جمهرة العلوم

جمهرة العلوم (http://jamharah.net/index.php)
-   منتدى جمهرة علوم القرآن الكريم (http://jamharah.net/forumdisplay.php?f=661)
-   -   مسائل كتاب جمع القرآن (http://jamharah.net/showthread.php?t=26370)

جمهرة علوم القرآن 15 محرم 1439هـ/5-10-2017م 01:50 PM

مصير مصحف عثمان

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (مصير مصحف عثمان

قال ابن وهب: سألتُ مالكاً عن مصحف عثمان رضي الله عنه فقال لي: «ذهب» رواه ابن أبي داود.

وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: (رأيت في الإمامِ مصحفِ عثمانَ بن عفان - استُخرج لي من بعض خزائن الأمراء ورأيت فيه دمه - في سورة البقرة " خطيكم " بحرف واحد والتي في الأعراف " خطيئتكم " بحرفين). رواه أبو عمرو الداني في المقنع.
وذكر نور الدين السمهودي (ت:911هـ) في كتابه "الوفاء بأخبار دار المصطفى" أن هذا النصّ في كتاب "القراءات" لأبي عبيد، وهو مفقود اليوم.
وقال ابن الجزري في النشر في مسألة رسم (ولات حين): (رأيتها مكتوبة في المصحف الذي يقال له: "الإمام" مصحف عثمان رضي الله عنه (لا) مقطوعة والتاء موصولة بحين، ورأيت به أثر الدم، وتبعت فيه ما ذكره أبو عبيد؛ فرأيته كذلك، وهذا المصحف هو اليوم بالمدرسة الفاضلية من القاهرة المحروسة)ا.هـ.

قال السمهودي في تعقيبه على كلام أبي عبيد: (وردَّه أبو جعفر النحاس بما تقدم من كلام مالك.
قال الشاطبي: وأباه المنصفون لأنه ليس في قول مالك «تغيّب» ما يدل على عدم المصحف بالكلية بحيث لا يوجد؛ لأن ما تغيَّب يُرجى ظهوره).
قال السمهودي: (قلت: فيحتمل أنه بعد ظهوره نقل إلى المدينة، وجُعل بالمسجد النبوي.
لكن يوهن هذا الاحتمال أن بالقاهرة مصحفا عليه أثر الدم عند قوله تعالى: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ} الآية كما هو بالمصحف الشريف الموجود اليوم بالمدينة، ويذكرون أنه المصحف العثماني، وكذلك بمكة، والمصحف الإمام الذي قتل عثمان رضي الله عنه وهو بين يديه لم يكن إلا واحداً، والذي يظهر أنَّ بعضهم وضعَ خَلُوقاً على تلك الآية تشبيهاً بالمصحف الإمام)ا.هـ.

ويؤيّد ما ذهب إليه السمهودي ما رواه عمر بن شبّة في تاريخ المدينة عن محرز بن ثابت مولى مسلمة بن عبد الملك، عن أبيه قال: كنت في حرس الحجاج بن يوسف، فكتب الحجاج المصاحف، ثم بعث بها إلى الأمصار، وبعث بمصحف إلى المدينة، فكره ذلك آل عثمان، فقيل لهم: أخرجوا مصحف عثمان يُقرأ، فقالوا: أصيب المصحفُ يومَ قتل عثمان رضي الله عنه.
قال محرز: (بلغني أن مصحف عثمان بن عفان صار إلى خالد بن عمرو بن عثمان).
قال: (فلما استُخلِف المهديُّ بعثَ بمصحفٍ إلى المدينة؛ فهو الذي يقرأ فيه اليوم، وعزل مصحف الحجاج، فهو في الصندوق الذي دون المنبر)). [جمع القرآن:128 - 129]


جمهرة علوم القرآن 15 محرم 1439هـ/5-10-2017م 01:52 PM

أسماء كتبة المصاحف العثمانية

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (أسماء كتبة المصاحف العثمانية
اختُلف في عدد الكَتَبةِ الذين كتبوا المصاحف العثمانية
- ففي صحيح البخاري عن أنس رضي الله عنه أن عثمان أمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوا الصحف التي كانت عند حفصة في المصاحف.
- وفي كتاب المصاحف من حديث ابن سيرين عن كثير بن أفلح أن عثمان جمع اثني عشر رجلاً من قريش والأنصار، منهم أبيّ بن كعب وزيد بن ثابت.
- وذكر ابن سيرين أن كثير بن أفلح مولى أبي أيّوب الأنصاري كان من كتاب المصاحف.
- وروى ابن أبي داوود في كتاب المصاحف من طريق عمارة بن غزية عن خارجة بن زيد أن الذي كان يملي على زيد هو أبان بن سعيد بن العاص، وهو وهم، والصواب أنه سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أبي أمية، وهو معدود في صغار الصحابة رضي الله عنهم، وأبان بن سعيد عمّه قتل يوم أجنادين في أوّل خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
قال الحافظ في الفتح: (قال الخطيب: ووهم عمارة في ذلك لأن أبانَ قتل بالشام في خلافة عمر، ولا مدخل له في هذه القصة، والذي أقامه عثمان في ذلك هو سعيد بن العاص ابن أخي أبان المذكور).ا.هـ.

وقد عُدّ منهم مالك بن أبي عامر الأصبحي الحميري(ت:74هـ) جدّ الإمام مالك بن أنس، وكان من القراء زمن عثمان بن عفان، وهو من أمدادِ حِمْيَر ليس معدوداً من المهاجرين ولا من الأنصار.
قال الإمام مالك في الموطأ: «ولا بأس بالحلية للمصحف، وإنَّ عندي مصحفا كتبه جَدّي إذْ كَتَب عثمان رضي الله عنه المصاحف، عليهِ فِضَّةٌ كثيرة».
وهذا ليس بنصٍّ على أنه كان من كُتّاب المصاحف العثمانية، وإنما يدلّ على أنَّه كتبه في ذلك الزمان؛ ويدلّ لذلك أنَّ هذا المصحف بقي في ملكه حتى ورثه حفيدُه الإمام مالك، ولو كان من المصاحف التي أُمر بكتابتها لمصلحة المسلمين لما كان له أن يتملَّكه.
وقد كَثُرَ استنساخُ المصاحف بعد أن جمع عثمان رضي الله عنه الناس على مصحف إمام؛ فالأظهر أن مراد الإمام مالك أن جدّه كتب ذلك المصحف لنفسه في ذلك الوقت.

قال ابن حجر: (ووقع من تسمية بقية من كتب أو أملى عند بن أبي داود مفرقا جماعة:
- منهم: مالك بن أبي عامر جدّ مالك بن أنس من روايته، ومن رواية أبي قلابة عنه.
- ومنهم: كثير بن أفلح كما تقدَّم.
- ومنهم أبيّ بن كعب كما ذكرنا.
-
ومنهم أنس بن مالك، وعبد الله بن عباس وقع ذلك في رواية إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع عن ابن شهاب في أصل حديث الباب.
فهولاء تسعة عرفنا تسميتهم من الاثني عشر.

وقد أخرج بن أبي داود من طريق عبد الله بن مغفل وجابر بن سمرة قال: قال عمر بن الخطاب: (لا يملين في مصاحفنا إلا غلمان قريش وثقيف) وليس في الذين سميناهم أحد من ثقيف، بل كلهم إمَّا قريشى أو أنصاري، وكأن ابتداء الأمر كان لزيد وسعيد للمعنى المذكور فيهما في رواية مصعب، ثم احتاجوا إلى من يساعد في الكتابة بحسب الحاجة إلى عدد المصاحف التي تُرسل إلى الآفاق؛ فأضافوا إلى زيد مَن ذُكِرَ ثم استظهروا بأبيّ بن كعب في الإملاء)ا.هـ.

قلت: تقدّم ما يتعلّق بجدّ الإمام مالك، وأما عدّ ابن عباس وأنس بن مالك فإن كان مستنده إنما هو ما رواه إبراهيم بن إسماعيل بن مجمّع الأنصاري عن الزهريّ؛ فلا يصحّ؛ لأنه متروك الحديث لكثرة وهمه وضعف سَمْعِه، وقد قال فيه البخاري: (كثيرُ الوهم في الزهري)). [جمع القرآن:130 - 132]


جمهرة علوم القرآن 15 محرم 1439هـ/5-10-2017م 01:56 PM

الجمع العثماني والأحرف السبعة

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (الجمع العثماني والأحرف السبعة
كانت المصاحف قبل جمع عثمان رضي الله عنه تكتب بحسب ما بلغ كاتبيها من القراءة التي تعلّموها؛ فيكتب كل واحد منهم مصحفه أو بعض السور على نحو ما أُقرئ، وكان القرآن يُقرأ على أحرف كما صحّت بذلك الأحاديث، وقد تقدّم بعضها.

فكانت مصاحف الصحابة والتابعين قبل جمع عثمان على وجوه من الأحرف السبعة؛
وكان ما أنزل الله من القرآن على الأحرف السبعة توسعة على الناس ورحمة بهم؛ فإنّ العرب كانت على قبائل مختلفة اللهجات وطرائق النطق، وحَمْل أهل كلّ لسان منهم على ما يخالف سجيتهم فيه مشقّة بالغة، ولا تستطيعه ألسنتهم إلا برياضة شديدة ومِرَان طويل، فكان من رحمة الله أن نزل القرآن على سبعة أحرف وكان الاختلاف في الأحرف السبعة على نوعين:
النوع الأول: اختلاف في طريقة نطق الحروف والكلمات كقراءة {الصراط} بالسين والصاد والزاي وبإشمام الزاي بالصاد؛ وهذه راجعة في الأصل إلى طريقةِ أهلِ كل لغةٍ من العرب في نطق هذه الكلمات.
والنوع الثاني: اختلاف في بعض الكلمات؛ كقوله تعالى: {وأتموا الحجّ والعمرة لله} وفي بعض الأحرف: [وأقيموا الحجّ والعمرة للبيت] ، وقوله تعالى: {وما خلق الذكر والأنثى} وفي قراءة أخرى: [والذكر والأنثى]، وقوله تعالى: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} وفي قراءة أخرى [وما أوتوا من العلم إلا قليلا]
وهذا النوع من الاختلاف منه ما نُسخت تلاوته، ومنه ما بقي حتى اجتمع الصحابة في عهد عثمان على جمع الناس على رسم واحد.

وأما النوع الأول من الاختلاف فقد قلَّ أثرُه بعد انتشار الإسلام وتداخل القبائل، واشتراك رجال تلك القبائل في الجهاد والغزوات، وفي سكنى بعض البلدان التي أنشئت بعد الفتوحات كالكوفة والبصرة وبعض حواضر الشام، وارتحل بعضهم لطلب العلم، وبعضهم للتجارة وطلب الرزق آمناً في بلاد المسلمين؛ وكثر ذلك منهم، حتى نشأ جيل ارتاضت ألسنتهم على التلاوة بلسان قريش، فلم يكن في جمع الناس على لسان قريش حرجٌ بعد ذلك.
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأمر بالإقراء بلغة قريش.
قال محمد بن الصباح البزاز: حدثنا هشيم، عن عبد الرحمن بن عبد الملك يعني ابن كعب بن عجرة، عن أبيه، عن جده، قال: كنت عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقرأ رجل من سورة يوسف (عتا حين) ، فقال عمر رضي الله عنه: «من أقرأك هكذا؟» قال: ابن مسعود.
فكتب عمر رضي الله عنه إلى ابن مسعود: «أما بعد، فإن الله أنزل هذا القرآن بلسان قريش، وجعله بلسان عربي مبين، فأقرئ الناس بلغة قريش، ولا تقرئهم بلغة هذيل، والسلام» رواه عمر بن شبة.
وقد اختار عثمان لإملاء المصاحف أعرب قريش لساناً وأفصحهم بياناً سعيد بن العاص، وكان فيما يذكرونَ عنه أشبهَ الناسِ لهجةً برسول الله صلى الله عليه وسلم، واختار لكتابة المصاحف أعلمَ الصحابة بالكتابة والخطّ زيد بن ثابت؛ فكان يكتب على نحو ما يُملي سعيد بن العاص في طريقة نُطْقِه وأَدائِه.

والعلاقة بين الجمع العثماني والأحرف السبعة من دقيق مسائل جمع القرآن، وفيها خلاف كثير بين أهل العلم.
1. فذهب الحارث المحاسبي وابن جرير الطبري وابن القيّم وجماعة من أهل العلم إلى أن عثمان حمل الناس على حرف واحد من تلك الأحرف السبعة.
قال ابن جرير: (وجمعهم [أي:عثمان] على مصحف واحد، وحرف واحد، وخَرَّق ما عدا المصحف الذي جمعهم عليه، وعزم على كل من كان عنده مُصحفٌ مخالفٌ المصحفَ الذي جمعهم عليه أن يخرقه؛ فاستوسقتْ له الأمة على ذلك بالطاعة، ورأت أنّ فيما فعلَ من ذلك الرشدَ والهداية، فتركت القراءة بالأحرف الستة التي عزم عليها إمامُها العادلُ في تركها، طاعةً منها له، ونظرًا منها لأنفسها ولمن بعدَها من سائر أهل ملتها، حتى دَرَست من الأمة معرفتها، وتعفت آثارها، فلا سبيلَ لأحد اليوم إلى القراءة بها، لدثورها وعُفُوِّ آثارها، وتتابعِ المسلمين على رفض القراءة بها، من غير جحود منها صحتَها وصحةَ شيء منها، ولكن نظرًا منها لأنفسها ولسائر أهل دينها؛ فلا قراءة للمسلمين اليوم إلا بالحرف الواحد الذي اختاره لهم إمامهم الشفيقُ الناصحُ، دون ما عداه من الأحرف الستة الباقية)ا.هـ.
وهذا القول لا يصحّ لأنَّ المصاحف العثمانية لم تكن منقوطة ولا مشكولة وقد وقع بينها اختلاف في بعض المواضع في الرسم، وكان القراء يقرؤون من قراءاتهم بما وافق الرسم، ويدعون ما خالف الرسم، فقرؤوا من الأحرف السبعة ما وافق الرسم، وبذلك نشأت القراءات المعروفة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (ليست هذه القراءات السبعة هي مجموع حرف واحد من الأحرف السبعة التي أنزل القرآن عليها باتفاق العلماء المعتبرين).
وقال الشيخ عبد الرحمن المعلمي: (كُتب القرآن بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم في قِطَعٍ من الجريد وغيره، تكون في القطعة الآية والآيتان وأكثر، وكان رسم الخطّ يومئذ يحتمل - والله أعلم - غالب الاختلافات التي في الأحرف السبعة، إذ لم يكن له شَكْل ولا نَقْط، وكانت تحذف فيه كثير من الألفات ونحو ذلك كما تراه في رسم المصحف، وبذاك الرسم عينه نُقِل ما في تلك القطع إلى صحف في عهد أبي بكر، وبه كتبت المصاحف في عهد عثمان، ثم صار على الناس أن يضبطوا قراءتهم، بأن يجتمع فيها الأمران: النقل الثابت بالسماع من النبي - صلى الله عليه وسلم -، واحتمال رسم المصاحف العثمانية.
وبذلك خرجت من القراءات الصحيحة تلك التغييرات التي كان يترخَّص بها بعض الناس، وبقي من الأحرف الستة المخالفة للحرف الأصلي ما احتمله الرسم)
ا.هـ.

2. وذهب بعض أهل العلم إلى أنّ جمع عثمان يحتمل الأحرف السبعة كلها، وهو بعيد مخالف لمقصود جمع عثمان رضي الله عنه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (ذهب طوائف من الفقهاء والقراء وأهل الكلام إلى أن هذا المصحف مشتمل على الأحرف السبعة وقرر ذلك طوائف من أهل الكلام كالقاضي أبي بكر الباقلاني وغيره؛ بناء على أنه لا يجوز على الأمة أن تهمل نقل شيء من الأحرف السبعة)ا.هـ.
وقال الحافظ ابن الجزري في النشر: (ذهب جماعات من الفقهاء والقرّاء والمتكلمين إلى أن المصاحف العثمانية مشتملة على جميع الأحرف السبعة، وبنوا ذلك على أنه لا يجوز على الأمة أن تهمل نقل شيء من الحروف السبعة التي نزل القرآن بها)ا.هـ.
وهذا كما تراه استناد على غير الأثر.
وقال ابن الجزري في منجد المقرئين: (إذا قلنا: إنَّ المصاحف العثمانية محتوية على جميع الأحرف السبعة التي أنزلها الله تعالى كان ما خالف الرسم يقطع بأنه ليس من الأحرف السبعة، وهذا قول محظور لأن كثيرا مما خالف الرسم قد صح عن الصحابة رضي الله عنهم، وعن النبي صلى الله عليه وسلم).
وقال أيضاً: (نحن نقطع بأن كثيراً من الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يقرؤون بما خالف رسم المصحف العثماني قبل الإجماع عليه من زيادة كلمة وأكثر، وإبدال أخرى بأخرى، ونقص بعض الكلمات كما ثبت في الصحيحين وغيرهما، ونحن اليوم نمنع من يقرأ بها في الصلاة وغيرها منع تحريم لا منع كراهة، ولا إشكال في ذلك، ومن نظر أقوال الأولين علم حقيقة الأمر، وذلك أن المصاحف العثمانية لم تكن محتوية على جميع الأحرف السبعة التي أبيحت بها قراءة القرآن كما قال جماعة من أهل الكلام وغيرهم بناء منهم على أنَّه لا يجوز على الأمة أن تُهمل نقل شيء من الأحرف السبعة)ا.هـ.

3. والراجح أن عثمان اختار من الأحرف السبعة ما وافق لغة قريش والعرضة الأخيرة وقراءة العامّة، وبقي الرسم العثماني محتملاً لبعض ما في الأحرف الأخرى.
قال مكيّ بن أبي طالب القيسي(ت:437هـ): (فالمصحف كتب على حرف واحد، وخطه محتمل لأكثر من حرف إذ لم يكن منقوطاً ولا مضبوطاً).
وقال في موضع آخر: (إن هذه القراءات كلها التي يقرأ بها الناس اليوم، وصحت روايتها عن الأئمة، إنما هي جزء من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، ووافق اللفظ بها خط المصحف، مصحف عثمان الذي أجمع الصحابة فمن بعدهم عليه، واطرح ما سواه مما يخالف خطه).
وقال أحمد بن عمار المقرئ(ت:440هـ): (أصحُّ ما عليه الحذاق من أهل النظر في معنى ذلك إنما نحن عليه في وقتنا هذا من هذه القراءات هو بعض الحروف السبعة التي نزل عليها القرآن). نقله أبو شامة في المرشد الوجيز.
وقال ابن الجزري: (وذهب جماهير العلماء من السلف والخلف وأئمة المسلمين إلى أن هذه المصاحف العثمانية مشتملة على ما يحتمله رسمها من الأحرف السبعة فقط، جامعة للعرضة الأخيرة التي عرضها النبي صلى الله عليه وسلم على جبرائيل عليه السلام - متضمنة لها لم تترك حرفا منها).
قال: (وهذا القول هو الذي يظهر صوابه؛ لأن الأحاديث الصحيحة والآثار المشهورة المستفيضة تدلُّ عليه وتشهد له).
وقال الحافظ ابن حجر: (والحق أن الذي جُمع في المصحف هو المتفق على إنزاله المقطوع به المكتوب بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه بعض ما اختلف فيه الأحرف السبعة لا جميعها، كما وقع في المصحف المكي {تجري من تحتها الأنهار} في آخر براءة وفي غيره بحذف من، وكذا ما وقع من اختلاف مصاحف الأمصار من عدة واوات ثابتة في بعضها دون بعض، وعدة هاءات، وعدة لامات، ونحو ذلك، وهو محمول على أنه نزل بالأمرين معاً)ا.هـ.

ومما ينبغي أن يُعلم أنَّ المعوَّل في القراءة والإقراء على السماع، وإنما يُستفاد من الكتابة في أمرين:
الأمر الأول: أن يستعين القارئ بالمصحف على تذكّر ما قد ينساه؛ فيقرأه على نحو ما أُقرئ سماعاً.
والأمر الثاني: أن يُقرئ القرّاءُ في ذلك الزمان الناسَ بما وافق الرسم العثماني، وأن يدعوا الإقراء بما خالفه وإن كان صحيحاً.

ومن هنا نشأت القراءات المعروفة لأنّ القراء التزموا القراءة بالرسم العثماني، لكن بقي من الاختلاف في القراءات أربعة أنواع احتملهما الرسم في المصاحف العثمانية:
النوع الأول: الاختلاف في طرائق نطق بعض الحروف والكلمات؛ ويدخل في ذلك الاختلاف في الهمز والتسهيل والإبدال والإشمام والإمالة والإدغام والمدّ والقصر وغيرها، ومن هذا النوع الاختلاف في نطق الصاد في قوله تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم} مع اتحاد رسمها في المصاحف بالصاد، والأصل في الكلمة (السراط) بالسين لأنها مشتقة من السَّرط، وقد نقل أبو منصور الأزهري عن بعض علماء اللغة أن السراط إنما سمّي سراطاً لأنّه يسترط المارّة؛ فعدول الصحابة إلى كتابة هذه الكلمة ونحوها بالصاد دون السين لا بد أن يكون له غرض، وقد اجتهد العلماء في تلمّس ذلك الغرض؛ فقال ابن الجزري: (انظر كيف كتبوا الصراط والمصيطرون بالصاد المبدلة من السين، وعدلوا عن السين التي هي الأصل لتكون قراءة السين وإن خالفت الرسم من وجه قد أتت على الأصل فيعتدلان، وتكون قراءة الإشمام محتملة، ولو كتب ذلك بالسين على الأصل لفات ذلك، وعُدَّت قراءة غير السين مخالفة للرَّسم والأصل).

والنوع الثاني: الاختلاف في ضبط بعض الكلمات وهو على قسمين:
- قسم لا يتغيّر به المعنى كالاختلاف في {ضَعْف} و{ضُعف} قرأ عاصم وحمزة بفتح الضاد والباقون بضمها، و{ميسَرة} قرأها نافع {ميسُرة} بضمّ السين، والباقون بفتحها، وقوله تعالى: {بنُصْبٍ وعذاب} قرأها أبو جعفر {بنُصُبٍ} وقرأها يعقوب {بنَصَبٍ}، وقوله تعالى: {الرُّشْد} قرأه حمزة والكسائي [الرَّشَد] بفتح الرَّاء والشين، وهما لغتان، وغير ذلك كثير.
- وقسم يتغيّر به المعنى كالاختلاف في قوله تعالى: {يَطْهُرن} قرأه حمزة والكسائي: {يطَّهَّرن} والاختلاف في قوله: {فعدَلَك} قرأه الكوفيون بالتخفيف، والباقون بالتشديد {فعدَّلك}، وقوله: {بل عجبتَ ويسخرون} قرأه حمزة والكسائي بضمّ التاء {بل عجبتُ} والباقون بفتحها.
- وقريب من هذا القسم الاختلاف في نطق الأحرف المتقاربة مع اتحاد الرسم كالاختلاف في قوله: {ظنين} و{ضنين}، وقد يختلف الرسم اختلافاً يسيراً كما في قوله تعالى: {ونزل الملائكة تنزيلا} بنون واحدة في أكثر المصاحف، وفي المصحف المكي بنونين: [ونُنْزِل الملائكة] وهي قراءة ابن كثير المكّي.

والنوع الثالث: الاختلاف الذي يكون سببه عدم النقط؛ فإنَّ الكتابة في ذلك الوقت لم تكون منقوطة ولا مشكولة، ولذلك احتمل الرسم أن يقرأ نحو قول الله تعالى: {وما الله بغافل عما يعملون} بالياء وبالتاء، وقوله: {فتبينوا} قرئ: {فتثبتوا} إذ كان كلّ ذلك من الأحرف التي قرئ بها القرآن، والرسم يحتملها لعدم النقط في زمن الجمع العثماني.

والنوع الرابع: ما اختلف فيه الرسم بين المصاحف العثمانية، وهي أحرف يسيرة نقلها الرواة، ومن أمثلتها ما كتب في بعض المصاحف في سورة الحديد: {فإن الله هو الغني الحميد} وفي المصحف المدني والشامي [فإنّ الله الغني الحميد] بغير (هو) وهي قراءة نافع المدني وابن عامر الشامي، وقوله تعالى في سورة التوبة {تجري تحتها الأنهار} وفي المصحف المكّي وقراءة ابن كثير: {تجري من تحتها الأنهار}.
وهذا النوع قليل في رسم المصاحف، وهو مما تحتمله الأحرف السبعة؛ إذ كان المعوّل على ما ثبتت القراءة به سماعاً من أفواه القرَّاء.

وقد اختلف العلماء في أسباب اختلاف الرسم بين المصاحف العثمانية، فمِن زاعمٍ أنَّ عثمان أراد أن يجمع الأحرف السبعة كلَّها وهذا بعيد، لثبوت ترك القراءة ببعض الأحرف التي كان يُقرأ بها.

وذهب بعضهم إلى أنهم أرادوا الإشارة إلى اختلاف الأحرف، وجمع ما يستطاع من ذلك، وهذا يردّه أمران:
أحدهما: أنه خلاف المقصود من الجمع العثماني.
والثاني: أنهم لو أرادوا ذلك لكتبوا سائر الأحرف التي تُركت القراءة بها بهذه الطريقة؛ فكتبوا في بعض المصاحف [وأقيموا الحج والعمرة للبيت] وفي بعضها: {وأتموا الحجّ والعمرة لله} وهكذا في سائر الأحرف التي كان يقرأ بها قبل جمع عثمان). [جمع القرآن:133 - 142]

جمهرة علوم القرآن 15 محرم 1439هـ/5-10-2017م 02:00 PM

أمثلة لما تُرك من الأحرف السبعة:

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (أمثلة لما تُرك من الأحرف السبعة:
قال الإمام الشافعي: أخبرنا سفيان عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال: (ما سمعت عمر يقرؤها قط إلا قال: [فامضوا إلى ذكر الله]).
وهذا إسناد غاية في الصحة على شرط الشيخين.
ورواه عبد الرزاق من طريق معمر وغيره عن ابن شهاب الزهري عن سالم عن ابن عمر قال: (لقد توفي عمر وما يقرأ هذه الآية التي في سورة الجمعة إلا [فامضوا إلى ذكر الله]).
وصحّ عن إبراهيم النخعي وقتادة أنّ ابن مسعود كان يقرأها كذلك.

وقد ذكر مكيّ بن أبي طالب القيسي في كتابه "الإبانة عن معاني القراءات" أمثلة لما بلغه من الأحرف الأخرى في سورة الفاتحة ليبيّن كثرة الاختلاف الذي سبق جمع عثمان؛ فقال: (ذكر اختلاف الأئمة المشهورين، غير السبعة في سورة الحمد مما يخالف خط المصحف، فلا يُقرأ به اليوم:
- قرأ أبو هريرة: [مليك يوم الدين] بياء بين اللام والكاف، وهو معنى حسن؛ لأنه بناء للمبالغة.
- قرأ ابن السوار الغنوي: [هياك نعبد وهياك نستعين] بالهاء في موضع الهمزة، وهي لغة قليلة، أكثر ما تقع في الشعر.
- روى الأصمعي عن أبي عمرو أنه قرأ: [الزراط] بزاي خالصة، وهو حسن في العربية.
- قرأ الحسن البصري: [اهدنا صراطاً مستقيما] منونتين من غير ألف ولام فيهما، وبذلك قرأ الضحاك، وهو معنى حسن لولا مخالفته للمصحف.
- قرأ جعفر بن محمد: [اهدنا صراط المستقيم] بإضافة الصراط إلى المستقيم من غير ألف ولام في الصراط، وهو جائز في العربية كدار الآخرة.
- قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [صراط مَن أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم وغير الضالين]، فجعل "من" في موضع "الذين" و"غير" في موضع "لا"، وهو في المعنى حسن كالذي قرأ الجماعة في المعنى. وهو مروي أيضا عن أبي بكر رضي الله عنهما.
- قرأ ابن مسعود: [أرشدنا الصراط] في موضع "اهدنا"، والمعنى واحد.
- قرأ ثابت البناني: [بصرنا الصراط] في موضع اهدنا والمعنى واحد.
- قرأ ابن الزبير: [صراط مَن أنعمت عليهم] مثل قراءة عمر في هذا الحرف وحده)ا.ه.
ثم قال: (وهذا الاختلاف الذي يخالف خطَّ المصحف، وما جاء منه مما هو زيادة على خطِّ المصحف، أو نقصان من خط المصحف، وتبديل لخط المصحف، وذلك كثير جدا: هو الذي سمع حذيفة في المغازي، وسمع ردّ الناس بعضهم على بعض، ونكير بعضهم لبعض، فجرَّأه ذلك على إعلام عثمان رضي الله عنه، وهو الذي حدا عثمان على جمع الناس على مصحف واحد، ليزول ذلك الاختلاف فافهمْه).
قال: (فهذا المثال من الاختلاف الثالث، هو الذي سقط العمل به من الأحرف السبعة، التي نص عليها النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الأكثر في القرآن من الاختلاف، وإنما قرئ بهذه الحروف التي تخالف المصحف قبل جمع عثمان رضي الله عنه الناسَ على المصحف، فبقي ذلك محفوظا في النقل غير معمول به عند الأكثر، لمخالفته للخطّ المجمع عليه).
ثم قال: (فإنما مثَّلت لك ذلك لتقف عليه، وتعرف قدر الاختلاف في هذه السورة على قلة حروفها، فكيف يظن الاختلاف فيما طال من السور؟!
فتعلم بذلك كله المثالات التي اختلف القراء فيها، وما يجوز أن يقرأ به، وما لا يجوز، وما زاد من الاختلاف على قراءة السبعة المشهورين، وأن قراءتهم لم تحتو على الأحرف السبعة، التي نص النبي "صلى الله عليه وسلم" عليها، وأنها ليست بحرف واحد، كما ذكرنا من قول الطبري أنَّ ما زاد على قراءة في كل حرف فهو من السبعة الأحرف، قرئ به لموافقته لخط المصحف على ما قدمنا وبيَّنَّا، وبالله التوفيق)
ا.هـ.

وقال ابن الجزري في النشر: (قراءة عبد الله بن مسعود وأبي الدرداء: [والذكر والأنثى] في {وما خلق الذكر والأنثى} وقراءة ابن عباس [وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبا وأما الغلام فكان كافرا] ونحو ذلك مما ثبت بروايات الثقات، واختلف العلماء في جواز القراءة بذلك في الصلاة، فأجازها بعضهم لأن الصحابة والتابعين كانوا يقرءون بهذه الحروف في الصلاة، وهذا أحد القولين لأصحاب الشافعي وأبي حنيفة وإحدى الروايتين عن مالك وأحمد.
وأكثر العلماء على عدم الجواز؛ لأن هذه القراءات لم تثبت متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإن ثبتت بالنقل فإنها منسوخة بالعرضة الأخيرة أو بإجماع الصحابة على المصحف العثماني...)
). [جمع القرآن:142 - 145]

جمهرة علوم القرآن 15 محرم 1439هـ/5-10-2017م 02:47 PM

الباب الثامن: الفرق بين جمع أبي بكر وجمع عثمان رضي الله عنهما

الفرق بين جمع أبي بكر وجمع عثمان رضي الله عنهما

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (الفرق بين جمع أبي بكر وجمع عثمان رضي الله عنهما
مبحث الفرق بين جمع أبي بكر وجمع عثمان من أدقّ مباحث جمع القرآن، وقد كثر النزاع في تفصيل الفروق بين الجمعين في القرون المتأخرة، ولم يؤثر عن السلف في هذا المبحث خلاف، وكان أصل مبعث الخلاف لدى المتأخرين ما عرض لبعضهم من
الإشكالات بسبب اختلافهم في فهم بعض الآثار المروية في هذا الباب، وضعف بعضها، والتزام ما لا يلزم؛ فأدّت بهم محاولات الخروج من تلك الإشكالات إلى دعاوى لا تصحّ، وذكر احتمالات لا يقتضيها الاستدلال الصحيح، ولا يوقف على حقيقتها.

وسلك المحققون من أهل العلم مسلك التمحيص والتدقيق، وتمييز صحيح الآثار من ضعيفها، ومقبولها من مردودها، وتعرّفوا علل الآثار المروية بأسانيد ظاهرها الصحة، وفي متونها ما يستنكر، وفرَّقوا بين ما يلزم وما لا يلزم؛ فتبيّن لهم من العلم الصحيح ما تزول به الإشكالات وتندفع به الاعتراضات، وظهر لهم خطأ كثير من تلك الدعاوى المتأخرة التي لا نجد لها أثراً في القرون الفاضلة.

وكلام الأئمة المحققين في هذا المبحث
متفرّق في كتب القراءات، وعلوم القرآن، وكتب العقيدة، وشروح الحديث، والرسائل المفردة؛ فحرصت على جمع ذلك في موضع واحدٍ وترتيبه وتلخيصه؛ وشرح ما يحسن شرحه، فكان هذا المبحث في المسائل التالية:
المسألة الأولى: هل كان جمع أبي بكر الصديق في مُصحَف أو صحف غير مرتبة السور؟
المسألة الثانية: هل كان مصحف أبي بكر جامعاً للأحرف السبعة؟
المسألة الثالثة: هل كلّ ما خالف المصاحف العثمانية منسوخ بالعرضة الأخيرة؟
المسألة الرابعة: هل كان المصحف الذي جمعه عثمان نسخةً مطابقة لمصحف أبي بكر حرفاً بحرف؟
المسألة الخامسة: الخلاصة في الفرق بين جمع أبي بكر وجمع عثمان رضي الله عنهما). [جمع القرآن:147 - 148]

جمهرة علوم القرآن 15 محرم 1439هـ/5-10-2017م 02:50 PM

المسألة الأولى: هل كان جمع أبي بكر الصديق في مُصحَف أو صحف غير مرتبة السور؟

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (المسألة الأولى: هل كان جمع أبي بكر الصديق في مُصحَف أو صحف غير مرتبة السور؟
ذهب عبد الواحد بن عمر الصفاقسي المعروف بابن التين (ت:611هـ) في شرحه على صحيح البخاري فيما نقله عنه ابن حجر في فتح الباري إلى أنّ ما جمعه أبو بكر كان في صحائف متفرقة، وأن آيات كلّ سورة فيه مرتبة، غير أنّه لم يكن مرتباً على السور، وأنّ عثمان هو الذي جمع القرآن في مصحف واحد ورتّبه على السور.
وهذا القول لم يتعقّبه ابن حجر، ونقله السيوطي أيضاً في الإتقان ولم يتعقّبه؛ فاشتهر في كتب علوم القرآن، وهو خطأ بيّن فقد صحّ أن أبا بكر رضي الله عنه قد جمع القرآن بين دفّتين.
وقد تقدّم قول عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: (رحم الله أبا بكر، كان أعظم الناس أجرا في القرآن، هو أول من جمعه بين اللوحين). رواه ابن أبي شيبة وأبو نعيم وابن أبي داوود وغيرهم.
وقال صعصعة بن صوحان العبدي وكان من القراء في زمن عثمان: «أول من جمع بين اللوحين، وورَّث الكلالةَ أبو بكر» رواه ابن أبي شيبة.
ومن ضرورة جمعه بين لوحين أن يكون له ترتيب، وإن لم نقف على تعيينه.
وأما الآثار التي فيها أنَّ أبا بكر جمع القرآن في قراطيس أو صحف فينبغي أن تفهم بما يوافق هذه الآثار ولا يخالفها؛ فهي في قراطيس مجموعة في مصحف واحد، وفي صحف بين لوحين.
والكلام في ترتيب السور يأتي في الباب القادم إن شاء الله تعالى). [جمع القرآن:148 - 149]

جمهرة علوم القرآن 15 محرم 1439هـ/5-10-2017م 02:54 PM

المسألة الثانية: هل كان مصحف أبي بكر جامعاً للأحرف السبعة؟

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (المسألة الثانية: هل كان مصحف أبي بكر جامعاً للأحرف السبعة؟
القولُ بأنّ مصحف أبي بكر رضي الله عنه كان جامعاً للأحرف السبعة لم يكن معروفاً في القرون الأولى، وفي نشأة هذا القول خطأ والتباس ينبغي توضيحه.
وأصل ذلك أنَّ أبا الحسن الأشعري (ت:324هـ) زعم أنّ حفظ القرآن شامل لحفظ الأحرف السبعة، وحكى الإجماع على أنه لا يجوز منع القراءات بالأحرف التي نزل بها القرآن، وهذه مصادَمةٌ لإجماع الصحابة رضي الله عنهم على ترك القراءة بما خالف المصحف الإمام من الأحرف الأخرى.
قال بدر الدين العيني في عمدة القارئ: (قال الشيخ أبو الحسن الأشعري: أجمع المسلمون على أنه لا يجوز حظر ما وسَّعه الله تعالى من القراءات بالأحرف التي أنزلها الله تعالى، ولا يسوغ للأمة أن تمنع ما يطلقه الله تعالى، بل هي موجودة في قراءتنا، وهي مفرقة في القرآن غير معلومة بأعيانها)ا.هـ.
وأبو الحسن الأشعري عفا الله عنه له أقوال كثيرة في القرآن مخالفة لاعتقاد أهل السنة والجماعة، وكان الأولى بهذا القول أن يُردَّ ويبيَّن خَطؤه.
لكن أتى تلميذُ تلاميذه القاضي أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني المالكي (ت:403هـ) فنصر هذا القول في كتابه "الانتصار" وأظهره في مظهر الانتصار لحفظ القرآن؛ فذهب إلى أن جميعَ هذه الأحرف السبعة قد كانت ظهرت واستفاضت عن الرسول صلى الله عليه وسلم وضبطتها الأمة عنه، وأن عثمان والجماعة قد أثبتت جميع تلك الأحرف في المصاحف، وأخبرت بصحتها.
وزعم أنّ ما تركه عثمان إنما هي أحرف غير معروفة ولا ثابتة، وأنها كانت منقولة عن الرسول صلى الله عليه وسلم نقل الآحاد التي لا يجوزُ إثبات قرآن وقراءات بها، وأنّ المصاحف التي أحرقها عثمان إنما أحرقها لما فيها من التخليط والفساد في الضبط..) إلى آخر ما قال.
وهذه الجُمَل فيها أخطاء بيّنة، ومخالَفة لما صحّ من الآثار عن الصحابة رضي الله عنهم، وهي مبنية على أصل التلازم بين حفظ القرآن وحفظ الأحرف السبعة، فأدّاه هذا التلازم إلى القول بأنّ جمع عثمان مشتمل على الأحرف السبعة، وأنّ ما خالفه غير ثابت؛ فهو - عنده- إمَّا منقول بخبر الآحاد أو منسوخ، أو مغيَّر بسبب سوء الضبط.
وأبو بكر الباقلاني من كبار نُظَّار الأشاعرة ومتكلّميهم أخذ علم الكلام عن ابن مجاهد الطائي صاحب أبي الحسن الأشعري، وإليه انتهت رئاسة المالكيين في زمانه، لكنه كان غير متمكّن في علم القراءات، وكان الأولى أن يُردّ قولُه ويُبيّن خطؤه.
لكن أتى بعده تلميذه أبو عمرو الداني، وهو على جلالة قدره في علم القراءات وحرصه على توخّي السنّة إلا أنّه ابتلي بالتتلمذ على بعض الأشاعرة، ومن أشهرهم: شيخه أبو بكر الباقلاني، وأبو عمران الفاسي، وأبو الحسن القابسي، وأخذ أيضاً عن بعض أئمة أهل السنة كابن أبي زمنين وغيره، وله عناية ظاهرة بتعظيم السنة والتحذير من البدع.
وكان يُجِلُّ أبا بكر الباقلاني ويعظّمه مع مخالفته له في كثير من المسائل، لكنه تابعه في جملة منها، وله رسالة في العقيدة مطبوعة باسم "الرسالة الواعية" وطبعت أيضاً باسم "الرسالة الوافية" هذّب فيها كثيراً مما ذكره القاضي أبو بكر الباقلاني في كتابه "الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به في علم الكلام"
ولذلك لا تعدّ تلك الرسالة من الرسائل الخالصة في وصف اعتقاد أهل السنة، ولا من الرسائل المعدودة في عقائد الأشاعرة.
وهو من أهل السنة من حيث الجملة إلا أنّه لا يُتابع على ما وافق فيه الأشاعرة من المسائل التي ذكرها في رسائله في الاعتقاد وفي علوم القرآن.

ومسألتنا التي نبحث فيها كان أصل بحثها عَقَدياً لما تقدّم شرحه، ولما كان لها تعلّق بجمع القرآن ورسم المصاحف ذكرها أبو عمرو الداني في كتابه "المقنع في رسم مصاحف الأمصار" لكنّه هذّب قول الباقلاني المتقدّم، فقال: (فإن قال قائل: فإذْ قد أَوضحتَ ما سُئلتَ عنه من تأوّل هذين الخبرين؛ فعرّفنا بالسبب الذي دعا عثمان رضي الله عنه إلى جمع القرآن في المصاحف، وقد كان مجموعا في الصحف عَلَى ما رويته لنا في حديث زيد بن ثابت المتقدم؟
قلت: السبب في ذلك بيّن؛ فذلك الخبر على قول بعض العلماء وهو أنَّ أبا بكر رضي الله عنه كان قد جمعه أَولاً عَلى السبعة الأحرف التي أَذِن الله عزَّ وجلَّ للأمّة في التلاوة بها، ولم يخصَّ حرفا بعينه؛ فلمَّا كان زمان عثمان ووقع الاختلاف بين أهل العراق وأهل الشام في القراءة وأَعلمه حذيفةُ بذلك رأَى هو ومن بالحضرة من الصحابة أن يُجمع الناس على حرف واحد من تلك الأحرف، وأن يسقط ما سواه؛ فيكون ذلك مما يرتفع به الاختلاف ويوجب الاتفاق، إذ كانت الأمّة لم تؤمر بحفظ الأحرف السبعة، وإنما خُيّرت في أيّها شاءت لزمته وأجزأها؛ كتخييرها في كفارة اليمين بالله بين الإطعام والكسوة والعتق، لا أن يجمع ذلك كله فكذلك السبعة الأحرف.
وقيل: إنما جمع الصحف في مصحف واحد لما في ذلك من حياطة القرآن وصيانته وجعل المصاحف المختلفة مصحفا واحداً متفقا عليه وأسقط ما لا يصحّ من القراءات ولا يثبت من اللغات، وذلك من مناقبه وفضائله رضي الله عنه)
ا.هـ.

وهذا كما ترى فيه ردٌّ لكثير مما ذهب إليه الباقلاني مما يخالف ما هو متقرر لدى أهل القراءات، لكنَّه نقلَ دعوى جمع الأحرف السبعة من مصحف عثمان إلى مصحف أبي بكر.
ومصحف أبي بكر مفقود لا يمكن الوقوف عليه، ولم يُنقل خَبَرُ ما فيه على التحقيق، ولذلك قال: (فذلك الخبر على قول بعض العلماء، وهو أنَّ أبا بكرٍ رضي الله عنه كان قد جمعه أَولاً عَلى السبعة الأحرف)
وهذا القول ليس مما ثبت لديه بنقل صحيح، وقد علم القُرّاء أنَّ رَسْمَ مصحف أبي بكر ليسَ له إسناد يُنقل به علم ما فيه، كما تنقل أحرف القراءات، ومسائل الرسم العثماني، وعدّ الآي، وغيرها من علوم القراءات والمصاحف.
وإنما هو اجتهاد في محاولة الجمع بين ما قرَّرَه شيخُه أبو بكر الباقلانيّ وبين ما هو متقرر لدى أهل القراءات لإيجاد جوابٍ عن سؤال الفرق بين جمع أبي بكر وجمع عثمان؛ فخرج بهذا الاحتمال المبني على فرض التسليم بصحة هذا القول.

وأبو عمرو الداني من علماء القراءات الكبار؛ وقد ذكر هذه المسألة في كتابه "المقنع في رسم مصاحف الأمصار"؛ فلذلك حَمَل عنه هذا القول من لم يعرف علَّته، بل تلقّاه بعض العلماء على أنّه صحيح متقرر، وهو إنما ذكره احتمالاً، وقولاً من قولين فيهما نظر.
وهذه العلّة كانت فيما يظهر لي هي منشأ شهرة هذا القول؛ وذلك لشهرة كتاب "المقنع" لأبي عمرو الداني وكثرة الناقلين عنه.
ثمّ أتى بعده أبو القاسم الشاطبي(ت:590هـ) فنظم المقنع في منظومته التي سماها "عقيلة أتراب القصائد في أسنى المقاصد في علم رسم المصاحف"
وكان مما قال فيها:
إن اليمامة أهواها مسيلمة الـ ... ـكذاب في زمن الصديق إذ خسرا
وبعد بأس شديد حان مصرعه ... وكان بأساً على القراء مستعرا
نادى أبا بكرٍ الفاروقُ: خفتُ على الـْ ... ـقراء فادرك القرآن مستطرا
فأجمعوا جمعه في الصحْف واعتمدوا ... زيدَ بن ثابتٍ العدلَ الرضا نظرا
فقام فيه بعون الله يجمعه ... بالنصح والجدّ والحزم الذي بهرا
من كل أوجهه حتى استتمّ له ... بالأحرف السبعة العليا كما اشتهرا).


وهذا كما ترى إنما هو نظم لما في المقنع، وقد صرّح بنظم المقنع في منظومته فقال:
وهاك نظم الذي في "مقنعٍ" عن أبي ... عمروٍ وفيه زياداتٌ فَطِبْ عُمُرا
وقد أثنى في منظومته على أبي بكر الباقلاني وكتابيه "الانتصار للقرآن" و"إعجاز القرآن" بقوله:
لله درّ الذي تأليف "معجزه" ... و"الانتصار" له قد أوضح الغُررا

ثمّ أتى بعده تلميذه علم الدين السخاوي (ت:643هـ) شيخ القراء بدمشق؛ فشرح هذه المنظومة في كتابه "الوسيلة إلى كشف العقيلة" فقال في شرح تلك الأبيات المتقدّمة: (فإن قيل: فقد زعمتم أن زيداً كان جامعاً للقرآن؛ فما هذا التتبع والطلب لشيء يحفظه ويعلمه؟!!
فالجواب: أنه كان يتتبع وجوهه وقراءاته، ويسأل عنها غيره ليحيط بالسبعة التي نزل بها القرآن، وكذلك نظره في الرقاع والعسب واللخاف التي قد عرف كتابتها وتيقّن أمرها.
قال: ويجوز أن تكون تلك الرقاع والعسب واللخاف والأكتاف مما كُتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الظاهر، وعليه يُحمل قوله: (فوجدت آخر سورة براءة مع خزيمة) يعني الصحيفة التي فيها الآية.
وإذا كانت مما كتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا بدّ من النظر فيها، وإن كان حافظاً ليستظهر بذلك، وليعلم هل فيها قراءة غير قراءته أم لا؟)
.ا.هـ.
فجعل هذا القول احتمالاً من احتمالين، وجعل الثاني هو الظاهر، ولم يبنِ الاحتمال الأوّل على دليل يُعتمد عليه، وإنما هو حكاية لقول قيل في هذه المسألة، وقد علمتَ أصلَ نشأته وعلّته.

ومن أخذ هذه النقول غير مرتّبة ترتيباً يَكشِفُ عِلَّتها ربما قُذف في نفسه أنها مستندة على حُجّة يُعتمد عليها، وهي دعوى كبيرة لا يمكن قبولها إلا بنقل ثابت.

وهذه الدعوى يلزم منها القول بأن مصحف أبي بكر قد كُتب سبع مرات أو أن تكون كتابة المصحف بالجمع بين الأحرف السبعة في الرسم في المصحف الواحد وهو أمر غير ممكن؛ إذ يلزم منه أن تكرر كتابة الكلمة أو الآية التي فيها اختلاف ضبط أو اختلاف تقديم وتأخير، وهذه دعوى محدثة.
ولا حاجة إلى هذه الدعوى للجواب عن سؤال الفرق بين الجمعين، فإنَّ أبا بكر قد جمع المصحف بين اللوحين نسخة واحدة، وليس نسخاً متعددة لكل حرف نسخة، ولم يُؤثر أن جمعها كان فيه تكرار لكتابة بعض الكلمات على عدد الأحرف المقروءة بها، ولم يكونوا يقرءون بالجمع بين القراءات، وإنّما كان يقرأ كلّ قارئ منهم كما عُلّم، وكلّ قراءة منها كافية شافية، وبأيّ حرف منها كُتب المصحف فهو صحيح كافٍ فيما كُتب لأجله.
وكان مستند القراءة على السماع لا على الرسم، وقد كتب الصحابة بعد ذلك مصاحف بحسب ما قرأ كاتبوها؛ فكان لابن مسعود مصحف، ولأبيّ بن كعب مصحف، ولأبي موسى الأشعري مصحف، وكان بين هذه المصاحف اختلاف في بعض الأحرف من زيادة بعضها على بعض، وتقديم وتأخير، وإبدال كلمة بأخرى، واختلاف ضبط، مما يكون مستندهم فيه أصلاً السماع، ويكتبون مصاحفهم بحسب ما أُقرئوا، وكان منها صُحُفٌ من إملاءِ النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد بَقيت تلك المصاحف والصحف حتى جمع عثمان الناس على رسم واحد في الجملة، وأحرق ما خالفه من المصاحف.
والقول بأنّ جمع أبي بكر كان حاوياً للأحرف السبعة لا يصحّ عن أحد من السلف.

وقال ابن عبد البرّ (ت:463هـ) في التمهيد: (وأمّا جمع أبي بكرٍ للقرآن فهو أوّل من جمع ما بين اللّوحين، وجمع عليّ بن أبي طالبٍ للقرآن أيضًا عند موت النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وولاية أبي بكرٍ فإنّما كلّ ذلك على حسب الحروف السّبعة لا كجمع عثمان على حرفٍ واحدٍ، حرف زيد بن ثابتٍ وهو الّذي بأيدي النّاس بين لوحي المصحف اليوم)ا.هـ.
وهذا كما ترى فيه إجمال من جهة الحروف السبعة، وفيه خطأ في مواضع أخرى.
فإنّ قوله: (فإنّما كلّ ذلك على حسب الحروف السبعة) كلام مجمل وأولى ما يحمل عليه أن يقال: إنّ مراده أن جمع أبي بكر كان على وجوه من الأحرف السبعة لم يتقيّد فيها بلسان قريش، ولا باختيار حرف بعينه.
وقد يُفهم منه أنه أراد أنّ جمع أبي بكر وجمع عليّ بن أبي طالب كان مشتملا على الأحرف السبعة.
وهذا – إن كان هو مراده – فلعله فَهِم من جمع عثمان الناسَ على حرف واحد أنّ جمع أبي بكر كان على الأحرف السبعة، وأنّ جمع عليّ بن أبي طالب كان كذلك، وكلا الأمرين غيرُ لازمين.
فإنّ مصحف أبي بكر لم يكن شائعاً في الناس، ولم يكنِ القُرَّاءُ كابن مسعود وأبي موسى وأبي الدرداء وأبيّ بن كعب - وهم أشهر قراء الأمصار في زمانهم - لم يكونوا يعتمدونه في الإقراء، وإنما كان يقرأ كلّ واحد منهم كما أقرأه النبي صلى الله عليه وسلم، ويقرئ الناس بذلك، حتى حصل من الاختلاف في أوّل عهد عثمان ما حصل.
وكذلك جمع عليّ بن أبي طالب إنما أراد به جمعه في صدره كما هو ظاهر المراد بقولهم: جمع فلان القرآن، وفلان لم يجمعه، وفلان جمعه إلا سوراً يسيرة، ونحو ذلك مما يراد به حفظ الصدر.
وقول عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه عن أبي بكر: إنّه "أوّل من جمع القرآن بين لوحين" يدلّ على ذلك.
ولو كان جمعه متقدماً على جمع أبي بكر لبيّن ذلك؛ كما بيّن سعة علمه بنزول كلّ آية من القرآن ومعرفة مكان نزولها وفيم أنزلت.
وقد كان عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه يقرأ كما عُلّم، وهو أحد رواة حديث: ((اقرؤوا كما عُلّمتم)).
وربما كتب مصحفاً خاصاً به كما كتب غيره من الصحابة، بحسب ما عُلّم، وأما دعوى أنّ عليّ بن أبي طالب كتب مصحفاً مشتملاً على الأحرف السبعة فهذه دعوى عريضة لا أصل لها، ولو كان الأمر كذلك لعلمه خواصّ أصحابه، ولنقل واشتهر؛ فإنّه من أعظم الأمور التي تشتد الرغبة في السؤال عنها وذكرها ونشرها ولا سيّما من القراء لو كان ذلك حقيقة، وقد اجتهدوا في نقل دقائق من أحوال القراء وأخبارهم؛ فكيف يغفلون عن نقل هذا الأمر العظيم في شأن القرآن وجمع حروفه.

وربما كان قول ابن عبد البرّ – إذا حُمل على المعنى الثاني- مستفاداً من كلام أبي عمرو الداني أو كلام شيخه الباقلاني؛ فابن عبد البرّ وأبو عمرو قرينان قارئان مالكيان أندلسيان قد اشتركا في عدد من الشيوخ والتلاميذ، ولابن عبد البرّ كتاب مفقود في القراءات، لكن غالب عناية ابن عبد البر بالحديث والفقه، وغالب عناية أبي عمرو الداني بالقراءات وعلوم القرآن.

ولابن الجزري كلام حسن دقيق في هذه المسألة، وهو أجود ما قيل فيها، إذ قال في كتابه "منجد المقرئين": (والحق ما تحرَّرَ من كلام الإمام محمد بن جرير الطبري وأبي عمر بن عبد البر وأبي العباس المهدوي ومكي بن أبي طالب القيسي وأبي القاسم الشاطبي وابن تيمية وغيرهم، وذلك أن المصاحف التي كتبت في زمن أبي بكر رضي الله عنه كانت محتوية على جميع الأحرف السبعة).
وهذا الكلام صحيح لكنّه منصرف إلى المصاحف والصحف التي كانت موجودة في زمن أبي بكر لا إلى المصحف الذي جمعه أبو بكر وحده.
وقد تقدّم أنّ مصحف ابن مسعود كان فيه ما يخالف مصحف أبي موسى، وكان في مصاحفهما ما يخالف مصحف زيد ومصاحف أهل الشام من أصحاب أبي الدرداء.
ولم نجد في الآثار المروية في جمع أبي بكر ما يدلّ على أنّه جمعه بالأحرف السبعة لا جمعاً ولا تكراراً.

وقول ابن الجزري: (والحق ما تحرر من كلام الإمام محمد بن جرير الطبري وأبي عمر بن عبد البر وأبي العباس المهدوي ومكي بن أبي طالب القيسي وأبي القاسم الشاطبي وابن تيمية وغيرهم..).
ربما فُهم منه أنّ ما خرج به هو منصوص أقوالهم، وأنهم اتفقوا عليه، وليس الأمر كذلك، فإنّ الخلاف بينهم ظاهر، ومن تأمّل كلامهم في كتبهم ظهر له من الخلاف بينهم ما لا يمكن التئامه على قول واحد.
وإنما مراد ابن الجزري أنّ هذا القول هو ما تحرَّرَ له بَعد نَظره في كلامهم، وتفكُّرِه فيه، لا أنّه قول اتّفقوا عليه.

وما خرج به ابنُ الجزري قولٌ صحيح لكن أسيء فهمه من وجهين:

أحدهما: دعوى أن مصحف أبي بكر كان جامعاً للأحرف السبعة.
والآخر: أنّ هذا القول هو ما اتفق عليه العلماء الذين ذكر أسماءهم.
وكلام ابن جرير وأبي العباس المهدوي ومكي بن أبي طالب وابن تيمية ليس فيه هذه الدعوى؛ فبقي كلام ابن عبد البرّ والشاطبي وقد علمتَ أصلَ قولِهما في هذه المسألة.

ثم جاء بعد ابن الجزري بدرُ الدين العيني فقال في شرح صحيح البخاري: (لو قيل: إن زيداً كان جامعاً للقرآن فما معنى هذا التتبع والطلب لشيء إنما هو ليحفظه ويعلمه؟!!
أجيب: أنه كان يتتبع وجوهه وقراءاته ويسأل عنهما غيره ليحيط بالأحرف السبعة التي نزل بها الكتاب العزيز، ويعلم القراءات التي هي غير قراءته)ا.هـ.
وهذا النقل مستفاد من كلام عَلَم الدين السخاوي المتقدّم في "الوسيلة".
وقال في موضع آخر: (غرض أبي بكر كان جمع القرآن بجميع حروفه ووجوهه الّتي نزل بها وهي على لغة قريش وغيرها، وكان غرض عثمان تجريد لغة قريش من تلك القراءات).
وهذا القول مع ما قبله من الأقوال من أسباب شيوع القول بأنّ مصحف أبي بكر كان جامعاً للأحرف السبعة، وهو كما ترى قول محدث لا يسنده أثر، وإنما هو فهم تحصَّل من محاولات الخروج من إشكالات واردة، والتزام ما لا يلزم، وأصل المسألة عقديّ ثمّ نقل إلى كتب علوم القرآن.

وقول مروان بن الحكم لابن عمر لما أراد إتلاف مصحف أبي بكر أنه يخشى أن يكون فيه ما يخالف مصحف عثمان فيه دلالة على أنّه لم يكن جامعاً للأحرف السبعة، إذ لو كان كذلك لكان مشهوراً معروفاً، ولما احتاج إلى التعبير بالخشية مع التحقق بأنّه كان جامعاً للأحرف السبعة، وكانت حجته أظهر في إتلافه لو كان كذلك.

ومن الأدلة على خطأ هذا القول أيضاً أنّ مصحف أبي بكر لو كان جامعاً للأحرف السبعة لما احتاج عثمان إلى التوثّق من الصحابة في صحفهم التي قبضها منهم أنها من إملاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يكفيه أن يجمعها ويتلفها، وينسخ من مصحف أبي بكر، لكنّه أراد أن يجمع من مجموع مصاحف الصحابة وصحفهم المتفرقة مصحفاً واحداً يجتمعون عليه.
ولذلك ربما ترك بعض ما في مصحف أبي بكر ترجيحاً منه لبعض الأحرف التي في المصاحف الأخرى، ويدلّ على ذلك صراحة الآثار المروية في المراسلات التي كانت بين زيد بن ثابت وعثمان في رسم بعض الكلمات وقد تقدّم ذكرها). [جمع القرآن:149 - 161]

جمهرة علوم القرآن 15 محرم 1439هـ/5-10-2017م 02:56 PM

المسألة الثالثة: هل كلّ ما خالف المصاحف العثمانية منسوخ بالعرضة الأخيرة؟

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (المسألة الثالثة: هل كلّ ما خالف المصاحف العثمانية منسوخ بالعرضة الأخيرة؟
ذهب الزرقاني في مناهل العرفان إلى أنّ ما خالف المصاحف العثمانية فهو منسوخ بالعرضة الأخيرة؛ فقال: (ما لا يوافق رسم المصحف بحال من الأحوال نحو قوله سبحانه: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} وقرأ ابن عباس هكذا [يأخذ كل سفينة صالحة غصبا] بزيادة كلمة صالحة فإنَّ هذه الكلمة لم تثبت في مصحف من المصاحف العثمانية فهي مخالفة لخطّ المصحف، وذلك لأنَّ هذه القراءة وما شاكلها منسوخة بالعرضة الأخيرة، أي عرض القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم على جبريل آخر حياته الشريفة، ويدل على هذا النسخ إجماع الأمة على ما في المصاحف)ا.هـ.

وهذه الدعوى لا تصحّ؛ فإنّه من المقطوع به أنّ الصحابة كانوا يقرءون قبل جمع عثمان على أحرف مختلفة غير منسوخة، وكانوا يصلون بها في الجمع والجماعات ويتلونها في المجامع وحلق التعليم، ولو كان أحد منهم يقرأ بالمنسوخ لأُنكِرَ عليه.
- والقراءة بالمنسوخ قد تُتَصوّر من الرجل والرجلين في أحرف يسيرة، وأما ما يحمله العدد الكثير من القراء، ويشتهر ذكره ولا ينكر فلا.
- وقد كان في حِلَقِ ابن مسعود في الكوفة العدد الكثير، وكان يدور على تلك الحِلَق، ويُشرف على قراءة كلّ حلقة ومقرئها، وروي أنّ في حِلَق أبي الدرداء نحو ألف رجل، لكل عشرة منهم ملقّن، وأنّ أبا الدرداء كان يطوف عليهم قائماً؛ فإذا أحكمَ الرجلُ منهم تحوَّل إلى أبي الدرداء يعرض عليه.

- ثمّ إنّ الصحابة رضي الله عنهم إنما حملهم على الجمع في زمن عثمان اختلافُ الناس في الأحرف، لا أنّ أحداً من القرّاء كان مصرّا على الإقراء بالمنسوخ، واعتراضُ ابن مسعود رضي الله عنه يدلّ دلالة بيّنة على أنّ قراءته تخالف قراءة زيد في بعض الأحرف التي لم تكن منسوخة قطعاً، وقد بيّن أنّه لا يعلم أحداً في زمانه ذلك أعلم منه بكتاب الله، وأنه يعلم أين نزلت كلّ آية ومتى نزلت، وأنّه عارض النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن مرتين في العام الذي قبض فيه.
- وقد شهد ابنُ عباس لابن مسعود أن قراءته هي الأخيرة، كما تقدّم، وزيد بن ثابت ممن عرض على النبي صلى الله عليه وسلم في العام الذي قبض فيه، فكلاهما قد شهد العرضة الأخيرة، واختلفت قراءتاهما في بعض الأحرف لا أنّ أحدهما يقرأ بما هو منسوخ، وكلاهما أقرأ الناسَ زمناً طويلاً بعد النبي صلى الله عليه وسلم، من غير إنكار، وابن عباس قرأ على زيد بن ثابت وروي أنه أخذ بعض الأحرف من قراءة ابن مسعود، ولم ينكر على أحد منهما أنه يقرئ بالمنسوخ.
قال هارون بن موسى الأزدي: حدثنا صاحبٌ لنا، عن أبي روق، عن إبراهيم التيمي، عن ابن عباس قال: (قراءتي قراءة زيد، وأنا آخذ ببضعة عشر حرفاً من قراءة ابن مسعود، هذا أحدها [من بقلها وقثائها وثومها وعدسها وبصلها] ). رواه ابن أبي داوود في المصاحف، وقد رويت هذه القراءة عن ابن مسعود من طرق أخرى.

- وكان حذيفة عالماً باختلاف القرَّاء، ولو كان أحدهم يُقرئ بالمنسوخ لأَنكر عليه، ولما احتاج الجمعُ إلى أكثر من الإنكار على من يُقرئ بالمنسوخ.
- ولمّا تكلّم أئمة القراء في ردّ دعوى احتواء المصاحف العثمانية للأحرف السبعة كان من أدلّتهم أنه يلزم من ذلك القول بنسخ ما لا يوافق رسم المصاحف العثمانية من الأحرف الأخرى، وذكروا أنه قول باطل، وهذا مما يدلّ على تقرر بطلان هذه الدعوى.
قال ابن الجزري: (إذا قلنا إن المصاحف العثمانية محتوية على جميع الأحرف السبعة التي أنزلها الله تعالى كان ما خالف الرسم يُقطع بأنه ليس من الأحرف السبعة، وهذا قول محظور لأن كثيرا مما خالف الرسم قد صح عن الصحابة رضي الله عنهم، وعن النبي صلى الله عليه وسلم)ا.هـ
وقال مكي بن أبي طالب القيسي: (ولو كانت هي السبعة كلها، وهي موافقة للمصحف لكان المصحف قد كتب على سبع قراءات، ولكان عثمان رضي الله عنه، قد أبقى الاختلاف الذي كرهه، وإنما جمع الناس على المصحف، ليزول الاختلاف)ا.هـ.

فهذا كلّه مما يدلّ دلالة بيّنة على خطأ هذه الدعوى، وقد تفكّرت في منشأ هذه الدعوى؛ فوجدت كلاماً لشيخ الإسلام ابن تيمية في فتواه في الأحرف السبعة وآخر لابن الجزري رحمه الله في كتابه النشر وفيهما ما يستدعي التوضيح لإزالة اللبس.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وأما القراءة الشاذة الخارجة عن رسم المصحف العثماني مثل قراءة ابن مسعود وأبي الدرداء رضي الله عنهما [والليل إذا يغشى . والنهار إذا تجلى . والذكر والأنثى] كما قد ثبت ذلك في الصحيحين، ومثل قراءة عبد الله: [فصيام ثلاثة أيام متتابعات]. وكقراءته: [إن كانت إلا زقية واحدة] . ونحو ذلك؛ فهذه إذا ثبتت عن بعض الصحابة فهل يجوز أن يقرأ بها في الصلاة؟ على قولين للعلماء: هما روايتان مشهورتان عن الإمام أحمد وروايتان عن مالك:
إحداهما: يجوز ذلك لأن الصحابة والتابعين كانوا يقرءون بهذه الحروف في الصلاة.
والثانية: لا يجوز ذلك وهو قول أكثر العلماء، لأن هذه القراءات لم تثبت متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإن ثبت فإنها منسوخة بالعرضة الآخرة، فإنه قد ثبت في الصحاح عن عائشة وابن عباس رضي الله عنهم أن جبريل عليه السلام كان يعارض النبي صلى الله عليه وسلم في كل عام مرة، فلما كان العام الذي قبض فيه عارضه به مرتين.
والعرضة الأخيرة هي قراءة زيد بن ثابت وغيره، وهي التي أمر الخلفاء الراشدون: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي بكتابتها في المصاحف، وكتبها أبو بكر، وعمر في خلافة أبي بكر في صحف أمر زيد بن ثابت بكتابتها، ثم أمر عثمان في خلافته بكتابتها في المصاحف وإرسالها إلى الأمصار وجمع الناس عليها باتفاق من الصحابة علي وغيره)ا.هـ.
وهذا القول استدرك عليه ابن الجزري في النشر وهذّبه تهذيباً حسناً فقال: (قراءة عبد الله بن مسعود وأبي الدرداء: [والذكر والأنثى] في {وما خلق الذكر والأنثى} وقراءة ابن عباس [وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبا وأما الغلام فكان كافرا] ونحو ذلك مما ثبت بروايات الثقات، واختلف العلماء في جواز القراءة بذلك في الصلاة، فأجازها بعضهم لأن الصحابة والتابعين كانوا يقرءون بهذه الحروف في الصلاة، وهذا أحد القولين لأصحاب الشافعي وأبي حنيفة وإحدى الروايتين عن مالك وأحمد.
وأكثر العلماء على عدم الجواز؛ لأن هذه القراءات لم تثبت متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإن ثبتت بالنقل فإنها منسوخة بالعرضة الأخيرة أو بإجماع الصحابة على المصحف العثماني أو أنها لم تنقل إلينا نقلا يثبت بمثله القرآن أو أنها لم تكن من الأحرف السبعة، كل هذه مآخذ للمانعين)ا.هـ

فابن الجزري رحمه الله جمع أجوبة العلماء في منع الإقراء بما ثبت مما يخالف رسم المصاحف العثمانية، وبيَّن أنّ ما خالف رسم المصحف منه ما يكون من المنسوخ تلاوة، ومنه ما يكون مما أجمع الصحابة على ترك القراءة به بعد جمع عثمان، ولذلك فإنّ الإجماع على ترك القراءة بما خالف رسم المصحف لا يقتضي القول بالنسخ مطلقاً.

والقول بأنّ كلّ ما خالف رسم المصحف فهو منسوخ قد تقدّم عن بعض المتكلمين كأبي الحسن الأشعري وأبي بكر الباقلاني وغيره، لكنّهم زعموا أنّ رسم المصحف مشتمل على الأحرف السبعة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (ومن هؤلاء من يقول بأن الترخيص في الأحرف السبعة كان في أول الإسلام لما في المحافظة على حرف واحد من المشقة عليهم أولا، فلما تذللت ألسنتهم بالقراءة، وكان اتفاقهم على حرف واحد يسيرا عليهم وهو أوفق لهم، أجمعوا على الحرف الذي كان في العرضة الآخرة، ويقولون إنه نسخ ما سوى ذلك.
وهؤلاء يوافق قولهم قول من يقول إن حروف أبي بن كعب وابن مسعود وغيرهما مما يخالف رسم هذا المصحف منسوخة)
ا.هـ.
وهذا حكاية لأقوال المتكلمين في الأحرف السبعة). [جمع القرآن:161 - 166]

جمهرة علوم القرآن 15 محرم 1439هـ/5-10-2017م 02:59 PM

المسألة الرابعة: هل كان المصحف الذي جمعه عثمان نسخةً مطابقةً لمصحف أبي بكر حرفاً بحرف؟

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (المسألة الرابعة: هل كان المصحف الذي جمعه عثمان نسخةً مطابقةً لمصحف أبي بكر حرفاً بحرف؟
ذهب بعض العلماء إلى أنّ مصحف عثمان كان نسخة مطابقة لمصحف أبي بكر حرفاً بحرف لا اختلاف بينهما، وأنّ مصحف أبي بكر كان على العرضة الأخيرة.

وهذا القول فيه صواب وخطأ
- فأما صوابه: فالقول بأنّ مصحف أبي بكر كان على العرضة الأخيرة، لكن العرضة الأخيرة لا تقتضي أن تكون على حرف واحد.
وقد تقدّم البيان بأن ابن مسعود وزيد بن ثابت قد عرضا القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم في العام الذي قبض عليه مرتين، وبينهما من الاختلاف في بعض الأحرف ما هو معلوم.
- وأما خطؤه: فلأنّه يلزم منه أنّ كل ما خالف مصحف أبي بكر فهو على غير العرضة الأخيرة، وهذا يقتضي أن يكون ابن مسعود وأبو موسى وأبو الدرداء وجماعة من الصحابة كانوا يقرئونَ الناسَ بالمنسوخ، وهذا قول محظور.
- ولو كان الأمر كذلك لما احتاج عثمان إلى أن يأخذ البيّنة على أصحاب الصحف أنها من إملاء رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم، ولما احتاج إلى مقابلتها على مصحف أبي بكر، ولا إلى الاجتهاد في الاختيار بين الأحرف المختلف فيها.
- ومن تأمّل الآثار المروية في جمع عثمان تبيّن له اجتهاد عثمان ومن معه من قرّاء الصحابة اجتهاداً بالغاً في كلّ ما تقدّم، وأن من ضرورة ذلك الاجتهاد أن يكون في جمع عثمان اختيارٌ يخالف بعض الأحرف التي كانت في مصحف أبي بكر.
قال عبد الله بن المبارك: حدثني أبو وائل شيخ من أهل اليمن، عن هانئ البربري مولى عثمان قال: كنت عند عثمان وهم يعرضون المصاحف، فأرسلني بكتف شاة إلى أبيّ بن كعب، فيها «لم يتسن» ، وفيها «لا تبديل للخلق» ، وفيها «فأمهل الكافرين».
قال: فدعا بالدواة فمحا إحدى اللامين، وكتب {لخلق الله}، ومحا «فأمهل»، وكتب {فمهّل}، وكتب {لم يتسنه} ألحق فيها الهاء). رواه أبو عبيد القاسم بن سلام في فضائل القرآن، وابن جرير الطبري.
- ولو كان جمعهم لا اختيار فيه بين الأحرف لكان يكفيهم أن يكتبوه على ما في مصحف أبي بكر، ولما احتاجوا إلى سؤال أبيّ عن هذه الأحرف.
- وكذلك ما ثبت من الاختلاف بين المصاحف العثمانية في بعض الأحرف دليل على أنّ مثل هذا الاختلاف ممكن بينها وبين مصحف أبي بكر.
- ولو كانت المصاحف العثمانية نسخة مطابقة لمصحف أبي بكر حرفاً بحرف لما احتاج مروان بن الحكم إلى إتلاف هذا المصحف، ولما أقرّه ابن عمر على دعواه بأنه يخشى أن يكون فيه ما يخالف المصاحف العثمانية.
- وهذه الدعوى مقابلة لدعوى من زعم أن مصحف أبي بكر كان حاوياً للأحرف السبعة). [جمع القرآن:167 - 168]

جمهرة علوم القرآن 15 محرم 1439هـ/5-10-2017م 03:01 PM

المسألة الخامسة: الخلاصة في بيان الفرق بين جمع أبي بكر وجمع عثمان رضي الله عنهما.

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (المسألة الخامسة: الخلاصة في بيان الفرق بين جمع أبي بكر وجمع عثمان رضي الله عنهما.
تلخيص الفرق بين جمع أبي بكر وجمع عثمان أنّ جمع أبي بكر كان سببُه الحاجة إلى حفظ نسخة مكتوبة من القرآن بعد موت كثير من حفظة القرآن في حروب الردّة، وجمع عثمان كان سببه ما وقع من الفتنة والاختلاف في الأحرف.
واختلاف الأسباب والمقاصد مؤثر في منهج العمل، فأمّا جمع أبي بكر فكان يكفي فيه أن تكتب نسخة منه على أيّ حرف من الأحرف السبعة إذ كلها كافٍ شافٍ، ولم يكن بين الصحابة تنازع في أحرف القراءات، بل كان كلّ منهم يقرأ كما عُلّم، ولا ينازِع غيره فيما أُقرئوا، ولا ينازعونه فيما أقرئَ، لما أدّبهم به النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدّم.
وأمّا جمع عثمان فكان لا بدّ فيه من الاجتهاد في اختيار حرف واحد من مجموع الأحرف السبعة، ولذلك اجتهدوا اجتهاداً بالغاً في الموازنة بين الأحرف المختلف فيها، وكتبوا المصاحف على ما ارتضوه من الاختيار بما يوافق لسان قريش، ولا يخالف العرضة الأخيرة، ثم انعقد إجماع الصحابة والتابعين في ذلك الوقت على الرضا بذلك الاختيار، وترك القراءة بما يخالفه، وأجمعت عليه الأمّة بعد ذلك إلى وقتنا الحاضر.

والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم). [جمع القرآن:169]

جمهرة علوم القرآن 15 محرم 1439هـ/5-10-2017م 03:10 PM

الباب التاسع: ترتيب السور والآيات في المصاحف
ترتيب السور والآيات في المصاحف
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (ترتيب السور والآيات في المصاحف
من المباحث المهمّة في جمع القرآن مبحث "تأليف القرآن" ويراد به ترتيب آياته وسوره في المصاحف، وقد تضمّن هذا المبحث مسائل مهمّة ينبغي لطالب علم التفسير أن يكون على دراية حسنة بها، وأن يعرف أقوال العلماء فيها وأدلّتهم.
وسأرتّب الكلام في هذا الدرس على المسائل التالية:
المسألة الأولى: معنى تأليف القرآن
المسألة الثانية: ترتيب الآيات في السورة الواحدة
المسألة الثالثة: ترتيب السور في المصحف
المسألة الرابعة: الكلام على حديث يزيد الفارسي في خبر سؤال ابن عباس لعثمان عن الأنفال وبراءة.
المسألة الخامسة: الجواب عن اختلاف ترتيب السور في مصاحف الصحابة
المسألة السادسة: الفصل بين السور بالبسملة
المسألة السابعة: سبب ترك كتابة البسملة في أول براءة). [جمع القرآن:171]

جمهرة علوم القرآن 15 محرم 1439هـ/5-10-2017م 03:12 PM

المسألة الأولى: معنى تأليف القرآن

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (المسألة الأولى: معنى تأليف القرآن
التأليف في اللغة مصدر ألّف يؤلّف تأليفاً، وهو الوصل والمتابعة.

قال أبو منصور الأزهري: (أَلَّفْتُ الشيءَ: وَصَلْتُ بعضَه بِبَعْض؛ وَمِنْه: تَأليفُ الكُتب).
ورد لفظ تأليف القرآن في الأحاديث والآثار يراد به ترتيب الآيات في السورة الواحدة تارة، ويراد به ترتيب السور في المصحف تارة أخرى.
- فمن الأول: قولُ زيد بن ثابت رضي الله عنه: بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم نؤلّف القرآن من الرقاع إذ قال: (( طوبى للشام ))
قيل: ولم ذلك يا رسول الله؟
قال: (( إن ملائكة الرحمن باسطة أجنحتها عليها )). رواه الإمام أحمد وابن أبي شيبة والترمذي والبيهقي وغيرهم من طريق يحيى بن أيوب الغافقي عن يزيد بن أبي حبيب عن عبد الرحمن بن شماسة المهري عن زيد بن ثابت.
ويحيى بن أيوب صالحٌ في نفسه معروف بطلب العلم ومحلّه الصدق، وقد وثّقه يحيى بن معين، وقال فيه أحمد بن حنبل: (سيء الحفظ).
وقال أبو حاتم الرازي: (يُكتب حديثه ولا يحتج به).
ولذلك اختُلف في هذا الحديث فضعّفه بعض أهل العلم لسوء حفظ يحيى بن أيوب، وحسّنه بعضهم.
وهذا الحديث لم يتفرّد به يحيى بن أيوب؛ فقد رواه جماعة منهم عبد الله بن وهب عن ابن لهيعة عن يزيد به، ورواية ابن وهب عن ابن لهيعة يصححها بعض أهل العلم.
ورواه أيضاً ابن حبان والطبراني من طريق ابن وهب عن عمرو بن الحارث المصري عن يزيد به.
وبمجموع هذه الطرق صحح الألباني هذا الحديث في السلسلة الصحيحة.
والشاهد فيه ذكر تأليف القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كانت الآيات تنزل متفرقة منجَّمة على مُدَدٍ متفاوتة، وتأليفها جمعها ووصل بعضها ببعض.
قال أبو بكر البيهقي: (وهذا يشبه أن يكون أراد به تأليف ما نزل من الآيات المتفرقة في سورها، وجمعها فيها بإشارة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم كانت مثبتة في الصدور مكتوبة في الرقاع واللخاف والعسب)أ.ه.

ومن الثاني: ما في صحيح البخاري من حديث ابن جريج قال: أخبرني يوسف بن ماهك، قال: إني عند عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، إذ جاءها عراقي، فقال: أي الكفن خير؟
قالت: (ويحك، وما يضرك؟!!)
قال: يا أم المؤمنين، أريني مصحفك؟
قالت: (لم؟)
قال: لَعَلِّي أؤلّف القرآن َعليه، فإنه يقرأ غير مُؤلَّف.
قالت: (وما يضرك أيه قرأت قبل؟)

ثمّ ذكر الحديث إلى أن قال: فأخرجت له المصحف، فأملت عليه آي السور).

وتأليف القرآن بالمعنى الأوّل كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، كما دلّ عليه حديث زيد بن ثابت، لكن هل كان تأليفاً تاماً لجميع آيات السور أو لبعضها؟
اختلف في ذلك أهل العلم على قولين:
القول الأول: أنّه كان جمعاً تاماً لآيات كلّ سورة، وأن جمع أبي بكرٍ كان لاستنساخه في صحف بين لوحين؛ إذ كان قبل ذلك يكتب في الرقاع واللخاف والعسب.
والقول الثاني: أنه لم يكن تأليفاً تاماً بالكتابة كما كان بالحفظ في الصدر، وأنّ جمع أبي بكر رضي الله عنه كان أوّل جمع تامّ لآيات كلّ سورة.
والقول الثاني هو الراجح لدلالة زيد بن ثابت رضي الله عنه في شأن جمع أبي بكر: (فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف، وصدور الرجال، حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحد غيره {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم} حتى خاتمة براءة). رواه البخاري في صحيحه.
إذ لو كانت مكتوبة تامة لوجدها عند غيره، وهذا القول هو الذي تدلّ عليه ظواهر الآثار المروية في هذا الباب.

وأصحاب القول الأول على صنفين:
- صنف فهموا من حديث زيد المتقدّم في التأليف وحديث عثمان مرفوعاً: (( ضعوا هذه الآيات فى السورة التي يذكر فيها كذا وكذا ))
دلالة العموم على تأليف جميع الآيات مكتوبة في السطور كما هي محفوظة في الصدور.
- وصنف فهموا من قوله تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} التلازم بين حفظ القرآن في الصدور وحفظه مكتوباً حتى في زمن النبوة، ولذلك ذهب بعضهم إلى أنّ المصحف كان مجموعاً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا القول قال به بعض المتكلمين، وهو قول غير قائم على الأثر الصحيح وإنما مستنده توهّم لزوم ما لا يلزم.

فأمّا أصحاب الصنف الثاني فيُردّ عليهم بنفي التلازم بين الأمرين.
وأما أصحاب الصنف الأول فيورد عليهم أنّ قولهم هذا يلزم منه أن تكون آيات كلّ سورة مجموعة في موضع واحد، وهذا مخالف لواقع الحال في ذلك الزمان، وما فهموه لا تقتضيه دلالة حديثي زيد وعثمان؛ لأن وضع الآيات في موضعها من السورة لا يلزم منه أن تكون السورة كلها مجموعة في موضع واحد، وقد عُلم أن منها سوراً طوالاً، وأنّ الكتابة كانت في رقاع وعسُب وأكتاف.
ولذلك فإنّ الأقرب أن تكون السور ذوات العدد مكتوبة مرتبة آياتها في مواضع بما تيسّر لهم من أدوات الكتابة وما يكتبون فيه، وتلك الصحف والرقاع متفرّقة مع كُتَّاب الوحي من الصحابة رضي الله عنهم إذ لم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم كاتب مستقلّ بكتابة جميع ما يُوحى إليه.
ولذلك احتاج زيد بن ثابت في جمع أبي بكر إلى تتبّع ما تفرّق في الصحف والرقاع والأكتاف والعسب واللخاف وصدور الرجال حتى جمع نسخة تامّة من القرآن في صُحُفٍ بين لوحين). [جمع القرآن:172 - 175]

جمهرة علوم القرآن 15 محرم 1439هـ/5-10-2017م 03:16 PM

المسألة الثانية: ترتيب الآيات في السورة الواحدة

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (المسألة الثانية: ترتيب الآيات في السورة الواحدة
ترتيب الآيات في السورة الواحدة لا خلاف في أنه متلقّى من النبي صلى الله عليه وسلم، وأنّ قرّاء الصحابة رضي الله عنهم كانوا يقرَأُون ويقرِئون السور من القرآن على ترتيب الآيات الذي تلقّوه عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وقد صَحّت الأحاديث بما يفيد توقيف ترتيب الآيات وانعقد الإجماع على ذلك.
- قال عبد الله بن أبي مليكة: قال ابن الزبير: قلت لعثمان: هذه الآية التي في البقرة {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا} إلى قوله {غير إخراج} قد نسختها الأخرى، فلم تكتبها؟ قال: «تدعها يا ابن أخي، لا أغيّر شيئاً منه من مكانه». رواه البخاري في صحيحه من حديث يزيد بن زريع عن حبيب بن الشهيد عن ابن أبي مليكة به.
وابن الزبير كان من كَتَبَةِ المصاحف العثمانية.
وهذا الأثر الصحيح صريح الدلالة على أنّ عثمان رضي الله عنه لم يغيّر شيئاً في ترتيب الآيات، وأن ترتيب الآيات لم يكن فيه اختلافٌ بين الصحابة رضي الله عنهم.

وقد وردت جملة من الأحاديث يُفهم منها توقيف ترتيب الآيات، ومن ذلك:

1. حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: ما راجعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء ما راجعته في الكلالة، وما أغلظ لي في شيء ما أغلظ لي فيه، حتى طعن بإصبعه في صدري، وقال: «يا عمر! ألا تكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء » رواه مسلم من حديث قتادة عن سالم بن أبي الجعد عن معدان بن أبي طلحة عن عمر به.

2. وحديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فافتتح البقرة، فقلت: يركع عند المائة، ثم مضى، فقلت: يصلي بها في ركعة، فمضى، فقلت: يركع بها، ثم افتتح النساء، فقرأها، ثم افتتح آل عمران، فقرأها، يقرأ مترسلا، إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ، ثم ركع، فجعل يقول: «سبحان ربي العظيم»، فكان ركوعه نحوا من قيامه، ثم قال: «سمع الله لمن حمده»، ثم قام طويلا قريبا مما ركع، ثم سجد، فقال: «سبحان ربي الأعلى»، فكان سجوده قريبا من قيامه). رواه مسلم وأحمد والنسائي من طريق المستورد بن الأحنف، عن صلة بن زفر، عن حذيفة .
وفي رواية عند النسائي: (فافتتح البقرة، فقرأ فقلت: يركع عند المائة فمضى، فقلت: يركع عند المائتين فمضى، فقلت: " يصلي بها في ركعة، فمضى).

3. وحديث زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: (نسخت الصحف في المصاحف، ففقدت آية من سورة الأحزاب كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها، فلم أجدها إلا مع خزيمة بن ثابت الأنصاري الذي جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته شهادة رجلين» وهو قوله: {من المؤمنين، رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر} فألحقناها في سورتها في المصحف). رواه البخاري في صحيحه من طرق عن ابن شهاب الزهري عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه.
وهذا في جمع عثمان، وقصةُ آخر آيتين من سورة التوبة قصة أخرى غير هذه، وتلك كانت في جمع أبي بكر، وقد وقعتا لرجلين وليستا لرجل واحد:
أحدهما: أبو خزيمة الخزرجي
والآخر: خزيمة بن ثابت الأوسي.

- فأما أبو خزيمة فهو ابن أوس بن زيد من بني النجار من الخزرج من قرابة زيد بن ثابت وأبيّ بن كعب وأنس بن مالك، شهد بدراً وما بعدها ومات في خلافة عثمان.
- وأمّا خزيمة بن ثابت فهو من الأوس ويكنى بأبي عمارة وهو الذي أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته بشهادة رجلين، وقد قتل مع عليّ بن أبي طالب في صفين، كان كافّا سلاحه حتى قُتل عمار بن ياسر؛ وكان قد سمع قول النبي صلى الله عليه وسلم (تقتل عماراً الفئة الباغية) فجرّد سيفه وقاتل مع عليّ حتى قُتل.
وقد وقع خلط في بعض الروايات بين الرجلين، ونبّه إلى التفريق بينهما ابن بطّال وأبو شامة وغيرهما.

4. وحديث أبي العالية، عن أبيِّ بن كعب أنهم جمعوا القرآن في مصاحف في خلافة أبي بكر، فكان رجال يكتبون ويملي عليهم أبيُّ بن كعب، فلما انتهوا إلى هذه الآية من سورة براءة: {ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون}؛ فظنوا أن هذا آخر ما أنزل من القرآن، فقال لهم أبي بن كعب: (إنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أقرأني بعدها آيتين: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم} إلى {وهو رب العرش العظيم}). رواه عبد الله بن الإمام أحمد في مسند أبيه وابن أبي داوود في كتاب المصاحف والضياء في المختارة من طريق أبي جعفر الرازي: حدثنا الربيع بن أنس، عن أبي العالية.
وإسناده حسن، ودلالته على توقيف ترتيب الآيات ظاهر؛ فإنَّه عرف موضع الآيتين في سورة التوبة بما أقرأه إيّاه النبيّ صلى الله عليه وسلم.
والأحاديث التي فيها تعيين مواضع بعض الآيات كثيرة يتعسّر تقصّيها، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتلو سور القرآن في الصلوات وغيرها بترتيب الآيات كما أنزله الله، حتى حُفظ عنه ذلك الترتيب، وتواتر النقل به من غير خلاف.
ولمّا جُمع القرآن في عهد أبي بكر وعهد عثمان لم يكن بين الصحابة خلاف في ترتيب الآيات، وإنما كان الاختلاف في بعض الأحرف وفي فواصل بعض الآي، والاختلاف في عدد آيات كلّ سورة كالاختلاف في بعض القراءات لا أثر له على ترتيب الآيات.

وقد روي في ترتيب الآيات حديث لا يصحّ استدلّ به بعض العلماء، وهو ما رواه الإمام أحمد من طريق ليث بن أبي سليم، عن شهر بن حوشب، عن عثمان بن أبي العاص، قال: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً إذ شخص ببصره ثم صوَّبه حتى كاد أن يلزقه بالأرض، قال: ثم شخص ببصره فقال: (أتاني جبريل فأمرني أن أضع هذه الآية بهذا الموضع من هذه السورة: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون} ).
وليث وشهر ضعيفان، وقد اختلف على شهر فيه؛ فرواه عبد الحميد بن بهرام عن شهر عن ابن عباس في خبر إسلام عثمان بن مظعون بسياق آخر من غير ذكر موضع هذه الآية من السورة.
قال ابن كثير: (وهذا إسناد لا بأس به، ولعله عند شهر بن حوشب من الوجهين).
وقال في الأول: (إسناد جيد متصل حسن).
قال الألباني: (أنَّى له الحسْنُ، وفيه شهر؟! وعنه ليث، وقد زاد في متنه ما لم يذكره عبد الحميد في روايته عن شهر).
ولذلك جعله الألباني في السلسة الضعيفة.
وهذا الحديث الضعيف تغني عنه الأحاديث الصحيحة المتقدّمة.
- قال القاضي عياض: (لا خلاف أن تأليف كل سورة وترتيب آياتها توقيف من الله تعالى على ما هى عليه الآن فى المصحف، وعلى ذلك نقلته الأمة عن نبيها عليه السلام).
- وقال ابن حجر: (أما ترتيب الآيات فتوقيفي بلا خلاف)). [جمع القرآن:176 - 180]

جمهرة علوم القرآن 15 محرم 1439هـ/5-10-2017م 03:21 PM

المسألة الثالثة: ترتيب السور في المصحف

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (المسألة الثالثة: ترتيب السور في المصحف
الراجح من أقوال العلماء في هذه المسألة هو قول جمهورهم والمحققين منهم أنّ الصحابة رضي الله عنهم اجتهدوا في ترتيب سور القرآن في المصحف، إلا أنّ هذا الاجتهاد لم يكن مستنده مجرّد الرأي والاستحسان، بل كان قائماً على أصول صحيحة وأدلّة تفصيلية علموها، ولصواب اجتهادهم علامة بيّنة ظاهرة، وهي إجماعهم على هذا الترتيب الذي تلقته الأمّة بالقبول في زمانهم وبعده على مَرِّ القرون.

ولو كان أحد من الصحابة يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أمراً بخلاف هذا الترتيب لقال به، ولو كان الحقّ في غير هذا الترتيب لوجد من يقول به؛ إذ لا بدّ للحقّ من قائم به؛ فلمَّا أجمعوا على هذا الترتيب علمنا أنه صواب وحقّ، وأنّ الأمّة لا تجتمع على ضلالة.
وأما الأصول والأدلة التفصيلية التي اعتمدوا عليها في اجتهادهم فمنها ما يمكن معرفته بدلالة الأحاديث والآثار المروية في هذا الباب، ومنها ما لا نعرفه، لكن نقطع بأنّ مسألة الترتيب من المسائل التي تقتضي ضرورةُ الجمعِ بحثَها ومناقشتَها، وأنّهم خلصوا فيها إلى ما أجمعوا عليه، ولم يُذكر عنهم خلاف صحيح في هذا الترتيب.
ونحن يغنينا إجماعُهم عن تطلّب أدلّتهم في ارتضاء هذا الترتيب.
قال سليمان بن بلال التَّيمي: سمعتُ ربيعةَ يُسأل: لم قُدِّمَت البقرة وآل عمران وقد نزل قبلهما بضع وثمانون سورة بمكة، وإنما نزلتا بالمدينة؟
فقال: «قُدِّمَتا، وأٌلّفَ القرآن على علمٍ ممن ألَّفه به، ومن كان معه فيه، واجتماعهم على علمهم بذلك، فهذا مما يُنتهى إليه، ولا يُسأل عنه» رواه ابن وهب في جامعه كما في جامع بيان العلم لابن عبد البر، ورواه أيضا ابن شبة في تاريخ المدينة.
وربيعة هو ابن أبي عبد الرحمن المدني(ت:136هـ) المعروف بربيعة الرأي، شيخ الإمام مالك، ومفتي أهل المدينة في زمانه، وهو من عداد التابعين من طبقة الزهري، ويحيى بن سعيد الأنصاري.
وفي هذا الأثر التأكيد على أنّ تأليف السور كان على علمٍ من قرّاء الصحابة وعلمائهم، وأن لديهم من العلم ما اقتضى هذا الترتيب، إذ من المقطوع به أنهم ألَّفوه عن علمٍ صحيحٍ يُعتدّ به، وأنهم أصابوا ولم يخطئوا.
وإنما اختلافُ العلماء في نوع هذا العلم؛ هل هو توقيف من النبي صلى الله عليه وسلم؟ أو هو اجتهاد اجتهدوه فأصابوا فيه؟
ومراد ربيعة ظاهرٌ في أنّ هذا العلم مما خفي علينا أصله وعلمنا نتيجته، وأنَّ في إجماعهم على هذا الترتيب غنيةً عن تكلّف العلم بما بنوا عليه هذا الترتيب.
ولو أنَّ هذه المسألة كُفَّ عنها لما وسعنا إلا الكفّ، ولكن لمّا اختلف فيها أهل العلم بعد ذلك وكثر بحث هذه المسألة في كتب علوم القرآن احتاج طالب علم التفسير إلى أن يُلخّص له بحث هذه المسألة حتى يعرف أقوال العلماء فيها وأدلَّتهم والقول الراجح فيها.

قال ابن وهب: سمعت مالكاً يقول: (إنما أُلِّفَ القرآن على ما كانوا يسمعونه من النبى صلى الله عليه وسلم).
وهذا الأثر عن مالك فَهِمَ منه بعضُ أهل العلم أنه أراد التوقيف، ولذلك ذهب أبو عمرو الداني وابن بطال وجماعة من العلماء إلى أنّ ترتيب سور القرآن توقيف من النبي صلى الله عليه وسلم، وقال بهذا القول أبو بكر ابن الأنباري وأبو جعفر النحاس وغيرهما.
قال أبو عمرو الداني: (القول عندنا في تأليف السور وتسميتها وترتيب آيها في الكتابة أن ذلك توقيف من رسول الله وإعلام منه به لتوفر مجيء الأخبار بذلك واقتضاء العادة بكونه كذلك، وتواطؤ الجماعة، واتفاق الأمة عليه، وبالله التوفيق).
وقال ابن بطال: (وأما ما رُوي من اختلاف مصحف أبىّ وعلىّ وعبد الله إنما كان قبل العرض الأخير، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم رتَّب لهم تأليف السور بعد أن لم يكن فعل ذلك، روى يونس عن ابن وهب قال: سمعت مالكًا يقول: "إنما أُلف القرآن على ما كانوا يسمعونه من قراءة رسول الله")ا.هـ.
وهذا ظاهر في أنّه إنما فهم التوقيف من كلام الإمام مالك رحمه الله؛ فأدّاه ذلك إلى حمل اختلاف التأليف في مصاحف الصحابة إلى أنه كان قبل العرضة الأخيرة، ولا يصحّ ذلك؛ فإنّ ابن مسعود رضي الله عنه ممن شهد العرضة الأخيرة وتأليف مصحفه الأوّل كان مختلفاً عن تأليف المصاحف العثمانية.
وقال أبو بكر بن الأنباري فيما نقله الزركشي في البرهان: (أنزل الله القرآن كله إلى سماء الدنيا ثم فرق في بضع وعشرين فكانت السورة تنزل لأمر يحدث والآية جوابا لمستخبر ويقف جبريل النبي صلى الله عليه وسلم على موضع السورة والآية فاتساق السور كاتساق الآيات والحروف كله عن النبي صلى الله عليه وسلم فمن قدم سورة أو أخرها فقد أفسد نظم لآيات).
وقال أبو جعفر النحاس: (المختار أن تأليف السور على هذا الترتيب من رسول الله صلى الله عليه وسلم).
فهؤلاء العلماء ذهبوا إلى أنّ ترتيب السور توقيفي من الرسول صلى الله عليه وسلم.

وذهب القاضي عياض وحكاه عن جمهور أهل العلم والمحققين منهم إلى أنّ الصحابة اجتهدوا في ترتيب السور، وأنهم توخَّوا في الترتيب ما كانوا يعرفونه من النبي صلى الله عليه وسلم في غالب أحوال قراءته.

قال القاضي عياض: (ترتيب السور اجتهاد من المسلمين حين كتبوا المصحف لم يكن ذلك من تحديد النبى عليه السلام، وإنما وكله إلى أمته بعده، وهو قول جمهور العلماء، وهو قول مالك واختيار القاضى أبى بكر الباقلانى وأصح القولين عنده).
وقال في موضع آخر: (قول الحجاج: "ألّفوا القرآن كما ألّفه جبريل عليه السلام: السورة التى يذكر فيها البقرة..." الحديث، ولم ينكر عليه إبراهيم قوله: " ألَّفه جبريل " كما أنكر عليه ما تقدم، فإن كان يريد بقوله تأليف الآي فى كل سورة ونظمها على ما هى عليه فى المصحف الآن؛ فهو إجماع المسلمين، وأن ذلك توقيف من النبى عليه السلام، وإن كان يريد تأليف السور بعضها إثر بعض، فهو قول بعض الفقهاء والقراء، والمحققون على خلافه، وأنه اجتهاد من الأمَّة وليس بتوقيف)ا.هـ.

وهذا القول أقرب إلى الصواب إذ لو كان هذا الترتيب عن توقيفٍ من النبي صلى الله عليه وسلم لما ساغَ أن تختلفَ مصاحفُ الصحابةِ في ترتيبِ السُّوَرِ قبل جَمْعِ عثمان، ولأُنكِر على من خالفَ الترتيب الذي أَمر به النبي صلى الله عليه وسلم، وكان الصحابة أكثر تعظيماً للقرآن، وهم أحسن الأمّة عنايةً به من غير تكلّف، وأشدّ حفظاً لعهد النبي صلى الله عليه وسلّم ووصيته.
فعلمنا بذلك أن الصحابة رضي الله عنهم قد اجتهدوا في ترتيب سور المصحف اجتهاداً بعلمٍ، وقد أرادوا أن يجمعوا الأمّة على مصحف واحد لا يُختلف فيه؛ فاقتضى اجتهادُهم هذا الترتيب الذي أجمعوا عليه.

ومن دلائل توخّيهم موافقة النبي صلى الله عليه وسلم في الترتيب واستنادهم في اجتهادهم إلى أصول ضابطة أنهم قدموا فاتحة الكتاب، ثم السبع الطوال، ثم المئين، ثم المثاني، ثم المفصّل.
وهذا الترتيب العامّ مأثورٌ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في غير ما حديث، ثمّ في كلّ مجموعة من تلك المجموعات أدلّة تفصيلية يفهم منها ما يوافق هذا الترتيب في الجملة، ومنها:
1. الأحاديث المروية في تسمية سورة الفاتحة بفاتحة الكتاب ومنها حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال: بينما جبريل قاعد عند النبي صلى الله عليه وسلم سمع نقيضا من فوقه؛ فرفع رأسه، فقال: ((هذا بابٌ من السماء فُتِحَ اليوم لم يفتح قطّ إلا اليوم؛ فنزل منه مَلَكٌ؛ فقال: هذا مَلَكٌ نزل إلى الأرض لم ينزل قطّ إلا اليوم، فَسَلَّمَ، وقال: "أبشر بنورين أوتيتَهما لم يؤتَهما نبيٌّ قبلَك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته")). رواه مسلم وابن أبي شيبة والنسائي في الكبرى وغيرهم من طريق عمار بن رزيق، عن عبد الله بن عيسى، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس.
وفي هذا الاسم أحاديث أخرى في الصحيحين وغيرهما منها حديث عائشة وعبادة بن الصامت وأبي قتادة وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهم.

2. وحديث النواس بن سمعان الكلابي رضي الله عنه، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: «يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به تقدمه سورة البقرة وآل عمران»، وضرب لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أمثال ما نسيتهن بعد، قال: «كأنهما غمامتان، أو ظلتان سوداوان بينهما شرق، أو كأنهما حِزْقان من طير صواف، تحاجان عن صاحبهما» رواه أحمد ومسلم والترمذي من طريق الوليد بن عبد الرحمن الجرشي، عن جبير بن نفير عن النواس بن سمعان الكلابي.

3. وقال عبد الرحمن بن يزيد النخعي: سمعت ابن مسعودٍ يقول في بني إسرائيل، والكهف، ومريم، وطه، والأنبياء: «إنهن من العتاق الأول، وهنَّ من تلادي» رواه البخاري.
فذكرهنّ على نسق الترتيب الذي هي عليه في المصحف.

4. وحديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم (كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه، ثم نفث فيهما فقرأ فيهما: قل هو الله أحد وقل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس، ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده، يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده يفعل ذلك ثلاث مرات). رواه البخاري من حديث ابن شهاب الزهري عن عروة عن عائشة.

قال أبو جعفر ابن الزبير: (فكيف ما دار الأمر؛ فمنه صلى الله عليه وسلم عُرِفَ ترتيب السور، وعلى ما سمعوه منه بنوا جليل ذلك النظر، فإذاً إنما الخلاف هل ذلك بتوقيف قولي أو بمجرد استناد فعلي بحيث بقي لهم فيه مجال للنظر؛ فهذا موضع الخلاف)ا.هـ
وقال ابن عطية: (وظاهر الآثار أن السبع الطول والحواميم والمفصل كان مرتباً في زمن النبي عليه السلام، وكان في السور ما لم يرتب، فذلك هو الذي رُتّب وقت الكَتْب).
قال أبو جعفر ابن الزبير معقباً عليه: (وظواهر الآثار شاهدة بصحة ما ذهب إليه في أكثر ما نُص عليه، ثم يبقى بعدُ قليل من السور يمكن فيها جري الخلاف أو يكون وقع، وإذا كان مستند المسألة النقل لم يصعب خلاف غير أهله)ا.هـ.
ونقل السيوطي في الإتقان عن البيهقي في المدخل أنه قال: (كان القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم مرتبا سوره وآياته على هذا الترتيب إلا الأنفال وبراءة لحديث عثمان السابق).
وهو قول فيه نظر لأن اختلاف ترتيب السور في مصاحف الصحابة رضي الله عنهم كان في أكثر من ذلك،
ولم أقف على نصّ كلام البيهقي، ولعله نقله بالمعنى، وسيأتي الكلام على حديث عثمان وابن عباس في شأن براءة والأنفال.

وخلاصة القول الراجح في هذه المسألة أن ترتيب السور في المصاحف العثمانية كان باجتهاد من الصحابة رضي الله عنهم لكنّهم لم يكن اجتهاداً مستنَدُه مجرّد الرأي والاستحسان، بل كانوا يتوخّون ما كانوا يسمعونه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وترجيح بعض الأدلة على بعض، وكانوا هم أعلم الأمّة بذلك، وقد أجمعوا على ما انتهوا إليه؛ فصار إجماعهم حجّة قاطعة للنزاع، فلا يجوز أن يُكتب مصحف تامّ يخالف ترتيب السور في المصاحف العثمانية.
ونحن وإن كان قد خفيَ علينا بعضُ أدلَّتهم فإنَّ في النتيجة التي خلصوا إليها وإجماعِهم عليها كفايةً عن تطلُّب تفاصيل أدلّتهم ومآخذ اجتهادهم في الترتيب، وقد تقرَّر أنّ الأمّة لا تجمع على ضلالة، وأنّا مأمورون باتّباع سُنَّة الخلفاء الراشدين، وقد أقرّ هذا الترتيب عثمان بن عفان وعليّ بن أبي طالب رضي الله عنهما، وأقرّه قُرَّاء الصحابة وعلماؤهم؛ فعلمنا أن هذا الترتيب هو الحقّ الذي رضي الله أن يُرتّب به كتابه، وأن تكتب به المصاحف على مرّ القرون وتطاول الأعصر). [جمع القرآن:181 - 188]

جمهرة علوم القرآن 15 محرم 1439هـ/5-10-2017م 03:26 PM

المسألة الرابعة: الكلام على حديث يزيد الفارسي عن ابن عباس في شأن سورتي الأنفال وبراءة

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (المسألة الرابعة: الكلام على حديث يزيد الفارسي عن ابن عباس في شأن سورتي الأنفال وبراءة
قال عوف بن أبي جميلة الأعرابي: حدثنا يزيد الفارسي قال: قال لنا ابن عباس: قلت لعثمان: ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني، وإلى براءة وهي من المئين، فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطر "بسم الله الرحمن الرحيم" فوضعتموها في السبع الطوال، فما حملكم على ذلك؟

قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يأتي عليه الزمان وهو ينزل عليه من السور ذوات العدد، فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من يكتب له فيقول: «ضعوا هذه في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا» وإذا أنزلت عليه الآيات قال: «ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا» وإذا أنزلت عليه الآية، قال: «ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا»).
قال: (وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة، وكانت براءة من آخر ما أنزل من القرآن).
قال: (فكانت قصتها شبيها بقصتها، فظننا أنها منها، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها، فمن أجل ذلك قرنت بينهما، ولم أكتب بينهما سطرا: بسم الله الرحمن الرحيم، ووضعتها في السبع الطوال). رواه الإمام أحمد وأبو عبيد وأبو داوود والترمذي والنسائي في الكبرى، ومداره على يزيد الفارسي، وقد اختلف فيه: هل هو يزيد بن هرمز الفارسي أو غيره؟
فذهب الإمام أحمد وعبد الرحمن بن مهدي إلى أنهما واحد.
وذهب يحيى بن سعيد القطان وأبو حاتم الرازي ويحيى بن معين إلى التفريق بينهما.
قال أبو حاتم الرازي: (يزيد بن هرمز هذا ليس بيزيد الفارسي، هو سواه، فأما يزيد بن هرمز فهو والد عبد الله بن يزيد بن هرمز، وكان ابن هرمز من أبناء الفرس الذين كانوا بالمدينة وجالسوا أبا هريرة مثل أبي السائب مولى هشام بن زهرة ونظرائه، وليس هو يزيد الفارسي البصري الذي يروي عن ابن عباس ويروي عنه عوف الأعرابي، إنما روى عن يزيد بن هرمز الحارث بن أبي ذباب وليس بحديثه بأس، وكذلك صاحب ابن عباس لا بأس به)ا.هـ.
وقال ابن الجنيد: (قيل ليحيى بن معين وأنا أسمع: يزيد الفارسي روى عنه أحد غير عوف؟
قال: «لا»
قلت ليحيى: فإنهم يزعمون أن يزيد بن هرمز هو يزيد الفارسي الذي روى عنه الزهري وقيس بن سعد حديث نجدة.
فقال: «باطل، كذب، شيء وضعوه، ليس هو ذاك»).

وذكره البخاري في الضعفاء، وذكر عن يحيى بن سعيد القطان أنه كان مع بعض الأمراء.
وقد روى له ابن أبي داوود خبراً في كِتاب "المصاحف" من طريق عبد الله بن فيروز وفيه أنه كان كاتباً لعبيد الله بن زياد، وأنه كتب له مصحفاً بأمره فيه مخالفة لرسم المصاحف العثمانية.
وروى ابن أبي شيبة وابن شبّة عن عوف الأعرابي أن يزيد الفارسي كان يكتب المصاحف، وأنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وقصّ خبره على ابن عباس فصدّقه في وصفه.
فالذي يظهر أنه غير يزيد بن هرمز، وقول المفرّقين بينهما مقدّم هنا لما معهم من زيادة علم.
ويحيى بن سعيد القطان قد روى هذا الخبر عن عوف عن يزيد الفارسي كما في تاريخ المدينه لابن شبة؛ فهو أخبرُ به، وقد حدّثه عوفٌ به من غير واسطة.

ويزيد الفارسي ممن لا يحتمل تفرّده بمثل هذا الخبر، وقد ضعّفه البخاري، وأما قول أبي حاتم فيه: لا بأس به؛ فإنما تُمشَّى به روايته فيما لا نكارة فيه.
وهذا الخبر مما اختلف في حكمه أهل العلم
- فحسّنه الترمذي وابن حجر في كتابه "موافقة الخُبْر الخبَر"
.
- وصححه الحاكم بناء على أنّ يزيد هو ابن هرمز.
- وضعّفه أحمد شاكر والألباني وجماعة من المعاصرين.
قال أحمد شاكر: (فهذا يزيد الفارسي الذي انفرد برواية هذا الحديث، يكاد يكون مجهولا، حتى شُبِّهَ على مثل ابن مهدي وأحمد والبخاري أن يكون هو ابن هرمز أو غيره، ويذكره البخاري في الضعفاء، فلا يقبل منه مثل هذا الحديث ينفرد به).
ثمّ ذكر الشيخ أحمد شاكراً كلاماً في نقد المتن فيه نظر، فقال: (وفيه تشكيك في معرفة سور القرآن الثابتة بالتواتر القطعي، قراءةً وسماعاً وكتابةً في المصاحف، وفيه تشكيك في إثبات البسملة في أوائل السور، كأنَّ عثمان كان يثبتها برأيه وينفيها برأيه، وحاشاه من ذلك).
وهذا غير لازم، لأن اجتهاد عثمان ومن معه من الصحابة رضي الله عنهم لم يكن عن مجرّد الرأي والاستحسان، وإنما كان اجتهادهم في الاختيار من الأحرف التي يُقرأ بها.
وسيأتي الكلام على ترك البسملة في أول براءة قريباً إن شاء الله.
والمتن معلول بعلل توجب عدم قبول تفرّد يزيد الفارسي به، وما ذكره الشيخ أحمد شاكر في نقد المتن فيه نظر.
وأمّا الألباني فضعّفه لأجل أن يزيد الفارسي لم تثبت عدالته، ولأنَّ البخاري ذكره في الضعفاء، ولأن في المتن نكارة ولا متابع له عليه.
وهذه العلل كافية في ردّ رواية يزيد الفارسي هذه، وعدم الاعتداد بها.
وقد تبع الشيخين أحمد شاكر والألباني جماعة من المصنفين في علوم القرآن على تضعيف هذا الأثر وإنكاره.
وقد ردّ الشيخ عبد الله الجديع على الشيخ أحمد شاكر تضعيفَه، وذهب إلى تصحيح الأثر ترجيحاً منه بأن يزيد الفارسي هو ابن هرمز، وعلى فرض أنه غيره فدفع عنه الجهالة بقول ابن أبي حاتم فيه: (لا بأس به)، وبأنّ ما ذكره الشيخ أحمد شاكر من نكارة المتن غير لازم، وأنّ أهل الحديث على مرّ القرون كانوا يروونه من غير نكير، وأنّه لم يؤثر عن أحد من الأئمة المتقدمين تضعيف هذا الخبر، وإنما المأثور عنهم تصحيحُه أو تحسينُه.

وقول الشيخ الجديع مُتعقَّب بما ذكره الطحاوي في شرح مشكل الآثار من إعلال بعض العلماء المتقدمين لمتن الأثر؛ إذ قال فيما حكى عنهم: (وأَنِفُوا أنْ يكونَ مثلُ هذا يذهب عن عثمان رضي الله عنه لعنايته بالقرآن قديماً وحديثاً إلى أن توفَّاه الله رضي الله عنه على ذلك).

وما روي عن عثمان أنه قال في هذا الأثر: (فكانت قصتها شبيها بقصتها، فظننا أنها منها، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها، فمن أجل ذلك قرنت بينهما، ولم أكتب بينهما سطرا: بسم الله الرحمن الرحيم).
ففيه علل توجب ردّ هذه الجمل:
منها: أنّه يلزم من ذلك أن يكون قد غاب عن عثمان وجميع قرّاء الصحابة والتابعين في زمان الجمع معرفة كون سورة الأنفال من التوبة أو لا، وأنه لم يكن لدى أحد منهم علم تقوم به الحجّة في هذا الأمر.
ومنها: أنه يلزم من ذلك أن يكون هذا الإشكال قد عرض في جمع أبي بكر ولم يُحسم، وقد كان قراء الصحابة فيه أكثر توافراً.
ومنها: أنه يلزم من ذلك مخالفة الإجماع في ترتيب آيات كلّ سورة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وحفظها في الصدور.
ومنها: أنه يلزم من ذلك أنه قد فات علمُ هذا الأمر على من شهد العرضة الأخيرة من الصحابة رضي الله عنهم.
ومنها: أن هذا الخبر ينقض أوَّلُه آخرَه؛ فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يوقفهم على مواضع الآيات من السور؛ فكيف يظنّ أنه لم يبيّن لهم ما هو أعظم من ذلك وهو أن سورة تزيد على مائة آية لا يدرون هل هي مستقلة أو تابعة لسورة أخرى؟!!
فكيف يقول: ((فكانت قصتها شبيها بقصتها، فظننا أنها منها..).
ومنها: أن يقال: كيف خفي علم هذا الأمر العظيم المتعلق بمسألة من مظانّ ما يعتنى به وتتوافر الهمم على فقهه مدارسة وتقريراً كيف خفي علمه عن خاصة أصحاب ابن عباس وأعلمهم بالتفسير كسعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة وعطاء بن أبي رباح وطاووس بن كيسان وأضرابهم حتى يتفرد بروايته يزيد الفارسي.

والخلاصة أنّ هذا الخبر فيه مواضع منكرة مخالفة لما صحّ من الأحاديث والآثار وهو ما يتعلق بتميّز سورة الأنفال عن سورة التوبة، ودعوى أن عثمان ومن معه كانوا يجهلون هذا الأمر العظيم، وقد علموا دقائق الفروق بين الأحرف السبعة ووازنوا بين القراءات واختاروا منها.
وقد يقال: إنّ سورتي التوبة والأنفال سورة واحدة في بعض الأحرف، وسورتان في أحرف أخرى، كما حُكي في سورتي الفيل وقريش أنّهما سورة واحدة في قراءة أبيّ بن كعب، ويكون الاجتهاد المذكور عن عثمان هو اجتهاد مفاضلة بين الأحرف، إذ لا بدّ من أن يُكتب المصحف على قول واحد مختار، ثم جرى من حكاية الأثر بالمعنى ما أثار بعض الإشكالات التي تزول بالتفصيل والتمحيص.
والنتيجة المتّفق عليها أنّ ما كُتب عليه المصحف واستقرّ عليه الاختيارُ أمرٌ مجمعٌ على صحّته لا يُرتاب في ذلك، وإن خفيت علينا بعض أسباب الخلاف ومآخذ الاختيارات.
وأما ما يتعلّق بترتيب السُّوَرِ وترك كتابة البسملة في أوَّل براءة فهو أمرٌ يدخله الاجتهادُ في المفاضلة بين الأحرف السبعة، ولا نكارة في ذلك كما تقدّم، غير أنّ العمدة في ذلك ليست على خبر يزيد الفارسي). [جمع القرآن:188 - 194]

جمهرة علوم القرآن 15 محرم 1439هـ/5-10-2017م 03:28 PM

المسألة الخامسة: الجواب عن اختلاف ترتيب السور في مصاحف الصحابة

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (المسألة الخامسة: الجواب عن اختلاف ترتيب السور في مصاحف الصحابة
مصاحف الصحابة وكبار التابعين منها ما كُتب قبل جمع عثمان، ومنها ما كتب بعده أو بقي بعده لم يتلف في زمن عثمان.
فأما ما كان قبل جمع عثمان فإنّ اختلاف الترتيب فيه راجع إلى اجتهاد كلّ قارئ، ولم يكن ترتيب السور في مصاحفهم واجباً عليهم كما أنه لم يكن من الواجب عليهم في التلاوة ترتيب السور.
لكن لمّا جمع عثمان الناسَ على مصحف واحد بترتيب واحد وانعقد الإجماع عليه لم يسغ لأحد أن يكتب مصحفاً يخالف فيه ترتيب سور المصاحف العثمانية.

وقد كان لبعض الصحابة قبل الجمع العثماني مصاحف وصحف كتبوا فيها عدداً من السور تختلف في ترتيبها عن ترتيب السور في المصاحف العثمانية.
قال شقيق بن سلمة: قال عبد الله بن مسعود: «لقد تعلمت النظائر التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرؤهن اثنين اثنين، في كل ركعة»، فقام عبد الله ودخل معه علقمة، وخرج علقمة فسألناه، فقال: عشرون سورة من أول المفصل على تأليف ابن مسعود، آخرهن الحواميم: حم الدخان وعم يتساءلون). رواه البخاري.
فقوله: (على تأليف ابن مسعود) يدلّ على أنّ لها تأليفاً مختلفاً عما يعهده المخاطبون، وكان ذلك التأليف قبل جمع عثمان.

وكان لابن مسعود مصحف، ولأبيّ بن كعب مصحف، ولأبي موسى الأشعري مصحف، ولأبي الدرداء مصحف، ولغيرهم من الصحابة وكبار التابعين مصاحف قبل جمع عثمان، وسيأتي الحديث عنها في درس "مصاحف الصحابة "، وعامّة هذه المصاحف قد أُتلف بأمر عثمان بن عفان، وبقي عدد قليل تأخّر إتلافُه.
وكان بين تلك المصاحف من الاختلاف في الأحرف وترتيب السور ما استدعى الجمع العثماني، بل نُقل ما هو أشدّ من ذلك وهو تضمّن بعض تلك المصاحف لآيات وسور منسوخة التلاوة كسورتي الخلع والحفد.
قال عبد الأعلى بن عبد الأعلى: حدثنا هشام، عن محمد بن سيرين (أن أبيَّ بن كعب كتبهن في مصحفه خمسَهن، أم الكتاب، والمعوذتين، والسورتين، وتركهن ابن مسعود كلهن، وكتب ابن عفان فاتحة الكتاب، والمعوذتين، وترك السورتين). رواه عمر بن شبة.

فأما كتابة السور والآيات المنسوخة في بعض المصاحف قبل جمع عثمان فهو راجع إلى أحد أمرين:
أولهما: عدم العلم بالنسخ، ولا ريب أن اجتماع القراء في زمن عثمان أدعى لانتفاء هذه العلّة، ولذلك لم يثبت في المصاحف العثمانية ما نُسخت تلاوته.
والثاني: أن بقاءها ليس لتلاوتها كما تتلى سور القرآن غير المنسوخة، ولا لإقرائها، وإنما للعلم بها، ولأنّ تلك المصاحف خاصة بأصحابها.

ولمّا جمع عثمان الناس على مصحف واحد عزم على كلّ من عنده مصحف أو صحف فيها قرآن أن يأتي به؛ فسلّمه الناس مصاحفهم فلمّا نسخ ما فيها وأتمّ جمع المصاحف واطمئنّ الصحابة لصحّة الجمع، أمر بحرق بقية المصاحف؛ وبعث إلى الأمصار بمصاحف وأمر بحرق ما سواها.
فأتلفت عامّة المصاحف بأمر عثمان بن عفان رحمه الله كما سبق بيانه، لكن بقي مما لم يتلف: المصحف الذي جمعه أبو بكر؛ فإنّ عثمان ردّه إلى حفصة وبقي إلى زمن معاوية ثم أتلفه مروان بن الحكم.
وكان ابن مسعود قد خطب في الكوفة وأمر الناس ألا يسلموا مصاحفهم؛ ثمّ إنّه استجاب بعد ذلك وأقام مصحفه على المصحف الذي بعث به عثمان إلى أهل الكوفة.
واستقرّ ترتيب السور في المصاحف على ترتيب المصاحف العثمانية، وأجمعت الأمّة على ذلك، فلا يسوغ أن يُكتب مصحف تامّ على ترتيب يخالف ترتيب المصاحف العثمانية.

لكن بقي بين المصاحف أوجهٌ من الاختلاف في الرسم وفي عدّ الآي كما سبق بيانه.

وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أنّ ما خالف المصاحف العثمانية في الترتيب من مصاحف الصحابة فإنما سببه أنه كان قبل العرضة الأخيرة.
قال ابن بطال: (وأما ما روى من اختلاف مصحف أبىّ وعلىّ وعبد الله إنما كان قبل العرض الأخير، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم رتب لهم تأليف السور بعد أن لم يكن فعل ذلك).
وهذا القول أدّاه إليه قوله بتوقيف ترتيب السور، وهو قول مرجوح كما تقدّم، وقد ثبت اختلاف مصاحف الصحابة في الترتيب، وليس كلّ الاختلاف مرجعه إلى النسخ.

وعلى هذا فكلّ اختلاف قبل جمع عثمان فهو مرفوع بالجمع العثماني الذي استقرّ عليه الأمر.
وما بقي من اختلاف في مصاحف بعض الصحابة أو التابعين فالأظهر أنه من بقايا ما لم يُتلف من تلك المصاحف، ثم لم يبق بعد ذلك منها شيء.
قال ابن جريج: أخبرني يوسف بن ماهك، قال: إني عند عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، إذ جاءها عراقي، فقال: أي الكفن خير؟
قالت: (ويحك، وما يضرك؟)
قال: يا أم المؤمنين، أريني مصحفك؟
قالت: (لمَ؟)
قال: (لعلي أؤلّف القرآنَ عليه، فإنه يُقرأ غير مؤلف).
قالت: (وما يضرّكَ أيَّهُ قرأتَ قبل!! إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل، فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبدا، ولو نزل: لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنا أبدا، لقد نزل بمكة على محمد صلى الله عليه وسلم وإني لـَجاريةٌ أَلعب: {بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر} وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده).
قال: (فأخرجت له المصحف، فأملت عليه آي السور). رواه البخاري.
قال ابن كثير: (كأنَّ هذا قبل أن يبعث أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه إلى الآفاق بالمصاحف الأئمة المؤلفة على هذا الترتيب المشهور اليوم، وقبل الإلزام به).
وتعقّبه ابن حجر بقوله: (كذا قال وفيه نظر؛ فإن يوسف بن ماهك لم يدرك زمان أرسل عثمان المصاحف إلى الآفاق؛ فقد ذكر المزي أن روايته عن أبيّ بن كعب مرسلة، وأبيّ عاش بعد إرسال المصاحف على الصحيح وقد صرَّح يوسف في هذا الحديث أنه كان عند عائشة حين سألها هذا العراقي)ا.هـ.
قلت: يوسف بن ماهك توفّي سنة 113هـ، وبين جمع عثمان ووفاته نحو 88 سنة؛ ولم أجد له رواية متصلة عمّن مات في زمن عثمان؛ فلعله إنما ولد في زمانه أو بعده.

وقد حُمل سؤال هذا السائل العراقي على أحد أمرين:
أحدهما: أن يكون سؤاله عن ترتيب السور، ويشهد له قولها رضي الله عنها: (وما يضرّك أيّه قرأت قبل).
والثاني: أن يكون سؤاله عن عدد الآي، وهو من علوم القرآن التي يُعنى بها القُرّاء، ويشهد لهذا الاحتمال قولُه: (فأملت عليه آي السور).
قال ابن حجر: (كأن تقول له سورة كذا مثلا كذا آية، الأولى كذا، الثانية إلخ، وهذا يرجع إلى اختلاف عدد الآيات، وفيه اختلاف بين المدني والشامي والبصري، وقد اعتنى أئمة القراء بجمع ذلك وبيان الخلاف فيه)ا.هـ.

والاحتمال الأوّل أجاب عنه ابن حجر بقوله: (الذي يظهر لي أن هذا العراقي كان ممن يأخذ بقراءة ابن مسعود، وكان ابن مسعود لما حضر مصحف عثمان إلى الكوفة لم يوافق على الرجوع عن قراءته ولا على إعدام مصحفه...فكان تأليف مصحفه مغايراً لتأليف مصحف عثمان، ولا شكَّ أنَّ تأليف المصحف العثماني أكثر مناسبة من غيره فلهذا أطلق العراقي أنه غير مؤلف وهذا كله على أن السؤال إنما وقع عن ترتيب السور ويدل على ذلك قولها له وما يضرك أيه قرأت قبل)ا.هـ.
قال: (ويحتمل أن يكون السؤال وقع عن الأمرين).
وقد أحسن ابن حجر رحمه الله الجواب عن هذا الأثر). [جمع القرآن:195 - 200]

جمهرة علوم القرآن 15 محرم 1439هـ/5-10-2017م 03:31 PM

المسألة السادسة: الفصل بين السور بالبسملة

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (المسألة السادسة: الفصل بين السور بالبسملة
قال ابن عباس رضي الله عنهما: « كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يعرف فصل السورة حتى تنزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم » رواه أبو داوود والحاكم وغيرهما من طرق عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، ولهذا الحديث طرق أخرى بألفاظ مختلفة.
ورواه عبد الرزاق في مصنفه عن ابن جريج قال: أخبرني عمرو بن دينار، أن سعيد بن جبير أخبره (أن المؤمنين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا لا يعلمون انقضاء السورة حتى ينزل: {بسم الله الرحمن الرحيم} فإذا نزل: {بسم الله الرحمن الرحيم} علموا أن قد نزلت السورة، وانقضت الأخرى). هكذا مرسلاً.
وروى البيهقي في شعب الإيمان عن عثمان بن الحجاج العبدي عن عبد الله بن أبي حسين النوفلي ذكر عن ابن مسعود، قال: (كنا لا نعلم فصل ما بين السورتين حتى تنزل {بسم الله الرحمن الرحيم})
عثمان مجهول، وابن أبي حسين لم يدرك ابن مسعود، لكن المعوّل على حديث ابن عباس، وعلى كتابة الصحابة رضي الله عنهم إياها في فواتح السور.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فيه أنها نزلت للفصل، وليس فيه أنها آية منها، و {تبارك الذي بيده الملك} ثلاثون آية بدون البسملة؛ ولأن العادين لآيات القرآن لم يعدّ أحد منهم البسملة من السورة)ا.هـ.
وقال في موضع آخر: (توسّط أكثر فقهاء الحديث كأحمد ومحققي أصحاب أبي حنيفة، فقالوا: كتابتها في المصحف تقتضي أنها من القرآن؛ للعلم بأنهم لم يكتبوا فيه ما ليس بقرآن، لكن لا يقتضي ذلك أنها من السورة، بل تكون آية مفردة أنزلت في أول كل سورة، كما كتبها الصحابة سطرا مفصولا، كما قال ابن عباس: " كان لا يعرف فصل السورة حتى ينزل بسم الله الرحمن الرحيم".
فعند هؤلاء: هي آية من كتاب الله في أول كل سورة كتبت في أولها، وليست من السورة. وهذا هو المنصوص عن أحمد في غير موضع. ولم يوجد عنه نقل صريح بخلاف ذلك. وهو قول عبد الله بن المبارك وغيره. وهو أوسط الأقوال وأعدلها)ا.هـ.

قال عبد الله بن المبارك وأحمد بن حنبل: (من ترك {بسم الله الرحمن الرحيم} في فواتح السور، فقد ترك مائة وثلاث عشرة آية من القرآن). رواه البيهقي في شعب الإيمان عنهما.
وقد مضى بحث مسألة عدّ البسملة آية من السور في تفسير سورة الفاتحة بما أغنى عن إعادته، وإنما المقصود هنا التنبيه على أنّ الصحابة رضي الله عنهم كتبوا البسملة في سطر مفصول في أوّل كل سورة ما عدا سورة براءة، وأنها آية من القرآن.
قالَ أبو بكرٍ البيهقيُّ (ت:458هـ): (لم يختلف أهل العلم في نزول {بسم الله الرحمن الرحيم} قرآنا، وإنما اختلفوا في عدد النزول).
ثم قال: (وفي إثبات الصحابة رسمها حيثُ كتبوها في مصاحفهم دلالةٌ على صحةِ قولِ من ادَّعى نزولَها حيث كُتِبَت، والله أعلم)ا.هـ.

ولا يقدح في الإجماع الذي ذكره البيهقي ما نُقل من شذوذ الأقوال فهي إما غير ثابتة عن أصحابها أو مما أنكره أهل العلم.
قال إبراهيم بن يزيد القرشي: قلت لعمرو بن دينار: (إنَّ الفضلَ الرقاشي زعم أن {بسم الله الرحمن الرحيم} ليس من القرآن!
قال: سبحان الله ما أجرأ هذا الرجل!! سمعت سعيد بن جبير يقول: سمعت ابن عباس يقول: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أنزلت عليه {بسم الله الرحمن الرحيم} علم أن تلك السورة قد ختمت وفتح غيرها). رواه البيهقي في شعب الإيمان.
إبراهيم بن يزيد متروك الحديث، والفضل بن عيسى بن أبان الرقاشي قَدَريٌّ مُنكَر الحديث؛ مُجمَعٌ على تركِه، قال فيه حماد بن زيد: (كان من أخبث الناس قولاً). فلا يلتفت إلى قوله). [جمع القرآن:200 - 202]

جمهرة علوم القرآن 15 محرم 1439هـ/5-10-2017م 03:37 PM

المسألة السابعة: سبب ترك كتابة البسملة في أول براءة

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (المسألة السابعة: سبب ترك كتابة البسملة في أول براءة
قال ابن الجزري: (لا خلاف في حذف البسملة بين الأنفال وبراءة، عن كل من بسمل بين السورتين، وكذلك في الابتداء ببراءة على الصحيح عند أهل الأداء، وممن حكى بالإجماع على ذلك أبو الحسن بن غلبون، وابن القاسم بن الفحام، ومكي، وغيرهم، وهو الذي لا يوجد نصّ بخلافه)ا.هـ.

واختلف بعد ذلك: هل ترك البسملة في أوّل براءة عامّ في الأحرف كلها؟ أو هو خاصّ بما اقتضاه الجمع العثماني؟
فنقل ابن الباذش أن التسميةَ في أوَّل بَراءةَ كانت في مصحف ابن مسعود؛ فإنْ ثبتَ هذا فيكون تركُ التسميةِ في بعض الأحرف دون بعض، ويكون اختيار عثمان ومن معه ترك التسمية في أوّل براءةَ من جنسِ اجتهادِهم في الاختيار بين الأحرف السبعة.
قال ابن الباذش في كتابه "الإقناع في القراءات السبع": (أجمعوا على تركها بين الأنفال وبراءة اتباعاً لمصحف عثمان رضي الله عنه المجمع عليه، إلا أنه رُوي عن يحيى وغيره عن أبي بكر عن عاصم أنه كان يكتب بينهما التسمية، ويُروى ذلك عن زرّ عن عبد الله، وأنه أثبته في مصحفه، ولا يؤخذ بهذا).
قال ابن حجر: (ونقل صاحب الإقناع أن البسملة لبراءة ثابتة في مصحف ابن مسعود، قال: "ولا يؤخذ بهذا")ا.هـ.
قلت: سبب عدم الأخذ بهذا الإجماع على ترك القراءة بما خالف المصاحف العثمانية كما تقدّم.

فالمعوّل في إثبات التسمية وحذفها إنما هو على ما ثبت بالتلقّي عن النبي صلى الله عليه وسلم رواية.
وقد ذكر مكيّ بن أبي طالب في الهداية عن أبيّ بن كعب رضي الله عنه أنه قال: (آخر ما نزل "براءة " وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر في أول كل سورة بـ: {بسم الله الرحمن الرحيم}، ولم يأمر في سورة " براءة " بشيء).
قال: (فلذلك ضُمّت إلى سورة " الأنفال "، وكانت أولى بها لشبهها بها).
ولم أقف عليه مسنداً.

وقال القشيري: (الصّحيح أن البسملة لم تكتب فيها لأن جبريل عليه السّلام ما نزل بها فيها).

قلت: وهذا القول لا يمكن الجزم به في جميع الأحرف.

ثمّ اختلف العلماء بعد ذلك في التماس الحكمة من ترك البسملة في أوّل براءة على أقوال مبناها على الاجتهاد:
القول الأول: لأن براءة نزلت بالسيف والبسملة أمان، وهذا القول رُوي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه بإسناد ضعيف.
قال محمد بن زكريا الغلابي: حدثنا يعقوب بن جعفر بن سليمان الهاشمي، حدثني أبي، عن أبيه، عن علي بن عبد الله بن عباس، قال: سمعت أبي يقول: سألت علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لم لم تكتب في براءة بسم الله الرحمن الرحيم؟ قال: لأن «بسم الله الرحمن الرحيم أمان وبراءة نزلت بالسيف، ليس فيها أمان»). رواه ابن الأعرابي في معجمه، والحاكم في المستدرك، وهو ضعيف الإسناد؛ محمد بن زكريا رماه الدارقطني بالوضع.
وقريب من هذا القول ما رواه الثعلبي عن سفيان بن عيينة.
وقال أبو يزيد حاتم بن محبوب الشامي: سمعت عبد الجبار بن العلاء العطار يقول: سُئل سفيان بن عيينة: لِـمَ لَـمْ يكن في صدر براءة:{بسم الله الرحمن الرحيم} ، فقال: (لأن التسمية رحمة، والرحمة أمان، وهذه السورة نزلت في المنافقين وبالسيف ولا أمان للمنافقين). رواه الثعلبي.
وهذا القول اعتُرض عليه بأنّ من سور القرآن ما نزل في شأن الكفار والمنافقين بل سمّيت السور بذلك كما في سورتي الكافرون والمنافقون وقد بُدئتا بالبسملة.
ويمكن أن يجاب عن هذا الاعتراض بأنّ مقام إعلان البراءة والنذارة مقام خاصّ يناسب معه ترك البدء بالبسملة.
وقال أبو إسحاق الزجاج: (أخبرنا بعض أصحابنا عن صاحبنا أبي العباس محمد بن يزيد المبرّد أنَّه قال: (لم تفتتح بـ{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، لأن "بسم اللَّه" افتتاح للخير، وأوَّل "براءَة" وَعيدٌ ونقض عُهود، فلذلك لم تفتتح بـ{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}).

والقول الثاني: لأنها نسخت مع ما نسخت تلاوته من أوّل سورة براءة، وقد روي أنها كانت تعدل سورة البقرة؛ وهذا القول مروي عن الإمام مالك.
قال القرطبي: (وقال مالك فيما رواه ابن وهب وابن القاسم وابن عبد الحكم: إنه لما سقط أوَّلها سقط {بسم الله الرحمن الرحيم} معه).
وقد تعقّب ابن عاشور نسبة هذا القول إلى الإمام مالك.

والقول الثالث: لأن الصحابة اختلفوا فيها فمنهم من ذهب إلى أن الأنفال والتوبة سورة واحدة، ومنهم من ذهب إلى أنهما سورتان؛ فقرن بينهما، ولم يفصل بينهما ببسملة، وهذا القول ذكره القرطبي عن خارجة وأبي عصمة وغيرهما، ويمكن أن يستدلّ لهذا القول بحديث يزيد الفارسي المتقدّم.
وقال ابن وهب: حدثني ابن لهيعة قال: (يقولون إن براءة من: {يسألونك عن الأنفال}، قالوا: وإنما ترك {بسم الله الرحمن الرحيم} أن يكتب في براءة لأنها من: {يسألونك}).
وروى عبد الرزاق عن معمر وعطاء أنهما ذكرا ذلك.
وقال الزمخشري في تفسيره: (وقد اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم: الأنفال وبراءة سورة واحدة. وقال بعضهم: هما سورتان، فتركت بينهما فرجة لقول من قال: هما سورتان، وتركت بسم الله الرحمن الرحيم لقول من قال: هما سورة واحدة)ا.هـ

والقول الرابع: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما كتب في صلح الحديبية «بسم الله الرحمن الرحيم» ، لم يقبلوها وردُّوها، فما ردَّها الله عليهم، وهذا القول ذكره ابن الجوزي عن عبد العزيز بن يحيى المكي). [جمع القرآن:202 - 206]

جمهرة علوم القرآن 15 محرم 1439هـ/5-10-2017م 05:32 PM

الباب العاشر: مصاحف الصحابة رضي الله عنهم

مصاحف الصحابة رضي الله عنهم

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (مصاحف الصحابة رضي الله عنهم
من المسائل المتّصلة بجمع القرآن ما يتعلق بمصاحف الصحابة رضي الله عنهم قبل الجمع العثماني وبعده، ومعرفة أحوال تلك المصاحف وتحرير أحكام ما يُنسب إليها مما يعين على معرفة الجواب عن الإشكالات التي تثار في هذا الباب، وكشف شبهات الطاعنين في جمع القرآن من الرافضة والمستشرقين والزنادقة.

وقد عُلم مما تقدّم أن الصحابة رضي الله عنهم لم يكن لهم مصحفٌ جامع في حياة النبي صلى الله عليه وسلم لما سبق ذكره من أنّ الوحي لم يكن قد انقطع؛ وكان القرآن يزيد الله فيه ما يشاء وينسخ على ما تقتضيه حكمته.

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر كتّاب الوحي أن يكتبوا له، وأذن للصحابة رضي الله عنهم أن يكتبوا عنه القرآن، بل كان ينهى عن كتابة غير القرآن لئلا يلتبس عليهم بغيره كما في صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه، وحدثوا عني ولا حرج، ومن كذب عليَّ متعمداً فليتبوَّأ مقعده من النار).
ثمّ إنّ النبي صلى الله عليه وسلم أذن لعبد الله بن عمرو بن العاص أن يكتب عنه كلامه صلى الله عليه وسلم؛ فكانت عنده صحيفة تسمّى "الصادقة"، وأذن لبعض أصحابه بالكتابة لمّا أُمنت فتنة التباس القرآن بغيره، وكَثُر حملة القرآن من أصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم.

فكان من الصحابة رضي الله عنهم من يكتب لنفسه بعض السور والآيات، وبعض أؤلئك كانت كتابتهم من إملاء رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم، كما في كتاب المصاحف لابن أبي داوود من رواية إسرائيل بن يونس، عن جدّه أبي إسحاق السبيعي، عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص أن عثمان قال في خطبته: (فأعزمُ على كلِّ رجل منكم ما كان معه من كتاب الله شيء لما جاء به)
قال مصعب: وكان الرجل يجيء بالورقة والأديم فيه القرآن، حتى جمع من ذلك كثرةً، ثم دخل عثمان فدعاهم رجلاً رجلاً فناشدهم: (لسمعتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أملاه عليك؟)
فيقول: نعم..). ثم ساق الخبر.
ورواه عمر بن شبة من طريق زيد بن أبي أنيسة عن أبي إسحاق السبيعي ، عن مصعب بن سعد أنَّ عثمان عزم على كلِّ مَن كان عنده شيء من القرآن إلا جاء به، قال: (فجاء الناس بما عندهم، فجعل يسألهم عليه البينة أنهم سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم).

وكانوا يكتبون في العسب واللخاف والأكتاف والأدُم كما تقدّم بيانه؛ فلمّا مات رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من أعظم أوجه عناية الصحابة رضي الله عنهم بالقرآن استكمال جمعه والتفقّه في معانيه وتدارسه، ومنهم من حبس نفسه لذلك.

قال يزيد بن هارون: أخبرنا ابن عونٍ، عن محمّد [بن سيرين]، قال: لمّا استُخلف أبو بكرٍ قعد عليٌّ في بيته؛ فقيل لأبي بكرٍ؛ فأرسل إليه: (أكرهت خلافتي؟)
قال: لا، لم أكره خلافتك، ولكن كان القرآنُ يزاد فيه، فلمّا قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلتُ عليّ أن لا أرتدي إلاّ لصلاةٍ حتّى أجمعه للنّاس، فقال أبو بكرٍ: (نعم ما رأيتَ). رواه ابن أبي شيبة.
وهذا مرسل جيد رجاله أئمة ثقات، غير أنّ محمّد بن سيرين لم يدرك عليّ بن أبي طالب.
وقد رواه ابن الضريس من طريق هوذة بن خليفة قال: (حدثنا عوف، عن محمد بن سيرين، عن عكرمة فيما أحسب..) فذكره بنحوه.
ورواه أيضا من طريق النضر بن شميل عن عوف عن ابن سيرين عن عكرمة (من غير شك).
وقد ورى نحو هذا الأثر عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن عكرمة قال: (لما بويع لأبي بكر تخلَّف عليٌّ في بيته فلقيَه عمر فقال: "تخلفت عن بيعة أبي بكر؟"
فقال: "إني آليتُ بيمين حين قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أرتدي برداء إلا إلى الصلاة المكتوبة حتى أجمع القرآن؛ فإنّي خشيتُ أن يتفلَّت القرآن" ثم خرج فبايعه).

وهذا الخبر استشكله بعض أهل العلم حتى ضعّفه ابن حجر في الفتح لانقطاعه، لما تبادر منه أنه أراد جمع القرآن مكتوباً للناس، وهذا من المعلوم أنه مخالف لقول علي بأنّ أبا بكر هو أوّل من جمع القرآن بين دفّتين.
والصواب أنّ الجمعَ المراد في الأثر المرويّ عن عليّ جمع الحفظ في صدره، ولا يمنع أن يكون كتب سوراً كثيرة في صحف، وأما جمعُ أبي بكر فكان كان مكتوباً في مصحف جامع بين لوحين.

وقد اختلف في المراد من كون زيد بن ثابت لم يجد آخر آيتين من براءة مكتوبة إلا عند أبي خزيمة على قولين:
أحدهما: حمله على ظاهره، وهو أنهما لم توجدا مكتوبتين إلا عنده.
والآخر: أن الصحابة اشترطوا في اعتبار الكتابة أن تكون من إملاء رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه، وأنّهم لم يجدوهما على هذا الشرط إلا عند أبي خزيمة.

ولمّا تيسّر للصحابة من أدوات الكتابة في زمن الخلفاء الراشدين ما تيسّر كثر فيهم اتّخاذ المصاحف، فمنها ما كتب قبل الجمع العثماني ومنها ما كتب بعده، واعتنوا بتعليم القرآن وعرض المصاحف، حتى إنّ منهم من كان يخصص موضعاً في مسجده لعرض المصاحف كما سيأتي بيانه إن شاء الله.
وذكر ابن عبد البر في التمهيد عن الإمام مالك أنه قال: (قد كان الناس ولهم مصاحف، والستَّةُ الذين أوصى إليهم عمر بن الخطاب كانت لهم مصاحف).
يريد بالستة: عثمان، وعلي، والزبير، وطلحة، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم أجمعين.
وكان لبعض أمهات المؤمنين مصاحف صحّ ذلك عن عائشة وحفصة وأم سلمة.
وممن روي أن لهم مصاحف: أبيّ بن كعب، وابن مسعود، وأبو موسى الأشعري، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وابن عباس). [جمع القرآن:207 - 211]

جمهرة علوم القرآن 15 محرم 1439هـ/5-10-2017م 05:34 PM

هل كتب أحد من الصحابة مصحفاً على ترتيب النزول؟

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (هل كتب أحد من الصحابة مصحفاً على ترتيب النزول؟
قال ابن عبد البرّ: حدثنا خلف بن القاسم رحمه الله قال: حدثنا أبو جعفر عبد الله بن عمر بن إسحاق الجوهري بمصر، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن الحجاج بن رشدين، قال: حدثنا يحيى بن سليمان الجعفي، قال: حدثنا إسماعيل ابن علية، قال: حدثنا أيوب السختياني، عن محمد بن سيرين، قال: (لما بويع أبو بكر أبطأ علي عن بيعته فجلس في بيته؛ فبعث إليه أبو بكر ما بطأك عني أكرهت إمرتي؟!).

فقال علي: (ما كرهت إمارتك، ولكني آليت أن لا أرتدي ردائي إلا إلى صلاة حتى أجمع المصحف)
قال ابن سيرين: (وبلغني أنه كتبه على تنزيله، ولو أصيب ذلك الكتاب لوجد فيه علم كثير).
قال ابن عبد البر: (أجمع أهل العلم بالحديث أن ابن سيرين أصح التابعين مراسل، وأنه كان لا يروي ولا يأخذ إلا عن ثقة وأن مراسله صحاح كلها ليس كالحسن وعطاء في ذلك والله أعلم)ا.هـ.

وهذا الأثر سبق ذكره من غير زيادة قوله: (وبلغني أنه كتبه على تنزيله..) فهذه الزيادة منكرة، لا تصحّ عن ابن سيرين، وفي إسنادها ابن رشدين، كذَّبه الحافظ أحمد بن صالح المصري، وقال ابن عديّ: له مناكير.
وقد روى هذا الأثرَ ابنُ الضريس في فضائل القرآن من طريق هوذة بن خليفة والنضر بن شميل عن عوف عن ابن سيرين أنه قال: فقلت لعكرمة: ألَّفوه كما أُنزل، الأوَّلَ فالأوَّلَ؟
قال: (لو اجتمعت الإنس والجن على أن يؤلفوه ذلك التأليف ما استطاعوا !!).
قال محمد: (أراه صادقاً).
وفي طريق هوذة شكّ في شيخ ابن سيرين هل هو عكرمة أو غيره.
فدعوى أنّ أحداً من الصحابة رتّب المصحف على ترتيب النزول دعوى باطلة.
وكذلك لفظة (حتى أجمع المصحف) منكرة لما تقدّم بيانه، وهي مبدلة من قوله: (حتى أجمع القرآن)، وكانت هذه الزيادة مما أُنكر على أشعث بن سَوَّار الكندي؛ فإنّه قد روى هذا الخبر عن ابن سيرين وفيه أنه قال:
(لما توفي النبيُّ صلى الله عليه وسلم أقسم علي أن لا يرتدي برداء إلا لجمعة حتى يجمع القرآن في مصحف؛ ففعل؛ فأرسل إليه أبو بكر بعد أيام: « أكرهت إمارتي يا أبا الحسن؟»
قال: «لا والله إلا أني أقسمت أن لا أرتدي برداء إلا لجمعة
» فبايعَه ثم رجع»). رواه ابن أبي داوود في كتاب المصاحف وتعقَّبَه بقوله: (لم يذكر المصحفَ أحدٌ إلا أشعث، وهو ليّن الحديث، وإنما رووا «حتى أجمع القرآن» يعني: أُتمّ حفظه؛ فإنه يقالُ للذي يحفظ القرآن قد جَمَعَ القرآن)). [جمع القرآن:211 - 212]

جمهرة علوم القرآن 15 محرم 1439هـ/5-10-2017م 05:36 PM

هل ثبت أن الصحابة علّقوا على مصاحفهم شيئاً من التفسير؟

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (هل ثبت أن الصحابة علّقوا على مصاحفهم شيئاً من التفسير؟
ذكر بعض أهل العلم أنّ بعض الصحابة كانوا يكتبون في مصاحفهم شيئاً من التفسير، وهذه دعوى لا تصحّ، وإنما قاد إليها إرادة الجمع بين الأثر المروي عن عليّ، وما صحّ من أنّ أبا بكر هو أوّل من جمع القرآن.
قال الألوسي في مقدمة تفسيره: (وما شاع أن عليا كرم الله وجه لما توفي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم تخلف لجمعه فبعض طرقه ضعيف، وبعضها موضوع، وما صح؛ فمحمول كما قيل على الجمع في الصدر، وقيل كان جمعا بصورة أخرى لغرض آخر، ويؤيده أنه قد كتب فيه الناسخ والمنسوخ فهو ككتاب علم)ا.هـ.
وهذه الدعوى لا دليل عليها، والصحيح أنه محمول على جمع الصدر كما تقدّم). [جمع القرآن:213]

جمهرة علوم القرآن 15 محرم 1439هـ/5-10-2017م 05:39 PM

مصحف سالم مولى أبي حذيفة رضي الله عنه

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (مصحف سالم مولى أبي حذيفة رضي الله عنه
رُوي أنّ سالماً مولى أبي حذيفة كان أوّل من جمع القرآن في مصحف، لكنّه خبر معلول المتن والإسناد لا يصحّ.
قال السيوطي: (ومن غريب ما ورد في أول من جمعه ما أخرجه ابن اشته في كتاب المصاحف من طريق كهمس عن ابن بريدة قال: (أول من جمع القرآن في مصحف سالم مولى أبي حذيفة، أقسم لا يرتدي برداء حتى يجمعه ثم ائتمروا ما يسمونه؛ فقال بعضهم: سموه السفر.
قال: ذلك اسم تسميه اليهود، فكرهوه.
فقال: رأيت مثله بالحبشة يسمى المصحف، فاجتمع رأيهم على أن يسموه المصحف)
.

وقد قُتل سالم يوم اليمامة، ولم يدرك جمع أبي بكر، بل كان موته وموت إخوانه من قراء الصحابة رضي الله عنهم من أسباب جمع أبي بكر رضي الله عنه للقرآن.

وسالم مولى أبي حذيفة من السابقين الأوّلين إلى الإسلام والهجرة، هاجر قبل النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يؤمّ المسلمين في صلاتهم ويقرئهم القرآن.
- قال عبد الله بن عمر: «لما قدم المهاجرون الأوَّلون العُصْبَةَ - موضع بقباء - قَبلَ مَقدَمِ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤمّهم سالم مولى أبي حذيفة، وكان أكثرهم قرآنا» رواه البخاري من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر.
- وقال عبد الله بن وهب: أخبرني ابن جريج أن نافعاً أخبره أن ابن عمر رضي الله عنهما، أخبره قال: «كان سالم مولى أبي حذيفة يؤم المهاجرين الأولين وأصحابَ النبي صلى الله عليه وسلم في مسجد قباء، فيهم أبو بكر، وعمر، وأبو سلمة، وزيد، وعامر بن ربيعة» رواه البخاري.
وقال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «استقرئوا القرآن من أربعة، من عبد الله بن مسعود - فبدأ به -، وسالم مولى أبي حذيفة، وأبيّ بن كعب، ومعاذ بن جبل» رواه البخاري ومسلم من طرق عن مسروق عن عبد الله بن عمرو.
- وروى عبد الرحمن بن سابط الجمحي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: أَبطأتُ على النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقال: «ما حبسك يا عائشة؟»
قالت: يا رسول الله، إنَّ في المسجد رجلاً ما رأيت أحدا أحسن قراءة منه.
قال: فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو سالم مولى أبي حذيفة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الحمد لله الذي جعل في أمتي مثلك» رواه الإمام أحمد، وله شاهد عند البزار من طريق عبد الله بن أبي مليكة عن عائشة). [جمع القرآن:213 - 215]

جمهرة علوم القرآن 15 محرم 1439هـ/5-10-2017م 05:41 PM

مصحف أبي بكر رضي الله عنه

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (مصحف أبي بكر رضي الله عنه
وهو المصحف الذي أمر بجمعه، وكتبه له زيد بن ثابت، وقد بقي محفوظاً عند أبي بكر حتى مات، ثمّ بقي عند عمر حتى استُشهِد، ثم بقي عند حفصة، وأخذه عثمان لما جمع المصاحف حتى نسخه ثمّ ردّه إليها، وبقي عندها حتى ماتت، ثم أرسل مروان بن الحكم وكان أمير المدينة في خلافة معاوية إلى عبد الله بن عمر بعزيمة أن يبعث به إليه؛ فأخذه مروان فأتلفه واختلف في طريقة إتلافه؛ فقيل: حرّقه، وقيل: غسله بالماء، وقد تقدّم ذكر الآثار الواردة في ذلك عند الحديث عن جمع أبي بكر رضي الله عنه.

وكان مصحف أبي بكر مجموعاً بين لوحين على الصحيح، وذهب بعض أهل العلم إلى أنّه كان صحفاً متفرّقة غير مرتب على السور، والأول أصحّ.
وكان على حرف واحد خلافاً لمن زعم أنه كان مشتملاً على الأحرف السبعة.
وقد تقدّم كلّ ذلك عند الحديث عن الفَرْق بين جمع أبي بكر وجمع عثمان رضي الله عنهما، وحشرنا معهما). [جمع القرآن:215 - 216]

جمهرة علوم القرآن 15 محرم 1439هـ/5-10-2017م 05:44 PM

مصحف عمر بن الخطاب رضي الله عنه

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (مصحف عمر بن الخطاب رضي الله عنه
تقدّم أنّ عمر بن الخطّاب رضي الله عنه كان من كُتّاب الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم، وأنّه هو أوّل من أشار على أبي بكر بجمع المصحف فتمّ ذلك بفضل الله ورحمته.

ولم يصحّ أنّ عمر جمع القرآن في مصحف بعد ذلك في خلافته، وقد رُوي في ذلك أخبار منكرة لا تصحّ، منها:

1: ما رواه ابن أبي داوود في كتاب المصاحف من طريق مبارك بن فضالة عن الحسن أن عمر بن الخطاب سأل عن آية من كتاب الله فقيل كانت مع فلان فقتل يوم اليمامة فقال: «إنا لله وأمر بالقرآن فجمع، وكان أول من جمعه في المصحف».
وهذا الخبر ضعيف الإسناد لضعف مبارك بن فضالة وشدة تدليسه، ولأن الحسن لم يدرك عمر بن الخطاب.
وقوله: (وكان أوّل من جمعه في المصحف) لا يصحّ بهذا الإطلاق، لمخالفته ما صحّ من أنّ أوّل من جمع المصحف أبو بكر رضي الله عنه، وأنّ عمر بن الخطاب هو أوّل من أشار بذلك.

2. وما رواه ابن أبي داوود أيضاً من طريق ابن وهب قال: أخبرني عمر بن طلحة الليثي، عن محمد بن عمرو بن علقمة، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب قال: أراد عمر بن الخطاب أن يجمع القرآن، فقام في الناس فقال: (من كان تلقَّى من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا من القرآن فليأتنا به، وكانوا كتبوا ذلك في الصحف والألواح والعسب، وكان لا يقبل من أحد شيئا حتى يشهد شهيدان فقتل وهو يجمع ذلك إليه؛ فقام عثمان بن عفان فقال: من كان عنده من كتاب الله شيء فليأتنا به وكان لا يقبل من ذلك شيئا حتى يشهد عليه شهيدان، فجاء خزيمة بن ثابت فقال: إني قد رأيتكم تركتم آيتين لم تكتبوهما. قالوا: وما هما؟ قال: تلقيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم} إلى آخر السورة قال عثمان: فأنا أشهد أنهما من عند الله فأين ترى أن نجعلهما؟ قال: اختم بها آخر ما نزل من القرآن فختمت بها براءة).
وهذا الخبر ضعيف الإسناد معلول المتن، محمد بن عمرو بن علقمة متكلّم فيه من جهة خفة ضبطه، ويحيى بن عبد الرحمن لم يدرك عمر، ومتنه مخالف لسياق روايات الثقات المتقدّم ذكرها.

3. وما رواه عمر بن شبة في تاريخ المدينة من طريق يزيد بن عياض الليثي، عن الوليد بن سعيد، عن عروة بن الزبير قال: قدم المصريون فلقوا عثمان رضي الله عنه فقال: «ما الذي تنقمون؟»
قالوا: تمزيق المصاحف.
قال: (إنَّ الناس لما اختلفوا في القراءة خشي عمر رضي الله عنه الفتنة؛ فقال: من أَعْرَبُ الناسِ؟
فقالوا: سعيد بن العاص.
قال: فمن أخطُّهم؟
قالوا: زيد بن ثابت.
فأمر بمصحف فكُتِبَ بإعراب سعيد وخط زيد، فجمع الناس ثم قرأه عليهم بالموسم؛ فلما كان حديثاً كتبَ إليَّ حذيفةُ: إنَّ الرجل يلقي الرجل فيقول: قرآني أفضل من قرآنك حتى يكاد أحدهما يكفّر صاحبَه، فلما رأيت ذلك أَمرتُ الناس بقراءة المصحف الذي كتبه عمر رضي الله عنه، وهو هذا المصحف، وأمرتهم بترك ما سواه، وما صنع الله بكم خيرٌ مما أردتم لأنفسكم).

وهذا الخبر لا يصحّ، يزيد بن عياض متروك الحديث، قال فيه البخاري ومسلم: منكر الحديث، واتّهمه النسائي وغيره بالوضع، والوليد بن سعيد مجهول الحال.

وقال عمر بن شبّة: (يقال: إنّ نافع بن طريف بن عمرو بن نوفل بن عبد مناف كان كتب المصحفَ لِعُمر بن الخطاب رضي الله عنه).
وقد اختلف في ضبط اسمه فقيل: (نافع بن طريف) وقيل: (ابن ظُريب) وعَدّه ابن البر في الاستيعاب من الصحابة، وذكر أنه أسلم يوم الفتح.
وكتابةُ هذا المصحف إن أريد بها أنه كتب مصحفاً إماماً للناس فلا يصحّ، وإن أريد بها أنه كتب مصحفاً خاصّا بعمر؛ فمُحتمَل إلا أننا لم نجد له أثراً في الآثار المروية في مصاحف الصحابة.

وقد رُويت عن عمر أحرف تُركت القراءة بها كقراءة [صراط مَن أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم وغير الضالين] وقراءة [والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الذين اتبعوهم بإحسان] من غير الواو.
ولا تلازم بين صحّة إسناد بعض الأحرف عن بعض الصحابة وبين كتابتها في مصاحفهم؛ إذ لم تكن الكتابة فرضاً على آحادهم، وقد أخطأ مَنْ عدّ ما روي من الأحرف عن بعض الصحابة مما كُتب في مصاحفهم مطلقاً). [جمع القرآن:216 - 219]



جمهرة علوم القرآن 15 محرم 1439هـ/5-10-2017م 05:51 PM

مصحف عثمان بن عفان رضي الله عنه

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (مصحف عثمان بن عفان رضي الله عنه
روى عمر بن شبّة في تاريخ المدينة من طريق ابن شهاب الزهري عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه أنه قال: «فأمرني عثمان رضي الله عنه أن أكتب له مصحفاً فكتبته، فلما فرغتُ منه عرَضَه
».

وهذا الخبر مختصرٌ من خبر الجمع العثماني المروي من هذا الطريق، وظاهر هذه الرواية أنّ هذا المصحف مختصّ بعثمان، والأقرب أنّه المصحف الذي يُسمّى "الإمام" وهو الذي استنتخت منه مصاحف الأمصار، وبقي عنده حتى استشهد رضي الله عنه.
وقد تقدّم الحديث عن مصحف عثمان فيما سبق، وأنّ الصحيح أنه فقد مُنذ زمن قديم.
قال ابن وهب: سألتُ مالكاً عن مصحف عثمان رضي الله عنه فقال لي: «ذهب» رواه ابن أبي داود.
وروى عمر بن شبّة أنّ الحجاج بن يوسف بعث إلى آل عثمان أن أخرجوا مصحف عثمان يُقرأ؛ فقالوا: أصيب المصحف يوم قُتل عثمان رضي الله عنه.
وما ذُكر أنه وجد في بعض خزائن الملوك فلم يثبت أنه عين مصحف عثمان، وقد تقدّم الحديث عن ذلك.
- قال ثابت بن العجلان: حدثني سليم أبو عامر قال: كنت حاضراً حين حُصر عثمان؛ فأخذ المصحف يقرأ فيه، فدخل عليه، فضرب فقطرت قطرة من دمه على {فسيكفيكهم الله}). رواه عمر بن شبة .
- وقال أشعث بن سالم العدوي: حدثني أبي، عن عمرة بنت قيس قالت: (رأيت على مصحف عثمان رضي الله عنه {فسيكفيكهم الله} قطرة من دم). رواه عمر بن شبة.
- وروى محمد بن إبراهيم التيمي عن أبي نضرة، عن أبي سعيد قال: لما قدم المصريون دخلوا على عثمان رضي الله عنه؛ فضرب ضربة على يده بالسيف، فقطر من دم يده على المصحف وهو بين يديه يقرأ فيه على {فسيكفيكهم الله}
قال: وشدَّ يده وقال: «إنها لأوَّل يدٍ خطَّتِ المفصَّل» ). رواه عمر بن شبة في تاريخ المدينة.
- وروى ابن شهاب الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف أنه قال: (لما ضربَ الرَّجلُ يدَ عثمان قال:
« إنها لأوَّل يد خطَّتِ المفصَّل » ). رواه الطبراني وابن أبي عاصم.
- قال عثمان بن أبي شيبة: حدَّثنا يونس بن أبي يعفور العبدي، عن أبيه، عن مسلم أبي سعيد مولى عثمان أنَّ عثمان بن عفان أعتق عشرين مملوكاً، ثم دعا بسراويل فشدَّها عليه، ولم يلبسها في الجاهلية ولا في الإسلام ثم قال: (إني رأيت رسول الله صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم البارحة في المنام، ورأيت أبا بكر وعمر، وإنهم قالوا: اصبر فإنَّك تفطر عندنا القابلة)
ثم دعا بمصحف؛ فنشَرَه بين يديه؛ فقُتل وهو بين يديه). رواه أبو يعلى وعبد الله بن الإمام أحمد في مسند أبيه، وقال البوصيري: رواته ثقات). [جمع القرآن:219 - 221]

جمهرة علوم القرآن 15 محرم 1439هـ/5-10-2017م 09:55 PM

مصحف عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (مصحف عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه
روى ابن أبي داوود في كتاب المصاحف من طريق أشعث بن سوار، عن محمد بن سيرين قال: لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم أقسم عليٌّ أن لا يرتدي برداء إلا لجمعة حتى يجمع القرآن في مصحف؛ ففعل فأرسل إليه أبو بكر بعد أيام:
« أكرهتَ إمارتي يا أبا الحسن؟»

قال: «لا والله إلا أني أقسمت أن لا أرتدي برداء إلا لجمعة فبايعه ثم رجع»
قال أبو بكر ابن أبي داوود: (لم يذكر المصحفَ أحدٌ إلا أشعث وهو ليّن الحديث، وإنما رووا "حتى أجمع القرآن" يعني: أتمَّ حفظه؛ فإنه يقال للذي يحفظ القرآن قد جمع القرآن).
قال ابن كثير: (وهذا الذي قاله أبو بكر أظهر، والله أعلم، فإن عليا لم ينقل عنه مصحف على ما قيل ولا غير ذلك، ولكن قد توجد مصاحف على الوضع العثماني، يقال: إنها بخط علي، رضي الله عنه، وفي ذلك نظر، فإنه في بعضها: كتبه علي بن أبي طالب، وهذا لحن من الكلام ؛ وعلي رضي الله عنه من أبعد الناس عن ذلك)ا.هـ.
وقد تقدّم الحديث عن بطلان دعوى كتابة عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه مصحفاً مرتّباً على النزول). [جمع القرآن:221 - 222]

جمهرة علوم القرآن 15 محرم 1439هـ/5-10-2017م 10:02 PM

مصحف أبيّ بن كعب رضي الله عنه

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (مصحف أبيّ بن كعب رضي الله عنه
قال بكير بن عبد الله بن الأشجّ: حدثني بسر بن سعيد، عن محمد بن أبيّ بن كعب أن ناساً من أهل العراق قدموا إليه؛ فقالوا: إنما تحمَّلنا إليك من العراق، فأخرج لنا مصحف أُبَيّ قال محمد: (قد قبضه عثمان)
قالوا: سبحان الله أخرجْه لنا !
قال: (قد قبضه عثمان) رواه أبو عبيد القاسم بن سلام في فضائل القرآن وابن أبي داوود في كتاب المصاحف، وهذا إسناد صحيح رجاله ثقات.
ويعضده ما تقدّم من غير وجه أنّ عثمان بن عفان رضي الله عنه أمر بجمع المصاحف وإحراقها، وفي صحيح البخاري وغيره من حديث الزهري عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنّ عثمان أرسل إلى كل أفقٍ بمصحفٍ مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق.
فهذا مما يستدلّ به على أنّ مصحف أبيّ بن كعب قد أُتلف.

أصناف ما يُنسب إلى مصحف أبي بن كعب
وما ينسب إلى مصحف أبيّ بن كعب مما يخالف المصاحف العثمانية على ثلاثة أصناف:
الصنف الأول: ما رُوي عمّن رأى مصحف أبيّ قبل أن يقبضه عثمان، وهذا الصنف لا يكاد يصحّ منه إلا النادر فيما وقفتُ عليه.
والصنف الثاني: ما روي عن أبيّ بن كعب من قراءته بما يخالف المصاحف العثمانية، فهذا منه ما لا يصحّ عنه وهو كثير، وما صحّ فهو محمول على أنه أقرأ به قبل جمع عثمان، أو أخبر به إخباراً لا إقراءً؛ ومن تلك الأحرف ما هو منسوخ، ومنها ما تُركت القراءة به لإجماع الصحابة على ترك الإقراء بما خالف المصاحف العثمانية.
وقد تقدّم التنبيه على أنّه لا تلازم بين صحة إسناد القراءة وكونها مكتوبة في مصحف الصحابي.
والصنف الثالث: ما نُسب إلى مُصحفٍ بالعراق يُدَّعى أنه مصحف أبيّ، وقد اختُلف فيه على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنه مصحف أنس بن مالك رضي الله عنه أملاه عليه أبيّ بن كعب.
قال القاضي أبو بكر الباقلاني: (قد رأينا مصحف أنسٍ الذي ذُكر أنه مصحفُ أُبيّ وكان موافقا لمصحفِ الجماعة بغيرِ زيادةٍ ولا نقصان).
ونقل عن أبي الحسن الأشعري أنه قال: (قد رأيتُ أنا مصحف أنسٍ بالبصرة عندَ بعض ولد أنس، فوجدتُه مساويا لمصحفِ الجماعةِ لا يغادرُ منه شيئا"، وكان يُروى عن ولدِ أنسِ عن أنسٍ أنّه خَط أنسٍ وإملاءُ أُبيّ).
وهذا الذي ذكره الباقلاني والأشعري لا يتحقق فيه وصف ما نُقل عن بعض الأئمة أنهم قرؤوه في مصحف أبيّ، ولا يبعد أن تتعدّد المصاحف المنسوبة إلى أبيّ كما تعددت المصاحف المنسوبة إلى عليّ وعثمان وابن مسعود.

والقول الثاني: أنه مصحف مستنسخ من مصحف أبيّ قبل الجمع العثماني، من المصاحف التي بلغت الآفاق ولم تُتلف فيما أتلف من المصاحف.
قال ابن عطية:(وانتشرت في خلال ذلك صحف في الآفاق كتبت عن الصحابة، كمصحف ابن مسعود، وما كتب عن الصحابة بالشام، ومصحف أبيّ، وغير ذلك، وكان في ذلك اختلاف حسب الأحرف السبعة التي أنزل القرآن عليها)
قوله: (في خلال ذلك) أي بعدَ جمع أبي بكر وقبل جمع عثمان.
وهذه المصاحف لم يوقف على طريقة نسخها، ولم يُتحقق من صحّة مراجعتها، وقد وقع الإجماع على ترك القراءة بها، وإنما ينقل منها بعض أهل العلم ما وجدوه من الاختلاف.

وقد تعددت المصاحف المنسوبة إلى أبيّ بن كعب، ولم يُمكن التوثّق من صحّة نسبتها؛ فلذلك هي معدودة من الوجادات الضعيفة المنقطعة، يُستأنس بها ولا يعتمد عليها، وإنما يُعوّل في صحة القراءة على ما ثبت بالتلقي المتصل إسناده عن القراء الثقات.

والقول الثالث: أنه مصحف أبيّ بن كعب نفسه، وهذا القول مبنيّ على ظنّ صحة نسبة تلك المصاحف إلى أبيّ، وهو خطأ بيّن، لما صحّ من أنّ مصحف أبيّ قبضه عثمان، وأنّ عثمان أمر بكلّ مصحف أو صحيفة فيها قرآن أن تحرق، ولم يكن لأبيّ أن يخالف أمر أمير المؤمنين، ولو نازعه في ذلك لاشتهر أمره كما اشتهر أمر منازعة ابن مسعود ثم رجوعه إلى امتثال أمر الخليفة الراشد عثمان بن عفان في ذلك.

ومن أمثلة ما يُنسب إلى مصحف أبيّ:
1. ما رواه ابن أبي داوود قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن زيد، حدثنا حجاج، حدثنا حماد قال: (قرأت في مصحف أبي: [للذين يُقسمون]).
وقال ابن أبي داود: مصحفنا فيه {يؤلون من نسائهم}
وبهذا الإسناد قال حماد: (وجدت في مصحف أبيّ: [فلا جناح عليه ألا يطوف بهما]).
إسحاق بن إبراهيم متكلّم فيه، وهو صدوق في نفسه، لكن له غرائب ومناكير، وحجاج هو ابن منهال الأنماطي من شيوخ البخاري ومسلم، وحماد هو ابن سلمة من طبقة أتباع التابعين؛ فهو متأخر جداً عن زمن الجمع العثماني.
2. وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: حدثنا يزيد، عن سليمان التيمي، عن عزرة، قال: (قرأت في مصحف أبي بن كعب هاتين السورتين: (اللهم نستعينك) و (اللهم إياك نعبد)).
عزرة هو ابن عبد الرحمن الخزاعي لم يدرك زمن الجمع.
3. وقال جرير بن حازم: (قرأتها في مصحف أُبيّ بن كعب [يُوَفِّيهمُ اللهُ الحَقُّ دِينَهُمْ]). رواه ابن جرير.
4. وقال هدبة بن خالد: حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، أن أنس بن النضر تغيب عن قتال بدر، وقال: تغيبت عن أول مشهد شهده النبي صلى الله عليه وسلم، والله لئن أراني الله قتالاً ليرينَّ ما أصنع، فلما كان يوم أحد انهزم أصحابُ النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأقبل سعد بن معاذ يقول: أين أين؟ فوالذي نفسي بيده، إني لأجد ريح الجنة دون أحد، قال: فحمل؛ فقاتل؛ فقُتل فقال سعد: والله يا رسول الله ما أطقت ما أطاق؛ فقالت أخته: والله ما عرفتُ أخي إلا بحسن بنانه؛ فوُجد فيه بضع وثمانون جراحة؛ ضربة سيف، ورمية سهم، وطعنة رمح، فأنزل الله {من المؤمنين رجال صدقوا، ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر، وما بدلوا تبديلا}
قال حماد: (وقرأت في مصحف أبيّ: [ومنهم من بدَّل تبديلا]). رواه ابن حبان.
5. وقال ميمون بن مهران: (قرأت في مصحف أبيّ بن كعب [اللهم نستعينك ونستغفرك] إلى قوله: [بالكافرين ملحق]). رواه أبو عبيد القاسم بن سلام في فضائل القرآن وعمر بن شبة في تاريخ المدينة من طرق عن جعفر بن برقان عن ميمون بن مهران.
ميمون لم يدرك زمان الجمع العثماني الذي قُبض فيه مصحف أبيّ.
6. وقال ابن إسحاق: (وقد قرأتُ في مصحف أبيّ بن كعب بالكتابِ الأول العتيق: {بسم الله الرحمن الرحيم . قل هو الله أحد ... } إلى آخرها
{بسم الله الرحمن الرحيم . قل أعوذ برب الفلق...} إلى آخرها
{بسم الله الرحمن الرحيم . قل أعوذ برب الناس...} إلى آخرها
[بسم الله الرحمن الرحيم . اللهم إنا نستعينك ونستغفرك، ونثني عليك الخير، ولا نكفرك، ونخلع ونترك من يفجرك].
[بسم الله الرحمن الرحيم . إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نخشى عذابك ونرجو رحمتك إن عذابك بالكفار ملحق].
[بسم الله الرحمن الرحيم . اللهم لا ينزع ما تعطي، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، سبحانك وغفرانك وحنانيك إله الحق]). رواه محمد بن نصر المروزي في قيام الليل.

فهذه الآثار وما شابهها مما ذكره المتأخّرون عن زمن الجمع العثماني لا تُحمل على ما في مصحف أبيّ بن كعب الذي كتبه لنفسه؛ فذاك قد قبضه عثمان، وما اطّلعوا عليه إنما هو من مصاحف منسوبة إلى أبيّ بن كعب، ومن دلائل ذلك اختلاف الألفاظ في هاتين السورتين.
فقد روى المروزي نفسه عن سلمة بن خصيف أنه قال: سألت عطاء بن أبي رباح: أي شيء أقول في القنوت؟
قال: (هاتين السورتين اللتين في قراءة أبي: [اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك ونخشى عذابك، إن عذابك بالكفار ملحق، اللهم إنا نستعينك ونستغفرك، ونثني عليك ولا نكفرك، ونخلع ونترك من يفجرك]).
فهي قراءة تروى عن أبيّ مما نُسخ من القرآن، وقد اختُلف في ألفاظها، وفي كتابتها في المصاحف المنسوبة إلى أبيّ، فنسبتها إلى أبيّ نسبة قراءة لا نسبة كتابة، أي أن تلك المصاحف كُتبت على ما يُروى من قراءة أبيّ، ولم يوقف على صحة تلك الروايات، لا أنّ أبيّ بن كعب كتبها أو أملاها بنفسه لما تقدّم شرحه.
ويُحتمل أن تكون مما كتب بعد الجمع العثماني بزمن، ويُحتمل أن تكون مما استنتخ من المصاحف وبلغ الآفاق قبل الجمع العثماني ولم يُتلف فيما أُمر بإتلافه.
ولا حجّة في تلك المصاحف المخالفة للمصاحف العثمانية ولا يعوّل عليها، وإنما يُستدلّ بما صحّت الرواية به في مسائل التفسير واللغة، ولذلك يذكرها بعض المفسّرين في تفاسيرهم.

وأمّا الآثار التي تُروى عمّن أدرك زمن الجمع العثماني ويمكن أنه يكون اطّلع على مصحف أبيّ قبل أن يقبضه عثمان فهو محمول على ما كان في مصحف أبيّ قبل الجمع العثماني من الأحرف التي انعقد الإجماع على ترك الإقراء بها مع ما ترك من الأحرف التي تخالف المصاحف العثمانية، وإن صحّ الإسناد بتلك الأحرف، ومنها ما هو منسوخ التلاوة.

وهذا الصنف كما تقدّم يُروى فيه الصحيح والضعيف، ومما روي من أخبار هذا الصنف:
1. قول عمرو بن دينار: سمعت بجالة التميمي، قال: وجد عمر بن الخطاب مصحفاً في حجر غلام في المسجد فيه: [النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أبوهم] ؛ فقال: «احككها يا غلام»
فقال: والله لا أحكّها وهي في مصحف أبيّ بن كعب؛ فانطلق إلى أبيّ فقال له: «إني شغلني القرآن، وشغلك الصفق بالأسواق إذ تعرض رداءك على عنقك بباب ابن العجماء» رواه عبد الرزاق وعمر بن شبة والبيهقي من طرق عن عمرو بن دينار بألفاظ متقاربة.
وبجالة هو ابن عبدة التميمي كان كاتب جَزْء بن معاوية عمّ الأحنف بن قيس في زمان عمر.
وهذه القراءة منسوخة باتفاق.
وكان أبيّ ربما نازع في بعض المنسوخ في أوّل الأمر لكنّه رجع إلى ما في المصاحف العثمانية، وكان من القرَّاء الذين راجعوا الجمع على الصحيح.
وفي صحيح البخاري من حديث حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال عمر: « أبيّ أقرؤنا، وإنا لندع من لحن أبيّ، وأبيّ يقول: أخذته من في رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا أتركه لشيء ».
وإجماع الصحابة على المصاحف العثمانية يقضي على كلّ خلاف قبله.

2. وقال عبد الأعلى بن عبد الأعلى السامي: حدثنا هشام يعني ابن حسان، عن محمد بن سيرين، أن عمر رضي الله عنه سمع كثير بن الصلت، يقرأ: [لو أنَّ لابن آدم واديين من مال لتمنى واديا ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب]فقال عمر رضي الله عنه: ما هذا؟
قال: هذا في التنزيل.
فقال عمر رضي الله عنه: (من يعلم ذاك؟ والله لتأتين بمن يعلم ذاك أو لأفعلن كذا وكذا).
قال: أبي بن كعب.
فانطلق إلى أُبيّ فقال: (ما يقول هذا؟)
قال: ما يقول؟
قال: فقرأ عليه.
فقال: صدق، قد كان هذا فيما يُقرأ.
قال: أكتبها في المصحف؟
قال: لا أنهاك.
قال: أتركها؟
قال: لا آمرك). رواه عمر بن شبّة في تاريخ المدينة ورجاله ثقات إلا أنّه منقطع.
وله شاهد من حديث شعبة، عن عاصم بن بهدلة، عن زرّ بن حبيش، عن أبيّ بن كعب، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن)) قال: فقرأ: {لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب} قال: فقرأ فيها: [ولو أن ابن آدم سأل واديا من مال فأعطيه، لسأل ثانياً ولو سأل ثانياً فأعطيه لسأل ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب، وإن ذلك الدين القيم عند الله الحنيفية، غير المشركة ولا اليهودية ولا النصرانية، ومن يفعل خيرا فلن يكفره] ). رواه الإمام أحمد وغيره، واختلاف الألفاظ يدلّ على أنّه مما أُنسي نصّه من القرآن ونُسخ، وأنَّ الرواة إنما رووه بالمعنى.

3. وقال نصر بن عليّ الجهضمي: أخبرنا المعتمر بن سليمان عن عاصم الأحول عن عكرمة قال: (كان ابن عباس يقرأ بقراءة أبيّ، وكان في مصحف أبيّ [إلا أن تفحش عليكم]). رواه القاضي أبو إسحاق المالكي في كتابه أحكام القرآن.
وهو محمول على أنه كان يقرأ بها قبل الجمع العثماني، وأنه أخبرهم بذلك.

4.
و
قال ابن جرير: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا يحيى بن عيسى، قال: ثنا نصير بن أبي الأشعث، قال: ثني ابن حبيب بن أبي ثابت، عن أبيه، قال: أعطاني ابن عباس مصحفاً؛ فقال: هذا على قراءة أبيّ بن كعب، قال أبو كريب: قال يحيى: رأيت المصحف عند نُصير فيه: «ووصى ربّك» يعني: وقضى ربك). وهذا الخبر رجال إسناده ثقات، وابن حبيب وإن لم يُسمَّ إلا أنّ الدارقطني ذكر في العلل أنّ أبناءه ثلاثة كلّهم ثقات.
لكنَّ هذا الخبر مختصر من خبرٍ أطول منه لم أقف على أصله،
وقد قطَّعه ابن جرير في تفسيره، والأخبار المقطّعة قد لا تظهر علّتها إلا بالوقوف على أصلها؛ فإنّ من عادة ابن جرير أن يكرر الإسناد في الأخبار التي يُقطّعها، وقد لا يكون بعض تلك الأجزاء مما يتحقق فيه اتصال ذلك الإسناد.
ثم إن هذا الخبر ليس فيه أنه من كتابة ابن عباس ولا أنّه راجعه وأصلح ما قد يكون من خطأ الكاتب، وإنما هو خبرٌ عن مصحفٍ كُتبَ على قراءة أبيّ، لم يصلنا منه إلا أحرف يسيرة لا إشكال فيها.

عدد السور في مصحف أبيّ بن كعب
قال عبد الأعلى بن عبد الأعلى السامي: حدثنا هشام، عن محمد بن سيرين (أنَّ أبيَّ بن كعب كتبهن في مصحفه خمسَهن: أمَّ الكتاب، والمعوذتين، والسورتين، وتركهنَّ ابنُ مسعود كلَّهن، وكتبَ ابنُ عفان فاتحةَ الكتاب، والمعوذتين، وترك السورتين). رواه عمر بن شبة.
يقصد بالسورتين سورتي الحفد والخلع، وقد تقدّم ذكر خبرهما.
وهذا الخبر صحيح الإسناد إلى ابن سيرين لكنّه لم يدرك أبيّ بن كعب، ولا زمن الجمع العثماني، لكنه كان يروي عن كثير بن أفلح أحد كتبة المصاحف العثمانية، وكان بينهما مصاهرة.
قال جلال الدين السيوطي: (نقل جماعة عن مصحف أبيّ أنه ست عشرة سورة ومائة، والصواب أنه خمس عشرة؛ فإنَّ سورة الفيل وسورة لإيلاف قريش فيه سورة واحدة).
وهذا القول من السيوطي محمولٌ على المصاحف المنسوبة إلى أبيّ، وهو غير متحقّق أنه مصحف أبيّ كما تقدّم.
ومما يدلّ على ذلك ما نُسب إلى مصحف أبيّ بن كعب من تسميات بعض السور كما قال السيوطي: ( {لم يكن}:تُسمّى سورة "أهل الكتب"، كذلك سُمِّيت في مصحف أبيٍّ).
وقال أيضاً: (المجادلة: سُمِّيت في مصحف أبيٍّ الظهار).
وقد عُلم أنّ الصحابةَ رضي الله عنهم كانوا يجرّدون المصاحف من غير القرآن، ولم تُكتب أسماء السور في المصاحف إلا في زمن الحجّاج بن يوسف.
قال النووي في المنهاج: (ما أثبت في المصحف الآن من أسماء السور والأعشار شيء ابتدعه الحجاج في زمنه).
وقال ابن تيمية: (أمر الصحابة والعلماء بتجريد القرآن وأن لا يكتب في المصحف غير القرآن فلا يكتب أسماء السور ولا التخميس والتعشير ولا آمين ولا غير ذلك والمصاحف القديمة كتبها أهل العلم على هذه الصفة).
فهذا مما لا ينبغي أن يظُنّ أنه من فعل أبيّ بن كعب ولا إملائه ولا رضاه.

ترتيب السور في مصحف أبيّ بن كعب
نقل السيوطي في الإتقان عن أبي بكر محمد بن عبد الله المعروف بابن أشته (ت:360هـ) تلميذ ابن مجاهد صاحب «السبعة في القراءات» أنه قال: (أنبأنا محمد بن يعقوب حدثنا أبو داود حدثنا أبو جعفر الكوفي قال: هذا تأليف مصحف أبيّ: الحمد، ثم البقرة، ثم النساء، ثم آل عمران، ثم الأنعام، ثم الأعراف، ثم المائدة، ثم يونس، ثم الأنفال، ثم براءة، ثم هود، ثم مريم، ثم الشعراء، ثم الحج، ثم يوسف، ثم الكهف، ثم النحل، ثم الأحزاب، ثم بني إسرائيل، ثم الزمر أولها حم، ثم طه، ثم الأنبياء، ثم النور، ثم المؤمنون، ثم سبأ، ثم العنكبوت، ثم المؤمن، ثم الرعد، ثم القصص، ثم النمل، ثم الصافات، ثم ص، ثم يس، ثم الحجر، ثم حم عسق، ثم الروم، ثم الحديد، ثم الفتح، ثم القتال، ثم الظهار، ثم تبارك الملك، ثم السجدة، ثم إنا أرسلنا نوحا، ثم الأحقاف، ثم ق، ثم الرحمن، ثم الواقعة، ثم الجن، ثم النجم، ثم سأل سائل، ثم المزمل، ثم المدثر، ثم اقتربت، ثم حم الدخان، ثم لقمان، ثم حم الجاثية، ثم الطور، ثم الذاريات، ثم ن، ثم الحاقة، ثم الحشر، ثم الممتحنة، ثم المرسلات، ثم عم يتساءلون، ثم لا أقسم بيوم القيامة، ثم إذا الشمس كورت، ثم يا أيها إذا طلقتم النساء، ثم النازعات، ثم التغابن، ثم عبس، ثم المطففين، ثم إذا السماء انشقت، ثم والتين والزيتون، ثم اقرأ باسم ربك، ثم الحجرات، ثم المنافقون، ثم الجمعة، ثم لم تحرم، ثم الفجر، ثم لا أقسم بهذا البلد، ثم والليل، ثم إذا السماء انفطرت، ثم والشمس وضحاها، ثم والسماء والطارق، ثم سبح اسم ربك، ثم الغاشية، ثم الصف، ثم سورة أهل الكتاب وهي لم يكن، ثم الضحى، ثم ألم نشرح، ثم القارعة، ثم التكاثر، ثم العصر، ثم سورة الخلع، ثم سورة الحفد، ثم ويل لكل همزة، ثم إذا زلزلت، ثم العاديات، ثم الفيل، ثم لإيلاف، ثم أرأيت، ثم إنا أعطيناك، ثم القدر، ثم الكافرون، ثم إذا جاء نصر الله، ثم تبت، ثم الصمد، ثم الفلق، ثم الناس)ا.هـ.
أبو جعفر الكوفي من شيوخ أبي داوود السجستاني، وما ذكره من الترتيب إنما هو على ما اطّلع عليه من المصاحف المنسوبة إلى أبيّ بن كعب). [جمع القرآن:222 - 234]



جمهرة علوم القرآن 15 محرم 1439هـ/5-10-2017م 10:05 PM

مصحف عبد الله بن مسعود رضي الله عنه

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (مصحف عبد الله بن مسعود رضي الله عنه
عبد الله بن مسعود رضي الله عنه من كبار قرّاء الصحابة رضي الله عنهم وأفاضلهم، وكان من المعلّمين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبقي معلّماً للقرآن بعده حتى مات رضي الله عنه، وقد تقدّم الحديث في فضله وتقدّمه في القراءة والإقراء.

وقد بعثه عمر بن الخطّاب رضي الله عنه إلى الكوفة معلّماً ووزيراً، فكان يعلّمهم القرآن، ويفتيهم، ويأخذون من علمه وأدبه وسمته، وربّما أملى عليهم المصاحف فكتبوا.
روى الأعمش عن إبراهيم النخعي عن علقمة أنه قال: جاء رجل إلى عمر وهو بعرفات؛ فقال: جئت يا أمير المؤمنين من الكوفة، وتركت بها رجلاً يملي المصاحف عن ظهر قلبه!!
فغضب عمر وانتفخ حتى كاد يملأ ما بين شُعبتي الرَّحْل !
فقال: ومن هو ويحك؟!
قال: عبد الله بن مسعود
فما زال يطفأ ويسرَّى عنه الغضب، حتى عاد إلى حاله التي كان عليها، ثم قال: "ويحك والله ما أعلمه بقي من الناس أحد هو أحق بذلك منه"). رواه الإمام أحمد وأبو يعلى وابن خزيمة وغيرهم.
فكان غضبه من خشية أن يكون المتصدّي لهذا الأمر جلل من ليس له بأهل؛ فلمّا علم أنّه ابن مسعود سكن جأشه، وذهب ما في نفسه.
فكان في الكوفة مصاحف كُتبت على ما كان يعلّمهم ابن مسعود من القراءة، وكان
منهم من يعرض عليه المصحف فيقيم له فيه ما يكون من الخطأ في الكتابة.
- قال زرّ بن حبيش: كنا نعرض المصاحف على عبد الله فسأله رجل من ثقيف فقال: يا أبا عبد الرحمن، أي الأعمال أفضل؟
قال: «الصلاة، ومن لم يصلّ فلا دين له» رواه ابن أبي شيبة من طريق شريك عن عاصم عن زرّ، وله متابع يأتي ذكره قريباً.
- وقال سحيم بن نوفل: كنا نعرض المصاحف عند عبد الله؛ فجاءت جارية أعرابية إلى رجلٍ من القوم؛ فقالت: اطلب راقياً فإنَّ فلانا قد لقع فرسك بعينه؛ فتركه يدور كأنه فلك!!
قال: فقال عبد الله لا تطلب راقياً اذهب فانفث في منخره الأيمن أربعا وفي الأيسر ثلاثا ثم قل: "بسم الله، لا باس لا باس، أذهب الباس رب الناس، واشف أنت الشافي، لا يذهب بالضر إلا أنت"
قال: فذهب الرجل ثم رجع؛ فقال: فعلت الذي أمرتني؛ فأكل وبال وراث). رواه الطبراني في الدعوات والخرائطي في مكارم الأخلاق من طريق سفيان الثوري عن حصين بن عبد الرحمن عن هلال بن يساف عن سحيم به.

بل كان في مسجده موضع مخصص لعرض المصاحف، كما دلّ عليه ما رواه محمّد بن نصر المروزي في تعظيم قدر الصلاة من طريق شعبة، عن عاصم ابن بهدلة، عن زر بن حبيش، قال: كان عبد الله رضي الله عنه يعجبه أن يقعد حيث تُعرض المصاحف فجاءه ابن الحضارمة رجل من ثقيف فقال: أي درجات الإسلام أفضل؟ قال: «الصلاة على وقتها من ترك الصلاة فلا دين له».

فلمّا كان الجمع العثماني حصل من ابن مسعود من المعارضة في أوّل الأمر ما تقدّم بيانه، وأنّه خطب في الناس وأمرهم أن يغلّوا مصاحفهم ثمّ إنه رجع إلى ما أجمع عليه الصحابة رضي الله عنهم من الاجتماع على حرف واحد ومصحف إمام لا تختلف فيه هذه الأمة.

وتقدّم البيان بأنّه أقام مصحفَه على المصحف الإمام الذي بعث به عثمان إلى الكوفة، وأمر أن يقيموا مصاحفهم عليه، وأن تترك القراءة بما خالفه، وأن تسلّم المصاحف المخالفة للرسم العثماني.
قال كثير بن هشام الكلابي: حدثنا جعفر بن برقان، قال: حدثنا عبد الأعلى بن الحكم الكلابي قال: أتيت دار أبي موسى الأشعري، فإذا حذيفة بن اليمان، وعبد الله بن مسعود، وأبو موسى الأشعري فوق إجَّار لهم، فقلت: هؤلاء والله الذين أريد؛ فأخذت أرتقي إليهم؛ فإذا غلام على الدرجة؛ فمنعني فنازعته؛ فالتفت إليَّ بعضهم، قال: خلِّ عن الرجل؛ فأتيتهم حتى جلستُ إليهم؛ فإذا عندهم مصحف أرسل به عثمان، وأمرهم أن يقيموا مصاحفهم عليه؛ فقال أبو موسى: (ما وجدتم في مصحفي هذا من زيادة فلا تنقصوها، وما وجدتم من نقصان فاكتبوه)
فقال حذيفة: كيف بما صنعنا؟!! والله ما أحدٌ من أهل هذا البلد يرغَب عن قراءة هذا الشيخ، يعني ابنَ مسعود، ولا أحدٌ من أهل اليمن يرغَب عن قراءة هذا الشيخ، يعني أبا موسى الأشعري).
قال عبد الأعلى: (وكان حذيفة هو الذي أشار على عثمان رضي الله عنه بجمع المصاحف على مصحف واحد، ثم إن الصلاة حضرت؛ فقالوا لأبي موسى الأشعري: تقدم فإنا في دارك، فقال: لا أتقدم بين يدي ابن مسعود، فتنازعوا ساعة، وكان ابن مسعود بين حذيفة وأبي موسى فدفعاه حتى تقدَّم فصلَّى بهم). رواه عمر بن شبة وابن أبي داوود.

لكن من الجائز أن يكون بعض تلك المصاحف لم يُتلف فيما أُتلف، وهي مصاحف كتبها أصحابها لم يكن فيها من التوثّق والاحتياط والمراجعة وأَمْنِ الخطأ ما في المصاحف العثمانية.
وهي مصاحف ملغاة إجماعاً، لا يُعتدّ بها في القراءة لإجماع الصحابة رضي الله عنهم على ترك القراءة بما خالف المصحف الإمام.
وقد بقيت مصاحف منسوبة إلى ابن مسعود رضي الله عنه لا يوقف لها على إسناد متّصل إلى ابن مسعود، وهي معدودة من الوجادات الضعيفة، ولا يُؤمن أن تكون إنما نسبت إليه على ما يُظنّ أنها على قراءته وتأليفه، لا على أنه أملاها.

أنواع ما يُنسب إلى مصحف ابن مسعود:
وما يُنسب إلى مصحف ابن مسعود مما يُخالف المصاحف العثمانية على أنواع:
النوع الأول: ما صحّ إسناده إلى مَن قرأ على ابن مسعود قبل الجمع العثماني مما يخالف رسم المصاحف العثمانية.
فهذا النوع يُستدلّ به في التفسير واللغة ولا يُقرأ بما فيه، ويستدلّ بما لم يُنسخ منه في الأحكام، ويُعتقد صحته وأنّه مما تركت القراءة به من الأحرف المخالفة للرسم العثماني.
ومن أمثلة ذلك ما في الصحيحين من حديث علقمة بن قيس النخعي قال: قدمت الشأم فصليت ركعتين، ثم قلت: اللهم يسر لي جليسا صالحا، فأتيت قوما فجلست إليهم، فإذا شيخ قد جاء حتى جلس إلى جنبي، قلت: من هذا؟
قالوا: أبو الدرداء.
فقلت: إني دعوت الله أن ييسر لي جليسا صالحا، فيسَّرَك لي.
قال: ممن أنت؟
قلت: من أهل الكوفة.
قال: أوليس عندكم ابن أمّ عبدٍ صاحب النعلين والوساد والمطهرة؟!! وفيكم الذي أجاره الله من الشيطان - يعني على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم -؟!! أوليس فيكم صاحب سر النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا يعلمه أحد غيره؟!!
ثم قال: كيف يقرأ عبد الله: {والليل إذا يغشى}؟
فقرأتُ عليه: [والليل إذا يغشى. والنهار إذا تجلى . والذكر والأنثى]
قال: «والله لقد أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم من فيه إلى في»
وفي رواية لمسلم: أن علقمة قال: قدمنا الشام فأتانا أبو الدرداء، فقال: «فيكم أحد يقرأ على قراءة عبد الله؟»
فقلت: نعم، أنا.
قال: " فكيف سمعت عبد الله يقرأ هذه الآية {والليل إذا يغشى}؟
قال: سمعته يقرأ: {والليل إذا يغشى} [والذكر والأنثى]، قال: (وأنا والله هكذا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها، ولكن هؤلاء يريدون أن أقرأ {وما خلق} فلا أتابعهم).
يريد بالذي أجاره الله من الشيطان عمّار بن ياسر، وهذه المحاورة بين علقمة وأبي الدرداء كانت في حياة ابن مسعود، وقبل الجمع العثماني، وكان هذا الحرف مما اتفقت فيه قراءة ابن مسعود وأبي الدرداء، وكانوا يُقرئون الناس به، ولا يبعد أن يكون مكتوباً في مصاحف أصحابهم قبل الجمع العثماني.
وقراءة عثمان بن عفان وأبيّ بن كعب وزيد بن ثابت والعامّة {وما خلق الذكر والأنثى} وهي التي اختيرت في الرسم العثماني.

والنوع الثاني: ما روي عمّن لم يقرأ على ابن مسعود زمن الجمع العثماني، وإنما اطّلع على مصاحف منسوبة إلى ابن مسعود؛ فهذا النوع لا يُعتمد عليه في الرواية، ولا يُحتجّ به في الأحكام، وقد يُستفاد منه في التفسير واللغة، ولذلك يعتني بذكره بعض المفسّرين، ومن أمثلة ذلك:
1. قول عبد الله بن وهب: أخبرني جرير بن حازم قال: (قرأت في مصحف عبد الله بن مسعود: {فاذكروا اسم الله عليها} صوافن).
2. قال هشيم بن بشير: أنا داود بن أبي هند، قال: (هي في مصحف عبد الله: [وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بأمهاتهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم]). رواه سعيد بن منصور وابن جرير.
لكن ينبغي أن يُتنبّه إلى أنّ تلك المصاحف غير متحقق صحّة نسبتها إلى ابن مسعود رضي الله عنه، ومن دلائل ذلك ما أضيف إليها من أسماء السور وما وقع بينها من الاختلاف.


ما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان لا يكتب المعوذتين في مصحفه
- قال زرّ بن حبيش: قلت لأبي بن كعب: إنَّ ابن مسعود كان لا يكتب المعوذتين في مصحفه، فقال: "أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرني: "أن جبريل قال له: قل أعوذ برب الفلق، فقلتها، فقال: قل أعوذ برب الناس، فقلتها ". فنحن نقول ما قال النبي صلى الله عليه وسلم). رواه الإمام أحمد من طريق حماد بن سلمة قال: أخبرنا عاصم بن بهدلة عن زرّ به.
- وروى الإمام أحمد من طريق الأعمش، عن أبي إسحاق السبيعي، عن عبد الرحمن بن يزيد النخعي قال: كان عبد الله يحكّ المعوذتين من مصاحفه، ويقول: (إنهما ليستا من كتاب الله).
- وروى الإمام أحمد أيضاً عن سفيان بن عيينة، عن عبدة، وعاصم، عن زر، قال: قلت لأبي: إن أخاك يحكهما من المصحف، قيل لسفيان: ابن مسعود؟ فلم ينكر قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "قيل لي، فقلت " فنحن نقول كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال سفيان: (يحكهما: المعوذتين، وليسا في مصحف ابن مسعود، كان يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوّذ بهما الحسن والحسين، ولم يسمعه يقرؤهما في شيء من صلاته؛ فظن أنهما عوذتان، وأصرَّ على ظنه، وتحقق الباقون كونهما من القرآن، فأودعوهما إياه).
- وهذا الخبر رواه البخاري في صحيحه بالإبهام؛ فقال: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان، حدثنا عبدة بن أبي لبابة، عن زر بن حبيش، ح وحدثنا عاصم، عن زر، قال: سألت أبي بن كعب، قلت: يا أبا المنذر إن أخاك ابن مسعود يقول كذا وكذا، فقال أبيّ: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: «قيل لي فقلت» قال: فنحن نقول كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم).
- وروى البزار والطبراني من طريق حسان بن إبراهيم، عن الصلت بن بهرام، عن إبراهيم النخعي، عن علقمة، عن عبد الله بن مسعود أنه كان يحكّ المعوذتين من المصحف ويقول: «إنما أُمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يتعوذ بهما» وكان عبد الله لا يقرأ بهما).
قال البزار: (وهذا الكلام لم يتابع عبدَ الله عليه أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ بهما في الصلاة وأثبتتا في المصحف).
- وروى الطبراني في الكبير من طريق عبد الحميد بن الحسن، عن أبي إسحاق السبيعي، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن ابن مسعود، أنه: كان يقول: "لا تخلطوا بالقرآن ما ليس فيه، فإنما هما معوذتان تعوذ بهما النبي صلى الله عليه وسلم: {قل أعوذ برب الفلق}، و{قل أعوذ برب الناس}". وكان عبد الله يمحوهما من المصحف.
- وقال محمد بن سيرين: (كتب أبيّ بن كعب في مصحفه فاتحة الكتاب والمعوذتين، و{اللهم إنا نستعينك}، و{اللهم إياك نعبد}، وتركهنّ ابنُ مسعود، وكتب عثمان منهنَّ فاتحة الكتاب والمعوذتين). رواه أبو عبيد القاسم بن سلام في فضائل القرآن وعمر بن شبّة في تاريخ المدينة.

وقد اختلف أهل العلم فيما نُسب إلى ابن مسعود رضي الله عنه في شأن المعوذتين، والصواب ما قاله سفيان بن عيينة والبزار وغيرهما من أهل الحديث من القول بصحّة ما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه، والتماس العذر له بكونه لم يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بهما في صلاته، وأنّه سمعه يعوّذ بهما؛ فظنّهما عوذتين وليستا سورتين من القرآن، ولم يُنكر أنهما وحي من الله.
وقد صحّت الأحاديث بإثبات أنهما سورتين من القرآن، كما في حديث أبيّ بن كعب المتقدّم.
- وحديث عقبة بن عامر رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: "ألا أعلّمك سورتين من خير سورتين قرأ بهما الناس؟"
قال: قلت: بلى يا رسول الله !
قال: فأقرأني {قل أعوذ برب الفلق} و{قل أعوذ بربّ الناس} ). رواه الإمام أحمد والنسائي وابن خزيمة من طريق الوليد بن مسلم قال: حدثني عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، حدثني القاسم أبو عبد الرحمن، عن عقبة بن عامر، وهذا إسناد صحيح.
- وفي سنن أبي داوود وشرح مشكل الآثار للطحاوي وسنن البيهقي من طريق محمد بن إسحاق، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبيه، عن عقبة بن عامر، قال: بينا أنا أسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الجحفة والأبواء إذ غشيتنا ريح وظلمة شديدة، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ بأعوذ برب الفلق، وأعوذ برب الناس، ويقول: «يا عقبة ! تعوذ بهما؛ فما تعوذ متعوذ بمثلهما»
قال: وسمعته يؤمنا بهما في الصلاة).
- وروى الإمام أحمد والطحاوي في شرح مشكل الآثار من طريق شعبة، عن الجريري، عن يزيد بن عبد الله بن الشخير، عن رجل من قومه أن رسول الله عليه السلام مر به، فقال: (اقرأ في صلاتك بالمعوذتين).
ويزيد بن عبد الله من بني الحريش بطن من بني عامر بن صعصعة، ولذلك فإنّ الصحابيّ الذي روى عنه هذا الحديث غير عقبة بن عامر الجهني.
- وقد روي عن عائشة رضي الله عنها من طرق يشدّ بعضها بعضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوتر بثلاث: يقرأ في أول ركعة بـ{سبح اسم ربك الأعلى} وفي الثانية: {قل يا أيها الكافرون} وفي الثالثة: {قل هو الله أحد} والمعوذتين».

ففي هذه الأحاديث وما في معناها إثبات أنهما سورتان من القرآن، وأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ بهما في الصلاة وخارجها، وأقرأ بهما، وأمر بقرائتهما في الصلاة وخارجها.
وابن مسعود وإن كان من كبار قرّاء الصحابة فهو غير معصوم من الخطأ، ولم يتابعه على ما صنع أحد من الصحابة ولا التابعين.
ومما ينبغي أن يُعلم أن هذه الروايات عن ابن مسعود في شأن المعوذتين كانت قبل الجمع العثماني، وقبل أن يقيم مصحفه على المصحف الإمام الذي أمر به عثمان بن عفان وأجمع الصحابة على اتخاذه مصحفاً إماماً وتركِ القراءة بما خالفه.
ووقوعُ بعض الخطأ من أفرادٍ من القرّاء قبل انعقاد الإجماع على مصحف إمامٍ مشتهرٍ بين الناس جائز الوقوع، ولا عصمة للأفراد ، وإنما العصمة لإجماعهم، وقد يخطئ المخطئ وهو معذور مأجور، إذا كان هذا هو مبلغ اجتهاده، فلا يعاب بمثل هذا الخطأ ابن مسعود ولا غيره من القرّاء.
قال ابن قتيبة: (ولكنّ عبد الله ذهب - فيما يرى أهل النظر - إلى أن المعوذتين كانتا كالعُوذة والرّقية وغيرها، وكان يرى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يعوّذ بهما الحسن والحسين وغيرهما، كما كان يعوّذ بأعوذ بكلمات الله التّامة، وغير ذلك، فظنّ أنهما ليستا من القرآن، وأقام على ظنّه ومخالفة الصحابة جميعاً كما أقام على التّطبيق، وأقام غيره على الفتيا بالمتعة، والصّرف ورأى آخر أكل البرد وهو صائم، ورآى آخر أكل السّحور بعد طلوع الفجر الثاني. في أشباه لهذا كثيرة)ا.هـ.

وقوله: (أقام على ظنّه) مدفوع برجوع ابن مسعود إلى ما أجمع عليه الصحابة، وثبوت القراءة عنه بالأسانيد التي يروي بها القراء عنه ما يوافق قراءة العامة وفيها المعوذتان.

وقد ذهب بعض أهل العلم إلى إنكار صحة ما روي عن ابن مسعود كما فعل الكرجيّ القصاب في تفسيره وابن حزم في المحلّى والنووي في المجموع والرازي في تفسيره وغيرهم.
قال ابن حزم: (كل ما روي عن ابن مسعود من أن المعوذتين وأم القرآن لم تكن في مصحفه فكذب موضوع لا يصح؛ وإنما صحت عنه قراءة عاصم عن زر بن حبيش عن ابن مسعود وفيها أم القرآن والمعوذتين)ا.هـ.
وقال النووي: (وما نقل عن ابن مسعود في الفاتحة والمعوذتين باطل ليس بصحيح عنه).
وقد تعقبهم ابن حجر في الفتح بقوله: (وأما قول النووي في شرح المهذب: "أجمع المسلمون على أن المعوذتين والفاتحة من القرآن، وأن من جحد منهما شيئا كفر، وما نقل عن بن مسعود باطل ليس بصحيح"؛ ففيه نظر وقد سبقه لنحو ذلك أبو محمد بن حزم فقال في أوائل المحلى: "ما نقل عن بن مسعود من إنكار قرآنية المعوذتين فهو كذب باطل" وكذا قال الفخر الرازي في أوائل تفسيره: "الأغلب على الظن أن هذا النقل عن ابن مسعود كذب باطل والطعن في الروايات الصحيحة بغير مستند لا يقبل بل الرواية صحيحة والتأويل محتمل والإجماع الذي نقله إن أراد شموله لكل عصر فهو مخدوش، وإن أراد استقراره فهو مقبول)ا.هـ.

وقد ذهب الكرجي القصاب وأبو بكر الباقلاني إلى أنّ ابن مسعود لم ينكر أنهما من القرآن، وإنما أنكر كتباتهما في المصحف، والروايات الصحيحة تردّ هذا التأويل.
وحكى القرطبي عن بعضهم أنّ ابن مسعود لم يكتب المعوذتين لأنه أمن عليهما من النسيان، ثمّ ردّ عليهم بأنّ ما ذكروه متحقق في سورة الإخلاص والنصر والكافرون وغيرها وكان يكتبها.

والخلاصة أنّ ما روي عن ابن مسعود من أنه كان لا يكتب المعوذتين في المصحف صحيح عنه، لكنّه رجع عنه.
وقد روى ابن أبي شيبة عن إبراهيم النخعي أنه قال: قال: قلت للأسود: من القرآن هما؟ قال: «نعم»، يعني: المعوذتين
والأسود بن يزيد من خاصّة أصحاب ابن مسعود.


ترتيب السور في مصحف ابن مسعود
- روى الأعمش عن أبي وائل شقيق بن سلمة أنه قال: قال عبد الله: «لقد تعلمت النظائر التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرؤهن اثنين اثنين، في كل ركعة»
فقام عبد الله ودخل معه علقمة، وخرج علقمة فسألناه، فقال: عشرون سورة من أول المفصل على تأليف ابن مسعود، آخرهن الحواميم: حم الدخان وعم يتساءلون). رواه البخاري ومسلم.

وهذه الرواية مختصرة، وقد استُشكل فيها عدّ حم الدخان من المفصّل، وهذا الإشكال تدفعه الروايات الأخرى.
- قال مهدي بن ميمون: حدثنا واصل الأحدب، عن أبي وائل، قال: غدونا على عبد الله، فقال رجل: قرأت المفصل البارحة!
فقال: «هذّا كهذّ الشِّعْر إنا قد سمعنا القراءة، وإني لأحفظ القرناء التي كان يقرأ بهن النبي صلى الله عليه وسلم، ثماني عشرة سورة من المفصل، وسورتين من آل حم» رواه البخاري ومسلم.
فأخرج آل حم من المفصّل، ولذلك فقول بعض أهل العلم في الرواية الأولى: (ظاهرُهُ أن الدخان من المفصل) مدفوع بهذه الرواية المبيّنة.

- وروى أبو داوود في سننه من طريق إسرائيل بن يونس عن جده أبي إسحاق السبيعي عن علقمة والأسود قالا: أتى ابنَ مسعود رجلٌ، فقال: إني أقرأ المفصل في ركعة، فقال: أهذا كهذ الشعر، ونثرا كنثر الدقل، «لكن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ النظائر السورتين في ركعة، الرحمن والنجم في ركعة، واقتربت والحاقة في ركعة، والطور والذاريات في ركعة، وإذا وقعت ونون في ركعة، وسأل سائل والنازعات في ركعة، وويل للمطففين وعبس في ركعة، والمدثر والمزمل في ركعة، وهل أتى ولا أقسم بيوم القيامة في ركعة، وعم يتساءلون والمرسلات في ركعة، والدخان وإذا الشمس كورت في ركعة».
قال أبو داود: «هذا تأليف ابن مسعود رحمه الله»
قال ابن رجب: (وليس في هذه الرواية من آل حم سوى سورة الدخان، وهذا يخالف رواية مسلم المتقدمة: وسورتين من آل حم).
ورواية إسرائيل عن جدّه بعد الاختلاط، فلذلك ضعّف بعضُ أهل الحديث ما في هذه الرواية من سرد أسماء السور، لكن روى ابن خزيمة هذا الخبر من طريق أبي خالد عن الأعمش عن أبي وائل، وزاد فيه: قال الأعمش: (وهي عشرون سورة على تأليف عبد الله أوَّلهن: الرحمن وآخرتهن الدخان: الرحمن والنجم، والذاريات والطور، هذه النظائر، واقتربت والحاقة، والواقعة ون، والنازعات وسأل سائل، والمدثر والمزمل، وويل للمطففين وعبس، ولا أقسم وهل أتى، والمرسلات وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت والدخان). رواه ابن خزيمة في صحيحه.

- وقال حصين بن عبد الرحمن: حدثني إبراهيم عن نهيك بن سنان السلمي: أنه أتى عبد الله بن مسعود فقال: قرأت المفصل الليلة في ركعة، فقال: هذّاً مثل هذِّ الشِّعْرِ، أو نثراً مثل نثر الدقل؟!، إنما فُصِّلَ لتفصّلوا، لقد علمت النظائر التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرن عشرين سورة: الرحمن والنجم، على تأليف ابن مسعود، كل سورتين في ركعة، وذكر الدخان وعم يتساءلون في ركعة). رواه الإمام أحمد في مسنده، ورواه الطحاوي في شرح مشكل الآثار وزاد:
فقلت لإبراهيم: أرأيت ما دون ذلك! كيف أصنع؟
قال: ربما قرأتُ أربعاً في ركعة).
قال الطحاوي: (قول ابن مسعود رضي الله عنه بعد ذلك: "إنما سمي المفصل لتفصلوه"؛ فإنَّ ذلك لم يذكره عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد يحتمل أن يكون ذلك من رأيه؛ فإن كان ذلك من رأيه؛ فقد خالفه في ذلك عثمان بن عفان رضي الله عنه لأنه كان يختم القرآن في ركعة)ا.هـ.
وروى الإمام أحمد من طريق حماد بن سلمة قال: حدثنا عاصم عن زر: أن رجلا قال لابن مسعود: كيف تعرف هذا الحرف: "ماء غير" ياسن أم "آسن"؟ فقال: كل القرآن قد قرأت؟، قال: إني لأقرأ المفصل أجمع في ركعة واحدة!، فقال أهذ الشعر لا أبا لك؟!، قد علمت قرائن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي كان يقرن قرينتين قرينتين، من أول المفصل. وكان أول مفصل ابن مسعود. {الرحمن}).
قال بدر الدين العيني: (قوله: (على تأليف ابن مسعود) أراد به أن سورة النجم كان بحذاء سورة الرحمن في مصحف ابن مسعود، بخلاف مصحف عثمان).
- قال منصور بن صقير البغدادي: حدثنا حماد بن سلمة عن عاصم ابن بهدلة عن زر قال: (كان أول مفصل ابن مسعود: الرحمن) رواه الطحاوي في شرح مشكل الآثار، ومنصور هذا قال فيه أبو حاتم الرازي: ليس بقوي، وفي حديثه اضطراب، وقال ابن حبان: لا يحتجّ به إذا انفرد.
وقد تقدّم قول زرّ بن حبيش في ذلك.
وذكر ابن حجر عن الداودي أنّ أوّل مفصّل ابن مسعود الجاثية،
وذكر ابن الملقّن أنّ أوّل مفصّل ابن مسعود القتال.
ولا أعلم لهذين القولين مستندا.
وقال السيوطي: (قال ابن أشتة أيضا: وأخبرنا أبو الحسن بن نافع أن أبا جعفر محمد بن عمرو بن موسى حدثهم قال: حدثنا محمد بن إسماعيل بن سالم حدثنا علي بن مهران الطائي حدثنا جرير بن عبد الحميد قال: تأليف مصحف عبد الله بن مسعود:
طوال البقرة والنساء وآل عمران والأعراف والأنعام والمائدة ويونس.
والمئين: براءة والنحل وهود ويوسف والكهف وبني إسرائيل والأنبياء وطه والمؤمنون والشعراء والصافات.
والمثاني: الأحزاب والحج والقصص وطس النمل والنور والأنفال ومريم والعنكبوت والروم ويس والفرقان والحجر والرعد وسبأ والملائكة وإبراهيم وص والذين كفروا ولقمان والزمر والحواميم حم المؤمن والزخرف والسجدة وحمعسق والأحقاف والجاثية والدخان وإنا فتحنا لك والحشر وتنزيل السجدة والطلاق ون والقلم والحجرات وتبارك والتغابن وإذا جاءك المنافقون والجمعة والصف وقل أوحي وإنا أرسلنا والمجادلة والممتحنة ويا أيها النبي لم تحرم.
والمفصل: الرحمن والنجم والطور والذاريات واقتربت الساعة والواقعة والنازعات وسأل سائل والمدثر والمزمل والمطففين وعبس وهل أتى والمرسلات والقيامة وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت وإذا السماء انفطرت والغاشية وسبح والليل والفجر والبروج وإذا السماء انشقت واقرأ باسم ربك والبلد والضحى والطارق والعاديات وأرأيت والقارعة ولم يكن والشمس وضحاها والتين وويل لكل همزة وألم تر كيف ولإيلاف قريش وألهاكم وإنا أنزلناه وإذا زلزلت والعصر وإذا جاء نصر الله والكوثر وقل يا أيها الكافرون وتبت وقل هو الله أحد وألم نشرح وليس فيه الحمد ولا المعوذتان).
وهذا التأليف كما تقدّم إنما هو في مصاحف منسوبة إلى ابن مسعود غير متحقق صحّة نسبتها). [جمع القرآن:234 - 251]

جمهرة علوم القرآن 15 محرم 1439هـ/5-10-2017م 10:08 PM

مصحف أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (مصحف أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها
قال ابن جريج: أخبرني يوسف بن ماهك قال: إني عند عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها إذ جاءها عراقي فقال: (أي الكفن خير؟).
قالت: (ويحك وما يضرك؟!)
قال: (يا أم المؤمنين أريني مصحفك)
قالت: ( لِمَ؟)
قال: (لعلي أولّف القرآن عليه فإنه يقرأ غير مؤلف).
قالت: (وما يضرك أيَّه قرأتَ قبل؟!! إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء "لا تشربوا الخمر" لقالوا: لا ندع الخمر أبداً، ولو نزل "لا تزنوا" لقالوا: لا ندع الزنا أبدا، لقد نزل بمكة على محمد صلى الله عليه وسلم وإني لجارية ألعب { بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر } ، وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده).
قال: (فأخرجت له المصحف فأملت عليه آي السور). رواه البخاري في صحيحه.
- وروى ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، عن القاسم (أن عائشة كانت تقرأ في المصحف فتصلي في رمضان). رواه ابن أبي داوود في كتاب المصاحف.
- وروى شعبة بن الحجاج، عن أم سلمة الأزدية، قالت: (رأيت عائشة رضي الله عنها تقرأ في المصحف، فإذا مرت بسجدة قامت فسجدت). رواه ابن أبي شيبة والبيهقي في شعب الإيمان.
- وروى محمد بن سليمان التيمي عن أبيه (أن عائشة كانت تقرأ في المصحف وهي تصلي). رواه عبد الرزاق.
- وروى وكيع، عن سفيان الثوري، عن منصور بن المعتمر، عن مجاهد، عن عائشةرضي الله عنها أنها «كانت تقرأ في رمضان في المصحف بعد الفجر، فإذا طلعت الشمس نامت» رواه الفريابي في فضائل القرآن، وإسناده صحيح إلى مجاهد، لكنه لم يثبت له سماع من عائشة.
-
وروى شعبة عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها، «أنه كان يؤمها غلام لها في المصحف» رواه ابن أبي داود في كتاب المصاحف، ورواه عبد الرزاق من طريق معمر عن أيوب عن عبد الرحمن بن القاسم مختصراً.
- وروى جرير بن حازم، عن أيوب السختياني، عن ابن أبي مليكة «أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤمها غلامها ذكوان في المصحف» رواه ابن وهب في جامعه، ومن طريقه ابن أبي داوود والبيهقي، ورواه أصله عبد الرزاق من طريق معمر عن أيوب عن ابن مليكة قال: ( كان يؤمّ من يدخل عليها إلا أن يدخل عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر فيصلي بها).
قال محمد بن نصر المروزي: (سئل ابن شهاب رحمه الله عن الرجل يؤم الناس في رمضان في المصحف؛ قال: «ما زالوا يفعلون ذلك منذ كان الإسلام، كان خيارنا يقرءون في المصاحف» ).

- وروى زيد بن أسلم عن القعقاع بن حكيم، عن أبي يونس، مولى عائشة، أنه قال: أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفاً، وقالت: إذا بلغت هذه الآية فآذني: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى}؛ فلما بلغتها آذنتها فأملَتْ عليَّ: ( [حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصروقوموا لله قانتين] ، قالت عائشة: سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم). رواه مالك والشافعي وأحمد ومسلم وغيرهم.

وهذا محمول على أنها أرادت أن تكتب ذلك لنفسها لتذكر به القراءة المنسوخة مع علمها بنسخها، ويدلّ لذلك ما رواه ابن أبي داوود في كتاب المصاحف من طريق ابن جريج قال: أخبرني عبد الملك بن عبد الرحمن، عن أمه أم حميدة ابنة عبد الرحمن، أنها سألت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها عن الصلاة الوسطى؛ فقالت: ( كنَّا نقرأ في الحرف الأول: [حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين]). رواه ابن أبي داوود.
- وقال ابن جريج: أخبرني ابن أبي حميد قال: أخبرتني حميدة قالت: (أوصت لنا عائشة رضي الله عنها بمتاعها، فكان في مصحفها: [حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر]). رواه ابن أبي داوود). [جمع القرآن:251 - 254]

جمهرة علوم القرآن 15 محرم 1439هـ/5-10-2017م 10:11 PM

مصحف أمّ المؤمنين حفصة رضي الله عنها

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (مصحف أمّ المؤمنين حفصة رضي الله عنها
- روى زيد بن أسلم، عن عمرو بن رافع أنه قال: كنت أكتب مصحفاً لحفصة أم المؤمنين. فقالت: «إذا بلغت هذه الآية فآذني» {حافظوا على الصلوات، والصلاة الوسطى، وقوموا لله قانتين}؛ فلما بلغتها آذنتها فأملت علي: [حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين] ). رواه مالك في الموطأ وأحمد في مسنده.
- وقال ابن جريج: أخبرني نافع أن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم دفعت مصحفا إلى مولى لها يكتبه، وقالت: (إذا بلغت هذه الآية {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى} فآذنّيفلما بلغها جاءها، فكتبت بيدها [حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطىوصلاة العصروقوموا لله قانتين] ). رواه مالك في الموطأ وأبو عبيد القاسم بن سلام في فضائل القرآن، وذكر اختلاف الرواة في إثبات الواو وحذفها في قوله: (وصلاة العصر) واستدلّ لإثباتها بما رواه عبد الملك بن عمير، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبي بن كعب، أنه كان يقرؤها كذلك: [حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر]، ومثله عن ابن عباس، وذكر أنّ الواو في قراءة عبيد بن عمير، فحذف الواو يفيد تفسير الصلاة الوسطى بأنها العصر، وإثباتها يقتضي المغايرة بينهما، وهذا الحرف مما كان يُقرأ به ثمّ نُسخ، ولعلّ حفصة إنما كتبته لخاصّة نفسها). [جمع القرآن:254 - 255]

جمهرة علوم القرآن 15 محرم 1439هـ/5-10-2017م 10:17 PM

مصحف أمّ المؤمنين أمّ سلمة رضي الله عنها

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (مصحف أمّ المؤمنين أمّ سلمة رضي الله عنها
- قال داوود بن قيس الفرّاء: حدثني عبد الله بن رافع مولى أم سلمة، قال: أمرتني أم سلمة أن أكتب لها مصحفا وقالت: إذا انتهيت إلى آية الصلاة فأعلمني فأعلمتها، فأملت علي: «حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر» رواه عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي داوود.
وقد اختلف الرواة على داوود بن قيس في إثبات الواو في قوله: [وصلاة العصر] وحَذْفِها:
أ: فروى عبد الرزاق عنه بإثبات الواو في قوله: [وصلاة العصر].
ب: وروى سفيان الثوري عنه بحذف الواو.
ج: ورواه وكيع عن داوود واختلف عليه الرواة كما اختلفوا على داوود.
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: (لعل أصل ذلك ما في حديث البراء أنها نزلت أولا والعصر ثم نزلت ثانيا بدلها "والصلاة الوسطى" فجمع الراوي بينهما)ا.هـ). [جمع القرآن:255]

جمهرة علوم القرآن 15 محرم 1439هـ/5-10-2017م 10:20 PM

مصحف عبد الله بن عمر بن الخطَّاب رضي الله عنهما

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (مصحف عبد الله بن عمر بن الخطَّاب رضي الله عنهما
- قال حبيب بن الشهيد: قيل لنافع: ما كان يصنع ابن عمر في منزله؟
قال: (لا تطيقونه، الوضوء لكل صلاة، والمصحف فيما بينهما). رواه ابن سعد.
- وقال ابن وهب في جامعه: حدثني عبد الله بن عمر [العمري] عن نافع قال: كان عبد الله بن عمر يعطيني المصحف فأمسك عليه.
قال: فقلنا له: كيف كان يقرأ هذه الآية في سورة البقرة، قال: كان يقرأها: [فدية طعام مساكين]).
- وقال أبو عبيد القاسم بن سلام في فضائل القرآن: حدثنا أبو معاوية، عن عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر أنه كان لا يأخذ المصحف إلا وهو طاهر). [جمع القرآن:256]

جمهرة علوم القرآن 15 محرم 1439هـ/5-10-2017م 10:23 PM

مصحف عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (مصحف عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما
- قال أبو معاوية الضرير: حدثنا الأعمش عن خيثمة بن عبد الرحمن الجعفيّ قال: انتهيتُ إلى عبد الله بن عمرو بن العاص وهو يقرأ في المصحف.

قال: فقلت: أي شيء تقرأ؟
قال: (جزئي الذي أقوم به الليلة). رواه ابن سعد في الطبقات، وابن عساكر في تاريخ دمشق.
- وقال أبو بكر بن عيّاشٍ: قدم علينا شعيب بن شعيب بن محمّد بن عبد اللّه بن عمرو بن العاص، فكان الّذي بيني وبينه، فقال يا أبا بكرٍ: (ألا أخرج لك مصحف عبد اللّه بن عمرو بن العاص؟)
فأخرج حروفًا تخالف حروفنا.
قال: وأخرج رايةً سوداء من ثوبٍ خشنٍ، فيه زرّان وعروةٌ، فقال: (هذه راية رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم الّتي كانت مع عمرٍو). رواه ابن أبي داوود في كتاب المصاحف، وفي رواية عنده: عن أبي بكر بن عياش قال: (مصحف جدّه الّذي كتبه هو، وما هو في قراءة عبد اللّه، ولا في قراءة أصحابنا).
ثم قال أبو بكر بن عيّاشٍ: (قرأ قومٌ من أصحاب النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم القرآن فذهبوا، ولم أسمع قراءتهم).
شعيب بن شعيب مجهول الحال، وذكره ابن حبان في الثقات.
وهذا الخبر ليس فيه ما يُستنكر إذ كان عبد الله بن عمرو بن العاص من أهل مصر لما جمع عثمان المصاحف، وقد يكون هذا المصحف مما كتبه عبد الله بن عمرو بن العاص قبل الجمع العثماني ولم يؤمر بتسليمه؛ وقد يكون مما كتبه أولاده يتوخون به ما يعرفون من قراءته). [جمع القرآن:256 - 257]

جمهرة علوم القرآن 15 محرم 1439هـ/5-10-2017م 10:25 PM

مصحف عبد الله بن عباس رضي الله عنهما

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (مصحف عبد الله بن عباس رضي الله عنهما
- قال ابن الضريس: أخبرنا موسى بن إسماعيل، قال: حدثنا قيس، عن حبيب، قال: «رأيت على مصحف ابن عباس مسامير فضة»

حبيب هو ابن أبي ثابت.
- وقد تقدَّم ذِكْرُ ما رواه ابن جرير في تفسيره بإسناده عن حبيب
بن أبي ثابت أنه قال: أعطاني ابن عباس مصحفاً؛ فقال: (هذا على قراءة أبيّ بن كعب..). وهذا الأثر إن صحّ فلا يدلّ على أنّ ابن عباس أعطاه مصحفه، ولا أنّه راجع هذا المصحف واستوثق منه، ويبعد أن يخالف ابن عباس أمر عثمان بتسليم المصاحف.
- وقال عبد الله بن المبارك: أنبأنا الأجلح عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه قال: ( في مصحف ابن عباس قراءة أبيّ وأبي موسى: [بسم الله الرحمن الرحيم. اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك الخير ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك]. وفيه: [اللهم اياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد نخشى عذابك ونرجو رحمتك إن عذابك بالكفار ملحق]). رواه ابن الضريس في فضائل القرآن.
الأجلح بن عبد الله الكندي ، ضعّفه الإمام أحمد، وقال فيه ابن سعد: ضعيف جداً). [جمع القرآن:257 - 257]


جمهرة علوم القرآن 15 محرم 1439هـ/5-10-2017م 10:27 PM

مصحف عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (مصحف عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه
- قال ابن يونس المصري (ت:347هـ) في تاريخه: (كان عقبة قارئا، عالما بالفرائض والفقه. وكان فصيح اللسان، شاعرا كاتباً. وكانت له السابقة والهجرة، وهو أحد مَن جمع القرآن، ومصحفه بمصر إلى الآن بخطّه، رأيته عند على بن الحسن بن قديد، على غير التأليف الذي فى مصحف عثمان، وكان فى آخره: "وكتب عقبة بن عامر بيده" ورأيت له خطا جيداً، ولم أزل أسمع شيوخنا، يقولون: إنه مصحف عقبة، لا يشكّون فيه)ا.هـ.
وهذا الخبر إنما نقلته للفائدة، وإلا فهو خبر لا يعتمد على مثله، وبين ابن يونس وعقبة نحو ثلاثة قرون). [جمع القرآن:258]


جمهرة علوم القرآن 15 محرم 1439هـ/5-10-2017م 10:29 PM

مصحف عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (مصحف عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه
- حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أبي نضرة قال: أتينا عثمان بن أبي العاص في يوم جمعة لنعرض عليه مصحفاً لنا على مصحفه؛ فلما حضرت الجمعة أمرنا فاغتسلنا؛ ثم أُتينا بطيب فتطيبنا، ثم جئنا المسجد، فجلسنا إلى رجلٍ؛ فحدثنا عن الدجال، ثم جاء عثمان بن أبي العاص فقمنا إليه فجلسنا؛ فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (( يكون للمسلمين ثلاثة أمصار: مصر بملتقى البحرين، ومصر بالحيرة، ومصر بالشام؛ فيفزع الناس ثلاثَ فزعات؛ فيخرج الدجال..). وذكر الحديثَ بطوله، وقد رواه ابن أبي شيبة وأحمد وابن أبي داوود في كتاب المصاحف، ومداره على عليّ بن زيد بن جدعان وهو ضعيف). [جمع القرآن:259]

جمهرة علوم القرآن 16 محرم 1439هـ/6-10-2017م 06:15 PM


الباب الحادي عشر: جواب ما أشكل من الروايات والمسائل في شأن جمع القرآن

ما يثار من الأسئلة في جمع القرآن على نوعين:

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (ما يثار من الأسئلة في جمع القرآن على نوعين:
النوع الأول: إشكالات تعرض لبعض طلاب العلم والباحثين في مسائل جمع القرآن.
والنوع الآخر: شبهات يثيرها الطاعنون في جمع القرآن من الزنادقة والمستشرقين وطوائف من غلاة المبتدعة.
وقد تثار المسألة الواحدة من الفريقين؛ ويقصد بها الفريق الأول البحث عما يزيل الإشكال مع إيمانهم بالقرآن، ويقينهم بصحّة جمعه وحفظه، ويقصد بها الفريق الآخر الطمعَ في العثور على ما يُصدّق ظنّهم من الطعن في صحّة جمع القرآن وحفظه.
ومعرفة طالب العلم بأجوبة هذه المسائل، وما يزيل الإشكالات ويكشف الشبهات من مهمّات ما ينبغي أن يُعتنى به في هذا الباب، وفقه الدروس المتقدّمة مما يعين على جواب كثير من الإشكالات، وكشف الشبهات.
وليُعلم أنّ حصر الإشكالات غير ممكن لاختلاف الناس في الفهم والإدراك، حتى إنّ منهم من يستشكل الواضحات، ويفترض المحال من الافتراضات، ولذلك سيكون الحديثُ في هذا الباب مقصوراً على المشهور مما أثير من تلك الإشكالات ليعرف طالب العلم اللبيب طرق العلماء في كشف الشبهات وإزالة الإشكالات، ويتبيّن الأصول التي بنوا عليها أجوبتهم، حتى يستعين بذلك على معرفة الجواب عما فاتني ذكره وما يستجدّ من الإشكالات.
وقد تأمّلت الأسئلة التي أثيرت في باب جمع القرآن فوجدت أشهرها وأكثرها تداولاً في كتب علوم القرآن ثمانية أسئلة:
السؤال الأول: ما سبب عدم جمع القرآن الكريم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم؟
السؤال الثاني: كيف يوثق بأنّ ما جُمع من الرقاع والأكتاف وصدور الرجال قد تمّ به جمع القرآن؛ وما ضمانة عدم الزيادة عليه؟

السؤال الثالث: كيف لم توجد آخر براءة إلا مع أبي خزيمة الأنصاري؟
السؤال الرابع: ما الجواب عما روي عن عثمان رضي الله عنه مما يفهم منه الاجتهاد في ترتيب الآيات؟
السؤال الخامس: ما الجواب عن الخبر المروي عن زيد بن ثابت أنه قال في آخر آيتين من سورة التوبة: (لو كانت ثلاث آيات لجعلتها سورة على حدة)؟
السؤال السادس: ما جواب ما روي عن عثمان رضي الله عنه أنه قال: «إن في القرآن لحنا ستقيمه العرب بألسنتها»؟
السؤال السابع: ما جواب ما روي عن عائشة رضي الله عنها في تلحين كتَّاب المصاحف وتخطئتهم؟
السؤال الثامن: ما جواب ما روي عن ابن عبّاس في تخطئة بعض كتّاب المصاحف؟). [جمع القرآن:261 - 263]

جمهرة علوم القرآن 16 محرم 1439هـ/6-10-2017م 06:17 PM

السؤال الأول: ما سبب عدم جمع القرآن الكريم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم؟

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (السؤال الأول: ما سبب عدم جمع القرآن الكريم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم؟
الجواب: لم يجمع القرآن في مصحف واحد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بلا خلاف بين أهل العلم.
قال الحافظ ابن حجر في الفتح: (روينا في الجزء الأول من فوائد الديرعاقولي قال: حدثنا إبراهيم بن بشار، حدثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن عبيد، عن زيد بن ثابت قال: « قُبض النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن القرآن جمع في شيء »).
وقال ابن جرير الطبري: حدثني سعيد بن الربيع، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، قال: « قُبض النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن القرآن جُمع، وإنما كان في الكرانيف والعسب »

وحاصل أجوبة العلماء عن سبب عدم جمع المصحف في عهده صلى الله عليه وسلم:

1: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان معصوماً من أن ينسى شيئاً من القرآن؛ فكانت حياته ضماناً لحفظ القرآن وإن لم يُكتَب.
2: أن القرآن في حياة النبي صلى الله عليه وسلم كان يزاد فيه بالوحي وينسخ منه؛ فكان جمعه في مصحف واحد في عهده مظنة لاختلاف نسخ المصاحف وتعددها، وفي ذلك مشقة بالغة.
قال النووي: (وإنما لم يجعله النبي صلى الله عليه وسلم في مصحف واحد لما كان يتوقع من زيادته ونسخ بعض المتلو، ولم يزل ذلك التوقع إلى وفاته صلى الله عليه وسلم)ا.هـ). [جمع القرآن:263 - 264]

جمهرة علوم القرآن 16 محرم 1439هـ/6-10-2017م 06:21 PM

السؤال الثاني: كيف يوثق بأنّ ما جُمع في عهد أبي بكر من الرقاع والأكتاف وصدور الرجال قد تمّ به جمع القرآن؛ وما ضمانة عدم الزيادة عليه؟

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (السؤال الثاني: كيف يوثق بأنّ ما جُمع في عهد أبي بكر من الرقاع والأكتاف وصدور الرجال قد تمّ به جمع القرآن؛ وما ضمانة عدم الزيادة عليه؟
الجواب: كان القرآن الكريم محفوظاً مجموعاً في صدور الصحابة رضي الله عنهم حفظاً يُطمئنّ به ويوثق بصحته واكتماله وعدم ضياع شيء منه.
وكان ذلك الجمع في صدورهم على نوعين:
النوع الأول: الجمع الفردي، والمراد به أن يحفظه كلّه أفرادٌ من الصحابة رضي الله عنهم، وقد كان منهم من جمع القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كأبيّ بن كعب وابن مسعود وزيد بن ثابت وعثمان بن عفان ومعاذ بن جبل ومجمّع بن جارية وأبي الدرداء وأبي زيد الأنصاري وسالم مولى أبي حذيفة، ومنهم جمعه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بقليل كعليّ بن أبي طالب وابن عباس.
والنوع الثاني: الجمع العام، والمراد به أن كلّ آية من القرآن محفوظة في صدور أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، بحيث لا تبقى منه آية غير محفوظة في صدورهم، وهذا النوع مظاهر للنوع الأول؛ والذين يحفظون القرآن بالمعنى الثاني عدد كثير يصعب حصرهم، وتحصل الطمأنينة بحفظهم وضبطهم.
ولم يكن الحامل للصحابة رضي الله عنهم على جمع القرآن في عهد أبي بكر خشية أن يضيع حفظهم وهم أحياء، وإنما الخوف أن يموت حفظة القرآن الذين أخذوه من النبي صلى الله عليه وسلم؛ فينسى من بعدهم شيئا من القرآن، وهذا التخوّف قد زال بجمع القرآن في مصحف واحد في عهد أبي بكر رضي الله عنهم.
وتظاهرَ حفظ الكتاب وحفظ الصدر في الأمّة إلى يومنا هذا.
ولم يكونوا يخشون أن يزاد فيه ما ليس منه ولو حرفاً واحداً؛ لأن عمدتهم الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم مشافهة، وكانوا شديدي التوثّق في ضبطه وكتابته، وقد تحقق إجماعهم على صحة كتابة المصحف، ولو كان فيه أدنى خطأ لاشتهر الخلاف فيه وراجعوه حتى يكتبوه على وجهه الصحيح؛ إذ كان القرآن هو كتابهم الذي ليس لهم كتاب غيره، وعنايتهم به أتمّ، وحرصهم على ضبط كتابته وإحسان قراءته وإقرائه أشدّ). [جمع القرآن:264 - 265]

جمهرة علوم القرآن 16 محرم 1439هـ/6-10-2017م 06:23 PM

السؤال الثالث: كيف لم توجد آخر براءة إلا مع أبي خزيمة الأنصاري وقد صحّ أنّ بعض الصحابة رضي الله عنهم كان قد جمع القرآن؟

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (السؤال الثالث: كيف لم توجد آخر براءة إلا مع أبي خزيمة الأنصاري وقد صحّ أنّ بعض الصحابة رضي الله عنهم كان قد جمع القرآن؟
- الجواب:
أنّ المراد أنهم لم يجدوها مكتوبة إلا معه؛ وأما حفظها في الصدور فكان من الصحابة من يحفظها، ومما يدلّ على ذلك صراحة قول أبيّ بن كعب رضي الله عنه لما بلغوا الآية التي قبلهما: (أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدها آيتين).

فهذا دليل على حفظه لهاتين الآيتين وعددهما وموضعهما، ولم يبق إلا التوثق من كتابتهما؛ فحصل بكتابة أبي خزيمة، واتّفق المحفوظ والمكتوب، وكان هذا هو المطلوب). [جمع القرآن:265]


الساعة الآن 11:41 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
جميع الحقوق محفوظة