غير مصنف
مقدمة | غير مصنف قال صَالِحٌ بْنُ مُحَمَّدِ الرَّشيدِ(م): (الحمد لله الذى تعهد لأمة الإسلام بحفظ كتابه , وألقى فى روع نبيه عليه الصلاة والسلام أن يمليه على الكتبة من أصحابه , ليشفع بالمسطور ما هو مستظهر {5} فى الصدور حتى إذا التحق عليه السلام بالرفيق الأعلى كان قد تم تدوين القرآن الكريم طرا, {6} بيد أن هذا التدوين لم يكن كهيئة مصحفنا , المعهود بين دفتين , ولا صحفا مجموعة بين لوحين , بل كان مرقوما على الرقاع ,{7} والأكتاف , مسطرا على العسب , والاقتاب , {8} واللخاف , تشق صيانته وتعسر رعايته , حتى ألهم الحق سبحانه الفروق فكرة جمعه فى المصحف , وشرح لذلك صدر الصديق الذى رأى الخير كل الخير فى تحقيق هذا الهدف {9} فانتدب لهذه المهمة زيدا , وكان من ذوى الحفظ والإتقان , وممن كتب بين يدى المصطفى ردحا من الزمان , فامتثل بهذه المسؤولية , مستشعرا خطرها واحتمل فى سبيلها صنوف المشاق محتسبا عن الله أجرها . فأنشأ يستنسخ ما كان مسطرا على هاتيك الآلات , مراعيا التوقيف عند ترتيب السور والآيات , وجعل أهل الإيمان يتنافسون فى مساعدته , ويتبارون فى مؤازرته {10} ومساندته , وطفق الناس يأتونه بما عندهم من مكتوب القرآن , وجعل يتسلمه منهم بعد أن يشهد على صحته شاهدان , ولم يمض عليه عام بتمامه حتى صار القرآن مودعا فى الصحف بكامل هيئته ونظامه , فقرت بذلك عين الإسلام , وصارت تلك الصحف فيما بعد أساسا للمصحف الإمام .{11} والذى كان جمع الناس عليه من مناقب ذى النورين عثمان إذ أفزعه ما بلغه من اختلاف الناس فى القرآن , وأنه إن ترك الناس وشأنهم تفرقوا كما تفرق الذين {12} من قبلهم , فحرج على من عنده شئ من القرآن إلا أحضره , وعمد إلى ما عدا المصحف الإمام فأتلفه , وأمر بأن يستنسخ من المصحف الإمام جملة نسخ فتفرق على الأقطار{13}ويبعث بنسخة واحدة إلى كل مصر من الأمصار , فتدارك الله بهذا الصنيع أمة الإسلام من الاختلاف فى كتابها , وعصمها من الإنقسام فيما أوحاه إلى نبيها , وأضحى رسم المصحف الإمام عند أهل العلم سنة متبعة , وعدت مخالفته من الأمور المبتدعة. وظل المصحف الإمام مجردا عما سوى القرآن دهرا , حتى إذا اتسعت {14} الفتوح ودخلت أفواج الأعاجم فى الإسلام تترا , وتفش اللحن فى القران على ألسنة الناس , وكثرت الأخطاء منهم , وتعددت أسباب الإلتباس , اتجهت همم كثير من أهل العناية بنقط المصاحف وشكلها وتحسينها وتجويدها , وعمدوا إلى تخميسها , وتعشيرها , وتحزيبها , {15}وتجزئتها , وعنونتها , وترقيمها , ووضع لأسماء السور , وذكر لعددآياتها , وابتكار لرموز الوقوف والمدود , وغير ذلك مما يساعد على صحة التلاوة فيها , ولم تمض بضعة قرون حتى صارت علوم القرآن فنا مستقلا بذاته , له قواعده وأصوله المودعة فى مصنفاته . فقد ألف فى المصاحف جمع كابن أشته , وابن أبى داود , وابن الأنبارى , وصنف فيها وفى علوم القرآن ابن سلام , وابن قتيبة , وابن المرزبان , والحوفى , وأبو عمرو الدانى , {17} وابن جوزى , والقرطبى , والنووى , وابن القيم , {18} والسخاوى , والشاطبى , وابن الجزرى , والزركشى , {19} والسيوطى , وخلق كثير غيرهم لا يتسع مثل هذا المقام لذكرهم . إلا أنه مما ينبغى التنبيه عليه , وتجدر الإشارة إليه , مادرج عليه جماهير الفقهاء فى مصنافتهم وتعارفوه فى الغالب الأعم من مؤلفاتهم من ذكر لبعض أحكام المصحف فى ثنايا الأبواب , وفى مظان قد تخفى على الكثير من الطلاب .. لذا شعرت بدعاء الحاجة إلى جمع هذه الأحكام فى جزء مفرد , ينتظم ماتناثر من فرائدها وتبدد , مع التنبيه على مواطن الخلاف فيها , ولو على سبيل الإشارة , والتنويه عن المعتمد من كل مذهب من الأربعة بأوجز عبارة , وعزو كل قول إلى قائله , ونسبة أى نقل إلى ناقله , حتى يكون الناظر فيه على بينه من أمره , ويتسنى لطالب المزيد الرجوع إلى مصادره . ولقد استخرت الله فى العمل على تحقيق ذياك المرام , وسألته خلوص النية , والسلامة من الآثام , وأن يغفر لى زلات هذا الجمع وهناته , ويهب سيئاته لحسناته .{20}ولإن كان هذا الجزء قد قصر عن بلوغ درجة الاستقصاء والاستيعاب , فلا أقل من أن يكون كالتذكرة لى ولأمثالى فى هذا الباب . ولما كانت عادة الأسلاف قد جرت بتسمية كل مصنف , فقد سميت هذا العمل ب( المتحف فى أحكام المصحف ) مرتبا رؤوس مسائله على حروف الهجاء ملتمسا بذلك التسهيل على القراء مهيبا بكل من نظر فيه أن يدعو بالمغفرة لجماعه وممليه فقمن أن تستجاب دعوة بظاهر الغيب من مسلم لأخيه).{21} |
آداب المصحف | غير مصنف قال صَالِحٌ بْنُ مُحَمَّدِ الرَّشيدِ(م): (لما كان المصحف الكريم أشرف كتاب فى الوجود لما تضمنه بين دفتيه من كلام الخالق المعبود لا جرم تأكدت فى حقه جملة من الآداب المرعية المستلزمة لطائفة من جوانب تعظيمه الفعلية والقولية من مثل اشتراط الطهارة لملابسته وتحاشى التصغير فى اسمه ورسمه وحجمه , والحذر من تعريضه لمظان امتهانه أو النيل من قدسيته كأن يمكن منه الصغار أو المجانين أو الكفار , كما يتعين التوقى من كل تصرف يشعر بامتهانه ولو صورة كتوسده والاتكاء عليه أو استدباره أو مد الرجلين إليه أو التروح به أو رميه عند وضعه أو استعمال الشمال فى تنوله وأخذه أو بل الأصبع بالريق عند تقليب ورقه أو الكتابة فى حواشيه أو على جلده أو وضع شئ فوقه أو بين أوراقه أو حمله حال دخول الأماكن الممتهنة أو السفر به إلى أرض الكفار أو تعريضه لأى نوع من أنواع الأقذار أو إضافة شئ إليه أو زخرفته أو تحليته أو كتابته بأحد النقدين أو كتابته بالأعجمية أو اتخاذه متجرا أو استعماله فى غير ما جعل له كالتثقيل به أو تعليقه كحرز أو زينه أو اقتنائه لمجرد التبرك به إلى غير ذلك من أنواع الاستعمالات التى يأذن الشرع بمثلها على ما سيجرى بيانه فى مواضعه من هذا البحث مفصلا ..قال البيهقى : من آداب تلاوة القرآن أن يفخم , فيكتب مفرجا بأحسن خط , فلا يصغر ولا يقرمط حروفه , ولا يخلط به ما ليس منه , كعدد الآيات , والسجدات والعشرات , والوقوف , واختلاف القراءات , ومعانى الآيات أ. هـ. وحكاه عنه السيوطى فى الإتقان .{22} قال الحليمى : ( ومن الآداب أن لا يخلط به ما ليس بقرآن , كعدد الآى , والوقوف واختلاف القراآت , ومعانى الآيات , وأسماء السور , والأعشار ) قال البيهقى : لأنه صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان لم يفعلوا شيئا من ذلك . وقد فصل الهيتمى فى هذه المسألة تفصيلا تجده مثبتا بتمامه فى تحشية المصحف من هذا البحث ).{23} |
إبدال المصحف | غير مصنف وقال القاضى أبو يعلى فى كتاب الروايتين والوجهين : ( لا تختلف الرواية أنه يكره بيع مصحف بثمن أو بعوض , واختلفت فى بيعه بمصحف مثله , فنقل الأثرم أن أحمد سئل عن المصحف يدرس فيعاوض به مصحف , فقال : المعاوضة أسهل . قالوا لا نأخذ لكتاب الله ثمنا , إنما أعطى مصحفا وآخذ آخر ). ونقل الحسين بن محمد بن الحارث عن أحمد أنه سئل عن معاوضة بغير المصحف , فقال : ( العوض بيع ) .. فظاهر هذا المنع وجه الأولى : أنه إنما منع من بيعه بعوض أو بثمن لما فيه من أخذ العوض على القرآن . وقد وردت الأخبار بالنهى عن ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم : "" ولا تأكلوا به " وقوله : "" من أخذ على القرآن أجرا فقد تعجل أجره فى الدنيا " وقوله لأبى بن كعب : " إن أحببت أن يقوسك بقوس من نار فخذها " . وهذا معدوم فى معاوضته بمصحف مثله . ووجه الثانية : أن المعاوضة بيع فى الحقيقة , ولهذا لو حلف لا باع , فعاوض حنث , وإذا كان بيعا يجب أن يمنع منه كما منع بعوض . وذكر المجد بن تيمية فى كتابه المحرر : ( فى إبدال المصحف روايتين , الجواز مطلقا ,{25} والجواز مع الكراهة ), وقدم الأولى . قال ابن مفلح فى نكته على المحرر : ( ذكر القاضى أبو الحسين فى جواز شراء المصحف وإبداله روايتين : أحداهما : الجواز . والثانية : لا يجوز ...) إلى أن قال : ( ثم ذكر القاضى روايتين فى جواز استبداله بمثله ) وذكر ابن المفلح فى كتاب الفروع فى إبدال المصحف بمثله ثلاث روايات , وهى الجواز والكراهة والتحريم , قال : (والأصح لا يحرم ). والظاهر أن ذلك ينبنى على كون الإبدال بيعا . وذكر المرداوى فى تصحيح الفروع فى المسألة روايتين , قال : أحداهما لا يكره , وهو الصحيح . والثانية يكره . قال : وذكر أبو بكر فى المبادلة هل هى بيع أم لا ؟ . روايتين , وأنكر القاضى ذلك وقال : هى بلا خلاف وإنما أجاز أحمد إبدال المصحف بمثله , لأنه لا يدل على الرغبة عنه ولا على الإستبدال بعوض دنيوى بخلاف أخذ ثمنه . ذكره فى القاعدة الثالثة والأربعين بعد المائة ). وذكر فى الإنصاف : فى الإبدال ثلاث روايات , الجواز مطلقا فى الأصح , والرواية الثانية جوازه مع الكراهة , والرواية الثالثة أنه يحرم . قال : ولم يذكرها بعضهم . ثم ذكر نحوا من كلامه فى التصحيح أعلاه وجزم فى الكشاف بعدم كراهة الإستبدال . فتلخص من ذلك أن لأهل العلم فى مسألة إبدال المصحف بالمصحف أقوالا ثلاثة : · أحدهما : الجواز على الإطلاق . · وثانيهما : الجواز مع الكراهة · وثالثها : التحريم وقد ذهب إلى القول الأول جمهور أهل العلم , وهو مقتضى قول من جوز بيع المصحف , وهم الجمهور على ما يأتى تفصيله فى موضعه , بل روى عن الإمام أحمد القول بجواز مبادلة المصحف بالمصحف , حتى على القول بتحريم بيعه ,لأن المبادلة لا تدل على الرغبة عن المصحف , ولا على استبدال بعوض دنيوى , بخلاف أخذ ثمنه . ذكره ابن رجب فى القاعدة الثالثة والأربعين بعد المائة من قواعده .وقد ذهب إلى القول الثانى – أعنى جواز المبادلة مع الكراهة – طائفة من أهل العلم , وهو المشهور من قولى النخعى على ما ذكره ابن أبى داود فى المصاحف كما مر وهو روايه ثانية عن الإمام أحمد وذهب فريق من أهل العلم إلى القول بالتحريم , وهو رواية ثالثة عن الإمام أحمد على ما حكاه غير واحد من الأصحاب) . {27} |
أبعاض المصحف | غير مصنف قال صَالِحٌ بْنُ مُحَمَّدِ الرَّشيدِ(م): (ولأبعاض المصحف حكم المصحف الكامل عند جمهور أهل العلم , خلافا لمن فرق بين أجزاء المصحف وجملته فى باب التعليم فسهل للمعلم والمتعلم مس ما دون الكامل حال الحدث , وهو الذى صرح به جمع من فقهاء المالكية , كما رخص بعض الفقهاء فى مس بعض المصحف دون جملته حال الحدث فى حق الصغار خاصة دفعا للحرج عنهم وعن أوليائهم فى مقام التعليم دون غيره , وهو الذى حكاه أصحابنا الحنابلة اختيارا للقاضى أبى يعلى على ما سيأتى تفصيله فى غير موضع من هذا البحث , كمسألة اشتراط الطهارة لمس المصحف , ومسألة تمكين الغار منه , مقرونا بدليله وتعليله , إن شاء الله) .{28} |
اتخاذ الفأل من المصحف | غير مصنف قال صَالِحٌ بْنُ مُحَمَّدِ الرَّشيدِ(م): (جرت عادة بعض الناس إذا هم بأمر ما أن يفتح المصحف كطريق من طرق استخراج الفأل , وذلك بالنظر فى أول سطر يخرج له منه أو غيره , فيستبشر به ويتفائل أو يستاء منه ويتشائم . وقد اختلفت كلمة أهل العلم فى حكم ذلك : · فمنهم من أباحه وتعاطاه · ومنهم من جزم بتحريمه وبدع فاعله . · وذهب فريق ثالث إلى القول بالكراهة . وقد حكى القول بإباحة اتخاذ الفأل من المصحف عن جماعة من أهل العلم , كعبيد الله بن بطة , ومحمد بن أحمد اليونينى , .. {30}ويوسف بن عبد الهادى , ومن أصحابنا الحنابلة . بل جزم الأخير به فى غير موضع من كتبه , وهو اختيار البدر بن جماعة , وبه أفتى الشمس الرملى من فقهاء الشافعية . {31} بل زعم طاش كبرى زاده الحنفى , فى كتابه مفتاح السعادة مشروعية اتخاذ الفأل من المصحف , وأنه منقول عن الصحابة ومن بعدهم , غير أنه لم يسم منهم أحدا , ولم أجد نقلا عن أحد من أهل العلم يؤيد زعمه هذا , بل كافة النصوص التى وقفت عليها تشير إلى أن الكلام فى المسألة متأخر نسبيا , وأن أقدم من نقل عنه فعل ذلك هو ابن بطة الحنبلى , من علماء القرن الرابع الهجرى .قال أبو العباس بن تيمية :( وأما استفتاح الفأل بالمصحف فلم ينقل عن السلف فيه شئ , وقد تنازع فيه المتأخرون وذكر القاضى أبو يعلى أن ابن بطة فعله , وذكر غيره أنه كرهه ). قال البعلى فى الاختبارات : ( ولا يفتح المصحف للفأل , قاله طائفة من العلماء خلافا لأبى عبد الله بن بطه ). وقال ابن مفلح فى الفروع : ( واستفتاح الفأل فيه فعله ابن بطة , ولم يره غيره .. ذكره شيخنا واختاره ). قال الدميرى الشافعى : ( وأما أخذ الفأل منه فجزم ابن العربى والطرطوشى والقرافى المالكيون بتحريمه , وأباحه ابن بطة من الحنابلة , ومقتضى مذهبنا كراهته ). ذكر ذلك الشهاب الرملى فى حاشيته على شرح الروض للأنصارى الشافعى . {32} قال ابن العربى فى تفسيره لآيات الأحكام عن قوله تعالى : (وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ), وقال ( معناه تطلبوا ما قسم لكم , وجعله من حظوظكم وآمالكم ومنافعكم , ومحرم فسق ممن فعله , فإنه تعرض لعلم الغيب , ولا يجوز لأحد من خلق الله أن يتعرض للغيب ولا يطلبه . فإن الله سبحانه قد رفعه بعد نبيه إلا فى الرؤيا . فإن قيل فهل يجوز طلب ذلك فى المصحف ؟ قلنا : لا يجوز , فإنه لم يكن المصحف ليعلم به الغيب , وإنما بينت آياته ورسمت كلماته ليمنع عن الغيب ,فلا تشتغلوا به , ولا يتعرض أحدكم له ) وذكر القرافى فى الفروق أن الطرطوشى لم يحك فى حرمة أخذ الفأل من المصحف خلافا . وقال ابن الحاج فى المدخل وهو بصدد الكلام عن التفاؤل الباطل : ( وأشد من ذلك التفاؤل فى فتح الختمة والنظر فى أول سطر يخرج منها أو غيره , وذلك باطل , وقد نهى عنه . بيان ذلك أنه قد يخرج له منها آية عذاب ووعيد فيقع له التشويش من ذلك , فرفع عنه ذلك حتى تنقطع عنه مادة التشويش . بل يخشى عليه أن يقع له ما هو {33} أشد من ذلك , ويؤول أمره إلى الخطر العظيم . ألا ترى إلى ما جرى لبعض الملوك أنه فتح المصحف ليأخذ منه الفأل , فوجد فى أول سطر منه :( وَاسْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ), فوجد من ذلك أمرا عظيما , حتى خرج بذلك عن حال المسلمين , وجرت منه أمور لا يمكن ذكرها لمنافرتها لحال المسلمين . والذخيرة قال الطرطوشى رحمه الله تعالى : إن أخ الفأل بالمصحف وضرب الرمل ونحوهما حرام , وهو من باب الاستقسام بالأزلام , مع أن الفأل حسن بالسنة , وتحريره أن الفأل الحسن هو ما يعرض من غير كسب , مثل قائل يقول : يا مفلح ...... ونحوه والتفاؤول المكتسب حرام كما قال الطرطوشى فى تعليقه ). فتلخص مما مر أن لأهل العلم فى هذه المسألة ثلاثة أقوال : * التحريم .. وهو اختيار ابن العربى والطرطوشى والقرافى من فقهاء المالكية . * الكراهة .. وبه قالت طائفة من أهل العلم , ولم يظهر لى وجه القول بالأباحة هذا .. والله أعلم بالصواب ). {34} |
إتلاف المصحف | غير مصنف قال صَالِحٌ بْنُ مُحَمَّدِ الرَّشيدِ(م): (لا خلاف بين أهل العلم فى تحريم إتلاف المصاحف على وجه الاستخفاف , بل صرح بعضهم بكون ذلك بابا من أبواب الردة , أعاذنا الله من ذلك . فإن كان الإتلاف لا على وجه الاستخفاف , فلا يخلو من أن يكون المصحف سليما صالحا للإنتفاع به , أو أن يكون معطلا باليا يتعذر الانتفاع به , أو أن يكون قد تنجس بما لا يأتى معه تطهيره , كالمكتوب بمداد نجس مثلا. فإن كان المصحف طاهرا سليما يمكن الانتفاع به , فلا يجوز إتلافه , صرح بذلك غير واحد من اهل العلم , كابن عبد الهادى الحنبلى فى كتابه مغنى ذوى الأفهام , حيث قال : ( ولا يجوز دفن مصحف صحيح ولا غسله ). والظاهر أن مرادهم فيما لم يكن إتلافه لغرض صحيح , وإن لم أجد تصريحا منهم بهذا القيد , لكن إتلاف الصحابة لما عدا المصحف الإمام , ثم إحراق مروان بعد ذلك للصحف التى عند حفصة رضى الله عنها , وكون ذلك فى محضر من الصحابة يدل على جواز إتلاف المصاحف متى اقتضى إتلافها غرض صحيح تنتفى معه احتمالات العبث والاستخفاف . وسيأتى لذلك تفصيل فى غير موضع من هذا البحث إن شاء الله تعالى . {37} وقد يتعين إتلاف المصاحف متى طرأ عليها خلل يتعلق بطهارتها , كما لو تنجست بما يتعذر معه تطهيرها . لأن بقاء النجاسة على المصحف فيه إزدراء به , وعدم القيام باحترامه , فاقتضت رعاية ذلك وجوب احترامه . وفصل بعض الفقهاء بين ما كان من أمهات المصاحف وبين ما لم يكن كذلك فقال بمنع إتلاف الأول دون الثانى . فقد ذكر الونشريسى المالكى أن الشيخ أبا إسحاق الشاطبى سئل عن كتاب أو مصحف تحل فيه نجاسة؟ فأجاب : إن كانت نسخة المصحف أو الكتاب من الأمهات المعتبرة التى يرجع إليها أو يعتمد فى صحة غيرها عليها , أو لا يكون ثم نسخة من الكتاب سوى ما وقعت فيه النجاسة , فالحكم أن يزال من جرم النجاسة ما استطيع عليه , ولا إثم للأثر , فإن الصحابة رضوان الله عليهم تركوا مصحف عثمان رضى الله عنه وعليه الدم . ولم يمحوه بالماء ولا أتلفوا موضع الدم لكونه عمدة الإسلام .{38} وأما إن لم يكن الكتاب أو المصحف كذلك ينبغى أن يغسل الموضع , ويجبر إن كان مما يجبر , أو يستغنى عنه بغيره , والله أعلم . فهذا ما ظهر من الجواب . وحكى الونشريسى أيضا عن بعض فقهاء المالكية فى المصحف إذا تنجس أنه ينتفع به كذلك , كما أجيز لبس الثوب المتنجس فى غير الصلاة , وذكر الله طاهر لا يدركه شئ من الواقعات . بيد أن المشهور عند فقهاء المالكية موافق لما عليه جمهور الفقهاء من وجوب إتلاف المصحف إذا تنجس وتعذر تطهيره وسيأتى بيان ذلك فى مسألة تطهير المصحف إذا تنجس , واختلاف أهل العلم فيما إذا ترتب على تطهيره تلف ماليته , وبخاصة إتلاف ما كان منه لمحجور أو كان وقفا . والفرق بين ما أصابت النجاسة كتابته , وبين ما لوكانت نجاسته على الحواشى أو الجلد . وقد نص بعض أهل العلم على وجوب إتلاف ما ترجحت مفسدة بقاءه , كالذى كثر لحنه كثرة يتعذر معها إصلاحه , أو كان فيه من السقط ما لا يمكن تداركه , مما ترتب عليه إضلال الجهال وإيهام معانى غير مرادة , قياسا على إتلاف ما خالف الرسم العثمانى بالأولى . كما لا يختلف أهل العلم فى وجوب إتلاف ما بلى من المصاحف واندرس {39} وتعطل الانتفاع به , صيانته للمصاحف , وحسما لمادة امتهانها . قال بعض أهل العلم : إذا احتيج إلى تعطيل بعض أوراق المصحف لبلاء ونحوه فلا يجوز وضعها فى شق أو غيره , لأنه قد يسقط , ويوطأ . ولا يجوز تمزيقها لما فيه من تقطيع الحروف وتفرقة الكلم , وفى ذلك إزراء بالمكتوب . {40} الخلاصة 1: إذا كانت عتيقة بالية قد تعطل نفعها . 2: إذا تنجست بما يتعذر معه تطهيرها 3: إذا دخلها خلل يخاف معه على الجهال من الضلال , إما لكثرة السقط فيها , أو كثرة اللحن , أو دس فيها ما ليس منها , أو كان رسمها مخالفا لرسم المصحف الإمام . كيفية الإتلاف : ثم إن أهل العلم حين اتفقوا على مشروعية إتلاف المصاحف متى قام فيها سبب الإتلاف قد اختلفوا فيما يتم هذا الإتلاف , وهل يكون ذلك بتحريقها , أو بغسلها وتغريقها , أو بدفنها , أو بتمزيقها , على أن تراعى الطهارة فى ذلك كله أعنى فى مواد التحريق والتغريق ومكان الدفن . صيانة لكتاب الله وآثاره وإكراما له واحترازا عن امتهانه . وقد ذهب إلى القول بجواز التحريق جمهور أهل العلم , {41} ومنعه آخرون . ثم إن أهل العلم لم يختلفوا فى جواز كل من الغسل والدفن {43} وإن اختلفوا فى حكم التشقيق والتمزيق , إذ صرح بعضهم بمنعه لما فيه من تقطيع الحروف وسكت عنه الأكثرون , بل إن بعض الآثار قد وردت بما يشهد للجواز . وقد تحمل على أن ذلك تشقيق تلاه تحريق جمعا بين الروايات , إذ قد ثبت فى الصحيح أن الصحابة قد أحترقت ما خالف المصحف الإمام إحراقا , وأن مروان قد أحرق الصحف التى كانت عند حفصة أم المؤمنين رضى الله عنها , وأن ذلك كان بمحضر من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين . وعلى القول بمنع حرق المصاحف إذا بليت , وهو قول مرجوح كما مر , فلابد {44} حينئذ من بديل تتحقق معه صيانة المصحف عن الامتهان . فالمنقول عن السلف أنه يدفن . فقد أخرج أبو عبيد فى فضائل القرآن بسنده عن إبراهيم النخعى قال : ( كانوا يأمرون بورق المصحف , إذا بلى أن يدفن . وأخرج ابن أبى داود فى المصاحف بسنده عن طلحة بن مصرف : ( أن عثمان رضى الله عنه دفن المصاحف بين القبر والمنبر ). ثم إن أهل العلم قد اختلفوا بعد ذلك فى كون هذا الدفن يصار إليه رأسا , أم أن الأولى أن يكون بعد الغسل والمحو , كما نص بعضهم على أن هيئة الدفن {45} تكون شبيهة بدفن الآدمى , فليحد للمصحف لحدا , أو يسقف عليه سقفا , ولا يعال عليه التراب مباشرة , وذلك بعد أن يوضع فى خرقة طاهرة , مبالغة فى إكرام المصحف وصيانته , ولئلا يباشره التراب , ولكى لا يكون عرضة للوطء , كما صرح بعضهم بأن يكون مكان الدفن مكانا طاهرا شريفا كالمسجد مثلا . وقد ذكر البخارى رحمة الله أن الصحابة حرقت المصاحف بالحاء المهملة . فى حين تضمن نقل أبى عبيد عن إبراهيم وابن أبى داود عن طلحة بن مصرف : ( أنهم دفنوها , وأمروا بدفنها ). الجمع بين روايتى الإحراق والدفن : فيجمع بين الروايتين بأن يقال : حرقوها أولا , ثم دفنوا ما تخلف عن التحريق . لأن رواية الإحراق قد ثبتت فى الصحيح , فيتعين الأخذ بها , وتقديمها على رواية الدفن . لو قدر التعارض مع أنه لا تعارض فى واقع الأمر إذ الجمع ممكن , فيتعين المصير إليه . قال الحافظ فى الفتح بعد أن ذكر الروايات المتعارضة فى مسألة إتلاف مروان للصحف التى كانت عند حفصة رضى الله عنها : ( ويجمع بأنه صنع بالصحف جميع ذلك من تشقيق ثم غسل ثم تحريق , ويحتمل أن يكون بالخاء أن يكون بالخاء المعجمة فيكون مزقها , ثم غسلها .. والله أعلم ) . وسيأتى نص الحافظ بتمامه فى مسألة تمزيق المصحف) . {46} |
إثبات البسملة فى المصحف | غير مصنف قال صَالِحٌ بْنُ مُحَمَّدِ الرَّشيدِ(م):( أجمع أهل العلم من السلف والخلف , على تواتر ثبوت البسملة فى المصحف فى أوائل السور عدا براءة , فإن كتابة البسملة فى أولها محظورة على اختلاف بين أهل العلم فى كون هذا الحظر على سبيل الكراهة أو على سبيل التحريم , وماهية الباعث على ذلك الحظر.{47} كما فرق بعض أهل العلم بين ترك كتابة البسملة فى أول براءة فى المصاحف , وبين كتابتها فى الألواح , فمنعها فى الأول , وأجازها فى الثانى , وفرق أيضا بين {50} كتابة البسملة فى أثناء السورة فى المصاحف , وبين كتابتها فى الألواح حذرا من أن يزاد فى المصحف ما ليس منه . كما اختلف أهل العلم فى دلالة كتابة البسملة فى المصحف بخطه وبقلم الوحى , وكون ذلك حجة فى قرآنية البسملة , أو عدم قرآنيتها , فقد ذهب الجمهور ومنهم أبو حنيفه {51} والشافعية {52} والحنابلة إلى القول بقرآنية البسملة استنادا إلى الإجماع على تواتر ثبوتها فى {54} المصحف فى أوائل السور بقلم الوحى فى غير براءة . ولقول عائشة رضى عنها : ( ما بين دفتى المصحف كلام الله ) وذهبت طائفة من أهل العلم إلى القول بعدم قرآنية البسملة فى أول كل سورة , وأن الإجماع على إثباته فى المصحف إنما يستند إلى شهرة استنان الافتتاح بها فى الشرع . والقول بعدم قرآنية البسملة فى أوائل السور هو مذهب مالك ورواية عن أحمد وإن استبعد ابن رجب {56} ثبوتها عنه . كما حكى القول بعدم قرآنية البسملة فى غير النمل عن الحسن البصرى و الأوزاعى , ونصره ابن الطيب الباقلانى, وهو قول لبعض الحنفية ضعفه محققوهم , ثم إن القائلين بقرآنية البسملة قد استدلوا على ما ذهبوا إليه بجملة من الآثار , كالمروى عن ابن عباس رضى الله عنهما : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعرف فصل السورة حتى ينزل عليه " بسم الله الرحمن الرحيم " , وحديث أنس {57} رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنزلت على آنفا سورة " فقرأ:" بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ *ِإنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ"" حتى ختمها .. الحديث , ولقول عائشة رضى الله عنها : ( ما بين دفتى المصحف كلام الله ) . واستدلوا بالنظر أيضا فقالوا : إن الصحابة أجمعوا على إثباته فى المصحف بخطه فى أوائل السور , سوى براءة دون الأعشار وتراجم السور والتعوذ , فلو لم تكن قرآنا لما أجازوا ذلك لكونه يحمل على اعتقاد ما ليس بقرآن قرآنا . قالوا : لا يقال لو كانت قرآنا لكفر جاحدها , لأنا نقول ولو لم تكن قرآنا لكفر مثبتها , وأيضا فالتكفير لا يكون بالظنيات , وثبوت البسملة ظنى لا يقينى , ولا تكفير بظن ثبوتا ولا نفيا , بل ولا بيقينى لم يصحبه تواتر وإن أجمع عليه , كإنكار أن لبنت الابن السدس مع بنت الصلب . ثم إن القائلين بقرآنية البسملة , وهم الجمهور على ما مر , قد اختلفوا فى كونها آية من كل سورة , أم أنها آية من الفاتحة فحسب , أم أنها آية مستقلة , نزلت للفصل بين السور وللتبرك فى أول الفاتحة , وهذا الأخير هو الذى عليه الأكثر . وقد مضى ذلك مبينا فى غير موضع من الحواشى السابقة .. والله أعلم بالصواب ).{58} |
الإجارة على التعليم من المصحف | غير مصنف قال صَالِحٌ بْنُ مُحَمَّدِ الرَّشيدِ(م): (صرح غير واحد من أهل العلم بصحة الإجارة على التعليم من المصحف , وذلك بتعليم القراءة منه , من غير حفظ كُلاً أو بعضا . قالوا : ولا يكفى أن يفتحا المصحف ويعينا قدرا منه لاختلاف المشار إليه صعوبة وسهولة , وفارق الاكتفاء بمشاهدة الكفيل فى البيع , لأنه توثقة للعقد لا معقود عليه . ويسهل السؤال عنه فخف أمره . قالوا : وكذا يتصور بأن يعلم من المصحف دون الحفظ , ولا يلزم من العلم من المصحف معرفة السورة التى يريد العقد عليها . وقد بسط ابن حزم فى المحلى الكلام على هذه المسألة, ومسألة كتب المصاحف بأجرة , ونصر القول فيهما , واحتج له ورد أدلة المانعين بما يطول شرحه , فليراجع كلام ابن حزم فى المحلى فى هذا المعنى ..){63} |
إخفاء المصحف حذرا من الرياء | غير مصنف قال صَالِحٌ بْنُ مُحَمَّدِ الرَّشيدِ(م): (عقد أبو عبيد فى فضائل القرآن بابا فى كتمان قراءة القرآن , وما يكره من ذلك وستره ونشره , وذكر فيه جملة آثار , ثم قال : (حدثنا الأشجعى عن سفيان بن سعيد عن سرية الربيع ابن خثيم قالت : كان عمل الربيع سرا كله , حتى إن الرجل ليدخل عليه وهو يقرأ فى المصحف فيغطيه ). ورورى أبو عبيد أيضا قال : ( حدثنا وكيع الأعمش عن إبراهيم أنه كان يقرأ فى المصحف , فاستأذن عليه إنسان , فغطاه , وقال : لا يرى هذا , أنى أقرأ المصحف كل ساعة ). والظاهر أن هذا النوع من الكتمان يحسن العدول عنه حين يتفشى هجر المصحف , وينشغل الناس عن غيره , ويكون إعلان وإظهار كثرة النظر فى المصحف وطول ملازمته حافزا " لهاجريه " على معاودة النظر فيه , وكثرة تعهده . وقد عقد البيهقى فى مناقب الشاعى بابا [ما يستدل على حفظ الشافعى لكتاب الله]. قال : ( دخل بعض فقهاء مصر على الشافعى رحمه الله تعالى المسجد وبين يديه المصحف , فقال : شغلكم الفقه عن القرآن , وإنى لأصلى العتمة وأضع المصحف فى يدى فما أطبقه حتى الصبح ) . وذكره الغزالى فى الإحياء . {87} |
إدخال المصحف في أماكن التخلي ونحوها .. | غير مصنف قال صَالِحٌ بْنُ مُحَمَّدِ الرَّشيدِ(م): (لا خلاف بين أهل العلم فى حظر إدخال المصحف فى أماكن التخلى لغير ضرورة , لكون الدخول بها مع انتفاء الضرورة ضربا من الأمتهان للمصاحف , وإخلالا بما يجب لها من التعظيم , ولما روى من نزعه عليه السلام خاتمه عند دخوله الخلاء , صيانة لما عليه من الذكر . بيد أن تعبير أهل العلم عن هذا الخطر قد {88} اختلف , فمنهم من عبر عنه بالتحريم حتى قال بعض المحققين منهم , بأنه لا يتوقف عن القول بالتحريم عاقل , وهو محمول على حال انتفاء الضرورة أو الحاجة , ويأتى فى كلام المرداوى قريبا , ومنهم من عبر بالكراهة , ومراده الكراهة التحريمية بناء على أصله فى كل ما كان المانع فيه ظنيا , وهو صنيع فقهاء الحنفية . ومنهم من عبر عنه بالكراهة , وأطلق كالشافعية , ولم يظهر لى وجه إطلاقه هذا , بل إن منهم من لم يقل بحظر إدخال المصحف إلى الخلاء لذات الإدخال , وإنما بنى القول بالحظر على كونه حملا للمصحف حال الحدث , وهو ظاهر كلام الشمس الرملى فى فتاويه . فعلى قول الجمهور يحرم الدخول بالمصحف إلى الخلاء , وأماكن قضاء الحاجة , سواء كان ذلك فى البنيان أو خارجها , لاعتبار ذلك منافيا لما يجب من {89} التعظيم للمصحف , ويعد استخفاف به ما لم تدع إلى ذلك ضرورة , كخوف ضياع , أو وقوع بيد من ينتهكه من كافر , أو مجنون , أو ما فى حكمه , كطفل وبهيمة , أو خوف عرق , أو حرق مثلا . قالوا : فإذا وجب نزع خاتم عليه مكتوب ذكر , وتعينت تنحيته عن دخول الخلاء صيانة لذكر الله عزوجل عن الامتهان , فلأن يجب ذلك فى حق المصحف من طريق الأولى . وقد ذهب إلى القول بتحريم إدخال المصاحف إلى أماكن التخلى ما لم تدع إلى ذلك ضرورة جمهور أهل العلم , كما سلف , وهو مقتضى كلام فقهاء الحنفية , وبه صرح فقهاء المالكية , ومال إليه الأذرعى والرملى من {90 } الشافعية , وهو الذى صرح به أصحابنا الحنابلة , حتى قال المرداوى وهو من محققيهم : ( قلت : أما دخول الخلاء بمصحف من غير حاجة فلا شك فى تحريمه قطعا ولايتوقف فى هذا عاقل ). بل صرح بعض الفقهاء بتحريم إدخال المصحف إلى الخلاء , وما فى حكمه : يستوى فيه حال قاصد قضاء الحاجة , وحال من دخله لغرض آخر كأخذ شئ منه مثلا , بل ألحق بعضهم بالحكم المذكور حكم كل مكان دنئ كحمام , وفندق , وملهى , وبيت ظالم , وزريبة حيوان , واسطبل مثلا , إذ يعد إدخال المصحف فى هذه وأمثالها ضربا من الامتهان للمصحف . وفرق بعض الفقهاء بين المصحف الكامل وبين ما كتب منه فى نحو صحيفة , وكالمكتوب على الدراهم , والتعاويذ , فمنعه فريق قياسا على المصحف , ورخص فيه آخرون لعموم البلوى , ومشقة التحرز , ولوجود هذه الأشياء مع معظم الناس فى غالب أوقاتهم وحاجتهم الماسة إلى حملها فى أكثر أحيانهم . وفرقت طائفة ثالثة بين ما {91} كان منها بساتر كالجيب مثلا , وبين ما كان مكشوفا , فأجازته فى الأولى ومنعته فى الثانية , على أن الجميع قد اتفقوا فى استحباب تنحيتها عند الدخول إلى المواطن المذكورة , إجلالا لذكر الله وإيفاء ومراعاة لما يستحقه من التعظيم والتكريم . والله أعلم بالصواب ){92} |
إدخال المصحف فى القبر | غير مصنف قال صَالِحٌ بْنُ مُحَمَّدِ الرَّشيدِ(م): (صرح غير واحد من أهل العلم بتحريم إدخال المصحف فى القبر , لكون ذلك بدعة فى الدين , إذ لم ينقل عن السلف أنهم فعلوه , هذا والقبر جديد لم يدفن فيه أحد , أما إن دفن المصحف مع الميت فى القبر , فوجه الحرمة فيه أظهر لما فى هذا الصنيع من تعريض المصحف للتلوث بصديد الميت إذا انفجر , حتى أفتى بعض أهل العلم بوجوب نبش القبر إذا دفن فيه مصحف , لا سيما إذا طمع بالانتفاع بالمصحف , بأن يخرج سليما , وأم من كشف عورة الميت . وأفتى بعضهم أيضا بعدم إنفاذ وصية من أوصى بدفن المصحف معه , أو شئ من كتبه , لأن تنفيذ الوصية والحالة هذه يؤول إلى امتهان القرآن وذكر الله وتلويثهما . وهذا أمر محرم , فإذا أضيف إليه جانب الابتداع فى ذلك كان التحريم من وجهين , وسيأتى فى مسألة وضع المصحف على بطن الميت , والوصية بدفنه مع الميت , ووضعه بين أكفانه , طائفة من النقول عن أهل العلم , والنصوص عن أهل التحقيق فى المنع من ذلك وتحريمه إذا غلب على الظن تعرض المصحف معه للتلويث) . {93} |
إدخال المصحف فى المقبرة | غير مصنف قال صَالِحٌ بْنُ مُحَمَّدِ الرَّشيدِ(م): (قال عبد الله بن أحمد بن حنبل : سألت أبى عن الرجل يحمل معه المصحف إلى القبر يقرأ عليه ؟ . قال هذه بدعة . قلت لأبى : وإن كان يحفظ القرآن , يقرأ؟. قال : لا . وقد ذكر هذه الرواية صاحب الفروع بلفظ : سأله عبد الله يحمل مصحفا إلى القبر فيقرأ عليه ؟ . قال : بدعة . قال أبو العباس بن تيمية : ( وأما جعل المصحف عند القبور لمن يقصد قراءة القرآن هناك وتلاوته فبدعة منكرة لم يفعله أحد من السلف , بل هى تدخل فى معنى اتخاذ المساجد على القبور , ولا نزاع بين السلف والأئمة فى النهى عن اتخاذ القبور مساجد ). {94} |
الاستئذان للقراءة فى مصحف الغير | غير مصنف قال صَالِحٌ بْنُ مُحَمَّدِ الرَّشيدِ(م): (لأهل العلم فى الاستئذان للقراءة فى مصحف الغير أقوال ثلاثة : أحدها : أن الإذن فى ذلك ليس شرطا , فيجوز للمسلم أن يقرأ فى مصحف أخيه المسلم ولو لم يأذن له , ما لم تتضرر ما ليه المصحف بذلك , لأن لكل مسلم , الحق فى النظر فى كتاب الله لاستخراج حكم الله منه والتقرب بتلاوة القرآن إلى الله فإذا أمكن ذلك مع انتفاء الضرر فى المالية جازت القراءة فى مصحف الغير بدون إذن من صاحبه , يستوى فى ذلك كون مالكه صغيرا أو كبيرا أجنبيا كان القارئ أو قريبا للمالك , مرتهنا للمصحف أو مستودعا , أو وصيا لمحجور أو شريكا مثلا . القول الثانى : لأهل العلم أن الأذن فى القراءة فى مصحف الغير شرط , فلا يصح لأحد أن يقرأ فى مصحف غيره ما لم يأذن له فى ذلك , فإن فعل فهو غاصب يلحقه الإثم ويلزمه الضمان والقول الثالث : أن الأذن مشروط فى حالة وجود مصحف آخر , فإن لم يوجد مصحف غيره جازت القراءة منه بلا أذن من صاحبه . وقد حمل بعض أهل العلم قول المانعين على مثل ما ذكر . الخلاف فى اشتراط الإذن للقراءة فى مصحف الغير : ذهب جمهور أهل العلم إلى القول بلزوم الاستئذان للقراءة فى مصحف الغير , وهو رواية عن الإمام أحمد , ... {100} ووجه عند أصحابنا الحنابلة رجحه جمهورهم , وحمله القاضى على وجود مصحف سواه . وقد ذهب إلى القول باشتراط الإذن من مالك المصحف للقراءة فيه جمهور الشافعية . وإن خاف غير وصى تلف المصحف بأرضة مثلا , خلافا للجوينى من فقهاء الشافعية . والقول باشتراط الاستئذان هو ظاهر كلام الإمام مالك فى المصحف المرهون .{101} وخاصه بعض فقهاء المالكية بغير الوصى , إذ جوزوه له على سبيل الصيانة لمصحف المحجور . وعكس فقهاء الحنفية , فمنعوا القراءة فى مصحف غير البالغ وكذا المرهون فإن فعل المرتهن صار غاصبا . وفرق محمد بن سيرين رحمه الله فى اعتبار الإذن للمرتهن فى القراءة من المصحف المرهون بين ما كان مرهونا بقرض وبين ما كان مرهونا ببيع , فمنعه فى {102} الأول لكونه يفضى إلى قرض جر نفعا , وأجازه فى الثانى لعدم المحظور , حكى ذلك عنه ابن أبى داود فى كتاب المصاحف , وحكى عنه وعن الحسن البصرى جواز القراءة فى المصحف المرهون فى البيع . وقد ذهب إلى القول بجواز القراءة فى مصحف الغير بدون إذن منه مطلقا فريق من أهل العلم , وهو وجه عند أصحابنا الحنابلة , عبر عنه بعضهم بقيل إشارة إلى تضعيفه , وهو الذى جزم به ابن عبد الهادى الحنبلى فى كتابه مغنى ذوى الأفهام ورمز إليه (ء) , إشارة إلى كون هذه المسألة من المسائل الغريبة . لكن البهوتى من أصحابنا الحنابلة فى شرحه على الإقناع قد توهم التفريق بين مصحف المحجور , وبين غيره , إذ قال فى موضع من الشرح المذكور : (" ويلزم بذله " ) أى المصحف لمن احتاج إلى القراءة فيه , ولم يجد مصحفا غيره للضرورة ولا تجوز القراءة فيه بلا إذن مالكه , ولو مع عدم الضرر , لأن فيه افتياتا على ربه ). وقال فى موضع آخر : ( ولا يقرأ الولى ولا غيره فى مصحف اليتيم إن كان ذلك يخلقه – أى يبلى المصحف – لما فيه من الضرر عليه ) . {103} |
اسم المصحف | غير مصنف قال صَالِحٌ بْنُ مُحَمَّدِ الرَّشيدِ(م): (قد مضى فى أول هذا البحث ما يتعلق بتعريف المصحف من الناحية اللغوية مما أغنى عن إعادته هنا , والمتتبع للآثار فى كتب السنة يدرك أن لفظة المصحف كانت معروفة فى الأمم السابقة , كاسم لنوع من الكتب الشرعية , لا يتبادر إلى الذهن عن إطلاق المصحف كتب غيرها .{112} تسمية المصحف بالقرآن : وقد وردت تسمية مكتوب القرآن بالمصحف مرفوعة إلى النبى صلى الله عليه وسلم فى حديث ابن عمر وحديث عثمان ابن أبى العاص رضى الله عنهما , فقد أخرج ابن أبى داود فى كتاب المصاحف من عدة طرق حديث ابن عمر فى هذا المعنى . وفى بعض ألفاظه : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يسافر بالمصحف إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو " . وأخرج ابن أبى داود والطبرانى من حديث عثمان بن أبى العاص قال : ( كان فيما عهد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : لاتمس المصحف وأنت غير طاهر ). وأخرجه الشوكانى أيضا فى السيل الجرار من طريق الطبرانى . وقد ذكر بعض المصنفين فى الأوائل أن أول من سمى القرآن مصحفا , وأول من جمعه هو أبو بكر الصديق رضى الله عنه . وحكى الشبلى فى محاسن الوسائل {113} أن أول من سمى المصحف مصحفا عتبة بن مسعود أخو عبد الله بن مسعود . رواه ابن وهب فى الجامع . وقال الزركشى فى البرهان : ( فائدة : ذكر المظفرى فى " تاريخه " : لما جمع أبو بكر القرآن قال : سموه , فقال بعضهم : سموه إنجيلا , فكرهوه . وقال بعضهم : سموه السفر , فكرهوه من يهود . فقال ابن مسعود : رأيت للحبشة كتابا يدعونه المصحف , فسموه به ). وحكاه أبو شامة فى المرشد الوجيز . وذكر السيوطى فى كتابه معترك الأقران فى إعجاز القرآن نحوا من عبارة الزركشى , ثم قال : لما جمعوا القرآن فكتبوه فى الورق , قال أبو بكر : التمسوا له اسما . فقال بعضهم : السفر , وقال بعضهم : المصحف , فإن الحبشة يسمونه المصحف , وكان أبو بكر أول من جمع كتاب الله وسماه المصحف ). ثم أورده من طريق آخر عن ابن بريدة . وقال السيوطى فى الإتقان : ( قلت : ومن الغريب ما ورد فى أول من جمعه , ما أخرجه ابن أشته فى كتاب المصاحف من طرق كهمس عن ابن بريدة قال : أول من {114} جمع القرآن فى مصحف سالم مولى أبى حذيفة , أقسم ألا يرتدى برداء حتى يجمعه فجمعه , ثم أئتمروا ما يسمونه . فقال بعضهم : سموه السفر , قال ذلك تسمية اليهود فكرهوه . فقال : رأيت مثله بالحبشة يسمى المصحف , فاجتمع رأيهم أن يسموه المصحف . إسناده منقطع أيضا , وهو محمول على أنه كان أحد الجامعين بأمر أبى بكر ). وعزاه الكتانى فى التراتيب الإدارية إلى ابن أبى داود فى كتاب المصاحف ولم أقف عليه فيه حسب النسخة المتوفرة لدى الفرق بين المصحف والصحف : قال الحافظ فى الفتح: ( والفرق بين الصحف والمصحف , أن الصحف الأوراق المجردة التى جمع فيها القرآن فى عهد أبى بكر , وكانت سورا مفرقة , كل سورة مرتبة بآياتها على حدة , لكن لم يرتب بعضها إثر بعض , فلما نسخت ورتب بعضها إثر بعض صارت مصحفا , وقد جاء عن عثمان أنه إنما فعل ذلك بعد أن استشار الصحابة ) ماهية المصحف الذى تتعلق به الأحكام: لاخلاف بين أهل العلم فى أن المصحف الكامل هو الذى تتعلق به الأحكام الخاصة بالمصحف , بيد أنهم اختلفوا فيما دون المصحف الكامل , فمنهم من علق الأحكام على ما كان منه جزءا له بال . {115} ومنهم من أعطى مسمى المصحف للصحيفة فيها ثلاث آيات من القرآن فصاعدا , شريطة أن تتجرد قرآنية المكتوب فى تلك الصحيفة حتى تكون على هيئة المصحفية , بمعنى أن يقصد بإثبات القرآن فيها قراءته ودرسه , وأن يراد بكتابة القرآن فيها الثبات والدوام . ومنهم من لم يعتبر إلا مجرد قصد القراءة بالكتابة , فأعطوا الألواح التى يتعلم بها الصبيان حكم المصاحف . ومنهم من فرق بين ما كان معتادا من الألواح , وبين ما كبر منها جدا , كباب كبير مثلا , فجعل لأول حكم المصحف , وقصر الحكم فى الثانى على النقوش فحسب , حتى جوز بعضهم كأبى الوفاء بن عقيل فى فنونه الجلوس على بساط مكتوب على حواشيه قرآن , قال لعدم شمول اسم المصحف له . وقد نقله ابن مفلح نقل المستغرب له قائلا : ( كذا قال ) على أن ابن مفلح قد عبر عن القول بقصر حكم المصحف على النقوش دون الخالى منه بعبارة قيل إشارة إلى تضعيفه .{116} وقد سوت طائفة من أهل العلم بين المصحف الكامل وبين أى قدر منه فى الحكم , وإن كان آية واحدة , بل ألحق بعضهم بحكم الآية الجملة من القرآن . وبالغ فريق منهم , فعدى الحكم إلى الحروف , وأثبت حكم المصحف لكل حرف من القرآن كتب مجردا عن غيره بقصد الدرس والتلاوة لا بقصد التبرك كالمكتوب فى التمائم والتعاويذ وطرز الثياب , والمنقوش على الدراهم مثلا . ولم يظهر لى وجه التفريق بين ذلك كله , نعم تخرج الآية والآيتان فى الرسائل والكتب لفعله صلى الله عليه وسلم فى مكاتباته لملوك الأرض على سبيل الدعوة , وتبليغ الشريعة . وقد يأتى لهذه التفريعات مزيد بيان فى مظانها من هذا البحث , إن شاء الله تعالى). {117} |
استنقاذ المصحف | غير مصنف قال صَالِحٌ بْنُ مُحَمَّدِ الرَّشيدِ(م): ( صرحت طائفة من أهل العلم باعتبار استنقاذ المصحف , مسوغا ومبررا لارتكاب محظور شرعى تكون المفسدة فى ارتكابه أخف من مفسدة ترك استنقاذ المصحف , كالكلام فى الصلاة , وأداء الصلاة على هيئة صلاة الخوف , ونبش القبر إذا دفن فيه المصحف مع الميت , والمعاوضة عليه بما لا يجوز بيعه كالأدهان النجسة والخمر مثلا , وشراء المصحف حتى على القول بمنع ذلك , وحكاه {118} الطحاوى فى اختلاف العلماء عن الربيع بن سليمان عن الإمام الشافعى . وقال القاضى أبو يعلى فى الأحكام السلطانية وهو بصدد ذكر الروايات عن الإمام أحمد فى بيع أرض السواد وإجاراتها قال :" وقد قال أحمد فى رواية المروزى " والحجة فى شراء السواد ولا يباع فعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رخصوا فى شراء المصاحف , وكرهوا بيعها " وهو استحسان وليس هو القياس ). {119} |
الإشتغال بالمصاحف | غير مصنف قال صَالِحٌ بْنُ مُحَمَّدِ الرَّشيدِ(م): ( قال الشيخ تقى الدين بن تيمية : ( إن كتابة القرآن والأحاديث الصحيحة والتفاسير الموجودة الثابتة من أعظم القربات والطاعات ). واستدل فى موضع آخر على فضل كتابة القرآن بقوله عليه السلام :" إن الله يدخل بالسهم الواحد الجنة ثلاثة : صانعه , والرامى به , والممد به " . فالكتابة كذلك لينتفع به أو لينفع به غيره كلاهما يثاب عليه . وأخرج ابن أبى داود فى المصاحف بسنده عن مالك بن دينار قال (" دخل على جابر بن زيد وأنا أكتب مصحفا , فقلت له : كيف ترى صنعتى هذه يا أبا الشعثاء ؟ فقال: نعم الصنعة صنعتك , وما أحسن هذا تنقل كتاب الله من ورقة إلى ورقة , وآية إلى آية , وكلمة إلى كلمة , هذا الحلال لا بأس به ) . وأخرجه من وجه آخر عن مالك بن دينار أيضا قال : ( دخل على جابر بن زيد وأنا أكتب المصحف , فقال لى : مالك صنعة إلا أن تنقل كتاب الله من ورقة إلى {155} ورقة , هذا والله كسب الحلال , وهذا والله كسب الحلال). وأخرجه من وجه ثالث من طريق يعقوب بن سفيان عن عبد الملك بن شداد الأزدى قال : ( دخل أبو الشعثاء على مالك بن دينار فقال : يا أبا الشعثاء , كيف ترى صنعتى هذه ؟ . فقال : نعمت الصنعة صنعتك , تنقل كتاب الله من ورقة إلى ورقة , ونعمت الصنعة صنعتك فالزمها ). وقد مضى فى مسألة الاحتساب فى كتابة المصاحف طرف من هذا , وقد يأتى له مزيد بيان فى غير موضع من هذا البحث ككتابة المصاحف , والاشتغال بها فى المساجد وحال الاعتكاف . وذكر الغزالى فى الإحياء أن كتابة المصحف تكون كفارة لإثم مسه على غير طهارة , قال : ( ويكفر مس المصحف محدثا بإكرام المصحف , وكثرة قراءة القرآن منه , وكثرة تقبيله بأن يكتب مصحفا ويجعله وقفا ) . كذا وقعت الباء موقع الواو). {156} |
اصطحاب المصحف | غير مصنف قال صَالِحٌ بْنُ مُحَمَّدِ الرَّشيدِ(م): (أخرج ابن أبى داود فى المصاحف , والقاضى وكيع فى أخبار القضاه واللفظ لابن أبى داود قال : حدثنا على بن حرب , حدثنا أبو معاوية , حدثنا يزيد بن مردانبه قال : رأيت أبا بردة على دابة فى رحاله , عليها قطيفة سوداء , ومعه مصحف لا يكاد يفارقه ) وقد يأتى لهذه المسألة مزيد بيان عن الكلام على مسألة تعليق المصحف) .{157} |
إصلاح الخطأ فى المصحف وتصويبه | غير مصنف قال صَالِحٌ بْنُ مُحَمَّدِ الرَّشيدِ(م): (صرح غير واحد من أهل العلم بوجوب إصلاح الخطأ فى المصحف وتصويبه متى عثر عليه فى خطه أو شكله , لأن الغلط فى المصحف نوع منكر تتعين إزالته على من قدر عليه , ويتحتم تغييره ممن أمكنه ذلك , فإن لم يفعل مع القدرة كان آثما والقول بوجوب إصلاح الخطأ فى المصحف مطلقا هو الذى صرح به العبادى الشافعى , ونقله عنه وأقره الأسنوى , والزركشى وغيرهما من علماء الشافعية . {158} وقد أطلقوا القول بوجوب إصلاح الخطأ فى المصحف وسووا فى ذلك بين ما كان من المصاحف وقفا أو طلقا , وبين ما كان منها مملوكا للمصلح , أو كان ملكا لغيره رضى صاحبه بذلك التصويب أم لا , وسواء كان خط المصوب حسنا أم سقيما . لكن طائفة من أهل العلم قد جعلوا لذلك قيودا , واعتبروا له شروطا ككون خط المصوب مناسبا , وإذن مالك المصحف بذلك التصويب , وعدم كثرته كثرة تستتبع أجرة للمصوب لم يقل بها مالك المصحف سلفا , وقد قال بهذه القيود جمع منهم البدر بن جماعة , والسراح البلقينى , وابن حجر الهيتمى من فقهاء الشافعية , بل إن الأخير منهم قد مال إلى القول بتحريم التصويب إذا كان بخط سقيم يعيب المصحف وينقصه . وقد اشترط غير واحد من فقهاء الحنفية لوجوب التصويب وإصلاح الخطأ فى المصحف كون الخط مناسبا , وهو الذى صرح به الحصكفى فى الدر , وابن عابدين فى حاشيته عليه , وهو ظاهر اختيار ابن وهبان فى نظمه . ولم يظهر {159} لى وجه القول بهذه القيود لا سيما وإن إقرار الغلط فى المصحف وتركه من غير تصويب مفسدة عظيمة يتعين درؤها , ويتحتم دفعها حتى مع التسليم بوجود ضرر ولو وجه الاحتمال يلحق المصحف أو مالكه , فإن هذا الضرر وإن كان مفسدة إلا إنها دون مفسدة ترك الخطأ على ما هو عليه , وقد تقرر فى الأصول أن ارتكاب أخف المفسدتين لدرء أعظمها أمر متعين . وقد نص المحققون من أهل العلم على أنه ينبغى إصلاح الخطأ فى الحديث وتصويب اللحن فيه و الأصل فى ذلك ما أخرجه الطبرانى وغيره عن زيد بن ثابت رضى الله عنه فى قصة كتابته للوحى بين يدى النبى صلى الله عليه وسلم وفيها {فإذا فرغت , قال : اقرأه , فاقرأه , فإن كان فيه سقط أقامه , ثم أخرج به إلى الناس } بل جزم بعضهم بوجوب تصويب الخطأ واللحن فى الفتاوى ورقاع المستفتين , وهو الذى صرح به أصحابنا الحنابلة وغيرهم , فإصلاح الخطأ وتصويبه فى المصحف واجب بطريق الأولى . على أن من أهل العلم من صرح بوجوب إتلاف المصحف إذا كثر الغلط {160} واللحن فيه , أو كان خطه رديئا يتعذر معه الانتفاع به أو يفضى إلى الوقوع فى لبس على قارئه , ولم يلتفتوا إلى ما فيه من مالية إعمالا لقاعدة ارتكاب أخف الضررين وأهون المفسدتين درءا لأكبرهما . لا لحن فى المصحف الإمام : لا يقال بأن اليسير من اللحن فى المصحف مغتفر , وأن إصلاحه غير متعين بدليل ما روى عن عثمان رضى الله عنه من قوله حين رفع إليه المصحف بعد الفراغ من كتابته : ( أرى فيه شيئا من لحن ستقيمه العرب بألسنتها ) وفى لفظ عكرمة قال : ( لما كتبت المصاحف عرضت على عثمان , فوجد فيها {161} حروفا من اللحن , فقال : لا تغيروها فإن العرب ستغيرها , أو قال : ستعربها بألسنتها , لو كان الكاتب من ثقيف والمملى من هذيل لم توجد فيه هذه الحروف ) وعن هشام بن عروة عن أبيه قال : ( سألت عائشة عن لحن القرآن , عن قوله : {قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} [طه 63], وعن قوله : {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُوْلَـئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً}[النساء : 162] وعن قوله :{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِؤُونَ}[المائدة 69], فقالت : يا ابن أختى هذا عمل الكتاب , أخطأوا فى الكتاب ) . وروى نحو من ذلك عن أبان بن عثمان , وسعيد بن جبير , وفى الأخير زيادة وعن قوله : {فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ} [المنافقون : 10] . فإن هذه الآثار لا {162} تثبت ولا يصح منها شئ عند المحققين من أهل العلم , وعلى فرض صحتها فقد أجابوا عنها بما يقتضى نفى اللحن المتوهم هنا , والذى يعد نوع خطأ فى المصحف أقره الصحابة ومن بعدهم من علماء السلف , وقد تضمنت الحواشى السابقة طرفا من أجوبة أهل العلم عن ذلك , فلا حجة إذا بما روى فى هذا الباب للقول باغتفار الخطأ أو اللحن اليسير فى خط المصحف . وقد ذكر غير واحد من أهل العلم توجيه ما قيل عنه أنه لحن كقوله تعالى : {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ}. {164} وقوله سبحانه :{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِؤُونَ}.{165} وقوله سبحانه : {قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ}.{166} قال شيخ الإسلام أبو العباس بن تيمية فى كلام مبسوط له حول هذه المسألة: ( ... فلم يختلف لسان قريش والأنصار إلا فى لفظ " التابوه " والتابوت" فكتبوه " التابوت " بلغة قريش . وهذا يبين أن المصاحف التى نسخت كانت مصاحف متعددة , وهذا معروف مشهور , وهذا مما يبين غلط من قال فى بعض الألفاظ إنه غلط من الكاتب , أو نقل ذلك عن عثمان , فإن هذا ممتنع لوجوه ) . {169} ثم ذكرها إلى أن قال : ( ومن زعم أن الكاتب غلط فهو الغالط غلطا منكرا كما قد بسط فى غير هذا الموضع , فإن المصحف منقول بالتواتر , وقد كتبت عدة مصاحف وكلها مكتوبة بالألف , فكيف يتصور فى هذا غلط , وأيضا فإن القراء إنما قرأوا بما سمعوه من غيرهم , والمسلمون كانوا يقرأون " سورة طه " على عهد رسول الله {172} وأبى بكر وعمر وعثمان وعلى وهى من أول ما نزل من القرآن ). إلى آخر كلامه رحمه الله وإنما خص سورة طه بالذكر هنا كلامه من أصله كان يدور حول الآية الثالثة والستين منها ومن المواطن التى قيل بأن فيها لحنا قوله تعالى {فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ} وملخص المختار من تلك التوجيهات أن النصب فى الموطن الأول كان على وجه المدح , والرفع فى الموطن الثانى على سبيل الابتداء مع افتراض التقديم والتأخير فى الآية , والألف فى الموطن الثالث إنما كان إعمالا للأصل فى الأسماء المبهمة إذا ثنيت , ومن قرأ بالياء فإنما اعتمد على القياس المجرد . وأما وجه الجزم فى الموطن الرابع فقد جاء عطفا على موضع الفاء فى قوله تعالى :( فَأَصَّدَّقَ). وقد جرى تفصيل ذلك كله منقولا من مصادره فى الحواشى ذوات الأرقام العشرين والحادى والعشرين والثانى والعشرين والثالث والعشرين والرابع والعشرين والخامس والعشرين بعد المائه الرابعة , فليطالعها فيها من رامه . وقد نفى غير واحد من أهل العلم الغلط فى المصحف الإمام ولم يسلم بصحة المروى عن عثمان وعائشة وغيرهما فى هذا ورده من عدة أوجه نظير ما جاء فى كلام طائفة من أهل العلم كابن قتيبة فى مشكل القرآن , وابن الأنبارى فى كتاب " الرد على من خالف مصحف عثمان " , وأبى بكر الباقلانى فى الانتصار لنقل القرآن , وأبى عمرو الدانى فى المقنع , والسيوطى فى الإتقان . وقد مر النقل عنهم فى الحاشية {173} التاسعة عشرة بعد الأربعمائة من هذا البحث مما أغنى عن إعادته هنا وهكذا يتبين من مجموع النقول التى مر ذكرها عن أهل التحقيق ألا حجة ثابتة مع من قال بوجود لحن فى المصحف الإمام , ولا برهان لديه من أثر أو نظر .. والله أعلم بالصواب) .{174} |
إعارة المصحف | غير مصنف قال صَالِحٌ بْنُ مُحَمَّدِ الرَّشيدِ(م): (لا خلاف بين أهل العلم فى تحريم إعارة المصحف من الكافر , وإنما الخلاف بينهم فى حكم إعارة المصحف من المسلم , فبعد أن اتفقوا على جوازه , بل استحبابه لكونه من التعاون على البر والتقوى , اختلفوا فى كون هذه الإعارة واجبة على الإطلاق أم أنها لا تجب مطلقا , أم أن الوجوب مقيد بحاجة المستعير إلى المصحف . وفصل بعضهم بين إعارة تطول مدتها , وبين إعارة يقصر زمنها . فأوجبها فى الثانية دون الأولى , وفرقت طائفة أخرى من أهل العلم بين ما إذا توقفت صحة صلاة المستعير على ذلك المصحف , وبين مالم يبلغ هذا الحد من الضرورة . فصرحت بالوجوب فى الحالة الأولى دون الثانية , ولعله مراد من لم يصرح . وقد مضى فى مسألة الاستئذان للنظر فى مصحف الغير نحو من هذا مفصلا. الخلاف فى إعارة المصحف : وقد ذهب إلى القول بوجوب إعارة المصحف من المسلم مطلقا إذا طلبه جمع من أهل العلم من السلف والخلف , ولذا قال القرطبى : ( ومن الغلول حبس الكتب عن أصحابها , ويدخل غيرها فى معناها . قال الزهرى : إياك وغلول الكتب . فقيل له : {175} وما غلول الكتب ؟ . قال : حبسها عن أصحابها ) فإذا كان حبس الكتب غلولا , فحبس المصاحف كذلك من طريق الأولى . قال ابن رجب فى قواعده : ( تجب إعارة المصحف لمن احتاج إلى القراءة فيه ولم يجد مصحفا غيره , نقله القاضى فى الجامع الكبير . وذكر ابن عقيل فى كلام مفرد له : أن الأصحاب عللوا قولهم لا يقطع بسرقة المصحف , فإن له فيه حق النظر لاستخراج أحكام الشرع إذا خفيت عليه ,وعلى صاحبه بذله لذلك ) وقال ابن مفلح : ( ويلزم بذله لحاجة , وقيل : مطلقا , وقيل عكسه , كغيره ) وعبارة البهوتى : (" ويلزم بذله " أى المصحف لمن احتاج إلى القراءة فيه ولم يجد مصحفا غيره للضرورة ). قال أبو زكريا الأنصارى الشافعى فى شرح الروض : ( قال فى الكفاية ولو لم يكن بالبلد إلا مصحف واحد ولم يمكن التعلم إلا منه لم يلزم مالكه إعارته , وكذا لو لم يكن إلا معلم واحد يلزمه التعليم , أى بلا أجرة على ظاهر المذهب كما لو احتاج إلى السترة أو الوضوء ومع غيره ثوب أو ماء فينتقل إلى البدل ). قال الرملى فى حاشيته على شرح الروض : ( " قوله لم يلزم مالكه إعارته " قال شيخنا : شمل ما لو كان مالكه غائبا , فليس للعاجز عن القراءة إلا به فعل ذلك , حيث لم يغلب على ظنه رضا مالكه بما ذكر , ولو خالف وفعل كان ضامنا للعين والمنفعة , وقد حكى صاحب الجواهر عن والد الرويانى فى ذلك احتمالين , ويؤيد ذلك ما ذكروه فى باب التيمم أن المحتاج للطهارة إذا وجد ماء لغائب يتيمم ويصلى ولا يستعمله , لأن للماء بدلا {176} ومسألتنا من هذا القبيل ). وعبارة الرملى فى النهاية : ( وقد تكون واجبة كإعارة نحو ثوب لدفع مؤذ كحر , ومصحف على ما جزم به فى العباب تبعا للكفاية ). وتعقبه الشبراملسى بحكاية ما مر فى شرح الروض من عدم اللزوم , وأنه ظاهر المذهب على ما اختاره الرملى فى صفة الصلاة . وجزم الهيتمى الشافعى بوجوب إعارة المصحف . قال العبادى : ( " قوله ومصحف " على ما جزم به العباب تبعا للكفاية كذا شرح م ر , وفيه نظر . وفى شرح الروض فى باب صفة الصلاة قال فى الكفاية : ولو لم يكن بالبلد إلا مصحف واحد ولم يمكن التعلم إلا منه لم يلزم مالكه إعارته ). إلى أن قال : ( وفى العباب فى صفة الصلاة ولا تجب إعارته أى المصحف وإن تعين , فإن غاب مالكه فيحتمل لزوم أخذه وإنه كالعارية , ويحتمل أن لا يضمنه ). وقال الشروانى : (" قوله ومصحف أو ثوب ") عبارة الشارح م ر فى باب صفة الصلاة بعد قول المتن فإن جهل الفاتحة إلخ , حتى لو لم يكن بالبلد إلا مصحف واحد , ولم يمكن التعلم إلا منه لم يلزم مالكه إعارته ). وقد تناقض كلام الرملى فى النهاية كما مر فقال بلزوم الإعارة فى كتاب العارية , فى حين جزم بعدم اللزوم فى صفة الصلاة . وهاك عبارته فيهما :( فإن جهل الفاتحة ) ولم يمكنه تعلمها لضيق وقت , أو بلادة , ولا قراءتها فى نحو مصحف , ولا التسبب إلى حصوله بنحو شراء لو وجد ما يحصله به فاضلا عما يعتبر فى الفطرة حتى لو لم يكن بالبلد إلا مصحف واحد , ولم يمكن التعلم إلا منه لم يلزم مالكه إعارته على ظاهر المذهب ), كذا فى صفة الصلاة . وقال فى باب العارية : ( وقد تكون واجبة كإعارة نحو ثوب لدفع مؤذ كحر ومصحف على ما جزم به فى العباب تبعا للكفاية ). {177} قال الشبراملسى : (عبارة الشارح فى باب صفة الصلاة بعد قول المتن فإن جهل الفاتحة إلخ نصها : حتى لو لم يكن بالبلد إلا مصحف واحد ولو لم يمكن التعلم إلا منه لم يلزم مالكه إعارته ). إلى آخر العبارة فى صفة الصلاة , فكأن الشبراملسى قد ساق هذه العبارة فى باب العارية على سبيل التذكير بما قاله المصنف فى باب صفة الصلاة منبها على تباين الاختيار فى الموضوعين). {178} |
الاعتكاف وأثره فى كتابة المصاحف | غير مصنف قال صَالِحٌ بْنُ مُحَمَّدِ الرَّشيدِ(م): (صرح غير واحد من شراح الهداية : أن للمعتكف أن يكتب الأمور الدينية ,وليس له كتابة المصحف بأجر . وقال الإمام مالك عن المعتكف : ( يكتب المصحف إن أحب ). قال ابن رشد : ( قوله ويكتب المصاحف إن أحب , ومعناه ويكتب المصاحف قبل أن يدخل إن أحب , وهذا على مذهب ابن القاسم , وروايته عن مالك , والذى يرى أن الاعتكاف يختص من أعمال البر بذكر الله تعالى , وقراءة القرآن والصلاة , وأما على مذهب ابن وهب الذى يبيح للمعتكف جميع أعمال البر المختصة بالآخرة , فيجوز له أن يكتب المصاحف للثواب , لا ليمولها , ولا على أجرة يأخذها إلا ليقرأ فيها , وينتفع بها من احتاج إليها ) . وعند خليل فى مكروهات الاعتكاف : اشتغاله بعلم , وكتابته , وإن مصحفا إن كثر . وبالغ على المصحف لئلا يتوهم أن كتابته كتلاوته . وقيد العدوى الكراهة بما لم يكن لمعاشه , موافقة للزرقانى , ونقل المناوى نحوا مما ذكر ابن رشد , ثم قال : وهو يدل على أن كتب المصحف لا يباح للمعتكف على المشهور . {179} وفى الإفصاح عن الإمام مالك : لا بأس أن يكتب المعتكف وعند الشافعية يباح للمعتكف : كتابة العلم ولو حرفة , وله المطالعة فى مباح على ما اختاره النووى , والأنصارى , والسيوطى , والهيتمى , خلافا لما ذكره الغزالى , والرافعى . وعند الحنابلة تجوز الكتابة للمعتكف على الصحيح من المذهب , وقيده بعضهم بما لم يكن تكسبا . قال حرب : ( سئل الإمام أحمد عن العمل فى المسجد نحو الخياط وغيره , فكأنه كرهه ليس بذلك التشديد ). وقال المرزوى : سألته عن الرجل يكتب بالأجرة فيه ؟ . قال : أما الخياط وشبهه فلا يعجبنى , وإنما بنى لذكر الله تعالى . وقال فى رواية الأثرم : ما يعجبنى مثل الخياط والأسكاف وشبهه , وسهل فى الكتابة . قال الحارثى : خص الكتابة لأنه نوع تحصيل علم , فهى فى معنى الدراسة , وهذا يوجب التقيد بما لا يكون تكسبا , وإليه أشار بقوله : فليس ذلك كل يوم . قال المرداوى : ( وظاهر ما نقل الأثرم – وقد قطع المصنف فى باب الإعتكاف أنه لا يجوز للمعتكف أن يتكسب بالصنعة – التسهيل فى الكتابة مطلقا ) . ونقل ابن المفلح فى الاعتكاف قول أبى بكر : لا يقرأ , ولا يكتب الحديث , واقتصر عليه . وحكاه المرداوى فى الإنصاف , ثم نقل قول أبى الخطاب : يستحب إذا {180} قصد به الطاعة . واختاره المجد وغيره , وذكر الآمدى فى استحباب ذلك روايتين فعلى المذهب : فعله لذلك أفضل من الاعتكاف لتعدى نفعه .قال المجد : ( ويتخرج على أصلنا فى كراهة أن يقضى القاضى بين الناس وهو معتكف , إذا كان يسيرا : وجهان , بناء على الإقراء , وتدريس العلم فإنه فى معناه ). وجزم البهوتى بعدم استحباب كتابة الحديث للمعتكف , لأنه صلى الله عليه وسلم كان يعتكف فلم ينقل عنه الاشتغال بغير العبادات المختصة به , ولأن الاعتكاف عبادة من شرطها المسجد , فلم يستحب فيها ذلك كالطواف . ثم ذكر اختيار أبى الخطاب السابق ووجهه . وقد يأتى لهذه المسألة مزيد بسط وبيان عند الكلام على مسألة كتابة المصاحف بصفة عامة , باعتبار مسألتنا هذه أحد أفراد ذلك الموضوع . {181} |
إغراق المصحف | غير مصنف قال صَالِحٌ بْنُ مُحَمَّدِ الرَّشيدِ(م): (لا خلاف بين أهل العلم فى أنه لا يحل تعمد إغراق المصحف لغير مصلحة دينية أو ضرورة وقائية , وأن من أغرق المصحف عبثا يكون آثما مرتكبا لكبيرة من الكبائر , بل قد يكفر بذلك إن فعله على سبيل الامتهان للمصحف , وقد مر طرف من هذا فى غير موضع من هذا البحث , وقد يأتى له ولنظائره مزيد بيان . أما لو كان إغراق المصحف لغرض دينى على سبيل إتلاف ما ترجحت مفسدة بقائه , فالظاهر من كلام السلف جوازه , بل وجوبه درءا لمفسدة بقاءه المتمثلة بحصول فتنة تتحقق بعدم إتلافه مثلا . وقد أخرج ابن أبى داود بسنده عن حذيفة رضى الله عنه قال : ( يقول أهل الكوفة قراءة عبد الله , ويقول أهل البصرة قراءة أبى موسى , والله لئن قدمت على أمير المؤمنين لأمرته أن يغرقها ......) . يعنى المصاحف المختلفة , كمصحف عبد الله بن مسعود , ومصحف أبى موسى رضى الله عنهما , قال ذلك حذيفة رضى الله عنه لما رأى اختلاف الناس فى القرآن , وخشى أن يفضى اختلافهم هذا إلى فتنة تترتب عليها فرقة وانقسام بين المسلمين كالذى حدث فى الأمم قبلها حين اختلفت فى كتبها . {183} وقد تقتضى الضرورة الدنوية كالخوف على الروح مثلا إغراق المصحف وحينئذ يجوز ذلك على ما صرح به بعض فقهاء الشافعية كالشبراملسى ومن تابعه , حيث قال فى جواب له عن سؤال عما لو اضطر إلى مأكول وكان لا يصل إليه إلا بشئ يضعه تحت رجليه , وليس عنده إلا المصحف , فهل يجوز وضعه تحت رجليه فى هذه الحالة أم لا ؟ . قال : ( فأجبت عنه بأن الظاهر الجواز معللا ذلك بأن حفظ الروح مقدم ولو من غير الآدمى على غيره , ومن ثم لو أشرفت سفينة فيها مصحف ,وحيوان على الغرق , واحتيج إلى إلقاء أحدهما لتخليص السفينة ألقى المصحف حفظا للروح التى فى السفينة . لا يقال وضع المصحف على هذه الحالة امتهان , لأنا نقول كونه إنما فعل ذلك للضرورة مانع عن كونه امتهانا , ألا ترى أنه يجوز السجود للصنم والتصور بصورة المشركين عن الخوف على الروح , بل قد يقال : إنه إن يتوقف إنقاذ روحه على ذلك وجب وضعه حينئذ , ويحتمل أنه لو وجد القوت بيد كافر ولم يصل إليه إلا بدفع المصحف له جاز له الدفع , لكن ينبغى له تقديم الميتة ولو مغلظة إن وجدها على دفعه للكافر ). وقد حكى ابن عابدين فى حاشيته كلام الشبراملسى واقتصر عليه . وقد صرح غير واحد من أهل العلم بجواز إتلاف البالى من المصاحف وما لا نفع فيه بالمحو أو الدفن , أو التغريق فى الماء , أو التحريق على ما مضى تفصيله فى مسألة إتلاف المصاحف من هذا البحث فليطلب فيها . {184} |
اقتسام المصحف | غير مصنف قال صَالِحٌ بْنُ مُحَمَّدِ الرَّشيدِ(م): (صرح غير واحد من أهل العلم بأن المصحف لا يقبل القسمة , لا بإرث ولا بشركة , لأن فى قسمته تفريقا له , وكيف يفرق وقد جمعه الله ؟ . وحينئذ يتم الانتفاع به بالمهايأه بين المستحقين . وقد مر فى مسألة إرث المصحف من هذا البحث تفصيل , ما يتعلق بذلك الجانب , وأن من أهل العلم من نص على أن المصحف لا يورث , وإنما يبقى لمن يقرأ من أهل البيت , فلا يباع فى التركة , ولا يجبر الورثة على ذلك , والظاهر من كلام الفقهاء أن القسمة فى المصحف إنما تمتنع إذا كان مصحفا واحدا بخلاف ما لو تعددت المصاحف بعدد رؤوس المستحقين , فإن القسمة حينئذ تجوز لانتفاء المحذور المتمثل فى مفسدة تفريق المصحف . وقد أفتى فريق من أهل العلم بكراهة تفريق المصاحف أسداسا وأسباعا كما مر عن الإمام مالك فى مسألة أجزاء المصحف وأثمانه وأسباعه وأسداسه على أن الضرر الناجم عن اقتسام المصحف بين المستحقين يفضى إلى حرمان كل واحد منهم من بعض المصحف الذى لم يكن فى نصيبه , وهذا يعنى أنه سيحرم من بقية أجزاء القرآن , والتى هو بأمس الحاجة إليها , ولا يتصور استغنائه عنها . قال فى الفتاوى الهندية : ( وفى مختصر خواهر زاده ولا تقسم القوس والسرج ولا المصحف كذا فى التتار خانية ) . إلى أن قال : ( لاتقسم الكتب بين الورثة ,ولكن ينتفع بها كل واحد بالمهايأة , ولو أراد واحد من الورثة أن يقسم بالأوراق {185} ليس له ذلك ولا يسمع هذا الكلام منه , ولا تقسم بوجه من الوجوه ولو كان صندوق قرآن ليس له ذلك أيضا وإن تراضوا جميعا , فالقاضى لا يأمر بذلك ولو كان مصحف لواحد وسهم من ثلاثة وثلاثين سهما منه للآخر , فإنه يعطى يوما من ثلاث وثلاثين يوما حتى ينتفع , ولو كان كتابا ذا مجلدات كثيرة كشرح المبسوط فإنه لا يقسم أيضا , ولا سبيل إلى القسمة فى ذلك , وكذا فى كل جنس مختلف , ولا يأمر الحاكم بذلك , ولو تراضيا أن تقوم الكتب ويأخذ كل واحد بعضها بالقيمة بالتراضى يجوز وإلا فلا , كذا فى جواهر الفتاوى ) . ويأتى له مزيد بيان فى مسألة التنازع فى المصحف . وذكر ابن القيم فى البدائع أن الأئمة الثلاثة جعلوا كتب العلم حال التنازع بين الزوجين فى نصيب الرجل , وخلافا للشافعى الذى يقسم الكتاب الذى يقرأ فيه بينهما . وفى الإقناع وشرحه أن الشريك فى الكتاب يجبر على البيع إذا طلب شريكه ذلك ليتخلص الطالب من ضرر الشركة , فإن أبى الممتنع البيع " بيع " أى باعه الحاكم عليهما , لأنه حق عليه , كما بيع الرهن إذا امتنع الراهن وقسم الثمن بينهما بحسب الملك , لأنه عوضه وهو مذهب أبى حنيفة أحمد رحمهم الله . وذكر فى موضع منه أيضا أنه إذا تنازع رب البيت والمكترى فى الكتب فهى للمكترى لأن العادة أن الأنسان يكرى داره فارغة , ولو تنازع الزوجان فى المصحف فهو له إذا كانت لا تقرأ , فإن كانت تقرأ فهو لهما . قال البهوتى : قلت وكذا ينبغى فى كتب {186} العلم . ولم يبين كيفية انتفاع كل منهما بالمصحف , إلا أن يقال بأن هذا ممكن بطريقة المهايأة كما مر . وقال العبادى فى حاشيته على التحفة :" فرع " هل للعامل الكافر شراء المصحف للقراض ؟ الذى يتجه الصحة إن صححنا شراء الوكيل الكافر المصحف لموكله المسلم لوقوع الملك للموكل دونه ولا يعارض ذلك أنه يملك حصته من الربح بشرطه , فيلزم أن يملك جزأ من المصحف , لأن حصول الربح أمر مستقبل غير لازم للعقد على أنه لا يملك حصته من الربح بمجرد حصول الربح على الصحيح , وظاهر أنه يمتنع قسمة المصحف وإلا لزم ملكه جزء منه وهو ممتنع نعم يمكن التوصل لملك حصته من الربح بنضوض المال مع فسخ العقد , فإن ذلك من الطرق التى تحصل ملك الحصة واستقراره بها فليتأمل ) وذكر ابن عبد السلام فى قواعد الأحكام فى تعارض الظاهرين أن الزوجين إذا اختلفا فى متاع البيت وكان الزوج فقهيا فنازعته فى كتب الفقه , أو مقرئا فنازعته فى كتب القراءة , أو طبيبا فنازعته فى كتب الطب , أو محدثا فنازعته فى كتب الحديث , فإن الشافعى رحمه الله يسوى بينهما نظرا إلى الظاهر المستفاد من اليد , وبعض العلماء يخص كل واحد منهما بما يليق به , نظرا إلى الظاهر المستفاد من العادة الغالبة , وهذا مذهب ظاهر متجه , فإن كل واحد يجد فى نفسه ظنا لا يمكنه دفعه عن نفسه بأن ما يختص بالأزواج الذكورين لهم , وما يختص بالنساء لهن , وما أبعد المشاركة بين الفقيه وزوجته فى حقيهما . قال الشروانى فى حاشيته على التحفة :(" قوله وبهذا أعنى التصرف يفرق إلخ " قد يقال من الأمتعة نحو كتب العلم , وتصرف الزوج العالم فيها أكثر , وقد يقال إن ثبت تصرف الزوج فيها دونها فالقول قوله , وهذا ظاهر سم ). ثم وجدت المزنى فى مختصره يقول: ( قال الشافعى : وإذا اختلف الزوجان فى {187} متاع البيت يسكنانه قبل أن يتفرقا أو بعد ما تفرقا كان البيت لهما أو لأحدهما أو يموتان أو أحدهما فيختلف فى ذلك ورثهما , فمن أقام بينة على شئ فهوله , وإن لم بينة فالقياس الذى لا يعذر أحد عندى بالغفلة عنه على الإجماع أن هذا المتاع بأيديهما جميعا فهو بينهما نصفين , وقد يملك الرجل متاع المرأة وتملك المرأة متاع الرجل , ولو استعملت الظنون عليهما لحكمت فى عطار ودباغ يتنازعان عطرا ودباغا فى أيديهما بأن أجعل للعطار العطر وللدباغ الدباغ , ولحكمت فيما يتنازع فيه معسر وموسر من لؤلؤ بأن أجعله للموسر , ولا يجوز الحكم بالظنون ) والظاهر أن استحقاق المتنازعين فى المصحف إذا اقتضى أن يكون بينهما مناصفة لا يفضى بالضرورة إلى قسمته , بل يمكن الانتفاع بالمهايأة كما مر , أو استخلاصه بالقيمة لواحد منهما , وقد مر فى مسألة إرث المصحف فتوى الإمام مالك بجواز استخلاص الوصى المصحف لليتيم الغلام دون أخواته من الإناث . وقد وجدت الإمام الشافعى فى الأم يقول ما نصه : ( وقد رأيت امرأة بينى وبينها ضبة سيف استفادته من ميراث أبيها بمال عظيم ودرع ومصحف فكان لها دون أخوتها ). ولم يظهر لى مراد الشافعى رحمه الله من هذا القول ولا الكيفية التى اقتضت اختصاص المرأة بالمصحف دون إخوتها) . {188} |
اقتناء المصحف | غير مصنف قال صَالِحٌ بْنُ مُحَمَّدِ الرَّشيدِ(م): (أخرج أبو عبيد فى فضائل القرآن قال : ( حدثنا عبد الله بن صالح عن قباث رزين عن على ابن رباح اللخمى عن عقبة بنعامر قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن فى المسجد نتدارس القرآن , فقال : " تعلموا كتاب الله عزوجل واقتنوه " قال : وحسبت أنه قال : " وتغنوا به , فوالذى نفسى بيده لهو أشد تفلتا من المخاض من العقل " قال : وحدثنا أبو اليمان عن أبى بكر عن عبد الله بن أبى مريم عن المهاجر بن حبيب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا أهل القرآن لا توسدا القرآن , واتلوه حق تلاوته آناء الليل والنهار , وتقنوه , وتغنوه , واذكروا ما فيه لعلكم تفلحون " {189} قال أبو عبيد :" تقنوه " , يقول : اجعلوه غناكم من الفقر , ولا تعدوا الإقلال معه فقرا وقوله " وتقنوه " , يقول : اقتنوه كما تقتنوا الأموال , اجعلوه مالكم . {190} |
التقاط المصحف | غير مصنف قال صَالِحٌ بْنُ مُحَمَّدِ الرَّشيدِ(م): (قال الشبراملسى الشافعى فى حاشيته على النهاية : ( وقع السؤال فى الدرس هل يصح إلتقاط الذمى للمصحف أم لا ؟ والجواب : الظاهر أن يقال فيه بالثانى , لأن صحة التقاطه تستدعى جواز تملكه وهو ممنوع منه ). وعبارة الشروانى : ( قال ع ش والظاهر عدم صحة التقاط نحو الذمى للمصحف لأن صحته تستدعى جواز تملكه وهو ممنوع منه ) . فظاهره جواز التقاط المصحف للمسلم) . {191} |
إلحاق المصحف بغيره | غير مصنف قال صَالِحٌ بْنُ مُحَمَّدِ الرَّشيدِ(م): (قال الشمس الرملى فى النهاية : ( ولو حمل مصحفا مع كتاب فى جلد واحد , فحكمه حكم المصحف مع المتاع فى التفصيل المار , وأما مس الجلد فيحرم مع مس الساتر للمصحف دون ما عداه كما أفتى به الوالد رحمه الله تعالى ). وقال الشبراملسى فى حاشيته على النهاية : (" قوله مس الجلد " ومثل الجلد اللسان والكعب : أى فيحرم من كل منهما ما حاذى المصحف , وفى سم على حج ويبقى الكلام فى الكعب فهل يحرم مسه مطلقا أو الجزء منه المحاذى للمصحف ؟ وهل اللسان المتصل بجهة غير المصحف إذا انطبق فى جهة المصحف كذلك ؟ . فيه نظر أ . هـ . قلت : ولا يبعد تخصيص الحرمة بالجزء المحاذى للمصحف . " فرع " جمع مصحف وكتاب فى جلد واحد . قال م ر : ففى حمله تفصيل حمل المصحف فى أمتعة , وأما مسه فهو حرام إن كان من جهة المصحف لا من الجهة الأخرى أ.هـ . ثم أفاد بحثا أن كعب الجلد يلحق منه بالمصحف ما جاوره ). {192} |
إملاء المصحف | غير مصنف قال صَالِحٌ بْنُ مُحَمَّدِ الرَّشيدِ(م): (لا يخلو إملاء المصاحف من أن يكون عن أصول ينظر فيها المملى حال الإملاء , أو يكون إملاؤه عن ظهر قلب , فإن كان الإملاء معتمدا على أصل ينظر فيه المملى فإن المأثور عن الصحابة رضوان الله عليهم اشتراط كون الأصل الذى يعتمد عليه عند الإملاء أصلا مضبوطا متقنا , وأن يكون المملى فصيح اللسان , جيد اللغة حتى يأمن لحنه , ولكى لا يسئ الكاتب عنه الفهم إذا كان نطقه غير فصيح . وقد أخرج أبو عبيد وسعيد بن منصور وابن أبى داود عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال : ( لا يملين فى مصاحفنا هذه إلا غلمان قريش , أو غلمان ثقيف ){197} وفى رواية عنه أيضا أنه قال : ( إذا اختلفتم فى اللغة فاكتبوه بلغة مضر , فإن القرآن نزل على رجل من مضر ) وعن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه قال : " لا يكتب المصاحف إلا مضرى " أخرج ابن أبى داواد فى المصاحف وعنه الحافظ فى الفتح فى قصة كتابة المصحف الإمام , وذكر حديثا مطولا وفى آخره: ( فلما من ذلك عثمان قال : من أكتب ؟ . قالوا : كاتب رسول الله يزيد بن ثابت . قال : فأى الناس أعرب ؟ قالوا : سعيد بن العاص . قال عثمان : فليمل سعيد وليكتب زيد فكتب زيد ) إلى آخر الأثر , ويأتى بتمامة فى مسألة توحيد المصاحف . الإملاء عن ظهر قلب : فإن كان المملى يعول فى إملاءه على حفظه فالظاهر من المروى عن عمر رضى الله عنه أن ذلك لا يجوز لكل أحد حاشا من شهد له النبى صلى الله عليه وسلم بالحفظ والإتقان وأوصى بأخذ القرآن عنه كابن مسعود مثلا , فقد عقد ابن أبى داود فى {198} كتاب المصاحف بابا فى كتابة المصاحف حفظا , ذكر فيه أثر عمر رضى الله عنه فى هذا الشأن , والذى أخرجه الإمام أحمد فى المسند , واللفظ له قال ( حدثنا أبو معاوية , ثنا الأعمش عن إبراهيم عن علقمة قال : جاء رجل إلى عمر رضى الله عنه وهو بعرفه , قال [أبو ] معاوية : وحدثنا الأعمش عن خثيمة عن قيس بن مروان أنه أتى عمر رضى الله عنه فقال : جئت أمير المؤمنين من الكوفة , وتركت بها رجلا يملى المصاحف عن ظهر قلبه . فغضب وانتفخ حتى كاد يملأ ما بين شعبتى الرحل . فقال : ومن هو ويحك ؟. قال عبد الله بن مسعود . فما زال يطفأ ويسرى عنه الغضب حتى عاد إلى حاله التى كان عليها , ثم قال : ويحك ! والله ما أعلمه بقى من الناس أحد هو أحق بذلك منه , وسأحدثك عنذلك , كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزال يسمر عند أبى بكر رضى الله عنه الليلة كذاك فى الأمر من أمر المسلمين , وإنه سمر عنده ذات ليلة وأنا معه , فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرجنا معه , فإذا رجل قائم يصلى فى المسجد , فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع لقراءته , فلما كدنا أن نعرفه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من سره أن يقرأ القرآن رطبا كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد" . قال : ثم جلس الرجل يدعو , فجعل رسول الله صلى الله يقول له : " سل تعطه , سل تعطه " . قال عمر رضى الله عنه : قلت : والله لأغدون إليه فلأبشرنه . قال : فغدوت إليه لأبشره فوجدت أبا بكر رضى الله عنه قد سبقنى فبشره , ولا والله ما سبقته إلى خير قط إلا وسبقنى إليه ). {199} |
إهداء المصحف | غير مصنف قال صَالِحٌ بْنُ مُحَمَّدِ الرَّشيدِ(م): (استشكل بعض الطلبة ما تفشى فى أوساط الخلف من ظاهرة إهداء المصاحف ولا سيما فى المحافل على سبيل التكريم أو التشريف للآلحاد من الناس أو الجماعات , أو للرمز عن تأكيد الولاء أو التذكير بالعهود إذا كان المهدى إليه مسلما من ذوى الرئاسات . ووجه الاستشكال أنه محدث لا أصل له , أو استعمال للقرآن فى غير ما أنزل له ناهيك عن مصادمته لما هو متقرر شرعا من كون الدين اتباعا وليس ابتداعا , نعم قد روى عن أبى موسى الأشعرى رضى الله عنه أنه لما فتح تستر وجد فى غنائمهما كتابا يقال بأنه كتاب دانيال , فوهبه لرجل من أهلها , وهذا إن صح أمكن الاستئناس به , وإن لم يكف دليلا فى المطلوب على أن من أهل العلم من صرح بصحة هبة المصحف , وهو اختيار القاضى أبو يعلى , وابنه أبى الحسين {202} على ما حكاه عنهما ابن مفلح فى غير موضع من كتبه , وجزم به فى الإقناع وشرحه , بيد أنى لم أقف على مستند نقلى لهم فى هذا الباب وإن عللوا قولهم بجواز هبة المصحف بأن ذلك لا يعود بنقصه , ولا يدل على الرغبة عنه , ولأن هبة المصحف لا اعتياض فيها . والقول بجواز هبة المصحف هو ظاهر كلام صاحب خزانة المفتين الحنفى حيث عد نقط المصحف من قبل الموهوب له مانعا من الرجوع فى الهبة . ثم إنى لم أجد عن غير هؤلاء خلافا لما ذهبوا إليه فى حدود ما اطلعت عليه ... والله أعلم بالصواب . {203} |
إيداع المصحف | غير مصنف قال صَالِحٌ بْنُ مُحَمَّدِ الرَّشيدِ(م): (الظاهر من كلام أهل العلم أن جواز إيداع المصحف عند المسلم إذا كان المودع هو المالك له محل وفاق بينهم , وإنما اختلفوا فى جواز قراءة الوديع فى المصحف الوديعة إذا لم يأذن مالكه له بهذا . وقد مضى فى مسألة الاستئذان للقراءة فى مصحف الغير مفصلا . {208} فإن لم يكن الوديع مسلما فالظاهر من كلام الفقهاء أن إيداعه المصحف لا يجوز مطلقا , يستوى فى ذلك كون المصحف الوديعة تحت يده أو كونه فى يد عدل , لأن الكافر ليس أهلا لاستيداع المصحف , ولا يحل تمكينه منه لا حقيقة ولا حكما . ويأتى فى مسألة الكافر والمصحف موضحا , وكذا فى مسألة المسافرة بالمصحف إلى بلاد الكفر . لكن كلام بعض فقهاء الشافعية يشعر بجواز إيداع المصحف عند الكافر , بشرط أن يوضع بيد عدل فلا يمكن الكافر من المصحف لكونه محدثا . {209} فإن لم يكن المودع مالكا للمصحف فالظاهر من كلام أهل العلم أنه لا يجوز له إيداعه , وقد ذكر الهيتمى فى الفتاوى الحديثية نقلا عن البدر بن جماعة أنه لا يجوز لمستعير المصحف إيداعه لغير ضرورة حيث يجوز شرعا , ولا ينسخ منه بغير إذن صاحبه إذ مطلق الاستعارة لا تتناول النسخ إلا إذا قال له المالك لتنفع به كيف شئت . ولا بأس بالنسخ من موقوف على من ينتفع به غير معين .أ.هـ. هذا فى الكتاب على وجه العموم , وقد يمتنع قياس المصحف على الكتب لهما بينهما من الفرق , ولتمكن حق المسلم فى النظر فيه على الخلاف الذى مر تفصيله فى مسألة الاستئذان للنظر فى مصحف الغير ....... والله أعلم بالصواب) . {210} |
بل المصحف بالريق | غير مصنف قال صَالِحٌ بْنُ مُحَمَّدِ الرَّشيدِ(م): (تفشت فى بعض المجتمعات عادة سيئة أنكرها بعض أهل العلم وعدها صورة من صور امتهان المصاحف , ناهيك عن منافاتها لمقتضايات الصحة والذوق السليم , تلك هى عادة بل الأصبع بالريق عند تقليب صفحات المصحف أو الكتاب بدعوى أن فى ذلك تسهيلا على القارئ وتيسيرا لتقليب الصفحات . وقد تنبه لسوء هذه العادة غير واحد من متقدمى أهل العلم كابن العربى مثلا , ففى حاشية الشيخ العدوى المالكى على شرح الخرشى :( " فائدة " ذكرها التتائى فى الشرح الصغير , البصاق طاهر , ولكنه مستقذر . ولذا اشتد نكير ابن العربى فى العارضة على ملطخ صفحات أوراق المصحف به ,وكذا كل كتاب ليسهل قلبها قائلا إنا لله على غلبة الجهل المؤدى للكفر ) وأفتى الهيتمى بحرمة ذلك . قال الشروانى فى حاشيته على التحفة للهيتمى أيضا: وفى فتاوى الشارح يحرم مس المصحف بأصبع عليه ريق إذ يحرم إيصال شئ من الصاق إلى شئ من أجزاء المصحف ). محو الألواح بالريق : وقد اختلفت كلمة أهل العلم فى مسألة محو ألواح القرآن بالريق , فمنهم من منعه لصورة الامتهان , ومنهم من أجازه لدعاء الحاجة إليه وعدم قصد الاستخفاف به على أن أهل العلم قد اتفقوا على القول بتحريم تعريض القرآن للبزاق فى غير مسألة {211} الألواح , كما اتفقوا على القول بتكفير من فعل شيئا من ذلك على سبيل الاستخفاف وقد مر فى مسألة إلقاء المصحف فى القاذورات إجماع أهل العلم على اعتبار أنه باب من أبواب الردة فى حق من صدر عنه شئ من ذلك على وجه الاستخفاف والامتهان للقرآن . وأما مسألة محو الألواح بالريق والتى اعتادها بعض غلمان الكتاتيب فإن من أهل العلم من شدد فيها , وأفتى بوجوب منع الصبيان منها لحصول الامتهان بها ولو صورة , ومنهم من سهل فيها لعدم قصد الامتهان ولدعاء الحاجة إليها . قال القرطبى فى التذكار :( ومن صيانة القرآن أن لا يمحوه من اللوح بالبصاق ولكن يغسله بالماء ويتوقى النجاسة من المواضع النجسة والمواضع الى توطأ , فإن لتلك الغسالة حرمة ). وقال ابن الحاج فى المدخل منبها المؤدب إلى تحريم مسح القرآن أو بعضه بالبصاق ونحوه من كل مستقذر , قال : ( ويتعين عليه أن يمنع الصبيان مما اعتاده بعضهم من أنهم يمسحون الألواح أو بعضها ببصاقهم وذلك لا يجوز , لأن البصاق مستقذر وفيه امتهان والموضع موضع ترفيع وتعظيم وتبجيل , فيجل عن ذلك وينزه ). وفى المجموع للنووى وعنه الشروانى قال : ( قال القاضى ولا تمكن الصبيان من محو الألواح بالأقذار , ومنه يؤخذ أنهم يمنعون أيضا من محوها بالبصاق , وبه صرح ابن العماد ). أ. هـ. وقال العبادى فى حاشيته على التحفة تعقيبا على قول الهيتمى بكفر من قذر المصحف ولو بطاهر كمخاط وبصاق ومنى , لأن فيه استخفاف بالدين , قال العبادى : ( اختلف مشايخنا فى مسح القرآن من لوح المتعلم بالبصاق , فأفتى بعضهم بحرمته {212} مطلقا وبعضهم بحله مطلقا , وبعضهم بحرمته إن بصق على القرآن ثم مسحه وبحله إن بصق على نحو خرقة ثم مسح بها ). وقال الشروانى :( فما جرت العادة به من البصاق على اللوح لإزالة ما فيه ليس بكفر , وينبغى عدم حرمته أيضا , ومثله ما جرت العادة به أيضا من مضغ ما عليه قرآن أو نحوه للتبرك به أو لصيانته عن النجاسة ). وقال الفتاوى الهندية : ( قد ورد النهى عن محو اسم الله تعالى بالبزاق كذا فى الغرائب ومحو بعض الكتاب بالريق يجوز كذا فى القنية ), ولم يذكر نص النهى المشار إليه فإن أراد به ما أخرجه الديلمى من حديث عائشة :" أكرموا القرآن , ولا تكتبوه على حجز ولا مدر ولكن اكتبوه فيما لا يمحى ولا تمحوه بالبزاق , ولكن امحوه بالماء ", فهو معدود فى الموضوعات على ما ذكره غير واحد من أهل التحقيق ). وفى القليوبى على المحلى :( يجوز ما لايشعر بالإهانة كالبصاق على اللوح لمحوه لأنه إعانة .)أ.هـ . وفى فتاوى الجمال الرملى جواز ذلك حيث قصد به الإعانة على محو {213} الكتابة. وفى مسائل أحمد برواية إسحاق بن هانئ النيسابورى :( ومحوت قدامه لوحا بثوبى فقال : لا تملأ ثيابك سوادا , امح اللوح برجلك ). فظاهره جواز ما لايشم منه قصد الامتهان .{214} |
بلع شئ من المصحف أو شرب محوه | غير مصنف قال صَالِحٌ بْنُ مُحَمَّدِ الرَّشيدِ(م): (الظاهر من كلام أهل العلم أنه لا يجوز لأحد أن يبتلع شيئا من المصحف لا على سبيل الاستشفاء ولا غيره لكون ذلك بدعة فى الدين وامتهانا للكتاب المبين , وذلك بتعريضه لأخلاط الجوف المستقذرة , فضلا عن القول بنجاستها فى معدنها , أو أنها لا تنجس إلا باتصالها بالخارج أو انفصالها . وقد صرح غير واحد من أهل العلم بتحريم بلع قرطاس كتب فيه قرآن أو اسم من أسماء الله عزوجل , وممن صرح بذلك الهيتمى والرملى والعبادى من علماء الشافعية .. قال الهيتمى فى التحفة وهو بصدد عد المحرمات :( وبلع ما كتب عليه بخلاف أكله لزوال قبل ملاقاته للمعدة , ولا تضر ملاقاته للريق لأنه مادام بمعدنه غير مستقذر ومن ثم جاز مصه من الحليله كما يأتى فى الأطعمة ). إلى أن قال : ( ولا يكره شرب محوه وإن بحث ابن عبد السلام حرمته ). قال العبادى فى حاشيته على التحفة:(" قوله لزوال صورته " وإن بحث ابن عبد السلام حرمته ). قال العبادى فى حاشيته على التحفة : (" قوله لزوال صورته" قد يؤخذ من هذا أنه لو محا نحو اللوح الذى فيه قرآن بماء جاز إلقاء ذلك الماء على النجاسة فليتأمل فإنه يحتمل الفرق احتمالا فى غاية القوة , ومنه أن إلقاءه هنا على النجاسات قصدى ). وقال الهيتمى فى الفتاوى الحديثية: ( ويحرم بلع قرطاس كتب فيه نحو قرآن مما مر لا شرب غسالته ). وقال الرملى فى النهاية: ( ويجوز محو ما كتب عليه شئ من القرآن وشربه {215} بخلاف ما لو ابتلع قرطاسا فيه اسم الله تعالى لأنه ينجس بما فى الباطن , وإنما جوزنا أكله لأنه لا يصل إلى الجوف إلا وقد زالت صورة الكتابة ). قال الشبراملسى فى حاشيته على النهاية : (" قوله وشربه " توقف سم على حج فى جواز صبه على نجاسة . أقول : وينبغى الجواز ولو قصدا , لأنه لما محيت حروفها ولم يبق لها أثر لم يكن فى صبها على النجاسة إهانة , وعبارة الشارح فى الفتاوى :الأولى صب غسله وصب ماء غسالته فى محل طاهر ." قوله اسم الله تعالى " أى أو اسم معظم كأسماء الأنبياء حيث دلت قرينة على إرادتهم عند الأشتراك فيه " قوله لأنه ينجس " قد يشكل بأن ما فى الباطن لا يحكم بتنجيسه إلا إذا اتصل بالظاهر . وعبارة حج بعد قول المصنف السابق أحدها خروج ... إلخ نصها : ولا يضر إدخاله : أى نحو العود , وإنما امتنعت الصلاة لحمله متصلا بنجس إذ ما فى الباطن لا يحكم بنجاسته إلا أن اتصل به شئ من الظاهر .أ.هـ ثم رأيت فى سم على منهج الإشكال وجوابه , وعبارته . فرع يحرم ابتلاع ورقة فيها شئ من القرآن لملاقاتها للنجاسة بخلاف محو ما عليها بالماء وشربه فيجوز . هكذا قرره م ر. لا يقال تعليله الأول مشكل لأن الملاقاة فى الباطن لا تنجس , لأنا نقول : فيه امتهان وإن لم ينجس كما لو وضع القرآن على نجس جاف يحرم مع أنه لا ينجس تدبر .أ. هـ فقول الشارح لأنه لا يتنجس معناه يلاقى النجس ). وقال الرشيدى فى حاشيته على النهاية :(" قوله لأنه ينجس بما فى الباطن " صريح فى نجاسة الباطن مع أنهم مصرحون بعدم نجاسته مادام فى الباطن , نعم فيه امتهان كما قاله الشهاب بن قاسم ) قال النووى فى التبيان وتابعه السيوطى فى الإتقان : ( قال القاضى حسين والبغوى وغيرهما : لو كتب رآن على حلوى وطعام فلا بأس بأكله ).أ. هـ {216} والقول بجواز كتابة القرآن على سبيل الاستشفاء ومحوه بالماء وشرب غسالته , وحكم إلقائهما على نجس محل خلاف بين أهل العلم قد فصلته فى بحث مفرد وسمته بالرقى الخطية وحظها من المشروعية).{217} |
تأريخ المصحف | غير مصنف قال صَالِحٌ بْنُ مُحَمَّدِ الرَّشيدِ(م): (مر فى غير موضع من هذا البحث الكلام على مسألة تأريخ كتابة المصحف الأول فى عهد أبى بكر الصديق , وقصة اختيار اسم المصحف , ويأتى أيضا فى مسألة جمع المصحف أن الصديق أول من جمعه بين لوحين , وأن عثمان رضى الله عنه أول من جمع الناس على مصحف واحد بعد أن كانت مصاحف الصحابة مختلفة فى ترتيبها ورسمها , فوحد رضى الله عنه تلك المصاحف فى المصحف الذى عرف فيما بعد بالمصحف الإمام , والذى اتفق على ترتيبه ورسمه سائر الصحابة رضى الله عنهم , كما اتفقوا أيضا على إتلاف ما سواه . وقد مر ذلك كله مفصلا عن الكلام على إتلاف المصاحف وإحراقها , ومسألة جمع المصحف مما أغنى عن إعادته هنا .{235} |
التبرك بالمصحف | غير مصنف قال صَالِحٌ بْنُ مُحَمَّدِ الرَّشيدِ(م): (جرت عادة بعض الناس بأن يضع مصحفا فى مكتبه أو سيارته مثلا على سبيل التبرك به لا لغرض القراءة فيه , وقد استشكل بعض الناس هذا وعده ضربا من البدع وصورة من صور هجر المصحف واستعمالا للقرآن فى غير ما أنزل له . وقد أخرج الدرامى فى سننه وابن أبى داود فى المصاحف وعنه الحافظ فى الفتح من حديث أبى أمامة قال : " اقرأوا القرآن ولا تغرنكم هذه المصاحف المعلقة فإن الله لا يعذب قلبا وعى القرآن " وأخرج ابن أبى داود بسنده عن سفيان أنه كره أن تعلق المصاحف . وسيأتى فى مسألة تعليق المصحف بيان الفرق بين ما كان تعليقه على طاهر وبين ما لم يكن كذلك , وحكم اتخاذ المصحف حرزا , غير أن بعض فقهاء الحنيفة قد سهل فى إمساك المصحف على سبيل التبرك , فقد جاء فى فتاوى قاضى خان وتابعه فى الهندية وابن نجيم فى الأشباه قال : ( رجل أمسك المصحف فى بيته ولا يقرأ؟ إن نوى الخير والبركة لا يأثم , ويرجى له الثواب ). قال الحموى فى شرح الأشباه :( هل يتأتى هذا فى كتب العلم إذا أمسكها ؟ لم {236} أره .أقول الذى يظهر لى أنها ليست كالمصحف , لأن المصحف من شأنه أن يتبرك به وإن لم يقرأ فيه بخلاف كتب العلم , فإنه ليس من شأنها أن يتبرك بها دون قراءتها , وعلى هذا فيحرم حبسها خصوصا إذا كانت وقفا )أ. هـ كلام الحموى . وقال ابن الجوزى : ( وينبغى لمن كان عنده مصحف أن يقرأ فيه كل يوم آيات يسيرة لئلا يكون مهجورا ) . حكى ذلك عنه ابن مفلح فى آدابه . وقد يأتى له مزيد بيان فى مسألة هجر المصحف .. وراجع مسألة " اصطحاب المصحف " من هذا البحث أيضا . {237} |
تجريد المصحف | غير مصنف قال صَالِحٌ بْنُ مُحَمَّدِ الرَّشيدِ(م): (ماهية التجريد : قال أرباب اللغة : جرد الكتاب والمصحف : عراه من الضبط والزيادات والفواتح . الأثر المروى فى ذلك : أخرج عبد الرازق فى المصنف , وأبو عبيد فى فضائل القرآن , وغريب الحديث له , وسعيد بن منصور فى سننه , وابن أبى شيبة فى مصنفه , وابن أبى داود فى المصاحف , وأبو عمر الدانى فى المحكم , والحاكم فى المستدرك , والبيهقى فى شعب الإيمان , واللفظ لأبى عبيد قال :( حدثنا {238} محمد بن جعفر عن شعبة عن سلمة بن كهيل عن أبى الأحوص عن عبد الله – يعنى ابن مسعود – قال : ( جردوا القرآن ليربوا فيه صغيركم , ولا ينأى عنه كبيركم , فإن الشيطان يفر من البيت يسمع فيه سورة البقرة ). وأخرجه أبو عبيد فى غريب الحديث موقوفا على عمر . وقد روى هذا الأثر بلفظ : ( جردوا المصاحف ). أخرجه ابن أبى داود بهذا اللفظ من كلام إبراهيم النخعى , وذكره المرغيانى الحنفى فى كتابه الهداية بصيغة التمريض (روى ), وتعقبه العينى فى البناية بأن هذه رواية غريبة ليس لها وجود فى الكتب المشهورة . المراد بتجريد القرآن : قال أبو عبيد :( قد اختلف الناس فى تفسير قوله : " جردوا القرآن " , فكان {239} إبراهيم يذهب به إلى نقط المصاحف ويقول : جردوا القرآن ولا تخلطوا به غيره . قال أبو عبيد : وإنما أن إبراهيم كره هذا مخافة أن ينشأ نشوء يدركون المصاحف منقوطة فيرى أن النقط من القرآن , ولهذا المعنى كره من كره الفواتح والعواشر , وقد ذهب به كثير من الناس إلى أن يتعلم وحده ويترك الأحاديث . قال أبو عبيد : وليس لهذا عندى وجه , وكيف يكون عبد الله نفسه , وفيه وجه آخر وهو عندى من أبين هذه الوجوه أنه أراد بقوله : جردوا القرآن , أنه حثهم على أن لا يتعلم شئ من كتب الله غيره لأن ما خلا القرآن من كتب الله إنما يؤخذ عن اليهود والنصارى وليسوا بمأمونين عليها , وذلك بين فى حديث آخر عن عبد الله نفسه عن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه قال : أصبت أنا وعلقمة صحيفة فانطلقنا إلى عبد الله فقلنا : هذه صحيفة فيها حديث حسن . قال : فجعل عبد الله يمحوها بيده ويقول : {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} ثم قال : إن هذه القلوب أوعية فأشغلوها بالقرآن ولا تشغلوها بغيره . وكذلك حديثه الآخر : لا تسألوا أهل الكتاب عن شئ فعسى أن يحدثوكم بحق فتكذبوا به , أو بباطل فتصدقوا به , وكيف يهدونكم وقد أضلوا أنفسهم . ومنه حديث النبى صلى الله عليه وسلم حين أتاه عمر بصحيفة أخذها من بعض أهل الكتاب , فغضب فقال :" أمتهوكون فيها يا ابن خطاب " . والحديث فى كراهة هذا كثير . فأما من ذهب إلى ترك أحاديث النبى صلى الله عليه السلام فهذا باطل , لأن فيه إبطال السنن , ومما يبين ذلك حديث عمر حين وجه الناس إلى العراق فقال :" جردوا القرآن وأقلوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا شريككم " , ففى قوله :" أقلوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما يبين لك أنه لم يرد بتجريد القرآن ترك الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " وقد رخص فى القليل منه وهذا يبين لك أنه لم يأمر بترك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم " ولكنه أراد عندنا علم أهل الكتب للحديث الذى سمع من النبى صلى الله عليه فيه حين قال :{240} " أمتهوكون فيها ابن الخطاب ؟" ومع هذا إنه كان يحدث عن النبى صلى الله عليه السلام بحديث كثير ). انتهى كلام أبى عبيد . وذكر الزيلعى فى نصب الراية وتابعه العينى فى البناية أن إبراهيم الحربى أخرج فى غريب الحديث له أثر ابن مسعود السابق من طريق ابن أبى شيبة , وقال (قوله " جردوا القرآن " يحتمل فيه أمران : أحدهما : أى جردوه فى التلاوة ولا تخلطوا به غيره . والثانى : أى جردوه فى الخط من النقط والتعشير . قال الزيلعى : قلت التأويل الثانى أولى , لأن الطبرانى أخرج فى معجمه عن مسروق عن ابن مسعود أنه كان يكره التعشير فى المصحف ) أ . هـ.. الرواية عن التابعين فى تجريد القرآن : وقد حكى القول بتجريد المصاحف عن جمع من التابعين كإبراهيم النخعى , وابن سيرين , والحسن البصرى , وأبى العالية , وأبى {241} رزين , وأبى التياح , كلهم يقول جردوا القرآن ولا تخلطوه بشئ . فترة بقاء المصحف مجردا : مر فى مقدمة هذا البحث عن أبى أحمد العسكرى وأبى عمرو الدانى أن المصحف ظل بضعا وأربعين سنة لم يطرأ عليه أى إضافة فى رسمه , فكان خاليا عن النقط والشكل وكافة الرموز والعلامات , حتى جاء عهد عبد الملك بن مروان ومست الحاجة إلى إحداث شئ من ذلك بسبب زيادة العجمة ووقوع الناس فى أخطاء لا تغتفر , غير أن الدانى فى المحكم قد ذكر من الروايات ما يدل على أن ذلك قد حدث فى عهد معاوية رضى الله عنه , وأن الحامل عليه كثرة اللحن الذى سمعه من عبيد بن زياد حتى كتب معاوية بذلك كتابا إلى أخيه زياد يتضمن معاتبة له على ما لمسه فى ابنه عبيد الله من كثرة اللحن فى القراءة , وأن زيادا قد احتال على أبى الأسود الدؤلى فى إعراب المصحف , والذى كان يتمنع عن ذلك ويتحاشاه زمنا وقد عقد أبو عمرو فى مقدمة المحكم بابا فى هذا الشأن آثرت إيراده فى الحاشية هنا برمته نظرا لأهميته ونفاسته .{242} وسيأتى فى غير موضع من هذا البحث ما يتعلق بالمنقول عن أهل العلم فى شأن ما أضيف إلى المصحف الإمام من الرموز المتعلقة بإعرابه وفواتحه بإعرابه وفواتحه وخواتمه وعواشره ونحو ذلك , واختلافهم فيه بين مشدد ومرخص . حكم تجريد المصحف : ظاهر ما مر أن تجريد المصحف واجب إلا أن من أهل العلم من صرح باستحبابه . قال الزركشى فى البرهان :( ويستحب تجريد المصحف عما سواه , وكرهوا {243} الأعشار والأخماس معه , وأسماء السور وعدد الآيات , وكانوا يقولون : جردوا المصحف . وقال الحليمى :" يجوز لأن النقط ليس له قراءة فيتوهم لأجلها ما ليس بقرآن قرآنا , وإنما هى دلالات على هيئة المقروء فلا يضر إثباتها لم يحتاج إليها " ويأتى فى مسألة تخميس المصحف مزيد من النقل عن أهل العلم وذكر اختلافهم فى ذلك , فليطلب فى موضعه). {244} |
تجليد المصحف | غير مصنف قال صَالِحٌ بْنُ مُحَمَّدِ الرَّشيدِ(م): (المراد بتجليد المصحف تغليفه بغلاف متصل به مشرز عليه يصونه ويحفظه ويكون بمثابة الدفتين له , ويتصل به حتى يتبعه فى البيع ويأخذ حكمه عند جمهور الفقهاء , فلا يمس حال الحدث ولا يمكن منه كافر بحال حتى ولو كان ذلك التمكين لمصلحة المصحف على ما صرح به بعض فقهاء الشافعية . قال الرملى فى النهاية : ( ويمنع الكافر من وضع يده على المصحف لتجليده كما قاله ابن عبد السلام وإن رجى إسلامه , بخلاف تمكينه من القراءة لما فى تمكينه من الاستيلاء عليه من الإهانة). قال الشبراملسى فى حاشيته على النهاية : (" قوله لتجليده " ظاهره وإن احتيج للتجليد وانحصر فى الكافر , وهو ظاهر لأن غاية ما يترتب على عدم تمكينه منه نقصان ورقه أو تلفه , ولم ينظروا له فى غير هذه الصورة . " قوله بخلاف تمكينه من القراءة " إذا رجى إسلامه بأن فهم ذلك من حاله , أما إذا لم يرج إسلامه فإنه يمنع منها , والمخاطب بالمنع الحاكم لا الآحاد لما فيه من الفتنة ). قالوا ويحرم مع عدم الحاجة ومعها يكره . {245} تجليد المصحف قربة : عقد ابن الحاج فى المدخل جملة فصول تختص من يتعاطى صنعة التجليد وما ينبغى فيها من مراعاة آدابها بكونها قربة من القرب بنيتها , وما يلزمه من التحرز واتخاذ الحيطة فيما يحل ويحرم فى بابها , وقد استهل تلك الفصول بقوله (" فصل" فى نية الصانع الذى يجلد المصاحف والكتب وغيرها . اعلم وفقنا الله وإياك أن هذه الصنعة من أهم الصنائع فى الدين , إذ بها تصان المصاحف وكتب الأحاديث والعلوم الشرعية , فيحتاج فى ذلك إلى النية المتقدم ذكرها فى الناسخ لأنه معين بصنعته على صيانة ما تعب فيه الناسخ وحصله , وفيه أيضا جمال للكتاب وترفيع له واحترامه , وترفيعه متعين فإذا خرج الصانع من بيته أخذ من نيات العالم والمتعلم ما يعتوره ويحتاج إليه ثم مع ذلك ينوى إعانة إخوانه المسلمين بصناعته على صيانة مصاحفهم وكتبهم , ثم يصحب مع ذلك نية الإيمان والاحتساب ). ثم مضى فى بيان ذلك وسرد بقية الفصول المتعلقة بآداب التجليد مما لايتسع المقام لذكره هنا وإن كانت فصوله نفيسة يحسن الرجوع إليها للاستفادة منها , وقد تأتى بتمامها فى موضعها من تجليد الكتب فى مصنف أفردته فى أحكام الكتابة والكتب . ويتعين أن يكون الجلد المتخذ للمصحف طاهر العين لم يطرأ عليه خبث ولا نجس وأن يكون خاليا عن كل ما لايليق بالمصحف من تصاوير وكتابات أو نقوش محرمة , فإن كانت النقوش والكتابات مباحة فالظاهر من كلام أهل العلم أنه لا بأس بتغليف المصحف بمثلها على ما صرح به بعض فقهاء الحنفية . قال فى الفتاوى الهندية :( سئل أبو حامد عن الكواغد من الأخبار ومن التعليقات يستعملها الوراقون فى الغلاف ؟ فقال : إن كان فى المصحف أو فى كتب الفقه أو فى التفسير فلا بأس به , وإن كان فى كتب الأدب والنجوم يكره لهم ذلك كذا فى الغرائب ) . إلى أن قال : ( لا يجوز فى المصحف الخلق الذى لا يصلح للقراءة أن {246} أن يجلد به القرآن ويأتى فى مسألة جلد المصحف ما يتعلق بحكم الجلد والفرق بين المتصل منه والمنفصل , كما يأتى فى مسألة تحلية المصحف ما يتعلق بالنقدين فى جلده وتحليته بهما والكتابة بالذهب مثلا وتجليده بالحرير مفصلا ....) {247} |
تحسين المصاحف | غير مصنف قال صَالِحٌ بْنُ مُحَمَّدِ الرَّشيدِ(م): (مر فى مسألة إجادة المصاحف طرف من أقوال أهل العلم فى هذا الباب والآثار الورادة عن بعض الصحابة المقتضية لتبجيل المصاحف وتعظيمها وتكبيرها وتفخيمها , وإجلال خطها وتبينها وتجريدها عما سوى القرآن , وحثهم على تزيينها وإجادة صنعتها , وكراهتهم لضد ذلك كله , حتى روى عن عمر رضى الله عنه أنه عاقب بالضرب رجلا كتب مصحفا دقيقا وعد ذلك من امتهان القرآن ومنافيا لما يستحقه من التعظيم والإجلال . وقد مضى ذلك مفصلا فى الحواشى وما بعدها . {249} |
تحشية المصاحف | غير مصنف قال صَالِحٌ بْنُ مُحَمَّدِ الرَّشيدِ(م): (مضى فى مسألة تجريد المصحف جملة آثار عن السلف تقتضى المنع من إضافة ما ليس بقرآن إلى القرآن ولو على سبيل البيان , وأن المصحف الإمام قد ظل بضعا وأربعين سنة خاليا عن النقط والشكل فضلا عن الفواتح والخواتم وأسماء السور والعواشر إمعانا منهم رضى الله عنهم فى تجريد القرآن عما ليس بقرآن , حتى روى عن عمر رضى الله عنه أنه قال : " ألا أنه إن ناسا يقولون ما بال الرجم كذا , وإنما فى كتاب الله الجلد وقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا معه , والله لولا أن يقول قائلون زاد عمر فى كتاب الله لأثبتها كما أنزلت " وفى لفظ : " ولولا أنى أكره أن أزيد فى كتاب الله لكتبته فى المصحف " وفى لفظ : " والذى نفسى بيده لولا أن يقول الناس زاد عمر فى كتاب الله لكتبتها بيدى : الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموها البتة " وهذا لفظ الموطأ . قال مالك :( الشيخ والشيخة الثيب والثيبة ). وفى لفظ " لكتبتها فى آخر القرآن " {250 } قال صاحب الكوكب الدرى عن قول عمر فى رواية الترمذى " ولولا أنى أكره أن أزيد فى كتاب الله لكتبته فى المصحف ": ( ليس المراد أن أكتبه حيث تكتب آيات الكتاب لأنه حرام , فكيف يكتفى الكراهة , وإنما يعنى أن أكتبه فى حواشى المصاحف حتى ينظر إليه من يقرأ المصحف إلا أن الأمر بتجريد القرآن يمنعنى عن ذلك لئلا ينجر الأمر بالآخرة إلى إدخاله فيه ) . قال فى تحقيق التعليق الممجد: ( قوله : لولا أن يقول .... إلخ , قال الزركشى فى " البرهان ": ظاهره أن كتابتها جائزة وإنما منعه قول الناس , والجائز فى نفسه قد يقوم من خارج ما يمنعه , وإذا كانت جائزة لزم أن تكون ثابتة. وقد يقال : لو كانت التلاوة باقية لبادر عمر ولم يعرج على مقالة الناس , لأن مقالة الناس لا يصلح مانعا . وبالجملة فهذه الملازمة مشكلة , ولعله كان يعتقد أنه خبر واحد والقرآن لا يثبت به وإن ثبت الحكم , انتهى ورده السيوطى فى " الإتقان " بأن قوله لعله كان يعتقد أنه خبر واحد مردود , فقد صح أنه تلقاها من رسول الله صلى الله عليه وسلم , انتهى . والأظهر فى هذا المقام ما قاله الزرقانى وغيره أن مراد عمر من هذا الكلام المبالغة والحث على العمل بالرجم , لأن معنى الاية باق وإن لم يبق لفظها ). وأخرج ابن أبى شيبة عن عامر الشعبى قال : ( كتب رجل مصحفا وكتب عند كل آية تفسيرها , فدعا به عمر فقرضه بالمقراضين. وأخرج ابن أبى داود فى المصاحف من عدة طرق عن مسروق قال : ( كان عبد الله بن مسعود يكره التعسير فى المصحف ). وقد مضى قول بن مسعود رضى الله عنه :" جردوا القرآن ولا تخلطوا بشئ " مخرجا فى مسألة تجريد المصحف . وقال السيوطى فى الإتقان : ( قال الجرجانى من أصحابنا فى الشافى : من {251} المذموم كتابة تفسير كلمات القرآن بين أسطره ). وذكر السيوطى وغيره قول الحليمى: ( تكره كتابة الأعشار والأخماس وأسماء السور وعدد الآيات فيه لقوله :" جردوا القرآن "). وقال الهيتمى فى الفتاوى الحديثية:( وانه يجوز أن يحشى المصحف من التفسير والقراءات كما تحشى الكتب لكن ينبغى أخذا مما مر فى تحشية الكتب أن لا يكتب إلا المهم المتعلق بلفظ القرآن دون نحو القصص والأعاريب الغربية , قال الحليمى : ومن الآداب أن لا يخلط به ماليس بقرآن كعدد الاى والوقوف واختلاف القراآت ومعانى الآيات وأسماء السور والأعشار . قال البيهقى : لأنه صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان لم يفعلوا شيئا من ذلك , وكتب الأحاديث المتعلقة بفضائل السور لا بأس به لمن علم أن تلك الأحاديث أصلا ككون الفاتحة تعدل ثلثى القرآن والإخلاص ثلث القرآن والكافرون وما بعدها ربعه , وإذا زلزلت والعاديات نصفه , وكون آية الكرسى أعظم آية فى القرآن , وكون يسين قلب القرآن أو تعدله عشرات مرات ونحو ذلك مما له أصل , وأما الأحاديث التى لا أصل لها كالمذكورة فى تفسير الواحدى والزمخشرى والبيضاوى وغيرهم فلا يجوز روايتها ولا كتابتها لأنها كذب موضوعة مختلقة , بل الأحاديث التى لا يعلم أن مخرجها ممن يعتمد عليه فى أن الحديث له أصل لا يجوز روايتها ولا كتابتها ). {252} |
تحكيم المصحف | غير مصنف قال صَالِحٌ بْنُ مُحَمَّدِ الرَّشيدِ(م): (تطلق لفظة تحكيم المصحف ويراد بها دعوة المختلفين إلى الاحتكام إلى كتاب الله تعالى والرضا بما تقتضيه نصوص القرآن من الأحكام والنزول على حكم الله عز وجل فى محل التنازع , وقد تتم الدعوة إلى تحكيم كتاب الله بالقول والفعل معا , وذلك بتذكير المختلفين بضرورة الرجوع إلى حكم الله المبين فى كتابه ومناشدتهم ذلك بالقول إن تيسر ذلك بأن أمكن إسماع المتنازعين هذه المناشدة أو برفع المصحف منشورا على سبيل التذكير به فى حق ما لم يتأتى تذكيره بالقول لبعد أو لغلبة ضجيج كما هو الحال عن احتدام النزاع وتلاقى الصفوف فى القتال بين الفئات المسلمة المتناحرة , وقد حكى المؤرخون وكتاب السير أن المصاحف قد نشرت ورفعت لمثل هذه الغاية فى موطنين , أحدهما يوم الجمل , والثانى يوم صفين . الموطن الأول : وقد أخرج القاضى وكيع فى كتابه أخبار القضاة فى ترجمته لكعب بن سور الأزدى قاضى البصرة فى عهدى عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان رضى الله عنهما قال : ( حدثنا محمد بن العباس , قال : حدثنا هلال بن يحى , قال : حدثنا حصين بن نمير عن حصين عن عمرو بن جاوان , قال : لما التقوا يوم الجمل قام كعب بن سور ومعه المصحف ناشره بين الفريقين , يناشدهم الله والإسلام فى دمائهم , فلم يزل بذلك التبرك حتى قتل وإنه هناك . قال عمرو : رأيته ومعه المصحف يناشدهم ). {253} وعبارة ابن الأثير فى أسد الغابة : ( أن كعب بن سور يوم الجمل خرج بين الصفين معه مصحف فنشره , وجعل يناشد الناس فى دمائهم , وقيل بل دعاهم إلى حكم القرآن فأتاه سهم غرب فقتله . قيل : كان المصحف معه وبيده خطام الجمل , فأتاه سهم فقتله ). ونقل الحافظ بن حجر فى الإصابة عن تاريخ يعقوب بن سفيان : أن كعب بن سور رفع المصحف وناشد الفريقين الله والإسلام فلم ينشب أن قتل وذلك يوم الجمل , ثم التقو القوم فكان طلحة بن عبيد الله أول قتيل ). الموطن الثانى للتحكيم : والموطن الثانى الذى جرى فيه تحكيم المصحف يوم صفين , وقد اشتهر ذلك لدى عامة المؤرخين . وقد ذكر أبو منصور الثعالبى فى كتابه الاقتباس قصة التحكيم هذه فقال: ( ولما حمل أهل الشام المصاحف على رؤس الرماح ودعوا إليها , تقدم رجل منهم على فرس أبلق فى يده مصحف قد فتحه , ثم وقف بين الجمعين وجعل {254} يقرأ : {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ *وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * ...... }. فكأنما كانت تلك الحرب نارا صبت عليها ماء . ثم اتفقوا على نصب الحكمين يتأولون قول الله تعالى : {َإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً } وقوله تعالى : {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ}. انتهى كلامه فى الاقتباس وذكر ابن أبى شيبة فى مصنفه رواية أخرى وفيها أن عمرو بن العاص رضى الله عنه قد أشار على معاوية رضى الله عنه بإرسال المصحف إلى على رضى الله طالبا تحكيم المصحف بين الفريقين يوم صفين) . {255} |
الترجمة فى المصحف | غير مصنف الكلام على قضية الترجمة فى المصحف يتناول مسائل : · إحداها : ماهية الترجمة على وجه العموم , والترجمة فى المصحف على وجه الخصوص . · المسألة الثانية : تتعلق بالأثر الوارد فى ابن عباس رضى عنهما , وتسميته بترجمان القرآن · المسألة الثالثة : فى مدى إمكان ترجمة القرآن , وموقف العلماء من ذلك وما الذى يثبت لتلك الترجمة من أحكام القرآن على تقدير إمكانها وجوازها . · والمسألة الرابعة : التعرف على أول ترجمة للقرآن وجدت فى تاريخ الإسلام , ومدى صحة المروى عن سلمان الفارسى رضى الله عنه فى ذلك , وكيف تأولها أهل العلم على تقدير ثبوتها . · والمسألة الخامسة : فى الفرق بين قراءة القرآن بغير العربية وبين كتابته بالأعجمية · المسألة السادسة : فى ذكر طائفة من النقول عن أهل العلم المقتضية لمنع الترجمة للقرآن مطلقا , وحكم تعاطيها , وأثرها على صحة الصلاة ونحوها . · المسألة السابعة : فى ذكر طائفة من النقول عمن رخص فى الترجمة من أهل العلم , وحدود القدر المرخص فيه , وحال من يرخص له , ومستندهم فى ذلك . · والمسألة الثامنة : فى كتابة القرآن والأعجمية وبشكل يمكن معه قراءة القرآن بالعربية , مع التنويه عن شبهة مروجى هذا التوجه وتفنيد تلك الشبهة . · المسألة التاسعة : التمييز بين ترجمة القرآن وبين ترجمة تفسيره ومعانيه , وكون ذلك فى حدود ضرورات التبليغ , وتقدير تلك الضرورات بقدرها , وبيان التدابير التى يتعين اتخاذها فى هذا الباب رعاية لوحدة المسلمين وحذرا من مكائد الساعين للتفريق بين المؤمنين من المستشرقين أو مغتر بهم ممن قصر نظره من المسلمين أو انطلت عليه أراجيف الزنادقة والملحدين . ماهية الترجمة : الترجمة : مصدر ترجم , ويقال : ترجم كلامه إذا بينه , ويقال : ترجم كلام غيره إذا عبر عنه بلسان آخر , ومنه الترجمان والترجمان وهو المفسر للسان , وهو بالضم والفتح هو الذى يترجم الكلام أى ينقله من لغة إلى لغة أخرى . قال ابن الأثير فى النهاية " ترجم " " هـ" فى حديث هرقل " أنه قال لترجمانه " الترجمان بالضم والفتح : هو الذى يترجم الكلام , أى ينقله من لغة إلى لغة أخرى , والجمع التراجم والتاء والنون زائدتان .قال الذهبى : ( والترجمة فى اللغة تطلق على معنيين : الأول / نقل الكلام من لغة إلى لغة أخرى بدون بيان لمعنى الأصل المترجم , وذلك كوضع رديف من لغة واحدة . {322} والثانى / تفسير الكلام وبيان معناه بلغة أخرى . قال فى تاج العروس :" والترجمان المفسر للسان , وقد ترجمه وترجم عنه إذا فسر كلامه بلسان آخر ". قال الجوهرى :" وقيل نقله من لغة إلى لغة أخرى " وعلى هذا فالترجمة تنقسم إلى قسمين : ترجمة حرفية , وترجمة معنوية أو تفسيرية . أما الترجمة الحرفية : فهى نقل الكلام من لغة إلى لغة أخرى مع مراعاة الموافقة فى النظم والترتيب , والمحافظة على جميع معانى الأصل المترجم . وأما الترجمة التفسيرية : فهى شرح الكلام وبيان معناه بلغة أخرى بدون مراعة لنظم الأصل وتربيته وبدون المحافظة على جميع معانيه المراده منه ) وذكر الزرقانى أن الترجمة فى اللغة العربية وضعت لتدل على أحد معان أربعة : " أولها " : تبليغ الكلام لمن لم يبلغه , ومنه قول الشاعر : إن الثمانين - وبلغتها قد أحوجت سمعى إلى ترجمان " ثانيهما " : تفسير الكلام بلغته التى جاء بها , ومنه قيل فى ابن عباس : إنه ترجمان القرآن . ولعل الزمخشرى فى كتابه أساس البلاغة يقصد هذا المعنى إذ يقول :" كل ما ترجم عن حال شئ فهو تفسرته " " ثالثهما " : تفسير الكلام بلغة غير لغته . ثم ذكر كلام صاحب اللسان وصاحب التاج بنحو مما مر , وذكر أن رابع معانى الترجمة هو نقل الكلام من لغة إلى أخرى , واستشهد بكلام ابن منظور والزبيدى السالف ذكره , ثم قال : ولكون هذه المعانى الأربعة فيها بيان جاز على سبيل التوسع إطلاق الترجمة على كل ما فيه بيان مما عدا هذه الأربعة , فقيل ترجم لهذا الباب بكذا أى عنون له , وترجم لفلان أى بين تاريخه وترجم حياته أى بين ما كان فيها , وترجمة هذا الباب أى بيان المقصود منه , وهلم جرا . ثم مضى رحمه الله فى الكلام عن الترجمة فى العرف , وبيان المراد بالعرف هنا , وأنه عرف التخاطب العام لا عرف طائفة خاصة وأمة معينة , إلى أن قال ويمكننا أن نعرف الترجمة فى هذا العرف العام بعبارة مبسوطة فنقول : هى التعبير من معنى الكلام فى لغة بكلام آخر من لغة أخرى مع الوفاء بجميع معانيه ومقاصده , ثم شرح محترزات هذا التعريف , وذكر أقسام الترجمة العرفية , وأنها تنقسم بهذا المعنى العرفى إلى قسمين : حرفية وتفسيرية . فالترجمة الحرفية هى التى تراعى فيها محاكاة الأصل فى نظمه وترتيبه , فهى تشبه وضع المرادف مكان مرادفه , وبعض الناس يسمى هذه الترجمة ترجمة لفظية , وبعضهم يسميها مساوية . والترجمة التفسيرية : هى التى لا تراعى فيها تلك المحاكاة أى محاكاة الأصل فى نظمه وترتيبه , بل المهم فيها حسن تصوير المعانى والأغراض كاملة , لهذا تسمى أيضا بالترجمة المعنوية , وسميت تفسيرية , لأن حسن تصوير المعانى والأغراض جعلها تشبه التفسير , وما هى بتفسير كما تبين لك بعد , فالمترجم ترجمة حرفية يقصد إلى كل كلمة فى الأصل فيفهمها , ثم يستبدل بها كلمة تساويها فى اللغة الأخرى مع وضعها وإحلالها محلها , وإن أدى ذلك إلى خفاء المعنى المراد من الأصل بسبب اختلاف اللغتين فى مواقع استعمال الكلام فى المعانى المرادة إلفا واستحسانا , أما المترجم ترجمة تفسيرية فإنه يعمد إلى المعنى الذى يدل عليه تركيب الأصل فيفهمه ثم يصبه فى قالب يؤديه من اللغة الأخرى , موافقا لمراد صاب الأصل ممن غير أن يكلف نفسه عناء الوقوف عند كل مفرد ولا استبدال غيره فى موضعه . اعتراض على تعريف الترجمة الحرفية : وقد تعقب الزرقانى ومن تابعه فى تعريف الترجمة الحرفية بأنها ليست كما ذكروا آنفا , وإنما هى الترجمة التى تعنى بالضبط الدقيق عن إيراد النص الأصلى , وليس {324} معنى ذلك أن يعمد المترجم إلى كل كلمة أو حرف فيضع مقابلها من اللغة الأخرى بلا مراعة لأصول اللغة المنقول إليها , لأن هذا يولد الاضطراب فعلا . ومضى صاحب الاعتراض قائلا : ولم أورد ذلك لأن الترجمة الحرفية ممكنة فى نظرى , ولكنى أوردته للتنبيه على أن معالجة استحالة الترجمة بهذه الكيفية قد يوقعنا فى متناول النقد من الآخرين , وقد يلزمنا الحجة فى النهاية لعدم تعرفنا على الترجمة الحرفية فنكون قد سلمنا سلاح الانتصار علينا بأيدينا إلى أعدائنا , وهذا أمر غير مراد للكاتبين , ولو كان كذلك لمنعنا الترجمة بهذا المفهوم من اللغات الأخرى إلى اللغة العربية لعدم الوفاء بالشروط التى ذكروها والضوابط التى ارتضوها , وليس لها فى الواقع المعاش وجود لأن الترجمة الحرفية بالمعنى المتعارف عليه عند علماء اللغات أمر يجرى عليه العمل فى كل زمان وما ترجمة المعاهدات , والوثائق إلا مثال لذلك , والظاهر أن كلام الزرقانى ومن وافقه فى بيان حد الترجمة ينسجم مع المنقول عن أسلافهم من علماء هذه الأمة كالإمام الشافعى فى الرسالة , وابن قتيبة فى مشكل القرآن , وابن تيمية فى غير موضع من كتبه , والشاطبى فى موافقاته . 1- ماهية الترجمة المتعلقة بالقرآن على وجه الخصوص : 2- وترجمة القرآن أو الترجمة فى المصحف مشترك لفظى يصدق على عدة معانى : 3- أحدها : الترجمة بمعنى التبليغ , وذلك بإيصال ألفاظه ومعانيه إلى من يقع عليه البلاغ , وقد مر قريبا قول الشاعر : 4- إن الثمانين – وبلغتها قد أحوجت سمعى إلى ترجمان أى : مبلغ . {325} وثانى : هذه المعانى النقل : أى نقل الألفاظ من لغة إلى لغة , ومن لسان إلى لسان . وثالثهما : التفسير والبيان , ومنه تسمية ابن عباس بترجمان القرآن . ورابعهما : ترجمة التفسير بمعنى نقل معانية من لغة إلى لغة . وخامسها : كتابة القرآن بغير العربية مع المحافظة على نظمه وترتيبه والاعتياض برموز ومصطلحات عما يترتب على مثل هذه الترجمة من فوات لحروف وحركات ليس لها نظير فى رسم اللغة المنقول إليها , وبعض هذه المعانى غير مسلمة , بل يكاد ينعقد الإجماع على استحالتها وتعذرها على ما سيأتى موضحا قريبا . 2- أثر ابن عباس بترجمان القرآن : وقد ورد الأثر بتسمية ابن عباس بترجمان القرآن مرفوعا وقوفا , فقد أخرج المرفوع أبو نعيم فى الحلية قال :( حدثنا أبو بكر الطلحى قال : حدثنا جعفر بن أحمد بن عمران قال : حدثنا إبراهيم ابن يوسف الصيرفى الكوفى قال: حدثنا عبد الله بن خراش عن العوام بن حوشب عن مجاهد عن ابن عباس رضى الله عنه قال :" دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير كثير , وقال : نعم ترجمان القرآن أنت ") . وأما الموقوف فقد أخرجه ابن سعد فى طبقاته , ويعقوب الفسوى فى تاريخه , والحاكم فى المستدرك أن عبد الله بن مسعود قال: {326} " ولنعم ترجمان القرآن ابن عباس " مدى إمكان ترجمة القرآن الكريم : المنقول عن المحققين من أهل العلم وفيهم الأئمة الثلاثة مالك , والشافعى , وأحمد أن ترجمة القرآن متعذرة مستحيلة , وأن الإقدام عليها {327} أمر محرم , لكون القرآن معجزا بلفظه ومعناه , فالترجمة إخراج للقرآن عن إعجازه , وإفساد لنظمه وترتيبه وإخلال بمقاصده ومعانيه , وانتهاك لحرمته وقدسيته . قال ابن قتيبه وهو بصدد الكلام عن خصائص اللغة العربية :( وللعرب " المجازات " فى الكلام ومعناها : طرق القول ومآخذه , ففيها الاستعارة , والتمثيل , والقلب , والتقديم , والتأخير , والحذف , والتكرار , والإخفاء والإظهار , والتعريض , والإفصاح , والكناية والإيضاح , ومخاطبة الجميع , والجميع خطاب الواحد , والواحد والجميع خطاب الاثنين , والقصد بلفظ الخصوص لمعنى العموم , وبلفظ العموم لمعنى الخصوص , وبكل " هذه المذاهب " نزل القرآن , ولذلك لا يقدر أحد من التراجم على أن ينقله إلى شئ من الألسنة , كما نقل الإنجيل عن السريانية إلى الحبشية والرمية , وترجمة التوراة والزبور , وسائر كتب الله تعالى بالعربية , لأن " العجم" لم تتسع فى " المجاز " اتساع العرب , ألا ترى أنك لو أردت أن تنقل قوله تعالى : "وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء"), لم تستطع أن تأتى بهذه الألفاظ مؤدية عن المعنى الذى أودعته حتى تبسط مجموعها وتصل مقطوعها , {328} وتظهر مستورها , فتقول : إن كان بينك وبين قوم هدنة وعهد فخفت منهم خيانة ونقضا , فأعلمهم أنك قد نقضت ما شرطت لهم , وآذنهم بالحرب لتكون أنت وهم فى العلم بالنقض على استواء . وكذلك فى قوله تعالى : (فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً), إن أردت أن تنقله بلفظه لم يفهمه المنقول إليه , فإن قلت أنمناهم سنين عددا , لكنت مترجما للمعنى دون اللفظ. وكذلك قوله : (وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً) إن ترجمته بمثل لفظه استغلق , وإن قلت لم يتغافلوا أديت المعنى بلفظ آخر ) وذكر ابن فارس طرفا من كلام بن قتيبة هذا فى كتاب فقه اللغة المعروف بالصاحبى , وصدره بقوله : قال بعض علمائنا . وكان ابن فارس شافعى المذهب , ثم تحول إلى المذهب المالكى . وقال أبو عباس ابن تيمية فى غير موضع من كتبه : ( فأما القرآن فلا يقرؤه بغير {329} العربية , سواء قدر عليها أو لم يقدر عند الجمهور , وهو الصواب الذى لا ريب فيه بل قد قال غير واحد : إنه يمتنع أن يترجم سورة أو ما يقوم به الإعجاز ). وقال الزركشى فى كتابه البحر المحيط وعنه الزرقانى فى المناهل : (" مسألة " لا يجوز ترجمة القرآن بالفارسية وغيرها , بل يجب قراءته على هيئته التى يتعلق بها الإعجاز , لتقصير الترجمة عنه , ولتقصير غيره من الألسن عن البيان الذى خص به دون سائر الألسن . قال تعالى : (بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ) , وهذا لو لم يكن متحدى بنظمه وأسلوبه , وإذا لم تجز قراءته بالتفسير العربى المتحدى بنظمه فأحرى ألا تجوز بالترجمة بلسان غيره , ومن هنا قال القفال فى فتاويه : (عندى أنه لا يقدر أحد أن يأتى بالقرآن بالفارسية . قيل له : فإذن لا يقدر أحد أن يفسر القرآن ؟ قال : ليس كذلك لأن هناك يجوز أن يأتى ببعض مراد الله ويعجز عن البعض , وأما إذا أراد أن يقرأه بالفارسية فلا يمكن أن يأتى بجميع مراد الله ) وفرق غيره الترجمة والتفسير فقال :" يجوز تفسير الألسن بعضها ببعض لأن التفسير عبارة عما قام فى النفس من المعنى للحاجة والضرورة , والترجمة هى إبدال اللفظة بلفظة تقوم مقامها فى مفهوم المعنى للسامع المعتبر لتلك الألفاظ , فكأن الترجمة إحالة فهم السامع على الاعتبار , والتفسير تعريف السامع بما فهم المترجم وهذا فرق حسن ")أ. هـ . {330} النقول عن أهل العلم فى ترجمة القرآن وحكمها ذهب الجمهور من أهل العلم إلى ترجمة القرآن غير جائزة , وأن الصلاة تبطل بها , وأن المترجم على تقدير جواز الترجمة لا يكون قرآنا ولا يثبت له شئ من أحكام القرآن , إذ هو كلام آدميين كسائر كلامهم , والقول بمنع ترجمة القرآن يتناول كافة ضروب الترجمة عند أكثر أهل العلم , ولم يجر فيه خلاف بينهم فى الصدر الأول , ولم ينقل تجويز الترجمة عن أحد من فقهاء السلف قبل أبى حنيفة وأصحابه , ولذا اشتد نكير أهل العلم عليه , واعتبروا القول بجواز الترجمة بدعة من البدع .. وهاك طائفة من النقول فى هذا الباب يتجلى من خلالها موقف المانعين ومستندهم فى هذا المنع , وردهم لحجج المجوزين , وتفنديهم لكافة شبه المروجين للترجمة : 1 / قال ابن المنذر فى الأوسط : ( اختلفوا فيمن قرأ فى صلاته بالفارسية وهو يحسن العربية , ففى مذهب الشافعى لا يجوز , وكذلك نقول . وكذلك قال يعقوب ومحمد إذا كان يحسن العربية , وقال النعمان :" تجزيه القراءة بالفارسية وإن أحسن العربية ". قال أبو بكر : وليس كما قال : لايكون المرء قارئا إلا أن يقرأ كما أنزله الله جل ثناؤه , فمن قرأ على غير ما أنزل الله فغير مجزئ عنه صلاته , إذ قارئه قارئ خلاف ما أنزله الله فى كتابه , وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ) أ. هـ {331} وقد بحث القاضى أبو بكر الباقلانى فى كتابه الانتصار لنقل القرآن مسألتى قراءة القرآن على المعنى دون اللفظ , وقراءة القرآن بالفارسية , وفصل فى تفنيد وابطال القول بجواز كل منهما . وقد أجمل أبو عبد الله الصيرفى فى نكت الانتصار كلام القاضى واختصره , بيد أنه لم يكن فى اختصاره له مبالغا , فقد وقع البحث عنده فى اثنتين وثلاثين صحيفة تقريبا . 2/ قال الإمام أبو الحسن الماوردى فى كتاب الحاوى الكبير : ( فصل : فإذا ثبت ما وصفنا من وجوب الفاتحة واستحباب السورة فلا يجوز أن يقرأ بالفارسية ولا بلغة غير العربية , وأجازه أبو حنيفة إن أحسن العربية أو لا يحسنها , وأجازه أبو يوسف ومحمد لمن لا يحسن العربية دون من يحسنها . واستدلوا بقوله تعالى : (إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى*صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى) , وبقوله : (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ), فأخبر أنه كان فى صحفهم وزبرهم . ومعلوم أنها لم تكن بالعربية , وإنما كانت بلغتهم , فبعضها عبرانى , وبعضها سريانى . وقال تعالى { وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ} فأخبر أنه أنذار للكافة من العرب والعجم , ولا يمكن إنذار العجم إلا بلسانهم ). 3/ قال ابن حزم فى المحلى: ( ومن قرأ أم القرآن أو شيئا منها أو شيئا من القرآن فى صلاته مترجما بغير العربية , أو بألفاظ عربية غير الألفاظ التى أنزل الله تعالى , عامدا لذلك , أو قدم كلمة أو أخرها عامدا لذلك بطلت صلاته وهو فاسق , لأن الله تعالى { قُرْآناً عَرَبِيّاً }, وغير العربى ليس عربيا , فليس قرآنا , وإحالة رتبة القرآن تحريف كلام الله تعالى , وقد ذم الله تعالى قوما فعلوا ذلك فقال: { يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ }. {332} وقال أبو حنيفة :" تجزيه صلاته " , واحتج له من قلده بقوله تعالى :( وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ). قال على : لا حجة لهم فى هذا , لأن القرآن المنزل علينا على لسان نبينا صلى الله عليه وسلم لم ينزل على الأولين , وإنما فى زبر الأولين ذكره والإقرار به فقط , ولو أنزل على غيره عليه السلام لما كان آية له , ولا فضيلة له , وهذا لا يقوله مسلم .. ومن كان لا يحسن العربية فليذكر الله تعالى بلغته , لقول الله تعالى : { لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } , ولا يحل له أن يقرأ أم القرآن ولا شيئا من القرآن مترجما على أنه الذى افترض عليه أن يقرأه , لأنه غير الذى افترض عليه كما ذكرنا , فيكون مفتريا على الله تعالى ) أ. هــ وقال فى موضع من المحلى أيضا : ( ومن أحال القرآن متعمدا فقد كفر , وهذا مالا خلاف فيه , ومن كانت لغته العربية جاز له أن يدعو بها فى صلاته , ولا يجوز له أن يقرأ بها , ومن قرأ بغير العربية فلا صلاة له ). وقال أبو حنيفة : ( من قرأ بالفارسية فى صلاته جازت صلاته . قال على : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن " , وقال تعالى :{ قُرْآناً عَرَبِيّاً }, وقال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ } فصح أن غير العربية لم يرسل به الله تعالى به نبيه عليه السلام , ولا قرأ القرآن , بل لعب بصلاته فلا صلاة له إذ لم يصل كما أمر . فإن ذكروا قوله تعالى : { وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ } قلنا : نعم .. ذكر القرآن والإنذار به فى زبر الأولين , وأما أن يكون الله تعالى أنزل هذا القرآن على أحد قبل رسول صلى الله عليه وسلم فباطل وكذب ممن ادعى ذلك , ولو كان هذا ما كان فضيلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم , ولا معجزة له , وما نعلم أحدا قال هذا قبل أبى حنيفة . {333} ومن لم يحفظ أم القرآن صلى كما هو , وعليه أن يتعلمها , لقول الله تعالى : (لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} فهو غير مكلف ما لم يقدر عليه , فإن حفظ شيئا من القرآن غيرها لزمه فرضا أن يصلى به , ويتعلم أم القرآن لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا صلاة إلا بقراءة ", ولقول الله تعالى : { فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ } بل أن بن حزم فى موضع من المحلى قد قال بوجوب الالتزام بالألفاظ الشرعية الواردة فى العبادات والمعاملات والبراءة ممن تعمد ترك ذلك , ومثله كتابة المصحف بغير رسمه المأثور . 4/ قال أبو الخطاب الكلوذانى فى كتاب الانتصار فى المسائل الكبار :{334} (لا تصح الصلاة بترجمة القرآن بالفارسية وغيرها , قال فى رواية إسماعيل بن سعيد : فمن يقرأ بالفارسية وهو يحسن العربية لا يجزئه , وإذا كان لا يحسن العربية لا يدعو فى الصلاة بالفارسية .. وبه قال مالك , والشافعى , وأبو يوسف و محمد . قال أبو حنيفة : " تصح الصلاة بذلك " لنا : انعقاد الإجماع على أن الواجب فى الصلاة قراءة القرآن , قال تعالى : { فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ } , وقال عليه الصلاة والسلام : " صلاتنا هذه لا يصلح فيها شئ من كلام الآدميين إنما هى التسبيح والتكبير وقراءة القرآن " , وترجمة القرآن ليست قرآنا , لأن القرآن نزل بلسان العرب على نظم مخصوص , قال تعالى : { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً }, وقال سبحانه : { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ }, فدل على أنه لم يجعله أعجميا . فإن قيل فهذا يدل على أنه لو جعله بلغة أخرى لكان قرآنا ؟ قلنا : نعم .. ولكن لم يجعله . فإن قيل فقد قال : { وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً }, ولم يدل على أنه لا يكون {335} قلنا : يحتمل إنا أنزلناه حكما بلفظ عربى , ويحتمل حكما أى محكما عربيا , ولم يرد به القضاء والله أعلم , فإن ذلك لا يتغير بالعجمية والعربية أن يكون حكما , لأنه معنى مفهوم , فأما القرآن فلا يكون بالترجمة قرآنا , ولهذا تفسير القرآن لا يسمى قرآنا , وترجمة الشعر لا تسمى شعرا , ولهذا تحدى الله سبحانه بالقرآن فى نظمه دون حكمه , ولهذا قال تعالى : { فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً } والحكم الذى هو المعنى ميسر بلسان كل أحد , ولهذا قال عليه الصلاة والسلام : " حبوا العرب لأنى عربى , ولأن القرآن عربى ". فإن قيل : فقد قال تعالى {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً } فدل على أنهم لا يأتون بقرآن لا مثله وفيهم العجم . وقال تعالى : { إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى × صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى } وقال تعالى : {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} , ومعلوم أن الصحف والزبر لم تكن بالعربية . قلنا : الله تعالى نفى الإتيان بالمثل , وكذا لم يكن مثله لم يكن قرآنا . قوله : إنه فى المصحف والزبر أراد به الأحكام والمعانى مثل قوله : { وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى{17} إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى } , إذ لو أراد اللفظ لما جاز أن يؤمر نبينا عليه {336} السلام بالتحدى , وقد قال تعالى : {قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ }, {فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ}. وقد قيل المراد به صفة نبينا والإخبار ببعثه . فإن قيل : فقد قال تعالى :{وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ} ومعلوم أن من بلغه من غير العرب لا يمكنه أن ينذره به إلا بلغته , وقد فهمت الصحابة رضى الله عنهم ذلك , فإنه روى عن سليمان :" أنه كتب إلى قوم من الفرس فاتحة الكتاب بالفارسية " وقرأ ابن مسعود : {طَعَامُ الْأَثِيمِ} " طعام الفاجر " {337} وقرأ أنس : {وَأَقْوَمُ قِيلاً} " وأصوب قيلا " . قلنا : أما النذارة فقال ابن عباس :" ومن بلغ ", فالنبى عليه الصلاة والسلام نذيره بدعائه له , لأنه لا يكلف ما لا يحسن , ولم يكن يحسن بغير العربية , لأن النذارة تقع بالعلم بالترغيب والترهيب وما شرع من مكارم الأخلاق ومحاسنها وتعريف التوحيد , وذلك يقع بتفهم المعانى , وكلامنا فيما جعل شرطا فى الصلاة من القرآن , وأن معناه لا يسمى قرآنا , لأن التسمية توقيف , وأما الصحابة فأرادوا بما ذكروا {338} التفسير , ولهذا قال عمر :" إن الله تعالى أنزل القرآن عربيا بلغة هذا الحى من قريش , لا بلغة هذيل " لما بلغه أن ابن مسعود أقرأ رجلا " ليسسجننه حتى حين " ملحوظه هناك خطأ فى الاية فى صفحة {339}من الكتاب وكذلك قال عثمان لما اختلفوا فى " التابوت والتابوه " : " اكتبوه بالتاء , فإنه نزل بلغة قريش " واحتج بما تقدم فى مسألة التكبير أن المستحق عمل على اللسان يتأدى به معنى القرآن واللفظ ليس بمقصود على ما يعرف فى سائر الأذكار من الخطبة والتسبيح والتسمية وغير ذلك . قلنا: بل المستحق قراءة القرآن وهو هذا اللفظ المخصوص بالنظم المعجز , والبلاغة الباهرة , وهو الذى تحدى الله به , فأما التفسير فمستحقه للحكم , ولهذا لا يحرم على المحدث مس التفسير ولا قراءته ولا يسمى قرآنا , ولأنه تعالى أمر فى الصلاة بالقرآن , وهذا هو المنزل بعينه , ولأن حفظه بهذا النظم المخصوص واجب فى الجملة , لأنه حجة النبوة كما أن معناه مقصود للحكم فكان بنظمه ومعناه هو الركم لا غير , وأما سائر الأذكار فقد تقدم الجواب فيها فى المسألة قبلها بما فيه كفاية , والله أعلم بالصواب ). آخر كلام أبى الخطاب . {339} 5/ قال فخر الرازى فى تفسيره وهو بصدد ذكر المسائل الفقهية المستنبطة من الفاتحة : ( المسألة الحادية عشرة : قال الشافعى : ترجمة القرآن لا تكفى فى صحة الصلاة , لا فى حق من يحسن القراءة , ولا فى حق من لا يحسنها . وقال أبو حنيفة : " أنها كافية فى حق القادر والعاجز " . وقال أبو يوسف ومحمد :" أنها كافية فى حق العاجز وغير كافية فى حق القادر , واعلم أن مذهب أبى حنيفه فى هذه المسألة بعيدا جدا , ولهذا السبب فإن الفقيه أبا الليث السمرقندى والقاضى أبا يزيد الدبوسى صرحا بتركه . لنا حجج ووجوه : الحجة الأولى : أنه صلى الله عليه وسلم إنما صلى بالقرآن المنزل من عند الله تعالى باللفظ العربى وواظب عليه طوال عمره فوجب أن يجب علينا مثله , لقوله تعالى : {فاتبعوه }, والعجب أنه احتج بأنه عليه السلام مسح على ناصيته مرة على كونه شرطا فى صحة الوضوء , ولم يلتفت إلى مواظبته طول عمره على قراءة القرآن باللسان العربى . الحجة الثانية : أن الخلفاء الراشدين صلوا بالقرآن العربى , فوجب أن يجب علينا ذلك لقوله عليه السلام :" اقتدوا بالذين من بعدى أبى بكر وعمر " . ولقوله عليه السلام :" عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين من بعدى , عضوا عليها بالنواجذ " . الحجة الثالثة : أن الرسول وجميع الصحابة ما قرؤا فى الصلاة إلا هذا القرآن العربى , فوجب أن يجب عليه ذلك لقوله عليه السلام : " ستفترق أمتى على نيف وسبعين فرقة , كلهم فى النار إلا فرقة واحدة . قيل : ومن هم يارسول الله ؟ قال : ما أنا عليه وأصحابى " . وجه الدليل أنه عليه السلام وهو وجميع أصحابه كانوا متفقين {340} على القراءة فى الصلاة بهذا القرآن العربى فوجب أن يكون القارئ بالفارسية من أهل النار . الحجة الرابعة : أن أهل ديار الإسلام مطبقون بالكلية على قراءة القرآن فى الصلاة كما أنزل الله تعالى , فمن عدل عن هذا الطريق دخل تحت قوله تعالى {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} الحجة الخامسة : أن الرجل أمر بقراءة القرآن فى الصلاة , ومن قرأ بالفارسية لم يقرأ القرآن , فوجب أن لا يخرج عن العهدة , إنما قولنا إنه أمر بقراءة القرآن لقوله تعالى : {فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} , ولقوله عليه السلام للأعرابى :" ثم اقرأ بما تيسر معك من القرآن " . وإنما قلنا إن الكلام المرتب بالفارسية ليس بقرآن لوجوه : [الأول ] قوله تعالى : {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ}, إلى قوله تعالى : {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ } [الثانى ] قوله تعالى : {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ } [الثالث] قوله تعالى : {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً}, وكلمة " لو " تفيد انتفاء الشئ لانتفاء غيره , وهذا يدل على أنه تعالى ما جعله قرآنا أعجميا , فيلزم أن يقال أن كل ما كان أعجميا فهو ليس بقرآن . [الرابع ] قوله تعالى : { قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} , فهذا الكلام المنظوم بالفارسية إما {341} أن يقال إنه عين الكلام العربى أو مثله , أو لا عينه ولا مثله , والأول معلوم البطلان بالضروره , والثانى باطل إذ لو كان هذا النظم الفارسى مثلا لذلك الكلام العربى لكان الآتى به آتيا بمثل القرآن , وذلك يوجب تكذيب الله سبحانه فى قوله : {لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} , ولما ثبت أن هذا الكلام المنظوم بالفارسية ليس عين القرآن ولا مثله ثبت أن قارئه لم يكن قارئا للقرآن وهو المطلوب , فثبت أن المكلف أمر بقراءة القرآن , ولم يأت به , فوجب أن يبقى فى العهدة . الحجة السادسة : ما رواه ابن المنذر عن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا تجزى صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب " , فنقول : هذه الكلمات المنظومة بالفارسية إما أن يقول أبو حنيفة إنها قرآن , أو يقول إنها ليست بقرآن , والأول جهل عظيم وخروج عن الإجماع , وبيانه من وجوه : [الأول ] أن أحد من العقلاء لا يجوز فى عقله ودينه أن يقول إن قول القائل : " دوستها دربهشت " قرآن . [الثانى ] يلزم أن يكون القادر على ترجمة القادر على ترجمة القرآن آتيا بقرآن مثل الأول , وذلك باطل . الحجة السابعة : روى عبد الله بن أبى أوفى أن رجلا قال : يارسول الله , إنى لا أستطيع أن أحفظ القرآن كما يحسن فى الصلاة . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" قل سبحان الله والحمد لله ...." إلى آخرها هذا الذكر . وجه الدليل : أن الرجل لما سأله عما يجزيه فى الصلاة عند العجز عن قراءة القرآن العربى أمره الرسول عليه السلام بالتسبيح , وذلك يبطل قول من يقول إنه يكفيه أن يقول :" دوستان دربشهت " الحجة الثامنة : يقال أن أول الإنجيل هو قوله :" بسم الاها رحمانا ومر حيانا " وهذا هو عين ترجمة بسم الله الرحمن الرحيم , فلو كانت ترجمة القرآن نفس القرآن لقالت النصارى أن هذا القرآن إنما أخذته من عين الإنجيل , ولما لم يقل أحد هذا علمنا أن ترجمة القرآن لا تكون قرآنا . الحجة التاسعة : أنا إذا ترجمنا قوله تعالى : {َابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ} كان ترجمته : " بفر ستيديكى أزشمابا نقرة بشهر بس بنكر دكه كدام طعام بهترست باره ازان بياورد " , ومعلوم أن هذا الكلام من جنس كلام الناس لفظا ومعنى فوجب أن لا تجوز الصلاة به لقوله عليه الصلاة والسلام :" إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شئ من كلام الناس " , وإذا لم تنعقد الصلاة بترجمة هذه الآية فكذا بترجمة سائر الآيات , لأنه لا قائل بالفرق , وأيضا فهذه الحجة جارية فى ترجمة قوله تعالى : {هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ } إلى قوله : {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ } , فإن ترجمتها لا تكون شتما من جنس كلام الناس فى اللفظ والمعنى , وكذلك قوله تعالى : {فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا} , فإن ترجمة هذه الآية تكون من جنس كلام الناس لفظا ومعنى , وهذا بخلاف ما إذا قرأنا عين هذه الآيات بهذه الألفاظ لأنها بحسب تركيبها المعجز ونظمها البديع تمتاز عن كلام الناس , والعجيب من الخصوم أنهم قالوا إنه لو ذكر فى آخر التشهد دعاء يكون من جنس كلام الناس فسدت صلاته . ثم قالوا : تصح الصلاة بترجمة هذه الآيات مع أن ترجمتها عين كلام الناس لفظا ومعنى . الحجة العاشرة : قوله تعالى عليه الصلاة والسلام : " أنزل القرآن على سبعة أحرف كلها شاف كاف " , ولو كانت ترجمة القرآن بحسب كل لغة قرآن على حدة , وحينئذ لا يصح حصر حروف القرآن فى السبعة . الحجة الحادية عشرة : أن عند أبى حنيفة تصح الصلاة بجميع الآيات , ولا شك أنه قد حصل فى التوراة آيات كثيرة مطابقة لما فى القرآن من الثناء على الله ومن تعظيم أمر الآخرة وتقبيح الدنيا , فعلى قول الخصم تكون الصلاة صحيحة بقراءة {343} الإنجيل والتوراة , وبقراءة زيد و إنسان ولو أنه دخل الدنيا وعاش مائة سنة ولم يقرأ حرفا من القرآن بل كان مواظبا على قراءة زيد وإنسان , فإنه يلقى الله تعالى مطيعا , ومعلوم بالضرورة أن هذا الكلام لا يليق بدين المسلمين . الحجة الثانية عشرة : أنه لا ترجمة للفاتحة , ألا نقول الثناء لله رب العالمين ورحمان المحتاجين , والقادر على يوم الدين , أنت المعبود وأنت المستعان , إهدنا إلى طريق أهل العرفان لا إلى طريق أهل الخذلان , وإذا ثبت أن ترجمة الفاتحة ليست إلا هذا القدر أو ما يقرب منه , فمعلوم أنه لا خطبة إلا وقد حصل فيها هذا القدر فوجب أن يقال الصلاة صحيحة بقراءة جميع الخطب , ولما كان باطلا علمنا فساد هذا القول . الحجة الثالثة عشرة : لو كان هذا جائزا لكان قد أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لسلمان الفارسى فى أن يقرأ القرآن بالفارسية ويصلى بها , ولكان قد أذن لصهيب فى أن يقرأ بالرومية , ولبلال فى أن يقرأ بالحبشية , ولو كان هذا الأمر مشروعا لاشتهر جوازه فى الخلق , فإنه يعظم فى أسماع أرباب اللغات بهذا الطريق , لأن ذلك يزيل عنهم أتعاب النفس فى تعلم اللغة العربية , ويحصل لكل قوم فخر عظيم فى أن يحصل لهم قرآن بلغتهم الخاصة , ومعلوم أن تجويزه يفضى إلى اندارس القرآن بالكلية , وذلك لا يقوله مسلم . الحجة الرابعة عشرة : لو جازت الصلاة بالقراءة بالفارسية لما جازت بالقراءة بالعربية , وهذا جائز وذاك غير جائز , بيان الملازمة أن الفارسى الذى لا يفهم من العربية شيئا لم يفهم من القرآن شيئا البتة , أما إذا قرأ القرآن بالفارسية فهم المعنى وأحاط بالمقصود , وعرف ما فيه من الثناء على الله ومن الترغيب فى الآخرة , والتنفير عن الدنيا , ومعلوم أن المقصد الأقصى من إقامة الصلوات حصول هذه المعانى . قال تعالى : {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} , وقال تعالى : {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } , فثبت أن قراءة الترجمة تفيد هذه الفوائد بالفارسية قائمة مقام القراءة بالعربية فى الصحة ثم إن القراءة بالفارسية تفيد هذه الفوائد العظيمة {344} والقراءة بالعربية مانعه منها لوجب أن تكون القراءة بالعربية محرمة , وحيث لم يكن الأمر كذلك علمنا أن القراءة بالفارسية غير جائزة . الحجة الخامسة عشرة : المقتضى لبقاء الأمر بالصلاة قائم , والفارق ظاهر , وأما المقتضى فلأن التكليف كان ثانيا , والأصل فى الثابت البقاء , وأما الفارق فهو أن القرآن العربى كما أنه يطلب قراءة لمعناه كذلك تطلب قراءته لأجل لفظه , وذلك من وجهين : [الأول ] أن الإعجاز فى فصاحته , وفصاحته فى لفظه . [والثانى ] أن توقيف صحة الصلاة على قراءة لفظه يوجب حفظ تلك الألفاظ , وكثرة الحفظ من الخلق العظيم يوجب بقاءه على وجه الدهر مصونا عن التحريف , وذلك يوجب تحقيق ما وعد الله تعالى بقوله : {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} . أما إذا قلنا إنه لا يتوقف صحة الصلاة على قراءة هذا النظم العربى فإنه يختل هذا المقصود , فثبت أن المقتضى قائم , والفارق ظاهر . واحتج المخالف على صحة مذهبه بأنه أمر بقراءة القرآن , وقراءة الترجمة قراءة القرآن , ويدل عليه وجوه : [الأول ] روى أن عبد الله بن مسعود كان يعلم رجلا القرآن فقال : {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ* طَعَامُ الْأَثِيمِ} وكان الرجل عجميا , فكان يقول : " طعام اليتيم " فقال : قل طعام الفاجر . ثم قال عبد الله : " إنه ليس الخطأ فى القرآن أن يقرأ مكان العليم الحكيم , بل أن يضع آية الرحمة مكان آية العذاب " {345} [الثانى ] قوله تعالى : {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} , فأخبر أن القرآن فى زبر الأولين . وقال تعالى : {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى*صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى } . ثم أجمعنا على أنه ما كان القرآن فى زبر الأولين بهذا اللفظ , لكن كان بالعبرانية والسريانية . [الثالث] أنه تعالى قال : {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ} , ثم إن العجم لا يفهمون اللفظ العربى إلا إذا ذكر تلك المعانى لهم بلسانهم , ثم إنه تعالى سماه قرآنا فثبت أن هذا المنظوم بالفارسية قرآن . والجواب عن الأول : أن نقول إن أحوال هؤلاء عجيبة جدا , فإن ابن مسعود نقل عنه أنه كان يقول : " أنا مؤمن إن شاء الله " , ولم ينقل عن أحد من الصحابة المبالغة فى نصرة هذا المذهب كما نقل عن ابن مسعود , ثم إن الحنفية لا تلتفت إلى هذا , بل تقول : إن القائل به شاك فى دينه , والشاك لا يكون مؤمنا , فإن كان قول ابن مسعود حجة فلم يقبلوا قوله فى تلك المسألة ؟ وإن لم يكن حجة فلم عول عليه فى هذه المسألة ؟{347} ولعمرى هذه المناقضات عجيبة , وأيضا فقد نقل عن ابن مسعود حذف المعوذتين , وحذف الفاتحة عن القرآن , ويجب علينا إحسان الظن به , وأن نقول : إنه رجع عن هذه المذاهب . وأما قوله تعالى : {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} فالمعنى : أن هذه القصص موجودة فى زبر الأولين , وقوله تعالى :{لأُنذِرَكُم } فالمعنى لأنذركم معناه . وهذا القدر القليل من المجاز يجوز تحمله لأجل الدلائل الغامرة القاطعة التى ذكرناها ). أ . هـ كلام الفخر الرازى . 6/ قال الكيا الهراسى فى أحكام القرآن : ( قوله تعالى : {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً} وإذا فيه دليل على أن القرآن بلغة العرب , وأنه ليس أعجميا ... وإذا نقل عن اللسان العربى إلى غيره لم يكن قرآنا ) . 7/ وقال أبو بكر بن العربى فى أحكام القرآن عند قوله تعالى : {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً} : ( قال علماؤنا : هذا يبطل قول أبى حنيفة فى قوله : " إن ترجمة القرآن بإبدال اللغة العربية بالفارسية جائز , لأن الله تعالى قال : {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَّقَالُوا} كذا , لنفى أن يكون للعجمة إليه طريق , فكيف يصرف إلى ما نهى الله عنه , فأخبر أنه لم ينزل به , وقد بيناه فى مسألة الخلاف , وأوضحنا أن التبيان {348} والإعجاز إنما يكون بلغة العرب , فلو قلب إلى غير هذا لما كان قرآنا , ولا بيانا , ولا اقتضى إعجازا , فلينظر هنالك على التمام إن شاء الله لا رب غيره , ولا خير إلا خيره ). 8/ وقال أبو عبد الله القرطبى فى تفسيره عند ذكره للماسائل المتعلقة بأحكام الفاتحة ( الثامنة عشرة : من لم يواته لسانه إلى التكلم بالعربية من الأعجميين وغيرهم ترجم له الدعاء العربى بلسانه الذى يفقه لإقامة صلاته , فإن ذلك يجزئه إن شاء الله تعالى. التاسعة عشرة : لا تجزئ صلاة من قرأ بالفارسية وإن أحسن العربية , لأن المقصود إصابة المعنى . قال بن المنذر : لا يجزئه ذلك , لإنه خلاف ما أمر الله به , وخلاف ما علم النبى صلى الله عليه وسلم وخلاف جماعات المسلمين , ولا نعلم أحدا وافقه على ما قال ). وقال القرطبى فى موضع من تفسيره أيضا عند قوله تعالى : {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} : ( أى وإن ذكر نزله لفى كتب الأولين يعنى الأنبياء . وقيل أى إن ذكر محمد عليه السلام فى كتب الأوليين , كما قال تعالى : {يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ} , والزبر : الكتب الواحد , وزبور كرسول , ورسل , وقد تقدم) وقال القرطبى فى موضع ثالث من تفسيره عند كلامه على قوله تعالى : {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً} قال :( فيها ثلاث مسائل : الأولى : قوله تعالى : {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً} أى بلغة غير العرب {لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} أى بينت بلغتنا فإننا عرب لانفهم الأعجمية . فبين أنه أنزله بلسانهم ليتقرر به معنى الإعجاز , إذ هم أعلم الناس بأنواع الكلام نظما ونثرا , وإذا عجزوا عن معارضته كان من أدل الدليل على أنه من عند الله , ولو كان بلسان العجم لقالوا لا علم لنا بهذا اللسان . الثانية : وإذا ثبت هذا ففيه دليل على أن القرآن عربى , وأنه نزل بلغة العرب , وأنه ليس أعجميا , وأنه إذا نقل عنها إلى غيرها لم يكن قرآنا ). 9/ قال القرافى فى الذخيرة : ( فلو كان لا يقدر على القراءة إلا بالعجمية لم يجز له , خلافا ل"ح " محتجا بقوله تعالى : {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى} , {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} , ولم تكن فيها عربية , ولأن الإعجاز يراد لإقامة الحجة وليس ذلك مقصودا فى الصلاة , بل الثناء على الله تعالى والاتعاظ وهما حاصلان . وجوابه : أن الأول معارض بقوله تعالى : {فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} والقرآن فى عرف الشرع :" العربى " وعن الثانى : أن الإعجاز مراد فى حق المصلى لا ستصحاب الإيمان الذى هو شرط فى الصلاة , وهو منقوض بما لو نظم للثناء على الله تعالى شعرا , بالثناء على الله تعالى بغير القرآن ). 10/ وقال النووى فى التبيان : ( ولا تجوز قراءة القرآن بالعجمية سواء أحسن العربية أم لم يحسنها , سواء كان فى الصلاة أم فى غيرها , فإن قرأ بها فى الصلاة لم تصح , هذا مذهبنا مالك وأحمد وداود وأبى بكر بن المنذر {350} وقال أبو حنيفة : يجوز ذلك وتصح به الصلاة . وقال أبو يوسف ومحمد : يجوز ذلك لمن لم يحسن العربية , ولا يجوز لمن يحسنها ). وقال فى موضع من التبيان أيضا : ( ولو قرأ آية السجدة بالفارسية لا يسجد عندنا , كما لو فسر آية سجدة. وقال أبو حنيفة : يسجد ) وذكر فى المجموع نحوا مما مر , وقال : ( وأما ما نقل عن سلمان رضى الله عنه " أن قوما من الفرس سألوه أن يكتب لهم شيئا من القرآن , فكتب لهم فاتحة الكتاب بالفارسية " فأجاب عنه أصحابنا بأنه كتب تفسير الفاتحة لا حقيقتها ) . وجزم فى الروضة بعدم جواز الترجمة . 11/ وقال أبو العباس بن تيمية فى اقتضاء الصراط :( وقد اختلف الفقهاء فى أذكار الصلاة هل تقال بغير العربية ؟ وهى ثلاث درجات , أعلاها القرآن , ثم الذكر الواجب غير القرآن , كالتحريمة بالإجماع , وكالتحليل والتشهد عند من أوجبه , ثم الذكر غير الواجب من دعاء أو تسبيح أو تكبير وغير ذلك . فأما القرآن : فلا يقرؤه بغير العربية , سواء قدر عليها أو لم يقدر عند الجمهور , وهو الصواب الذى لا ريب فيه , بل قال غير واحد أنه يمتنع أن يترجم سورة أو ما يقوم به الإعجاز . واختلف أبو حنيفة وأصحابه فى القادر على العربية , ثم تكلم عن ترجمة الأذكار والعقود بما يطول شرحه ). لكن ابن تيمية قد مال فى غير موضع من كتبه إلى القول بجواز ترجمة معانى القرآن لضرورة التبليغ على أن تقدر تلك الضرورة بقدرها , وأن يكون المترجم مستوفيا لشروط المفسر والمترجم معا . قال وهو بصدد الكلام عن الانتفاع بكتب الكفار والأمم السابقة وترجمتها : ( ... والترجمة والتفسير ثلاث طبقات : {351} أحدها : ترجمة مجرد اللفظ , مثل نقل اللفظ بلفظ مرادف , ففى هذه الترجمة تريد أن تعرف أن الذى يعنى بهذا اللفظ عند هؤلاء هو بعينه الذى يعنى باللفظ عند هؤلاء , فهذا علم نافع , إذ كثير من الناس يقيد المعنى باللفظ فلا يجرده عن اللفظين جميعا . والثانى : ترجمة المعنى وبيانه , بأن يصور المعنى للمخاطب , فتصوير المعنى له وتفهيمه إياه قدر زائد على ترجمة اللفظ , كما يشرح للعربى كتابا عربيا قد سمع ألفاظه العربية , لكنه لم يتصور معانيه ولا فهمها , وتصوير المعنى يكون بذكر عينه أو نظيره , إذ هو تركيب صفات من مفردات يفهمها المخاطب , يكون ذلك المركب صور ذلك المعنى , إما تحديدا وإما تقريبا . والدرجة الثالثة : بيان صحة ذلك وتحقيقه بذكر الدليل والقياس الذى يحقق ذلك المعنى , إما بدليل يبين علة وجوده , وهنا قد يحتاج إلى ضرب أمثلة ومقاييس تفيده التصديق بذلك المعنى , كما يحتاج فى الدرجة الثانية إلى أمثلة تصور له ذلك المعنى وقد يكون نفس تصوره مفيدا للعلم بصدقه . وإذا كفى تصور معناه فى التصديق به لم يحتج إلى مقياس ومثل ودليل آخر ). إلى أن قال: ( ومعلوم أن الأمة مأمورة بتبيلغ القرآن لفظه ومعناه , كما أمر بذلك الرسول , ولا يكون تبليغ رسالة الله إلا كذلك , وأن تبليغه إلى العجم قد يحتاج إلى ترجمة لهم , فيترجم لهم بحسب الإمكان , والترجمة قد تحتاج إلى ضرب أمثال لتصوير المعانى , فيكون ذلك من تمام الترجمة ). 12/ وقال شمس الدين بن مفلح فى فروعه فيمن لم يحسن شيئا من القرآن قال : ( ومن جهله حرم ترجمته عنه بغير العربية فى المنصوص " و م ش " كعالم {352} "5" وخالفه صاحباه , مع أن عندهم يمنع من اعتياد القراءة وكتابة المصحف بغيرها , لا من فعله فى آيتين . قال أصحابنا : ترجمته بالفارسية لا تسمى قرآنا , فلا تحرم على الجنب , ولا يحنث بها من حلف لا يقرأ . قال أحمد : القرآن معجز بنفسه , فدل على أن الإعجاز فى اللفظ والمعنى , وفى بعض آيه , ذكره القاضى وغيره , وفى كلامه فى التمهيد فى النسخ وكلام أبى المعالى لا . وهو فى كلام الحنفية , وزاد بعضهم والآية . قال ابن حامد فى أصوله : الأظهر فى جواب أحمد بقاء الإعجاز فى الحروف المقطعة , وقيل للقاضى : لا نسلم أن الأعجاز فى اللفظ بل فى المعنى فقال : الدلالة على أن الإعجاز فى اللفظ والنظم دون المعنى أشياء منها أن المعنى يقدر على مثله كل أحد , يبين صحة هذا قوله : { قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ} , وهذا يقتضى أن التحدى بألفاظها , ولأنه قال مثله مفتريات , والكذب لا يكون مثل الصدق , فدل على أن المراد به مثله فى اللفظ والنظم . قال شيخنا : يحسن للحاجة ترجمته لمن يحتاج إلى تفهمه إياه بالترجمة , وذكر غيره هذا المعنى . وحصل الإنذار بالقرآن دون تلك اللغة كترجمة الشهادة ). 13/ وقال ابن الحاج فى المدخل وهو بصدد الكلام على ما يتعن على الناسخ مراعاته , قال : ( وينبغى له , بل يتعين عليه أن لا ينسخ الختمة بلسان العجم لأن الله عزوجل أنزله بلسان عربى مبين ولم ينزله بلسان العجم . وقد كره مالك رحمه الله نسخ المصحف فى أجزاء متفرقة , وقال إن الله عز وجل قال : {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ } وهؤلاء يفرقونه , فإذا كره هذا فى الأجزاء فما بالك بتغييره عن اللسان العربى المبين , ولقد سرى هذا لبعض الناس فى هذا الزمان حتى أنهم ليعدون قراءة القرآن بالعجمية ونسخ الختمة بها من الفضيلة , وبعضهم يجمع فى {353} الختمة الواحدة بين كتبها باللسان العربى واللسان العجمى , فيكتب الآيتين والثلاث باللسان العربى ثم يكتبها بعدها باللسان العجمى , وهذا مخالف لما أجمع عليه الصدر الأول والسلف الصالح , والعلماء رضى الله عنهم , وإذا كان ذلك كذلك فيتعين عليه أن لا يعرج على قول من أجاز ذلك فليحذر من ذلك والله الموفق ). 14/ وقال الزركشى فى البرهان : ( هل يجوز كتابة القرآن بقلم غير العربى ؟ هذا مما لم أر للعلماء فيه كلاما , ويحتمل الجواز لأنه قد يحسنه من يقرأه بالعربية , والأقرب المنع , كما تحرم قراءته بغير لسان العرب ولقولهم : القلم أحد اللسانين , والعرب لا تعرف قلما غير العربى {وقد} قال تعالى : { بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} ونقل السيوطى فى الإتقان قول الزركشى هذا ولم يعقب عليه بشئ . وقد مضى فى مسألة مدى إمكان ترجمة القرآن كلام للزركشى فى البحر المحيط , ونقله عنه الزرقانى فى المناهل , فليراجعه فى موضعه من رامه . 15/ وقال ابن حجر الهيتمى فى الفتاوى الكبرى , وقد سئل رحمه الله هل تحرم كتابة القرآن الكريم بالعجمية كقراءته ؟ فأجاب :( بقوله قضية ما فى المجموع عن الأصحاب التحريم , وذلك لأنه قال وأما ما نقل عن سلمان رضى الله عنه أن قوما من الفرس سألوه أن يكتب لهم شيئا من القرآن , فكتب لهم فاتحة الكتاب بالفارسية . فأجاب كتابتها بالعجمية , فإن قلت كلام الأصحاب إنما هو جواب عن حرمة قراءتها {354} بالعجمية المترتبة على الكتابة بها فلا دليل لكم فيه , قلت بل هو جواب عن الأمرين , وزعم أن القراءة بالعجمية مترتبة على الكتابة بها ممنوع بإطلاقه , فقد يكتب بالعجمية ويقرأ بالعربية وعكسه , فلا تلازم بينهما كما هو واضح , وإذا لم يكن بينهما تلازم كان الجواب عما فعله سلمان رضى الله عنه سئل هل يكتب المصحف على ما أحدثه الناس من الهجاء ؟ فقال :" لا .. إلا على الكتبة الأولى " أى كتبة الإمام وهو المصحف العثمانى . قال بعض أئمة القراء : ونسبته إلى مالك لأنه المسؤل عن المسألة , وإلا فهو مذهب الأئمة الأربعة . قال أبو عمرو: " ولا مخالف له فى ذلك من علماء الأمة ". وقال بعضهم : والذى ذهب إليه مالك هو الحق , إذ فيه بقاء الحالة الأولى إلى أن يتعلمها الآخرون , وفى خلافها تجهيل آخر الأمة أولهم , وإذا وقع الإجماع كما ترى على منع ما أحدث الناس اليوم من مثل كتابة الربو بالألف مع أنه موافق للفظ الهجاء , فمنع ما ليس من جنس الهجاء أولى , وأيضا ففى كتابته بالعجمية تصرف فى اللفظ المعجز الذى حصل التحدى به بما لم يرد , بل بما يوهم عدم الإعجاز , بل الركاكة لأن الألفاظ العجمية فيها تقديم المضاف إليه على المضاف ونحو ذلك مما يخل بالنظم ويشوش الفهم . وقد صرحوا بأن الترتيب من مناط الإعجاز وهو ظاهر فى حرمة تقديم آية على آية كما يحرم ذلك قراءة , فقد صرحوا بأن القراءة بعكس السور مكروهة , وبعكس الآيات محرمة , وفرقوا بأن ترتيب السور على النظم المصحفى مظنون , وترتيب الآيات قطعى , وزعم أن كتابته بالعجمية فيها سهولة للتعليم كذب مخالف للواقع والمشاهدة فلا يلتفت لذلك على أنه لو سلم صدقة لم يكن مبيحا لإخراج ألفاظ القرآن كما كتبت عليه , وأجمع السلف والخلف ). 16/ وقد جزم جمع من أئمة الفقهاء بعدم جواز قراءته بغير العربية . قال ابن قدامة فى المغنى : (" فصل " ولا تجزئه القراءة بغير العربية , ولا إبدال لفظها بلفظ {355} عربى , سواء أحسن قراءتها بالعربية أو لم يحسن , وبه قال الشافعى وأبو يوسف ومحمد . وقال أبو حنيفة :" يجوز ذلك " وقال بعض أصحابه إنما يجوز لمن لم يحسن العربية , واحتج بقوله تعالى :{وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ}, ولا ينذر كل قوم إلا بلسانهم . ولنا : قول الله تعالى : {قُرْآناً عَرَبِيّاً} , وقوله تعالى : { بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} , ولأن القرآن معجزة لفظه ومعناه , فإذ غير خرج عن نظمه فلم يكن قرآنا ولا مثله , وإنما يكون تفسيرا له , ولو كان تفسيره مثله لما عجزوا عنه لما تحداهم بالإتيان بسورة مثله . أما الأنذار فإنه إذا فسره لهم كان الإنذار بالمفسر دون التفسير .."فصل " فإن لم يحسن القراءة بالعربية لزمه التعلم , فإن لم يفعل مع القدرة عليه لم تصح صلاته ......) والقول بعدم جواز قراءة القرآن بغير العربية هو الذى جزم به الأنصارى الشافعى فى شرح الروض , والتاج المحلى فى منهاج الطالبين , والشمس الرملى فى النهاية , وهو الذى رجحه العلاء المرداوى فى الإنصاف , وجزم به فى الإقناع وشرحه , وعبارة ابن جزى المالكى {356} فى كتابة القوانين الفقهية تدل على أن القول بمنع الترجمة محل وفاق عندهم . قال : ( لا يجوز ترجمتها خلاف لأبى حنيفة ) أى الفاتحة .. 17/ بحوث معاصرة فى ترجمة القرآن الكريم : وقد أثيرت قضية ترجمة القرآن على نطاق واسع فى منتصف القرن الماضى , وظهرت فى تلك الآونة دراسات تحرم ترجمة القرآن الكريم , ومن هذه الدراسات : أ – واحدة للشيخ محمد رشيد رضا بعنوان " ترجمة القرآن وما فيها من المفاسد ومنافاة الإسلام " أقام فيها البراهين على حرمة ترجمة القرآن فى الإسلام , وعلى عدم إمكانها وعلى سوء أغراض بعض الجانحين إلى هذا العمل من الترك وغيرهم , ورد جميع الشبه التى قد تخطر على البال فى هذا الباب . ب – وكذلك فقد نشر محمد سعيد البانى دراسة بهذا المعنى بعنوان " الفراقدان النيران فى بعض المباحث المتعلقة بالقرآن " حيث ضمنها البراهين على حظر ترجمة القرآن . ج – وأصدر الشيخ محمد سليمان القاضى بالمحكمة الشرعية العليا بمصر كتابا فى هذا الموضوع بعنوان " حادث الأحداث فى الإقدام على ترجمة القرآن " سنة 1355 هـ طبعة جريدة مصر الحرة . د – وأصدر الشيخ محمد مصطفى الشاطر القاضى للمحكمة الشرعية لشبين الكوم كتابا حول قضية ترجمة القرآن الكريم بعنوان " القول السديد فى حكم ترجمة القرآن المجيد " بمصر سنة 1355 هـ ـ 1936 م {357} هـ - وأصدر الشيخ محمد مصطفى المراغى بحثا فى ترجمة القرآن الكريم وأحكامها نشرت سنة 1934 م طبعة الرغائب , ثم نشرته مجلة الأزهر فى السنة السابعة عام 1355 هـ. و- ونشر الشيخ محمود شلتوت دراسة بعنوان " ترجمة القرآن ونصوص العلماء فيها " نشرتها أيضا مجلة الأزهر فى السنة السابعة عام 1355 هـ , وهذا بالإضافة إلى مجموعة من المقالات التى نشرت فى الصحف اليومية والمجلات العربية والإسلامية من قبل عدد من المفكرين حول هذا الموضوع الذى انقسموا فيه إلى فئتين , فئة تدافع عن وجهة نظرها القاضية بإمكانية ترجمة القرآن الكريم , وفئة تدافع عن وجهة نظرها القاضية بترجمة معانى القرآن الكريم , ذكر ذلك بنداق فى كتابة " المستشرقون وترجمة القرآن الكريم " . وقارن أيضا بمقالة الدكتور عبد العزيز محمد عثمان فى مجلة القرآن بالجامعة الإسلامية العدد الأول ص 163 وما بعدها بعنوان " ترجمة القرآن الكريم بين واقعنا المعاش ومستقبلنا المنشود " وتعقيب هيئة التحرير على المقالة المذكورة ص 200 وما بعدها . ومن الكتب التى عنيت بدراسة الجدل الدائر حول ترجمة القرآن , أو ترجمة معانية , أو كتابته بالأعجمية كتاب " دراسات حول ترجمة القرآن الكريم " للدكتور أحمد إبراهيم مهنا . ثانيا / النقول عن مجوزى ترجمة القرآن : والقول بجواز ترجمة القرآن فى الجملة محكى عن أبى حنيفة وأصحابه على اختلاف بينهم فى كون الترجمة مرهونه بالعجز عن القراءة بالعربية , كما هو رأى الصاحبين , أم أن الجواز على إطلاقه وهو القديم من قولى أبى حنيفة , على أن المحققين من فقهاء الحنفية قد حكوا رجوع أبى حنيفة عن قوله هذا وموافقته لصاحبيه فى قصر الجواز فى حق من لا يحسن القراءة بالعربية . 1/ قال السرخسى فى المبسوط : ( إذا قرأ فى صلاته بالفارسية جاز عند أبى حنيفة رحمه الله ويكره , وعندهما لا يجوز إذا كان يحسن العربية , وإذا كان لا يحسنها يجوز , وعند الشافعى رضى الله عنه لا تجوز القراءة بالفارسية بحال , ولكنه إن كان لا يحسن العربية وهو أمى يصلى بغير قراءة , وكذلك الخلاف فيما إذا تشهد بالفارسية أو {358} خطب الإمام يوم الجمعة بالفارسية , فالشافعى رحمه الله يقول إن الفارسية غير القرآن , قال تعالى : {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} , وقال تعالى : {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً } الآية , فالواجب قراءة القرآن فلا يتأدى بغيره بالفارسية , والفارسية من كلام الناس فتفسد الصلاة , وأبو يوسف ومحمد رحمهما الله قالا : القرآن معجز والإعجاز فى النظم والمعنى , فإذا قدر عليهما فلا يتأدى الواجب إلا بهما , وإذا عجز عن النظم أتى بما قدر عليه , كمن عجز عن الركوع والسجود يصلى بالإيماء , وأبو حنيفة رحمه الله استدل بما روى :" أن الفرس كتبوا إلى سلمان رضى الله عنه أن يكتب لهم الفاتحة بالفارسية , فكانوا يقرؤون ذلك فى الصلاة حتى لانت ألسنتهم للعربية " ثم الواجب عليه قراءة المعجز , والإعجاز فى المعنى . فإن القرآن حجة على الناس كافة , وعجز الفرس عن الإتيان بمثله إنما يظهر بلسانهم , والقرآن كلام الله تعالى غير مخلوق ولا محدث , واللغات كلها محدثة , فعرفنا أنه لا يجوز أن يقال أنه قرآن بلسان مخصوص , كيف وقد قال الله تعالى :{وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} وقد كان بلسانهم . ولو آمن بالفارسية كان مؤمنا , وكذلك لو سمى عند الذبح بالفارسية أو لبى بالفارسية , فكذلك إذا كبر وقرأ بالفارسية , " وروى الحسن " عن أبى حنيفة رحمهما الله أنه أذن بالفارسية والناس يعلمون أنه أذان جاز , وإن كانوا لا يعلمون ذلك لم يجز , لأن المقصود الإعلام ولم يحصل به . ثم عند أبى حنيفة رحمه الله إنما يجوز إذا قرأ بالفارسية إذا كان يتيقن بأنه معنى العربية , فأما إذا صلى بتفسير القرآن لا يجوز , لأنه غير مقطوع به ). 2/ قال الزمخشرى فى رؤوس المسائل : ( إذا عبر فاتحة الكتاب أو القرآن بالفارسية أو بالعجمية فقرأها فى الصلاة , فإنه تصح صلاته عندنا , وعند الشافعى لا تصح . دليلنا فى ذلك قوله تعالى : {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى*صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} . {359} وصحف إبراهيم موسى ليست على لسان العرب . وروى عن عبد الله بن مسعود أنه كان يلقن الرجل هذه الآية قوله تعالى : {شَجَرَةَ الزَّقُّومِ *طَعَامُ الْأَثِيمِ} وكان لسان الرجل لا يقدر أن يقول هذه الكلمة , فعجز عن الإتيان فى لفظه , فقال له :" قل طعام الفاجر " , فدل على أنه يجوز بلغة أخرى . والدليل عليه وهو أن النبى صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى العرب والعجم , وأمره بالإنذار فكان ينذر العرب بلغته وبلسانه , وينذر العجم بلسانه دل على أنه يجوز . احتج الشافعى وقال : لأن الله تعالى قال فى كتابه : {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} فدل أن القرآن عربى , فإذا عبر بعبارة أخرى لم تجز صلاته , لأنه لم يقرأ القرآن , وقراءة القرآن شرط لجواز الصلاة ) 3/ قال الكاسانى فى البدائع عند كلامه عن القدر المجزئ فى الصلاة قال : ( ثم الجواز كما يثبت بالقراءة بالعربية يثبت بالقراءة بالفارسية عند أبى حنيفة سواء كان يحسن العربية أو لا يحسن يجوز . وقال الشافعى : لا يجوز أحسن أو لم يحسن . وإذا لم يحسن العربية يسبح ويهلل عنده , ولا يقرأ بالفارسية وأصله قوله تعالى : {َاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} أمر بقراءة القرآن فى الصلاة , فهم قالوا ان القرآن هو المنزل بلغة العرب , قال تعالى :{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} فلا يكون الفارسى قرآنا , فلا يخرج به عن عهدة الأمر , ولأن القرآن معجز والإعجاز من حيث اللفظ يزول بزوال النظم العربى فلا يكون الفارسى قرآنا لانعدام الإعجاز , ولهذا لم تحرم قراءته على الجنب {360} والحائض , إلا أنه إذا لم يحسن العربية فقد عجز عن مراعاة لفظه فيجب عليه مراعة معناه ليكون التكليف بحسب الإمكان , وعند الشافعى هذا ليس بقرآن فلا يؤمر بقراءته , وأبو حنيفة يقول ان الواجب فى الصلاة قراءة القرآن من حيث هو لفظ دال على كلام الله تعالى الذى هو صفة قائمة به لما يتضمن من العبر والمواعظ والترغيب والترهيب والثناء والتعظيم , لا من حيث هو لفظ عربى , ومعنى الدلالة عليه لا يختلف بين لفظ ولفظ , قال الله :{وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} , وقال : {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى*صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} ومعلوم أنه ماكان فى كتبهم بهذا اللفظ بل بهذا المعنى " وأما " قولهم إن القرآن هو المنزل بلغة العرب " فالجواب " عنه من وجهين : أحدهما : أن كون العربية قرآنا لا ينفى أن يكون غيرها قرآنا , وليس فى الآية نفيه , وهذا لأن العربية سميت قرآنا لكونها دليلا على ما هو القرآن , وهى الصفة التى هى حقيقة الكلام , ولهذا قلنا إن القرآن غير مخلوق على إرداة تلك الصفة دون العبارات العربية , ومعنى الدلالة يوجد فى الفارسية , فجاز تسميتها قرآنا دل عليه قوله تعالى : {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً} أخبر أنه لو عبر عنه بلسان العجم كان قرآنا . والثانى : إن كان لا يسمى غير العربية قرآنا , لكن قراءة العربية ما وجبت لأنها تسمى قرآنا , بل لكونها دليلا على ما هو القرآن الذى هو صفة قائمة بالله , بدليل أنه لو قرأ عربية لا يتادى بها كلام الله تفسد صلاته فضلا من أن تكون قرآنا واجبا , ومعنى الدلالة لا يختلف فلا يختلف الحكم المتعلق به , والدليل على أن عندهما تفترض القراءة بالفارسية على غير القادر على العربية وعذرهما غير مستقيم , لأن الوجوب متعلق بالقرآن , وأنه قرآن عندهما باعتبار اللفظ دون المعنى , فإذا زال اللفظ لم يكن المعنى قرآنا فلا معنى للإيجاب , ومع ذلك وجب فدل أن الصحيح ما ذهب إليه أبو حنيفة , ولأن غير العربية إذا لم يكن قرآنا لم يكن من كلام الله تعالى , فصار من كلام الناس وهو يفسد الصلاة . والقول بتعلق الوجوب بما هو مفسد غير سديد " وأما " قولهم أن الإعجاز من حيث اللفظ لا يحصل بالفارسية فنعم ,لكن قراءة ما هو معجز النظم عنده ليس بشرط لأن التكليف ورد بمطلق القراءة لا بقراءة ما هو معجز , ولهذا جوز قراءة آية قصيرة وإن لم تكن هى معجزة ما لم تبلغ ثلاث آيات , وفصل الجنب والحائض ممنوع , ولو قرأ شيئا من التوراة أو الأنجيل أو الزبور فى الصلاة إن تيقن أنه غير محرف يجوز عند أبى حنيفة لما قلت , وإن لم يتقن لا يجوز , لأن الله تعالى أخبر عن تحريفهم {361} بقوله : {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ } فيحتمل أن المقروء محرف فيكون من كلام الناس فلا يحكم بالجواز بالشك والاحتمال , وعلى هذا الخلاف إذا تشهد , أو خطب يوم الجمعة بالفارسية , ولو أم بالفارسية , أو سمى عند الذبح بالفارسية , أو لبى عند الإحرام بالفارسية , أو بأى لسان كان يجوز بالأجماع , ولو أذن بالفارسية قيل إنه على هذا الخلاف , وقيل لا يجوز بالاتفاق , لأنه لا يقع به الإعلام حتى لو وقع به الإعلام يجوز والله أعلم ). أ هـ كلام الكاسانى . 4/ وقال صاحب الفتاوى التاتارخانية : ( وإذا قرأ فى الصلاة بالفارسية جازت قراءته سواء كان يحسن العربية أو لا , وأما إذا كان يحسن " يجوز ويكره عند أبى حنيفة , وعندهما لا يجوز إن كان يحسن " ويجوز إن كان لا يحسن , وذكر شيخ الإسلام فى شرح كتاب الصلاة وشمس الأئمة السرخسى فى شرح الجامع الصغير رجوع أبى حنيفة رحمه الله إلى قولهما , وفى النصاب والخلاصة : هو الصحيح , وعليه الاعتماد . وفى الخلاصة الخانية : وكان الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل يقول : الخلاف فيما إذا جرى على لسانه من غير قصده , وأما من تعمد ذلك يكون زنديقا أو مجنونا , فالمجنون يداوى , والزنديق يقتل .م. وقال الشافعى رحمه الله : " لايجوز قراءته على كل حال , وأجمعوا على أنه لا يفسد صلاته بالقراءة بالفارسية , وإنما الخلاف فى الجواز " . قال الشيخ الإمام شمس {362} الأئمة الحلوانى رحمه الله : إن أبا حنيفة إنما جوز قراءة القرآن بالفارسية إذا قرأ آية قصيرة , يعنى قرأ ترجمة آية قصيرة , ثم ذكر الشيخ الفقيه أبو سعيد البردعى أن أبا حنيفة إنما جوز القراءة بالفارسية خاصة دون غيرها من الألسن لقربها من العربية على ما جاء فى الحديث :" لسان أهل الجنة العربية والفارسية الدرية " . والأصح أن الاختلاف فى جميع الألسنة واللغات نحو التركية والرومية والهندية . ثم إنما يجوز عند أبى حنيفة رحمه الله إذا كان مقطوع القول بأن ما اتى به هو المعنى , ويكون على نظم القرآن نحو قوله تعالى : {فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ} "سزائ وث دوزخ " , وقوله :{فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً} " فجمعناهم عندا " كذا . وقوله تعالى : {مَعِيشَةً ضَنكاً} فقال : " معيشت تنكا " , فأما إذا لم يكن على نظم القرآن فلا يجوز . قال الشيخ الإمام الصفار :" يجوز كيف ما كان " وقال بعضهم : " إنما يجوز إذا كان ثناء كسورة الإخلاص , فأما إذا كان من القصص فإنه لا يجوز , كقوله تعالى : {اقْتُلُواْ يُوسُفَ} فقال :" بكشيد يوسف را " , تفسد صلاته . والصحيح أنه يجوز فى الكل , وإن اعتاد القراءة بالفارسية , أو أراد {363} أن يكتب المصحف بالفارسية منع من ذلك على أشد المنع , وإن فعل ذلك فى آيه أو آيتين لا يمنع من ذلك . ذكر الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسى فى شرح الجامع الصغير :( وإن كتب القرآن وتفسير كل حرف وترجمته تحته , روى عن الشيخ الفقيه أبى جعفر أنه لا بأس به فى ديارنا , وإنما يكره فى ديارهم لأن القرآن نزل بلغتهم ). 5/ وجاء فى مناهل العرفان مانصه : ( اختلفت نقول الحنفية فى هذا المقام , واضطرب النقل بنوع خاص عن الإمام , ونحن نختصر لك الطريق بإيراد كلمة فيها تلخيص للموضوع , وتوفيق بين النقول اقتطفناها من مجلة الأزهر " ص 32 و 33 {364} و66 و67 من المجلد الثالث " بقلم عالم كبير من علماء الأحناف إذ جاء فيها باختصار وتصرف ما يلى : أجمع الأئمة على أنه لا تجوز قراءة القرآن بغير العربية خارج الصلاة , ويمنع فاعل ذلك أشد المنع , لأن قراءته بغيرها من قبيل التصرف فى قراءة القرآن بما يخرجه عن إعجازه , بل يوجب الركاكة . وأما القراءة فى الصلاة بغير العربية فتحرم إجماعا للمعنى المتقد , لكن لو فرض وقرأ المصلى بغير العربية أتصح صلاته أم تفسد ؟ ذكر الحنفية فى كتبهم أن الإمام أبا حنيفة كان يقول أولا : إذا قرأ المصلى بغير العربية مع قدرته عليها اكتفى بتلك القراءة . ثم رجع عن ذلك , وقال متى كان قادرا على العربية ففرضه قراءة النظم العربى , ولو قرأ بغيرها فسدت صلاته لخلوها من القراءة مع قدرته عليها , والإتيان بما هو من جنس كلام الناس حيث لم يكن المقروء قرآنا . ورواية رجوع الإمام هذه تعزى إلى الأقطاب فى المذهب , ومنهم نوح بن مريم وهو من أصحاب أبى حنيفة , ومنهم على بن الجعد وهو من أصحاب أبى يوسف , ومنهم أبو بكر الرازى هو شيخ علماء الحنفية فى عصره بالقرن الرابع , ولا يخفى أن المجتهد إذا رجع عن قوله لا يعد ذلك المرجوع عنه قولا له , لأنه لم يرجع عنه إلا بعد أن ظهر له أنه ليس بصواب , وحينئذ لا يكون فى مذهب الحنفية قول بكفاية القراءة بغير العربية فى الصلاة للقادر عليها , فلا يصح التمسك به , ولا النظر إليه لا سيما أن إجماع الأئمة ومنهم أبو حنيفة صريح فى أن القرآن اسم للفظ المخصوص الدال على المعنى , لا للمعنى وحده , أما العاجز عن قراءة القرآن بالعربية فهو كالأمى فى أنه لا قراءة عليه , ولكن إذا فرض أنه خالف وأدى القرآن بلغة أخرى فإن كان ما يؤديه قصة أو أمرا أونهيا فسدت صلاته , لأنه متكلم بكلام وليس {365} ذكرا , وإن كان ما يؤديه ذكرا أو تنزيها لا تفسد صلاته , لأن الذكر بأى لسان لا يفسد الصلاة , لا لأن القراءة بترجمة القرآن جائزة , فقد مضى القول بأن القراءة بالترجمة محظورة شرعا على كل حال . 6/ وقد عقد الإمام البخارى فى صحيحه بابا فى ما يجوز من تفسير التوراة وغيرها من كتب الله بالعربية وغيرها ذكر فيه ثلاثة أحاديث , أحدها حديث ابن عباس وقصته مع أبى سفيان , والثانى حديث أيى هريرة فى قراءة أهل الكتاب التوراة بالعبرانية وتفسيرها بالعربية , والثالث حديث ابن عمر فى رجم اليهوديين اللذين زنيا , وأن حكم الرجم ثابت فى التوراة . وقد فهم بعض الناس من ذلك ميل البخارى إلى القول بجواز ترجمة القرآن , وأن وجه الدلالة من حديث ابن عباس أن فيه : أن النبى صلى الله عليه وسلم كتب إلى هرقل باللسان العربى , ولسان هرقل رومى , ففيه إشعار بأنه اعتمد فى إبلاغه ما فى الكتاب على من يترجم عنه بلسان المبعوث إليه ليفهمه , والمترجم المذكور هو الترجمان , وكذا وقع . ووجه الدلالة من حديث أبى هريرة أنه إذا جاز تفسير التوراة التى هى بالعبرانية إلى العربية وهى كتاب من كتب الله فالذى بالعربية من كتب الله مثلا يجوز التعبير عنه بالعبرانية وبالعكس , لكن الأكثر من أهل العلم قيد الجواز بمن لا يفقه ذلك اللسان . ووجه الدلالة من حديث ابن عمر أن فيه قوله تعالى : {قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا} , فالتوراة بالعبرانية , وقد أمر الله تعالى أن تتلى على العرب وهم لا يعرفون العبرانية فقضية ذلك الإذن فى التعبير عنها باللغة العربية قال الحافظ فى الفتح : فى كلامه على حديث أبى هريرة هذا (قال ابن بطال : فى هذا الحديث أى حديث أبى هريرة استدل بهذا الحديث من قال تجوز قراءة القرآن بالفارسية , وأيد ذلك بأن الله تعالى حكى قول الأنبياء {366} عليهم السلام كنوح عليه السلام وغيره ممن ليس عربيا بلسان القرآن وهو عربى مبين , وبقوله تعالى :{ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ } , والإنذار إنما يكون بما يفهمونه من لسانهم , فقراءة أهل كل لغة بلسانهم حتى يقع لهم الإنذار به . قال : وأجاب من منع بأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ما نطقوا إلا بما حكى الله عنهم فى القرآن سلمنا , ولكن يجوز أن يحكى الله قولهم بلسان العرب , ثم يتعبدنا بتلاوته على ما أنزله , ثم نقل الاختلاف فى إجزاء صلاة من قرأ فيها بالفارسى , ومن أجاز ذلك عند العجز دون الإمكان , وعمم وأطال فى ذلك . والذى يظهر التفصيل , فإن كان القارئ قادرا على التلاوة باللسان العربى فلا يجوز له العدول عنه , ولا تجزئ صلاته , وإن كان عاجزا , وإن كان خارج الصلاة فلا يمتنع عليه القراءة بلسانه لأنه معذور , وبه حاجة إلى حفظ ما يجب عليه فعلا وتركا , وإن كان داخل الصلاة , فقد جعل الشارع له بدلا وهو الذكر وكل كلمة من الذكر لا يعجز عن النطق بها من ليس بعربى فيقولها ويكررها فتجزئ عن الذى يجب عليه قراءته فى الصلاة حتى يتعلم , وعلى هذا فمن دخل فى الإسلام أو أراد الدخول فيه فقرئ عليه القرآن فلم يفهمه فلا بأس أن يعرب له لتعريف أحكامه , أو لتقوم عليه الحجة فيدخل فيه , وأما الآستدلال لهذه المسئلة بهذا الحديث وهو قوله " إذا حدثكم أهل الكتاب " فهو وإن كان ظاهره أن ذلك لسانهم فيحتمل أن يكون بلسان العرب فلا يكون نصا فى الدلالة , ثم المراد بإيراد هذا الحديث فى هذا الباب ليس ما تشاغل به ابن بطال , وإنما المرادمنه كما قال البيهقى فيه دليل على أن أهل الكتاب إن صدقوا فيما فسروا من كتابهم بالعربية كان ذلك مما أنزل إليهم على طريق التعبير عما أنزل , وكلام الله واحد لا يختلف باختلاف اللغات , فبأى لسان قرئ فهو كلام الله ثم أسند عن مجاهد فى قوله تعالى : { لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ } يعنى ومن أسلم من العجم وغيرهم . {367} قال البيهقى: ( وقد يكون لا يعرف العربية فإذا بلغه معناه بلسانه فهو له نذير ) ثالثا : كتابة القرآن بالأعجمية , وكونها ضربا من ترجمته : فجمهور أهل العلم على المنع من ذلك مطلقا , بل صرحوا بالمنع من مخالفة رسم المصحف الإمام وقالوا بوجوب التزام ذلك الرسم على ما سيأتى بيانه فى مسألة رسم المصحف فى موضعها من هذا البحث إن شاء الله تعالى. بيد أن طائفة من أهل العلم قد رخصت فى مخالفة رسم المصحف الإمام , واعتبرت الرسم مجرد نقوش والاصطلاحات نقوش واصطلاحات أخرى يتأدى بها الغرض المطلوب لم يكن فى الشرع ما يمنع من اعتبارها والاعتداد بها والاعتماد عليها لا فرق فى ذلك فى أن تكون تلك النقوش والاصطلاحات موضوعة من قبل عرب أو عجم يستوى فى ذلك كون اللغة فارسية أو تركية أو عربية أو هندية , وهكذا لا ضير عندهم فى اختلاف الأقلام والرسوم والاصطلاحات مادام أنها تدل فى آخر المطاف على مراد الشرع , ويتحقق بها نقل القرآن , ويمكن بواستطها تلاوته تلاوة صحيحة . وقد فرقت طائفة من أهل العلم بين الألسن , فجوزت القراءة بالفارسية الدرية خاصة لقربها من العربية , وقصرت طائفة من متأخرى أهل العلم جواز كتابة القرآن على ما كان بالقلم العربى والهندى خاصة , وألحقت طائفة أخرى القلم التركى بالهندى , ولا يخفى ما فى مخالفة الجمهور فى مسألة الرسم من المجازفات والتغرير بالدين , والفتح لباب الدس والتحريف على أوسع مراعيه , ناهيك عما يترتب على الأخذ بمثل هذه الأقوال من التفريق بين المؤمنين والتمزيق لوحدة المسلمين والتى يعتبر فيها رسم المصحف الإمام والتزام الأمة به أعظم الدعائم لتلك لوحدة المسلمين والتى يعتبر فيها رسم المصحف الإمام والتزام الأمة به أعظم الدعائم لتلك الوحدة , وأقوى الأواصر الجامعة لشمل الأمة . ثم إن المستقرئ لتاريخ التوجه إلى ترجمة القرآن يخرج بنتيجة محصلها أن فكرة الترجمة فى أصلها ومبتدأ نشأتها كانت مكيدة كادها الكفار , وبخاصة الرهبان والأحبار من أهل الكتاب , فقد كانت البيع والكنائس منبتا لفكرة الترجمة , ومنشأ لذلك التوجه حتى يكون ذلك ثغرة ينفذ منها الرهبان والأحبار إلى أغراضهم من الطعن فى الدين {368} الإسلامى والتحريف فى القرآن إن استطاعوا , فإن لم يكن هذا ولا ذاك قنعوا بما يترتب على الترجمة من التفريق بين المسلمين والحيلولة دون اجتماعهم على قرآن برسم موحد ولغة واحدة , ولما أدرك أولئك الكفار أن مكيدتهم المذكورة لن تلقى رواجا بين المسلمين إن الكفرة هم حملة لوائها بادروا إلى اصطناع فئات من المحسوبين على الإسلام , ليقوموا بالترويج للترجمة فى أوساط المسلمين غير عابئين بأخطارها , ولا مكترثين لأضرارها , قد أعماهم حب الشهرة عن ذلك كله , أو أغراهم الطمع والحرص على الدنيا فى المضى فى سبيل الشيطان , وخدمة أعداء الدين . أضف إلى ذلك وجود فئات من الزنادقة والملحدين وزمر من الباطنية والمنافقين الذين يتربصون بأهل الإيمان الدوائر , عليهم دائرة السوء , وغضب الله عليهم ولعنهم , وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا . الخلاف فى كتابة المصحف بالأعجمية : إن أقدم نص وقفت عليه يتطرق لحكم كتابة المصحف بغير العربية هو كلام الحاكم الشهيد الحنفى ( ت 334هـ) فى كتابه الكافى على مانقله عنه ابن الهمام فى الفتح , حيث قال وهو بصدد النقل من الكتاب المذكور , وفيه: إن اعتاد القراءة بالفارسية , أو أراد أن يكتب مصحفا بها يمنع , وإن فعل فى آية أو آيتين لا , فإن كتب القرآن وتفسير كل حرف وترجمته جاز ). ولم يتعقب ابن الهمام كلام صاحب الكافى بشئ مما يدل على موافقته إياه . وقد جزم صاحب الفتاوى التتارخانية (ت 786 هـ) بمثل كلام الحاكم المتقدم معزوا لشمس الأئمة السرخسى فى شرحه على الجامع الصغير , وهاك نص الفتاوى التتارخانية : ( وإن اعتاد القراءة بالفارسية , أو أراد أن يكتب المصحف بالفارسية منع من ذلك على أشد المنع , وإن فعل ذلك فى آية أو آيتين لا يمنع من ذلك . ذكر الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسى فى شرح الجامع الصغير : ( وإن كتب القرآن وتفسير كل حرف وترجمته تحته , روى عن الشيخ الفقيه أبى جعفر أنه لا {369} بأس به فى ديارنا , وإنما يكره فى ديارهم , لأن القرآن نزل بلغتهم وعبارة العينى (ت 855 هـ ) فى كتابه البناية: ( ويجوز كتابة الآية والآيتين بالفارسية , والأكثر منها لا يجوز . وقال الرازى "ره" أخاف أن يكون زنديقا أو مجنونا , فالجنون يشد والزنديق يقتل , ويكره كتابة التعشير بالفارسية فى المصحف كما يعتاده البعض ورخص فيه الهندوانى "ره" وما كتب سلمان رضى الله تعالى عنه الفاتحة بالفارسية كان للضرورة لأهل فارس ).{370} قال الحصكفى فى الدر عن تجويز كتابة القرآن بغير العربية : ( وخصه البردعى بالفارسية لمزيتها بحديث لسان أهل الجنة العربية والفارسية الدرية بتشديدالراء , يعنى الفصيحة, وهى إحدى اللغات الخمس للفرس ). قال ابن عابدين :( " قوله وخصه البردعى ... إلخ " ضعيف , والظاهر أن كلام البردعى لا يتناول الكتابة , فقد جاء فى نقل الفتاوى التاتاريخنة ما نصه : " ذكر الشيخ الفقيه أبو سعيد البردعى أن أبا حنيفة إنما جوز القراءة بالفارسية خاصة دون غيرها من الألسنة لقربها من العربية على ما جاء فى الحديث :" لسان أهل الجنة العربية والفارسية الدرية ") وقال ابن الحاج (ت 737هـ) فى كتابه المدخل وهو بصدد الكلام عما يلزم الناسخ : ( وينغبى له : بل يتعين عليه أن لا ينسخ الختمة بلسان العجم , لأن الله عزوجل أنزله بلسان عربى مبين , ولم ينزله بلسان العجم . وقد كره مالك رحمه الله نسخ المصحف فى أجزاء متفرقة , وقال :" إن الله عزوجل قال : {ِإنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ}ِوهؤلاء يفرقونه " , فإذا كره هذا فى الأجزاء فما بالك بتغييره عن اللسان العربى المبين , ولقد سرى هذا لبعض الناس فى هذا الزمان حتى أنهم ليعدون قراءة القرآن بالعجمية ونسخ الختمة بها من الفضيلة , وبعضهم يجمع فى الختمة الواحدة بين كتبها باللسان العربى واللسان العجمى , فيكتب الآيتين والثلاث باللسان العربى , ثم {372} يكتبها بعدها باللسان العجمى , وهذا مخالف لما أجمع عليه الصدر الأول والسلف الصالح والعلماء رضى الله عنهم . وإذا كان كذلك فيتعين عليه أن لا يعرج على قول من أجاز ذلك , فليحذر من ذلك والله والموفق ) وقال الزركشى (ت 794هـ) فى كتابة البرهان :( هل يجوز كتابة القرآن بقلم غير العربى ؟ هذامما لم أر للعلماء فيه كلاما , ويحتمل الجواز لأنه قد يحسنه من يقرأه بالعربية , والأقرب المنع . كما تحرم قراءته بغير لسان العرب , ولقولهم : القلم أحد اللسانين , والعرب لا تعرف قلما غير العربى [وقد] قال تعالى : { بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} ) . ونقل السيوطى فى الإتقان قول الزركشى هذا , ولم يعقب عليه بشئ . وقد مضى فى مسألة مدى إمكان ترجمة القرآن كلام للزركشى فى البحر المحيط ونقله عنه الزرقانى فى المناهل فليراجعه فى موضعه من رامه . وقال ابن حجر الهيتمى (973) فى الفتاوى الكبرى وقد سئل رحمه الله هل تحرم كتابة القرآن الكريم بالعجمية كقراءته ؟" فأجاب " قوله :( قضية ما فى المجموع عن الأصحاب التحريم , وذلك لأنه قال وأما ما نقل عن سلمان رضى الله عنه : " أن قوما من الفرس سألوه أن يكتب لهم شيئا من القرآن , فكتب لهم فاتحة الكتاب بالفارسية " فأجاب عنه أصحابنا بأنه كتب تفسير الفاتحة لا حقيقتها . أ. هـ فهو ظاهر أو صريح فى تحريم كتابتها بالعجمية , فإن قلت كلام الأصحاب إنما هو جواب عن حرمة قراءتها بالعجمية المترتبة على الكتابة بها فلا دليل لكم فيه . قلت : بل هو جواب عن الأمرين , وزعم أن القراءة بالعجمية مترتبة على الكتابة بها ممنوع بإطلاقه , {373} فقد يكتب بالعجمية ويقرأ بالعربية وعكسه , فلا تلازم بينهما كما واضح , وإذا لم يكن بينهما تلازم كان الجواب عما فعله سلمان رضى الله عنه فى ذلك ظاهرا فيما قلناه , على أن مما يصرح به أيضا أن مالكا رضى الله عنه سئل هل يكتب المصحف على ما أحدثه الناس من الهجاء ؟ فقال : " لا إلا على الكتبة الأولى " أى كتبة الإمام وهو المصحف العثمانى . قال بعض أئمة القراء : ونسبته إلى مالك لأنه المسؤل عن المسئلة وإلا فهو مذهب الأئمة الأربعة . قال أبو عمرو : ولا مخالف له فى ذلك من علماء الأمة . قال بعضهم : والذى ذهب إليه مالك هو الحق إذ فيه بقاء الحالة الأولى على أن يتعلمها الآخرون , وفى خلافها تجهيل آخر الأمة أولهم , وإذ وقع الإجماع كما ترى على منع ما أحدثه الناس اليوم من مثل كتابة الربو بالألف مع أنه موافق للفظ الهجاء فمنع ما ليس من جنس الهجاء أولى , وأيضا ففى كتابته بالعجمية تصرف فى اللفظ المعجز الذى حصل التحدى به بما لم يرد بل بما يوهم عدم الإعجاز , بل الركاكة لأن الألفاظ العجمية فيها تقديم المضاف إليه على المضاف إليه على المضاف ونحو ذلك مما يخل بالنظم ويشوش الفهم , وقد صرحوا بأن الترتيب من مناط الإعجاز وهو ظاهر فى حرمة تقديم آية على آية , كما يحرم ذلك قراءة , فقد صرحوا بأن القراءة بعكس السور مكروهة , وبعكس الآيات محرمة , وفرقوا بأن ترتيب السور على النظم المصحفى مظنون , وترتيب الآيات قطعى , وزعم أن كتابته بالعجمية فيها سهولة للتعليم كذب مخالف للواقع والمشاهدة , فلا يلتفت لذلك على أنه لو سلم صدقه لم يكن مبيحا لإخراخ ألفاظ القرآن عما كتبت عليه , وأجمع عليها السلف والخلف ). وسئل الهيتمى أيضا هل يحرم كتابة القرآن بغير العربية ؟ " فأجاب " بقوله : أفتى بعضهم بحرمة ذلك , وأطال فى الاستدلال له , لكن بما فى دلالته لما أفتى به نظر ظاهر . وسئل الشمس الرملى الشافعى: ( هل تحرم كتابة القرآن العزيز بالقلم الهندى أو نحو ه ؟ " فأجاب " بأنه لا يحرم , لأنها دالة على لفظه العربى وليس فيها تغيير {374} له , بخلاف ترجمته بغير العربية لأن فيها تغييرا له ). وقال ابن قاسم العبادى الشافعى فى حواشيه على تحفه المحتاج للهيتمى : ( أفتى شيخنا المذكور – يعنى الشهاب الرملى – بجواز كتابة القرآن بالقلم الهندى , وقياسه جوازه بنحو التركى أيضا ) . وتعقبه الشروانى فقال : ( " قوله بالقلم الهندى .. إلخ " فيه تأمل فإن المكتوب بالقلم الهندى ونحوه إنما هو ترجمة القرآن لا نفسه ). وكان الشروانى فى حاشيته على التحفة قد حكى قول العبادى السالف الذكر , ونقله عن حاشية الشبراملسى على نهاية المحتاج . فتوى الشيخ بكرى الصدفى ... سئل الشيخ الصدفى فى ذى الحجة 1325 هـ هل يجوز ترجمة القرآن الكريم باللغات المتداولة بين المسلمين ؟ فأجاب بما نصه : ( فى الدر المختار ما نصه : ويجوز كتابة آية أو آيتين بالفارسية لا أكثر ويكره كتب تفسيره تحته بها . انتهى . وفى رد المحتار ما نصه : فى الفتح عن الكافى إن اعتاد القراءة بالفارسية أو أراد أن يكتب مصحف بها يمنع , وإن فعل فى آية أو آيتين لا , فإن كتب القرآن وتفسير كل حرف وترجمته جاز . انتهى . ومنه يعلم الجواب عن المسألة الأولى فى السؤال , وأن كتابة القرآن جميعه بغير العربية ممنوعة إذ الفارسية غير قيد كما صرحوا به ) . فتوى الشيخ محمد بخيت المطيعى مفتى الديار المصرية (ت 1354هـ), {375} وقد سئل الشيخ بخيت : ( ما قولكم علماء الإسلام ومصابيح الظلام – أدام الله وجودكم – هل يجوز كتابة القرآن الكريم بالحروف الأنكليزية والفرنسية مع أن الحروف الإنكليزية ناقصة عن الحروف العربية , ومعلوم أن القرآن الكريم أنزل على لسان قريش , فلإنكليزى مثلا إذا أراد أن يكتب " مصر " بالإنكليزية تقرأ " مسر " أو " أحمد " تكتب " أهمد " ويكتب " شيك " يعنى " شيخ " لا سيما وإخواننا المسلمون فى مصر يعرفون اللغة الإنكليزية وغيرها , وبعض المسلمين فى جنوبى أفريقية فى جدال عنيف منهم من يجوز ومنهم من يقول غير جائز , أفيدونا ولكم الأجر والثواب من الله تعالى ؟ " فأجاب " : اعلم أن القرآن هو النظم أى اللفظ الدال , لأنه الموصوف بالأنزال والإعجاز وغير ذلك من الأوصاف التى لا تكون إلا للفظ , وأما المعنى وحده فليس بقرآن حقيقة , وقيل إن القرآن حقيقة هو المعنى ويطلق على اللفظ مجازا والحق هو الأول , وعليه فلا يجوز قراءة القرآن بغير العربية لقادر عليها , وتجوز القراءة والكتابة بغير العربية للعاجز عنها بشرط أن لا يختل اللفظ ولا المعنى . فقد كان تاج المحدثين الحسن البصرى يقرأ القرآن فى الصلاة بالفارسية, لعدم انطلاق لسانه باللغة العربية , وفى النهاية والدراية أن أهل فارس كتبوا إلى سلمان الفارسى بأن يكتب لهم الفاتحة بالفارسية , فكتب فكانوا يقرأون ما كتب فى الصلاة حتى لانت ألسنتهم , وقد عرض ذلك على النبى صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليه . وفى النفحة القدسية فى " أحكام قراءة القرآن وكتابته بالفارسية " ما يؤخذ منه حرمة كتابة {376} القرآن بالفارسية إلا أن يكتب بالعربية ويكتب تفسير كل حرف وترجمته , ويحرم مسه لغير الطاهر اتفاقا . وفى كتب المالكية أن ما كتب بغير العربية ليس بقرآن , بل يعتبر تفسيرا له . وفى الإتقان للسيوطى عن الزركشى أنه لم ير كلام لعلماء مذهبه فى كتابة القرآن بالقلم الأعجمى , وأنه يحتمل الجواز , لأنه قد يحسنه من يقرؤه بالعربية , والأقرب المنع , كما تحرم قراءته بغير العربية , ولقولهم القلم أحد اللسانين , والعرب لا تعرف قلما غير العربى , وقد قال تعالى : { بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} فتلخص من ذلك أن المنصوص عند الحنفية جواز القراءة والكتابة بغير العربية للعاجز عنها بالشروط المار ذكرها , وإن الأحوط أن يكتبه بالعربية , ثم يكتب تفسير كل حرف وترجمته بغيرها كالإنكليزية ) . انتهى كلام الشيخ المطيعى . وقد نقل الشيخ محمد رشيد رضا فى مجلة المنار فتوى الشيخ بخيت فى معرض جواب له على أسئلة وردت إلى المجلة , ثم تعقب جواب الشيخ بخيت هذا وناقشه من وجوه عدة , وتأتى قريبا عن إيراد رأى الشيخ محمد رشيد رضا فى ترجمة القرآن وكتابته بالأعجمية رأى الشيخ محمد رشيد رضا : ذكر الشيخ محمد رشيد رضا فى مجلة المنار أن بعض المسلمين فى الترنسفال كتب إلى جريدة فى مصر ثلاثة أسئلة لعرضها على بعض علماء الأزهر , فعرضتها على الشيخ محمد بخيت فأجاب عنها ونشرت الجريدة أجوبته . {377} وذكر الشيخ رضا أن السؤال المهم هو ما جعلناه عنوانا لهذه النبذة – أى كتابة القرآن بالحروف الإنكليزية – ثم ذكر جواب الشيخ بخيت عن هذا السؤال , ثم بين الشيخ رضا رأية فى السؤال , وجواب الشيخ بخيت عليه , ثم قال تعقيبا على جواب الشيخ بخيت ما نصه : ( عندنا مسألتان , أحداهما ترجمة القرآن إلى لغة أعجمية , أى التعبير عن معانيه بألفاظ أعجمية يفهمها الأعجمى دون العربى , وهذه هى التى سألنا عنها الفاضل الروسى , ونشرنا السؤال والجواب فى هذا الجزء . والثانية كتابة القرآن العربى بحروف غير عربية , وهذه هى التى يسأل عنها السائل الترنسفالى . وقد رأى القراء أن جواب المجيب عنها مضطرب , والنقول التى نقلها مضطربة , لذلك رأينا أن ننقله ونحرر القول فى المسألة تحريرا . المقصود من الكتابة أداء الكلام بالقراءة , فإذا كانت الحروف الأعجمية التى يراد كتابة القرآن بها لا تغنى غناء الحروف العربية لنقصها , كحروف اللغة الإنكليزية فلا شك أنه يمتنع كتابة القرآن بها , لما تحريف كلمه , ومن رضى بتغيير كلام القرآن اختيارا فهو كافر . وإذا كان الأعجمى الداخل فى الإسلام لا يستقيم لسانه بلفظ محمد فينطق بها " مهمد " , وبلفظ خاتم النبيين فيقول " كاتم النبيين " فالواجب أن يجتهد بتمرين لسانه حتى يستقيم , وإذا كتبنا له أمثال هذه الكلمات بحروف لغته فقرأها كما ذكر فلن يستقيم لسانه أبد الدهر , ولو أجاز المسلمون هذا للرومان والفرس والقبط والبربر والإفرنج وغيرهم من الشعوب التى دخلت فى الإسلام لعلة العجز لكان لنا اليوم أنواع من القرآن كثيرة , ولكان كل شعب من المسلمين لا يفهم قرآن الشعب الآخر . وإذا كانت الحروف الأعجمية التى يراد كتابة القرآن بها مما تأدى بها القراءة على وجهها من غير تحريف ولا تبديل كحروف اللغة الفارسية مثلا , ففى المسألة تفصيل , والذى نقطع به بأن الكتابة بخطها لا تكون إخلالا بأصل الدين , ولا تلاعبا به, وإن هو خالف الخط العربى فالفرق بين الخط العربى والخط الكوفى أبعد من الفرق بين الخطين العربى والفارسى , ونرى علماء المذاهب متفقين على هذه الخطوط كلها , ولكنهم يعتقدونها عربية , وإذا قيل إنها مختلفة اختلاف لا يكفى لمتعلم أحدها أن يقرأ الآخر كالكوفى والفارسى , نقول قصارى ما يدل عليه ذلك أن كل خط جائز بشرطه , ولكن عندنا ما يدل على أنه ينبغى الاتفاق على خط واحد , فهم المسلمون {378} هذا من روح الإسلام , فكانوا متحدين فى كل عصر على كتابة القرآن بخط واحد يتبع فيه رسم المصحف الإمام لا يتعدى إلا إلى زيادة فى التحسين والإتقان . ذلك من آيات حفظ الله له , وهو عندى واجب , فإن القرآن هو الصلة العامة بين المسلمين , والعروة الوثقى التى يستمسك بها جميع المؤمنين , ومن التفريط فيه أن يفد المسلم القارئ على مصر قادما من الصين فلا يستطيع قراءة مصاحفها , وكذا يقال فى سائر الشعوب , وتصريح كثير من الأئمة بأن خط المصحف توقيفى , وأنه لا يجوز التصرف فيه يؤيد ما ذهبنا إليه . ولقائل أن يقول : إن فى هذا الرأى تضييقا على نشر القرآن وتوسيع دائرة الدعوة إلى الإسلام , وإننا نرى النصارى قد ترجموا أناجيلهم إلى كل لغة , وكتبوها بكل قلم , حتى إنهم ترجموا بعضها بلغة البرابرة , فما بال المسلمين يضيقون , وغيرهم يتوسعون , ولنا أن نقول فى الجواب إننا جوزنا ترجمة القرآن لأجل الدعوة عند الحاجة إلى ذلك , ولا شك أن الترجمة تكتب باللغة التى هى بها , ولكن المسلم الذى يقرأ القرآن بالعربية لا يحتاج إلى كتابته بحروف أعجمية , إلا فى حالة واحدة وهى تسهيل تعليم العربية على أهل اللسان الأعجمى الذين يدخلون فى الإسلام , وهم قارئون كاتبون بحروف ليست من جنس الحروف العربية . وإذا وجد للإسلام دعاة يعملون بجد ونظام كالدعاة من النصارى فلهم أن يعلموا بقواعد الضرورات ككونها تبيح المحظورات , وكونها تقدر بقدرها , فإذا رأوا أنه لا ذريعة إلى نشر القرآن واللغة العربية إلا كتابة الكلام العربى بحروف لغة القوم الذين يدعونهم إلى الإسلام ويدخلونهم فيه فليكتبوه ما داموا فى حاجة إليه , ثم ليجتهدوا فى تعليم من يحسن إسلامهم الخط العربى بعد ذلك ليقووا رابطتهم بسائر المسلمين . وكما يعتبر هذا القائل بترجمة القوم لكتبهم فليعتبر بحرص الأمم الحية منهم على لغاتهم وخطوطهم , فاللغة الإنكليزية أكثر اللغات شذوذا فى كلمها وخطها , ونرى أهلها يحاولون أن يجعلوها لغة جميع العالمين وهم يبذلون فى ذلك العناية العظيمة والأموال الكثيرة , فما لنا لا نعتبر بهذا ) أ . هـ كلام صحاب المنار . بحث اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية : وقد أعدت اللجنة المذكوره بحثا فى حكم كتابة المصحف بالأحرف اللاتينية {379} نشرته فى مجلة البحوث الإسلامية , وقد تضمن هذا البحث : أ – مقدمة فى تكييف الموضوع وتصويره . ب – مبررات كتابة القرآن بالأحرف اللاتينية فى نظر من فعل ذلك ومناقشاتها . ج – بيان الموانع التى تمنع شرعا كتابة المصحف بحروف لا تينية ونحوها , وبيان ما فيها من الخطر . د – خلاصة البحث , وتتضمن سردا لمبررات كتابة القرآن باللغة الاتينية ونحوها فى نظر القائلين بذلك , ومناقشة تلك المبررات , وذكر الموانع الشرعية المقتضية لعدم الترخيص فى كتابة القرآن بالأعجمية , وبيان جانب من المخاطر والمحاذير التى يوقع فيها القول بالترخيص فى كتابة القرآن بالأعجمية . وقد أوصت اللجنة حكام المسلمين باتخاذ كافة الأسباب المؤدية إلى حفظ كتاب الله من كل تحريف أوعبث أو تلاعب والتصدى لكافة المحاولات الرامية إلى الإساءة إليه تحت أى دعوى أو تبرير . مبررات كتابة المصاحف باللاتينية ونحوها عند المنادين بها , ومناقشاتها : احتج المنادون بتجويز كتابة القرآن باللاتينية ونحوها بجملة من الحجج العقلية وطائفة من المبررات النظرية , فمن ذلك قولهم : بأن القرآن هو الأصل الذى يرجع المسلمون إليه فى عقائدهم وعباداتهم ومعاملاتهم , وقد حث الله تعالى على تلاوته وتدبر آياته واستنباط الأحكام منه , وأمر بتحكيمه فى جميع الشؤون والأحوال , وبينت السنة النبوية فضائله , وحثت على تعلمه وتعليمه والتعبد بتلاوته والعمل بما فيه من أحكام , وقد عرف العرب ومن خالطهم وعاش بين أظهرهم الحروف العربية وما يتألف منها من كلمات , ومرنوا على قراءتها فسهل عليهم أن يقرءوا بها القرآن ويتعبدوا بتلاوته ويتدبروا آياته ويتعرفوا أحكامه ليعملوا بها . أما من لغتهم غير عربية وكتابتهم وقراءتهم وتعلمهم بغير الحروف العربية وما يتألف منها من الكلام فيشق عليهم قراءة القرآن بالحروف العربية , فلكى تسهل عليهم {380} قراءة القرآن , وتتضح أمامهم أبواب فهمه وتدبر آياته ومعرفة أحكامه يرخص لهم فى كتابة القرآن بالحروف التى عهدوا الكتابة بها فى بلادهم كاللاتينية إن لم يكن ذلك واجبا لكونه وسيلة إلى واجب , فإن التيسير من مقاصد الشريعة , وقد جاءت به نصوص الكتاب والسنة , قال تعالى : {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} وقال : {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} , وقال {يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً} . وثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال : " يسروا ولا تعسروا , وبشروا ولا تنفروا " رواه أحمد والبخارى ومسلم والنسائى , وثبت عنه أنه قال : " إن الدين يسر , ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه , فسددوا وقاربوا .." رواه البخارى والنسائى . ولا شك أن كتابة القرآن بحروف اللغة التى يتكلم بها الأعاجم فيه تيسير لتلاوة القرآن عليهم , ورفع للحرج عنهم , وتعميم للبلاغ , وإقامة الحجة عليهم . وليس ذلك بدعا , بل هو المناسب لمقاصد الشريعة وله نظائر , فقد جمع أبو بكر الصديق رضى الله عنه القرآن خشية ضياعه بموت القراء , وجمع عثمان رضى الله عنه الناس على حرف واحد من الحروف السبعة التى بها نزل القرآن منعا للاختلاف , ونقط المصحف وشكل فى عهد بنى أمية حينما أسلم كثير من ألسنة أبناء العرب وخيف عليهم اللحن فى التلاوة , فمحاظة على القرآن وعليهم من اللحن نقط القرآن وشكل , ولم يكن ذلك منكرا بل انتهى الأمر فيه إلى الإجماع , لما فيه من تحقيق مقاصد الشريعة والعمل بمقتضاها , فليس ببعيد فى حكمة المشرع أن يرخص لغير العرب فى كتابة القرآن بحروف لغتهم وكلماتها رحمة بهم أن القرآن لم ينزل مكتوبا بالعربية أو بغيرها حتى نلتزم الحروف التى نزل مكتوبا بها , وإنما نزل وحيا متلوا , فأملاه النبى صلى الله عليه وسلم على كتبته وكان أميا فكتبوه بما كان معهودا لديهم من الحروف , ولم يكن هناك نص من الكتاب أو السنة يلزمهم بذلك , إنما هو واقع لغتهم الذى التزموا من أجله كتابة القرآن بحروف لسانهم مع اختلاف منهم فى رسم بعض الحروف , وإذا كان الأمر كذلك فلم لا يجوز أن يكتب المصحف .{381} بحروف غير عربية كاللاتينية , لوجود الداعى إلى ذلك مع عدم الضرر . مناقشة مبررات كتابة القرآن باللاتينية: وقد ناقشت اللجنة الدائمة فى بحثها المذكور تلك المبررات بالمناقشات التالية : الأول : أن تعلم الإنسان للغة غير لغته نطقا وقراءة وكتابة أمر عادى معهود عند الناس قد درجوا عليه قديما وحديثا , وإشباعا لغريزة حب الاستطلاع ونهمة العلم , ورغبة فى نيل الشهادات , وحرص على تبادل المنافع وتعرف الصناعات إلى غير هذا من الداوعى التى تحفز الناس إلى تعلم غير لغتهم فلا حرج على الأعاجم فى أن يتعلموا اللغة العربية كتابة وقراءة , فإن ذلك متناول الأيدى ومستوى الطاقة البشرية , بل يجب على المسلمين أن يتعلموها ليقرءوا بها القرآن , ويطلعوا على السنة النبوية , ويأخذوا منها أحكام الإسلام , بل هذا أحق من تعلم الإنسان غير لغته لنيل شهادة أو تعلم طب أو صناعة أو ما شابه ذلك من الأغراض الدنيوية , ومن رجع إلى ماضى المسلمين وجد من صناعة أو ما شابه ذلك من الأغراض الدنيوية , ومن رجع إلى ماضى المسلمين وجد من أسلم من الأعاجم قد تعلموا اللغة العربية , وأسهموا كثيرا فى خدمة العلوم الدينية والعربية , وألفوا فيها كثيرا باللغة العربية , فألفوا فى تفسير القرآن وتدوين الحديث وشرحه , بل فى علم البلاغة والنحو والصرف ومعاجم اللغة وفقهها . الثانى : أن الحاجة إلى كتابة القرآن بالحروف اللاتينية ونحوها إذا ارتفعت , أمكن الأعاجم تعلم اللغة العربية وانتفى الحرج عنهم والمشقة بذلك , فلا تكون كتابة القرآن , ولا جمع عثمان رضى الله عنه المسلمين على القراءة بحرف واحد من الحروف السبعة التى بها نزل القرآن , فإن الحاجة إلى كتابته بغير اللغة العربية وذلك فى متناول البشر , بخلاف ما قام به أبو بكر وعثمان رضى الله عنهما فإن الضرورة التى ألجأت كلا منهما إلى ما قام به لحفظ القرآن , ومنع الاختلاف فيه لا تذهب إلا بما فعلاه , وكذا القول فى نقط القرآن وشكله , فلم يكن هناك ماص من الجمع والنقط والشكل لعدم وجود الدليل عن ذلك . {382} الثالث : أنه كان من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم من يعرف غير اللسان العربى , ويعرف الكتابة بغير اللغة العربية , والرسالة عامة للبشر عربهم وعجمهم, ولم يأمر النبى صلى الله عليه وسلم منهم أن يكتب الوحى حين ينزل بلغة غير العربية ليسهل على من أسلم ومن سيسلم من الأعاجم قراءته , ولا اتخذ كاتبا للوحى منهم , بل اتخذ من الكتاب من يكتبه باللغة العربية التى بها نزل , وسار الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضى الله عنه على هذا المنهج القويم فاختار من يكتبه باللغة العربية , بل بلغة قريش , ووافقه على ذلك الصحابة رضى الله عنهم , فكانت كتابته باللغة العربية سنة متبعة , وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم : " عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشددين من بعدى ....." الرابع : أن الذين كتبوا القرآن بالحروف اللاتينية أحسوا بأن الذين يعرفون الحروف اللاتينية واعتادوا القراءة بها يشق عليهم أن يقرءوا القرآن بها لوجود حروف فى اللغة العربية ليس لها نظير فى اللاتينية , فاضطروا أن يضعوا لها مقابلا , واضطروا لذلك أن يضعوا تعليمات تتكون من عشر صفحات جعلوها مقدمة لما كتبوه من القرآن بالحروف اللاتينية لتسهل قراءته بها على من يعرف تلك الحروف وتعود القراءة بها , وهذه التعليمات يحتاج تعلمها والمران عليها إلى مدة وجهد إن لم يزد ذلك على تعلم الحروف العربية والقراءة بها فهو لا ينقص عنه , وعلى ذلك تكون كتابة القرآن باللغة العربية أرجح وأسلم , ولكونها اللغة التى بها نزل , ولبعدها عن مظان التحريف والتبديل . الخامس : أن التجزئة فى كتابة كلمات الآية , وضم جزء من حروفها إلى ما سبق , وآخر إلى ما لحق تشبه تقطيع كلمات البيت من الشعر حسب الأوزان المعروفة عند علماء العروض ليعرف البحر الذى منه , ويتبع ذلك صفة نطق للقارئ . وتشبه أيضا النوته الموسيقية التى يراعى فيها مطابقة الصوت للمقطع والسلم الموسيقى , وهذه من البدع التى تسئ إلى القرآن الكريم . السادس : أن كاتب القرآن بالحروف اللاتينية لم يلتزم ما تعهد به فى تعليماته فى كيفية الرسم الكتابى . فمثلا نجده أحيانا يثبت الحرف اللاتينى الذى جعله عوضا عن الحركة فى الكتابة العربية , وأحيانا يتركه ,من ذلك ما وقع منه فى كتابة سورة الناس بالحروف اللاتينية فى النسخة الهندية والنسخة الأندونيسية الثانية , إلى غير ذلك مما ينذر بالخطر , ويفضى إلى التلاعب بالقرآن الكريم وتحريفه والإلحاد فيه , ويفتح بابا لأهل الزيغ والزندقة والكفر يدخلون منه للطعن فى كتاب الله , ويشبهون على المسلمين , ويصيب القرآن بما أصيبت به التوراة والإنجيل من قبل من التغير والتبديل , وتحريف الكلم عن مواضعه . اختيار اللجنة الدائمة : وقد اختارت اللجنة الدائمة القول بامتناع مشروعية كتابة القرآن بالأعجمية , مستندة إلى الموانع التى تمنع شرعا كتابة المصحف بحروف لاتينية ونحوها , لما فيها من الخطر .. بيان ذلك : أ_ ثبت أن كتابة المصحف فى عهد النبى صلى الله عليه وسلم , وفى جمعه فى عهد أبى بكر , وجمعه فى عهد عثمان رضى الله عنهما كانت بالحروف العربية , بل قصد عثمان رضى الله عنه رسما معينا أمر كتابته عند اختلاف كتبة المصحف من الأنصار والقرشين فى رسم الحروف , ووافقه على ذلك الصحابة رضى الله عنهم , وأجمع عليه التابعون ومن بعدهم إلى عصرنا رغم وجود لغات وحروف غير عربية , ووجود كتبة مسلمين من غير العرب , ووجود من يحتاج إلى تسهيل القراءة فى المصحف بحروف غير عربية . وثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال :" عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدى " , فكانت المحافظة على كتابة المصحف بالحروف العربية واجبة عملا بما كان فى عهد النبى صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين , وسائر الصحابة رضى الله عنهم والقرون المشهود لها بالخير , وعملا بإجماع الأمة . {384} ب – أن الحروف اللاتينية نوع من الحروف المصطلح على الكتابة بها عند أهلها , فهى قابلة للتغير والتبديل بحروف لغة أخرى , بل حروف لغات أخرى مرة بعد مرة , فإذا فتح هذا الباب تسهيلا للقراءة فقد يفضى ذلك إلى التغيير كلما تغيرت اللغة , واختلف الاصطلاح فى الكتابة لنفس العلة , وقد يؤدى ذلك إلى تحريف القرآن بتبديل بعض الحروف من بعض والزيادة عليها والنقص منها , ويخشى أن تختلف القراءة تبعا لذلك , ويقع فيها الخلط على مر الأيام والسنين , ويجد عدو الإسلام مدخلا للطعن فى القرآن بالاختلاف والاضطراب بين نسخه , وهذا من جنس البلاء الذى أصيبت به الكتب الإلهية الأولى حينما عبثت بها الأيدى والأفكار , وقد جاءت شريعة الإسلام بسد ذرائع الشر والقضاء عليها محافظة على الدين ومنعا للشر والفساد . ج – يخشى إذا رخص فى ذلك أو أقر أن يصير كتاب الله – القرآن – ألعوبة بأيدى الناس , كلما عن لإنسان فكرة فى كتابة القرآن اقترح تطبيقها فيه , فيقترح , بعضهم كتابته بالعبرية , وآخرون كتابته بالسريانية وهكذا مستندين فى ذلك إلى ما استند إليه من كتبه بالحروف اللاتينية من التيسير ورفع الحرج والتوسع فى الاطلاع والبلاغ , وإقامة الحجة , وفى هذا ما فيه من الخطر العظيم , وقد نصح مالك بن انس الرشيد أو جده المنصور ألا يهدم بناء الكعبة الذى أقامة عبد الملك بن مروان ليعيدها إلى بنائها الذى بناه عبد الله بن الزبير رضى الله عنه على قواعد إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام خشية أن تصير الكعبة ألعوبة بأيدى الولاة . قال تقى الدين الفاسى فى كتابه شفاء الغرام :( ويروى أن الخليفة الرشيد أو جده المنصور أراد أن يغير ما صنعه الحجاج بالكعبة , وأن يردها إلى ما صنعه ابن الزبير , فنهاه عن ذلك الإمام مالك بن أنس رحمه الله , وقال له :" نشدتك الله لا تجعل بيت الله ملعبة للملوك , لا يشاء أحد منهم أن يغيره إلا غيره , فتذهب هيبته من قلوب الناس " انتهى بالمعنى . ثم قال : وكأنه فى ذلك لحظ أن درء المفاسد أولى من جلب المصالح , وهى قاعدة مشهورة معتمدة ).أ.هـ. ثم أورد بحث اللجنة الدائمة جملة من أقوال العلماء المعاصرين فى حكم كتابة القرآن بالأعجمية , كالشيخ محمد بخيت , والشيخ محمد رشيد رضا على ما مضى إيضاحه فى غير موضع من هذا البحث . {385} وقد حكى الشيخ محمد شاكر وكيل الأزهر سابقا فى كتابه " القول الفصل فى ترجمة القرآن الكريم إلى اللغات الأعجمية " إجماع علماء المسلمين على تحريم كتابة المصحف بالأعجمية , كما أجمعوا على تحريم ترجمة القرآن إلى اللغات الأجنية , وعليه يكون القول بتجويز كتابة القرآن بالأعجمية قولا محدثا خارق للإجماع , فالقول به متابعة للمستشرقين والزنادقة , ومن اغتر بأقوالهم من المسلمين . رابعا : ترجمة معانى القرآن : وإذا تقرر أن ترجمة القرآن ترجمة حرفية على تقدير إمكانها – حرام بإجماع علماء المسلمين وأن الدعوة إلى الترجمة المذكورة مكيدة كفرية بيقين لهثت فى الترويج لها طغمة من زنادقة المنافين ولفيف ممن كانوا صدى لصيحات المسترقين المتأسين بإبليس اللعين يوم وسوس بالمعصية لأبوينا وقاسمهما إنى لكما لمن الناصحين فالمستشرقون طامعون فى التفريق بين المؤمنين وجاهدون فى تمزيق وحدة المسلمين وذلك بإيهامهم أن ترجمة القرآن بلسان كل قوم أيسر لفهمهم وأمكن لهم وأمكن لهم من اكتشاف كنوزه - بزعمهم – وكأنهم لا يعلمون أن أئمة المعارف العربية وأساطين العلوم الشرعية ما كانوا فى الغالب الأعم من أصول عربية ومع ذلك فقد فاقوا فيه أقرانهم ممن نزل القرآن بلسانهم , فقد كان حبهم لدينهم أعظم حافز على إتقان لغته لديهم فما راموا للقرآن ترجمة ولابدا منهم فى هذا الشأن أية رغبة أو توجه غير مشروع من أصله فقد اعتيض عنه بتوجه نحو ترجمة معانى القرآن وتفسيره , وهذا التوجه الأخير على ما فيه من محاذير يبدو من حيث الحكم أقل وأخف خطرا , وحظه من المشروعية أقرب وأحرى وقد طرح هذا التوجه للنقاش العلمى فى أوائل النصف الثانى من القرن الرابع عشر الهجرى فاحتدم الجدل إذ ذاك فى شأنه واختلفت الآراء وتباينت الفتاوى بخصوصه إلى أن تصدت للبت فيه لجنة علمية ذات صفة رسمية على ما هو مبين فى الفقرة التالية ولواحقها من هذا البحث . الذى استقرت عليه الفتوى فى أصل المسألة : أعنى الترجمة ومصادر ذلك : وقد أثير مسألة ترجمة معانى القرآن بشكل واسع فى أواخر النصف الأول من {386} القرن الرابع عشر الهجرى , وكثر حولها الجدل , وألفت فيها الرسائل , وكتب {387} فى شأنها العديد من المقالات على صفحات الجرائد والمجلات بين مؤيد ومعارض ومنكر لذلك الاتجاه أو منتصر , حتى إذا طال النقاش تصدت لحسمه أكثر من جهة {388} شرعية فأصدرت فى شأن ذلك البيانات والقرارات , ووضعت لتلك المسألة جملة من القواعد والضوابط التى متى ما روعيت عند ترجمة معانى القرآن أمكن معها أن توصف تلك الترجمة بالصفة الشرعية . فتوى جماعة كبار العلماء بمصر : فمن ذلك تلك الفتوى الصادرة فى شأن ترجمة معانى القرآن , والمبنية على سؤال وجهه إلى جماعه كبار العلماء بمصر شيخ الجامع الأزهر ورئيس جماعة كبار العلماء بمصر الشيخ محمد مصطفى المراغى " محرم سنة 1355 هـ" , وفيما يلى نص ذلك : ( بسم الله الرحمن الرحيم .. ما قول السادة حضرات أصحاب الفضيلة العلماء فى السؤال الآتى بعد ملاحظة المقدمات الآتية : 1: لا شبهة فى أن القرآن الكريم اسم للنظم العربى الذى أنزل على سيدنا محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله , ولا شبهة أيضا فى أنه إذا عبر عن معانى القرآن الكريم بعد فهمها من النص العربى بأية لغة من اللغات لا تسمى هذه المعانى ولا العبارات التى تؤدى هذه المعانى قرآنا . 2 – ومما لا محل للخلاف فيه أيضا أن الترجمة اللفظية بمعنى نقل المعانى مع خصائص النظم العربى المعجز مستحيلة . 3- وضع الناس تراجم للقرآن الكريم بلغات مختلفة اشتملت على أخطاء كثيرة , واعتمد على هذه التراجم بعض المسلمين ممن يريد الوقوف على معانى القرآن الكريم . 4- وقد دعا هذا التفكير فى نقل معانى القرآن الكريم إلى اللغات الأخرى على الوجه التالى : يراد أولا فهم معانى القرآن الكريم بواسطة رجال من خيرة العلماء الأزهر الشريف بعد الرجوع لآراء أئمة المفسرين , وصوغ هذه المعانى بعبارات دقيقة محدودة , ثم نقل هذه المعانى التى فهمها العلماء إلى اللغات الأخرى بواسطة رجال موثوق بأمانتهم واقتدارهم فى تلك اللغات بحيث يكون ما يفهم من تلك اللغات من المعانى هو ما تؤديه العبارات العربية التى يضعها العلماء . فهل الإقدام على هذا العلمل جائز شرعا أو غير جائز ؟ هذا مع العلم بأنه سيوضع تعريف شامل يتضمن أن الترجمة ليست قرآنا , وليس لها خصائص القرآن وليست هى ترجمة كل المعانى التى فهمها العلماء , وأنه ستوضع ترجمة وحدها بجوار النص العربى للقرآن الكريم الفتوى فقد اطلعنا على جميع ما ذكر بالاستفتاء المدون بباطن هذا , ونفيد بأن الإقدام على الترجمة على الوجه المذكور تفصيلا فى السؤال جائز شرعا , والله سبحانه وتعالى أعم . إمضاآت عبد المجيد اللبان – شيخ كلية أصول الدين وعضو جماعة كبار العلماء إبراهيم حمروش – شيخ كلية اللغة العربية وعضو جماعة كبار العلماء محمد مأمون الشناوى – شيخ كلية الشريعة وعضو جماعة كبار العلماء عبد المجيد سليم – مفتى الديار المصرية وعضو جماعة كبار العلماء محمد عبد اللطيف اللحام – وكيل الجامع الأزهر وعضو جماعة كبار العلماء دسوقى عبد الله البدوى – " ختم " عضو جماعة كبار العلماء أحمد الدبلشانى – " ختم " عضو جماعة كبار العلماء يوسف الرجوى - " ختم " عضو كبار العلماء محمد سبع الذهبى شيخ الحنابلة – عضو جماعة كبار العلماء عبد المعطى الشرشيمى – عضو جماعة كبار العلماء {390} عبد الرحمن قراعة - " ختم " عضو هيئة كبار العلماء أحمد نصر – عضو هيئة كبار العلماء محمد الشافعى الطواهرى – عضو هئية كبار العلماء . · حيث أن الترجمة المرادة هى ترجمة لمعانى التفسير الذى يضعه العلماء , فهى جائزة شرعا بشرط طبع التفسير المذكور بجوار الترجمة المذكورة والله أعلم كتبه بيده الفانية عبد الرحمن عليش الحنفى من جماعة كبار العلماء رأى فضيلة الأستاذ الأكبر : بسم الله الرحمن الرحيم رئيس جماعة كبار العلماء {391} القواعد التى تجب مراعاتها عند ترجمة معانى القرآن : قررت مشيخة الأزهر الجليلة ترجمة تفسير القرآن , وتألفت بالفعل لجنة من خيرة علمائه ورجالات وزارة المعارف لوضع تفسير عربى دقيق للقرآن تمهيدا لترجمته ترجمة دقيقة بواسطة لجنة فنية مختارة . وقد اجتمعت لجنة التفسير بضع مرات برئاسة العلامة الباحث مفتى مصر الأكبر , وكان من أثر هذه الاجتماعات أن وضعت دستورا تلتزمه فى عملها العظيم , ثم بعثت بهذا الدستور العظيم إلى كبار العلماء والجماعات الإسلامية فى الأقطار الأخرى لتستطلعهم آراءهم فى هذا الدستور , رغبة منها فى أن يخرج هذا التفسير العربى فى صورة ما أجمع عليه . ذكر ذلك الشيخ الزرقانى فى المناهل , ثم قال: ( وبما أن هذا الدستور قد حوى من ألوان الحيطة والحذر ما يتفق وجلال الغاية , فإنا نعرض عليك هنا مواده وقواعده لتضفيها أنت إلى ما أبديناه من التحفظات السابقة , وهاهى تلك القواعد كما جاءت فى مجلة الأزهر . 1- أن يكون التفسير خاليا ما أمكن من المصطلحات والمباحث العلمية إلا ما استدعاه فهم الآية . 2- ألا يتعرض فيه للنظريات العلمية , فلا يذكر مثلا التفسير العلمى للرعد والبرق عن آية فيها رعد وبرق , ولا رأى الفلكيين فى السماء والنجوم عند آية فيها سماء ونجوم , إنما تفسر الآية بما يدل عليه اللفظ العربى , ويوضح موضع العبرة والهداية فيها . 3- إذا مست الحاجة إلى التوسع فى تحقيق بعض المسائل وضعته اللجنة فى حاشية التفسير . 4- ألا تخضع اللجنة إلا لما تدل عليه الآية الكريمة , فلا تتقيد بمذهب معين من المذاهب الفقهية , ولا مذهب معين من المذاهب الكلامية وغيرها , ولا تتعسف فى تأويل آيات المعجزات وأمور الآخرة ونحو ذلك . {392} 5- أن يفسر القرآن بقراءة حفص , ولا يتعرض لتفسير قراءات أخرى إلا عند الحاجة إليها . 6- أن يجتنب التكلف فى ربط الآيات والسور بعضها ببعض . 7- أن يذكر من أسباب النزول ما صح بعد البحث وأعان على فهم الآية . 8- عند التفسير تذكر الآية كاملة أو الآيات إذا كانت مرتبطة بموضوع واحد, ثم تحرر معانى الكلمات فى دقة , ثم تفسر معانى الآية أو الآيات فى الوضع المناسب . 9- ألا يصار إلى النسخ إلا عند تعذر الجمع بين الآيات . 10- يوضع فى أوائل كل سورة ما تصل إليه اللجنة من بحثها فى السورة أمكية هى أم مدنية ؟ وماذا فى السورة المكية من آيات مدنية , والعكس . 11- توضع للتفسير مقدمة فى التعريف بالقرآن , وبيان مسلكه فى كل ما يحتويه من فنونه , كالدعوة إلى الله , وكالتشريع , والقصص , والجدل ونحو ذلك , كا يذكر فيها منهج اللجنة فى تفسيرها ). طريقة التفسير والقواعد المتبعة فى ذلك . ومضى الزرقانى فى نص مجلة الأزهر قائلا : ورأت اللجنة بعد ذلك أن تضع قواعد خاصة بالطريقة التى تتبعها فى تفسير معانى القرآن الكريم , وننشرها فيما يلى : 1: تبحث أسباب النزول والتفسير بالمأثور , فتفحص مروياتها وتنقد , ويدون الصحيح منها بالتفسير , مع بيان وجه قوة القوى وضعف الضعيف من ذلك . 2: تبحث مفردات القرآن الكريم بحثا لغويا , وخصائص التراكيب القرآنية بحثا بلاغيا وتدون . {393} 3: تبحث آراء المفسرين بالرأى والتفسير بالمأثور , ويختار ما تفسر الآية به مع بيان وجه رد المردود وقبول المقبول . 4: وبعد ذلك كله يصاغ التفسير مستوفيا ما نص على استيفائه فى الفقرة الثانية من القواعد السابقة , وتكون هذه الصياغة بأسلوب مناسب لأفهام جمهرة المتعلمين , خال من الأغراب والصنعة . فتوى اللجنة الدائمة للأفتاء – فى الرياض - : ورد إلى رئاسة العامة لإدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد السؤال التالى : " قرأت فى مجلة العربى العدد 237 شهر شعبان لعام 1398 هـ مقالا حول موضوع دراسات قرآنية طرح جديد لموقف المعارضة للدكتور محمد أحمد خلف الله , الرجاء الاطلاع على المقال المذكور , وخاصة ترجمة القرآن والتى يريد منها حسب ظاهر كلامه الترجمة الحرفية , وما رأيكم فى الأسباب التى أوردها ضمن مقاله فى تبريره لترجمة القرآن ؟ أفيدونا جزاكم الله خيرا , وجعلكم من الذائدين عن شرعه وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم " وأجابت بما يلى :( يتضح من مقال الدكتور المذكور أنه يريد ترجمة معانى القرآن والتعبير عنها باللغات الأخرى غير العربية , وترجمة معانى القرآن جائزة إذا فهم المعنى فهما صحيحا , وعبر عنه من عالم بما يحيل المعانى باللغات الأخرى تعبيرا دقيقا يفيد المعنى المقصود من نصوص القرآن , وذلك أداء لواجب البلاغ لمن لا يعرف اللغة العربية . قال شيخ الأسلام أحمد بن تيمية رحمه الله :" وأما مخاطبة أهل الاصطلاح باصطلاحهم ولغتهم فليس بمكروه إذا احتيج إلى ذلك , وكانت المعانى صحيحة كماخطبة العجم من الروم والفرس والترك بلغتهم وعرفهم , فإن هذا جائز حسن للحاجة , وإنما كرهه الأئمة إذا لم يحتج إليه , ولهذا قال النبى صلى الله عليه وسلم لأم خالد بنت خالد سعيد بن العاص , وكانت صغيرة فولدت بأرض الحبشة , لأن أباها كان {394} من المهاجرين إليها , قال لها:( يا أم خالد ) هذا سنا . والسنا بلسان الحبشة الحسن , لأنها كانت من أهل هذه اللغة , ولذلك يترجم القرآن والحديث لمن يحتاج إلى تفهمه إياه بالترجمة , وكذلك يقرأ المعلم ما يحتاج إليه من كتب الأمم وكلامهم بلغتهم , ويترجم بالعربية كما أمر النبى صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت : " أن يتعلم كتاب اليهود ليقرأ له ويكتب له ذلك " حيث لم يأتمن اليهود عليه ". أما الترجمة الصوتية فهى غير جائزة , وسبق أن أصدر مجلس هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية قرارا فى ذلك نرفق لك صورته لمزيد من الفائدة .. وبالله التوفيق وصلى الله على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه ). اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عبدالله بن قعود عبد الله بن غديان عبد الرازق عفيفى رئيس عبد العزيز بن عبد الله بن باز ما يتشرط فى المترجم لمعانى القرآن : قال البيهقى فى شعب الإيمان : ( سمعت أبا القاسم حيث يقول : سمعت أبا {395} عبد الله الميدانى الخطيبى يقول : سمعت أبا القريش الحافظ يقول : سمعت يحى بن سليمان بن نضلة يقول : سمعت مالك بن أنس يقول : " لا أوتى برجل غير عالم بلغات العرب يفسر ذلك إلا جعلته نكالا ") . {396} الخلاصة |
التروح بالمصحف | غير مصنف قال صَالِحٌ بْنُ مُحَمَّدِ الرَّشيدِ(م): (لأهل العلم في مسألة التروح بالمصحف قولان: أحدهما: التحريم لما فيه من ابتذال المصحف وامتهانه واستعماله في غير المقصود به، فهو بالتوسد أشبه. والقول الثاني: أن التروح بالمصحف لا يحرم لعدم الامتهان. قال الشرواني في حاشيته على التحفة نقلا عن البيجرمي ما نصه: (ولو جعله مروحة لم يحرم لقلة الامتهان قال ابن حج ولو قيل بالحرمة لم يبعد أ.ه كلام البيجرمي . فظاهره أن المشهور عند فقهاء الشافعية هو الأول، لكن الشرواني قد نقل عن الشبراملسي ما يشعر بأن الثاني هو المشهور، حيث قال في حاشيته على التحفة أيضا عند كلامه على رمي الأولاد بألواحهم: ( وينبغي حرمته لإشعاره بعدم التعظيم كما قالوه فيما لو روح بالكراسة على وجهه أ.ه ع ش). وقد سئل الشمس الرملي: ( عن شخص صنع مروحة لجلب الهواء، ولزق بها ورقة مذهبة مكتوبا فيها آية من القرآن بسبب التفاخر بها، فهل يحرم عليه فعل ذلك أم لا؟ "فأجاب" بأنه لا يحرم عليه فعلها، ولا جلب الهواء بها إذ لا امتهان بها فيهما).[404] |
الساعة الآن 05:00 AM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By
Almuhajir
جميع الحقوق محفوظة