زاد المفسِّر قال عبد العزيز بن داخل المطيري: ( تمهيد:تفسير سورة الفاتحة تمهيد: الحمد لله أنزل الكتاب المبين، هدى ورحمة للمؤمنين، وحجة على جميع المعرضين، فأحكمَه غايةَ الإحكام، وحفظه أجود الحفظ، وبيّنه أحسن البيان، وجعل فيه تفصيل كلّ شيء، فلا تخلو مسألة من حكمه، ولا حال ولا عمل من دلائله وبيانه، علم ذلك من علمه وجهله من جهله، وجعله لعباده المؤمنين شَرَفاً وذِكْراً، وشفاء وبشرى، يتبصرون ببصائره، ويهتدون بهداه، ويتعظون بمواعظه، وينهلون منه العلم والحكمة، حتى طهَّر به قلوبهم، وزكّى به نفوسهم، وَأصَلَح به أعمالهم وأحوالهم، وأكرم به مآلهم. والصلاة والسلام على النبيّ المصطفى، والرسول المجتبى، الذي اختصّه الله تعالى بتبليغ كتابه الكريم، فبعثه به هادياً وبشيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، فبيّن للناس ما نُزّل إليهم من آيات ربّه، وكان لهم فيه أسوة حسنة؛ يتلو كتاب الله حقّ تلاوته، ويقوم به أحسن القيام، ويجاهد به حقّ الجهاد، فدعا بلسانه وبيانه، ودعا بحسن هَدْيِه وسمته، وحبَّب إليه بحسن خلقه، وكريم شمائله، حتى أدّب أصحابه أحسن الأدب، وربَّاهم أحسن التربية، وعلّمهم وزكّاهم، فأخرج الله به من شاء من عباده من الظلمات إلى النور؛ ومن الضيق إلى السعة، ومن الذلّة إلى العزّة، وعلَّمهم الكتاب والحكمة، وجعلهم أئمةً يهدون بأمره، ويجاهدون في سبيله، ويقيمون أمر دينه؛ فاجتمعوا من بعد افتراق، وائتلفت قلوبهم من بعد اختلاف، حتى نالوا بفضل الله ورحمته ما نالوا ، وبلغوا من الدرجات العلى ما بلغوا: {لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} ؛ فصلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم عليه تسليماً كثيراً إلى يوم الدين. أما بعد: فإنّ علم تفسير القرآن من أشرف العلوم وأنفعها، وأجلّها وأوسعها، وأعظمها بركةً، وأحسنها ثمرةً، وإنَّ هذا العلم على جلالة قدرهِ وعظيم نَفْعِه، لا ينتفع به إلا من رزقه الله البصيرة، ووفّقه لاتّباع الهدى {قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذنهم وقرٌ وهو عليهم عمى}. فنسأل الله تعالى أن يجعلنا ممَّن يزيدهم بهذا العلم بصيرة وهدى، وأن يجيرنا من الضلال والحرمان. وقد منَّ الله تعالى عليَّ بالاشتغال بالعمل على إعداد كتاب "جمهرة التفاسير" سنوات عديدة، وكانت عمدة تلك الجمهرة جمع أقوال العلماء بنصوصها، وتصنيفها وترتيبها على العلوم والمسائل والوفيات، فجمعت فيه ما أمكن من تفاسير السلف وتفاسير اللغويين من مصادر كثيرة متنوّعة؛ وطبعت منه تفسير المعوذتين في مجلّد كبير، ونشرت بقية ما جمع منه في موقع جمهرة العلوم على الشبكة العالمية "الإنترنت" وهو على سور القرآن الكريم من الفاتحة إلى الناس، بفضل الله تعالى وحسن عونه. وقد أتممنا فيه ثلاث مراحل، وهي: 1. تفاسير السلف من الكتب المسندة وما يتصل بها من شروح الحديث. 2. تفاسير اللغويين. 3. أقوال علماء اللغة المتقدمين في التفسير من كتبهم المصنفة في غير التفسير ومعاني القرآن. وقد أعانني في إعداده ونشره جمعٌ من الإخوة والأخوات من طلاب العلم أسأل الله تعالى أن يثيبهم على ما بذلوا من جهد ووقت ثواباً كريماً، وأن يجزيهم عنّي خير الجزاء، وما يزال العمل في بقيّة المراحل لم يتمّ بعد إلى هذا الوقت، ولعلّ الله يهيّئ سبباً لاستكماله كما ينبغي، ويعين على نشره. ولما كانت الحاجة داعية إلى تلخيص هذا الكتاب الكبير وتقريبه؛ استخرت الله تعالى في إعداد تفسير متوسّط؛ يشتمل على لُبَابه، وينهل من عُبابه، ويكمّل فوائده، ويحرّر مسائله؛ فشرح الله صدري لإعداد هذا التفسير الذي سمّيتُه "زاد المفسّر" لاجتماع همّتي فيه على جمع ما يحتاجه المفسّر وتقريبه، وترتيبه وتهذيبه، والاجتهاد في تيسيره وتحريره. وأرجو أن يكون العمل في إعداد هذا التفسير على مراحل، كلَّما أتممت تفسير سورة نشرتُه في دروس علمية ميسّرة؛ ثم أعود بعد مدّة من نشر تلك الدروس إلى مراجعتها وتهذيبها، بعد الاستفادة من أسئلة طلاب العلم وتنبيهاتهم، وملحوظاتهم وتعقّباتهم. وقد يسّر الله تعالى بفضله وكرمه تفسير سورة الفاتحة في دورة علمية لطلاب برنامج إعداد المفسّر في شهر ذي القعدة من عام 1437هـ جمعت فيها ما أمكن من مسائل تفسير هذه السورة العظيمة، واجتهدت في بيان معانيها وهداياتها، وتقريب أقوال المفسّرين في علومها ومسائلها. ثمّ عدت إليها في شهر جمادى الآخرة من عام 1438هـ؛ فراجعت مادّتها العلمية وهذبتها، وأضفت ما تحسن إضافته، لتخرج في كتاب مطبوع يسهل تداوله ونشره. وأسأل الله تعالى أن يمنّ بالقبول والتوفيق، وأن ينفع بهذا الكتاب كلَّ من قرأه ونشره، وأن ييسّره للدارسين، ويبارك فيه بركة من عنده، وأن يعين على إتمام هذا التفسير، ويوفق فيه للصواب وحسن البيان، ويرزقني الإخلاص والسداد، وأن يقيني شرور نفسي وسيئات أعمالي، لا إله إلا هو الوليّ الحميد). [تفسير سورة الفاتحة: 5 - 9] |
الباب الأول: بيان فضائل سورة الفاتحة الأحاديث الصحيحة في فضل سورة الفاتحة قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (الأحاديث الصحيحة في فضل سورة الفاتحة: صحّ في فضل سورة الفاتحة أحاديث كثيرة دلَّت على أنّها أعظمُ سُوَرِ القرآن، وأنّها أفضل القرآن، وأنّها خير سورة في القرآن، وأنّها أمّ القرآن أي أصله وجامعة معانيه ومقدّمه، وأنّه ليس في التوراة، ولا في الزبور، ولا في الإنجيل، ولا في القرآن مثلها، وأنّها نورٌ لم يُؤتَه نبيّ قبل نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم، وأنّه لا يَقرأ بحرفٍ منها إلا أعطيه، وأنّها رقية نافعة، وأن الصلاة لا تتمّ إلا بها. فهي سورة مباركةٌ كثيرة الفضائل، عظيمة القَدْر، جليلة المعاني، واسعة الهدايات؛ قد أحكمها الله تعالى غاية الإحكام، وجعلها أعظم سورة في القرآن، وفرضها على كلّ مسلم قادر على تلاوتها أن يقرأها في كلّ ركعة من صلاته، وعظّم ثواب تلاوتها، وفي ذلك من دلائل فضلها، وعظيم محبّة الله تعالى لها، والتنبيه على سعة معانيها وحاجة الناس إلى تلاوتها وتدبّرها ما لا يخفى. ومن الأحاديث الصحيحة الصريحة في فضلها: 1. حديث أبي سعيد بن المعلَّى رضي الله عنه، قال: كنت أصلي في المسجد فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلم أجبْه، فقلت: يا رسول الله إني كنت أصلي؛ فقال: ألم يقل الله: {استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم}. ثم قال لي: «لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن، قبل أن تخرج من المسجد». ثم أخذ بيدي، فلما أراد أن يخرج، قلت له: «ألم تقل لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن» قال: {الحمد لله رب العالمين} «هي السبع المثاني، والقرآن العظيم الذي أوتيته». رواه البخاري من طريق خبيب بن عبد الرحمن، عن حفص بن عاصم، عن أبي سعيد بن المعلى. 2. وحديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أم القرآن هي السبع المثاني، والقرآن العظيم» رواه البخاري من طريق ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة. 3. وحديث العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن أبي بن كعب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ألا أعلمك سورة ما أنزل في التوراة، ولا في الزبور، ولا في الإنجيل، ولا في القرآن مثلها؟ » قلت: بلى. قال: « فإني أرجو أن لا أخرج من ذلك الباب حتى تعلمها » ثم قام رسول الله؛ فقمت معه؛ فأخذ بيدي، فجعل يحدّثني حتى بلغ قُرْبَ الباب، قال: فذكّرته، فقلت: يا رسول الله، السورة التي قلت لي! قال: « فكيف تقرأ إذا قمت تصلي؟ » قال: فقرأت فاتحة الكتاب، قال: « هيَ هي، وهي السبع المثاني، والقرآن العظيم الذي أوتيت بعد ». رواه الإمام أحمد والدارمي والترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم والبيهقي في شعب الإيمان. ورواه أبو عبيد وأحمد من طريق إسماعيل بن جعفر قال: أخبرني العلاء عن أبيه عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -وقرأ عليه أبيّ بن كعب أمَّ القرآن- فقال: « والذي نفسي بيده، ما أنزل الله في التوراة، ولا في الإنجيل، ولا في الزبور، ولا في الفرقان مثلها إنها السبع من المثاني». قال البيهقي: (فيشبه أن يكون هذا القولُ صدرَ من جهةِ صاحبِ الشرعِ صلى الله عليه وسلم لأبيّ، ولأبي سعيد بن المعلَّى كليهما). 4. وحديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم في مسيرٍ له فنزل ونزل رجل إلى جانبه؛ فالتفتَ إليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم فقال: «ألا أخبرك بأفضل القرآن» قال: (فتلا عليه {الحمد لله رب العالمين}). رواه النسائي في السنن الكبرى وابن حبان والحاكم كلهم من طريق سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن أنس به. 5. وحديث عبد الله بن جابر البياضي الأنصاري رضي الله عنه قال: انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أهراق الماء، فقلت: السلام عليك يا رسول الله؛ فلم يردَّ علي، فقلت: السلام عليك يا رسول الله؛ فلم يردَّ علي، فقلت: السلام عليك يا رسول الله؛ فلم يردَّ علي؛ فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي، وأنا خلفه، حتى دخل رحلَه، ودخلت أنا إلى المسجد؛ فجلستُ كئيباً حزيناً؛ فخرج عليَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قد تطهَّر، فقال: (عليك السلام ورحمة الله، وعليك السلام ورحمة الله، وعليك السلام ورحمة الله). ثم قال: (ألا أخبرك يا عبد الله بن جابر بخير سورة في القرآن؟). قلت: بلى يا رسول الله. قال: (اقرأ {الحمد لله رب العالمين} حتى تختمها). رواه الإمام أحمد والضياء المقدسي في المختارة من طريق محمّد بن عبيد عن هاشم بن البريد، قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن عقيل، عن ابن جابر، وهو حديث حسن، وقد تقدّمت بعض شواهده. ورواه البيهقي في شعب الإيمان من طريق علي بن هاشم بن البريد عن أبيه به، وزاد: قال علي: وأحسبه قال: ( فيها شفاء من كل داء) وهذه الزيادة لا تصح. 6. وحديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال: بينما جبريل قاعد عند النبي صلى الله عليه وسلم، سمع نقيضا من فوقه، فرفع رأسه، فقال: " هذا باب من السماء فتح اليوم لم يفتح قط إلا اليوم" فنزل منه مَلَك، فقال: "هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم"؛ فسلَّم وقال: (أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته). رواه مسلم في صحيحه وابن أبي شيبة في مصنفه والنسائي في الكبرى وأبو يعلى وابن حبان والطبراني في الكبير والحاكم والبيهقي في السنن الصغرى وغيرهم من طريق عمار بن رزيق، عن عبد الله بن عيسى، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. وهذا الحديث من مراسيل الصحابة لأن ابن عباس لم يكن قد وُلِدَ حين نزول الفاتحة بمكة، وظاهر معنى البشارة يفيد أنه أول نزول السورة، والقول في النزول المعتبر فيه أول النزول، وأما نزول السورة بأحرف أخرى أو للمعارضة فلا يغيّر المكّي والمدنيّ وإلا لاعتبرنا جميع سور القرآن مدنية لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم قد عورض بالقرآن كلّه مرتين في آخر رمضان في حياته صلى الله عليه وسلم. وقوله: (لن تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته) فسّر بعض العلماء الحرف بكلّ كلمة فيها طلب نحو "اهدنا" و"غفرانك"، و"اعف عنا"، ولعل الأظهر عموم حروفها؛ كما فسّره حديث أبي هريرة مرفوعاً: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي..) الحديث؛ فكلّ جملة طلبية عطاؤها الإجابة، وكلّ جملة خبرية عطاؤها ذِكْرُ الله وإثابته. 7. وحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: انطلق نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في سَفْرَةٍ سافروها، حتى نزلوا على حيٍّ من أحياء العرب؛ فاستضافوهم فأبوا أن يضيفوهم، فلُدِغ سيّد ذلك الحيّ، فسعوا له بكل شيء لا ينفعه شيء، فقال بعضهم: لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين نزلوا، لعله أن يكون عند بعضهم شيء؛ فأتوهم، فقالوا: يا أيها الرهط إن سيّدنا لُدِغ، وسعينا له بكل شيء لا ينفعه، فهل عند أحد منكم من شيء؟ فقال بعضهم: نعم، والله إني لأرقي، ولكن والله لقد استضفناكم فلم تضيفونا؛ فما أنا براقٍ لكم حتى تجعلوا لنا جُعْلا، فصالحوهم على قطيع من الغنم؛ فانطلق يتفل عليه، ويقرأ: {الحمد لله رب العالمين..}؛ فكأنما نُشِطَ من عِقَال؛ فانطلق يمشي وما به قَلَبَة، قال: فأوفوهم جُعْلَهم الذي صالحوهم عليه؛ فقال بعضهم: اقسموا؛ فقال الذي رَقَى: لا تفعلوا حتى نأتيَ النبي صلى الله عليه وسلم؛ فنذكرَ له الذي كان؛ فننظرَ ما يأمرُنا؛ فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له؛ فقال: «وما يدريك أنها رقية؟!!» ثم قال: «قد أصبتم، اقسموا، واضربوا لي معكم سهما» فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم). متفق عليه من حديث أبي بشر اليشكري عن أبي المتوكّل الناجي عن أبي سعيد الخدري. ورواه أحمد وابن أبي شيبة والترمذي وابن ماجه من طريق جعفر بن إياس، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري، قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية ثلاثين راكبا، قال: فنزلنا بقوم من العرب، قال: فسألناهم أن يضيفونا فأبوا، قال: فلدغ سيدهم، قال: فأتونا، فقالوا: فيكم أحد يرقي من العقرب؟ قال: فقلت: نعم أنا، ولكن لا أفعل حتى تعطونا شيئا، قالوا: فإنا نعطيكم ثلاثين شاة، قال: فقرأتُ عليها الحمدَ سبع مرات. قال: فبرأ، قال: فلما قبضنا الغنم، قال: عرض في أنفسنا منها، قال: فكففنا حتى أتينا النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فذكرنا ذلك له، قال: فقال: « أما علمت أنها رقية، اقسموها واضربوا لي معكم بسهم ». وله طرق أخرى. قال النووي: (أما قوله صلى الله عليه وسلم: « واضربوا لي بسهم» فإنما قاله تطييباً لقلوبهم ومبالغةً في تعريفهم أنه حلال لا شبهة فيه). 8. وحديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» متفق عليه من حديث الزهري، عن محمود بن الربيع، عن عبادة بن الصامت. والأحاديث في الأمر بقراءة الفاتحة في الصلاة متواترة عن عدد من الصحابة رضي الله عنهم. 9. وحديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج» ثلاثا غير تمام. فقيل لأبي هريرة: إنا نكون وراء الإمام؟ فقال: «اقرأ بها في نفسك»؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: {الحمد لله رب العالمين}، قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال: {الرحمن الرحيم} ، قال الله تعالى: أثنى علي عبدي، وإذا قال: {مالك يوم الدين}، قال: مجدني عبدي - وقال مرة فوض إلي عبدي - فإذا قال: {إياك نعبد وإياك نستعين} قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: {اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل). رواه مسلم في صحيحه وأحمد والبخاري في القراءة خلف الإمام والترمذي والنسائي كلهم من طرق عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه، وله طرق أخرى كثيرة. 10. وحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مروا بماء، فيهم لديغ أو سليم، فعرض لهم رجل من أهل الماء، فقال: هل فيكم من راقٍ، إنَّ في الماء رجلا لديغا أو سليما، فانطلق رجل منهم، فقرأ بفاتحة الكتاب على شاء، فبرأ، فجاء بالشاء إلى أصحابه، فكرهوا ذلك وقالوا: أخذت على كتاب الله أجرا، حتى قدموا المدينة، فقالوا: يا رسول الله، أخذ على كتاب الله أجرا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله» رواه البخاري وابن حبان والدارقطني والبيهقي كلهم من طريق أبي معشر يوسف بن يزيد البراء عن عبيد الله بن الأخنس عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس. 11. وحديث عامر بن شراحيل الشعبي، عن خارجة بن الصلت، عن عمّه، قال: أقبلنا من عند النبي صلى الله عليه وسلم، فأتينا على حي من العرب، فقالوا: نُبّئنا أنكم جئتم من عند هذا الرجل بخير، فهل عندكم دواء أو رقية؟ فإنَّ عندنا معتوها في القيود. قال: فقلنا: نعم. قال: فجاءوا بالمعتوه في القيود، قال: فقرأت بفاتحة الكتاب ثلاثة أيام غدوة وعشية، أجمع بزاقي، ثم أتفل، قال: فكأنما نشط من عقال قال: فأعطوني جُعْلا، فقلت: لا، حتى أسأل النبي صلى الله عليه وسلم، فسألته فقال: « كل لعمري من أكل برقية باطل لقد أكلت برقية حق ». رواه الإمام أحمد وابن أبي شيبة وأبو داوود وابن حبان والحاكم وغيرهم. وفي رواية عند الإمام أحمد وأبي داوود: (فرقيته بفاتحة الكتاب، فبرأ، فأعطوني مائة شاة). وفي رواية عند أبي داوود قال: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: «هل قلت غير هذا؟» قلت: لا، قال «خذها؛ فلعمري لمن أكل برقية باطل لقد أكلت برقية حق». والحديث صححه الألباني في السلسلة الصحيحة، وله شاهد من مرسل قيس بن أبي حازم عند ابن أبي شيبة). [ تفسير سورة الفاتحة:11 - 18 ] |
التنبيه على ضعف بعض ما يُروى في فضل سورة الفاتحة:
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (التنبيه على ضعف بعض ما يُروى في فضل سورة الفاتحة: ومما ينبغي التنبّه له والتنبيه عليه ما رواه الضعفاء والمتّهمون من الأحاديث والآثار الضعيفة والواهية في فضل سورة الفاتحة، وكذلك ما أخطأ فيه بعض الثقات، ومن تلك المرويات ما ذاع وشاع، وظنّه كثير من الناس صحيحاً وهو عند التحقيق ضعيف، بل منه ما هو منكر مخالف لما صحّ من النصوص، ومنه ما هو مجازفة من بعض الرواة حُملت عنهم فاشتهرت وانتشرت، وكثير ممن يشيع تلك المرويّات الضعيفة إنما يحملهم عليها التماس الثواب لما ظنّوه من صحّة تلك المرويات وحسنها، وهم مخطئون من جهة تسرّعهم في نشر ما يُنسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من غير تثبّت ولا سؤالٍ لأهل العلم. ويحسن بطالب علم التفسير أن يكون على معرفة بما شاع من تلك المرويات، وأن يتبيّن سبب ضعفه ومرتبته، وما يُتساهل فيه وما لا يُتساهل فيه منها. أنواع الضعف في المرويات: والضعف في المرويات إما أن يكون من جهة الإسناد، وإما أن يكون من جهة المتن: فأما ضعف الإسناد فهو على درجتين: إحداهما: الضعف الشديد، وهو ما يكون من رواية متروكي الحديث من الكذابين، والمتّهمين بالكذب، وكثيري الخطأ في الرواية؛ فهؤلاء رواياتهم لا تتقوّى بتعدد الطرق، ولا يُعوَّل عليها. والأخرى: الضعف غير الشديد، وهو ما يقبل التقوية بتعدد الطرق، وهو على أنواع؛ فمنه ما يكون من رواية الراوي ضعيف الضبط، وما يكون من رواية بعض المدلسين، وبعض الانقطاع في الإسناد، ونحو ذلك من العلل التي توجب ضعف الإسناد في نفسه، لكنَّها لا تمنع تقويته بتعدد الطرق؛ فما تعدّدت طرقه واختلفت مخارجه ولم يكن في متنه نكارة فيحكم بصحته. وإن لم تتعدّد طرقه ولم يكن في المتن نكارة فمن أهل العلم من رأى التوسّع في روياتها في الفضائل ونحوها؛ ومنهم من يشدّد، فأمّا ما كان شديد الضعف في الإسناد أو منكر المتن فلا يقبل. وأما المتون التي تُروى بالأسانيد الضعيفة فهي على ثلاثة أنواع: النوع الأول: متون صحيحة المعنى لا نكارة فيها، قد دلّت عليها أدلّة أخرى، فيكون في الأدلة الصحيحة ما يُغني عن الاستدلال بما روي بالأسانيد الضعيفة، وقد تُصحح بعض مرويات هذا النوع إذا كان الإسناد غير شديد الضعف. والنوع الثاني: ما يُتوقّف في معناه فلا يُنفى ولا يُثبت إلا بدليل صحيح، فمرويّات هذا النوع تُردُّ حكماً لضعف إسنادها؛ لكن لا يقتضي ذلك نفي المتن ولا إثباته؛ إلا أن يظهر لأحد من أهل العلم وجه من أوجه الاستدلال المعتبرة فيخرج من هذا النوع ويحكم بنفيه أو إثباته، ومن لم يتبيّن له الحكم فيكل علمَ ذلكَ إلى الله تعالى. والنوع الثالث: ما يكون في متنه نكارة أو مخالفة لما صحّ من النصوص أو مجازفة بكلام عظيم لا يُحتمل من ضعفاء الرواة. وقد يقع في بعض المرويات ما يتردد بين نوعين، وما يختلف فيه أهل العلم تصحيحاً وتضعيفاً). [تفسر سورة الفاتحة: 19 - 21] |
أنواع المرويات الضعيفة في فضل سورة الفاتحة:
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (أنواع المرويات الضعيفة في فضل سورة الفاتحة: المرويات الضعيفة في فضل سورة الفاتحة على ثلاثة أنواع على ما تقدّم تفصيله. فمن أمثلة النوع الأول: 1. حديث سليم بن مسلم، عن الحسن بن دينار، عن يزيد الرشك قال: سمعت أبا زيد، وكانت له صحبة قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض فجاج المدينة، فسمع رجلا يتهجد ويقرأ بأم القرآن، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فاستمع حتى ختمها، ثم قال: «ما في القرآن مثلها» رواه الطبراني في الأوسط وقال: (لا يروى هذا الحديث عن أبي زيد عمرو بن أخطب إلا بهذا الإسناد، تفرد به سليم بن مسلم). الحسن بن دينار هو ابن واصل التميمي، ودينار زوج أمّه، متروك الحديث. وقد صحّ ما يغني عنه من حديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « والذي نفسي بيده، ما أنزل الله في التوراة، ولا في الإنجيل، ولا في الزبور، ولا في الفرقان مثلها إنها السبع من المثاني». رواه الإمام أحمد والترمذي وغيرهما. 2. وحديث عبادة بن الصامت مرفوعاً: «أم القرآن عوض من غيرها، وليس غيرها منها بعوض» رواه الدارقطني والحاكم من طريق: محمد بن خلاد الإسكندراني، ثنا أشهب بن عبد العزيز، ثنا سفيان بن عيينة، عن ابن شهاب، عن محمود بن الربيع، عن عبادة بن الصامت. قال الدارقطني: (تفرد به محمد بن خلاد عن أشهب عن ابن عيينة). ومحمد بن خلاد مختلف فيه؛ وقد احترقت كتبه فصار يحدّث من حفظه ويروي بالمعنى فيقع في بعض حديثه ما يُنكر عليه. وهذا الحديث قد رواه البخاري ومسلم وغيرهما من طريق سفيان بن عيينة عن ابن شهاب، عن محمود بن الربيع، عن عبادة بن الصامت بلفظ: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» فلعلّ ابن خلاد روى الحديث بالمعنى فأخطأ فيه. 3. وأثر ابن جريج، عن أبيه، عن سعيد بن جبير، قال: سألت ابن عباس عن قوله {ولقد آتيناك سبعا من المثاني} قال: «هي أم القرآن، استثناها الله عز وجل لأمة محمد صلى الله عليه وسلم فدخرها لهم، حتى أخرجها لهم، ولم يعطها أحدا قبل أمة محمد صلى الله عليه وسلم» . قال سعيد: ثم قرأها ابن عباس، وقرأ فيها {بسم الله الرحمن الرحيم}). رواه أبو عبيد في فضائل القرآن وابن جرير في تفسيره، ورواه ابن الضريس عن سعيد بن جبير مقطوعاً. عبد العزيز ابن جريج والد عبد الملك ضعيف الحديث، قال فيه البخاري: لا يتابع في حديثه. ومن أمثلة النوع الثاني: 1. حديث أبان، عن شهر بن حوشب، عن ابن عباس، رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فاتحة الكتاب تعدل بثلثي القرآن»رواه عبد بن حميد مرفوعاً، ورواه الفريابي في تفسيره كما في الدر المنثور، وابن مروان الدينوري في المجالسة كلاهما موقوفاً على ابن عباس بلفظ: «فاتحة الكتاب ثلثا القرآن». واختُلف في أبان هذا من هو؛ فذهب البوصيري إلى أنه أبان بن صمعة، وهو ثقة لكنّه اختلط بعدما أسنّ. وذهب الألباني إلى أنه أبان ابن أبي عياش البصري، وهو متروك الحديث، وقال ابن حجر في المطالب العالية: (أبان هو الرقاشي: متروك)، ولعله أراد أبان ابن أبي عياش، فسبق ذهنه إلى يزيد بن أبان الرقاشي، وكلاهما متروكان. وقد حسّن البوصيري إسناد الحديث، وضعّفه ابن حجر لأجل اختلافهما في تعيين أبان. وأما الألباني فضعّفه جداً؛ لضعف أبان، وضعف شهر بن حوشب. 2. وحديث أبي الأحوص الكوفي، عن منصور، عن مجاهد، عن أبي هريرة قال: «رنَّ إبليس حين أنزلت فاتحة الكتاب، وأنزلت بالمدينة». رواه الطبراني في الأوسط وابن الأعرابي في معجمه. رجاله ثقات إلا أنّه منقطع، مجاهد لم يسمع من أبي هريرة. وقد صحّ هذا الأثر عن مجاهد من وجه آخر؛ فرواه أبو الشيخ في العظمة، وأبو نعيم في الحلية من طريق أبي الربيع الزهراني: حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد قال: «رنَّ إبليس أربعا: حين لُعن، وحين أُهبط، وحين بُعث محمد صلى الله عليه وسلم وبُعث على فترة من الرسل، وحين أنزلت {الحمد لله رب العالمين}». ورواه ابن الضريس من طريق معلى بن أسد، عن عبد الواحد بن زياد، عن الأعمش، عن مجاهد، قال: (لما نزلت: {الحمد لله رب العالمين}, شق على إبليس مشقة عظيمة شديدة، ورن رنة شديدة، ونخر نخرة شديدة). قال مجاهد: (فمن رنَّ أو نخر فهو ملعون). وروى أبو بكر بن عياش عن عبد العزيز بن رفيع الأسدي أحد ثقات التابعين أنه قال: «لما نزلت فاتحة الكتاب رنَّ إبليس كرنَّتِه يوم لُعِن» أخرجه ابن الضريس في فضائل القرآن. 3. وحديث أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إن الله عز وجل أعطاني فيما منَّ به علي؛ إني أعطيتك فاتحة الكتاب، وهي من كنوز عرشي، ثم قسمتها بيني وبينك نصفين»رواه ابن الضريس في فضائل القرآن والعقيلي في الضعفاء والبيهقي في شعب الإيمان والديلمي في مسند الفردوس كلهم من طريق مسلم بن إبراهيم عن صالح بن بشير المري عن ثابت عن أنس، وصالح بن بشير ضعيف الحديث، قال النسائي: متروك الحديث. قال ابن عدي: (هو رجل قاص حسن الصوت، وعامة أحاديثه منكرات ينكرها الأئمة عليه، وليس هو بصاحب حديث، وإنما أتى من قلة معرفته بالأسانيد والمتون، وعندي أنه مع هذا لا يتعمد الكذب، بل يغلط [فيها]). 4. وحديث العلاء بن المسيّب، عن فضيل بن عمرٍو، عن علي بن أبي طالبٍ رضي اللّه عنه أنّه سئل عن فاتحة الكتاب، فقال: ثنا نبيّ اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ثمّ تغيّر لونه، وردّدها ساعةً حين ذكر النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم ثمّ قال: (أنها نزلت من كنزٍ تحت العرش). رواه إسحاق بن راهويه كما في إتحاف الخيرة والديلمي في مسند الفردوس كلاهما من هذا الطريق، وهو ضعيف لانقطاع إسناده؛ فإنّ فضيلاً لم يدرك عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه. وقد صحّ من حديث حذيفة بن اليمان وحديث أبي ذرٍّ رضي الله عنهما أنّ الذي نزل من تحت العرش خواتيم سورة البقرة. 5. حديث معاوية بن صالح، عن أبي سليمان قال: مرّ أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في بعض غزواتهم على رجل مقعد متربّع فقرأ بعضهم في أذنه شيئا من القرآن فبرئ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هي أمّ القرآن، وهي شفاء من كل داء» رواه الثعلبي، وهو مرسل. وقال السيوطي في الدر المنثور: (وأخرج الثعلبي من طريق معاوية بن صالح عن أبي سلمان قال: مر أصحاب رسول الله في بعض غزوهم على رجل قد صرع، فقرأ بعضهم في أذنه بأم القرآن فبرأ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هي أم الكتاب وهي شفاء من كل داء». ونسخة تفسير الثعلبي المطبوعة كثيرة التصحيف؛ فلعل ما ذكره السيوطي أقرب. 6. وحديث علي بن هاشم، عن أبيه، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر بن عبد الله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: يا جابر، ألا أخبرك بخير سورة نزلت في القرآن؟ قال: قلت: بلى يا رسول الله. قال: «فاتحة الكتاب» قال علي: وأحسبه قال: «فيها شفاء من كل داء». رواه البيهقي في شعب الإيمان. وأصل الحديث قد صحّ في مسند الإمام أحمد دون زيادة «فيها شفاء من كل داء» وقد انقلب اسم الصحابي على الرواي والصحيح هو عبد الله بن جابر البياضي كما في مسند الإمام أحمد. 7. ومرسل عبد الملك بن عمير، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «في فاتحة الكتاب شفاء من كل داء» رواه الدارمي والبيهقي في شعب الإيمان وابن مروان الدينوري في المجالسة من طريق سفيان الثوري عن عبد الملك بن عمير مرسلاً. 8. وحديث سلام الطويل عن زيد العمي عن ابن سيرين عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«فاتحة الكتاب شفاء من السُّمّ». رواه سعيد بن منصور ومن طريقه البيهقي في شعب الإيمان، وقال: (وعندي أن هذا الاختصار من الحديث الذي رواه محمد بن سيرين عن أخيه، عن معبد بن سيرين، عن أبي سعيد في رقية اللديغ بفاتحة الكتاب). سلام الطويل متّهم بالكذب، وزيد العمي ضعيف، وقد حكم الألباني على هذا الخبر بالوضع في السلسلة الضعيفة. وعامّة أحاديث هذا النوع مما لا يُنكر معناه، لكنَّها لا تُحتمل بهذه الأسانيد الضعيفة، لما فيها من زيادات يفتقر الجزم بها إلى دليل ثابت. ومن أمثلة النوع الثالث: 1. حديث يوسف بن عطية، عن سفيان، عن زاهر الأزدي، عن أبي الدرداء مرفوعاً:«فاتحة الكتاب تجزي ما لا يجزي شيء من القرآن، ولو أن فاتحة الكتاب جعلت في كفة الميزان، وجعل القرآن في الكفة الأخرى، لفضلت فاتحة الكتاب على القرآن سبع مرات» رواه الديلمي في مسند الفردوس، ويوسف بن عطية الصفار كثير الوهم والخطأ متروك الحديث. قال فيه البخاري: منكر الحديث. وقال النسائي: متروك الحديث، وليس بثقة. وقال الفلاس: كان يهم وما علمته يكذب. 2. وحديث سليمان بن أحمد الواسطي عن علي بن الحسين الأحول، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ أم القرآن وقل هو الله أحد فكأنما قرأ ثلث القرآن» رواه الطبراني في الأوسط. ورواه ابن الشجري في أماليه من طريق سليمان بن أحمد عن صلة بن سليمان الأحول عن ابن جريج به. وسليمان بن أحمد الواسطي متروك الحديث. 3. وحديث الوليد بن جميل، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«أربع آيات نزلن من كنز تحت العرش، لم ينزل منهن شيء غيرهن: أم الكتاب، فإنه يقول: {وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم}، وآية الكرسي، وسورة البقرة، والكوثر». رواه ابن الضريس في فضائل القرآن، والطبراني في المعجم الكبير، والمستغفري في فضائل القرآن وغيرهم. والوليد بن جميل القرشي ليّن الحديث، قال فيه أبو حاتم الرازي: شيخ يروي عن القاسم أحاديث منكرة. وقد ضعّف الألباني هذا الحديث في السلسلة الضعيفة. 4: وحديث عبيد الله بن أبي حميد، عن أبي المليح، عن معقل بن يسار، رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اعملوا بالقرآن، أحلوا حلاله وحرموا حرامه، واقتدوا به ولا تكفروا بشيء منه، وما تشابه عليكم منه فردوه إلى الله وإلى أولي العلم من بعدي، كما يخبرونكم به، وآمنوا بالتوراة والإنجيل والزبور، وما أوتي النبيون من ربكم، وليسعكم القرآن وما فيه من البيان، فإنه شافع مشفع، وما حل مصدق ألا وإن لكل آية منه نورا يوم القيامة، ألا وإني أعطيت سورة البقرة من الذكر الأول، وأعطيت طه والطواسين من ألواح موسى، وأعطيت فاتحة الكتاب وخواتيم البقرة من تحت العرش، والمفصل نافلة»رواه محمد بن نصر المروزي في قيام الليل، والحاكم في المستدرك، والبيهقي في السنن الكبري. وعبيد الله بن أبي حميد الهذلي قال فيه البخاري: منكر الحديث وقال أيضاً: يروي عن أبي المليح عجائب. وقال الإمام أحمد: ترك الناس حديث. وقال النسائي: ليس بثقة. وهذا الحديث بعض ما فيه قد دلت عليه أحاديث صحيحة، لكنّه تفرّد بزيادات منكرة. 5. ومرسل الحسن البصري الذي أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن من طريق أبي نصيرة مسلم بن عبيد، عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ فاتحة الكتاب فكأنما قرأ التوراة والإنجيل والزبور والفرقان». وروي موقوفاً على الحسن وهو أشبه، رواه البيهقي في شعب الإيمان والثعلبي في تفسيره من طريق الحسين بن الفضل قال: حدثنا عفان بن مسلم، عن الربيع بن صبيح، عن الحسن، قال: «أنزل الله عز وجل مائة وأربعة كتب من السماء أودع علومها أربعة منها: التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، ثم أودع علوم التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، ثم أودع علوم القرآن المفصل، ثم أودع علوم المفصل فاتحة الكتاب فمن علم تفسيرها كان كمن علم تفسير جميع كتب الله المنزلة». زاد الثعلبي: «ومن قرأها فكأنما قرأ التوراة والإنجيل والزبور والفرقان». 6. وحديث أحمد بن الحارث الغساني، قال: حدثتني ساكنة بنت الجعد، قالت: سمعت رجاء الغنوي، وكان أصيبت يده يوم الجمل قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «استشفوا بما حمد الله به نفسه قبل أن يحمده خلقه، وبما مدح الله به نفسه» ، قلنا: وما ذاك بأبي وأمي يا رسول الله؟ قال: «الحمد لله وقل هو الله أحد، فإنه من لم يشفه القرآن فلا شفاه الله » رواه أبو محمد الخلال في فضائل سورة الإخلاص، وابن قانع في معجم الصحابة، وأبو نعيم في معرفة الصحابة، والثعلبي والواحدي في تفسيريهما. والحديث ضعيف جداً؛ أحمد بن الحارث الغساني متروك الحديث. قال الألباني: (وهذا الحديث يوحي بترك المعالجة بالأدوية المادية والاعتماد فيها على تلاوة القرآن وهذا شيء لا يتفق في قليل ولا كثير مع سنته صلى الله عليه وسلم القولية والفعلية، فقد تعالج صلى الله عليه وسلم بالأدوية المادية مرارا، وأمر بذلك فقال: يا عباد الله تداووا فإن الله لم ينزل داء إلا وأنزل له دواء "، أخرجه الحاكم بسند صحيح، وهو مخرج في " غاية المرام " (292) عن جمع من الصحابة نحوه).ا.هـ. 7. وحديث شداد بن أوس مرفوعاً: «إذا أخذ أحدكم مضجعه، فليقرأ بأم الكتاب وسورة، فإن الله يوكل به ملكا يهب معه إذا هب». رواه ابن عساكر من طريق عبد الأعلى بن عبد الأعلى عن رجل عن مطرف بن عبد الله بن الشخير عن رجل من أهل بلقين، قال: وأحسبه من بني مجاشع عن شداد بن أوس مرفوعا. قال الألباني: (وهذا إسناد ظاهر الضعف، لجهالة الرجل البلقيني شيخ مطرف، وكذا الراوي عنه. لكنه لم يتفرد به، فقد قال الخرائطي في " مكارم الأخلاق " (8 / 233 / 1): حدثنا عمر بن شبة قال: حدثنا سالم بن نوح عن الجريري عن أبي العلاء عن رجل من مجاشع عن شداد بن أوس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فذكره، إلا أنه قال: " سورة من كتاب الله ". ورجاله ثقات غير الرجل المجاشعي، وأبو العلاء اسمه يزيد بن عبد الله بن الشخير، وهو أخو مطرف المذكور في الطريق الأولى. وبالجملة، فالحديث ضعيف لجهالة تابعيه. والله أعلم). 8. وحديث أنس بن مالك رضي الله عنه مرفوعاً: «إذا وضعت جنبك على الفراش وقرأت فاتحة الكتاب و {قل هو الله أحد} فقد أمنت من كل شيء إلا الموت». رواه البزار من طريق غسان بن عبيد الموصلي، عن أبي عمران الجوني، عن أنس، وغسان ضعيف الحديث، كتب الإمام أحمد حديثه ثمّ تركه لنكارة ما يرويه، وقال فيه يحيى بن معين: «لم يكن يعرف الحديث إلا أنه لم يكن من أهل الكذب». 9. وحديث عمران بن حصين مرفوعاً: «فاتحة الكتاب وآية الكرسي لا يقرأهما عبد في دار فتصيبهم في ذلك اليوم عين إنس أو جن». رواه الديلمي في مسند الفردوس كما في الدر المنثور، وضعّفه الألباني. 10. وحديث المأمون بن أحمد الهروي قال: حدّثنا أحمد بن عبد الله [الجويباري] قال: حدثنا: أبو معاوية الضرير، عن أبي مالك الأشجعي، عن ابن حمران، عن حذيفة بن اليمان، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن القوم ليبعث الله عليهم العذاب حتما مقضيّا فيقرأ صبيّ من صبيانهم في الكتاب: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ} فيسمعه الله عزّ وجلّ فيرفع عنهم ذلك العذاب أربعين سنة» رواه الثعلبي في تفسيره. قال المناوي: موضوع. وقال الزيلعي: «رواه الثعلبي في تفسيره، من حديث أبي معاوية الضرير، عن أبي مالك الأشجعي، عن ربعي بن حراش، عن حذيفة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فذكره سواء». قال ابن حجر: (إلا أن دون أبي معاوية من لا يحتج به، وله شاهد في مسند الدارمي، عن ثابت بن عجلان، قال: «كان يقال: إن الله ليريد العذاب بأهل الأرض فإذا سمع تعليم الصبيان بالحكمة صرف ذلك عنهم»، يعني بالحكمة: القرآن). وقال ولي الدين العراقي: «فيه أحمد بن عبد الله الجويباري، ومأمون بن أحمد الهرويّ، كذابان، وهو من وضع أحدهما». ذكره المناوي. قال المناوي: (ولفظ «كان يقال» حكمه الرّفع، فإن صدر من صحابيّ كان مرفوعا متّصلا، ومن تابعيّ فمرفوع مرسل). 11. عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أتى منزله فقرأ {الحمد لله} سورة الفاتحة و{قل هو الله أحد} نفى الله عنه الفقر، وكثر خير بيته حتى يفيض على جيرانه». رواه الحافظ السمرقندي في فضائل {قل هو الله أحد} كما في الدر المنثور. 12. وحديث صالح المري، عن أيوب، عن أبي قلابة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من شهد خاتمة القرآن كان كمن شهد الغنائم حين تقسم، ومن شهد فاتحة القرآن كان كمن شهد فتحا في سبيل الله» رواه أبو عبيد القاسم بن سلام وابن الضريس في فضائل القرآن. 13. وحديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ {بسم الله الرحمن الرحيم} ثم قرأ فاتحة الكتاب ثم قال آمين لم يبق في السماء ملك مقرب إلا استغفر له». رواه الديلمي في الفردوس. 14. وحديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه مرفوعاً: «إن فاتحة الكتاب وآية الكرسي والآيتين من آل عمران: {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وألوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم. إن الدين عند الله الإسلام} و {قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء} إلى قوله: {وترزق من تشاء بغير حساب} معلَّقات، ما بينهن وبين الله حجاب لما أراد الله أن ينزلهن تعلقن بالعرش، قلن: ربنا، تهبطنا إلى أرضك، وإلى من يعصيك. فقال الله عز وجل: بي حلفت، لا يقرأكن أحد من عبادي دبر كل صلاة إلا جعلت الجنة مثواه على ما كان منه، وإلا أسكنته حظيرة القدس، وإلا نظرت إليه بعيني المكنونة كل يوم سبعين نظرة، وإلا قضيت له كل يوم سبعين حاجة، أدناها المغفرة، وإلا أعذته من كل عدو ونصرته منه، ولا يمنعه من دخول الجنة إلا الموت». رواه ابن حبان في المجروحين وابن السني في عمل اليوم والليلة وابن الفاخر في موجبات الجنة والمستغفري في فضائل القرآن كلهم من طريق محمد بن زنبور المكي عن الحارث بن عمير: حدثنا جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب مرفوعا. قال ابن حبان:«موضوع لا أصل له، والحارث كان ممن يروي عن الأثبات الموضوعات». وذكره الألباني في السلسلة الضعيفة وقال: موضوع). [تفسير سورة الفاتحة:21 - 33] |
الباب الثاني:بيان معاني أسماء سورة الفاتحة من دلائل فضل السورة كثرة أسمائها وألقابهاقال عبد العزيز بن داخل المطيري: (من دلائل فضل السورة كثرة أسمائها وألقابها سورة الفاتحة أكثر سور القرآن الكريم أسماءً وألقاباً، وذلك من دلائل فَضْلِها، وعَظَمَةِ شأْنها، وكَثرةِ ذِكْرِها، وقد تضمَّنت تلك الأسماء والألقاب أنواعاً من المعاني الجليلة التي من تأمّلها وتفكّر في دلائلها تبيّنت له عظمة هذه السورة الجليلة، وازداد يقيناً بفضلها، وحرصاً على الانتفاع بها. والفرق بين اسم السورة ولقبها: - أن اسم السورة ما وضع لتعيينها والدلالة عليها. - ولقب السورة: ما اشتهرت به من وصف مدح بعدَ تقرُّرِ أسمائها. ولذلك إذا اجتمع الاسم واللقب كان الأفصح تقديم الاسم لتقدّمه في الوضع ولدفع الالتباس إلا أن يكون اللقب أشهر من الاسم وأكثر تداولاً أو لإرادة التشويق بذكر الوصف ثم التعريف بذكر الاسم. ويصحّ أن يُعدّ اللَّقبُ اسماً كما في الصحيحين من حديث محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن لي أسماء، أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب الذي ليس بعده أحد». وهذه ألقابٌ وأوصاف مَدح له صلى الله عليه وسلم، وهي أسماؤه باعتبار دلالتها على المسمَّى). [تفسير سورة الفاتحة:35 - 36] |
تعداد أسماء سورة الفاتحة:
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (تعداد أسماء سورة الفاتحة: من أسمائها الثابتة: فاتحة الكتاب، وفاتحة القرآن، والفاتحة، وأم الكتاب، وأم القرآن، و{الحمد لله رب العالمين}، و{الحمد لله}، والحمد، والسبع المثاني، والقرآن العظيم. وقد ذكر عدد من المفسّرين أسماءً أخرى للفاتحة حتى أوصلوها إلى نحو ثلاثين اسماً عامّتها ألقاب وأوصاف أُخذت من بعض الأحاديث والآثار، وفي بعضها تكرار، وفي بعضها نظر من جهة عدم ظهور دلالة النصّ على إرادة التسمية. ومما ذكر من تلك الأسماء: الشافية، والكافية، والوافية، والرقية، والصلاة، والدعاء، والسؤال، والشكر، والكنز، والأساس). [تفسير سورة الفاتحة:36] |
شرح معاني أسماء سورة الفاتحة:
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (شرح معاني أسماء سورة الفاتحة: 1. فاتحة الكتاب وهو أكثر الأسماء وروداً في الأحاديث والآثار الصحيحة، ففي الصحيحين من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)). وفي هذا الاسم أحاديث أخرى في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عباس وأبي سعيد الخدري وأبي قتادة وعائشة رضي الله عنهم. وسمّيت فاتحة الكتاب لأنّها أوّل ما يُستفتح منه، أي يُبدأ به. قال ابن جرير الطبري: (وسمّيت فاتحة الكتاب، لأنّه يفتتح بكتابتها المصاحف، وبقراءتها الصّلوات، فهي فواتح لما يتلوها من سور القرآن في الكتاب والقراءة). وفي سبب هذه التسمية قول آخر ضعيف، وهو أنها سميت بذلك لأنها أوّل سورة نزلت من السماء، وهذا القول ذكره العيني في شرحه على صحيح البخاري، وهو قول ضعيف مخالف لما ثبت في الأحاديث الصحيحة من أنّ أوّل ما نزل من القرآن صدر سورة "اقرأ"). [تفسير سورة الفاتحة:36- -37] |
2. ومن أسمائها "فاتحة القرآن"
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (2. ومن أسمائها "فاتحة القرآن" ومن أسمائها "فاتحة القرآن"، وهذا الاسم روي عن بعض الصحابة والتابعين: منهم عبادة بن الصامت وأبو هريرة وابن عباس ومحمد بن كعب القرظي، وورد في أحاديث مرفوعة في إسنادها مقال. وسميت "فاتحة القرآن" باعتبار أنها أوّل ما يقرأ منه لمن أراد قراءة القرآن من أوّله، أو أوّل ما يقرأ من القرآن في الصلاة). [تفسير سورة الفاتحة:37] |
3. ومن أسمائها "الفاتحة"
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (3. ومن أسمائها "الفاتحة" 3. ومن أسمائها "الفاتحة" ، هو اسم مختصر من الاسم المشتهر لهذه السورة في الأحاديث والآثار وهو "فاتحة الكتاب". والتعريف فيه للعهد الذهني، وهو أكثر أسمائها شهرة واستعمالاً عند المسلمين، لاختصاره وظهور دلالته على المراد). [تفسير سورة الفاتحة:37] |
4.ومن أسمائها: "أم القرآن"
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (4.ومن أسمائها: "أم القرآن" ومن أسمائها: "أم القرآن"؛ ودليل هذا الاسم ما ثبت في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( أم القرآن هي السبع المثاني والقرآن العظيم )). وفي موطأ الإمام مالك ومسند الإمام أحمد وصحيح مسلم وغيرها من حديث أبي السائب مولى هشام بن زهرة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج هي خداج هي خداج غير تمام). قال أبو السائب: فقلت: يا أبا هريرة إني أحياناً أكون وراء الإمام. قال: فغمز ذراعي ثم قال: (اقرأ بها في نفسك يا فارسي). الخداج هي الناقصة، يقال: طفل خديج إذا ولد غير تام الخلقة أو قبل أوان ولادته. قال الأصمعي: (الخداج النقصان، مثل خداج الناقة إذا ولدت ولدا ناقص الخَلْقِ أو لغير تمام). والعرب تسمي ما يولَد قبل تمامِ حملِه خديجاً وخديجة. والمقصود بأم القرآن هنا سورة الفاتحة، وفي معنى تسميتها بأم القرآن أقوال لأهل العلم يمكن إرجاعها إلى قولين: القول الأول: سميت بذلك لتضمنها أصول معاني القرآن؛ فهي أم القرآن باعتبار أن ما تضمنته من المعاني جامع لما تضمنته سائر سورِهِ؛ ففيها حمد الله تعالى والثناء عليه وتمجيده وإفراده بالعبادة والاستعانة وسؤاله الهداية التي من وفّق لها فهو من الذين أنعم الله عليهم من عباد الله الصالحين السائرين على الصراط المستقيم قد نجّاه الله من سلوك سبل الأشقياء من المغضوب عليهم والضالين. وسائر سور القرآن الكريم تفصيل وبيان لهذه المعاني، واحتجاج لها بأنواع الحجج، وضرب الأمثال والقصص والعبر التي تبين هذه المعاني وتجليها. وهذا القول ذكره بمعناه جماعة من المفسرين. القول الثاني: سمِّيت بذلك لتقدمها على سائر سور القرآن الكريم في القراءة في الصلاة وفي كتابة المصاحف، والعرب تسمِّي المقدم أمًّا لأنَّ ما ماخلفه يؤمُّه، فهي أمّ القرآن لأنها مقدّمة في التلاوة في الصلاة وفي الكتاب في المصحف؛ فيبدأ بها كما يبدأ بالأصل. وهذا القول ذكره بمعناه أبو عبيدة معمر بن المثنى في مجاز القرآن، والبخاري في صحيحه، ثم ذكره جماعة من المفسّرين بعد ذلك. قال ابن الجوزي في زاد المسير: (ومن أسمائها: أم القرآن وأم الكتاب لأنها أمَّت الكتاب بالتقدم). وقد جمع ابن جرير بين القولين فقال: (وإنما قيل لها أمَّ القرآن لتسميةِ العربِ كلَّ جامعٍ أمرًا أو مقدَّمٍ لأمرٍ إذا كانت له توابعُ تتبعه هو لها إمام جامع: "أُمًّا"). ثمّ ذكر شواهد لغوية صحيحة على هذا القول لا نطيل بذكرها). [تفسير سورة الفاتحة:37 - 39] |
5. ومن أسماء الفاتحة: أم الكتاب.
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (5. ومن أسماء الفاتحة: أم الكتاب. وقد ورد في هذا الاسم أحاديث وآثار صحيحة: - فمن الأحاديث ما رواه البخاري من حديث عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الظهر في الأوليين بأم الكتاب وسورتين، وفي الركعتين الأخريين بأم الكتاب. - ومن الآثار ما رواه مسلم من حديث حبيب المعلم، عن عطاء قال: قال أبو هريرة: «في كل صلاة قراءة فما أسمعنا النبي صلى الله عليه وسلم، أسمعناكم، وما أخفى منا، أخفيناه منكم، ومن قرأ بأم الكتاب فقد أجزأت عنه، ومن زاد فهو أفضل». قال البخاري في صحيحه: (وسميت أم الكتاب أنه يبدأ بكتابتها في المصاحف، ويبدأ بقراءتها في الصلاة). وهو مختصر من كلام أبي عبيدة في مجاز القرآن. والكلام في معنى هذا الاسم نظير ما تقدّم من القولين في اسم "أمّ القرآن" ، والصواب الجمع بين المعنيين لصحّتهما، وصحّة الدلالة عليهما، وعدم تعارضهما. وقد روي عن بعض السلف كراهة تسمية الفاتحة بأمّ الكتاب؛ لأنه اسم من أسماء اللوح المحفوظ كما في قول الله تعالى: {وإنّه في أمّ الكتاب لدينا لعليّ حكيم}، وقوله: {وعنده أمّ الكتاب}. روى ابن الضريس عن وهيب بن خالد عن أيوب السختياني أن محمد بن سيرين كان يكره أن يقول: "أم الكتاب"، قال: ويقرأ: {وعنده أم الكتاب} ولكن يقول: "فاتحة الكتاب". وذكر ابن كثير وابن حجر كراهة هذه التسمية عن أنس والحسن البصري ولم أقف على إسناد الروايتين عنهما. وذكر السهيلي هذا القول عن بقيّ بن مخلد في تفسيره وهو مفقود. والصواب صحّة التسمية بهذا الاسم لثبوت النص به، ولأنّ تسمية اللوح المحفوظ بأمّ الكتاب لا تمنع اشتراك الاسم، وقد قال الله تعالى: {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هنّ أمّ الكتاب} أي مُعظمه وأصله الذي تُرجع إليه معانيه وما تشابه منه؛ فتسمية الآيات المحكمات بأمّ الكتاب لا يعارض تسمية اللوح المحفوظ بهذا الاسم؛ فكذلك لا يمتنع أن تسمّى الفاتحة بهذا الاسم. قال ابن حجر: (ولا فرق بين تسميتها بأمّ القرآن وأمّ الكتاب، ولعلّ الّذي كره ذلك وقف عند لفظ الأمّ، وإذا ثبتَ النصُّ طاحَ ما دونَه)). [تفسير سورة الفاتحة:39 - 41] |
6. سورة {الحمد لله رب العالمين}
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (6. سورة {الحمد لله رب العالمين} وهذا من باب تسمية السورة بأول آية فيها، ولهذا نظائر كثيرة في أسماء السور؛ كسورة {عمّ يتساؤلون}، وسورة {قد أفلح المؤمنون}. ومن أدلّة هذا الاسم: حديث حفص بن عاصم عن أبي سعيد بن المعلَّى رضي الله عنه قال: مرَّ بي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أصلي فدعاني؛ فلم آته حتى صليت ثم أتيت. فقال: (( ما منعك أن تأتي؟ )). فقلت: كنت أصلي. فقال: (( ألم يقل الله: {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم} )) . ثم قال: (( ألا أعلمك أعظم سورة في القرآن قبل أن أخرج من المسجد؟! )). فذهب النبي صلى الله عليه وسلم ليخرج من المسجد فذكَّرتُه فقال ( { الحمد لله رب العالمين } هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته )). رواه البخاري والدارمي والنسائي وغيرهم. فسمّى السورة بأوّل آية فيها. وقد أنكر بعض فقهاء الشافعية هذا الاسم، والصواب ثبوته، وفيه أحاديث أخرى عن أنس وغيره، وآثار عن السلف الصالح). [تفسير سورة الفاتحة:41 - 42] |
7. سورة {الحمد لله}
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (7. سورة {الحمد لله} وهذا الاسم اختصار لما قبله، ومن أدلة هذا الاسم حديث ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ({الحمد لله} أمّ القرآن وأمّ الكتاب والسبع المثاني).رواه أحمد والدارمي والترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح). [تفسير سورة الفاتحة:42] |
8. سورة الحمد
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (8. سورة الحمد وهو اختصار لما قبله، وقيل لأجل ذكر الحمد فيها، وهو من الأسماء المشتهرة لهذه السورة العظيمة. وقد ورد هذا الاسم في بعض روايات حديث وائل بن حجر في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم كما في مسند البزّار وفيه: (ثم افتتح القراءة، فجهر بالحمد، ثم فرغ من سورة الحمد، ثم قال: «آمين» حتى سمَّع من خلفه، ثم قرأ سورة أخرى). وهو اسم متداول من قديم، ونقل الحافظ العراقي عن بعض فقهاء الشافعية قولهم إنّ تسمية السورة بهذا الاسم عرف متأخر، ثمّ تعقّبهم بحديث أبي سعيد بن المعلّى. وقد روي هذا الاسم عن يحيى بن يعمر العدواني وهو من كبار قرّاء التابعين من أقران أبي عبد الرحمن السلمي. وقال عبد الرحمن بن مهدي: (كان إسرائيل يحفظ حديث أبي إسحاق كما يحفظ سورة الحَمْدِ). رواه الدارقطني. وممن اختار تسمية الفاتحة بهذا الاسم في كتابه: أبو عبيدة في "مجاز القرآن"، وابن قتيبة في "تفسير غريب القرآن"، والزجاج في "معاني القرآن وإعرابه"، والنحاس في "معاني القرآن"، وأبو عمرو الداني في "البيان"). [تفسير سورة الفاتحة:42 - 43] |
9. السبع المثاني
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (9. السبع المثاني وقد استُدّل لهذا الاسم بقوله تعالى: {ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم} وبتفسير النبي صلى الله عليه وسلم وبعض الصحابة رضي الله عنهم للمراد بالسبع المثاني في هذه الآية أنه سورة الفاتحة. كما تقدم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( أم القرآن هي السبع المثاني والقرآن العظيم )). رواه البخاري. وصحّ نحوه من حديث أبي سعيد بن المعلّى وحديث أبيّ بن كعب. وهذا القول مروي عن عمر وعلي وأبي هريرة وهو رواية عن ابن عباس رضي الله عنهم أجمعين، وقال به من التابعين: الحسن البصري وأبو العالية الرياحي وقتادة، وهو رواية عن مجاهد وسعيد بن جبير. وهذا الاسم (السبع المثاني) مشترك مع السبع الطوال، وقد اختلف في تعيينها على أقوال ليس هذا محلّ بسطها، وقد فسّرت هذه الآية بها، وهو قول ابن مسعود ورواية عن ابن عباس، والمشهور عن مجاهد وسعيد ابن جبير. واشتراك الأسماء يقع كثيراً كما كان اسم "أمّ الكتاب" مشترك بين ثلاثة أشياء على ما تقدّم بيانه. قال ابن جرير رحمه الله: (وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: عني بالسبع المثاني: السبع اللواتي هنّ آيات أم الكتاب، لصحة الخبر بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم). وهذا الترجيح للمراد بالسبع المثاني في آية الحِجْر لا يقتضي نفي تسمية السبع الطوال بالسبع المثاني. معنى تسمية الفاتحة بالسبع المثاني المراد بالسبع آياتها، ولذلك خالفت المعدود بالتذكير في اللفظ، وفي معنى تسميتها بالمثاني أقوال لأهل العلم: القول الأول: لأنّها تُثنى أي تعادُ في كلِّ ركعة، بل هي أكثر ما يُعاد ويكرر في القرآن، وهذا القول مرويّ عن عمر بن الخطاب والحسن البصري وقتادة، وهو رواية عن ابن عباس. قال قتادة: (فاتحة الكتاب تثنى في كلّ ركعة مكتوبة وتطوّع). رواه عبد الرزاق وابن جرير. وقال به من المصنّفين: الفراء، وأبو عبيد القاسم بن سلام، وابن قتيبة، وابن جرير، وابن الأنباري، وأبو منصور الأزهري، ومكي بن أبي طالب، والبغوي، وغيرهم. قال ابن جرير رحمه الله: (وأما وصف النبي صلى الله عليه وسلم آياتها السبعَ بأنهنَّ مَثانٍ، فلأنها تُثْنَى قراءتها في كل صلاة وتطوُّع ومكتوبة. وكذلك كان الحسن البصري يتأوّل ذلك). والقول الثاني: لأنّ الله تعالى استثناها لرسوله صلى الله عليه وسلَّم فلم يؤتها أحداً قبله، وهذا القول رواه ابن جرير عن ابن عباس، وحكاه جماعة من المفسّرين. قال ابن جريج: (أخبرني أبي، عن سعيد بن جبيرٍ، أنّه أخبره أنّه، سأل ابن عبّاسٍ عن السّبع المثاني، فقال: " أمّ القرآن "، قال سعيدٌ: ثمّ قرأها، وقرأ منها: {بسم اللّه الرّحمن الرّحيم}، قال أبي: قرأها سعيدٌ كما قرأها ابن عبّاسٍ، وقرأ فيها {بسم اللّه الرّحمن الرّحيم}، قال سعيدٌ: قلت لابن عبّاسٍ: فما المثاني؟ قال: " هي أمّ القرآن، استثناها اللّه لمحمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم، فرفعها في أمّ الكتاب، فذخرها لهم حتّى أخرجها لهم، ولم يعطها لأحدٍ قبله). رواه أبو عبيد في «فضائل القرآن»، وابن جرير في تفسيره، وفيه عبد العزيز ابن جريج والد عبد الملك، ضعيف الحديث. والقول الثالث: قول أبي عبيدة معمر بن المثنى إذ قال: (وإنما سميت آيات القرآن مثاني لأنها تتلو بعضها بعضاً فثنيت الأخيرة على الأولى، ولها مقاطع تفصل الآية بعد الآية حتى تنقضى السورة وهي كذا وكذا آية، وفي آية أخرى من الزمر تصديق ذلك: {الله نزّل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعرّ منه جلود الّذين يخشون ربّهم..}) والقول الرابع: لأنها مما يُثنى به على الله تعالى، وهذا القول ذكره الزجاج احتمالاً؛ قال: (ويجوز واللّه أعلم أن يكون من المثاني أي مما أثني به على اللّه، لأن فيها حمد اللّه، وتوحيده وذكر ملكه يوم الدّين). والقول الخامس: المثاني ما دل على اثنين اثنين كأنه جمع مَثْنى أو مشتقّ من المُثنّى الدالّ على اثنين، واختلف في تفسير ذلك على أقوال: - أحدها: لأن حروفها وكلماتها مُثنّاة مثل: الرحمن الرحيم، إياك وإياك، الصراط الصراط، عليهم عليهم، غير غير في قراءة عمر، وهذا القول ذكره الثعلبي والواحدي في البسيط وابن الجوزي غير منسوب لأحد معروف. - والثاني: لأنها منقسمة إلى قسمين: نصفها ثناء ونصفها دعاء، ونصفها حق الربوبية ونصفها حقّ العبودية ، وهذا القول ذكره الثعلبي. - والثالث: ما ذكره ابن جرير في تفسيره قال: (وكان بعض أهل العربية ، يزعم أنها سميت مَثَانِيَ لأن فيها الرحمن الرحيم مرّتين). - والرابع: سمّيت مثاني لأنها مقسومة بين الله وبين العبد قسمين اثنين، ذكره الثعلبي وابن الجوزي. - والخامس: لأنها نزلت مرتين، ذكره الثعلبي والواحدي وابن الجوزي عن الحسين بن الفضل. - والسادس: لما فيها من ذكر المعاني المتقابلة كحق الله وحق العبد، والثواب والعقاب، والهدى والضلال، ونحو ذلك مما يطول شرحه، وهذا القول مأخوذ من معنى وصف القرآن كلّه بأنّه مثاني في قوله تعالى: {كتاباً متشابهاً مثاني} على أحد الأقوال. قال أبو المظفر السمعاني: ( وإنما سمى القرآن مثاني ؛ لاشتماله على علوم مثناة من الوعد والوعيد ، والأمر والنهى ، ونحوها). والأقوال الأربعة الأولى مستندة على أصول لغوية صحيحة، وهي في نفسها معان صحيحة، لكن حمل معنى الآية على القول الأول أرجح وأولى، وهو قول جمهور العلماء. معاني المثاني في لغة العرب ويطلق لفظ "المثاني" في اللغة على معانٍ سوى ما تقدّم: منها ما كان بعد المبادئ، وأثناء الشيء، وما انعطف وانحنى وإن لم يردّ آخره على أوَّله ومنه مثاني الوادي أي ما انعطف وانحنى منه، وأكثر ما يطلق هذا اللفظ في كلام العرب وأشعارهم على الحبال لأنّها تُثْنَى بعضها على بعض عند فَتْلِها، ولهذه المعاني شواهدها المبثوثة في كتب اللغة، وترجع إلى أصول متقاربة، وليس هذا محلّ بسطها، وإنما المراد التنبيه إلى الأصول اللغوية لأقوال أهل العلم. المراد بالمثاني في النصوص وفي كلام أهل العلم ولفظ "المثاني" يرد في النصوص وفي استعمال أهل العلم على ستة معانٍ؛ فهو اسم مشترك لمعانٍ متعدّدة لا تعارض بينها، وأكثرها صحيح لا خلاف فيه، وفي بعضها ما استخرج فهماً لا نصاً، والسياق يحدد المعنى المراد: المعنى الأول: القرآن كله مثانٍ، واستُدِلَّ له بقول الله تعالى: {الله نزّل أحسن الحديث كتاباً متشابها مثاني تقشعرّ منه جلود الذين يخشون ربّهم ثمّ تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله}. وقال حسان بن ثابت: فمن للقوافي بعد حسان وابنه ... ومن للمثاني بعد زيد بن ثابت ونُسب هذا البيت لابنه عبد الرحمن. والمعنى الثاني: آيات سورة الفاتحة، وبه فُسِّرَ قوله تعالى: {ولقد آتيناك سبعاً من المثاني} على أحد الأقوال كما تقدّم. والمعنى الثالث: السور السبع الطوال، وبه فسرت الآية السابقة على أحد الأقوال، واختلف في تعيين أسماء السور السبع على نحو أربعة أقوال. والمعنى الرابع: أنها سور الربع الثالث من القرآن وهي ما بين المئين والمفصل على أحد الأقوال في معنى حديث واثلة بن الأسقع رضي الله عنه مرفوعاً: (أعطيت السبع الطول مكان التوراة، وأعطيت المئين مكان الإنجيل، وأعطيت المثاني مكان الزبور، وفضلت بالمفصل) رواه أبو عبيد وأبو داوود الطيالسي وأحمد وابن جرير وغيرهم من طريق قتادة عن أبي المليح عن واثلة، وهو حديث حسن إن شاء الله. قال إبراهيم النخعي: (قدم علقمة مكة فطاف بالبيت أسبوعا ثم صلى عند المقام ركعتين قرأ فيهما بالسبع الطول. ثم طاف أسبوعا ثم صلى ركعتين قرأ فيهما بالمئين. ثم طاف أسبوعا ثم صلى ركعتين قرأ فيهما بالمثاني. ثم طاف أسبوعا ثم صلى ركعتين قرأ فيهما بالمفصل). رواه أبو عبيد في غريب الحديث عن جرير بن عبد الحميد عن منصور بن المعتمر عن إبراهيم النخعي، وهذا إسناد صحيح رجاله أئمّة ثقات. وعلقمة هو ابن قيس النخعي من كبار فقهاء التابعين وقرائهم، صلّى خلف عمر سنتين، ولزم عبد الله بن مسعود وتفقّه به، وكان يًشبَّه به في هديه ودلّه وسمته، وهو خال إبراهيم النخعي. و(طاف أسبوعاً) أي سبعة أشواط. قال ابن جرير: (وأما "المثاني": فإنَّها ما ثَنَّى المئيَن فتلاها، وكان المئون لها أوائل، وكان المثاني لها ثواني) وهذا المعنى راجع إلى تسمية ما بعد المبادئ بالمثاني. والمعنى الخامس: أنها ما كانت آياتها دون المائة وليست من المفصل، وهذا القول ذكره البيهقي في شعب الإيمان، واستدلّ له بقول ابن عباس: (قلت لعثمان: ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني، وإلى براءة وهي من المئين، فقرنتم بينهما، ولم تكتبوا بينهما سطر "بسم الله الرحمن الرحيم" فوضعتموها في السبع الطول) رواه أحمد وأبو داوود والترمذي والنسائي في الكبرى من طريق عوف الأعرابي عن يزيد الفارسي عن ابن عباس، ويزيد الفارسي ذكره البخاري في الضعفاء، وقال أبو زرعة: لا بأس به، ولعل الراجح أنه ممن لا يقبل تفرّده بمثل هذا الخبر. والمعنى السادس: أنها أنواع معاني القرآن؛ فهو أمر ونهي، وبشارة ونذارة، وضرب أمثال، وتذكير بالنعم، وأنباء. وهذا القول روى معناه ابن جرير عن زياد بن أبي مريم في تفسير قول الله تعالى: {ولقد آتيناك سبعاً من المثاني} قال: (أعطيتك سبعةَ أجزاءٍ: مُرْ، وانْهَ، وبشِّرْ، وأنذِرْ، واضربِ الأمثال، واعدُدِ النّعم، وآتيتك نبأَ القرآن). وتفسير الآية بهذا المعنى لا دليل عليه، وهو مخالف لما صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولا أعلم مستنداً لحصر معاني القرآن في هذه الأنواع من أثر ولا نظر، وبعض ما ذكر داخل في بعض). [تفسير سورة الفاتحة:43 - 50] |
10. القرآن العظيم
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (10. القرآن العظيم ودليل هذا الاسم ما تقدّم من أحاديث أبي هريرة وأبيّ بن كعب وأبي سعيد بن المعلّى: (( { الحمد لله رب العالمين } هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته )). وبه فسّر قول الله تعالى: {ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم}. وهذا راجع إلى أنّ العظيم في هذا الموضع صفة مقيدة لا كاشفة، والفرق بينهما أن الصفة الكاشفة لا تخصص الموصوف وإنما تبيّن حاله وصفته كما في قوله تعالى: {تنزيلاً ممن خلق الأرض والسموات العلى} فالعُلى صفة كاشفة للسموات؛ لأن السموات السبع كلها عالية. والصفة المقيّدة تخصص الموصوف وتخرج ما ليس على هذه الصفة، كما في قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} فلا تجزئ في كفارة القتل رقبة غير مؤمنة. وبناء على هذا فقد اختلف المفسّرون في وصف العظيم في قوله تعالى: {والقرآن العظيم} على قولين: القول الأول: صفة مقيّدة، والمراد به سورة الفاتحة، وإطلاق لفظ القرآن على بعض آياته من باب إطلاق الكل على الجزء، كما لو سمعت رجلاً يقرأ سورةً ثمّ قلت: هو يقرأ القرآن، كان خبرُكَ عنه صادقاً؛ وإن لم يكن يقرأ القرآن كلّه. وهذا القول هو قول جمهور المفسّرين، لما تقدّم من الأحاديث، ويكون عطف "القرآن العظيم" على "السبع المثاني" لأجل تغاير الصفات مع كون الموصوف واحداً، كما في قول الله تعالى: {تلك آيات الكتاب وقرآن مبين} ، وقوله تعالى: {غافر الذنب وقابل التوب}. والقول الثاني: صفة كاشفة، والمراد القرآن كلّه، وهذا قول مجاهد بن جبر والضحاك بن مزاحم، وقال به من علماء اللغة أبو عبيدة وأبو علي القالي. وهذا القول وإن كان حقاً في نفسه من حيث أن القرآن كلّه عظيم إلا أنّ المراد بهذا القرآن مخصوص بما دلّت عليه الأحاديث الصحيحة؛ ووصف العظم يتفاضل، فالقرآن بعضه أعظم من بعض، والفاتحة أعظم سورة في القرآن، وهي أولى بوصف القرآن العظيم. فهذه عشرة أسماء ثابتة بأدلتها لهذه السورة، ومنها ما هو أقرب إلى اللقب من الاسم). [تفسير سورة الفاتحة:50 - 51] |
11. الشافية، الشفاء.
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (11. الشافية، الشفاء. أمّا اسم الشافية فذكره: الزمخشري والبيضاوي وابن جزيء الكلبي وأبو حيان الأندلسي، وابن كثير وابن حجر والعيني وغيرهم. وأمّا اسم الشفاء فذكره: الثعلبي والرازي والقرطبي وأبو حيان وغيرهم. وهو من ألقاب سورة الفاتحة، ولا ريب أنّ القرآن كلّه شفاء، وأنّ سورة الفاتحة التي هي أعظم سوره أولى بهذا الوصف وأكثر نصيباً منه. وقد ذكر بعض المفسّرين أن هذا الاسمَ مأخوذٌ من الأحاديث المروية في وصف الفاتحة بأنها شفاء؛ كمرسل عبد الملك بن عمير: «في فاتحة الكتاب شفاء من كل داء» رواه الدارمي والبيهقي، ونحوه من الأحاديث التي تقدّم ذكرها، وبيان ضعفها من جهة الإسناد. وقد صحّ في الأحاديث الصحيحة أنها رقية نافعة، وقد شفى الله بها من شاء من خلقه. لكن إذا أريد قصر شفاء الفاتحة على الرقية بها أمراض الأبدان؛ فهو صرف للمعنى عن المقصود الأعظم به، وهو شفاء القلب من أمراضه، والنفس من عللها وأدوائها، لما تضمّنته من الهدايات الجليلة العامّة التي شملت كلّ ما يُحتاج إليه بأحسن تنبيه، وأيسر طريق. وبيان ذلك: أن شقاء النفس لا يكون إلا بسبب زيغها عن هدى الله تعالى، وتفريطها في اتّباع سبيل من أنعم الله عليهم؛ وعملها ببعض أعمال المغضوب عليهم والضالين، وكلّ شقاء مردّه إلى نوع من أنواع الضلالة عظمت أو دقّت. وما يعمله العبد من الضلالات الدقيقة والجليلة له آثاره على قلبه ونفسه وجوارحه؛ وعلى ما يُبتلى به كما قال الله تعالى: {ليس بأمانيّكم ولا أمانيّ أهل الكتاب من يعمل سوءً يجزَ به} والصواب أنّ هذه الآية ليست منسوخة، وقد فسّرها النبي صلى الله عليه وسلّم بما يدفع احتمال النسخ، ولا تعارض بينها وبين آيات العفو والمغفرة. والمقصود أن كل ما يُخرج العبد من الشقاء أو يعصمه منه فهو شفاء، ولا ريب أنّ دلالة هذه السورة على ما يُهدى به العبد لذلك أعظم الدلالات وأعمّها وأيسرها؛ فنصيبها من وصف الشفاء أعظم وأتمّ). [تفسير سورة الفاتحة:51 - 53] |
12. الكافية.
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (12. الكافية. وهذا الاسم أوّل من علمته ذكره من المفسّرين "الثعلبي" في تفسيره إذ روى بإسناده عن عفيف بن سالم الموصلي أنه قال: سألت عبد الله بن يحيى بن أبي كثير عن قراءة الفاتحة خلف الإمام فقال: عن الكافية تسأل؟! قلت: وما الكافية؟ قال: أما علمت أنها تكفي عن سواها، ولا يكفي سواها عنها، إياك أن تصلي إلّا بها). وهذا الأثر فيه نكارة. وقد استدلّ له الثعلبي بحديث: «أمّ القرآن عوض عن غيرها وليس غيرها منها عوضا» وقد تقدّم بيان ضعفه. وممن ذكر هذا الاسم: الثعلبي والرازي والقرطبي والبيضاوي وأبو حيان وابن كثير وابن حجر والعيني والشوكاني وغيرهم). [تفسير سورة الفاتحة:53] |
13. الوافية
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (13. الوافية قال عبد الجبار بن العلاء: (كان سفيان بن عيينة يسمّي فاتحة الكتاب: "الوافية"). رواه الثعلبي. وفي معنى تسميتها بالوافية قولان: القول الأول: لأنها لا تقرأ إلا وافية في كلّ ركعة، وهذا قول الثعلبي. قال الثعلبي: (وتفسيرها لأنها لا تُنَصَّفُ، ولا تحتَمِلُ الاجتزاء؛ ألا ترى أنَّ كلّ سورة من سور القرآن لو قرئ نصفها في ركعة والنصف الآخر في ركعة كان جائزاً، ولو نُصِّفَت الفاتحة وقرئت في ركعتين كان غير جائز). والقول الثاني: لأنّها وافية بما في القرآن من المعاني، وهذا قول الزمخشري. وهذا الاسم ذكره: الثعلبي والزمخشري والرازي والقرطبي والبيضاوي وابن كثير وابن حجر العسقلاني والعيني والسيوطي والشوكاني وغيرهم. وتصحَّف هذا الاسم في تفسير ابن جزيء وتفسير أبي حيان وبعض طبعات تفسير ابن كثير إلى "الواقية"). [تفسير سورة الفاتحة:53 - 54] |
14. سورة الرقية.
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (. سورة الرقية. وهذا الاسم ذكره القرطبي وابن كثير والسيوطي في حاشيته على تفسير البيضاوي. قال القرطبي: (ثبت ذلك من حديث أبي سعيد الخدري وفيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للرجل، الذي رقى سيد الحي: (ما أدراك أنها رقية) ). وقال ابن كثير: (ويقال لها: الرقية؛ لحديث أبي سعيد في الصحيح حين رقى بها الرجل السليم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " وما يدريك أنها رقية؟). وهذا إذا أريد به اشتقاق وصف مدح للسورة من هذا الحديث فبابه واسع على الراجح من قولي العلماء، وإن أريد أن الحديث دالُّ على أن من أسماء سورة الفاتحة "الرقية"؛ ففيه نظر كبير). [تفسير سورة الفاتحة:54] |
15. سورة الصلاة.
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (15. سورة الصلاة. وهذا الاسم ذكره: الزمخشري والقرطبي والبيضاوي وأبو حيان وابن كثير وابن حجر والعيني والشوكاني وغيرهم. واختلف في سبب هذه التسمية على قولين: القول الأول: لأنّ الصلاة لا تجزئ إلا بها، وهذا القول قال به الثعلبي والزمخشري والبيضاوي. والقول الثاني: للحديث القدسي: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: {الحمد لله رب العالمين}، قال الله تعالى: حمدني عبدي...) الحديث، رواه مسلم، وقال بهذا القول النووي والقرطبي وابن كثير. قال النووي: (قوله سبحانه وتعالى (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين) الحديث قال العلماء: المراد بالصلاة هنا الفاتحة، سميت بذلك لأنها لا تصح إلا بها كقوله صلى الله عليه وسلم الحج عرفة)ا.هـ. ولتسمية الفاتحة بالصلاة وجه آخر قويّ، وهو أنّ الفاتحة صلة بين العبد وربّه، ويتحقق بها معنيا الصلاة: - فهي صلاة من العبد لربّه باعتبار دعائه وثنائه على الله وتوجّهه إليه. -وصلاة من الله على عبده باعتبار إجابة الله لعبده وذكره له ورحمته إياه وإعطائه سؤله). [تفسير سورة الفاتحة:55] |
16. سورة الدعاء.
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (16. سورة الدعاء. قال مكحول الدمشقي: (مكحول، قال: أم القرآن قراءة ومسألة ودعاء). رواه أبو عبيد في فضائل القرآن من طريق أبي اليمان عن أبي بكر بن مريم عن مكحول، وهو من علماء التابعين ومفسّريهم. وهذا الأثر لا يقتضي أن من أسماء الفاتحة الدعاء، لكن من المفسّرين من اشتقّ للسورة هذا الاسم لاشتمالها على الدعاء. وقد ذكره البيضاوي وأبو حيان وابن حجر والعيني والفيروزآبادي والسيوطي في الإتقان، وغيرهم). [تفسير سورة الفاتحة:56] |
17. سورة السؤال.
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (17. سورة السؤال. وهذا الاسم ذكره الرازي وأبو حيان والعيني والفيروزآبادي والسيوطي في الإتقان والخطيب الشربيني، والسؤال هنا بمعنى الدعاء. وذكر الثعلبي والبيضاوي من أسمائها: سورة تعليم المسألة، وهو اسم غريب، وهو من دلائل توسّع بعضهم في باب أسماء السور). [تفسير سورة الفاتحة:56] |
18. الشكر.
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (18. الشكر. وهذا الاسم ذكره البيضاوي وأبو حيان وابن حجر والعيني والسيوطي. قال العيني: (لأنها ثناء على الله تعالى)). [تفسير سورة الفاتحة:56] |
19. الكنز.
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (19. الكنز. وهذا الاسم ذكره الزمخشري والبيضاوي وأبو حيان وابن كثير وابن حجر والعيني والفيروزآبادي والشوكاني. واستُدلَّ له بحديث أنس بن مالك رضي الله عنه مرفوعاً: « إن الله عز وجل أعطاني فيما منَّ به علي؛ إني أعطيتك فاتحة الكتاب، وهي من كنوز عرشي، ثم قسمتها بيني وبينك نصفين». وقد سبق بيان ضعفه). [تفسير سورة الفاتحة:56 - 57] |
20. الأساس، أساس القرآن
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (20. الأساس، أساس القرآن روى الثعلبي في تفسيره بإسناده عن وكيع أنه قال: إن رجلا أتى الشعبي فشكا إليه وجع الخاصرة، فقال: عليك بأساس القرآن. قال: وما أساس القرآن؟ قال: فاتحة الكتاب. قال الشعبي: سمعت عبد الله بن عباس غير مرّة يقول: إن لكل شيء أساسا ... إلى أن قال: (وأساس الكتب القرآن، وأساس القرآن الفاتحة، وأساس الفاتحة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ). وهو خبر مكذوب. وهذا الاسم ذكره: الثعلبي، والرازي، والقرطبي، البيضاوي، وأبو حيان، وابن كثير، وابن حجر، والعيني، والفيروزآبادي، والسيوطي، والشوكاني. قال العيني: لأنها أوَّل سورة في القرآن فهي كالأساس. وقد ذكر أبو حيان ومن بعده السيوطي لهذه السورة أسماء أخرى منها: النور، والمناجاة، والتفويض، ولا أعلم لهذه الأسماء ذكراً في التفاسير المتقدّمة. وذكر الفيروزآبادي من أسمائها (سورة الثناء) ولا أعلم له ذكراً في كتب التفسير. هذا خلاصة ما ذكره العلماء في شأن أسماء سورة الفاتحة، والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه، وسلم). [تفسير سورة الفاتحة:57 - 58] |
الباب الثالث:شرح مسائل نزول سورة الفاتحة شرح مسائل نزول سورة الفاتحة قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (شرح مسائل نزول سورة الفاتحة من المسائل التي يبحثها أهل العلم في شأن نزول الفاتحة: ● هل سورة الفاتحة مكية أو مدنية؟ ● هل تكرر نزولها؟ ● هل نزلت جميعاً؟ ● كيف كان حال نزولها؟ ● وما ترتيب نزولها؟ ● وهل صحّ أنها نزلت من كنز تحت العرش؟ ● وهل نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو على الأرض أم في السماء حين فرضت الصلاة؟ ● وبيان اختصاص هذه الأمة بتنزيل سورة الفاتحة. وموضوع هذا الدرس الجواب على هذه الأسئلة المتقدّمة، وقد أُدخِلُ الحديثَ عن بعض المسائل في بعض). [تفسير سورة الفاتحة:59] |
الخلاف في مكيّة سورة الفاتحة:
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (الخلاف في مكيّة سورة الفاتحة: اختلف العلماء في نزول سورة الفاتحة على أقوال: القول الأول: هي سورة مكية، وهو قول أبي العالية الرياحي والربيع بن أنس البكري. وروي عن عمر وعلي وابن مسعود وابن عباس وفي الرواية عنهم ما يأتي توضيحه إن شاء الله. وروي عن الحسن البصري وسعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح وقتادة السدوسي وغيرهم. وقد استدلَّ جماعة من المفسّرين لهذا القول بقوله تعالى: {ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم}، وهذه الآية من سورة الحجر وهي مكيَّة باتفاق العلماء. وقد صحّت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في أنّ المراد بالسبع المثاني والقرآن العظيم فاتحة الكتاب، وقد تقدَّم ذكرها. روى ابن جرير الطبري بإسناده عن أبي جعفرٍ الرّازيّ، عن الرّبيع بن أنس البكري، عن أبي العالية الرياحي في قول اللّه تعالى: {ولقد آتيناك سبعًا من المثاني} قال: (فاتحة الكتاب، سبع آياتٍ) قال أبو جعفر الرازي: قلت للرّبيع: إنّهم يقولون: السّبع الطّول. فقال: (لقد أنزلت هذه وما نزل من الطّول شيءٌ). وروى ابن جرير نحوه موصولاً إلى أبي العالية الرياحي. تحقيق نسبة هذا القول إلى بعض الصحابة رضي الله عنهم: روي هذا القول عن عمر وعلي وابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم أجمعين. فأما عمر بن الخطاب فعمدة نسبة هذا القول إليه ما روي عنه من تفسير السبع المثاني بفاتحة الكتاب. روى ابن جرير في تفسيره من طريقين عن سعيد الجريري عن أبي نضرة العبدي أنه قال: قال رجلٌ منّا يقال له جابرٌ أو جويبرٌ: طلبت إلى عمر حاجةً في خلافته، فقدمت المدينة ليلاً فمثلت بين أن أتّخذ منزلاً وبين المسجد، فاخترت المسجد منزلاً فأرقت نشوًا من آخر اللّيل، فإذا إلى جنبي رجلٌ يصلّي يقرأ بأمّ الكتاب ثمّ يسبّح قدر السّورة، ثمّ يركع ولا يقرأ، فلم أعرفه حتّى جهر، فإذا هو عمر، فكانت في نفسي، فغدوت عليه، فقلت: يا أمير المؤمنين حاجةٌ مع حاجةٍ قال: هات حاجتك قلت: إنّي قدمت ليلاً فمثلت بين أن أتّخذ منزلاً وبين المسجد، فاخترت المسجد، فأرقت نشوًا من آخر اللّيل، فإذا إلى جنبي رجلٌ يقرأ بأمّ الكتاب ثمّ يسبّح قدر السّورة ثمّ يركع ولا يقرأ، فلم أعرفه حتّى جهر، فإذا هو أنت، وليس كذلك نفعل قبلنا. قال: وكيف تفعلون؟ قال: يقرأ أحدنا أمّ الكتاب، ثمّ يفتتح السّورة فيقرأها، قال: " ما لهم يعلمون ولا يعملون؟ ما لهم يعلمون ولا يعملون؟ ما لهم يعلمون ولا يعملون؟ وما يبتغى عن السّبع المثاني وعن التّسبيح صلاة الخلق). وهذه القصّة فيها نكارة، وفيها جهالة حال شيخ أبي نضرة، وأمَّا الجريري وأبو نضرة فثقتان. وليس في هذه الرواية تصريح بمكيّة الفاتحة سوى تفسير السبع المثاني بفاتحة الكتاب مع ما عُلِم من أنّ سورة الحجر مكية. وأمّا عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه؛ فرويت عنه روايتان إحداهما صحيحة غير صريحة، والأخرى صريحة غير صحيحة. فأمّا الرواية الأولى: فما رواه السّدّيّ، عن عبد خيرٍ، عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: (السّبع المثاني: فاتحة الكتاب). رواه ابن جرير وسفيان الثوري والطحاوي في شرح مشكل الآثار والدارقطني في سننه والبيهقي في شعب الإيمان من طرق عن السدّي عن عبد خير عن علي رضي الله عنه، وهو إسناد حسن. وأما الرواية الأخرى: فما روي عنه أنه قال: (نزلت فاتحة الكتاب بمكة من كنز تحت العرش). رواه الثعلبي في تفسيره ومن طريقه تلميذه الواحدي في أسباب النزول بإسنادهما إلى مروان بن معاوية الفزاري عن العلاء بن المسيب عن الفضيل بن عمرو عن علي. وهذه الرواية ضعيفة لعلَّتين: إحداهما: انقطاع الإسناد فإنّ فضيل بن عمرو لم يدرك عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه. والأخرى: أنّ هذا الأثر رواه إسحاق بن راهويه كما في إتحاف الخيرة قال: حدثنا يحيى بن آدم ثنا أبو زبيد واسمه عبثر عن العلاء بن المسيب عن فضيل بن عمرٍو، عن علي بن أبي طالبٍ رضي اللّه عنه أنّه سئل عن فاتحة الكتاب، فقال: ثنا نبيّ اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ثمّ تغيّر لونه، وردّدها ساعةً حين ذكر النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم ثمّ قال: (أنها نزلت من كنزٍ تحت العرش). فلم يذكر فيه نزول سورة الفاتحة بمكّة. وأما ابن مسعود رضي الله عنه فلما روى ابن جرير في تفسيره من طريق عبد الله بن إدريس عن هشام بن حسان عن ابن سيرين، قال: سئل ابن مسعودٍ عن سبعٍ من المثاني، قال: (فاتحة الكتاب). وهذا الأثر رجال إسناده أئمة ثقات لكنَّه منقطع؛ فابن سيرين لم يدرك ابن مسعود. وأمّا ابن عباس رضي الله عنهما فأخرج له ابن الضريس في فضائل القرآن رواية من طريقين عن عطاء الخراساني عن ابن عباس أنه قال: (أول ما نزل من القرآن بمكة، وما أنزل منه بالمدينة الأول فالأول، فكانت إذا نزلت فاتحة سورة بمكة، فكتبت بمكة، ثم يزيد الله فيها ما يشاء، وكان أول ما أنزل من القرآن: {اقرأ باسم ربك الذي خلق} ، ثم {ن والقلم}، ثم {يا أيها المزمل}، ثم {يا أيها المدثر}، ثم الفاتحة، ثم {تبت يدا أبي لهب}...) ثم ساق سور القرآن كلها وهذه الرواية ضعيفة جداً، في أحد طريقيها عمر بن هارون متروك الحديث، وفي الثانية ابن جريج وقد عنعن، وعطاء الخراساني لم يدرك ابن عباس، ومتن الأثر فيه نكارة ومخالفة ظاهرة لبعض ما صحّ في نزول السور. وابن عباس رويت عنه روايتان في المراد بالسبع المثاني أصحّهما التي من طريق عبد الملك بن جريج عن أبيه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن قال في قول الله تعالى: {ولقد آتيناك سبعاً من المثاني} قال: (هي فاتحة الكتاب). رواه الشافعي وعبد الرزاق وابن جرير. وقد اختلفت الرواية عن أبي هريرة في هذه المسألة، وسيأتي توضيح ذلك إن شاء الله تعالى. وأما سعيد بن جبير والحسن البصري وقتادة وعطاء بن أبي رباح فعمدة الرواية عنهم ما صحّ من تفسيرهم السبع المثاني بأنّها سورة الفاتحة مع علمهم بأنّ سورة الحجر مكية. وهذا القول هو قول جمهور المفسّرين: قال الثعلبي: (وعلى هذا أكثر العلماء). وقال البغوي: ( وهي مكية على قول الأكثرين). قال الثعلبي: (ومعلوم أن الله تعالى لم يمتنّ عليه بإتيانه السبع المثاني وهو بمكة، ثم أنزلها بالمدينة، ولا يسعنا القول بأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان بمكة يصلي عشر سنوات بلا فاتحة الكتاب، هذا ممّا لا تقبله العقول). وقال ابن عطية: (ولا خلاف أن فرض الصلاة كان بمكة، وما حفظ أنها كانت قط في الإسلام صلاة بغير الحمد لله رب العالمين). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وفاتحة الكتاب نزلت بمكة بلا ريب كما دل عليه قوله تعالى: {ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم} وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته)) وسورة الحجر مكية بلا ريب). قال: (وكذلك قول من قال: الفاتحة لم تنزل إلا بالمدينة غلط بلا ريب. ولو لم تكن معنا أدلة صحيحة تدلنا على ذلك لكان من قال إنها مكية معه زيادة علم)ا.هـ وتفسير آخر كلامه أنَّ الفاتحة من القرآن بلا ريب، وهي إما مكية وإما مدنية؛ فمن قال إنها مكيَّة فلِمَا لديه من زيادة علم بتقدّم نزولها. والقول الثاني: هي مدنية، وهو قول مجاهد بن جبر. وقد نُسب خطأ إلى أبي هريرة وعبد الله بن عبيد بن عمير، وعطاء بن يسار، وعطاء الخراساني، وسوادة بن زياد، والزهري. وقد حكى هذه الأقوال عنهم أبو عمرو الداني وابن عطية وابن الجوزي وعلم الدين السخاوي والقرطبي وابن كثير، وكَثُر تداولها في كتب التفسير وعلوم القرآن، وقد زاد بعضهم على بعض، ووقع في بعض هذه الأسماء تصحيف في بعض كتب التفسير. فربما ظنَّ من رأى كثرة من نُسب إليهم هذا القول أن في المسألة خلافاً قوياً، وهي لا تصحّ عنهم، ولا أصل لها فيما بين أيدينا من الكتب المسندة إلا ما كان من الخطأ في رواية هذا القول عن أبي هريرة رضي الله عنه، وسيأتي توضيحه. قال ابن حجر العسقلاني: (وأغرب بعض المتأخّرين فنسب القول بذلك لأبي هريرة والزّهريّ وعطاء بن يسارٍ). قلت: وقد توسّع من بعدهم في نسبة هذا القول إلى آخرين. بيان أنواع ما يُنسب إلى المفسّرين من الأقوال: ومما ينبغي أن يعلمه طالب علم التفسير أن الأقوال المنسوبة إلى المفسّرين على نوعين: النوع الأول: أقوال منصوصة، تدلُّ بنصّها على ما استدلَّ بها عليه، وهذه الأقوال يكون فيها الصحيح والضعيف من جهة الإسناد ومن جهة المتن. والنوع الثاني: أقوال مستخرجة على أصحابها؛ لم يقولوا بنصّها؛ لكنّها فُهمت من قصّة وقعت لهم، أو من نصّ آخر على مسألة أخرى؛ ففُهم من ذلك النص أنه يلزم منه أن يقول في هذه المسألة بكذا وكذا، أو بطرق أخرى من طرق الاستخراج. واستخراج الأقوال على قسمين: - فمنه استخراج ظاهر؛ لظهور الدلالة عليه ولزومه لقول صاحبه مع ظهور التزامه به، فهذا النوع قد جرى عمل العلماء على نسبته، ومع هذا فيفضّل عند السعة والبسط أن يبيّن أنه قول مستخرج. - ومنه استخراج غير ظاهر؛ إما لخفاء وجه الدلالة، أو عدم ظهور وجه اللزوم، أو وجود نصّ آخر له يعارض هذا اللزوم، وهذا القسم من الاستخراج لا يصحّ أن ينسب إلى العالم القول بمقتضاه؛ وقد تساهل في ذلك بعض المفسرين، ومنهم من يستخرج القول؛ فينُقل عنه ويشيع. وقد يجتمع مع عدم صراحة الدلالة عدم صحّة الرواية، ثم ينتشر القول في كتب المفسّرين بسبب كثرة نقل بعضهم عن بعض إلى أن ينبّه إلى ذلك بعض العارفين بالأسانيد من أهل الحديث والتفسير؛ لكن ربما يخفى ذلك التنبيه على بعض طلاب العلم. ولذلك حرصت في هذا الكتاب على محاولة التقصّي والتثبّت من نسبة الأقوال إلى قائليها، وتمييز ما صحّ مما لم يصح مما فيه إشكال، وبيان علل الأقوال الضعيفة وأسباب ضعفها ما أمكنني ذلك، جعله الله نصيحةً له تعالى ولكتابه ولطلاب العلم، والله المستعان وعلى التوكّل وبه التوفيق. ثم لطالب العلم بعد ذلك أن يلخّص ما ترجح بعد معرفته ما صحّ مما لم يصح، وأن يتجاوز الحديث عن كثير من التفصيل في صحة نسبة الأقوال وبيان عللها. ونسبة القول بأن الفاتحة مدنية إلى أبي هريرة رضي الله عنه لها علّة ينبغي أن تُكشف ليتبيّنها طالب علم التفسير: فقد روى أبو الأحوص الكوفي عن منصور بن المعتمر عن مجاهد عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: «رنَّ إبليس حين أنزلت فاتحة الكتاب، وأنزلت بالمدينة» أخرجه الطبراني في الأوسط، وابن الأعرابي في معجمه كلاهما من طريق أبي بكر بن أبي شيبة عن أبي الأحوص به، وهو في مصنف ابن أبي شيبة مختصراً بلفظ: «أنزلت فاتحة الكتاب بالمدينة» وهذا الإسناد رجاله ثقات إلا أنّه منقطع، فإنّ مجاهداً لم يسمع من أبي هريرة. وقد سُئل الدارقطني عن هذا الحديث فقال: (يرويه منصور بن المعتمر واختلف عنه؛ فرواه أبو الأحوص عن منصور عن مجاهد عن أبي هريرة، وغيره يرويه عن منصور، عن مجاهد من قوله وهو الصواب)ا.هـ. ورواه ابن أبي شيبة مقطوعاً على مجاهد من طريق زائدة، عن منصور، عن مجاهد، قال: «الحمد لله رب العالمين أنزلت بالمدينة». ورواه أبو عبيد القاسم بن سلام في فضائل القرآن من طريق عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان الثوري، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: (نزلت فاتحة الكتاب بالمدينة). فالأثر ثابت عن مجاهد رحمه الله، لكنْ وصله إلى أبي هريرة خطأ. قال الحسين بن الفضل البجلي(ت:282هـ): (لكل عالم هفوة، وهذه منكرة من مجاهد لأنّه تفرَّد بها، والعلماء على خلافه). ذكره الثعلبي. وأما نسبة هذا القول إلى محمّد بن مسلم الزهري فلأجل ما روي عنه في كتاب "تنزيل القرآن" المنسوب إليه، وأنه عدَّ الفاتحة أول ما نزل بالمدينة، وفي إسناده الوليد بن محمد الموقّري وهو متروك الحديث. وأما عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي فمن أصحاب ابن عباس رضي الله عنهما، وله مرويات كثيرة في كتب التفسير، وكان إمام المسجد الحرام في زمانه، وقد روى عنه ابن جرير من طريقين ما يوافق قول الجمهور في المراد بالسبع المثاني بأنها فاتحة الكتاب؛ فلو استُخرج له من هذا الأثر رواية بمكية سورة الفاتحة لكان أهون من أن يُنسب إليه ضدها. وقد تحرّف اسمه في بعض كتب التفسير إلى عبيد الله بن عبد الله بن عمر، وهو خطأ. وكذلك عطاء الخراساني روى عنه عبد الرزاق وابن جرير ما يوافق قول الجمهور في المراد بالسبع المثاني . وأمَّا عطاء بن يسار وسوادة بن زياد البرجمي فحكى ابن عطيَّة في تفسيره نسبة هذا القول إليهما، ولا أعلم للرواية عنهما في هذه المسألة أصلاً فيما بين أيدينا من الكتب المسندة، وقد تقدّم ذكر استغراب ابن حجر لنسبة هذا القول. والقول الثالث: نزلت مرتين: مرة بمكَّة ومرة بالمدينة، وهذا القول نسبه الثعلبي والواحدي في البسيط والبغوي في معالم التنزيل إلى الحسين بن الفضل البجلي(ت:282هـ). - قال الثعلبي في تفسير سورة الفاتحة: (قال بعض العلماء - وقد لفَّق بين هذين القولين- : أنها مكية ومدنية، نزل بها جبرئيل مرتين، مرّة بمكة ومرّة بالمدينة حين حلّها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تعظيماً وتفضيلاً لهذه السورة على ما سواها ولذلك سميت مثاني، والله أعلم). - وقال الثعلبي أيضاً في تفسير سورة الحجر: (وقال الحسين بن الفضل وغيره: لأنها نزلت مرّتين كل مرّة معها سبعون ألف ملك، مره بمكة من أوائل ما نزل من القرآن، ومرة بالمدينة). - قال الواحدي: (وقال الحسين بن الفضل: سميت مثاني؛ لأنها نزلت مرتين اثنتين؛ مرة بمكة في أوائل ما نزل من القرآن، ومرة بالمدينة)ا.هـ.- وقال البغوي: (وقال الحسين بن الفضل: سميت مثاني لأنها نزلت مرتين مرة بمكة ومرة بالمدينة كل مرة معها سبعون ألف ملك). والحسين بن الفضل البجليّ من كبار المفسّرين، وله تفسير مفقود ينقل عنه الثعلبي كثيراً؛ وقد تقدَّم ذكر انتقاده لرواية مجاهد، وعدّه إيَّاها هفوة، فلعلَّ لحكاية هذا القول عنه علَّة يكشفها النظر في تفسيره أو العثور على نقل تامّ لعبارته. وفي نقل الثعلبي والبغوي ما يُشعر أنَّ النص مأخوذ من أثرٍ حكاه البجلي في تفسيره؛ فنُسب إليه؛ لأنه يبعد أن يُنشئ القول بذكر نزول هذا العدد من الملائكة مع سورة الفاتحة من تلقاء نفسه. وقال بهذا القول القشيري (ت:465هـ) في تفسيره المسمَّى لطائف الإشارات، قال في تفسير قول الله تعالى: {ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم}: (أكثر المفسرين على أنها سورة الفاتحة، وسميت مثانى لأنها نزلت مرتين: مرة بمكة، ومرة بالمدينة)ا.هـ. وذكر هذا القول بعد ذلك الكرماني والزمخشري وابن كثير وغيرهم من غير نسبة إلى أحد. وقد حمل الشوكانيُّ هذا القول على إرادة الجمع بين القولين المتقدّمين، وهو جمع فيه نظر، والقول بتكرر النزول لا يصحّ إلا بدليل صحيح يُستند إليه. والخلاصة أن هذا القول ضعيف، وفي النفس من نسبته إلى الحسين بن الفضل شيء. والقول الرابع: نزل نصفها بمكة، ونصفها الآخر بالمدينة، وهذا القول ذكره أبو الليث السمرقندي (ت:375هـ) في تفسيره، قال: (ويقال: نصفها نزل بمكة، ونصفها نزل بالمدينة)ا.هـ. وهو قول باطل لا أصل له، ولم ينسبه أبو الليث إلى أحد. وقد ذكر هذا القول القرطبي وابن كثير من باب جمع ما قيل في هذه المسألة لا على سبيل الإقرار. قال ابن كثير: (وهو غريب جداً). وتلخيص ما سبق في نزول سورة الفاتحة أنها مكية لقول الله تعالى: {ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم}، وقد صحّ تفسير النبي صلى الله عليه وسلم للمراد بالسبع المثاني أنها فاتحة الكتاب من حديث أبيّ بن كعب وحديث أبي سعيد بن المعلى وحديث أبي هريرة رضي الله عنهم جميعاً، وهي أحاديث صحيحة لا مطعن فيها، وسورة الحجر سورة مكية باتفاق العلماء. وقد صح عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه ما يوافق تفسير النبي صلى الله عليه وسلم، وروي ما يوافقه عن عمر وابن مسعود وأبي هريرة بأسانيد فيها مقال. وصحّ هذا التفسير عن جماعة من التابعين. وصحّ ما يفيد النصّ على أنها مكية عن أبي العالية الرياحي والربيع بن أنس البكري. ولا يصحّ خلاف ذلك عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم، ولا عن أحد من التابعين إلا ما سبق بيانه عن مجاهد رحمه الله. وجمهور أهل العلم على أنَّ الفاتحة مكيَّة، وهو الصواب، والله تعالى أعلم). [تفسير سورة الفاتحة:60 - 71] |
خبر نزول سورة الفاتحة
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (خبر نزول سورة الفاتحة كان لنزول سورة الفاتحة شأن خاصٌّ يدلّ على فضلها وعظمتها، وفيه إشارة إلى ما ينبغي أن تُتلقَّى به هذه السورة من حسن التلقّي والقبول والتكريم. روى عمَّار بن رُزيق عن عبد الله بن عيسى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (بينما جبريل قاعد عند النبي صلى الله عليه وسلم، سمع نقيضا من فوقه، فرفع رأسه، فقال: " هذا باب من السماء فتح اليوم لم يفتح قط إلا اليوم"، فنزل منه ملك، فقال: "هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم"؛ فسلَّم وقال: (أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته). رواه مسلم وابن أبي شيبة والنسائي في الكبرى وغيرهم. النقيض هو الصوت، ونقيض السقف تحرّك أجزائه حتى يُحدث صوتاً. وفي هذا الحديث بشارة عظيمة للنبيّ صلى الله عليه وسلم ولأمّته بما اختصّهم الله به من إنزال سورة الفاتحة وخواتيم سورة البقرة عليهم دون سائر الأمم. وأنزلَ ملكاً كريماً إلى السماء لم ينزل من قبل، وما نزل إلا ليبلّغ النبيَّ صلى الله عليه وسلم هذه البشارات العظيمة، وما تضمّنته كلّ بشارة منها من كرامات جليلة للنبيّ صلى الله عليه وسلّم ولأمّته تستوجب شكر الله تعالى ومحبّته واتّباع رضوانه. فالبشارة الأولى: أنها نور عظيم البركة واسع الهدايات جليل البصائر: - فهي نور يبصّر العبد بما يعرّفه بربِّه جلّ وعلا، وبأسمائه الحسنى وصفاته العليا التي تقتضي من العبد اجتماع عبوديّات المحبّة والخوف والرجاء. - وهي نور يبصّر المؤمن بمقصد خلقه، والحكمة من إيجاده، وأنه إنما خُلق ليقوم بعبادة ربّه وحده لا شريك له. - وهي نور يبصّر المؤمن بحاجته إلى عون الله تعالى في كلّ شأن من شؤونه، ويرشده إلى استصحاب حال العبودية والاستعانة في جميع شؤونه. - وهي نور يبصّر المؤمن بسبب الهداية ومصدرها، ووصف سبيلها، وحال أهلها، وعاقبتهم. - وهي نور يبصّر المؤمن بأنه لا فلاح له إلا بالعلم النافع والعمل الصالح. - وهي نور يبصّر المؤمن بسوء عاقبة الذين فرّطوا في العلم والذين فرّطوا في العمل من المغضوب عليهم والضالين. وهذه الأمور تنتظم حياة المؤمن كلّها، لا تخلو حالة من حالاته من حاجة إلى التبصّر بمعاني هذه السورة العظيمة والاهتداء بهداياتها. فهذا بعض معاني البشارة الأولى فيما يخصّ سورة الفاتحة. والبشارة الثانية: أنّ هذه السورة كرامة خاصّة لهذه الأمّة ؛ لم تُعطها أمّة من الأمم، وفي ذلك من تشريف هذه الأمّة وتكريمها ما لا يخفى، وهذا التكريم يقتضي من المكرَّمين به تقبّله بما يحبّه الله تعالى من الفرح بفضله، والقيام بشكره، واتّباع رضوانه؛ فمن شكر كانت هذه البشارات نعمة عظيمة في حقّه يغتبط بها في دنياه وأخراه، ويجد من فضلها وكرامتها على قدر ما يتّبع من هداياتها. ومن كفر كانت تلك البشارات حسرة عليه؛ لما يرى من خسرانه بتفريطه، وفوز من تلقّوا هذه البشارة بالقبول والشكر. والبشارة الثالثة: أنَّ دعاء الداعي بها مستجاب؛ وأكّد هذه البشارة بتأكيد جامع بين أسلوبي الحصر والاستغراق؛ (لن تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته) (بحرفٍ) نكرة في سياق النفي؛ ودخلت عليها الباء لإفادة استغراق العموم؛ فلا يُستثنى منه حرف، والحرف هنا كلّ جملة طلبية كانت أو خبرية؛ فالجملة الطلبية عطاؤها الإجابة، والجملة الخبرية الذكرُ والإثابة. (إلا أعطيته) تأكيد للعطاء بأسلوب الحصر بإلا؛ الدالّ على إعطاء جميع المطلوب. فحريّ بمن نصح لنفسه أن يعرف قدر هذه البشارات العظيمة، وحقّ هذا الفضل والتكريم، وأن يحرص كلّ الحرص أن يكون ممن ينفعهم الله بما أنزل الله من الهدى والنور في هذه السورة العظيمة، وأن يحرص كلّ الحرص على اجتناب ما تنقلب به هذه البشارات إلى حسرات عليه. فقوله: (لن تقرأ) القراءة المعتبرة هنا هي القراءة التي يحبّها الله تعالى ويرضاها، وهي القراءة التي اشتملت على شرطي القبول من الإخلاص والمتابعة؛ فإذا قرأ العبد الفاتحة قراءة مخلصاً فيها لله جلّ وعلا، ومتبعاً فيها النبي صلى الله عليه وسلم كانت قراءته متّقبَّلة نافعة، وتحت هذه الجملة ما يطول شرحه، واللبيب من وفّقه الله لفقهها). [تفسير سورة الفاتحة:71 - 74] |
ترتيب نزول سورة الفاتحة
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (ترتيب نزول سورة الفاتحة لا يصحّ في ترتيب نزول سورة الفاتحة حديث ولا أثر مما وقفت عليه، ولا تحديد لتاريخ نزولها، وقد روي في ذلك حديث مرسل عن أبي ميسرة الهمداني، وآثار ضعيفة عن ابن عباس وجابر بن زيد وعطاء الخراساني وابن شهاب الزهري، وهي آثار ضعيفة جداً في ترتيب نزول سور القرآن، لا يصحّ منها شيء؛ فلا نطيل الكلام عليها. وأما مرسل أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل الهمداني فهو ما أخرجه البيهقي في دلائل النبوة من طريق يونس بن بكير عن يونس بن عمرو عن أبيه عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لخديجة: ((إني إذا خلوت وحدي سمعت نداء، وقد والله خشيت أن يكون هذا أمراً)) فقالت: (معاذ الله ما كان الله ليفعل بك فو الله إنك لتؤدي الأمانة، أو تصل الرحم، وتصدق الحديث) فلما دخل أبو بكر وليس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم ذكرت خديجة حديثه له وقالت: يا عتيق اذهب مع محمد إلى ورقة، فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخذ أبو بكر بيده، فقال: انطلق بنا إلى ورقة، فقال: ومن أخبرك؟ قال: خديجة، فانطلقا إليه، فقصَّا عليه. فقال: (( إذا خلوت وحدي سمعت نداء خلفي: يا محمد، يا محمد، فأنطلق هاربا في الأرض)) فقال: لا تفعل فإذا أتاك فاثبت حتى تسمع ما يقول ثم ائتني فأخبرني؛ فلما خلا ناداه يا محمد قل: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين. حتى بلغ. ولا الضالين قل: لا إله إلا الله، فأتى ورقة فذكر ذلك له فقال له ورقة أبشر، ثم أبشر، فأنا أشهد أنك الذي بشر به ابن مريم، وأنك على مثل ناموس موسى، وأنك نبي مرسل، وأنك سوف تُؤمر بالجهاد بعد يومك هذا ولئن أدركني ذلك لأجاهدن معك). وهذا الخبر رجاله ثقات يونس بن عمرو هو ابن أبي إسحاق السبيعي، وأبو ميسرة تابعيٌّ ثقة من كبار التابعين وفضلائهم، لكن هذا الخبر فيه حروف منكرة؛ فلا يحتجّ به لإرساله، ولما فيه من نكارة، ولمخالفته ما صحّ في الأحاديث الصحيحة من أنَّ أوَّل ما نزل من القرآن صدر سورة اقرأ. وقد رواه أيضاً الثعلبي والواحدي من طريق أبي إسحاق السبيعي عن أبي ميسرة، وقد اختلفا في إسناده ومتنه. قال ابن حجر في العجاب: (وهو مرسل ورجاله ثقات؛ فإن ثبت حمل على أنَّ ذلك كان بعد قصة غار حراء، ولعله كان بعد فترة الوحي والعلم عند الله تعالى). ومما ينبغي التنبيه عليه قول الزمخشري في كشافه: (وأكثر المفسرين إلى أن أول سورة نزلت فاتحة الكتاب). وقد نقل هذا القولَ عنه بعض المفسّرين، وهو خطأ محض، وقد ردّه ابن حجر في فتح الباري؛ فقال في باب تفسير سورة العلق: (قال صاحب الكشاف: "ذهب بن عباس ومجاهد إلى أنها أول سورة نزلت وأكثر المفسرين إلى أن أول سورة نزلت فاتحة الكتاب" كذا قال والذي ذهب أكثر الأئمة إليه هو الأول وأما الذي نسبه إلى الأكثر فلم يقل به إلا عدد أقل من القليل بالنسبة إلى من قال بالأول)ا.هـ. وقال ابن عاشور: (وقد حقّق بعض العلماء أنّها نزلت عند فرض الصّلاة فقرأ المسلمون بها في الصّلاة عند فرضها)ا.هـ. وهذا القول يفتقر إلى دليل، وحديث ابن عباس المتقدّم دالٌّ على أنّ سورة الفاتحة نزلت على النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو في الأرض، والصلاة فرضت عليه في السماء لمّا عُرج به). [تفسير سورة الفاتحة:64 - 76] |
نزولها من كنز تحت العرش:
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (نزولها من كنز تحت العرش: وأما نزولها من كنز تحت العرش فروي فيه حديثان ضعيفان: أحدهما: حديث صالح بن بشير عن ثابت عن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:« إن الله عز وجل أعطاني فيما منَّ به علي؛ إني أعطيتك فاتحة الكتاب، وهي من كنوز عرشي، ثم قسمتها بيني وبينك نصفين » رواه ابن الضريس في فضائل القرآن والعقيلي في الضعفاء والبيهقي في شعب الإيمان والديلمي في مسند الفردوس كلهم من طريق مسلم بن إبراهيم عن صالح بن بشير المري عن ثابت عن أنس، وصالح بن بشير ضعيف الحديث، قال النسائي: متروك الحديث. والآخر: حديث العلاء بن المسيّب، عن فضيل بن عمرٍو، عن علي بن أبي طالبٍ رضي اللّه عنه أنّه سئل عن فاتحة الكتاب، فقال: حدّثنا نبيّ اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ثمّ تغيّر لونه، وردّدها ساعةً حين ذكر النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم ثمّ قال: (أنها نزلت من كنزٍ تحت العرش). رواه إسحاق بن راهويه كما في إتحاف الخيرة والديلمي في مسند الفردوس كلاهما من هذا الطريق، وهو ضعيف لانقطاع إسناده؛ فإنّ فضيلاً لم يدرك عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه. وقد صحّ من حديث حذيفة بن اليمان وحديث أبي ذرٍّ رضي الله عنهما أنّ الذي نزل من تحت العرش خواتيم سورة البقرة: - فأما حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما فرواه أبو داوود الطيالسي وابن أبي شيبة وأحمد والنسائي وغيرهم من طريق أبي مالك الأشجعي عن ربعيّ بن حراشٍ عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( فُضّلنا على الناس بثلاث: جعلت لي الأرض كلها لنا مسجدا وجعلت تربتها لنا طهورا، وجعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وأوتيت هؤلاء الآيات آخر سورة البقرة من كنز تحت العرش لم يعط منه أحد قبلي ولا يعطى منه أحد بعدي)). وأصل الحديث في صحيح مسلم غير أنّه ذكر الخصلتين الأوليين ثم قال: (وذكر خصلة أخرى..) قال الألباني: (وهي هذه قطعا). - وأما حديث أبي ذرٍّ رضي الله عنه فرواه الإمام أحمد من طريق شيبان عن منصور بن المعتمر عن ربعي بن حراش، عن خرشة بن الحر، عن المعرور بن سويد، عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعطيت خواتيم سورة البقرة من بيت كنز من تحت العرش، ولم يعطهن نبي قبلي». وله طرق أخرى، وقد اختلف الرواة فيه على منصور، وقال الدارقطني: (القول قول شيبان)). [تفسير سورة الفاتحة:77 - 78] |
الباب الرابع:عدد آيات سورة الفاتحة عدد آيات سورة الفاتحة قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (عدد آيات سورة الفاتحة سورة الفاتحة سبع آيات بإجماع القرَّاء والمفسّرين، وقد دلَّ على ذلك النصّ كما دلَّ الإجماع: - فأما دلالة النصّ فقول الله تعالى: {ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم} مع ما صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم من تفسيرها بسورة الفاتحة؛ فيكون العدد منصرفاً إلى آياتها. قال أبو العالية الرياحي في قول اللّه تعالى: {ولقد آتيناك سبعًا من المثاني} قال: (فاتحة الكتاب سبع آياتٍ). رواه ابن جرير. - وأمَّا الإجماع فقد حكاه جماعة من أهل العلم منهم: ابن جرير الطبري، وابن المنذر، وأبو جعفر النحاس، وأبو عمرو الداني، والبغوي، وابن عطية، والشاطبي، وابن الجوزي، وعلم الدين السخاوي، وابن تيمية، وابن كثير، وغيرهم كثير. قال ابن جرير: (لا خلاف بين الجميع من القرَّاء والعلماء في ذلك). وقد اتّفق علماءُ العدد على أنها سبع آيات. قال أبو عمرو الداني: (اعلم أيدك الله بتوفيقه أنَّ الأعداد التي يتداولها الناس بالنقل، ويعدُّون بها في الآفاق قديماً وحديثاً ستة: عدد أهل المدينة الأوَّل، والأخير، وعدد أهل مكة، وعدد أهل الكوفة، وعدد أهل البصرة، وعدد أهل الشام)ا.هـ. والمقصود بالعدّ الشامي العدّ الدمشقي وهو المرويّ عن عبد الله بن عامر اليحصبي(ت:118هـ) أحد القراء السبعة، وقد أخذ القراءةَ عن أبي الدرداء رضي الله عنه، وعن المغيرة بن أبي شهاب المخزومي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه. ومن أهل العلم من أضاف العدّ الحمصي وهو المروي عن شريح بن يزيد الحمصي (ت:203هـ) مقرئ أهل حمص. وقد كان في كلّ مصرٍ من هذه الأمصار قُرَّاء من السلف تلقّوا القراءات بالأسانيد المتَّصلة إلى قرَّاء الصحابة رضي الله عنهم، وكانت تؤخذ عنهم أعداد الآيات كما تُؤخذ عنهم القراءات، وقد حُمل علمُهم في عدد الآيات ودوّن في كتب أهل هذا الشأن وتناقله رواته، سوى ما ذُكر عن العدّ الحمصي أنه اندثر قديماً ولم يجد من يتولاه ويأخذ به من المتصدّرين للإقراء. والمقصود أنّ عدد آيات الفاتحة سبع آيات في العدّ المدني الأول، والعدّ المدني الأخير، والعدّ المكّي، والعدّ الكوفي، والعدّ البصري، والعدّ الشامي، كلّهم اتّفقوا على أنّ سورة الفاتحة سبع آيات. ومع تقرّر الإجماع فقد حُكي في عدد آيات سورة الفاتحة أقوال أخرى: منها: أنها ستّ آيات، فلا تعدّ البسملة آية منها، وهذا القول نُسب إلى حسين بن علي الجعفي (ت:203هـ) وكان من القراء الصالحين، قرأ على حمزة الزيات، وهو من شيوخ الإمام أحمد، وهذا القول المنسوب إليه ذكره ابن عطية من غير إسناد، ثم توارد على ذكره جماعة من المفسّرين بعده. قال ابن عطية: (وهو شاذّ لا يُعوَّل عليه). ومنها: أنها ثمان آيات؛ فتعدّ البسملة آية، و{إيّاك نعبد} آية، وهذا القول نُسب إلى الحسن البصري وعمرو بن عبيد المعتزلي. قال الرازي: (رأيت في بعض الروايات الشاذة أن الحسن البصري كان يقول : هذه السورة ثمان آيات). ولا يصحّ هذا القول عن الحسن البصري رحمه الله. وكل هذه الأقوال الشاذة تُحكى في بعض كتب التفسير المتأخرة من غير إسناد، ولا أعلم لها أصولاً في الكتب المسندة، فلا هي ثابتة عمَّن نُسبت إليهم، ولا هي قائمة على حجة معتبرة. والمقصود أنَّ سورة الفاتحة سبع آيات من غير خلاف بين أهل العلم، وما ذكر من الأقوال الشاذة فغير صحيح من جهة الإسناد، وغير معتبر من جهة المتن). [تفسير سورة الفاتحة:79 - 81] |
الخلاف في عدّ البسملة آية من الفاتحة
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (الخلاف في عدّ البسملة آية من الفاتحة ومع اتّفاق العلماء على أنّ آيات الفاتحة سبع إلا أنّهم اختلفوا في عدّ البسملة آية منها على قولين: القول الأول: البسملة آية من الفاتحة، وهو قول الشافعي ورواية عن أحمد، وهي كذلك في العدّ المكي والعدّ الكوفي. والعدّ المكّي هو المروي عن عبد الله بن كثير المكّي مقرئ أهل مكّة عن مجاهد بن جبر عن ابن عباس عن أبيّ بن كعب رضي الله عنهم. والعدّ الكوفي هو المروي عن أبي عبد الرحمن السُّلمي مقرئ أهل الكوفة عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه. وقد روي هذا القول عن عليّ بن أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهم. - فروى أسباط بن نصر، عن السدي، عن عبد خير قال: سُئل علي رضي الله عنه، عن السبع المثاني، فقال: ( {الحمد لله} ). فقيل له: إنما هي ست آيات. فقال: ({بسم الله الرحمن الرحيم} آية). رواه الدارقطي والبيهقي، وهذا إسناد جيد. - وقال ابن جريج: أخبرنا أبي، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ، أنّه، قال في قول اللّه تعالى: {ولقد آتيناك سبعًا من المثاني} قال: (هي فاتحة الكتاب)؛ فقرأها عليَّ ستًّا، ثمّ قال: ({بسم اللّه الرّحمن الرّحيم}الآية السّابعة). رواه الشافعي وعبد الرزاق وأبو عبيد وابن جرير وابن المنذر، وفيه عبد العزيز ابن جريج والد عبد الملك، ضعيف الحديث. واستُدلَّ لهذا القول بأحاديث منها: 1. حديث ابن جريج، عن عبد الله بن أبي مليكة، عن أم سلمة، أنها سُئلت عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، فقالت: ( كان يقطع قراءته آية آية: {بسم الله الرحمن الرحيم} . {الحمد لله رب العالمين} . {الرحمن الرحيم} .{مالك يوم الدين}). أخرجه الإمام أحمد وأبو داوود والترمذي والدارقطني وغيرهم. قال الدارقطني: (إسناده صحيح، وكلهم ثقات). وقد أعلّه بعض أهل الحديث بعلّة الانقطاع؛ والراجح أنه موصول غير منقطع، وإبهام السائل في هذه الرواية لا يضرّ؛ لأنّه قد سُمّي في رواية أخرى وهو "يَعلى بن مملك"، ومن حذف ذكر السائل فقد اختصر الإسناد؛ فانتفت العلّة. 2. وحديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً وموقوفاً: (( إذا قرأتم {الحمد لله} فاقرءوا: {بسم الله الرحمن الرحيم}؛ إنها أم القرآن، وأم الكتاب، والسبع المثاني، و{بسم الله الرحمن الرحيم} إحداها)). رواه الدارقطني والبيهقي من طريق نوح بن أبي بلال، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري , عن أبي هريرة، وهو إسناد صحيح، والموقوف أصح، وله حكم الرفع. والقول الثاني: لا تعدّ البسملة من آيات سورة الفاتحة، وهو قول أبي حنيفة والأوزاعي ومالك، ورواية عن أحمد، وهو قول باقي أصحاب العدد. وهؤلاء يعدّون {أنعمت عليهم} رأس آية. واستُدلّ لهذا القول بأحاديث منها: 1. حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: {الحمد لله رب العالمين}، قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال: {الرحمن الرحيم} ، قال الله تعالى: أثنى علي عبدي، وإذا قال: {مالك يوم الدين}، قال: مجدني عبدي - وقال مرة فوض إلي عبدي - فإذا قال: {إياك نعبد وإياك نستعين} قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: {اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل)). رواه مسلم في صحيحه وأحمد والبخاري في القراءة خلف الإمام وغيرهما. 2. وحديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وعمر، وعثمان، فكانوا يستفتحون بـ{الحمد لله رب العالمين} لا يذكرون {بسم الله الرحمن الرحيم} في أول قراءة ولا في آخرها). متفق عليه. وعدم الجهر بالبسملة لا يقتضي عدم قراءتها، وهذه الرواية عن أنس تفسّرها الرواية الأخرى من طريق شعبة، عن قتادة، عن أنسٍ، قال: «صلّيت خلف النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، وأبي بكرٍ، وعمر فلم يجهروا ببسم الله الرّحمن الرّحيم». وقد روي عن عبد الله بن المغفّل المزني نحوه، والآثار المروية في الجهر بالبسملة وترك الجهر بها كثيرة جداً، وكثير منها ضعيف أو معلول، وهي مسألة منفصلة عن مسألة عدّ البسملة آية من الفاتحة، وإنما ذكرت هذا الحديث لاستدلال بعض أهل العلم به، وهو استدلال غير صحيح، وسيأتي لهذه المسألة مزيد تفصيل في درس البسملة إن شاء الله تعالى. والصواب أنّ الخلاف في عدّ البسملة آية من الفاتحة كالاختلاف في القراءات إذ كلا القولين متلقّيان عن القرّاء المعروفين بالأسانيد المشتهرة إلى قرّاء الصحابة رضي الله عنهم، ومن اختار أحد القولين فهو كمن اختار إحدى القراءتين. قال الحافظ ابن الجزري رحمه الله في النشر: (والذي نعتقده أن كليهما صحيح، وأنَّ كل ذلك حق، فيكون الاختلاف فيهما كاختلاف القراءات)ا.هـ. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (والفاتحة سبع آيات بالاتفاق، وقد ثبت ذلك بقوله تعالى: {ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم} وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (فاتحة الكتاب هي السبع المثاني) وقد كان كثير من السلف يقول البسملة آية منها ويقرأها، وكثير من السلف لا يجعلها منها ويجعل الآية السابعة {أنعمت عليهم} كما دلَّ على ذلك حديث أبي هريرة الصحيح، وكلا القولين حق؛ فهي منها من وجه، وليست منها من وجه، والفاتحة سبع آيات من وجه تكون البسملة منها فتكون آية. ومن وجه لا تكون منها فالآية السابعة {أنعمت عليهم} لأن البسملة أنزلت تبعاً للسور)ا.هـ. وغرضنا في هذا الدرس تلخيص كلام أهل العلم رحمهم الله تعالى في مسألة عدد آيات سورة الفاتحة، وما يتّصل بذلك من تفصيل أقوالهم وحججهم وتقريراتهم، وأما ما يخصّ البسملة من مسائل وأحكام فسيفرد في درس مستقلّ بعون الله تعالى). [تفسير سورة الفاتحة:81 - 85] |
الباب الخامس:تفسير الاستعاذة معنى الاستعاذة قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (معنى الاستعاذة الاستعاذة هي الالتجاء إلى من بيده العصمة من شرِّ ما يُستعاذ منه والاعتصام به. قال الحصين بن الحمام المري: فعوذي بأفناء العشيرة إنما ..... يعوذ الذليلُ بالعزيز ليُعصما قال أبو منصور الأزهري: (يقال: عاذ فلان بربّه يعوذ عَوْذاً إذا لجأ إليه واعتصم به).والعِصمة هي المنَعَة والحماية ، قال الله تعالى: {لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم}، وقال: {ما لهم من الله من عاصم}). [تفسير سورة الفاتحة:87] |
أقسام الاستعاذة:
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (أقسام الاستعاذة: الاستعاذة على قسمين: القسم الأول: استعاذة العبادة، وهي التي يقوم في قلب صاحبها أعمال تعبّدية للمستعاذ به من الرجاء والخوف والرغب والرهب، وقد يصاحبها دعاء وتضرّع ونذر. وهي تستلزم افتقار المستعيذ إلى من استعاذ به، وحاجته إليه، واعتقاده فيه النفع والضر. فهذه الاستعاذة عبادة يجب إفراد الله تعالى بها، ومن صرفها لغير الله تعالى فقد أشرك مع الله. ومن صرفها لغير الله فإنه لا يزيده من استعاذ به إلا ذلاً وخساراً، كما قال الله تعالى: {وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجنّ فزادوهم رهقا}. والقسم الثاني: استعاذة التسبب، وهي ما يفعله المستعيذ من استعمال الأسباب التي يُعصم بها من شر ما يخافه من غير أن يقوم في قلبه أعمال تعبدية للمستعاذ به. وهذا كما يستعيذ الرجل بعصبته أو إخوانه ليمنعوه من شرّ رجل يريد به سوءاً، فهذه الاستعاذة ليست بشرك لخلوّها من المعاني التعبّدية، فهي أسباب تجري عليها أحكام الأسباب من الجواز والمنع بحسب المقاصد والوسائل. وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ستكون فِتَن، القاعِدُ فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من السَّاعي، مَنْ تَشَرَّفَ لها تَسْتَشْرِفْهُ، ومَن وَجَدَ مَلْجأ أو مَعاذا فَلْيَعُذْ به)). وفي رواية عند مسلم: ((فليستعذ)) ومعناهما واحد، فهي استعاذة تسبب لا استعاذة عبادة). [تفسير سورة الفاتحة:87 - 88] |
لوازم "الاستعاذة"
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (لوازم "الاستعاذة" الاستعاذة عبادة عظيمة تستلزم عبادات أخرى قلبية وقولية وعملية: فمنها: افتقار العبد إلى ربّه جلّ وعلا، وإقراره بضعفه وتذلّلـه وشدّة حاجته إليه. ومنها: أنها تستلزم إيمان العبد بأسماء الله الحسنى وصفاته العليا، وتدبيره وتصرّفه التامّ في الكون؛ وذلك أنّ الحامل على الاستعاذة في الأصل إيمان العبد بقدرة ربّه جلّ وعلا على إعاذته، وإيمانه برحمته التي يرجو بها قبول طلب إعاذته، وإيمانه بعزّته وملكه وجبروته وأنه لا يعجزه شيء، وإيمانه بعلم الله عزّ وجلّ بحاله وحال ما يستعيذ منه، وإحاطته بكلّ شيء، وتستلزم أيضاً إيمان العبد بسمع الله وبصره وحياته التامّة وقيّوميّته، إلى غير ذلك من الاعتقادات الجليلة النافعة التي متى قامت في القلب قياماً صحيحاً كان لها أثر عظيم في إجابة طلب الإعاذة. ومنها: أنها تحمل العبد على الاستقامة على أمر الله جلّ وعلا، وحفظ جوارحه ولسانه؛ لأنه يخشى أن يخذل بسبب ذنوبه وما فرّط فيه، فإذا ما وقع في عصيان أو تفريط أثر ذلك في قلبه خشية تحمله على المبادرة إلى التوبة والاستغفار والإنابة إلى الله جلّ وعلا. ومنها: أن المستعيذ تقوم بقلبه أعمال جليلة يحبّها الله تعالى، من الصدق والإخلاص والمحبّة والخوف والرجاء والخشية والإنابة والتوكّل والاستعانة وغيرها، وكل هذه العبادات القلبية العظيمة تقوم في قلب المستعيذ حين استعاذته؛ فلذلك كانت عبادة الاستعاذة من العبادات الجليلة التي يُحبّها الله تعالى ويثيب عليها، ويبغض من أعرض عن التعبّد له بها). [تفسير سورة الفاتحة:89 - 90] |
أثر الاستعاذة بالله تعالى على قلب العبد:
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (أثر الاستعاذة بالله تعالى على قلب العبد: من أعظم ثمرات الاستعاذة بالله عمران القلب بخشية الله وصدق الإنابة إليه، وما تثمره من التفكّر والتذكّر والتبصّر والاستقامة. - فأمّا الخشية فلما يقوم بقلبه من المعرفة بالله تعالى وبأسمائه وصفاته والمعرفة بما كسبت نفسه وفرّطت فيه من أوامر الله ؛ فيخشى سخط ربّه وعقابه. - وأمّا الإنابة فلأجل ما يقوم في قلبه من الإقبال على ربّه، والإعراض عما يصدّ عنه، وهذه الإنابة هي المقصود الأعظم للابتلاء بما يُستعاذ منه. - وأما الصدق فلأجل أن المستعيذ صادق في طلب الإعاذة لشدّة حاجته إلى من يعصمه، واجتهاده في ذلك. ومتى صحّت الإنابة في قلب العبد كان من الذين يهديهم الله كما قال الله تعالى: {قل إن الله يضلّ من يشاء ويهدي إليه من أناب} ، وقال تعالى: {الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب} - وأما الإخلاص؛ فلأجل أن المؤمن يفزع إلى ربّه جلّ وعلا لا إلى غيره؛ فيستعيذ به وحده. - وأما التوكّل فلأجل ما يقوم في قلب العبد من التفويض وعزمه على اتّباع هدى الله. - وأمّا الاستعانة فلأجل معرفته بحاجته إلى عون الله تعالى على اتّباع هداه ليعصمه من شرّ ما استعاذ منه. ومحركات القلوب إلى الله تعالى ثلاثة: المحبّة والخوف والرجاء 2. ويعظم الخوف من الله تعالى لعلم العبد بأنّه لن يخذل إلا من جهة نفسه وذنبه؛ فيحمله ذلك على الاستقامة والكفّ عن المعاصي؛ لأجل ما يقوم في قلبه من خوف ردّ استعاذته بسبب ذنوبه، ولذلك كان من شأن المحسنين عند الملمّات تقديم الاستغفار والتوبة إلى الله؛ كما أثنى الله تعالى على بعضهم بقوله: { وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)}والاستعاذة تستحثّ هذه المحرّكات وتحفّزها في قلب العبد؛ فإذا دَهمَ القلبَ ما يزعجه ويخاف ضرره؛ فزع إلى الله تعالى ولاذ بجانبه وأيقن أنّه لا عاصم له إلا هو: 1. فيعظم الرجاء في الله لطلب السلامة والعصمة مما استعاذ منه؛ ذلك لأنّ المستعيذ إنما يحمله على الاستعاذة رجاؤه أن يستجيب له ربّه فيعيذه من شرّ ما استعاذ منه. فسمّاهم الله محسنين وبيّن أنّهم يحبّهم ويحبُّ من يعملُ عملهم لمّا أحسنوا الاستعاذة به جلّ وعلا من شرّ عدوّهم؛ واتّبعوا هداه بصبرهم وعزيمتهم على جهاد عدوّهم، وخوفهم من ربّهم؛ فحقّقوا بما عملوا وبما قالوا معنى الاستعاذة كما يحبّ اللهُ ويرضى، حتى جعلهم مثلاً يحثّ عباده المؤمنين من هذه الأمّة على الاتّساء بهم في ذلك. وقال تعالى: {إنّ الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلّهم الشيطان ببعض ما كسبوا} ولذلك قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: (لا يخاف العبدُ إلا ذنبَه، ولا يرجو إلا ربه) رواه عبد الرزاق والبيهقي في شعب الإيمان. 3. وتعظم محبّة الله في قلبه لما يرى من أثر إعاذته له ويجد من طمأنينة القلب في الالتجاء إليه والاعتصام به، وإيمانه بأنّ الله وليّه الذي لا وليّ له غيره. ومن قامت في قلبه هذه العبادات العظيمة كانت استعاذته من أعظم أسباب محبّة الله تعالى له، وهدايته إليه. والمقصود أنّ الاستعاذة من العبادات العظيمة التي هي من مقاصد خلق الله تعالى للإنس والجنّ كما قال الله تعالى: {وما خلقت الجنّ والإنس إلا ليعبدون}، وأنها تثمر في القلب أعمالاً تعبّدية يحبّها الله من الصدق والإخلاص والمحبة والرجاء والخوف والخشية والإنابة والتوكل وغيرها؛ فيحيا القلب بعد موته، ويستيقظ بعد غفلته، ويلين بعد قسوته، وتزكو النفس، وتستنير البصيرة، ويصلح العمل، وتحسن العاقبة). [تفسير سورة الفاتحة:90 - 92] |
الحكمة من تقدير ما يُستعاذ منه:
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (الحكمة من تقدير ما يُستعاذ منه: وبما تقدّم تتبيّن لك بعض الحِكَم الجليلة من تقدير الله تعالى لما يُستعاذ منه، وخلق الأشياء المؤذية والضارة، مع ضمانه لعباده المؤمنين بإعاذتهم إذا أحسنوا الاستعاذة به؛ كما قال تعالى في حديث الوليّ المشهور: (ولئن استعاذني لأعيذنّه). ولو قُدّر خلو العالم الدنيوي من الشرور التي يُستعاذ منها لفات على العباد فضيلة التعبد لله تعالى بالاستعاذة به، وفاتهم من المعارف الإيمانية الجليلة، والعبادات العظيمة ما يناسب ذلك. والنفس البشرية إذا أمِنَت المضارّ ارتاحت إلى اتّباع الهوى وطول الأمل ودخل عليها من العلل والآفات ما يسوء به الحال والمآل؛ فكان من حكمة الله تعالى أن قدّر من أقدار الشرّ ما يحمل عباده على الاستعاذة به جلّ وعلا واتّباع هداه؛ فتتطهّر قلوبهم وتتزكّى نفوسهم وتصلح أحوالهم وتحسن عواقبهم، وقد قال الله تعالى {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } فتقدير المشقّة والضرر لا يريد الله به أن يجعل على عباده المؤمنين حرجاً أو يكلّفهم ما لا يطيقون، وإنما يريد به أن يطهّرهم، وأن تتهيّأ نفوسهم لإنعامه الخاصّ الذي يختصّ به من يستجيب له ويتّبع هداه. والمقصود أنّ الحوادث والابتلاءات مجال رحب يعرّف العباد بربّهم جلّ وعلا وبأسمائه وصفاته، ليجدوا ما أخبر الله به وما وعدهم به على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم صدقاً وحقاً). [تفسير سورة الفاتحة:93] |
تحقيق الاستعاذة:
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (تحقيق الاستعاذة يكون بأمرين: أحدهما: التجاء القلب إلى الله تعالى وطلب إعاذته بصدق وإخلاص معتقداً أن النفع والضر بيده وحده جلّ وعلا، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. والآخر: اتّباع هدى الله فيما أمر به ليعيذه، ومن ذلك بذل الأسباب التي أمر الله بها، والانتهاء عما نهى الله عنه. فمن جمع بين هذين الأمرين كانت مستعيذاً بالله حقاً). [تفسير سورة الفاتحة:94] |
الساعة الآن 07:06 PM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By
Almuhajir
جميع الحقوق محفوظة