركة البناء، وهو قياس قول سيبويه لزمه أن يشمّ الضمة في يقول الكسرة كما جاء ذلك في قيل. ولعل أبا عمرو يفصل بينهما كما فصل غيره من النحويين. وليس ذلك أيضاً كما حكاه أبو الحسن من أن بعضهم قال في القراءة: في القتلى الحرّ [البقرة/ 178] فأشمّ الفتحة التي على اللام التي هي لام الفعل من القتلى الكسرة، كما كان يميله، والألف التي في القتلى ثابتة، لأنّ الألف التي في القتلى حذفت لالتقاء الساكنين. وقد وجدت الحذف لالتقاء الساكنين في حكم الثبات، ألا ترى أنّهم أنشدوا:
[الحجة للقراء السبعة: 2/453]
فألفيته غير مستعتب ولا... ذاكر
الله إلّا قليلًا فنصبوا الاسم مع حذف التنوين كما كانوا ينصبون مع إثباته لما كان المحذوف في حكم الإثبات.
فكذلك الألف في «القتلى» في حكم الإثبات، وإذا كان في حكمه جازت إمالة الفتحة مع حذف الألف كما جازت إمالتها مع ثباتها. ونظير ذلك من كلامهم قولهم: صعقيّ، ألا ترى أنّه إنّما كسرت الصّاد لمكان كسرة العين، ثم انفتح ما كانت الفاء كسرت لكسرته فبقيت الفاء على كسرتها، فكذلك الفتحة في «القتلى» أميلت لمكان الألف، ثم ارتفع ما كان أميلت له الفتحة، وذهب، فبقيت اللّام على إمالة فتحتها كما بقيت الفاء في صعقي على كسرتها). [الحجة للقراء السبعة: 2/454]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة}
[حجة القراءات: 151]
قرأ ابن كثير وأبو عمرو (فرهن) برفع الرّاء والهاء وحجتهما ما روي عن أبي عمرو أنه قال إنّما قرئت (فرهن) ليفصل بين الرّهان في الخيل وبين جمع رهن في غيرها تقول في الخيل راهنته رهانا والرّهن جمع رهن وهو نادر كما تقول سقف وسقف وقال الفراء الرّهن جمع الجمع رهن ورهان ثمّ رهن كما تقول ثمرة وثمار وثمر
وقرأ الباقون {فرهان} وحجتهم أن هذا في العربيّة أقيس أن يجمع فعل على فعال مثل بحر وبحار وعبد وعباد ونعل ونعال وكلب وكلاب). [حجة القراءات: 152]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (214- قوله: {فرهان} قرأه أبو عمرو وابن كثير بضم الراء والهاء، من غير ألف، وقرأ الباقون بكسر الراء، وبألف بعد الهاء.
215- وحجة من قرأ بغير ألف أنه جمع «رهنا» على «رهن» كـ «سقْف» و«سُقف» و«نَحْر» و«نُحُر»، وكان قياسه «أرهانا» في أقل العدد، ولكن استغنوا بالكثير عن القليل، كما استغنوا بالقليل عن الكثير، في قوله: «رسن وأرسان»، وأصل «رهن» المصدر في قولهم: «رهينة» فهو في موضع قولهم: رهينة ثوبًا. فلما وقع موقع الاسم جمع، كما تجمع الأسماء، ولما استغنوا فيه في الجمع ببناء الكثير عن القليل، استعوا فيه، فأتوا بجمعه على بناءين للتكثير، فقالوا: رهْن ورهُن، كسقْف، وسقف، وقالوا: رهن ورهان، ككعب وكعاب، وبغل وبِغال، ونعل ونِعال، وهو في جمع «فعْل» كثير في الكلام، وجمع «فعْل» على
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/322]
«فُعُل» قليل في الكلام، إنما أتى منه أشياء نوادر في الكلام، فحمل على الأكثر، وهو فِعال، وهو الاختيار). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/323]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (111- {فَرِهَانٌ} [آية/ 283]:-
بضم الراء والهاء من غير ألف، قرأها ابن كثير وأبو عمرو.
وذلك لأن فعلاً بفتح الفاء وسكون العين قد يجمع على فعل بضم الفاء والعين جمع الكثير نحو: سقف وسقف، وقال الفراء: هو جمع رهانٍ.
[الموضح: 354]
وقرأ الباقون {فَرِهانٌ} بالألف وكسر الراء.
وهو أيضًا جمع رهنٍ، مثل: كلب وكلاب وحبل وحبال، فهو من أبنية الكثير أيضًا). [الموضح: 355]

قوله تعالى: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (فيغفر لمن يشاء ويعذّب من يشاء... (284).
قرأ ابن عامر وعاصم ويعقوب: (فيغفر لمن يشاء ويعذّب من يشاء) بالرفع.
وقرأ الباقون بجزم الراء والباء.
قال أبو منصور: من قرأ (يعذّب مّن يشاء) أدغم الباء من (يعذّب) في الميم من (مّن يشاء).
[معاني القراءات وعللها: 1/237]
وأخبرني المنذري عن أحمد بن يحيى وسئل عن قوله (فيغفر لمن يشاء ويعذّب من يشاء) قال: من جزم رده على الجزم في قوله: (يحاسبكم).
قال: وهو الاختيار عندي.
قال: ومن رفع فهو على الاستئناف.
قال أبو العباس: إنما اخترت الجزم لأنه يدخل في تكفير الذنوب إذا كان جوابا لقوله: (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه) ومن رفع لم يجعله جوابًا لهذا الشرط). [معاني القراءات وعللها: 1/238]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (49- وقوله تعالى: {فيغفر لمن يشاء} [284].
قرأ عاصم وابن عامر (فيغفر) بالرفع.
وقرأ الباقون بالجزم نسقًا على يحاسبكم، ومن رفعه جعله مستأنفًا). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/105]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (واختلفوا في الجزم والرفع من قوله تعالى: فيغفر لمن يشاء، ويعذّب من يشاء [البقرة/ 284].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي: فيغفر لمن يشاء، ويعذّب من يشاء جزماً.
وقرأ ابن عامر وعاصم: فيغفر لمن يشاء، ويعذّب من يشاء رفعاً.
[الحجة للقراء السبعة: 2/463]
قال أبو علي: وجه قول من جزم أنّه أتبعه ما قبله، ولم يقطعه منه وهذا أشبه بما عليه كلامهم، ألا ترى أنّهم يطلبون المشاكلة، ويلزمونها؟ فمن ذلك أنّ ما كان معطوفاً على جملة، من فعل وفاعل، واشتغل عن الاسم الذي من الجملة التي يعطف عليها الفعل، يختار فيه النصب ولو لم يكن قبله الفعل والفاعل لاختاروا الرفع، وعلى هذا ما جاء من هذا النحو في التنزيل نحو قوله تعالى: وكلًّا ضربنا له الأمثال [الفرقان/ 39]، وقوله تعالى: فريقاً هدى وفريقاً حقّ عليهم الضّلالة [الأعراف/ 30] وقوله: يدخل من يشاء في رحمته والظّالمين أعدّ لهم عذاباً أليماً [الإنسان/ 31] فكذلك ينبغي أن يكون الجزم أحسن ليكون مشاكلًا لما قبله في اللفظ [ولم يخلّ من المعنى بشيء]. وكذلك إذا عطفوا فعلًا على اسم أضمروا قبل الفعل «أن»، ليقع بذلك عطف اسم على اسم، لأنّ الاسم بالاسم أشبه من الفعل بالاسم، كما أن جملة من فعل وفاعل أشبه بجملة من فعل وفاعل. من جملة من مبتدأ وخبر بجملة من فعل وفاعل فلهذا ما جاء ما كان من نحو: وكلًّا ضربنا له الأمثال [الفرقان/ 39] في التنزيل بالنصب. وهذا النحو من طلبهم المشاكلة كثير. ومن لم يجزم
[الحجة للقراء السبعة: 2/464]
قطعه من الأول، وقطعه منه على أحد وجهين إما أن يجعل الفعل خبراً لمبتدإ محذوف فيرتفع الفعل لوقوعه موقع خبر المبتدأ، وإمّا أن يعطف جملة من فعل وفاعل على ما تقدمها.
[تمّ الكلام في سورة البقرة والحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى]). [الحجة للقراء السبعة: 2/465]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك ما رواه الأعمش قال: في قراءة ابن مسعود: [يحاسِبْكم به الله يغفرْ لمن يشاء ويعذبْ من يشاء] جزمٌ بغير فاء.
قال أبو الفتح: جزم هذا على البدل من [يحاسبكم] على وجه التفصيل لجملة الحساب، ولا محالة أن التفصيل أوضح من المفصَّل، فجرى مجرى بدل البعض أو الاشتمال، والبعض
[المحتسب: 1/149]
كضربت زيدًا رأسه، والاشمال كأُحب زيدًا عقله. وهذا البدل ونحوه واقع في الأفعال وقوعه في الأسماء لحاجة القبيلين إلى البيان، فمن ذلك قول الله سبحانه: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا، يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا}؛ لأن مضاعفة العذاب هو لُقِيُّ الأثام، وعله قوله:
رُويدًا بني شيبان بعض وعيدكم ... تُلاقوا غدا خيلي على سَفَوان
تلاقوا جيادًا لا تَحيد عن الوغى ... إذا ما غَدَت في المأزِق المتداني
تلاقوهم فتعوفوا كيف صبرهم ... على ما جَنَتْ فيهم يدا الحدثان
فأبدل تلاقوا جيادًا من قوله: تلاقوا غدا خيلي، وجاز إبداله منه للبيان وإن كان من لفظه وعلى مثاله؛ لما اتصل بالثاني من قوله: جيادًا لا تحيد عن الوغى، وأبدل تلاقوهم من تلاقوا جيادًا؛ لما اتصل به من المعطوف عليه وهو قوله: "فتعلموا كيف صبرهم"، وإذا حصلت فائدة البيان لم تُبل أَمِنْ نفس المبدل كانت، أم مما اتصل به فضلةً عليه، أم من معطوف مضموم إليه؟ فإن أكثر الفوائد إنما تجتنى من الألحاق والفضلات. نعم، وما أكثر ما تُصْلِحُ الجمل وتتممها، ولولا مكانها لَوَهتْ فلم تستمسك.
ألا تراك لو قلت: زيد قامت هند لم تتم الجملة؟ فلو وصلت بها فضلة ما لتمت؛ وذلك كأن تقول: زيد قامت هند في داره، أو معه، أو بسببه، أو لتكرمه، أو فأكرمته، أو نحو ذلك، فصحت المسألة؛ لعود الضمير على المتبدأ من الجملة. وعليه قول كثير فيما أظن:
وإنسان عيني يحسر الماء تارة ... فيبدو وتاراتٍ يَجُم فيغرَق
فبالمعطوف على يحسر الماء ما تمت الجملة، وفي هذا بيان). [المحتسب: 1/150]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء}
قرأ عاصم وابن عامر {فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء} برفع الرّاء والباء على الاستئناف
وحجتهم أن قوله {إن تبدوا} شرط {يحاسبكم} جزم لأنّه جواب وقد تمّ الكلام فيرفع فيغفر ويعذب على تقدير ضمير فهو يغفر ويعذب
وقرأ الباقون بالجزم فيهما عطف على يحاسبكم به الله). [حجة القراءات: 152]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (216- قوله: {فيغفر}، {ويعذب} قرأهما ابن عامر وعاصم بالرفع، وجزمهما الباقون.
217- وحجة من جزم أنه عطفه على «يحاسبكم» الذي هو جواب الشرط فهو أقرب للمشاكلة، بين أول الكلام وآخره.
218- وحجة من رفع أن الفاء يستأنف ما بعدها، فرفع على القطع مما قبله إما أن يكون أضمر مبتدأ على تقدير: فالله يغفر ويعذب، فيكون جملة من ابتداء وخبر، معطوفة على جملة، من فعل وفاعل، ويجوز أن يكون الفعل مقدرًا، فتكون جملة معطوفة من فعل وفاعل على مثلها، والتقدير على هذا: فيغفر الله لمن يشاء ويعذب من يشاء، والجزم هو الاختيار، لاتصال الكلام، ولأن عليه أكثر القراء). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/323]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (112- {فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ} [آية/ 284]:-
بالرفع فيهما، قرأها ابن عامر وعاصم ويعقوب.
ووجه ذلك أنه استئناف، وتقديره: فهو يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء، وليس بعطفٍ على الفعل المجزوم الذي قبله.
وقرأ الباقون بالجزم فيهما.
وذلك لأن هذا الفعل إذا جزم كان معطوفًا على ما قبله، وهو {يُحاسِبْكُمْ} المجزوم بأنه جواب الشرط، وهذا أولى؛ لأنه يدخل في شبه ما قبله، وهم يطلبون المشاكلة في الكلام). [الموضح: 355]


روابط مهمة:
- أقوال المفسرين

جمهرة علوم القرآن 1 صفر 1440هـ/11-10-2018م 08:03 AM

سورة البقرة
[من الآية (285) إلى الآية (286) ]
{آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)}

قوله تعالى: {آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (وكتبه ورسله... (285).
قرأ حمزة والكسائي: (وكتابه) موحدًا.
وقرأ الباقون: (وكتبه) جميعا.
قال أبو منصور عن ابن عباس: إنه قرأ (كتابه)، وقيل له في قراءته فقال: (كتاب) أكثر من (كتب).
قال أبو منصور: ذهب به إلى الجنس، كما يقال: كثر الدرهم والدينار في أيدي الناس.
ومن قرأ (وكتبه) فهو مثل:
[معاني القراءات وعللها: 1/238]
حمارٍ وحمر وغلافٍ وغلف.
وقوله: (ورسله)
قد اتفق القراء على تثقيله.
وقرأ الحضرمي: (لا يفرّق بين أحدٍ من رسله... (285) بالياء
وكسر الراء. وقرأ الباقون: (لا نفرّق) بالنون.
وأخبرني المنذري عن أحمد بن يحيى أنه قال: النون هو الاختيار، وعليها قراء الأمصار، ومعناها: يقول: لا نفرق بين أحد، فيكون القول فيه مضمرا، وإضمار القول كثير في القرآن.
قال: ومن قرأ: (لا يفرّق) فإنه يريد: من آمن بالله لا يفرّق، ردّه على من آمن بالله، وكلٌّ آمن، وكلٌّ لا يفرّق بين أحد منهم.
واحد في معنى الجميع ها هنا). [معاني القراءات وعللها: 1/239]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (50- وقوله تعالى: {وكتبه ورسله} [285].
قرأ حمزة والكسائي: (وكتابه) على لفظ الواحد.
وقرأ الباقون: (وكتبه) بالجمع، مثل: ثمار وثمر). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/106]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (52- وقوله تعالى: {بين أحد من رسله} [285].
قرأ أبو عمرو وحده ما أضيف إلى حرفين مخففًا نحو: {رسلكم} {ورسلنا} وكذلك {سبلنا}.
وقرأ الباقون بالثقيل على أصل الكلمة؛ لأنه جمع رسول نحو عمود وعمد، والخفيف فرع على الثقيل وإنما خفف أبو عمرو في الجمع ولم يخفف في الواحد؛ لأن الجمع أثقل من الواحد، مثل إدغامه {خلقكم ثم رزقكم} ولا يدغم خلقك ورزقك). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/106]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في الجمع والتوحيد من قوله جلّ وعزّ: وكتبه [البقرة/ 285] هاهنا، وفي سورة التحريم [الآية: 12].
فقرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم في رواية أبي بكر، وابن عامر: وكتبه هاهنا جمع، وفي التحريم: وكتابه، على التوحيد.
وقرأ أبو عمرو: هاهنا وفي التحريم: وكتبه على الجمع.
وقرأ حمزة والكسائي: وكتابه على التوحيد فيهما.
وروى حفص عن عاصم هاهنا، وفي التحريم: وكتبه مثل أبي عمرو. وخارجة عن نافع في التحريم مثل أبي عمرو.
قال أبو علي: قال أبو زيد: كتبت الصكّ، أكتبه كتاباً، وكتبت السقاء، أكتبه كتباً: إذا خرزته.
قال ذو الرّمّة:
وفراء غرفيّة أثأى خوارزها... مشلشل ضيّعته بينها الكتب
[الحجة للقراء السبعة: 2/455]
وكتبت البغلة أكتبها كتباً، إذا حزمت حياءها بحلقة حديد أو صفر، وكتبت عليها كتباً، وكتّبت الناقة تكتيباً: إذا صررتها.
فالكتاب مصدر كتب. وقد جاء كتب في التنزيل على غير وجه فمن ذلك أن يراد به: فرض، قال تعالى: يا أيّها الّذين آمنوا كتب عليكم الصّيام كما كتب على الّذين من قبلكم [البقرة/ 183]، وقال تعالى: كتب عليكم القصاص في القتلى [البقرة/ 178] وقال: وكتبنا عليهم فيها أنّ النّفس بالنّفس [المائدة/ 45] وقال: وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعضٍ في كتاب اللّه [الأنفال/ 75] أي فيما فرض الله لهم في السّهام في المواريث، أو الحيازة للتركة، ويجوز أن يعنى به التنزيل، أي: هم في فرض كتاب الله أولى بأرحامهم، وأن يحمل على الكتاب المكتتب أولى، وذلك لقوله سبحانه في أخرى: وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعضٍ في كتاب اللّه من المؤمنين والمهاجرين إلّا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفاً، كان ذلك في الكتاب مسطوراً [الأحزاب/ 6] والمسطور إنّما يسطر في صحف أو ألواح، فردّ المطلق منهما إلى هذا المقيّد أولى، لأنّه أمر واحد.
وقد جاء كتب يراد به الحكم. قال تعالى:
[الحجة للقراء السبعة: 2/456]
كتب اللّه لأغلبنّ أنا ورسلي [المجادلة/ 21] كأنه حكم، قال:
ولولا أن كتب اللّه عليهم الجلاء لعذّبهم في الدّنيا [الحشر/ 3] أي حكم بإخراجهم من دورهم. وقال: وما كان لنفسٍ أن تموت إلّا بإذن اللّه كتاباً مؤجّلًا [آل عمران/ 145] فانتصب كتاباً بالفعل الذي دلّ عليه هذا الكلام، وذلك أنّ قوله: وما كان لنفسٍ أن تموت إلّا بإذن اللّه يدلّ على كتب، وكذلك قوله: كتاب اللّه عليكم [النساء/ 24] لأنّ
في قوله:
حرّمت عليكم أمّهاتكم [النساء/ 23] دلالة على كتب هذا التحريم عليكم أي: فرضه، فصار كتاب الله، كقوله: صنع اللّه [النمل/ 88]، ووعد اللّه لا يخلف اللّه وعده [الروم/ 6].
فأمّا قوله: أولئك كتب في قلوبهم الإيمان [المجادلة/ 22] فإنّ معناه جمع، وقد قالوا: الكتيبة للجمع من الجيش، وقالوا للخرز التي ينضم بعضها إلى بعض: كتب، كأنّ التقدير: أولئك الذين جمع الله في قلوبهم الإيمان أي:
استوعبوه واستكملوه، فلم يكونوا ممن يقول: نؤمن ببعضٍ ونكفر ببعضٍ [النساء/ 150] وهم الذين جمعوا ذلك في الحقيقة، وأضيف ذلك إلى الله تعالى، لأنّه كان بتقويته ولطفه كما قال: وما رميت إذ رميت ولكنّ اللّه رمى [الأنفال/ 17].
فأمّا قوله تعالى: إنّ عدّة الشّهور عند اللّه اثنا عشر شهراً في كتاب اللّه يوم خلق السّماوات والأرض
[الحجة للقراء السبعة: 2/457]
[التوبة/ 36] فلا يجوز تعلقه بالعدّة لأنّ فيه فصلًا بين الصلة والموصول بالخبر، ولكنّه يتعلق بمحذوف على أن يكون صفة للخبر الذي هو قوله: اثنا عشر شهراً، والكتاب لا يكون إلّا مصدراً، ولا يجوز أن يكون يعنى به الذكر، ولا غيره من الكتب، وذلك لتعلّق اليوم به، واليوم وسائر الظروف لا تتعلق بأسماء الأعيان لأنّها لا معاني فيها للفعل، فبهذا يعلم أنّه مصدر.
فأمّا قوله تعالى: وملائكته وكتبه [البقرة/ 285] فإنّ الكتب جمع كتاب وهو مصدر كتب فنقل، وسمّي به، فصار يجري مجرى الأعيان وما لا معنى فعل فيه، وعلى ذلك كسر، فقيل: كتب كما قالوا: إزار وأزر، ولجام ولجم. ولولا أنّه صار منقولًا، لكان خليقاً أن لا يكسّر، كما أنّ عامة المصادر لا تجمع، فأمّا الجمع فيه فللكثرة، وأمّا الإفراد في قول من قرأ:
وكتابه فليس كما تفرد المصادر، وإن أريد بها الكثير كقوله تعالى: وادعوا ثبوراً كثيراً [الفرقان/ 14] ونحو ذلك، ولكن كما تفرد الأسماء التي يراد بها الكثرة نحو قولهم: كثر الدينار والدرهم، ونحو ذلك مما يفرد لهذا المعنى، وهي تكسر، وكذلك: أهلك الناس الشاة والبعير، فإن قلت: إنّ هذه الأسماء التي يراد بها الكثرة تكون مفردة، وهذه مضافة قيل: قد جاء المضاف من الأسماء، يعنى به الكثرة، وفي التنزيل:
[الحجة للقراء السبعة: 2/458]
وإن تعدّوا نعمت اللّه لا تحصوها [النحل/ 18، إبراهيم/ 34] وفي الحديث: «منعت العراق درهمها وقفيزها».
فهذا يراد به الكثرة، كما يراد فيما فيه لام التعريف، وممّا يجوز أن يكون على هذا قول عدي بن الرقاع:
يدع الحيّ بالعشيّ رغاها... وهم عن رغيفهم أغنياء
وقال: أحلّ لكم ليلة الصّيام الرّفث إلى نسائكم [البقرة/ 187] وهذا الإحلال شائع في جميع ليالي الصّيام، والتكسير أوجه لأنّ الموضع يراد به الكثرة، وليس مجيء الأسماء المضافة التي يراد بها الجنس، والشّياع، بكثرة ما جاء منها، وفيه لام المعرفة، والاسمان اللذان أحدهما قبله، والآخر بعده مجموعان، فهذا يقوّي الجمع ليكون مشاكلا لما قبله وما بعده، ويجوز فيمن أفرد فقال: وكتابه أن يعني به الشّياع، ويكون الاسم مصدرا غير منقول، فيسمّى الذي يكتب كتابا،
[الحجة للقراء السبعة: 2/459]
كما قيل: نسج اليمن، أو على تقدير ذي، أي: ذي الذي يكتب.
اختلفوا في ضمّ السّين وإسكانها من قوله تعالى:
ورسله [البقرة/ 285] ورسلنا [الإسراء/ 77].
فقرأ أبو عمرو ما أضيف إلى مكنيّ على حرفين مثل:
رسلنا، ورسلكم [غافر/ 50] بإسكان السين، وثقّل ما عدا ذلك.
وروى عليّ بن نصر عن هارون عن أبي عمرو أنّه خفّف على رسلك [آل عمران/ 194] أيضاً. وقال عليّ بن نصر:
سمعت أبا عمرو يقرأ على رسلك مثقّلة، وقرأ الباقون كلّ ما في القرآن من هذا الجنس بالتثقيل.
قال أبو عليّ: وجه قراءة من ثقّل على رسلك أنّ أصل الكلمة على فعل بضمّ العين، ومن أسكن خفّف ذلك كما يخفّف ذلك في الآحاد في نحو العنق، والطّنب، وإذا خفّفت الآحاد، فالجموع أولى من حيث كانت أثقل من الآحاد، والدليل على أنّه على فعل مضموم العين، رفضهم هذا الجمع، فيما كان لامه حرف علّة نحو: كساء، ورداء
[الحجة للقراء السبعة: 2/460]
ورشاء، ألا تراهم لم يجمعوا شيئاً من هذا النحو على فعل، كما جمعوا قذالًا، وكتاباً، وحماراً ورغيفاً على فعل، ولم يجمعوه أيضاً على التخفيف لأنّه إذا خفّف، والأصل التثقيل، كانت الحركة في حكم الثبات ومنزلته. ألا ترى أنّ من قال:
رضي، ولقضو الرجل، لمّا كانت الحركة في حكم الثبات عنده لم يردّ الواو ولا الياء؟ وكذلك نحو رشاء، وقباء، لم يجمع على فعل ولم يجيء من هذا الباب شيء على فعل إلّا ثنيّ وثن، وقالوا: ثنيان في جمعه أيضاً، وما عداه مرفوض غير مستعمل، ومما يدلّ على أن الأصل فيه الحركة، أنّه لو كان الأصل السكون لم يرفض فيه جمع ما كانت اللّام فيه ياءً، أو واواً، كما لم يرفض ذلك في جمع ما أصله فعل، وذلك نحو:
عمي، وأ فأنت تهدي العمي [يونس/ 43] وكذلك قنواء وقنو، وعشواء، وعشو، وأبواء، وأبو، ألا ترى أنّهم لم يرفضوا جمع هذا لمّا كان ما قبله ساكناً فصار بمنزلة الآحاد نحو: حلو وعري، وما أشبه ذلك؟ فقد دلّك رفضهم لجمع هذا الضرب أنّه على فعل وأنهم رفضوه لما يلزم فيه من القلب
[الحجة للقراء السبعة: 2/461]
والإعلال. ومما يدلّ على أنّ أصله فعل، بضم العين، أنّهم خفّفوا من ذلك نحو: عوان وعون ونوار، ونور، وخوان، وخون، كراهة الضمة في الواو فإذا اضطرّ الشاعر ردّه إلى أصله كما جاء:
تمنحه سوك الإسحل وقوله:
وفي الأكفّ اللامعات سور على أن أبا زيد حكى: قوم قول، بضم الواو.
وأمّا وجه تخفيف أبي عمرو ما اتّصل من ذلك بحرفين
[الحجة للقراء السبعة: 2/462]
من حروف الضمير، أو بحرف نحو: رسلك [آل عمران/ 194]، فلأنّ هذا قد يخفّف إذا لم يتّصل بمتحرك، فإذا اتّصل بمتحرك حسن التخفيف لئلا تتوالى أربعة أحرف متحركة لأنّهم كرهوا تواليها على هذه العدة بهذه الصورة، ومن ثم لم تتوال أربع متحركات في بناء الشعر، والكلم، إلّا أن يكون مزاحفاً، أو يخفّف لهذا الذي ذكرناه من كراهتهم توالي أربع متحركات. ومن لم يخفّف فلأنّ هذا الاتصال بالحرفين ليس بلازم للحرف، وما لم يكن لازماً في هذه الكلم فلا حكم له، ألا ترى أنّ الإدغام في نحو: جعل لك، لم يلزم وإن كان قد توالى خمس متحركات، وهذا لا يكون في بناء الشعر، لا في مزاحفه ولا في سالمه ولا في الكلم المفردة. وقد جاز في نحو هذا أن لا يدغم لمّا لم يكن لازماً، ومن ثمّ روي عن أبي عمرو على رسلك وعلى رسلك كأنّه أخذ بالوجهين وذهب إلى المذهبين). [الحجة للقراء السبعة: 2/463]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({كل آمن باللّه وملائكته وكتبه ورسله}
قرأ حمزة والكسائيّ (وكتابه) وحجتهما أن الكتاب هو القرآن فلا وجه لجمعه وحجّة أخرى قال ابن عبّاس {الكتاب} أكثر
[حجة القراءات: 152]
من الكتب قال أبو عبيدة أراد كل كتاب الله بدلالة قوله {فبعث الله النّبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب} فوحد إرادة الجنس وهذا كما تقول كثر الدّرهم في أيدي النّاس تريد الجنس كله
وقرأ الباقون {وكتبه} وحجتهم ما تقدم وما تأخّر ما تقدم ذكر بلفظ الجمع وهو قوله {كل آمن باللّه وملائكته} وما تأخّر {ورسله} فكذلك كتبه على الجمع ليأتلف الكلام على نظام واحد). [حجة القراءات: 153]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (219- قوله: {وكتبه} قرأ حمزة والكسائي بالتوحيد، وقرأ الباقون بالجمع، فمن وحَّد أراد القرآن، ومن جمع أراد جميع الكتب التي أنزل الله، ويجوز في قراءة من وحَّد أن يُراد به الجمع، يكون الكتاب اسمًا للجنس، فتستوي القراءتان، والجمع هو الاختيار، لعمومه، ولأن عليه أكثر القراء). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/323]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (113- {وَكُتُبِهِ} [آية/ 285]:-
على الجمع، قرأها أبو عمرو وعاصم ص- ويعقوب ههنا وفي التحريم،
[الموضح: 355]
وكذلك ابن كثير ونافع يل- وابن عامر و- ياش- عن عاصم بالجمع ههنا، وبالتوحيد في التحريم. وإنما جمعوه ههنا؛ لأن ما قبله وما بعده جمع، وهو {ومَلائِكَتِهِ} {وَرُسُلهِ}، فالأولى أن يكون أيضًا مجموعًا ليشاكل ما قبله وما بعده.
وقرأ حمزة والكسائي {وَكِتابِهِ} على التوحيد في الموضعين.
والوجه في ذلك أن المراد به وإن كان واحدًا الجنس، كما يقال: كثر الدينار والدرهم، وأهلك فلان درهمه.
ويجوز أن يكون الكتاب مصدرًا لمسمى له بمعنى المكتوب، كما يقال: نسج اليمن أي منسوجه، فيكون المعنى أيضًا على الكثرة). [الموضح: 356]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (114- {وَرُسُلِهِ} [آية/ 285]:-
بضم السين، اتفق عليه القراء جميعًا، وكذلك في أمثاله في القرآن، إلا أن أبا عمرو يخفف كل ما كان من ذلك مضافًا الى جمع نحو {رُسْلنا} و{رُسْلكم} و{رُسْلهم}. ووجه ذلك أن الأصل في الكلمة هو فعل بضم الفاء والعين، وقد يسكن العين للتخفيف، كما يخفف ما كان من الآحاد
[الموضح: 356]
الآحاد نحو: عنق وطنب، بل يكون تخفيف المجموع أولى لثقلها، وأبو عمرو لما علم جواز تخفيف هذه الكلمة، خفف ما كان متصلاً بحرفين من حروف الضمير؛ لأنه يتوالى هناك أربعة أحرف متحركة فكره تواليها فخفف لذلك.
وأما الباقون فإنهم لم يخففوها وإن اتصلت بحرفين من الضمير؛ لأن الضمير ليس بلازمٍ للكلمة، فهو بمنزلة المنفصل). [الموضح: 357]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (115- {لَا نُفَرِّقُ} [آية/ 285]:-
بالياء، قرأها يعقوب وحده.
وذلك لأنه حمله على لفظ {كُلٍّ}، كما حمل عليه قوله {آمَنَ} على لفظ الواحد، والمراد به المؤمنون، كأنه قال: كلهم لا يفرق بين أحدٍ من رسله. وقرأ الباقون {لا نُفَرّقُ} بالنون.
وهذا على إضمار القول، والتقدير: يقولون لا نفرق، ومثله في القرآن كثير، ويدل على ذلك قوله تعالى {وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} ). [الموضح: 357]

قوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)}

روابط مهمة:
- أقوال المفسرين


الساعة الآن 12:46 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
جميع الحقوق محفوظة