العودة   جمهرة العلوم > جمهرة علوم القرآن الكريم > الناسخ والمنسوخ

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 21 جمادى الآخرة 1434هـ/1-05-2013م, 09:01 PM
أم صفية آل حسن أم صفية آل حسن غير متواجد حالياً
عضو جديد
 
تاريخ التسجيل: Apr 2013
المشاركات: 2,594
افتراضي

قوله تعالى: { ٱلشَّهْرُ ٱلْحَرَامُ بِٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ وَٱلْحُرُمَٰتُ قِصَاصٌۭ ۚ فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱعْتَدُوا۟ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ ۚ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ وَٱعْلَمُوٓا۟ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُتَّقِينَ(194)}

قالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النَّحَّاسُ (ت: 338 هـ): (باب ذكر الآية الرّابعة عشرةقال جلّ وعزّ {الشّهر الحرام بالشّهر الحرام والحرمات قصاصٌ فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} [البقرة: 194]
قال أبو جعفرٍ: حدّثنا محمّد بن جعفرٍ الأنباريّ، قال: حدّثنا عبد اللّه بن أيّوب، وعبد اللّه بن يحيى، قالا: حدّثنا حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، قال: قلت لعطاءٍ: قول اللّه جلّ وعزّ {الشّهر الحرام بالشّهر الحرام والحرمات قصاصٍ} [البقرة: 194] قال: «هذا يوم الحديبية صدّوا رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم عن البيت الحرام وكان معتمرًا فدخل في السّنة الّتي بعدها معتمرًا مكّة فعمرةٌ في الشّهر الحرام بعمرةٍ في الشّهر الحرام»
وقال مجاهدٌ: فخرت قريشٌ بردّها رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم محرمًا في ذي القعدة فاعتمر في السّنة الثّانية في ذي القعدة
قال أبو جعفرٍ: التّقدير عمرة الشّهر الحرام بعمرة الشّهر الحرام.
والشّهر الحرام هاهنا ذو القعدة بلا اختلافٍ وسمّي ذا القعدة لأنّهم كانوا يقعدون فيه عن القتال، وكان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم اعتمر في ذي القعدة من سنة ستٍّ من الهجرة فمنعوه من مكّة
قال ابن عبّاسٍ: " فرجعه اللّه تبارك وتعالى في السّنة الأخرى فأقصّه منهم {والحرمات قصاصٌ} [البقرة: 194] "
وروي عن ابن عبّاسٍ، أنّه قال: {والحرمات قصاصٌ} [البقرة: 194] «منسوخةٌ كان اللّه جلّ وعزّ قد أطلق للمسلمين إذا اعتدى عليهم أحدٌ أن يقتصّوا منه فنسخ اللّه جلّ وعزّ ذلك وصيّره إلى السّلطان فلا يجوز لأحدٍ أن يقتصّ من أحدٍ إلّا بأمر السّلطان ولا أن يقطع يد سارقٍ ولا غير ذلك»
وأمّا مجاهدٌ فذهب إلى أنّ «المعنى فمن اعتدى عليكم فيه أي في الحرم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم»
والّذي قاله مجاهدٌ أشبه بسياق الكلام؛ لأنّ قبله ذكر الحرم وهو متّصلٌ به إلّا أنّه منسوخٌ عند أكثر العلماء
وقد أجمع المسلمون أنّ المشركين أو الخوارج لو غلبوا على الحرم لقوتلوا حتّى يخرجوا منه فإن قيل فما معنى الحديث «أحلّت لي ساعةً وهي حرامٌ بحرمة اللّه جلّ وعزّ» فالجواب أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم دخلها غير محرمٍ يوم الفتح ولا يحلّ هذا لأحدٍ بعده إذا لم يكن من أهل الحرم فأمّا {والحرمات} [البقرة: 194] فإنّما جمع واللّه أعلم؛ لأنّه أريد به حرمة الإحرام وحرمة الشّهر الحرام وحرمة البلد الحرام
وأمّا {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} [البقرة: 194] فسمّي

الثّاني اعتداءً وإنّما الاعتداء الأوّل ففيه جوابان
أحدهما أنّه مجازٌ على ازدواج الكلام سميّ الثّاني باسم الأوّل مثل {وجزاء سيّئةٍ مثلها}
والجواب الآخر أنّه حقيقةٌ يكون من الشّدّ والوثوب أي: من شدّ عليكم ووثب بالظّلم فشدّوا عليه وثبوا بالحقّ
وقد تكلّم العلماء من الصّحابة وغيرهم بأجوبةٍ مختلفةٍ في الآية الخامسة عشرة
). [الناسخ والمنسوخ للنحاس: 1/454-630]
قَالَ مَكِّيُّ بنُ أبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ) : (قوله تعالى: {الشّهر الحرام بالشّهر الحرام والحرمات قصاصٌ فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم}.
قال ابن عبّاس: إباحة الاعتداء منسوخٌ، لأنّ الله جلّ ذكره ردّه إلى السلطان، ولا يجوز لأحدٍ أن يقتصّ ممّن اعتدى عليه إلاّ بالسلطان، ولا يقطع يد سارقٍ إلاّ بالسلطان.
قال أبو محمد: وهذا القول إنما يجوز على مذهب من أجاز نسخ القرآن بالسّنّة المتواترة.
وقد روي عن ابن عباس أنه قال: نسخها قوله تعالى: {ومن قتل مظلومًا فقد جعلنا لوليّه سلطانًا} [الإسراء: 33] قال: يأتي السلطان حتى ينتصف منه له.
قال أبو محمد: وهذا لا يصحّ عن ابن عباس، لأنّ السّلطان هاهنا: الحجّة؛ ولأنّ سورة "سبحان" مكيةٌ، والبقرة: مدنيةٌ. ولا ينسخ المكيّ المدنيّ؛ لأنه نزل قبل المدني، والناسخ لا يصحّ أن يكون نزوله إلاّ بعد المنسوخ. وأيضًا فإنّ الرّجوع إلى السّلطان في القصاص، إنما أخذ بالإجماع، والإجماع لا ينسخ القرآن لكنه يبيّنه كما تبيّنه الأخبار من السنن.
فهذا مثل قوله {وجزاء سيّئةٍ سيّئةٌ مثلها} [الشورى: 40].
وقيل: الآية نزلت في إباحة قتال من قاتلهم إلى الآن في الشّهر الحرام، وفهم منها منع قتال من لم يقاتلهم في الشّهر الحرام، وإباحة ذلك في غير الشهر الحرام، ثم نسخ ذلك بالأمر بالقتال في الشّهر الحرام، وإن لم يقاتلوهم، بقوله تعالى: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} [التوبة: 5] في براءة.
قال أبو محمد: وهذا القول أبين الأقوال فيها، لكنّه نسخ مفهوم التلاوة. وله نظائر ستراها.
وقال مجاهد: الآية محكمةٌ غير منسوخةٍ، والمعنى: فمن اعتدى عليكم في الحرم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم، أي: من قاتلكم في الحرم فقاتلوه فيه، ولا يحلّ أن تبدؤا بالقتال في الحرم عنده إلى الآن.وأكثر الناس على خلافه.
).[الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه:123- 200]
قَالَ أبو الفَرَجِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَلِيٍّ ابْنُ الجَوْزِيِّ (ت: 597هـ): (ذكر الآية التّاسعة عشرة: قوله تعالى: {الشّهر الحرام بالشّهر الحرام والحرمات قصاصٌ}.
اختلف العلماء هل في هذه الآية منسوخٌ أم لا على قولين:
أحدهما: أنّ فيها منسوخًا. واختلف أرباب هذا القول فيه على قولين:
أحدهما: أنّه قوله: {الشّهر الحرام بالشّهر الحرام} قالوا: وذلك أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم اعتمر في ذي القعدة فصدّه المشركون عن أداء عمرته فقضاها في السّنّة الثّانية في ذي القعدة فاقتضى هذا، أنّ من فاته أداء ما وجب عليه بالإحرام الّذي عقده في الأشهر الحرم أن يجب عليه قضاؤه في مثل ذلك الشّهر الحرام، ثمّ نسخ ذلك وجعل له قضاؤه أيّ وقتٍ شاء، أمّا في مثل ذلك الشّهر أو غيره. قال شيخنا عليّ بن عبيد اللّه: وممّن حكي ذلك عنه عطاءٌ.
قلت: وهذا القول لا يعرف عن عطاءٍ ولا يشترط أحدٌ من الفقهاء المشهورين على من منع من عمرته أو أفسدها أن يقضيها في مثل ذلك الشّهر.
والثّاني: أنّه قوله: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم}.
ثمّ اختلف أرباب هذا القول في معنى الكلام ووجه نسخه على ثلاثة أقوالٍ:
أحدها: أنّ هذا نزل بمكّة، والمسلمون قليلٌ ليس لهم سلطانٌ يقهرون به المشركين، وكان المشركون يتعاطونهم بالشّتم والأذى فأمر اللّه تعالى المسلمين أن يأتوا إليهم مثل ما أتوا إليهم أو يعفوا ويصبروا فلمّا هاجر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلى المدينة وأعزّ اللّه سلطانه نسخ ما كان تقدّم من ذلك، رواه عليّ بن أبي طلحة عن ابن عبّاسٍ رضي اللّه عنهما.
والثّاني: أنّه كان في أوّل الأمر إذا اعتدي على الإنسان فله أن يقتصّ لنفسه بنفسه من غير مرافعةٍ إلى سلطان المسلمين ثمّ نسخ ذلك بوجوب الرّجوع إلى السّلطان في إقامة الحدود والقصاص. قال شيخنا وممّن حكي ذلك عنه ابن عبّاسٍ رضي اللّه عنهما.
قلت: وهذا لا يثبت عن ابن عبّاسٍ ولا يعرف له صحّةٌ، فإنّ النّاس ما زالوا يرجعون إلى رؤسائهم وسلاطينهم في الجاهليّة والإسلام إلا أنّه لو أنّ إنسانًا استوفى حقّ نفسه من خصيمه من غير سلطانٍ أجزأ ذلك، وهل يجوز له ذلك؟ فيه روايتان عن أحمد.
والثّالث: أنّ معنى الآية فمن اعتدى عليكم في الشّهر الحرام فاعتدوا عليه فيه ثمّ نسخ ذلك، وهذا مذكورٌ عن مجاهدٍ، ولا يثبت ولو ثبت كان مردودًا، بأنّ دفع الاعتداء جائزٌ في جميع الأزمنة عند جميع العلماء، وهذا حكمٌ غير منسوخٍ، والصّحيح في هذه الآية أنها محكمة غير
منسوخةٍ. فأمّا أوّلها فإنّ المشركين لمّا منعوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من دخول مكة في شهر حرام اقتصر لنبيّه عليه السّلام بإدخاله مكّة في شهرٍ حرامٍ.
أخبرنا عبد الوهّاب بن المبارك، قال: أبنا أحمد بن الحسن بن خيرون وأبو ظاهرٍ الباقلاويّ، قال: أبنا أبو عليّ بن شاذان، قال: أبنا أحمد بن كاملٍ القاضي، قال: أبنا محمّد بن سعدٍ العوفيّ، قال: حدّثني أبي قال. حدّثني عمّي الحسين بن حسن بن عطيّة، قال: حدّثني أبي عن جدّي عن ابن عبّاسٍ رضي اللّه عنهما قال: كان المشركون حبسوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في ذي القعدة عن البيت ففخروا عليه بذلك فرجعّه اللّه في ذي القعدة فأدخله البيت
الحرام فاقتصّ له منهم.
فأمّا قوله: {فمن اعتدى عليكم} فقال سعيد بن جبيرٍ: كان المشركون قد عاهدوه يوم الحديبية أن يخلوا له مكّة ولأصحابه العام المقبل ثلاثة أيّامٍ، فلمّا جاء العام الذي كان الشّرط بينهما قفل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه محرمين بعمرةٍ فخافوا، أن لا (يوفّ) لهم المشركون بما شرطوا وأن يقتلوهم عند المسجد الحرام، وكره المسلمون القتال في شهرٍ حرامٍ وبلدٍ حرامٍ فنزلت {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه} أي: من قاتلكم من المشركين في الحرم فقاتلوه.
فإن قال قائلٌ: فكيف يسمّى الجزاء اعتداءً؟
فالجواب: إنّ صورة الفعلين واحدةٌ وإن اختلف حكماهما.
قال الزّجّاج: والعرب تقول: ظلمني فلا] ن فظلمته: أي: جازيته بظلمه، وجهل عليّ فجهلت عليه، أي جازيته بجهله.
قلت: فقد بان بما ذكرنا أنّ الآية محكمةٌ ولا وجه لدخولها في المنسوخ أصلا.
). [نواسخ القرآن:125- 236]
قالَ عَلَمُ الدِّينِ عليُّ بنُ محمَّدٍ السَّخَاوِيُّ (ت:643هـ): (قوله عز وجل: {الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} الآية [البقرة: 194] قال مجاهد: هي محكمة، والمعنى: فمن اعتدى عليكم في الحرم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم. فأباح أن تقاتل في الحرم من قاتلك، ولا يحل أن تبدأه بالقتال فيه وهو حكم ثابت عنده إلى الأبد.
وعن ابن عباس: أنها منسوخة، وقد نسخ اعتداء من اعتدى عليه برد أمره إلى السلطان، فلا يقتص بيده، إنما يقتص له السلطان.
قالوا: قال ابن عباس: (نسخها قوله عز وجل: {فقد جعلنا لوليه سلطانا} الآية [الإسراء: 33]) ولا يصح ذلك عن ابن عباس، لأن " سبحان" مكية باتفاق، والمكي لا ينسخ المدني.
). [جمال القراء: 1/249-271]

روابط ذات صلة:
- أقوال المفسرين


رد مع اقتباس
  #2  
قديم 21 جمادى الآخرة 1434هـ/1-05-2013م, 09:27 PM
أم صفية آل حسن أم صفية آل حسن غير متواجد حالياً
عضو جديد
 
تاريخ التسجيل: Apr 2013
المشاركات: 2,594
افتراضي

قوله تعالى { وَأَتِمُّوا۟ ٱلْحَجَّ وَٱلْعُمْرَةَ لِلَّهِ ۚ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْىِ ۖ وَلَا تَحْلِقُوا۟ رُءُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ ٱلْهَدْىُ مَحِلَّهُۥ ۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِۦٓ أَذًۭى مِّن رَّأْسِهِۦ فَفِدْيَةٌۭ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍۢ ۚ فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِٱلْعُمْرَةِ إِلَى ٱلْحَجِّ فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْىِ ۚ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَٰثَةِ أَيَّامٍۢ فِى ٱلْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ ۗ تِلْكَ عَشَرَةٌۭ كَامِلَةٌۭ ۗ ذَٰلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُۥ حَاضِرِى ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ ۚ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ وَٱعْلَمُوٓا۟ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ(196)}

قَالَ أَبو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بْنُ حَزْمٍ الأَنْدَلُسِيُّ (ت: 320 هـ): (الآية الرابعة عشرة: قوله تعالى: {ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغالهدى محله...} الآية [196 مدنية / البقرة / 2] نسخت بالاستثناء بقوله تعالى: {فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك...} الآية [196 مدنية / البقرة / 2]) .[الناسخ والمنسوخ لابن حزم: 19-30].
قالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النَّحَّاسُ (ت: 338 هـ): (باب ذكر الآية السّابعة عشرةقال اللّه جلّ وعزّ {وأتمّوا الحجّ والعمرة للّه} [البقرة: 196] الآية، وقد صحّ عن رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم أنّه أمر أصحابه بعد أن أحرموا بالحجّ ففسخوه وجعلوه عمرةً
واختلف العلماء في فسخ أصحاب رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم
الحجّ بعد أن أهلّوا به إلى العمرة فقالوا فيه أربعة أقوالٍ:
فمنهم من قال: إنّه منسوخٌ: كما روي عن عمر، رحمه اللّه أنّه قال في {وأتمّوا الحجّ والعمرة للّه} [البقرة: 196] : «إتمامهما أن لا يفسخا وقد قيل في إتمامهما غير هذا» كما قرئ على عبد اللّه بن أحمد بن عبد السّلام، عن أبي الأزهر، قال: حدّثنا روحٌ، قال: حدّثنا شعبة، عن عمرو بن مرّة، عن عبد اللّه بن سلمة، عن عليّ بن أبي طالبٍ، رضي اللّه عنه في قول اللّه جلّ وعزّ {وأتمّوا الحجّ والعمرة للّه} [البقرة: 196] قال: «أن تحرم من دويّرة أهلك»
وقال سفيان: «إتمام الحجّ والعمرة أن تخرج قاصدًا لهما لا لتجارةٍ»، وقيل: إتمامهما أن تكون النّفقة حلالًا
وقال مجاهدٌ، وإبراهيم: «إتمامهما أن يفعل فيهما كلّ ما أمر به، وهذا قولٌ جامعٌ»
وذهب أبو عبيدٍ إلى أنّ فسخ الحجّ إلى العمرة منسوخٌ بما فعله الخلفاء الرّاشدون المهديّون أبو بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٌّ رضي اللّه عنهم؛ لأنّهم لم يفسخوا حجّهم ولم يحلّوا إلى يوم النّحر فهذا قولٌ في فسخ الحجّ: إنّه منسوخٌ
والقول الثّاني إنّ فسخ الحجّ إنّما كان لعلّةٍ وذلك أنّهم كانوا لا يرون العمرة في أشهر الحجّ ويرون أنّ ذلك عظيمٌ فأمرهم رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم بفسخ الحجّ وتحويله إلى العمرة ليعلموا أنّ العمرة في أشهر الحجّ جائزةٌ
والدّليل على أنّهم كانوا يتجنّبون العمرة في أشهر الحجّ وهي شوّال وذو القعدة وذو الحجّة في قول ابن عمر وفي قول ابن عبّاسٍ: «شوّال وذو القعدة وعشرٌ من ذي الحجّة» والقولان صحيحان؛ لأنّ العرب تقول: جئتك رجبًا ويوم الجمعة وإنّما جئت في بعضه فذو الحجّة شهر الحجّ؛ لأنّ الحجّ فيه ولأنّ أحمد بن شعيبٍ حدّثنا قال: أخبرنا عبد الأعلى بن واصل بن عبد الأعلى، قال: حدّثنا أبو أسامة، عن وهيب بن خالدٍ، قال: حدّثنا عبد اللّه بن طاوسٍ، عن أبيه، عن ابن عبّاسٍ، قال: كانوا يرون أنّ العمرة، في أشهر الحجّ من أفجر فجورٍ في الأرض ويجعلون المحرّم صفرًا ويقولون: إذا برأ الدّبر وعفا الوبر وانسلخ صفر أو قال: دخل صفر حلّت العمرة لمن اعتمر، فقدم رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه رضي اللّه عنهم صبيحة رابعةٍ مهلّين بالحجّ فأمرهم رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم أن يجعلوها عمرةً فتعاظم ذلك عندهم فقالوا: يا رسول اللّه، أيّ الحلّ نحلّ؟ قال: «الحلّ كلّه» فهذان قولان
والقول الثّالث: إنّ ابن عبّاسٍ كان يرى الفسخ جائزًا ويقول: من حجّ فطاف بالبيت فقد حلّ لا اختلاف في ذلك عنه
قال ابن أبي مليكة: قال له عروة يا ابن عبّاسٍ، أضللت النّاس
قال له: بم ذاك يا عريّة؟ قال: تفتي النّاس بأنّهم إذا طافوا بالبيت حلّوا وقد حجّ أبو بكرٍ، وعمر فلم يحلّا إلى يوم النّحر فقال له ابن عبّاسٍ: قال اللّه جلّ وعزّ {ثمّ محلّها إلى البيت العتيق} [الحج: 33] أأقول لك قال اللّه جلّ وعزّ ثمّ تقول لي قال أبو بكرٍ، وعمر وقد أمر رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم بالفسخ؟
قال أبو جعفرٍ: وهذا القول انفرد به ابن عبّاسٍ كما انفرد بأشياء غيره
فأمّا قوله جلّ وعزّ {ثمّ محلّها إلى البيت العتيق} [الحج: 33] فليس فيه حجّةٌ لأنّ الضّمير للبدن وليس للنّاس ومحلّ النّاس يوم النّحر على قول الجماعة ولهذا سميّ يوم الحجّ الأكبر وذلك صحيحٌ عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم
وعن عليّ بن أبي طالبٍ رضي اللّه عنه، وعن ابن عبّاسٍ، وإن كان قد روي عن ابن عبّاسٍ أنّه يوم عرفاتٍ فهذه ثلاثة أقوالٍ في فسخ الحجّ
والقول الرّابع: أصحّها للتّوقيف من رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم وهو أنّه مخصوصٌ
كما حدّثنا أحمد بن شعيبٍ، قال: أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، عن عبد العزيز عن ربيعة بن أبي عبد الرّحمن، عن الحارث بن بلالٍ، عن أبيه، قال: قلنا: يا رسول اللّه، أفسخ الحجّ لنا خاصّةً أم للنّاس عامّةٌ؟ قال: «بل لنا خاصّةً»
وقال أبو ذرٍّ: كان فسخ الحجّ لنا رخصةً
فإن احتجّ محتجٌّ بقول النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في غير هذا الحديث:
«ذلك لأبد الأبد» فلا حجّة له فيه؛ لأنّه يعني بذلك جواز العمرة في أشهر الحجّ
فأمّا حديث عمر أنّه قال في المتعة: إن أتيت بمن فعلها عاقبته، وكذا المتعة الأخرى
فإحداهما المتعة المحرّمة بالنّساء الّتي هي بمنزلة الزّنا، والأخرى فسخ الحجّ فلا ينبغي لأحدٍ أن يتأوّل عليه أنّها المتعة في أشهر الحجّ لأنّ اللّه جلّ وعزّ قد أباحها بقوله جلّ وعزّ {فمن تمتّع بالعمرة إلى الحجّ فما استيسر من الهدي} [البقرة: 196]
واختلف العلماء في العمرة فقال بعضهم: هي واجبةٌ بفرض اللّه جلّ وعزّ، وقال بعضهم: هي واجبةٌ بسنّة رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم وقال بعضهم: ليست واجبةً ولكنّها سنّةٌ فممّن يروى عنه أنّه قال: إنّها واجبةٌ عمر وابن عمر، وابن عبّاسٍ، وهو قول الثّوريّ، والشّافعيّ
وأمّا السّنّة:
فحدّثنا أحمد بن شعيبٍ، قال: أخبرنا محمّد بن عبد الأعلى، قال: حدّثنا خالدٌ، قال: حدّثنا شعبة، قال: سمعت النّعمان بن سالمٍ، قال: سمعت عمرو بن أوسٍ، يحدّث عن أبي رزينٍ، أنّه قال: يا رسول اللّه، إنّ أبي شيخٌ كبيرٌ لا يستطيع الحجّ ولا العمرة ولا الظّعن قال: «حجّ عن أبيك واعتمر»
واحتجّ قومٌ في وجوبها بظاهر قول اللّه جلّ وعزّ {وللّه على النّاس حجّ البيت من استطاع} [آل عمران: 97] والحجّ القصد وهو يقع للحجّ والعمرة، وقال جلّ وعزّ {يوم الحجّ الأكبر} [التوبة: 3] والحجّ الأصغر العمرة إلّا أنّ أهل اللّغة
يقولون: اشتقاق العمرة من غير اشتقاق الحجّ، لأنّ العرب تقول: اعتمرت فلانًا أي زرته فمعنى العمرة زيارة البيت ولهذا كان ابن عبّاسٍ لا يرى العمرة لأهل مكّة لأنّهم بها فلا معنى لزيارتهم إيّاها، والحجّ في اللّغة القصد
وممّن قال: العمرة غير واجبةٍ جابر بن عبد اللّه، وسعيد بن المسيّب
وهو قول مالكٍ وأبى حنيفة وقال من احتجّ لهم:
روى الحجّاج بن أرطأة، عن محمّد بن المنكدر، عن جابرٍ، قال: قيل: يا رسول اللّه، العمرة واجبةٌ؟ قال: «لا وأن تعتمروا خيرٌ لكم»
[قال أبو جعفرٍ: وهذا لا حجّة فيه؛ لأنّ الحجّاج بن أرطاة يدلّس عمّن لقيه وعمّن لم يلقه فلا تقوم بحديثه حجّةٌ إلّا أن يقول: حدّثنا أو أخبرنا أو سمعت ولكنّ الحجّة في ذلك قول من قال: الفرائض لا تقع باختلافٍ وإنّما تقع باتّفاقٍ
وممّا يدخل في هذا الباب الاشتراط في الحجّ وهو أن يقول إذا لبّى بالحجّ إنّ حبسني حابسٌ فمحلّي حيث حبسني
فممّن قال بالاشتراط في الحجّ عمر، وعليٌّ، وابن مسعودٍ، ومعاذٌ، وسعيد بن جبيرٍ، وعطاءٌ، والحسن، وقتادة، وابن سيرين وهو قول أحمد بن محمّد بن حنبلٍ، وإسحاق بن راهويه وقول الشّافعيّ بالعراق ثمّ تركه بمصر
وممّن لم يقل به مالكٌ، وأبو حنيفة، والشّافعيّ بمصر وحجّة الّذين قالوا به:
ما حدّثنا أحمد بن شعيبٍ، قال: أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أخبرنا عبد الرّزّاق، قال: أخبرنا معمرٌ، عن الزّهريّ، عن عروة، عن عائشة، وعن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، رضي اللّه عنها أنّ رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم دخل على ضباعة فقالت: يا رسول اللّه، إنّي أريد الحجّ، وأنا شاكيةٌ فقال: حجّي واشترطي أنّ محلّي حيث تحبسني " قال إسحاق: قلت لعبد الرّزّاق: الزّهريّ، وهشامٌ قالا: عن عائشة؟ قال: نعم كلاهما، قال أحمد بن شعيبٍ: لم يصله إلّا عبد الرّزّاق، عن معمرٍ فلا أدري من أيّهما ذلك؟
وحدّثنا أحمد بن شعيبٍ، قال: أخبرني عمران بن يزيد، قال: حدّثنا شعيبٌ، وهو ابن إسحاق قال: حدّثنا ابن جريجٍ، قال: أخبرني أبو الزّبير، أنّه سمع طاوسًا، وعكرمة، يخبران عن ابن عبّاسٍ، قال جاءت ضباعة بنت الزّبير إلى رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم فقالت: إنّي امرأةٌ ثقيلةٌ وأنا أريد الحجّ فكيف تأمرني أن أصنع؟ قال: «أهلّي واشترطي أنّ محلّي حيث حبستني»
قال أبو جعفرٍ: أهلّي معناه لبّي، وأصله من رفع الصّوت، ومنه استهلّ المولود ومنه {وما أهلّ لغير اللّه به} [المائدة: 3]
فقد صحّ عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم الاشتراط في الحجّ فقال بهذا من ذكرناه واتّبعوا ما جاء عن الرّسول صلّى الله عليه وسلّم، وكرهه قومٌ واحتجّوا بحديث الزّهريّ عن سالمٍ، عن أبيه أنّه كره الاشتراط في الحجّ، وقال «أما حسبكم سنة نبيّكم صلّى الله عليه وسلّم أنّه لم يشترط» واحتجّ بعض من كرهه بأنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم إنّما قال لها: «واشترطي أنّ محلّي حيث حبستني» ولم يقل لها: إنّه ليس عليك حجٌّ إن أحصرت
[وفي الآية {فمن تمتّع بالعمرة إلى الحجّ فما استيسر من الهدي} [البقرة: 196] فكان هذا ناسخًا لما كانوا يعتقدونه من أنّ العمرة لا تجوز في أشهر الحجّ فجازت في أشهر الحجّ وجاز القرآن ولم يكونوا يستعملونه
ثمّ اختلف العلماء في حجّة الوداع فقال قومٌ: إنّ رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم أفرد الحجّ فيها، وقال قومٌ: بل تمتّع بالعمرة إلى الحجّ، وقال قومٌ: بل قرن وجمع بين الحجّ والعمرة وكلّ هذا مرويٌّ بأسانيد صحاحٍ حتّى طعن بعض أهل الأهواء وبعض الملحدين في هذا وقالوا: هذه الحجّة الّتي حجّها رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم أجمع ما كان أصحابه فقد اختلفتم فيها وهي أصلٌ من أصول الدّين، فكيف يقبل منكم ما رويتموه من أخبار الآحاد، وهذا الطّعن من أحد اثنين إمّا أن يكون الطّاعن به جاهلًا باللّغة الّتي خوطب بها القوم وإمّا أن يكون جائرًا عن الحقّ، وسنذكر أصحّ ما روي من الاختلاف في هذا ونبيّن أنّه غير متضادٍّ
وقد قال الشّافعيّ: «هذا من أيسر ما اختلفوا فيه وإن كان قبيحًا»
وهذا كلامٌ صحيحٌ؛ لأنّ المسلمين قد أجمعوا أنّه يجوز الإفراد والتّمتّع والقران وإن كان بعضهم قد اختار بعض هذا
قال أبو جعفرٍ: كما قرئ على أحمد بن محمّد بن خالدٍ البراثيّ، عن خلف بن هشامٍ المقرئ، قال: سمعت مالك بن أنسٍ، في " الإفراد بالحجّ: إنّه أحبّ إليه لا التّمتّع والقران قال: وليس على المفرد هديٌ "
قال البراثيّ، وحدّثنا عبد اللّه بن عونٍ، قال: حدّثنا مالك بن أنسٍ، عن عبد الرّحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة، رضي اللّه عنها «أنّ رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم أفرد الحجّ» وهذا إسنادٌ مستقيمٌ لا مطعن فيه
والحجّة لمن اختار الإفراد أنّ المفرد أكثر تعبًا من المتمتّع لإقامته على الإحرام فرأى أنّ ذلك أعظم لثوابه
والحجّة في اتّفاق الأحاديث أنّ رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم لمّا أمر بالتّمتّع والقرآن جاز أن يقال: تمتّع رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم وقرن كما قال جلّ وعزّ {ونادى فرعون في قومه} [الزخرف: 51]
وقال عمر بن الخطّاب رضي اللّه عنه: «رجمنا ورجم رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم، وإنّما أمرنا بالرّجم»
وحدّثنا بكر بن سهلٍ، قال: حدّثنا عبد اللّه بن يوسف، قال: أخبرنا مالكٌ، عن نافعٍ، عن ابن عمر، «أنّ رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم قطع في مجنٍّ قيمته ثلاثة دراهم» وإنّما أمر من قطع فلمّا كان رسول اللّه صلّى الله عليه
وسلّم قد أمر بالتّمتّع والقران جاز هذا ومن الدّليل على أمره بذلك:
أنّ أحمد بن شعيبٍ حدّثنا قال: أخبرنا يحيى بن حبيب بن عربيٍّ، قال: حدّثنا حمّادٌ، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: خرجنا مع رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم موافين لهلال ذي الحجّة، فقال: ((من شاء منكم أن يهلّ بحجّةٍ فليهلّ، ومن شاء أن يهلّ بعمرةٍ فليهلّ بعمرةٍ))
قال أبو جعفرٍ: هذا احتجاجٌ لمن رأى إفراد الحجّ، وسنذكر غيره
فأمّا التّمتّع بالعمرة إلى الحجّ فهذا موضع ذكره
قال أبو جعفرٍ: قرئ على أحمد بن محمّد بن الحجّاج، عن يحيى بن عبد اللّه بن بكيرٍ، عن اللّيث بن سعدٍ، قال: حدّثني عقيلٌ، عن الزّهريّ، قال: أخبرني سالم بن عبد اللّه، عن عبد اللّه بن عمر، قال: تمتّع رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم بالعمرة إلى الحجّ وأهدى فساق الهدي من ذي الحليفة وبدأ فأهلّ بالعمرة ثمّ أهلّ بالحجّ وتمتّع النّاس مع رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم بالعمرة إلى الحجّ، وساق الحديث
قال الزّهريّ: وأخبرني عروة، عن عائشة،، عن رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم في تمتّعه بالعمرة إلى الحجّ مثل الّذي أخبرني سالمٌ عن عبد اللّه بن عمر، عن رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم
قال أبو جعفرٍ: فإن قال قائلٌ: هذا متناقضٌ رويتم عن القاسم، عن عائشة أنّ رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم أفرد الحجّ، ورويتم هاهنا عن الزّهريّ، عن عروة، عن عائشة التّمتّع، قيل له: الحديثان متّفقان وذلك بيّنٌ ألا ترى أنّ في هذا الحديث نصًّا، وبدأ رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم فأهلّ بالعمرة ثمّ أهلّ بالحجّ أفلا ترى الحجّ مفردًا من العمرة فهذا بيّنٌ جدًّا
قال أبو جعفرٍ:حدّثنا أحمد بن شعيبٍ، قال: أخبرنا محمّد بن المثنّى، عن عبد الرّحمن، عن سفيان، عن قيس بن مسلمٍ، عن طارق بن شهابٍ، عن أبي موسى، قال: قدمت على رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم وهو بالبطحاء فقال: «بم أهللت؟» فقلت بإهلال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «هل سقت من هديٍ؟» قلت: لا قال: «فطف بالبيت وبالصّفا والمروة وحلّ» فطفت بالبيت وبالصّفا والمروة ثمّ أتيت امرأةً من قومي فمشّطتني وغسلت رأسي فلم أزل أفتي النّاس بذلك في إمارة أبي بكرٍ وإمارة عمر فإنّي لقائمٌ بالموسم إذ أتاني رجلٌ فقال: إنّك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في النّسك، فقلت: يا أيّها النّاس من أفتيناه بشيءٍ فليتّئد فإنّ أمير المؤمنين قادمٌ فأتمّوا به فلمّا قدم قلت: يا أمير المؤمنين ما أحدثت في النّسك؟ قال: أن نأخذ بكتاب اللّه جلّ وعزّ فقد قال اللّه جلّ ثناؤه {وأتمّوا الحجّ والعمرة للّه}[البقرة: 196] وأن نأخذ بسنّة رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم فإنّه لم يحلّ حتّى نحر الهدي
قال أبو جعفرٍ: قوله: فليتّئد معناه فليتثبّث، مشتقٌّ من التّؤدة، وقوله: لم يحلّ أي: لم يحلّ من إحرامه، أي: لم يستحلّ لبس الثّياب والطّيب وما أشبههما
وفي هذا الحديث من رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم أمر أبي موسى بالتّمتّع وفيه أنّ أبا موسى توقّف عن الفتيا بالتّمتّع وقد أمره به رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم إلى أن وافى عمر فلمّا وافى عمر منع من التّمتّع فلم يرادّه أبو موسى، لأنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قد أجاز غيره فدلّ هذا على أنّ إمام المسلمين إذا اختار قولًا يجوز ويجوز غيره وجب أن لا يخالف عليه ونظير هذا أنّ رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم قال: «أنزل القرآن على سبعة أحرفٍ»
فرأى عثمان رضي اللّه عنه أن يزيل منها ستّةً وأن يجمع النّاس على حرفٍ واحدٍ فلم يخالفه أكثر الصّحابة حتّى قال عليٌّ رضي اللّه عنه: «لو كنت موضعه لفعلت كما فعل»
وفي هذا الحديث أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال لأبي موسى: «طف بالبيت وبين الصّفا والمروة وحلّ» ولم يقل له: احلق ولا قصّر فدلّ على أنّ الحلق والتّقصير غير واجبين وفيه أهللت بإهلال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فدلّ هذا على أنّ هذا جائزٌ لمن فعله، وقال بعض أهل العلم: هذا يدلّ على أنّه جائزٌ أن يلبّي الرّجل ولا يريد حجًّا ولا عمرةً ثمّ يوجب بعد ذلك ما شاء واستدل قائل هذا على أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لبّى مرّةً بالإفراد ومرّةً بالتّمتّع ومرّةً بالقران حتّى نزل عليه القضاء فقرن
وقال بعض أهل العلم: كان رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم قارنًا وإذا كان قارنًا فقد حجّ واعتمر، واتّفقت الأحاديث
ومن أحسن ما قيل في هذا أنّ رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم أهلّ بعمرةٍ فقال من رآه تمتّع ثمّ أهلّ بحجّةٍ فقال من رآه أفرد ثمّ قال: «لبّيك بحجّةٍ وعمرةٍ» فقال من سمعه: قرن فاتّفقت الأحاديث والدّليل على هذا أنّه لم يرو أحدٌ عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال أفردت ولا تمتّعت وصحّ عنه أنّه قال «قرنت»
كما حدّثنا أحمد بن شعيبٍ، قال: أخبرني معاوية بن صالحٍ، قال: حدّثنا يحيى بن معينٍ، قال: حدّثنا حجّاجٌ، قال: حدّثنا يونس، عن أبي إسحاق، عن البراء، قال: كنت مع عليّ بن أبي طالبٍ رضي اللّه عنه حين أمّره رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم على اليمن فلمّا قدم على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال عليٌّ: أتيت رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم فقال لي رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم: " ماذا صنعت؟ قلت: أهللت بإهلالك قال: «فإنّي سقت الهدي وقرنت» ثمّ أقبل على أصحابه فقال: «لو استقبلت من أمري كما استدبرت لفعلت كما فعلتم ولكن سقت الهدي وقرنت»
وحدّثنا أحمد بن شعيبٍ، قال: حدّثنا يعقوب، قال: حدّثنا هشيمٌ، قال: أخبرنا حميدٌ، قال: حدّثنا بكر بن عبد اللّه المزنيّ، قال: سمعت أنس بن مالكٍ، يقول: سمعت رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم يلبّي بالعمرة والحجّ جميعًا فحدّثت بذلك ابن عمر، فقال: لبّى بالحجّ وحده، فلقيت أنسًا فحدّثته فقال: ما تعدّوننا إلّا صبيانًا سمعت رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لبّيك عمرةً وحجّةً معًا»
[فهذه أحاديث بيّنةٌ ويزيدك في ذلك بيانًا:
أنّ بكر بن سهلٍ حدّثنا، قال: حدّثنا عبد اللّه بن يوسف، قال: أخبرنا مالكٌ، عن نافعٍ، عن ابن عمر، عن حفصة، قالت: قلت: يا رسول اللّه، ما بال النّاس قد حلّوا من عمرتهم ولم تحلّ؟ قال: «إنّي لبّدت رأسي وسقت هديي فلا أحلّ حتّى أنحر» وهذا يبيّن أنّه كان قارنًا، لأنّه لو كان متمتّعًا أو مفردًا لم يمتنع من نحر الهدي
فهذا ما في الحجّ من ناسخٍ ومنسوخٍ واحتجاجٍ، ونذكر بعده ما في الخمر
من النّسخ ونذكر قول من قال: إنّ الآية الّتي في سورة البقرة ناسخهٌ لما كان مباحًا من شرب الخمر، وقول من قال إنّها منسوخةٌ ونذكر ما هو بمنزلة الخمر من الشّراب وما يدلّ على ذلك من الأحاديث الصّحاح عن رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم، وما يدلّ من المعقول ومن الاشتقاق واللّغة على أنّ ما أسكر كثيره فقليله حرامٌ وأنّه خمرٌ ونذكر الشّبهة الّتي أدخلها قومٌ وهذا كلّه في الآية الثّامنة عشرة
). [الناسخ والمنسوخ للنحاس: 1/454-630]
قَالَ هِبَةُ اللهِ بنُ سَلامَةَ بنِ نَصْرٍ المُقْرِي (ت: 410 هـ): (الآية السّابعة عشرة قوله تعالى {ولا تحلقوا رؤوسكم حتّى يبلغ الهدي محلّه}نزلت في كعب بن عجرة الأنصاريّ وذلك أنه قال لما نزلنا مع النّبي (صلى الله عليه وسلم) الحديبية مر بي النّبي (صلى الله عليه وسلم) وأنا أطبخ قدرا لي والقمل يتهافت على وجهي فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يا كعب بن عجرة لعلّك يؤذيك هوامرأسك فقلت نعم يا رسول الله فقال ادع بحلاق فاحلق رأسك ونزلت {فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه} وفي الكلام محذوف تقديره فحلق فعليه ما في قوله تعالى {ففديةٌ من صيامٍ أو صدقةٍ أو نسكٍ}). [الناسخ والمنسوخ لابن سلامة: 31-59]
قَالَ مَكِّيُّ بنُ أبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ) : (قوله تعالى:{ولا تحلقوا رؤوسكم حتّى يبلغ الهدي محلّه}:
ثم أباح ذلك لمن كان مريضًا، أو به أذىً من رأسه، وأوجب عليه الفدية.
فقال قوم: هذا ناسخٌ للنّهي عن حلق الرّأس حتى يبلغ الهدي محلّه.
والظّاهر في هذا البيّن أنه ليس فيه نسخٌ، لأنّه متّصلٌ بالأوّل غير منفصل منه. وإنما يكون الناسخ منفصلاً من المنسوخ. فهي أحكامٌ مختلفةٌ في شروطها متّصلٌ بعضها ببعض لا ينسخ بعضها بعضًا.
).[الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه:123- 200]
قَالَ مَكِّيُّ بنُ أبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ) : (قوله تعالى: {وأتمّوا الحجّ والعمرة للّه}: [البقرة: 196]
أمر الله المسلمين بإتمام ما دخلوا فيه وعقدوه على أنفسهم من حجٍ أو عمرةٍ.
ولا دليل في هذا على فرض العمرة إنّما هو أمرٌ بإتمام ما دخلوا فيه من ذلك.
ويبيّن أن العمرة ليست بفرض قراءة الشعبي: "والعمرة لله" - بالرفع - فهذه القراءة لا تأويل فيها لفرض العمرة. وقوله: {وأتموا الحجّ} ولم يقل: حجّوا واعتمروا يدلّ على أن ذلك مرادٌ به غير الفرض.
وإنما هو مثل قوله: {أوفوا بالعقود} [المائدة: 1] فمن عقد برًّا على نفسه وجب عليه إتمامه.
وقراءة ابن مسعود: "والعمرة للبيت لله" وعنه: "والعمرة إلى البيت لله". يدل على أن العمرة ليست بفرض - قرئ بنصب العمرة أو برفعها -.
وكما أن ذكر الحجّ في هذه الآية ليس يوجب فرض الحج، إنما وجب فرض الحجّ بقوله تعالى: {ولله على النّاس حجّ البيت} [آل عمران: 97]. كذلك ذكر العمرة فيها لا يوجب فرضها. ولا آية أخرى توجب فرض العمرة في القرآن فبان أنّ العمرة ليست بفرض. وقد ذكر أهل المعاني والتفسير أنّ هذه الآية ناسخةٌ لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر أصحابه بعد أن أحرموا بالحجّ أن يفسخوه في عمرة.
والآية محكمةٌ، تدلّ على أنّ من دخل في طاعة وعقدها على نفسه أن عليه إتمامها.
وقد أبى من فسخ الحجّ في عمرة أبو بكر وعثمان وعلي -رضي الله عنهم- بحكم ظاهر الآية.
وأجازه ابن عباس لإباحة النبي صلى الله عليه وسلم ذلك.
وذهب أبو عبيد: إلى أنّ فسخ الحجّ في عمرة منسوخٌ بفعل الخلفاء الراشدين، يعني الذين ذكرنا. وعلى منعه أكثر العلماء مالكٌ وغيره.
وقد قيل: إنه إنما أباح النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك لعلّةٍ، وذلك أنهم كانوا لا يرون العمرة في أشهر الحج جائزةً، ويرونه ذنبًا، فأمرهم النبيّ صلى الله عليه وسلم بفسخ الحجّ وتحويله إلى عمرة في أشهر الحجّ، ليعلموا أن العمرة جائزةٌ في أشهر الحجّ. ففعله ذلك كان لعلّةٍ، فبزوال تلك العلة يزول الحكم. وله نظائر في القرآن.
وقيل: إن ذلك مخصوصٌ للنبي صلى الله عليه وسلم وروي عنه أنه سئل عن ذلك فقال: إنه لنا خاصّة.
قال أبو محمد: ومعنى فسخ الحجّ في عمرة: هو أن يهلّ الرّجل بالحجّ ولا هدي معه، فعليه أن يدخل مكة فيطوف ويبقى على إحرامه حتّى يحجّ ويقضي مناسكه من الوقوف بعرفاتٍ والمزدلفة ومن رمي الجمار وغير ذلك، وهو على إحرامه، ويحلق ويطوف طواف الإفاضة، وعليه السّعي بين الصّفا والمروة بعد الطّواف، ويحلّ من حجّته بعد ذلك كلّه، فهذا لازمٌ
له، وبه يتمّ ما عقده من الحجّ.
فإن فسخ حجّه في عمرة على قول ابن عباس فإنما عليه أن يدخل مكة ويطوف ويسعى ويحلق ويحلّ.
فذلك الأول عمل الحج.
وهذا عمل العمرة.
فإذا حلّ من عمرته التي فسخ الحجّ فيها ابتدأ الإهلال بالحجّ من مكة أو من الحلّ إن شاء، وبه يتمّ حجّه على ما ذكرنا.
وإن تمادى في حجّه ولم يفسخه في عمرةٍ، وأراد العمرة، فإنه إذا حلّ من حجّه خرج إلى التنعيم إلى الحلّ، أو إلى الحلّ من أي ناحيةٍ شاء، فأحرم ولبّى ودخل مكة فطاف وسعى وحلق، وحلّ من عمرته.
).[الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه:123- 200]
قَالَ أبو الفَرَجِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَلِيٍّ ابْنُ الجَوْزِيِّ (ت: 597هـ): (ذكر الآية العشرين: قوله تعالى: {وأتمّوا الحجّ والعمرة للّه}.
اختلف المفسّرون في المراد بإتمامها على خمسة أقوال:
(أحدها) : أن يحرم بهما من دويرة أهله، قاله علي وسعيد ابن جبير وطاوس.
والثّاني: الإتيان بما أمر اللّه به فيهما. قاله مجاهدٌ.
والثّالث: إفراد كلّ واحدٍ عن الآخر. قاله الحسن وعطاءٌ.
والرّابع: أن لا يفسخهما بعد الشّروع فيهما، رواه عطاءٌ عنابن عبّاسٍ.
والخامس: أن يخرج قاصدًا لهما لا يقصد شيئًا آخر من تجارة أو غيرها وهذا القول فيه بعدٌ. وقد ادّعى بعض العلماء على قائله أنه يزعم أنّ الآية نسخت بقوله تعالى: {ليس عليكم جناحٌ أن تبتغوا فضلاً من ربّكم}.
والصّحيح في تفسير الآية ما قاله ابن عبّاسٍ، وهو محمولٌ على النّهي عن فسخهما لغير عذر أو قصد صحيح، وليست هذه الآية بداخلةٍ في المنسوخ أصلا.
ذكر الآية الحادية والعشرين: قوله تعالى: {ولا تحلقوا رؤوسكم حتّى يبلغ الهدي محلّه}
ذكر بعض المفسّرين أنّ هذا الكلام اقتضى تحريم حلق الشّعر، سواءٌ وجد به أذًى أو لم يوجد ولم يزل الأمر على ذلك حتّى رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم (كعب ابن عجرة).والقمل يتناثر على وجهه، فقال: (أتجد) شاة فقال.
لا. فنزلت: {فمن كان منكم مريضاً أو به أذىً من رأسه ففديةٌ من صيامٍ أو صدقةٍ أو نسكٍ} والمعنى: فحلقٌ ففديةٌ. فاقتضى هذا الكلام إباحة حلق الشّعر عند الأذى مع الفدية وصار ناسخًا لتحريمه المتقدّم.
قلت: وفي هذا بعد من وجهين:
أحدهما: أنّه يحتاج أن يثبت أنّ نزول قوله: {فمن كان منكم مريضاً} تأخّر عن نزول أوّل الآية ولا يثبت هذا. والظّاهر نزول الآية في مرّةٍ، بدليل قول النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم "أتجد شاةً" والشّاة هي النّسك المذكور في قوله: {أو نسكٍ}.
والثّاني: إنّا لو قدّرنا نزوله متأخّرًا فلا يكون نسخًا، [لأنّه قد بان بذكر العذر أنّ الكلام] الأوّل لمن لا عذر له، فصار التّقدير: ولا تحلقوا رؤسكم إلا أن يكون منكم مريض أو من يؤذيه هوامّه فلا ناسخ ولا منسوخ.
). [نواسخ القرآن:125- 236]
قالَ عَلَمُ الدِّينِ عليُّ بنُ محمَّدٍ السَّخَاوِيُّ (ت:643هـ): (قوله عز وجل: {ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله} الآية [البقرة: 196] قيل: هو منسوخ بقوله عز وجل بعد ذلك: {فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه} الآية [البقرة: 196] قال كعب بن عجرة الأنصاري: (لما نزلنا الحديبية مر بي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أطبخ قدرا لي والقمل يتناثر على رأسي، فقال: يا كعب لعلك يؤذيك هوام رأسك، فقلت: نعم، فقال: احلق رأسك، ونزل: {فمن كان منكم مريضا..} الآية).
وقال قوم: الآية محكمة، ولم يكن قوله عز وجل: {ولا تحلقوا رءوسكم} الآية [البقرة: 196] متناولا للمريض ولمن به أذى من رأسه.
قوله عز وجل: {يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه} الآية [البقرة: 217] قال ابن عباس وقتادة والضحاك وابن المسيب والأوزاعي: (هي منسوخة بآية السيف)، إذ أباحت قتالهم في كل مكان وزمان.
وقال مجاهد وعطاء: هي محكمة، ولا يجوز القتال في الأشهر الحرم، والعلماء على خلاف ذلك.
فإن قيل: فقد قال الله عز وجل: {فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} الآية [التوبة: 5] فهذا يؤيد قول عطاء ومجاهد، وكيف تكون هذه الآية ناسخة لآية البقرة، وإنما أباحت قتل المشركين بعد انسلاخ الأشهر الحرم؟.
فالجواب: أن الأشهر الحرم في براءة ليست هي التي قال الله عز وجل فيها: {منها أربعة حرم} الآية [التوبة: 36]، إنما هي أربعة أشهر أخر، وهي أشهر السياحة، أمر المؤمنون بقتل المشركين بعد انسلاخها حيث وجدوهم، وفي أي زمان لقوهم، وكان أولها بعد يوم النحر من ذلك العام.
وأما الأشهر الحرم التي حرم الله فيها القتال ثم نسخ فهي: محرم، ورجب، وذو القعدة، وذو الحجة بغير خلاف، وإنما الخلاف في أنها من سنة أو من عامين، فأهل المدينة يجعلونها في عامين، يقولون: ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ورجب، وقال أهل العراق: أولها محرم فتكون من عام واحد.
). [جمال القراء: 1/249-271]

روابط ذات صلة:
- أقوال المفسرين


رد مع اقتباس
  #3  
قديم 22 جمادى الآخرة 1434هـ/2-05-2013م, 06:30 AM
أم صفية آل حسن أم صفية آل حسن غير متواجد حالياً
عضو جديد
 
تاريخ التسجيل: Apr 2013
المشاركات: 2,594
افتراضي

قوله تعالى { يَسْـَٔلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ ۖ قُلْ مَآ أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍۢ فَلِلْوَٰلِدَيْنِ وَٱلْأَقْرَبِينَ وَٱلْيَتَٰمَىٰ وَٱلْمَسَٰكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ ۗ وَمَا تَفْعَلُوا۟ مِنْ خَيْرٍۢ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِۦ عَلِيمٌۭ(215)}

قَالَ أَبو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بْنُ حَزْمٍ الأَنْدَلُسِيُّ (ت: 320 هـ): (الآية الخامسة عشرة: قوله تعالى: {يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين...} الآية [215 مدنية / البقرة / 2] منسوخة وناسخها قوله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين...} الآية [60 مدنية / التوبة / 9].) .[الناسخ والمنسوخ لابن حزم: 19-30]
قَالَ هِبَةُ اللهِ بنُ سَلامَةَ بنِ نَصْرٍ المُقْرِي (ت: 410 هـ): (الآية الثّامنة عشرة قوله تعالى {يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السّبيل} الآية
كان هذا قبل أن يفرض الله الزّكاة فلمّا فرضت الزّكاة نسخ الله بها كل صدقة في القرآن فقال الله تعالى إنّما الصّدقات للفقراء والمساكين الآية قال أبو جعفر يزيد بن القعقاع نسخت الزّكاة كل صدقة في القرآن ونسخ شهر رمضان كل صيام ونسخ ذباحة الأضحى كل ذبح فصارت هذه ناسخة لما قبلها
). [الناسخ والمنسوخ لابن سلامة: 31-59]
قَالَ أبو الفَرَجِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَلِيٍّ ابْنُ الجَوْزِيِّ (ت: 597هـ): (ذكر الآية الثّانية والعشرين: قوله تعالى: {يسألونك ماذا ينفقون}.اختلفوا: هل هذه منسوخةٌ أم محكمةٌ؟
روى السّدّيّ عن أشياخه أنّه يوم نزلت هذه لم تكن زكاةً، وإنّما هي نفقة الرّجل على أهله، والصّدقة يتصدّقون بها فنسختها الزّكاة وروى عليّ بن أبي طلحة عن ابن عبّاسٍ رضي اللّه عنهما قال: نسخت هذه بآية الصّدقات في براءةٍ.
وروى أبو صالحٍ عن ابن عبّاسٍ رضي اللّه عنهما قال: نسخ منها الصّدقة على الوالدين وصارت الصّدقة لغيرهم الّذين لا يرثون من الفقراء والمساكين والأقربين وقد قال الحسن البصريّ، والمراد بها التّطوّع على من لا يجوز إعطاؤه الزّكاة، كالوالدين والمولودين وهي غير منسوخةٍ، وقال ابن زيدٍ هي في النّوافل وهم أحق بفضلك.
قلت: من قال بنسخها ادّعى أنّه وجب عليهم أن ينفقوا فسألوا عن وجوه الإنفاق فدلّوا على ذلك وهذا يحتاج إلى نقلٍ، والتّحقيق أنّ الآية عامّةٌ في الفرض والتّطوّع فحكمها ثابتٌ غير منسوخٍ، لأنّ ما يجب من النّفقة على الوالدين والأقربين إذا كانوا فقراء لم ينسخ بالزّكاة، وما يتطوّع به لم ينسخ بالزّكاة وقد قامت الدّلالة على أنّ الزّكاة لا تصرف إلى الوالدين والولد، وهذه الآية بالتّطوّع أشبه، لأنّ ظاهرها أنّهم طلبوا بيان الفضل في إخراج الفضل (فبينت) لهم وجوه الفضل.
). [نواسخ القرآن:125- 236]

روابط ذات صلة:
- أقوال المفسرين


رد مع اقتباس
  #4  
قديم 22 جمادى الآخرة 1434هـ/2-05-2013م, 07:40 AM
أم صفية آل حسن أم صفية آل حسن غير متواجد حالياً
عضو جديد
 
تاريخ التسجيل: Apr 2013
المشاركات: 2,594
افتراضي

قوله تعالى: {فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۗ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَىٰ ۖ قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ ۖ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(220)}

قالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النَّحَّاسُ (ت: 338 هـ): (قال أبو جعفرٍ: ومن هذه الآية في عدد المدنيّ الأوّل {ويسألونك عن اليتامى قل إصلاحٌ لهم خيرٌ وإن تخالطوهم فإخوانكم} [البقرة: 220] فزعم قومٌ أنّها ناسخةٌ لقول اللّه جلّ وعزّ {إنّ الّذين يأكلون أموال اليتامى ظلمًا} [النساء: 10] الآية ورووا هذا عن ابن عبّاسٍ
قال أبو جعفرٍ: وهذا ممّا لا يجوز فيه ناسخٌ ولا منسوخٌ؛ لأنّه خبرٌ ووعيدٌ ونهيٌ عن الظّلم والتّعدّي فمحالٌ نسخه فإن صحّ ذلك عن ابن عبّاسٍ فتأويله من اللّغة أنّ هذه الآية على نسخة تلك الآية فهذا جوابٌ واضحّ منه ما عليه أهل التّأويل
[الناسخ والمنسوخ للنحاس: 1/636]
قال سعيد بن جبيرٍ: " لمّا نزلت {إنّ الّذين يأكلون أموال اليتامى ظلمًا} [النساء: 10] اشتدّت على النّاس وامتنعوا من مخالطة اليتامى حتّى نزلت {ويسألونك عن اليتامى} [البقرة: 220] الآية
فالمعنى على هذا القول أنّه لمّا وقع بقلوبهم أنّه لا ينبغي أن يخالطوا اليتامى في شيءٍ لئلّا يحرجوا بذلك، فنسخ اللّه جلّ وعزّ ما وقع بقلوبهم منه أي أزاله بأن أباح لهم مخالطة اليتامى
وبيّن مجاهدٌ ما هذه المخالطة، فقال:
«في الرّاعي والإدام»، ومعنى هذا أن يكون لليتيم تمرٌ أو ما أشبهه ولوليّه مثله فيخلطه معه فيأكلا جميعًا فتوقّفوا عن هذا مخافة أن يكون الوليّ يأكل أكثر ممّا يأكل اليتيم فأباح اللّه جلّ وعزّ ذلك إذا كان على جهة الإصلاح ولم يقصد فيه الإفساد ودلّ على هذا {واللّه يعلم المفسد من المصلح} [البقرة: 220]
قال مجاهدٌ: " {ولو شاء اللّه لأعنتكم} [البقرة: 220] أي حرّم عليكم مخالطتهم "
قال أبو جعفرٍ: فهذا الظّاهر في اللّغة أن تكون المخالطة في الطّعام لا في الشّركة؛ لأنّ مشاركة اليتيم إن وقع فيها استبدادٌ بشيءٍ فهي خيانةٌ وإن كانت
[الناسخ والمنسوخ للنحاس: 1/637]
الشّركة قد يقال لها مخالطةٌ فليس باسمها المعروف فثبت بهذا أنّه لا ناسخٌ في هذا ولا منسوخٌ إلّا على ما ذكرناه
وقد قال بعض الفقهاء: وما أعرف آيةً في الوعيد هي أشدّ ولا أوكد على المسلمين من قوله جلّ وعزّ {إنّ الّذين يأكلون أموال اليتامى ظلمًا إنّما يأكلون في بطونهم نارًا وسيصلون سعيرًا} [النساء: 10]
والّذين في اللّغة عامٌ فأوجب اللّه سبحانه النّار على العموم لكلّ من فعل هذا
والآية الّتي هي تتمّة العشرين قد أدخلها العلماء في النّاسخ والمنسوخ وإن كان فيها اختلافٌ بين الصّحابة
[الناسخ والمنسوخ للنحاس: 1/638]

روابط ذات صلة:
- أقوال المفسرين


رد مع اقتباس
  #5  
قديم 24 جمادى الآخرة 1434هـ/4-05-2013م, 03:36 PM
أم صفية آل حسن أم صفية آل حسن غير متواجد حالياً
عضو جديد
 
تاريخ التسجيل: Apr 2013
المشاركات: 2,594
افتراضي

قوله تعالى {وَلاَ تَنْكِحُوْا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنْكِحُوْا الْمُشْرِكِيْنَ حَتَّى يُؤْمِنُوْا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَئِكَ يَدْعُوْنَ إِلَى النَّارِ وَاللهُ يَدْعُوْ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُوْنَ.(221)}


قال الوليد بن محمد الموقّري الأموي (ت:182هـ): حدثني محمد بن مسلم بن عبد الله بن شِهَاب الزهري(124هـ) قال:
وقال تعالى: {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمةٌ مؤمنةٌ خيرٌ من مشركةٍ ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبدٌ مؤمنٌ خيرٌ من مشركٍ ولو أعجبكم}. فنسخ منها ما أحل من المشركات من نساء أهل الكتاب من اليهود والنصارى في النكاح. ). [الناسخ والمنسوخ للزهري: 18-22]

قَالَ أَبو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بْنُ حَزْمٍ الأَنْدَلُسِيُّ (ت: 320 هـ): (الآية التاسعة عشرة: قوله تعالى: {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن} [231 / البقرة] وليس في هذه شيء منسوخ إلا بعض حكم المشركات وجميعها محكم وذلك أن المشركات يعم الكتابيات والوثنيات ثم استثنى من جميع المشركات الكتابيات فقط وناسخها قوله تعالى: {والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم...}[5 مدنية / المائدة / 5] يعني بذلك اليهوديات والنصرانيات ثم مع الإباحة عفتهن فإن كن عواهر لم يجز) .[الناسخ والمنسوخ لابن حزم: 19-30]
قالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النَّحَّاسُ (ت: 338 هـ): (قال اللّه جلّ وعزّ {ولا تنكحوا المشركين حتّى يؤمنوا} [البقرة: 221] فيها ثلاثة أقوالٍ
من العلماء من قال هي منسوخةٌ ومنهم من قال هي ناسخة ومنهم من قال هي محكمةٌ لا ناسخةٌ ولا منسوخةٌ
فممّن قال إنّها منسوخةٌ ابن عبّاسٍ
كما حدّثنا بكر بن سهلٍ، قال حدّثنا عبد اللّه بن صالحٍ، عن معاوية بن صالحٍ، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ، {ولا تنكحوا المشركات حتّى يؤمنّ} [البقرة: 221] قال: " ثمّ استثنى نساء أهل الكتاب فقال جلّ ثناؤه: {والمحصنات من الّذين أوتوا الكتاب} [المائدة: 5] حلٌّ لكم {إذا آتيتموهنّ أجورهنّ} [المائدة: 5] يعني مهورهنّ {محصناتٍ غير مسافحاتٍ} [النساء: 25] يقول: عفائف غير زوانٍ "
[الناسخ والمنسوخ للنحاس: 2/4]
قال أبو جعفرٍ: هكذا في الحديث حلٌّ لكم وليس هو في التّلاوة وهكذا قال {محصناتٍ غير مسافحاتٍ} [النساء: 25] وفي التّلاوة «محصنين غير مسافحين» فهذه قراءةٌ على التّفسير وهكذا كلّ قراءةٍ خالفت المصحف المجمع عليه
وممّن قال إنّ الآية منسوخةٌ أيضًا مالك بن أنسٍ وسفيان بن سعيدٍ، وعبد الرّحمن بن عمرٍو، فأمّا من قال إنّها ناسخةٌ فقوله شاذّ
حدّثنا جعفر بن مجاشعٍ، قال سمعت إبراهيم بن إسحاق الحربيّ، يقول «فيه وجهٌ ذهب إليه قومٌ جعلوا الّتي في البقرة هي الناسخة والّتي في المائدة هي المنسوخة يعني فحرّموا نكاح كلّ مشركةٍ كتابيّةٍ أو غير كتابيّةٍ»
[الناسخ والمنسوخ للنحاس: 2/5]
قال أبو جعفرٍ: ومن الحجّة لقائل هذا ممّا صحّ سنده
ما حدّثناه محمّد بن زبّان، قال حدّثنا محمّد بن رمحٍ، قال أخبرنا اللّيث بن سعدٍ، عن نافعٍ، أنّ عبد اللّه بن عمر، " كان إذا سئل عن نكاح الرّجل النّصرانيّة، أو اليهوديّة قال: " حرّم اللّه عزّ وجلّ المشركات على المسلمين ولا أعرف شيئًا من الإشراك أعظم من أن تقول المرأة: ربّها عيسى أو عبدٌ من عباد اللّه جلّ وعزّ "
والقول الثّالث قال به جماعةٌ من العلماء
كما حدّثنا أحمد بن محمّد بن نافعٍ، قال حدّثنا سلمة، قال حدّثنا عبد الرّزّاق، قال أخبرنا معمرٌ، عن قتادة، {ولا تنكحوا المشركات حتّى يؤمنّ} [البقرة: 221] قال «المشركات من غير نساء أهل الكتاب وقد تزوّج حذيفة نصرانيّةً أو يهوديّةً»
قرئ على أحمد بن محمّد بن الحجّاج، عن يحيى بن سليمان، قال حدّثنا وكيعٌ، قال حدّثنا سفيان، عن حمّادٍ، قال: سألت سعيد بن جبيرٍ عن قول اللّه، جلّ وعزّ {ولا تنكحوا المشركات حتّى يؤمنّ} [البقرة: 221] قال: «هم أهل الأوثان»
[الناسخ والمنسوخ للنحاس: 2/6]
قال أبو جعفرٍ: وهذا أحد قولي الشّافعيّ رحمه اللّه أن تكون الآية عامّةً يراد بها الخاصّ فتكون المشركات هاهنا أهل الأوثان والمجوس
فأمّا من قال إنّها ناسخةٌ للّتي في المائدة وزعم أنّه لا يجوز نكاح نساء أهل الكتاب، فقوله خارجٌ عن قول الجماعة الّذين تقوم بهم الحجّة؛ لأنّه قد قال بتحليل نكاح نساء أهل الكتاب من الصّحابة والتّابعين جماعةٌ منهم عثمان وطلحة، وابن عبّاسٍ، وجابرٌ، وحذيفة ومن التّابعين سعيد بن
[الناسخ والمنسوخ للنحاس: 2/7]
المسيّب، وسعيد بن جبيرٍ، والحسن، ومجاهدٌ، وطاووسٌ، وعكرمة، والشّعبيّ، والضّحّاك، وفقهاء الأمصار عليه
وأيضًا فيمتنع أن تكون هذه الآية من سورة البقرة ناسخةٌ للآية الّتي في سورة المائدة لأنّ البقرة من أوّل ما نزل بالمدينة والمائدة من آخر ما نزل وإنّما الآخر ينسخ الأوّل
[الناسخ والمنسوخ للنحاس: 2/8]

وأمّا حديث ابن عمر فلا حجّة فيه؛ لأنّ ابن عمر رحمه اللّه كان رجلًا متوقّفًا فلمّا سمع الآيتين، في واحدةٍ التّحليل وفي الأخرى التّحريم ولم يبلغه النّسخ توقّف ولم يؤخذ عنه ذكرٌ للنّسخ وإنّما تؤوّل عليه وليس يؤخذ النّاسخ والمنسوخ بالتّأويل
وأبين ما في الآية أن تكون منسوخةً على قول من قال ذلك من العلماء وهو أيضًا أحد قولي الشّافعيّ وذلك أنّ الآية إذا كانت عامّةً لم تحمل على الخصوص إلّا بدليلٍ قاطعٍ فإن قال قائلٌ فقد قال قومٌ من العلماء إنّه لا يقال لأهل الكتاب مشركون وإنّما المشرك من عبد وثنًا مع اللّه جلّ وعزّ فأشرك به
[الناسخ والمنسوخ للنحاس: 2/9]
قال أبو جعفرٍ: وممّن يروى عنه هذا القول أبو حنيفة وزعم أنّ قول اللّه تعالى: {إنّما المشركون نجسٌ فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} [التوبة: 28]أنّه يراد به أهل الأوثان وأنّ لليهود والنّصارى أن يقربوا المسجد الحرام [الناسخ والمنسوخ للنحاس: 2/11]
قال أبو جعفرٍ: " وهذا قولٌ خارجٌ عن قول الجماعة من أهل العلم واللّغة وأكثر من هذا أنّ في كتاب اللّه جلّ وعزّ نصًّا تسمّيه اليهود والنّصارى بالمشركين، قال اللّه جلّ وعزّ: {اتّخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون اللّه والمسيح ابن مريم وما أمروا إلّا ليعبدوا إلهًا واحدًا لا إله إلّا هو سبحانه عمّا يشركون}[التوبة: 31]
فهذا نصّ القرآن فمن أشكل عليه أن قيل له اليهود والنّصارى لم يشركوا أجيب عن هذا بجوابين
أحدهما أن يكون هذا اسمًا إسلاميًّا ولهذا نظائر قد بيّنها من يحسن الفقه واللّغة من ذلك مؤمنٌ أصله من آمن إذا صدّق ثمّ صار لا يقال مؤمنٌ إلّا لمن آمن بمحمّدٍ صلّى الله عليه وسلّم ثمّ تبع ذلك العمل ومن الأسماء الإسلاميّة المنافق ومنها على قول بعض العلماء الخمر سمّي ما أسكر كثيره خمرًا على لسان رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم
والجواب الآخر وهو عن أبي إسحاق بن إبراهيم بن السّرّيّ قال: كلّ من كفر بمحمّدٍ صلّى الله عليه وسلّم فهو مشركٌ، قال وهذا من اللّغة؛ لأنّ محمّدًا صلّى الله عليه وسلّم قد جاء من البراهين بما لا يجوز أن يأتي به بشرٌ إلّا من عند اللّه جلّ وعزّ فإذا كفر بمحمّدٍ صلّى الله عليه وسلّم فقد زعم أنّ ما لا يأتي به إلّا اللّه قد جاء به غير اللّه جلّ وعزّ فجعل للّه جلّ وعزّ شريكًا [الناسخ والمنسوخ للنحاس: 2/12]
قال أبو جعفرٍ: وهذا من لطيف العلم وحسنه
فأمّا نكاح إماء أهل الكتاب فحرامٌ عند العلماء إلّا أبا حنيفة وأصحابه، فإنّهم أجازوه واحتجّ لهم محتجٌّ بشيءٍ قاسه قال: لمّا أجمعوا على أنّ قوله جلّ وعزّ: {ولا تنكحوا المشركات} [البقرة: 221] يدخل فيه الأحرار والإماء وجب في القياس أن يكون قوله {والمحصنات من الّذين أوتوا الكتاب} [المائدة: 5] داخلًا فيه الحرائر والإماء لتكون الناسخة مثل المنسوخة
قال أبو جعفرٍ: وهذا الاحتجاج خطأٌ من غير جهةٍ فمن ذلك أنّه لم يجمع على أنّ الآية الّتي في البقرة منسوخةٌ ومن ذلك أنّ القياسات والتّمثيلات لا يؤخذ بها في النّاسخ والمنسوخ، وإنّما يؤخذ النّاسخ والمنسوخ بالتّيقّن والتّوقيف
وأيضًا فقد قال اللّه جلّ وعزّ نصًّا {ومن لم يستطع منكم طولًا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات} [النساء: 25] فكيف يقبل ممّن قال من فتياتكم الكافرات؟
وأمّا نكاح الحربيّات فروي عن ابن عبّاسٍ وإبراهيم النّخعيّ أنّهما منعا من ذلك وغيرهما من العلماء يجيز ذلك، ونصّ الآية يوجب جوازه وهو قول مالكٍ والشّافعيّ إلّا أنّهما كرها ذلك مخافة تنصير الولد أو الفتنة [الناسخ والمنسوخ للنحاس: 2/13]
وأمّا نكاح الإماء المجوسيّات والوثنيّات فالعلماء على تحريمه إلّا ما رواه يحيى بن أيّوب، عن ابن جريجٍ، عن عطاءٍ، وعمرو بن دينارٍ، " أنّهما سئلا عن نكاح الإماء المجوسيّات، فقالا لا بأس بذلك وتأوّلا قول اللّه جلّ وعزّ: {ولا تنكحوا المشركات} [البقرة: 221]
فهذا عندهما على عقد النّكاح لا على الأمة المشتراة، واحتجّا بسبي أوطاسٍ وأنّ الصّحابة نكحوا الإماء منهنّ بملك اليمين
" قال أبو جعفرٍ: وهذا قولٌ شاذٌّ، أما سبي أوطاسٍ فقد يجوز أن يكون الإماء أسلمن فجاز نكاحهنّ [الناسخ والمنسوخ للنحاس: 2/14]
وأمّا الاحتجاج بقوله جلّ وعزّ: {ولا تنكحوا المشركات حتّى يؤمنّ} [البقرة: 221] فغلطٌ لأنّهم حملوا النّكاح على العقد والنّكاح في اللّغة يقع على العقد وعلى الوطء، فلمّا قال جلّ وعزّ: {ولا تنكحوا المشركات} [البقرة: 221] حرّم كلّ نكاحٍ يقع على المشركات من نكاحٍ ووطءٍ، وفي هذا من اللّغة شيءٌ بيّنٌ
حدّثني من أثق به قال: سمعت أحمد بن يحيى يقول: " أصل النّكاح في اللّغة الوطء وإنّما يقع للعقد مجازًا قال: والدّليل على هذا أنّ العرب تقول أنكحت الأرض البرّ إذا أدخلت البرّ في الأرض
قال أبو جعفرٍ: وهذا من حسن اللّغة والاستخراج اللّطيف
ووجب من هذا أن يكون قوله جلّ وعزّ: {فلا تحلّ له من بعد حتّى تنكح زوجًا غيره} [البقرة: 230] حتّى يطأها وبذلك جاءت السّنّة أيضًا [الناسخ والمنسوخ للنحاس: 2/15]
وقد أدخلت الآية الّتي تلي هذه في النّاسخ والمنسوخ وهي الآية الحادية والعشرون [الناسخ والمنسوخ للنحاس: 2/16]
قَالَ هِبَةُ اللهِ بنُ سَلامَةَ بنِ نَصْرٍ المُقْرِي (ت: 410 هـ): (الآية الثّانية والعشرون قوله تعالى {ولا تنكحوا المشركات حتّى يؤمن} هذا عام في جميع أنواع الكفر فنسخ الله تعالى بعض أحكامها من اليهوديات والنصرانيات بالآية الّتي في سورة المائدة وهي قوله تعالى {اليوم أحلّ لكم الطّيّبات وطعام الّذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الّذين أوتوا الكتاب من قبلكم} إلى والطّعام الذّبائح فقط وهو عمومالآية لأن الشّرك يعم الكتابيات والوثنيات لأن المفسّرين أجمعوا على نسخ الآية الّتي في سورة البقرة المذكورة وعلى إحكام الآية الّتي في المائدة غير عبد الله بن عمر فإنّه يقول الآية الّتي في سورة البقرة محكمة والآية الّتي في سورة المائدة منسوخة وما تابعه على هذا القول أحد فإن كانت المرأة الكتابيّة عاهرة لم يجز نكاحها وإن كانت عفيفة جاز). [الناسخ والمنسوخ لابن سلامة: 31-59]
قَالَ مَكِّيُّ بنُ أبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ) : (قوله تعالى: {ولا تنكحوا المشركات حتّى يؤمنّ} الآية:
الظاهر في هذه الآية أنها محكمةٌ مخصّصةٌ مبيّنةٌ بآية المائدة في جواز نكاح الكتابيّات. وقد تقدّم ذكر هذا وقاله قتادة وابن جبير.
وعن ابن عباس: أنّها في المشركات من الكتابيّات وغيرهنّ اللواتي في دار الحرب، لا يحل نكاح كتابيةٍ مقيمةٍ في دار الحرب لأنّها ليست من أهل ذمّة المسلمين، وهو قول أكثر العلماء. فالآية محكمةٌ على هذا القول غير عامّة وغير منسوخةٍ ولا مخصّصةٍ.
وآية المائدة في الكتابيّات من أهل الذمّة ذوات العهد المقيمات مع المسلمين.
فالآية مخصوصةٌ في غير الكتابيّات اللواتي بدار الإسلام، فهي محكمةٌ غير منسوخةٍ وغير مخصّصةٍ.
وقد روي عن مالك أنه قال: هي في غير أهل الكتاب، قال مالكٌ: قال الله جلّ ذكره: {ولا تمسكوا بعصم الكوافر} [الممتحنة: 10]، فهي عنده محكمةٌ لم ينسخ منها شيءٌ، إلا أنّها غير عامة، أريد بها الخصوص في كل مشركةٍ من غير أهل الكتاب، وبيّن تخصيصها آية المائدة في تحليل نكاح الكتابيّات.
وروي عن ابن عمر أنه قال: هذه الآية محكمةٌ، لا يجوز نكاح مشركةٍ كتابيةٍ ولا غيرها. وقيل عنه: إنه إنّما كره ذلك ولم يحرّمه. ولا يصحّ عنه تحريم نكاح الكتابيات ذوات الذّمّة؛ لأنّ نصّ القرآن يدلّ على تحليل الكتابية ذميّةً كانت أو غير ذمّيّةٍ.
وعن مالك: أنه كره نكاح الكتابيّة التي في دار الحرب، ولم يحرّمه.
وعلى تحريمه جماعةٌ من العلماء، جعلوا آية المائدة في الكتابيّات ذوات الذمّة خاصةً.
وهي عامّة في كلّ كتابيةٍ - عند مالكٍ وغيره، وعليه أكثر الصّحابة والعلماء؛ لقوله: {والمحصنات من الّذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهنّ أجورهنّ} [المائدة: 5] فعمّ.
فآية المائدة محكمةٌ غير منسوخةٍ، لكنّها مخصّصةٌ ومبيّنةٌ لآية البقرة.
وقد روي عن ابن عباسٍ أنه قال: آية البقرة منسوخةٌ بآية المائدة. وهو أيضًا مرويٌ عن مالك، وسفيان بن سعيد وعبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي.
قال أبو محمد: وهذا إنما يجوز على أن تكون آية البقرة في الكتابيات خاصة ثم نسختها آية المائدة، ويكون تحريم نكاح المشركات من غير أهل الكتاب بالسنّة.

وحمل آية البقرة على العموم في كل المشركات ثم خصّصتها وبيّنتها آية المائدة أولى وأحسن؛ ليكون تحريم نكاح المشركات من غير أهل الكتاب بنصّ القرآن.
وعن ابن عباس أيضًا أنه قال: استثنى الله منها نساء أهل الكتاب فأحلّهنّ بآية المائدة، وهذا معنى مفهومٌ من قوله، وإن كان بغير لفظ الاستثناء، فهو تخصيصٌ وبيان، كما أن الاستثناء بيانٌ أيضًا.
وقد قال الحسن وعكرمة في آية البقرة: نسخ الله منها نساء أهل الكتاب فأحلّ نكاحهنّ. وقد ذكرنا هذه الآية فيما تقدّم.
).[الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه:123- 200]
قَالَ أبو الفَرَجِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَلِيٍّ ابْنُ الجَوْزِيِّ (ت: 597هـ): (ذكر الآية السّابعة والعشرين: قوله تعالى: {ولا تنكحوا المشركات حتّى يؤمنّ}.
اختلف المفسّرون في المراد بالمشركات هاهنا على قولين:
أحدهما: أنّهنّ الوثنيّات.
أخبرنا أبو بكر بن حبيبٍ العامريّ قال: أبنا عليّ بن الفضل، قال: أبنا محمّد بن عبد الصّمد، قال: أبنا عبد اللّه بن
أحمد، قال: أبنا إبراهيم بن خريم، قال: بنا عبد الحميد، قال: بنا قبيصة عن سفيان عن حماد، قال: سألت إبراهيم عن تزويج اليهوديّة والنّصرانيّة، قال: لا بأس به فقلت: أليس اللّه تعالى يقول: {ولا تنكحوا المشركات حتّى يؤمنّ} ؟ قال: إنّما ذلك المجوسيّات وأهل الأوثان.
قال عبد الحميد: حدّثنا يونس عن سفيان عن قتادة {ولا تنكحوا المشركات حتّى يؤمنّ} قال: المشركات العرب اللاتي ليس لهن كتاب يقرأنه قال سعيد بن جبيرٍ: هنّ المجوسيّات وعابدات الأوثان.
والثّاني: أنّه عامٌّ في الكتابيّات وغيرهنّ من الكافرات، فالكلّ مشركاتٌ، وافترق أرباب هذا القول على قولين:
[أحدهما] (أنّ هذا القدر من الآية نسخ بقوله تعالى: {والمحصنات من الّذين أوتوا الكتاب من قبلكم}.
فأخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: أبنا عمر بن عبيد اللّه البقّال، قال: أبنا ابن بشران، قال: أبنا إسحق الكاذي، قال: بنا عبد اللّه بن أحمد، قال: حدّثني أبي، قال: أبنا إبراهيم بن إسحق الطالقاني، قال بنا ابن مباركٍ عن يونس عن الزّهريّ {ولا تنكحوا المشركات حتّى يؤمنّ} ثمّ أحلّ نكاح المحصنات من أهل الكتاب فلم ينسخ من هذه الآية غير ذلك فنكاح كلّ مشركٍ سوى نساء أهل الكتاب حرامٌ.
والثّاني: أنّ قوله: {ولا تنكحوا المشركات} لفظٌ عامٌّ خصّ منه الكتابيّات بآية المائدة وهذا تخصيصٌ لا نسخٌ. وعلى هذا الفقهاء وهو الصّحيح.
وقد زعم قومٌ أنّ أهل الكتاب ليسوا مشركين، وهذا فاسد، لأنهم قالوا عزير بن الله) والمسيح بن الله فهم بذلك مشركون.
). [نواسخ القرآن:125- 236]
قالَ أبو الفَرَجِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَلِيٍّ ابْنِ الْجَوْزِيِّ (ت:597هـ): (التاسعة عشرة: {ولا تنكحوا المشركات حتّى يؤمنّ} هذا اللفظ عام خص منه أهل الكتاب والتخصيص ليس بنسخ وقد غلط من سماه نسخا.). [المصَفَّى بأكُفِّ أهلِ الرسوخ: 14-21] .
(قالَ عَلَمُ الدِّينِ عليُّ بنُ محمَّدٍ السَّخَاوِيُّ (ت:643هـ):(قوله عز وجل: {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن} الآية [البقرة: 221] قيل: سبب نزولها أن مرثد بن أبي مرثد بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ليخرج ناسا من المسلمين، فقالت له عناق، وهي امرأة كان يخلو بها في الجاهلية: هل لك في الخلوة، فقال: حال بيننا الإسلام.
قالت له: فتزوج بي، فقال: أرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستأمره، فنزلت هذه الآية، فالآية على هذا محكمة؛ لأن نكاح الكفار غير أهل الكتاب محرم، وقيل: هي محكمة محرمة لنكاح المشركات والكتابيات اللواتي في دار الحرب، ويروى ذلك عن ابن عباس.
وقاله قتادة وابن جبير وأكثر العلماء، وعن ابن عمر أنها محكمة عامة في كل مشركة كتابية، حربية وغير حربية.
وقيل: إنه إنما كره ذلك ولم يحرمه؛ لأن آية المائدة أباحت نكاح الكتابيات كلهن الحربيات والذميات، وقيل: هي عامة في الكتابيات كلهن، وهي منسوخة بآية المائدة، وكره بعض العلماء نكاح الحربيات ولم يحرمه، وروي مثل ذلك عن مالك، وحرمه جماعة منهم، وخصوا آية المائدة بالذميات.
وآية المائدة عن أكثر العلماء عامة في كل كتابية، وعلى ذلك أكثر الصحابة والعلماء.
). [جمال القراء: 1/249-271]

روابط ذات صلة:
- أقوال المفسرين


رد مع اقتباس
  #6  
قديم 22 جمادى الآخرة 1434هـ/2-05-2013م, 06:30 AM
أم صفية آل حسن أم صفية آل حسن غير متواجد حالياً
عضو جديد
 
تاريخ التسجيل: Apr 2013
المشاركات: 2,594
افتراضي

قوله تعالى:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْ‌هٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تَكْرَ‌هُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ‌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ‌ لَّكُمْ ۗ وَاللَّـهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ(216)}

قالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النَّحَّاسُ (ت: 338 هـ): (باب ذكر الآية الخامسة عشرةقال جلّ وعزّ: {كتب عليكم القتال وهو كرهٌ لكم} [البقرة: 216] فقال قومٌ: هي ناسخةٌ لحظر القتال عليهم ولما أمروا به من الصفح والعفو بمكّة
وقال قومٌ: هي منسوخةٌ وكذا قالوا في قوله جلّ وعزّ {انفروا خفافًا وثقالًا} [التوبة: 41] والنّاسخة {وما كان المؤمنون لينفروا كافّةً فلولا نفر من كلّ فرقةٍ منهم طائفةٌ} [التوبة: 122]
وقال قومٌ: هي على النّدب لا على الوجوب، وقال قومٌ: هي واجبةٌ والجهاد فرضٌ
وقال عطاءٌ: هي فرضٌ إلّا أنّها على غيرنا يعني أنّ الّذي خوطب بها الصّحابة
قال أبو جعفرٍ: فهذه خمسة أقوالٍ، فأمّا القول الأوّل وهو أنّها ناسخةٌ فبيّنٌ صحيحٌ
وأمّا قول من قال: هي منسوخةٌ فلا يصحّ؛ لأنّه ليس في قوله جلّ وعزّ {وما كان المؤمنون لينفروا كافّةً} [التوبة: 122] نسخٌ لفرض القتال
وأمّا قول من قال: هي على النّدب فغير صحيحٍ؛ لأنّ الأمر إذا وقع بشيءٍ لم يحمل على غير الواجب إلّا بتوقيفٍ من الرّسول صلّى الله عليه وسلّم أو بدليلٍ قاطعٍ
وأمّا قول عطاءٍ: إنّها فرضٌ ولكنّه فرضٌ على الصّحابة فقولٌ مرغوبٌ عنه وقد ردّه العلماء حتّى قال الشّافعيّ رحمه اللّه في إلزامه: من قال:
{وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصّلاة} [النساء: 102] إنّ هذا للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم خاصّةً ولا تصلّى صلاة الخوف بعده فعارضه بقوله جلّ وعزّ {خذ من أموالهم صدقةً تطهّرهم وتزكّيهم بها} [التوبة: 103]
فقول عطاءٍ أسهل ردًّا من قول من قال: هي على النّدب؛ لأنّ الّذي قال: هي على النّدب قال: هي مثل قوله جلّ وعزّ {يا أيّها الّذين آمنوا كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت} الآية
قال أبو جعفرٍ: وهذا ليس على النّدب وقد بيّنّاه فيما تقدّم، فأمّا قول من قال: إنّ الجهاد فرضٌ بالآية فقوله صحيحٌ وهو قول حذيفة، وعبد اللّه بن عمرٍو وقول الفقهاء الّذين تدور عليهم الفتيا إلّا أنّه فرضٌ يحمله بعض النّاس عن بعضٍ فإن احتيج إلى الجماعة نفروا فرضًا واجبًا؛ لأنّ نظير {كتب عليكم القتال} [البقرة: 216] {كتب عليكم الصّيام} [البقرة: 183]
قال حذيفة: الإسلام ثمانية أسهمٍ: الإسلام سهمٌ والصّلاة سهمٌ
والزّكاة سهمٌ والصّيام والحجّ سهمٌ والجهاد سهمٌ والأمر بالمعروف سهمٌ والنّهي عن المنكر سهمٌ
ونظير الجهاد في أنّه فرضٌ يقوم به بعض المسلمين عن بعضٍ الصّلاة على المسلمين إذا ماتوا ومواراتهم قال أبو عبيدٍ: وعيادة المريض وردّ السّلام وتشميت العاطس
وأمّا قول من قال: الجهاد نافلةٌ، فيحتجّ بأشياء وهو قول ابن عمر، وابن شبرمة، وسفيان الثّوريّ
ومن حجّتهم قول النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم رواه ابن عمر:
(( بني الإسلام على خمسٍ: شهادة أن لا إله إلّا اللّه، وأنّ محمّدًا عبده ورسوله، والصّلاة، والصّيام، والزّكاة، وحجّ البيت ))
قال أبو جعفرٍ: وهذا لا حجّة فيه؛ لأنّه قد روي عن ابن عمر أنّه قال: " استنبطت هذا ولم يرفعه ولو كان رفعه صحيحًا لما كان فيه أيضًا حجّةٌ؛ لأنّه يجوز أن يترك ذكر الجهاد هاهنا لأنّه مذكورٌ في القرآن، أو لأنّ بعض النّاس يحمله عن بعضٍ فقد صحّ فرض الجهاد بنصّ القرآن وبسنّة رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم كما روى مالكٌ، عن نافعٍ، عن ابن عمر، عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: ((الخيل معقودٌ في نواصيها الخير إلى يوم القيامة)) فسّره العلماء أنّه في الغزو وفي ذلك أحاديث كثيرةٌ كرهنا أن نطوّل الكتاب بها لأنّ فيما تقدّم كفايةً
والصّحيح في الآية السّادسة عشرة أنّها منسوخةٌ
). [الناسخ والمنسوخ للنحاس: 1/454-630]
قَالَ مَكِّيُّ بنُ أبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ) : (قوله تعالى: {كتب عليكم القتال وهو كرهٌ لكم}[البقرة: 216] الآية:
أكثر العلماء على أنّ هذه الآية ناسخةٌ لكلّ رخصةٍ في القرآن في ترك القتال. إلاّ أنه فرضٌ يحمله بعض الناس عن بعض. وإن احتيج إلى الجماعة كان فرضًا عليهم الخروج. ومثله الصّلاة على الجنائز. وردّ السلام.
وقد قيل: هي منسوخةٌ بقوله - عزّ وجلّ -: {وما كان المؤمنون لينفروا كافةً} [التوبة: 122].
وقيل: هي على الندب.
قال أبو محمد: والأمر لا يحمل على النّدب إلا بقرينةٍ ودليل.
).[الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه:123- 200]
قالَ أبو الفَرَجِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَلِيٍّ ابْنِ الْجَوْزِيِّ (ت:597هـ): (ذكر الآية الثّالثة والعشرين: قوله تعالى: {كتب عليكم القتال}.
اختلفوا في هذه الآية هل هي منسوخة أو محكمة؟
فقال قومٌ: هي منسوخةٌ لأنّها تقتضي وجوب القتال على الكلّ؛ لأنّ الكلّ خوطبوا بها، وكتب بمعنى فرض.
قال ابن جريجٍ سألت عطاء، أواجبٌ الغزو على النّاس من أجل هذه الآية؟ فقال: لا، إنّما كتب على أولئك حينئذٍ.
وقال ابن أبي نجيحٍ سألت مجاهدًا (هل الغزو واجبٌ على النّاس؟) فقال: لا. إنّما كتب عليهم يومئذٍ.
وقد اختلف أرباب هذا القول في ناسخها على قولين:
أحدهما: أنّه قوله تعالى: {لا يكلّف الله نفساً إلاّ وسعها} قاله عكرمة.
والثاني: قوله: {فلولا نفر من كلّ فرقةٍ منهم طائفةٌ} وقد زعم بعضهم أنّها ناسخةٌ من وجهٍ، ومنسوخةٌ من وجهٍ، وذلك أنّ الجهاد كان على ثلاث طبقاتٍ:
الأولى: المنع من القتال، وذلك مفهومٌ من قوله تعالى: {ألم تر إلى الّذين قيل لهم كفّوا أيديكم} فنسخت بهذه الآية ووجب بها التّعيّن على الكلّ، وساعدها قوله تعالى: {انفروا خفافاً وثقالاً} ثمّ استقرّ الأمر على أنّه إذا قام بالجهاد قومٌ سقط على الباقين بقوله تعالى: {فلولا نفر من كلّ فرقةٍ منهم طائفةٌ}.
والصّحيح أنّ قوله: {كتب عليكم القتال} محكمٌ وأنّ فرض الجهاد لازمٌ للكلّ، إلا أنّه من فروض الكفايات، إذا قام به قومٌ سقط عن الباقين فلا وجه للنسخ).
). [نواسخ القرآن:125- 236]

روابط ذات صلة:
- أقوال المفسرين


رد مع اقتباس
  #7  
قديم 22 جمادى الآخرة 1434هـ/2-05-2013م, 07:10 AM
أم صفية آل حسن أم صفية آل حسن غير متواجد حالياً
عضو جديد
 
تاريخ التسجيل: Apr 2013
المشاركات: 2,594
افتراضي

قوله تعالى {يَسْـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ قِتَالٍۢ فِيهِ ۖ قُلْ قِتَالٌۭ فِيهِ كَبِيرٌۭ ۖ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَكُفْرٌۢ بِهِۦ وَٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِۦ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ ٱللَّهِ ۚ وَٱلْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ ٱلْقَتْلِ ۗ وَلَا يَزَالُونَ يُقَٰتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ ٱسْتَطَٰعُوا۟ ۚ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِۦ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌۭ فَأُو۟لَٰٓئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَٰلُهُمْ فِى ٱلدُّنْيَا وَٱلْءَاخِرَةِ ۖ وَأُو۟لَٰٓئِكَ أَصْحَٰبُ ٱلنَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ(217)}
قَالَ أَبو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بْنُ حَزْمٍ الأَنْدَلُسِيُّ (ت: 320 هـ): ( الآية السادسة عشرة: قوله تعالى: {يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه...} الآية [217 / البقرة] منسوخة وناسخها قوله تعالى: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم...} الآية [5 مدنية / التوبة / 9].) .[الناسخ والمنسوخ لابن حزم: 19-30]
قالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النَّحَّاسُ (ت: 338 هـ): (باب ذكر الآية السّادسة عشرةقال جلّ وعزّ: {يسألونك عن الشّهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبيرٌ} [البقرة: 217] الآية
العلماء على أنّ هذه الآية منسوخةٌ وأنّ قتال المشركين في الأشهر الحرم مباحٌ غير عطاءٍ فإنّه قال: «الآية محكمةٌ ولا يجوز القتال في الأشهر الحرم»
ويحتجّ له بما حدّثناه إبراهيم بن شريكٍ، قال: حدّثنا أحمد يعني ابن عبد اللّه بن يونس، قال: حدّثنا ليثٌ، عن أبي الزّبير، عن جابرٍ، قال: «كان رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم لا يقاتل في الشّهر الحرام إلّا أن يغزى أو يغزو فإذا حضر ذلك أقام حتّى ينسلخ»
قال أبو جعفرٍ: وهذا الحديث يجوز أن يكون قبل نسخ الآية
وابن عبّاسٍ، وسعيد بن المسيّب، وسليمان بن يسارٍ، وقتادة، والأوزاعيّ على أنّ الآية منسوخةٌ فمن ذلك:
ما حدّثناه عليل بن أحمد، قال: حدّثنا محمّد بن هشامٍ، قال: حدّثنا عاصم بن سليمان، قال: حدّثنا جويبرٌ، عن الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ، قال: وقوله {يسألونك عن الشّهر الحرام، قتالٍ فيه} [البقرة: 217] أي في الشّهر الحرام {قل قتالٌ فيه كبيرٌ} [البقرة: 217] " أي عظيمٌ، فكان القتال فيه محظورًا حتّى نسخته آية السّيف في براءة {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} [التوبة: 5] فأبيحوا القتال في الأشهر الحرم وفي غيرها "
حدّثنا جعفر بن مجاشعٍ، قال: حدّثنا إبراهيم بن إسحاق، قال: حدّثنا عبيد اللّه،
قال: حدّثنا يزيد، قال: أخبرنا سعيدٌ، عن قتادة، في قوله جلّ وعزّ {يسألونك عن الشّهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبيرٌ} [البقرة: 217] " فكان كذلك حتّى نسخه هاتان الآيتان في براءة {فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} [التوبة: 5] ثمّ قال جلّ وعزّ {وقاتلوا المشركين كافّةً كما يقاتلونكم كافّةً} [التوبة: 36] والأشهر الحرم عهدٌ كان بين رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم وبين مشركي قريشٍ، انسلاخ أربعة أشهرٍ بعد يوم النّحر لمن كان له عهدٌ ومن لم يكن له عهدٌ فإلى انسلاخ المحرّم فأمر اللّه جلّ وعزّ نبيّه صلّى الله عليه وسلّم إذا انسلخت الأشهر الأربعة أن يقاتل المشركين في الحرم وغيره حتّى يشهدوا أن لا إله إلّا اللّه وأنّ محمّدًا رسول اللّه "
قال أبو جعفرٍ: هذه الأشهر الّتي ذكرها قتادة وقال: «هي الحرم هي أشهر السّياحة فسمّاها حرمًا؛ لأنّه حظر القتال فيها»
فأمّا الأشهر الحرم فهي أربعةٌ والعلماء يختلفون في اللّفظ بها فمن أهل المدينة من يقول: أوّلها ذو القعدة، وذو الحجّة، والمحرّم، ورجبٌ، ومنهم من يبدأ برجبٍ
وأهل الكوفة يقولون: أوّلها المحرّم، ورجبٌ، وذو القعدة، وذو الحجّة،
وينكرون ما قاله المدنيّون وقالوا: قولنا أولى لتكون من سنةٍ واحدةٍ
ومن قال من المدنيّين: أوّلها رجبٌ احتجّ بأنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قدم المدينة في شهر ربيعٍ الأوّل فوجب أن يكون أوّلها رجبٌ على هذا
قال أبو جعفرٍ: والأمر في هذا كلّه سهلٌ؛ لأنّ الواو لا تدلّ على أنّ الثّاني بعد الأوّل عند أحدٍ من النّحويّين علمته
فإذا كان الأمر على هذا فالأولى أن يؤتى بالأشهر الحرم على ما لفظ به رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم وأدّي عنه بالأسانيد الصّحاح وهو قول المدنيّين الأوّل
روى أبو بكرة، وغيره، أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم خطب فقال: «إنّ الزّمان قد استدار كهيئته يوم خلق اللّه السّموات والأرض فالسّنة اثنا عشر شهرًا منها أربعةٌ حرمٌ ذو القعدة وذو الحجّة والمحرّم ورجب مضرٍ الّذي بين جمادى وشعبان»
قال أبو جعفرٍ: وقد قامت الحجّة بأنّ قوله جلّ وعزّ {يسألونك عن الشّهر الحرام قتالٍ فيه} [البقرة: 217] منسوخٌ بما ذكرناه من نصّ القرآن وقول العلماء وأيضًا فإنّ النّقل يبيّن ذلك؛ لأنّه نقل إلينا أنّ هذه الآية نزلت في جمادى الآخرة أو في رجبٍ في السّنة الثّانية من هجرة رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة وقد قاتل رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم هوازن بحنينٍ وثقيفًا بالطّائف في شوّالٍ وذي القعدة وذو القعدة من الأشهر الحرم وذلك في سنة ثمانٍ من الهجرة
قال أبو جعفرٍ: فهذا ما في القتال والجهاد من النّاسخ والمنسوخ في هذه السّورة مجموعًا بعضه إلى بعضٍ ثمّ نرجع إلى ما فيها من ذكر الحجّ في الآية السّابعة عشرة
). [الناسخ والمنسوخ للنحاس: 1/454-630]
قَالَ هِبَةُ اللهِ بنُ سَلامَةَ بنِ نَصْرٍ المُقْرِي (ت: 410 هـ): (الآية التّاسعة عشرة قوله تعالى {يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه} وذلك أنهم كانوا يمتنعون عن القتال في الجاهليّة في الأشهر الحرم حتّى خرج عبد اللهابن جحش وأمره النّبي (صلى الله عليه وسلم) أن يخرج إلى بطن نخله يلقي بها عمرو الحضرميّ فقاتله فقتله فعير المشركون المسلمين بقتل هذا الرجل لعمرو بن الحضرميّ وكان قد قتل في آخر يوم من جمادى الآخرة وكان ذلك في ابتداء رجب فأنزل الله تعالى هذه الآية يعظم الله شأن الشّهر الحرام والقتل فيه ثمّ صارت منسوخه بقوله {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} يعني في الحل والحرام). [الناسخ والمنسوخ لابن سلامة: 31-59]
قَالَ مَكِّيُّ بنُ أبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ) : (قوله تعالى: {يسألونك عن الشّهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبير}
أكثر العلماء أنّ هذه الآية منسوخةٌ؛ لأنّ الله عظّم القتال في الشّهر الحرام. ثم نسخ ذلك في براءة بقوله: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} [التوبة: 5] وبقوله: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر} [التوبة: 29]. فأباح قتلهم وقتالهم في كلّ موضعٍ، وفي كلّ وقتٍ من شهرٍ حرامٍ وغيره، وهو قول ابن عبّاس، وقتادة، والضّحّاك، والأوزاعي، وابن المسيّب. وقال عطاءٌ ومجاهدٌ: الآية محكمةٌ، ولا يجوز القتال في الأشهر الحرم. والجماعة على خلاف ذلك.
والأشهر الحرم التي كان الله قد حرّم فيها القتال ثمّ نسخه لم يختلف فيه أعيانها، وهي: المحرّم، ورجبٌ، وذو القعدة وذو الحجّة. واختلف في ترتيبها:
فقال قوم من أهل المدينة: هي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب. يجعلونها من سنتين.
وقال بعض المدنيين: أوّلها رجب، وهي من سنتين؛ لأن النبيّ عليه السلام قدم المدينة في ربيع الآخر وقد قيل في ربيع الأول وأول شهرٍ كان بعد قدومه من الحرم رجب.
وقال الكوفيون: هي من سنة واحدة، وأولها المحرّم، وهي المذكورة في قوله تعالى: {منها أربعةٌ حرم}. [التوبة: 36].
وأمّا الأشهر الحرم المذكورة في أول سورة براءة في قوله: {فإذا انسلخ الأشهر الحرم} [التوبة: 5] فليست الحرم التي كان قد حرّم فيها القتال المذكور في سورة البقرة، ولا هي المذكورة في قوله تعالى: {منها أربعةٌ حرم} [التوبة: 36].
إنما هي أربعة أشهرٍ بعد يوم النّحر من ذلك العام، وهو عهدٌ كان بين
النبي صلى الله عليه وسلم وبين قريش، ويقال لها: أشهر السّياحة، أمر الله المؤمنين أن يقتلوا المشركين حيث وجدوهم بعد انقضاء أربعة أشهرٍ من يوم النّحر من ذلك العام، وهي آخر العهد الذي انعقد بين النبيّ صلى الله عليه وسلم وبين قريش.
وأشهر الحجّ: شوّال وذو القعدة وعشرٌ من ذي الحجّة، هذا قول أبي حنيفة -رضي الله عنه-.
وقال الشافعي: تسعٌ من ذي الحجة.
وعن مالك: وذو الحجّة كلّه.
).[الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه:123- 200]
قَالَ أبو الفَرَجِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَلِيٍّ ابْنُ الجَوْزِيِّ (ت: 597هـ): (ذكر الآية الرّابعة والعشرين: قوله تعالى: {يسألونك عن الشّهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبيرٌ}
سبب سؤالهم عن هذا، أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بعث سريّةً فقتلوا عمرو ابن الحضرمي في أوّل ليلةٍ من رجبٍ فعيّرهم المشركون بذلك فنزلت هذه الآية وهي تقتضي تحريم القتال في الشّهر الحرام، لقوله: {قل قتالٌ فيه كبيرٌ} قال ابن مسعودٍ وابن عبّاسٍ رضي اللّه عنهما لا يحلّ.
وفي رواية أبي صالحٍ عن ابن عبّاسٍ رضي اللّه عنهما عظّم العقوبة وهذا إقرارٌ لهم على ما كانوا عليه في الجاهليّة فإنّهم كانوا يحرّمون القتال في الأشهر الحرم.
أخبرنا أبو الحسن الأنصاريّ، قال: أبنا عبد اللّه بن عليٍّ الألوسي،
قال: أخبرني عبد الملك بن عمر الرزاز، قال: أبنا بن شاهين، قال: بنا يحيى بن محمد بن صاعد، قال: بنا محمّد بن توبة العنبريّ، قال: أبنا أزهر بن سعدٍ، قال: بنا ابن عون، قال: قال: أبو رجاءٍ العطارديّ: كان إذا دخل شهر رجبٍ قالوا: قد جاء منصل الأسنّة فيعمد أحدهم إلى سنان رمحه فيخلعه ويدفعه إلى النّساء، فيقول: أشدن هذا في عكومكنّ فلو مرّ أحدنا على قاتل أبيه لم يوقظه.
قلت: واختلف العلماء هل هذا التّحريم باقٍ أم نسخ؟
وأخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: أبنا عمر بن عبيد اللّه البقّال، قال: أبنا ابن بشران، قالت بنا الكاذي قال: بنا عبد اللّه بن أحمد، قال: حدثني أبي قال (بنا) حجّاجٌ عن ابن جريجٍ، قال: قلت لعطاءٍ: {يسألونك عن الشّهر الحرام قتالٍ فيه} ما لهم إذ ذاك لا يحل لهم أن يغزو أهل الشّرك في الشّهر الحرام ثمّ غزوهم فيه بعد فحلف لي باللّه، ما يحلّ للنّاس الآن أن يغزو في الحرم ولا في الشّهر الحرام إلا أن يقاتلوا فيه (أو يغزو) وما نسخت.
وروى (عبد خيرٍ) عن عليٍّ عليه السّلام في قوله: {يسألونك عن الشّهر الحرام قتالٍ فيه} قال: نسختها {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم}.
وقال سعيد بن المسيّب، وسليمان بن يسارٍ وسائر علماء الأمصار إنّ القتال في الشّهر الحرام جائزٌ فإدن هذه الآية منسوخةٌ بقوله: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} وقوله: {قاتلوا الّذين لا يؤمنون باللّه ولا باليوم الآخر}.
أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: أبنا أبو الفضل البقّال قال: أبنا ابن بشران قال: أبنا إسحاق الكاذي، قال: بنا عبد اللّه بن أحمد، قال: حدثني أبي قال: بنا عبد الرازق عن معمرٍ قال: قال الزّهريّ: كان النّبيّ صلّى اللّه
عليه وسلّم فيما بلغّنا يحرّم القتال في الشّهر الحرام ثمّ أحلّ له بعد.
ذكر الآية الخامسة والعشرين: قوله تعالى: {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثمٌ كبيرٌ ومنافع للنّاس}.
اختلف العلماء في هذه الآية: فقال قومٌ: إنّها تضمّنت ذمّ الخمر (لا تحريمها) وهو مذهب ابن عبّاسٍ وسعيد بن جبيرٍ، ومجاهدٍ، وقتادة.
وقال آخرون: بل تضمّنت تحريمها، وهو مذهب الحسن وعطاءٍ.
فأمّا قوله تعالى: {وإثمهما أكبر من نفعهما} فيتجاذبه أرباب القولين، فأمّا أصحاب القول الأوّل فإنّهم قالوا إثمهما بعد التّحريم أكبر من نفعهما قبله.
وقال أصحاب القول الثّاني: إثمهما قبل التّحريم أكبر من نفعهما حينئذٍ أيضًا لأنّ الإثم الحادث عن شربها من ترك الصّلاة والإفساد الواقع عن السّكر لا يوازي منفعتها الحاصلة من لذّةٍ أو بيعٍ ولمّا كان الأمر محتملاً للتأويل، قال عمربن الخطّاب بعد نزول هذه الآية: اللّهمّ بيّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا، وعلى القول الأوّل يتوجه النسخ بقوله تعالى فا[جتبوه].
). [نواسخ القرآن:125- 236]
قَالَ أبو الفَرَجِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَلِيٍّ ابْنُ الجَوْزِيِّ (ت: 597هـ): (السادسة عشرة: {يسألونك عن الشّهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبيرٌ} نسخت الآية بآية السيف.). [المصَفَّى بأكُفِّ أهلِ الرسوخ
قالَ عَلَمُ الدِّينِ عليُّ بنُ محمَّدٍ السَّخَاوِيُّ (ت:643هـ): (قوله عز وجل: {يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه} الآية [البقرة: 217] قال ابن عباس وقتادة والضحاك وابن المسيب والأوزاعي: (هي منسوخة بآية السيف)، إذ أباحت قتالهم في كل مكان وزمان.
وقال مجاهد وعطاء: هي محكمة، ولا يجوز القتال في الأشهر الحرم، والعلماء على خلاف ذلك.
فإن قيل: فقد قال الله عز وجل: {فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} الآية [التوبة: 5] فهذا يؤيد قول عطاء ومجاهد، وكيف تكون هذه الآية ناسخة لآية البقرة، وإنما أباحت قتل المشركين بعد انسلاخ الأشهر الحرم؟.
فالجواب: أن الأشهر الحرم في براءة ليست هي التي قال الله عز وجل فيها: {منها أربعة حرم} الآية [التوبة: 36]، إنما هي أربعة أشهر أخر، وهي أشهر السياحة، أمر المؤمنون بقتل المشركين بعد انسلاخها حيث وجدوهم، وفي أي زمان لقوهم، وكان أولها بعد يوم النحر من ذلك العام.
وأما الأشهر الحرم التي حرم الله فيها القتال ثم نسخ فهي: محرم، ورجب، وذو القعدة، وذو الحجة بغير خلاف، وإنما الخلاف في أنها من سنة أو من عامين، فأهل المدينة يجعلونها في عامين، يقولون: ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ورجب، وقال أهل العراق: أولها محرم فتكون من عام واحد.
). [جمال القراء: 1/249-271]

روابط ذات صلة:
- أقوال المفسرين


رد مع اقتباس
  #8  
قديم 22 جمادى الآخرة 1434هـ/2-05-2013م, 07:40 AM
أم صفية آل حسن أم صفية آل حسن غير متواجد حالياً
عضو جديد
 
تاريخ التسجيل: Apr 2013
المشاركات: 2,594
افتراضي

قوله تعالى { يَسْـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ ۖ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌۭ كَبِيرٌۭ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ۗ وَيَسْـَٔلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ ٱلْعَفْوَ ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلْءَايَٰتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ(219)}

قال محمد بن كثيرٍ العَبْدي (ت:223هـ) عن همّام بن يحيى البصري قال: (وعن قوله عز وجل: {يسألونك عن الخمر والميسر} القمار كله قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وذمهما ولم يحرمهما وهي لهم حلال يومئذ ثم أنزل الله عز وجل بعد ذلك هذه الآية في شأن الخمر وهي أشد منها فقال : {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون} فكان السكر منها حراما عليهم ثم إن الله عز وجل أنزل الآية التي في سورة المائدة فقال : {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر إلى قوله فهل أنتم منتهون} فجاء تحريمها في هذه الآية قليلها وكثيرها ما أسكر وما لم يسكر ). [الناسخ والمنسوخ لقتادة: 1/31-38]
قَالَ أَبو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بْنُ حَزْمٍ الأَنْدَلُسِيُّ (ت: 320 هـ): (الآية السابعة عشرة: قوله تعالى: {يسألونك عن الخمر والميسر...} الآية [219 مدنية / البقرة / 2] منسوخة نسخها آية منها قوله تعالى: {وإثمهما أكبر من نفعهما} [219 / البقرة] فلما نزلت هذه الآية امتنع قوم عن شربها وبقي قوم، ثم أنزل الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وانتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون} [43 / النساء / 4] وكانوا يشربون بعد العشاء الآخرة ثم يرقدون ثم يقومون من غد وقد صحوا ثم يشربونها بعد الفجر إن شاءوا فإذا جاء وقت الظهر لا يشربونها البتة ثم أنزل الله تعالى: {فاجتنبوه} [90 مدنية / المائدة / 5] فاتركوه واختلف العلماء على التحريم ههنا.
أو قوله تعالى: {فهل أنتم منهون} [91 مدنية / المائدة / 5] لأن المعنى انتهوا - كما قال في سورة الفرقان {أتصبرون} [20 مكية / الفرقان / 25] الشعراء {...قوم فرعون ألا يتقون} [11 مكية / الشعراء / 26] المعنى اتقوا.
) .[الناسخ والمنسوخ لابن حزم: 19-30]
قالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النَّحَّاسُ (ت: 338 هـ): (باب ذكر الآية الثّامنة عشرةقال جلّ وعزّ {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثمٌ كبيرٌ ومنافع للنّاس وإثمهما أكبر من نفعهما} [البقرة: 219]
قال جماعةٌ من العلماء: هذه الآية ناسخةٌ لما كان مباحًا من شرب الخمر
وقال آخرون: هي منسوخةٌ بتحريم الخمر في قوله جلّ وعزّ {فاجتنبوه} [المائدة: 90]
قال أبو جعفرٍ: وسنذكر حجج الجميع فمن قال: إنّها منسوخةٌ احتجّ بأنّ المنافع الّتي فيها إنّما كانت قبل التّحريم ثمّ نسخت وأزيلت كما حدّثنا جعفر بن مجاشعٍ، قال: حدّثنا إبراهيم بن إسحاق، قال: حدّثنا إبراهيم بن عبد اللّه، عن محمّد بن يزيد، عن جويبرٍ، عن الضّحّاك، في قوله جلّ وعزّ {يسألونك عن الخمر، والميسر} [البقرة: 219]، قل فيهما إثمٌ كبيرٌ ومنافع للنّاس قال: «المنافع قبل التّحريم»
وحدّثنا جعفر بن مجاشعٍ، قال: حدّثنا إبراهيم بن إسحاق، قال: حدّثنا محمّد بن هارون، قال: حدّثنا صفوان، عن عمر بن عبد الواحد، عن عثمان بن عطاءٍ، عن أبيه، {يسألونك عن الخمر، والميسر، قل فيهما إثمٌ كبيرٌ ومنافع للنّاس} [البقرة: 219] قال: " نسختها {يا أيّها الّذين آمنوا لا تقربوا الصّلاة وأنتم سكارى} [النساء: 43] يعني المساجد ثمّ أنزل {ومن ثمرات النّخيل والأعناب تتّخذون منه سكرًا ورزقًا} [النحل: 67]
ثمّ أنزل {يا أيّها الّذين آمنوا إنّما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ من عمل الشّيطان فاجتنبوه} [المائدة: 90] " الآيتين
واحتجّ من قال: إنّها ناسخةٌ بالأحاديث المتواترة الّتي فيها بيان علّة نزول تحريم الخمر وبغير ذلك
قال أبو جعفرٍ: فمن الحجج: ما قرئ على أحمد بن محمّد بن الحجّاج، أنّ عبد العزيز بن عمران بن أيّوب بن مقلاصٍ حدّثهم سنة تسعٍ وعشرين ومائتين قال: حدّثنا محمّد بن يوسف، قال: حدّثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل، عن عمر، أنّه قال " اللّهمّ بيّن لنا في الخمر، فنزلت {يسألونك عن الخمر والميسر} [البقرة: 219] الآية فقرئت عليهم فقال: اللّهمّ بيّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا فإنّها تذهب العقل والمال فنزلت {يا أيّها الّذين آمنوا لا تقربوا الصّلاة وأنتم سكارى حتّى تعلموا ما تقولون} [النساء: 43] فكان منادي رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم ينادي وقت الصّلاة لا يقربنّ الصّلاة سكران فدعى عمر فقرئت عليه فقال: اللّهمّ بيّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا فإنّها تذهب العقل والمال فنزلت {يا أيّها الّذين آمنوا إنّما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ من عمل الشّيطان} [المائدة: 90] إلى {فهل أنتم منتهون} [المائدة: 91] فقال عمر رضي اللّه عنه: انتهينا انتهينا "
قال أحمد بن محمّد بن الحجّاج: وحدّثنا عمر بن خالدٍ، سنة خمسٍ وعشرين قال: حدّثنا زهيرٌ، قال: حدّثنا سماكٌ، قال: حدّثني مصعب بن سعدٍ، عن سعدٍ، قال: " مررت بنفرٍ من المهاجرين والأنصار فقالوا لي: تعال نطعمك ونسقيك خمرًا وذلك قبل أن تحرّم الخمر: فأتيتهم في حشٍّ قال والحشّ البستان فإذا عندهم رأس جزورٍ مشويٌّ وزقّ خمرٍ فأكلنا وشربنا فذكرت الأنصار فقلت: المهاجرون خيرٌ من الأنصار فأخذ رجلٌ منهم أحد لحيي الرّأس فجرح به أنفي فأتيت رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم فأخبرته فنزلت {يا أيّها الّذين آمنوا إنّما الخمر والميسر} [المائدة: 90] "
قال أبو جعفرٍ: وفي حديث سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: نزل تحريم الخمر في حيّين من قبائل الأنصار لمّا ثملوا شجّ بعضهم
بعضًا ووقعت بينهم الضّغائن فنزلت {يا أيّها الّذين آمنوا إنّما الخمر والميسر} [المائدة: 90] إلى {منتهون} [المائدة: 91]
قال أبو جعفرٍ: فهذا يبيّن أنّ الآية ناسخةٌ
ومن الحجّة لذلك أيضًا أنّ جماعةً من الفقهاء يقولون: تحريم الخمر بآيتين من القرآن بقوله جلّ وعزّ {قل فيهما إثمٌ كبيرٌ} [البقرة: 219] وبقوله {قل إنّما حرّم ربّي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم} [الأعراف: 33] فلمّا حرّم الإثم وأخبر أنّ في الخمر إثمًا وجب أن تكون محرّمةً
فأمّا قول من قال: إنّ الخمر يقال لها الإثم فغير معروفٍ من حديثٍ ولا لغةٍ والقول الأوّل جائزٌ وأبين منه أنّها محرّمةٌ بقوله تعالى {فاجتنبوه} [المائدة: 90] وإذا نهى اللّه جلّ وعزّ عن شيءٍ فهو محرّمٌ
وفي الأحاديث الّتي ذكرناها ما يحتاج إلى تفسيرٍ فمن ذلك ثملوا معناه: سكروا، وبعضهم يروي في حديث سعدٍ: ففزر به أنفي، أي فلقه وشقّه ومنه فزرت الثّوب، والفزر القطعة من الغنم
وفي الأحاديث في سبب نزول تحريم الخمر أسبابٌ يقول القائل: كيف يتّفق بعضها مع بعضٍ وعمر رضي اللّه عنه يقول شيئًا وسعدٌ يقول غيره وابن عبّاسٍ قد أتى بسواهما
قال أبو جعفرٍ: والجواب أنّ الأحاديث متّفقةٌ لأنّ عمر رضي اللّه عنه سأل بيانًا شافيًا في تحريم الخمر ولم يقل: نزلت في ذلك لا في غيره فيجوز أن يكون سؤال عمر وافق ما كان من سعد بن أبي وقّاصٍ ومن الحيّين اللّذين من قبائل الأنصار، فتتّفق الأحاديث ولا تتضادّ وفيها من الفقه أنّ منادي رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم كان ينادي وقت الصّلاة لا يقربنّ الصّلاة سكران فدلّ بهذا على أنّ القول ليس كما قال بعض الفقهاء إنّ السّكران الّذي لا يعرف السّماء من الأرض ولا الذّكر من الأنثى وإنّ رجلًا لو قال له وأشار إلى السّماء ما هذه؟ فقال: الأرض لم يكن سكران لأنّه قد فهم عنه كلامه ولو كان الأمر على هذا لما جاز أن يخاطب من لا يعرف الذّكر من الأنثى ولا يفهم الكلام فيقال له: لا تقرب الصّلاة وأنت سكران فتبيّن بهذا الحديث أنّ السّكران هو الّذي أكثر أمره التّخليط
وقد حكى أحمد بن محمّد بن الحجّاج أنّ أحمد بن صالحٍ سئل عن السّكران فقال: أنا آخذ فيه بما رواه ابن جريجٍ عن عمرو بن دينارٍ، عن يعلى بن منية، عن أبيه قال: سألت عمر بن الخطّاب رضي اللّه عنه عن حدّ السّكران، فقال: «هو الّذي إذا استقرأته سورةً لم يقرأها وإذا خلطت ثوبه مع ثيابٍ لم يخرجه» وفي الحديث من الفقه أنّ قوله: «لا يقربنّ الصّلاة سكران» قد دلّ على أنّ قول اللّه جلّ وعزّ {لا تقربوا الصّلاة وأنتم سكارى} [النساء: 43] ليس من النّوم وأنّه من الشّرب حين كان مباحًا وقد تبيّن أنّ الآية ناسخةٌ لما ذكرنا
وبقي البيان عن الخمر المحرّمة وما هي؟ لأنّ قومًا قد أوقعوا في هذا شبهةً فقالوا: الخمر هي المجمع عليها ولا يدخل فيها ما اختلف فيه فهذا ظلمٌ من القول يجب على قائله أن لا يحرّم شيئًا اختلف فيه وهذا عظيمٌ من القول
واحتجّ أيضًا بأنّ من قال: الخمر الّتي لا اختلاف فيها محلّها كافرٌ وليس كذا غيرها وهذان الاحتجاجان أشدّ ما لهم
فأمّا الأحاديث الّتي جاءوا بها فلا حجّة فيها لضعف أسانيدها ولتأويلهم إيّاها على غير الحقٍّ
وقد قال عبد اللّه بن المبارك: ما صحّ تحليل النّبيذ الّذي يسكر كثيره عن أحدٍ من الصّحابة ولا التّابعين إلّا عن إبراهيم النّخعيّ
قال أبو جعفرٍ: فأمّا الاحتجاجان الأوّلان اللّذان يعتمدون عليهما فقد بيّنّا الرّدّ في أحدهما وسنذكر الآخر
فالخمر المحرّمة تنقسم قسمين أحدهما المجمع عليها وهي عصير العنب إذا رغا وأزبد فهذه الخمر الّتي من أحلّها كافرٌ والخمر الأخرى الّتي من أحلّها ليس بكافرٍ وهي الّتي جاء بها التّوقيف عن رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم أنّها الخمر وعن أصحابه رضي اللّه عنهم بالأسانيد الّتي لا يدفعها إلّا صادٌّ عن الحقّ أو جاهلٌ إذ قد صحّ عنه صلّى الله عليه وسلّم تسميتها خمرًا وتحريمها، فمن ذلك: ما حدّثناه بكر بن سهلٍ، قال: حدّثنا عبد اللّه بن يوسف، قال: أخبرنا
مالك بن أنسٍ، عن ابن شهابٍ، عن أبي سلمة، عن عائشة، أنّها قالت: سئل رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم عن البتع فقال: «كلّ شرابٍ أسكر حرامٌ» قال أبو جعفرٍ: فلو لم يكن في هذا الباب إلّا هذا الحديث لكفى لصحّة إسناده واستقامة طريقه وقد أجمع الجميع أنّ الآخر لا يسكر إلّا بالأوّل فقد حرّم الجميع بتوقيف رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم
وفي هذا الباب ممّا لا يدفع ما قرئ على أبي القاسم عبد اللّه بن محمّد بن عبد العزيز، عن أبي عبد اللّه أحمد بن محمّد بن حنبلٍ قال: حدّثنا يونس بن محمّدٍ، قال حدّثنا حمّاد بن زيدٍ، عن أيّوب، عن نافعٍ، عن ابن عمر قال: قال رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم: «كلّ مسكرٍ خمرٌ وكلّ مسكرٍ حرامٌ» قال أبو عبد اللّه: هذا إسنادٌ صحيحٌ
قال أبو عبد اللّه، وحدّثنا روح بن عبادة، قال: حدّثنا ابن جريحٍ، قال: أخبرني موسى بن عقبة، عن نافعٍ، عن ابن عمر، أنّ رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم قال: «كلّ مسكرٍ حرامٌ وكلّ مسكرٍ خمرٌ»
قال أبو عبد اللّه: وحدّثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا محمّد بن عمرٍو، عن أبي سلمة، عن ابن عمر، قال: قال رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم: ((كلّ مسكرٍ خمرٌ وكلّ مسكرٍ حرامٌ))
قال أبو عبد اللّه: وحدّثنا محمّد بن جعفرٍ، قال: حدّثنا شعبة، عن سعيد بن أبي بردة، عن أبيه، عن جدّه، قال: سمعت رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم حين وجّه أبا موسى، ومعاذ بن جبلٍ إلى اليمن فقال أبو موسى: يا رسول اللّه، إنّا بأرضٍ يصنع بها شرابٌ من العسل يقال له البتع، وشرابٌ من شعيرٍ
يقال له المزر فقال رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم: «كلّ مسكرٍ حرامٌ»
قال أبو عبد اللّه: وحدّثنا يحيى بن سعيدٍ، عن محمّد بن عمرٍو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: ((كلّ مسكرٍ حرامٌ))
فهذه الأسانيد المتّفق على صحّتها
وقرئ على أبي بكرٍ أحمد بن عمرٍو، عن عليّ بن الحسين الدّرهميّ، قال: حدّثنا أنس بن عياضٍ، قال: حدّثنا موسى بن عقبة، عن سالم بن عبد اللّه بن عمر، عن أبيه، أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: ((ما أسكر كثيره فقليله حرامٌ))
فهذا تحريم قليل ما أسكر كثيره نصًّا عن رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم بهذا الإسناد المستقيم
قال أبو بكرٍ أحمد بن عمرٍو وقد روى التّحريم عائشة، وسعد بن أبي وقّاصٍ، وجابرٌ، وعمر، وابن عبّاسٍ، وأنسٌ، وأبو سعيدٍ الخدريّ، وعبد اللّه ابن عمر، وأبو هريرة، وقرّة بن إياسٍ، وخوّات بن جبيرٍ، والدّيلم بن الهوشع، وأبو موسى الأشعريّ، وبريدة الأسلميّ، وأمّ سلمة، وميمونة، وقيس بن سعدٍ وإسناد حديث عائشة وابن عمر، وأنسٍ صحيحٌ وسائر الأحاديث يؤيّد بعضها بعضًا وقرئ على أحمد بن شعيب بن عليٍّ أبي عبد الرّحمن، عن هشام بن عمّارٍ، قال: حدّثنا صدقة بن خالدٍ، عن زيد بن واقدٍ، قال: أخبرني خالد بن عبد اللّه بن حسينٍ، عن أبي هريرة، قال: علمت أنّ رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم كان يصوم فتحيّنت فطره بنبيذٍ صنعته له في دبّاءٍ فجئته به فقال: «أدنه» فأدنيته منه فإذا هو ينشّ فقال: «اضرب بهذا الحائط فإنّ هذا شراب من لا يؤمن باللّه واليوم الآخر»
قال أبو عبد الرّحمن: وفي هذا دليلٌ على تحريم المسكر قليله وكثيره ليس كما يقوله المخادعون لأنفسهم بتحريمهم آخر الشّربة وتحليلهم ما تقدّمها الّذي سرى في العروق قبلها قال: ولا خلاف بين أهل العلم أنّ السّكر بكلّيّته لا يحدث عن الشّربة الآخرة دون الأولى والثّانية بعدها
قال أبو عبد الرّحمن: وأخبرنا عبيد اللّه بن سعيدٍ، قال: حدّثنا يحيى، عن عبيد اللّه، قال: حدّثنا عمرو بن شعيبٍ، عن أبيه، عن جدّه، أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: ((ما أسكر كثيره فقليله حرامٌ))
قال أبو عبد الرّحمن: " إنّما يتكلّم في حديث عمرو بن شعيبٍ إذا رواه عنه غير الثّقات فأمّا إذا رواه الثّقات فهو حجّةٌ، وعبد اللّه بن عمرٍو جدّ عمرو بن شعيبٍ كان يكتب ما سمع من النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وحديثه من أصحّ الحديث
قال أبو عبد الرّحمن: وأخبرنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أخبرنا أبو عامرٍ، والنّضر بن شميلٍ، ووهب بن جريرٍ، قالوا: حدّثنا شعبة، عن سلمة بن كهيلٍ، قال: سمعت أبا الحكم، يحدّث قال: قال ابن عبّاسٍ: «من سرّه أن يحرّم إن كان محرّمًا ما حرّم اللّه ورسوله، فليحرّم النّبيذ»
قال أبو عبد الرّحمن: وأخبرنا قتيبة، قال: حدّثنا عبد العزيز، عن عمارة بن غزيّة، عن أبي الزّبير، عن جابرٍ، أنّ رجلًا، من جيشان وجيشان من اليمن قدم فسأل النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن شرابٍ يشربونه بأرضهم من الذّرة يقال له المزر فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «أو مسكرٌ هو؟» قال: نعم قال رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم: «كلّ مسكرٍ حرامٌ إنّ اللّه عزّ وجلّ عهد لمن شرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال» قالوا: يا رسول اللّه، وما طينة الخبال؟ قال: عرق أهل النّار " أو قال: «عصارة أهل النّار»
وما يبيّن أنّ الخمر تكون من غير عصير العنب من لفظ رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه ومن اللّغة ومن الاشتقاق، فأمّا لفظ رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم ممّا لا يدفع إسناده
أنّه قرئ على أحمد بن شعيبٍ، عن سويد بن نصرٍ، عن ابن المبارك، عن الأوزاعيّ، قال: حدّثني أبو كثيرٍ، واسمه يزيد بن عبد الرّحمن، قال أبو عبد الرّحمن: وأخبرني حميد بن مسعدة، عن سفيان وهو ابن حبيبٍ، عن الأوزاعيّ، قال: حدّثنا أبو كثيرٍ، قال: سمعت أبا هريرة، يقول: قال رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم: ((الخمر من هاتين الشّجرتين)) قال سويدٌ: في هاتين الشّجرتين النّخلة والعنبة
فوقفنا رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم على أنّ الخمر من النّخلة، فخالف ذلك قومٌ وقالوا: لا يكون إلّا من العنبة ثمّ نقضوا قولهم وقالوا: نقيع التّمر والزّبيب خمرٌ؛ لأنّه لم يطبخ
وقرئ على أحمد بن عمرٍو، وأبي بكرٍ، عن عليّ بن سعيدٍ المسروقيّ، قال: حدّثنا عبد الرّحيم بن سليمان، قال: حدّثنا السّريّ بن إسماعيل، عن الشّعبيّ، عن النّعمان بن بشيرٍ، عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «الخمر من خمسةٍ من الحنطة والشّعير والتّمر والزّبيب والعسل وما خمّرته فهو خمرٌ»
وقرئ على أحمد بن شعيبٍ عن يعقوب بن إبراهيم، قال حدّثنا: ابن عليّة، قال: حدّثنا أبو حيّان، قال: حدّثني الشّعبيّ، عن ابن عمر، قال: سمعت عمر، يخطب على منبر المدينة قال: «أيّها النّاس ألا إنّه نزل تحريم الخمر يوم
نزل وهي من خمسةٍ من العنب، والتّمر، والعسل والحنطة، والشّعير، والخمر ما خامر العقل»
فهذا توقيفٌ في الخمر أنّها من غير عنبٍ
وفيه بيان الاشتقاق وأنّه ما خامر العقل مشتقٌّ من الخمر وهو كلّ ما وارى من نخلٍ وغيره فقيل: خمرٌ؛ لأنّها تستر العقل ومنه فلانٌ مخمورٌ يقال هذا فيما كان من عصير العنب وغيره لا فرق بينهما وما منهما إلّا ما يريد الشّيطان أن يوقع بينهم فيه العداوة والبغضاء ويصدّ به عن ذكر اللّه وعن الصّلاة فالقليل من هذا ومن هذا واحدٌ فهذا أصحّ ما قيل في اشتقاقها وأجلّه إسنادًا قاله عمر رضي اللّه عنه على المنبر بحضرة الصّحابة
فأمّا سعيد بن المسيّب فروي عنه أنّه قال:
إنّما سمّيت الخمر خمرًا؛ لأنّها صعد صفوها ورسب كدرها
قال أبو جعفرٍ: فاشتقاق هذا أيضًا على أنّ الصّفو ستر الكدر وقال بعض المتأخّرين: سمّيت خمرًا؛ لأنّها تخمّر أي: تغطّي وسمّي نبيذًا؛ لأنّه ينبذ ولو صحّ هذا لكان النّبيذ أيضًا يخمّر
وممّا يشبه ما تقدّم ما حدّثناه بكر بن سهلٍ، قال: حدّثنا عبد اللّه بن يوسف، قال: حدّثنا مالكٌ، عن إسحاق بن عبد اللّه بن أبي طلحة، عن أنس بن مالكٍ، قال: " كنت أسقي أبا عبيدة بن الجرّاح، وأبا طلحة الأنصاريّ، وأبيّ بن كعبٍ شراب فضيخٍ وتمرٍ فجاءهم آتٍ فقال: إنّ الخمر قد حرّمت
فقال أبو طلحة: يا أنس، قم إلى تلك الجرار فاكسرها فقمت إلى مهراسٍ لنا فدفعتها بأسفله فكسرتها "
قال أبو جعفرٍ: ففي هذه الأحاديث من الفقه تصحيح قول من قال: إنّ ما أسكر كثيره فقليله حرامٌ عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم والصّحابة ثمّ كان الصّحابة على ذلك وبه يفتون أشدّهم فيه عليّ بن أبي طالبٍ رضي اللّه عنه يخاطبهم نصًّا
((بأنّ ما أسكر كثيره فقليله حرامٌ)) ثمّ ابن عمر لمّا سئل عن نبيذٍ ينبذ بالغداة ويشرب بالعشيّ قال محمّد بن سيرين فقال للسّائل:
إنّي أنهاك عن قليل، ما أسكر كثيره وإنّي أشهد اللّه جلّ وعزّ عليك فإنّ أهل خيبر يشربون شرابًا يسمّونه كذا وهي الخمر وإنّ أهل فدكٍ يشربون شرابًا يسمّونه كذا وهي الخمر وإنّ أهل
يعني مصر يشربون شرابًا من العسل يسمّونه البتع وهي الخمر
ثمّ عائشة رضي اللّه عنها لمّا سئلت عن غير عصير العنب فقالت:
صدق اللّه ورسوله، سمعت رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم يقول: ((يشرب قومٌ الخمر يسمّونها بغير أسمائها))
فلم يزل الّذين يروون هذه الأحاديث يحملونها على هذا عصرًا بعد عصرٍ حتّى عرض فيها قومٌ فقالوا: المحرّم الشّربة الآخرة الّتي تسكر
وقالوا قد قالت اللّغة الخبز المشبع والماء المروّي قال أبو جعفرٍ: فإن صحّ هذا في اللّغة فهو حجةٌ عليهم لا لهم؛ لأنّه لا يخلو من إحدى جهتين
إمّا أن يكون معناه للجنس كلّه أي صفة الخبز أنّه يشبع وصفة الماء أنّه يروي فيكون هذا لقليل الخبز وكثيره؛ لأنّه جنسٌ فكذا قليل ما يسكر
أو يكون الخبز المشبع فهو لا يشبع إلّا بما كان قبله فكلّه مشبعٌ فكذا قليل المسكر وكثيره
وإن كانوا قد تأوّلوه على أنّ معنى المشبع هو الآخر الّذي يشبع وكذا الماء المروّي فيقال لهم: ما حدّ ذلك المروّي والّذي لا يروّي؟ فإن قالوا: لا حدّ له فهو كلّه إذا مروٍّ وإن حدّوه قيل لهم: ما البرهان على ذلك؟ وهل يمتنع الّذي لا يروّي ممّا حدّدتموه أن يكون يروي عصفورًا؟ وما أشبهه فبطل الحدّ وصار القليل ممّا يسكر كثيره داخلًا في التّحريم
وعارضوا بأنّ المسكر بمنزلة القاتل لا يسمّى مسكرًا حتّى يسكر كما لا يسمّى القاتل قاتلًا حتّى يقتل
قال أبو جعفرٍ: وهذا لا يشبه من هذا شيئًا، لأنّ المسكر جنسٌ وليس كذا القاتل ولو كان كما قالوا لوجب ألّا يسمّى الكثير من المسكر مسكرًا حتّى يسكر وكان يجب أن يحلّوه، وهذا خارجٌ عن قول الجميع
وقالوا: معنى: كلّ مسكرٍ حرامٌ، على القدح الّذي يسكر وهذا خطأٌ من جهة اللّغة وكلام العرب، لأنّ «كلّ» معناها العموم فالقدح الّذي يسكر مسكرٌ والجنس كلّه مسكرٌ وقد حرّم رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم الكلّ فلا يجوز الاختصاص إلّا بتوقيفٍ وإنّما قولنا: مسكرٌ يقع للجنس القليل والكثير كما يقال: التّمر بالتّمر زيادة ما بينهما ربا فدخل في هذه التّمرة والتّمرتان والقليل والكثير، كذا دخل في كلّ مسكرٍ القليل والكثير
وشبّه بعضهم هذا بالدّواء والبنج الّذي يحرم كثيره ويحلّ قليله وهذا التّشبيه بعيدٌ لأنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال:
((ما أسكر كثيره فقليله حرامٌ)) وقال:
((كلّ مسكرٍ خمرٌ))
فالمسكر وهو الخمر هو الجنس الّذي قال اللّه جلّ وعزّ فيه {إنّما يريد الشّيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر} [المائدة: 91] وليس هذا في الدّواء والبنج، وإنّما هذا في كلّ شرابٍ فهو هكذا، وعارضوا بأن قالوا: فليس ما أسكر كثيره بمنزلة الخمر في كلّ أحواله
قال أبو جعفرٍ: وهذه مغالطةٌ وتمويهٌ على السّامع، لأنّه لا يجب من هذا إباحةٌ، وقد علمنا أنّه ليس من قتل مسلمًا غير نبيٍّ بمنزلة من قتل نبيًّا فليس يجب إذا لم يكن بمنزلةٍ في جميع الأحوال أن يكون مباحًا كذا من شرب ما أسكر كثيره وإن لم يكن بمنزلة من شرب عصير العنب الّذي قد نشّ فليس يجب من هذا أن يباح له ما قد شرب ولكنّه بمنزلته في أنّه قد شرب محرّمًا وشرب خمرًا وأنّه يحدّ في القليل منه كما يحدّ في القليل من الخمر، وهذا
قول من لا يدفع قوله منهم عمر، وعليٌّ رضي اللّه عنهما
ومعنى ((كلّ مسكرٍ خمرٌ))يجوز أن يكون بمنزلة الخمر في التّحريم وأن يكون المسكر كلّه يسمّى خمرًا كما سمّاه رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم ومن ذكرنا من الصّحابة والتّابعين بالأسانيد الصّحيحة
وقد عارض قومٌ بعض الأسانيد من غير ما ذكرناه فمن ذلك:
ما قرئ على عبد اللّه بن محمّد بن عبد العزيز، عن شيبان بن فرّوخ، عن مهديّ بن ميمون، قال حدّثنا أبو عثمان الأنصاريّ، قال: حدّثنا القاسم بن محمّدٍ، عن عائشة، قالت: قال رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم: ((كلّ مسكرٍ حرامٌ وما أسكر الفرق فملء الكفّ منه حرامٌ))
قال أبو جعفرٍ: الفرق بفتح الرّاء لا غير وهو ثلاث أصوعٍ وكذا فرق الصّبح بالفتح وكذا الفرق من الفزع والفرق أيضًا تباعد ما بين الشّيئين فأمّا الفرق بإسكان الرّاء ففرق الشّعر وكذا الفرق بين الحقّ والباطل
وقرئ على أبي القاسم عبد اللّه بن محمّد بن عبد العزيز، عن أبي سعيدٍ الأشجّ، عن الوليد بن كثيرٍ، قال: حدّثنا الضّحّاك بن عثمان، عن بكير بن عبد اللّه بن الأشجّ، عن عامر بن سعدٍ، عن أبيه، قال: قال رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم: «أنهاكم عن قليل، ما أسكر كثيره»
قال أبو القاسم: وحدّثنا أحمد بن محمّد بن حنبلٍ قال حدّثنا سليمان بن داود يعني الهاشميّ، قال: حدّثنا إسماعيل بن جعفرٍ، قال: حدّثنا داود بن بكرٍ يعني ابن أبي الفرات، قال: حدّثنا محمّد بن المنكدر، عن جابرٍ، قال: قال رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم: ((ما أسكر كثيره فقليله حرامٌ))
قال أبو جعفرٍ: فمن عجيب ما عارضوا به أن قالوا: أبو عثمان الأنصاريّ مجهولٌ والمجهول لا تقوم به حجّةٌ فقيل لهم: ليس بمجهولٍ والدّليل على ذلك أنّه قد روى عنه الرّبيع بن صبيحٍ، وليث بن أبي سليمٍ، ومهديّ بن ميمونٍ، ومن روى عنه اثنان فليس بمجهولٍ
وقالوا: الضّحّاك بن عثمان مجهولٌ قيل لهم: قد روى عنه عبد العزيز بن محمّدٍ، وعبد العزيز بن أبي حازمٍ، ومحمّد بن جعفر بن أبي كثيرٍ، وابن أبي فديكٍ
وقالوا: داود بن بكرٍ مجهولٌ قيل لهم: قد روى عنه إسماعيل بن جعفرٍ، وأنس بن عياضٍ
وإنّما تعجب من معارضتهم بهذا؛ لأنّهم يقولون في دين اللّه جلّ وعزّ بما رواه أبو فزارة زعموا عن أبي زيدٍ، عن ابن مسعودٍ:
أنّه كان مع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ليلة الجنّ وأنّه توضّأ بنبيذ التّمر
وأبو زيدٍ لا يعرف ولا يدرى من أين هو؟
وقد روى إبراهيم عن علقمة قال:
سألت عبد اللّه هل كنت مع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ليلة الجنّ؟ فقال «لا وبودّي أن لو كنت معه»
ويحتجّون بحديثٍ رووه قال أبو جعفرٍ: سنذكره بإسناده
عن أبي إسحاق، عن ابن ذي لعوةٍ، أنّ عمر، حدّ رجلًا شرب من إداوته وقال: «أحدّك على السّكر»
وهذا من عظيم ما جاءوا به، وابن ذي لعوة لا يعرف، وهكذا قول أبي بكر بن عيّاشٍ، لعبد اللّه بن إدريس
" حدّثنا أبو إسحاق، عن أصحابه، أنّ ابن مسعودٍ، " كان يشرب الشّديد فقال له عبد اللّه بن إدريس: استحييت لك يا شيخ " من أصحابه؟ وأبو إسحاق إذا سمّى من حدّث عنه ولم يقل: سمعت لم يكن حجّةٌ، وما هذا الشّديد؟ أهو خلٌّ أم نبيذٌ؟ ولكن حدّثنا محمّد بن عمرٍو، عن أبي سلمة عن ابن عمر، وأبي هريرة أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: ((كلّ مسكرٍ خمرٌ وكلّ مسكرٍ حرامٌ)) وحدّثنا محمّد بن عمرٍو، عن أبي سلمة، عن عائشة عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: ((كلّ شرابٍ أسكر حرامٌ)) فأفحم أبو بكر بن عيّاشٍ، وكان عبد اللّه بن إدريس في الكوفيّين متشدّدًا في تحريم قليل ما أسكر كثيره
وقال الأوزاعيّ: قلت لسفيان الثّوريّ: " إنّ اللّه جلّ وعزّ لا يسألني يوم القيامة لم لم تشرب النّبيذ؟ ويسألني لم شربته؟ فقال: «لا أفتي به أبدًا»
وقال أبو يوسف: «في أنفسنا من الفتيا به أمثال الجبال ولكن عادة البلد»، ثمّ اجتمعوا جميعًا على تحريم المعاقرة وتحريم النّقيع
وقال أبو حنيفة: «هو بمنزلة الخمر»
فأمّا الأحاديث الّتي احتجّوا بها فما علمت أنّها تخلو من إحدى جهتين
إمّا أن تكون واهية الإسناد وإمّا تكون لا حجّة لهم فيها إلّا التّمويه فرأينا أن نذكرها ونذكر ما فيها ليكون الباب كامل المنفعة فمن ذلك:
ما حدّثناه أحمد بن محمّدٍ الأزديّ، قال: حدّثنا روحٌ، قال: حدّثنا عمرٌو، قال: حدّثنا أبو إسحاق، عن عمرو بن ميمونٍ، قال: شهدت عمر حين طعن فجاءه الطّبيب فقال: أيّ الشّراب أحبّ إليك؟ قال: «النّبيذ» قال: فأتي بنبيذٍ فشربه فخرج من إحدى طعناته وكان يقول: " إنّا نشرب من هذا النّبيذ شرابًا يقطّع لحوم الإبل قال: وشربت من نبيذه فكان كأشدّ النّبيذ "
قال أبو جعفرٍ: هذا الحديث لا تقوم به حجّةٌ؛ لأنّ أبا إسحاق لم يقل: حدّثنا عمرو بن ميمونٍ، وهو مدلّسٌ لا تقوم بحديثه حجّةٌ حتّى يقول: حدّثنا وما أشبهه، ولو صحّحنا الحديث على قولهم لما كانت لهم فيه حجّةٌ؛ لأنّ النّبيذ غير محظورٍ إذا لم يسكر كثيره ومعنى النّبيذ في اللّغة منبوذٌ وإنّما هو ماءٌ نبذ فيه تمرٌ أو زبيبٌ أو نظيرهما ممّا يطيّب الماء ويحلّيه؛ لأنّ مياه المدينة كانت غليظةً فما في هذا الحديث من الحجّة؟
واحتجّوا بما حدّثناه أحمد بن محمّدٍ الأزديّ، قال: حدّثنا فهدٌ، قال: حدّثنا عمر بن حفص بن غياثٍ، قال: حدّثنا أبي، عن الأعمش، قال: حدّثنا حبيب بن أبي ثابتٍ، عن نافع بن علقمة، قال: أمر عمر رضي اللّه عنه بنزلٍ له في بعض تلك المنازل فأبطأ عليهم ليلةً فجيء بطعامٍ فطعم ثمّ أتي بنبيذٍ قد أخلف واشتدّ فشرب منه ثمّ قال: «إنّ هذا لشديدٌ ثمّ أمر بماءٍ فصبّ عليه ثمّ شرب هو وأصحابه»
قال أبو جعفرٍ: هذا الحديث فيه غير علّةٍ منها أنّ حبيب بن أبي ثابتٍ على محلّه لا تقوم بحديثه حجّةٌ لمذهبه وكان مذهبه أنّه قال: لو حدّثني رجلٌ، عنك بحديثٍ ثمّ حدّثت به عنك لكنت صادقًا ومن هذا أنّه روي عن عروة، عن عائشة: «أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قبّل بعض نسائه ثمّ صلّى ولم يتوضّأ»
فعيّب بعض النّاس؛ لأنّه ردّ بهذا على الشّافعيّ؛ لأنّه أوجب الوضوء في القبلة فقيل له لا تثبت بهذا حجّةٌ لانفراد حبيبٍ به
قال أبو جعفرٍ: وفيه من العلل أنّ نافع بن علقمة ليس بمشهور بالرّواية
ولو صحّ الحديث عن عمر لما كانت فيه حجّةٌ؛ لأنّ اشتداده قد يكون من حموضته
وقد اعترض بعضهم فقال: من أين لكم أنّ مزجه بالماء كان لحموضته؟ أفتقولون هذا ظنًّا؟ فالظّنّ لا يغني من الحقّ شيئًا
قال: وليس يخلو من أن يكون نبيذ عمر يسكر كثيره أو يكون خلًّا
قال أبو جعفرٍ: فهذه المعارضة على من عارض بها لا له؛ لأنّه الّذي قال بالظّنّ؛ لأنّه قد ثبتت الرّواية عمّن قد صحّت عدالته أنّ ذلك من حموضته
قال نافعٌ: «كان لتخلّله»
وهم قد رووا حديثًا متّصلًا فيه أنّه كان مزجه إيّاه لأنّه كاد يكون خلًّا
قال أبو جعفرٍ: حدّثنا أحمد بن محمّدٍ، قال: حدّثنا وهبان بن عثمان، قال: حدّثنا الوليد بن شجاعٍ، قال: حدّثنا يحيى بن زكريّا بن أبي زائدة، قال: حدّثنا إسماعيل، عن قيسٍ، قال: حدّثني عتبة بن فرقدٍ، قال: أتي عمر بعسٍّ
من نبيذٍ قد كاد يكون خلًّا فقال لي: «اشرب» فأخذته وما أكاد أستطيعه فأخذه منّي فشربه، وذكر الحديث
فزال الظّنّ بالتّوقيف ممّن شاهد عمر رحمه اللّه وهو من روايتهم
وأمّا قوله لا يخلو من أن يكون نبيذًا يسكر كثيره أو يكون خلًّا فقد خلا من ذينك؛ لأنّ العرب تقول: للنّبيذ إذا دخلته حموضة نبيذٍ حامضٍ فإذا زادت صار خلًّا فترك هذا القسم وهو لا يخيل على من عرف اللّغة، ثمّ روى حديثًا إن كانت فيه حجّةٌ فهي عليه
حدّثنا أحمد بن محمّدٍ، قال: حدّثنا فهدٌ، قال: حدّثنا عمر بن حفصٍ، قال: حدّثنا أبي قال،: حدّثنا الأعمش، قال: حدّثني إبراهيم، عن همّام بن الحارث، قال: أتي عمر بنبيذٍ فشرب منه فقطّب ثمّ قال: " إنّ نبيذ الطّائف له عرامٌ ثمّ ذكر شدّةً لا أحفظها ثمّ دعا بماءٍ فصبّ عليه ثمّ شرب
قال أبو جعفرٍ: وهذا لعمري إسنادٌ مستقيمٌ ولا حجّة له فيه بل الحجّة عليه؛ لأنّه إنّما يقال: قطّب لشدّة حموضة الشّيء ومعنى قطّب في كلام العرب خالطت بياضه حمرةٌ، مشتقٌّ من قطبت الشّيء أقطبه وأقطبه إذا خلطته
وفي الحديث له عرامٌ أي خبثٌ، ورجلٌ عارمٌ أي: خبيثٌ
حدّثنا أحمد بن محمّدٍ الأزديّ، قال: حدّثنا فهدٌ، قال: حدّثنا عمر بن حفصٍ، قال: حدّثنا أبي، عن الأعمش، قال: حدّثني أبو إسحاق، عن سعيد بن ذي حدّان أو ابن ذي لعوة، قال: جاء رجلٌ قد ظمئ إلى خازن عمر فاستسقاه فلم يسقه فأتي بسطيحةٍ لعمر فشرب منها فسكر فأتي به عمر فاعتذر إليه فقال: إنّما شربت من سطيحتك فقال عمر: «إنّما أضربك على السّكر» فضربه عمر "
قال أبو جعفرٍ: هذا الحديث من أقبح ما روي في هذا الباب وعلله بيّنةٌ لمن لم يتّبع الهوى فمنها أنّ ابن ذي لعوة لا يعرف ولم يرو عنه إلّا هذا الحديث ولم يرو عنه إلّا أبو إسحاق، ولم يذكر أبو إسحاق فيه سماعًا وهو مخالفٌ لما نقله أهل العدالة عن عمر
قال أبو جعفرٍ: حدّثنا بكر بن سهلٍ، قال: حدّثنا عبد اللّه بن يوسف، قال: أخبرنا مالكٌ، عن الزّهريّ، عن السّائب بن يزيد، أنّ عمر، رضي اللّه عنه خرج عليهم فقال: «إنّي وجدت من فلانٍ ريح شرابٍ قد زعم أنّه شرب
الطّلاء وأنا سائلٌ عمّا شرب فإن كان يسكر جلدته الحدّ»، قال: فجلده عمر الحدّ ثمانين
فهذا إسنادٌ لا مطعن فيه والسّائب بن يزيد رجلٌ من أصحاب النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فهل يعارض مثل هذا بابن ذي لعوة، وعمر رضي اللّه عنه يخبر بحضرة الصّحابة أنّه يجلد في الرّائحة من غير سكرٍ لأنّه لو كان سكران ما احتاج أن يسأل عمّا شرب فرووا عن عمر رحمه اللّه ما لا يحلّ لأحدٍ أن يحكيه عنه من غير جهة لوهاء الحديث وأنّه زعم شرب من سطيحته وأنّه يحدّ على السّكر وذلك ظلمٌ لأنّ السّكر ليس من فعل الإنسان وإنّما هو شيءٌ يحدث عن الشّرب وإنّما الضّرب عن الشّرب كما أنّ الحدّ في الزّنا إنّما هو على الفعل لا على اللّذّة
ومن هذا قيل لهم: تحريم السّكر محالٌ؛ لأنّ اللّه جلّ وعزّ إنّما يأمر وينهى بما في الطّاقة وقد يشرب الإنسان يريد السّكر فلا يسكر ويريد أن لا يسكر فيسكر وقيل لهم: كيف يحصّل ما يسكر وطباع النّاس فيه مختلفةٌ؟
ثمّ تعلّقوا بشيءٍ روي عن ابن عبّاسٍ: حدّثناه أحمد بن محمّدٍ، قال: حدّثنا فهدٌ، قال: حدّثنا أبو نعيمٍ، عن مسعرٍ، عن أبي عونٍ، عن عبد اللّه بن شدّادٍ، عن ابن عبّاسٍ، قال: «حرّمت الخمر بعينها قليلها وكثيرها، والسّكر من كلّ شرابٍ»
قال أبو جعفرٍ: وهذا الحديث قد رواه شعبة على إتقانه وحفظه على غير هذا
كما قرئ على عبد اللّه بن محمّد بن عبد العزيز، عن أحمد بن محمّد بن حنبلٍ، قال: حدّثنا محمّد بن جعفرٍ، قال: حدّثنا شعبة، عن مسعرٍ، عن أبي عونٍ، عن عبد اللّه بن شدّادٍ، عن ابن عبّاسٍ، قال: «حرّمت الخمر بعينها والمسكر من كلّ شرابٍ»
وقد بيّنّا أنّ السّكر ليس من فعل الإنسان وإذا جاء حديثٌ معارضٌ لما قد ثبتت صحّته وقد اختلفت روايته فلا معنى للاحتجاج به
وقد روى يحيى القطّان، عن عثمان الشّحّام، بصريٌّ مشهورٌ، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ، قال: «نزل تحريم الخمر وهي الفضيخ»
قال أبو جعفرٍ: فهذا خلاف ذاك؛ لأنّ الفضيخ بسرٌ يفضخ فجعله خمرًا وأخبر بالتّنزيل فيه وفي تحريمه
قال أبو جعفرٍ: حدّثنا أحمد بن محمّدٍ، قال: حدّثنا محمّد بن عمرو بن يونس السّوسيّ، قال: حدّثنا أسباط بن محمّدٍ القرشيّ، عن الشّيبانيّ، عن عبد الملك بن نافعٍ، قال: سألت ابن عمر فقلت: إنّ أهلنا ينتبذون نبيذًا في سقاءٍ لو نكهته لأخذ فيّ فقال ابن عمر: " إنّما البغي على من أراد البغي شهدت رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم عند هذا الرّكن وأتاه رجلٌ بقدحٍ من نبيذٍ فأدناه إلى فيه فقطّب وردّه فقال رجلٌ: يا رسول اللّه، أحرامٌ هو؟ فردّ الشّراب ثمّ دعا بماءٍ فصبّه عليه ثمّ قال: «إذا اغتلمت عليكم هذه الأسقية فاقطعوا متونها بالماء»
قال أحمد بن شعيبٍ: عبد الملك بن نافعٍ لا يحتجّ بحديثه وليس
بالمشهور، وقد روى أهل العدالة سالمٌ، ونافعٌ، ومحمّد بن سيرين، عن ابن عمر خلاف ما روى وليس يقوم مقام واحدٍ منهم ولو عاضده جماعةٌ من أشكاله
قال أبو جعفرٍ: ثمّ رجعنا إلى متن الحديث فقلنا: لو صحّ ما كانت فيه حجّةٌ لمن احتجّ به بل الحجّة عليه به بيّنةٌ وذلك أنّ قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا اغتلمت عليكم» وبعضهم يقول: «إذا رابكم من شرابكم ريبٌ فاكسروا متنه بالماء»، والرّيب في الأصل الشّكّ ثمّ يستعمل بمعنى المخافة والظّنّ مجازًا
فاحتجّوا بهذا وقالوا: معناه إذا خفتم أن يسكر كثيره فاكسروه بالماء
قال أبو جعفرٍ: وهذا من قبيح الغلط؛ لأنّه لو كان كثيره يسكر لكان قد زال الخوف وصار يقينًا ولكنّ الحجّة فيه لمن خالفهم أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أمر أن لا يقرّ الشّراب إذا خيف منه أن ينتقل إلى الحرام حتّى يكسر بالماء الّذي يزيل الخوف ومع هذا فحجّةٌ قاطعةٌ عند من عرف معاني كلام العرب وذلك أنّ الشّراب الّذي بمكّة لم يزل في الجاهليّة والإسلام لا يطبخ بنارٍ وإنّما هو ماءٌ يجعل فيه زبيبٌ أو تمرٌ ليطيّب؛ لأنّ مياههم فيها ملوحةٌ وغلظٌ ولم تتّخذه للذّةٍ
وقد أجمع العلماء منهم أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمّدٌ أنّ ما نقع ولم يطبخ بالنّار وكان كثيره يسكر فهو خمرٌ والخمر إذا صبّ فيها الماء أو صبّت على الماء فلا اختلاف بين المسلمين أنّها قد نجسّت الماء إذا كان قليلًا فقد صار حكم هذا حكم الخمر وإذا أسكر كثيره فقليله حرامٌ بإجماع المسلمين، فزالت الحجّة بهذا الحديث لو صحّ
قال أبو جعفرٍ: حدّثنا أحمد، قال: حدّثنا فهدٌ، قال: حدّثنا محمّد بن سعيدٍ الأصبهانيّ، قال: حدّثنا يحيى بن اليمان، عن الثّوريّ، عن منصورٍ، عن خالد بن سعدٍ، عن أبي مسعودٍ، قال: " عطش النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم حول الكعبة فاستسقى فأتي بنبيذٍ من نبيذ السّقاية فشمّه فقطّب فصبّ عليه من ماء زمزم ثمّ شرب فقال رجلٌ: أحرامٌ هو؟ قال: «لا»
قال أبو جعفرٍ: قد ذكرنا النّبيذ الّذي في السّقاية بما فيه كفايةٌ على أنّ هذا الحديث لا يحلّ لأحدٍ من أهل العلم أن يحتجّ به فإن كان من أهل الجهل فينبغي أن يتعرّف ما يحتجّ به في الحلال والحرام قبل أن يقطع به
قال أحمد بن شعيبٍ: هذا الحديث لا يحتجّ به؛ لأنّ يحيى بن اليمان انفرد به، عن الثّوريّ دون أصحابه، ويحيى بن اليمان ليس بحجّةٍ لسوء حفظه وكثرة خطئه
وقال غير أبي عبد الرّحمن: أصل هذا الحديث أنّه من رواية الكلبيّ فغلط يحيى بن اليمان فنقل متن حديثٍ إلى حديثٍ آخر وقد سكت العلماء عن كلّ ما رواه الكلبيّ فلم يحتجّوا بشيءٍ منه
وحدّثنا أحمد، قال: حدّثنا عليّ بن معبدٍ، قال: حدّثنا يونس بن محمّدٍ، قال: حدّثنا شريكٌ، عن أبي إسحاق، عن أبي بردة، عن أبيه، قال: بعثني رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم أنا ومعاذًا، إلى اليمن فقلنا: يا رسول اللّه، إنّ بها شرابين يصنعان من البرّ والشّعير أحدهما يقال له المزر والآخر البتع فما نشرب؟ قال: «اشربا ولا تسكرا»
قال أبو جعفرٍ: هذا الحديث أتى من شريكٍ في حروفٍ فيه يبيّن لك ذلك:
ما قرئ على أحمد بن شعيبٍ، عن أحمد بن عبد اللّه بن عليّ بن مسروقٍ، قال: حدّثنا عبد الرّحمن يعني ابن مهديٍّ، قال: حدّثنا إسرائيل، قال: حدّثنا أبو إسحاق، عن أبي بردة، عن أبي موسى، قال: بعثني رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم أنا ومعاذًا، إلى اليمن فقال معاذٌ: يا رسول اللّه، إنّك تبعثنا إلى بلدٍ كثيرٍ شراب أهله فما نشرب؟ قال: «اشرب ولا تشرب مسكرًا» واحتجّوا بحديثين عن ابن مسعودٍ أحدهما من رواية الحجّاج بن أرطأة وقد ذكرنا ما في حديثه من العلّة
والحديث الآخر حدّثناه أحمد بن محمّدٍ، قال: حدّثنا إبراهيم بن مرزوقٍ، قال: حدّثنا محمّد بن كثيرٍ، قال: حدّثنا سفيان الثّوريّ، عن أبيه، عن لبيد بن شمّاسٍ، قال: قال عبد اللّه: «إنّ القوم ليجلسون على الشّراب وهو حلٌّ لهم فما يزالون حتّى يحّرم عليهم»
[قال أبو جعفرٍ: هذا الحديث لا يحتجّ به؛ لأنّ لبيد بن شمّاسٍ، وشريكٌ يقول: شمّاس بن لبيدٍ لا يعرف ولم يرو عنه أحدٌ إلّا سعيد بن مسروقٍ، ولا روي عنه إلّا هذا الحديث، والمجهول لا تقوم به حجّةٌ فلم تقم لهم حجّةٌ عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ولا عن أحدٍ من أصحابه
والحقّ في هذا ما قاله ابن المبارك
قرئ على أحمد بن شعيبٍ، عن أبي قدامة عبيد اللّه بن سعيدٍ، قال: حدّثنا أبو أسامة وهو حمّاد بن أسامة، قال: سمعت عبد اللّه بن المبارك، يقول: «ما وجدت الرّخصة في المسكر عن أحدٍ صحيحةً إلّا عن إبراهيم» قال أبو أسامة: وما رأيت أحدًا أطلب للعلم من عبد اللّه بن المبارك بالشّام ومصر والحجاز واليمن
قال أبو جعفرٍ: وأمّا الميسر فهو القمار
كما حدّثنا بكر بن سهلٍ، قال: حدّثنا أبو صالحٍ، قال: حدّثني معاوية بن صالحٍ، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: {يسألونك عن الخمر، والميسر} [البقرة: 219] قال: «كان أحدهم يقامر بأهله وماله فإذا قمر أخذ أهله وماله»
قال أبو جعفرٍ: حكى أهل العلم بكلام العرب أنّ الميسر كان القمار في الجزر خاصّةً قال أبو إسحاق: «فلمّا حرّم حرّم جميع القمار كما أنّه لمّا حرّمت الخمر حرّم كلّ ما أسكر كثيره»، وذكر الشّعبيّ «أنّ القمار كان حلالًا ثمّ حرّم» ويدلّ على ما قال: حديث ابن عبّاسٍ قال:
«لمّا أنزل اللّه جلّ وعزّ {ألم غلبت الرّوم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون} وكانت قريشٌ تحبّ أن تغلب فارس لأنّهم أهل أوثانٍ وكان المسلمون يحبّون أن تغلب الرّوم فخاطرهم أبو بكرٍ إلى أجلٍ»
قال أبو جعفرٍ: وقيل: لا يقال: كان هذا حلالًا ولكن يقال: مباحًا ثمّ نسخ بتحريمه، وتحريم الخمر
وفي هذه الآية قوله جلّ وعزّ {ويسألونك ماذا ينفقون} [البقرة: 219]
قال أبو جعفرٍ: وهذا آخر الآية في عدد المدنيّ الأوّل، والجواب في أوّل الآية التّاسعة عشرة ). [الناسخ والمنسوخ للنحاس: 1/454-630]
قالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النَّحَّاسُ (ت: 338 هـ):(باب ذكر الآية التّاسعة عشرةقال جلّ وعزّ {قل العفو} [البقرة: 219] فيه ثلاثة أقوالٍ
من العلماء من قال: إنّها منسوخةٌ بالزّكاة المفروضة، ومنهم من قال: هي الزّكاة، ومنهم من قال: هو شيءٌ أمر به غير الزّكاة لم ينسخ
أخبرنا أبو جعفرٍ قال: حدّثنا بكر بن سهلٍ، قال: حدّثنا أبو صالحٍ، قال: حدّثني معاوية بن صالحٍ، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ في قوله: {ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو} [البقرة: 219] قال: «هو ما لا يتبيّن وهذا قبل أن تفرض الصّدقة»
قال أبو جعفرٍ: وقال الضّحّاك: «نسخت الزّكاة كلّ صدقةٍ في القرآن»
[الناسخ والمنسوخ للنحاس: 1/631]
فهذا قول من قال: إنّها منسوخةٌ
وحدّثنا أبو جعفرٍ قال: حدّثنا عليّ بن الحسين، عن الحسن بن محمّدٍ، قال: حدّثنا شبابة، قال: حدّثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، في قوله جلّ وعزّ {ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو} [البقرة: 219] قال: «الصّدقة المفروضة»
قال أبو جعفرٍ: والزّكاة هي لعمري شيءٌ يسيرٌ من كثيرٍ إلّا أنّ هذا القول لا يعرف إلّا عن مجاهدٍ والقول الّذي قبله: إنّها منسوخةٌ بعيدٌ؛ لأنّهم إنّما سألوا
[الناسخ والمنسوخ للنحاس: 1/632]
عن شيءٍ فأجيبوا عنه بأنّهم سبيلهم أن ينفقوا ما سهل عليهم
والقول الثّالث عليه أكثر أهل التّفسير:
كما حدّثنا عليّ بن الحسين، عن الحسن بن محمّدٍ، قال: حدّثنا أبو معاوية، قال: حدّثنا ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن مقسمٍ، عن ابن عبّاسٍ، في قوله جلّ وعزّ {ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو} [البقرة: 219] قال: «ما فضل عن العيال»
قال أبو جعفرٍ: فهذا القول بيّنٌ وهو مشتقٌّ من عفا يعفو إذا كثر وفضل والمعنى واللّه أعلم: ويسألونك ماذا ينفقون قل: ينفقون ما
[الناسخ والمنسوخ للنحاس: 1/633]
سهل عليهم وفضل عن حاجتهم وأكثر التّابعين على هذا التّفسير
قال طاوسٌ: «العفو اليسير من كلّ شيءٍ»
وقال الحسن: {قل العفو} [البقرة: 219] «أي لا تجهد مالك حتّى تبقى تسأل النّاس»
وقال خالد بن أبي عمران: سألت القاسم، وسالمًا عن قول اللّه جلّ وعزّ {ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو} [البقرة: 219] فقالا: «هو فضل المال ما كان عن ظهر غنيًّ»
قال أبو جعفرٍ: وهذا من حسن العبارة في معنى الآية، وهو موافقٌ لقول رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم
كما حدّثنا أبو الحسين محمّد بن الحسن بن سماعة بالكوفة، قال: حدّثنا أبو نعيمٍ، قال: حدّثنا عمرٌو يعني ابن عثمان بن عبد اللّه بن موهبٍ، قال: سمعت موسى بن طلحة، يذكر عن حكيم بن حزامٍ، قال: قال رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم: ((خير الصّدقة عن ظهر غنًى واليد العليا خيرٌ من اليد السّفلى وابدأ بمن تعول))
[الناسخ والمنسوخ للنحاس: 1/634]
قال أبو جعفرٍ: فصار المعنى ويسألونك ماذا ينفقون قل: ما سهل عليكم ونظيره {خذ العفو وأمر بالعرف} [الأعراف: 199] أي خذ ما سهل من أخلاق النّاس ولا تتقصّ عليهم فهذا العفو من أخلاق النّاس وذاك العفو ممّا ينفقون
كما قال عبد اللّه بن الزّبير وقد تلا {خذ العفو} [الأعراف: 199] قال: «من أخلاق النّاس وايم اللّه لأستعملنّ ذاك فيهم»
وقال أخوه عروة وتلا {خذ العفو} [الأعراف: 199] قال: خذ ما ظهر من أعمالهم، وقولهم
[الناسخ والمنسوخ للنحاس: 1/635]

(قَالَ هِبَةُ اللهِ بنُ سَلامَةَ بنِ نَصْرٍ المُقْرِي (ت: 410 هـ): (الآية العشرون قوله تعالى {يسألونك عن الخمر والميسر} فالخمر كل ما خامر العقل وغطاه والميسر القمار كله وذلك أنالله تعالى حرم الخمر في أوطان خمسة فأولهن قوله تعالى {ومن ثمرات النخيل والأعناب تتّخذون منه سكرا ورزقًا حسنا} فمعناها وتتركون رزقا حسنا وهو تعيير من الله تعالى لهم فظاهرها تعدد النعم وليس كذلك فلمّا نزلت هذه الآية امتنع عن شربها قوم وبقي آخرون حتّى قدم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) المدينة فخرج حمزة بن عبد المطلب وقد شرب الخمر فلقيه رجل من الأنصار وبيده ناضح له والأنصاري يتمثّل ببيتين لكعب بن مالك في مدح قومه وهماجمعنا مع الإيواء نصرا وهجرة
فلم ير حيّ مثلنا في المعاشر = فأحياؤنا من خير أحياء من مضى
وأمواتنا في خير أهل المقابر
فقال له حمزة أولئك المهاجرون فقال له الأنصاريّ بل نحن الأنصار فتنازعا فجرد حمزة سيفه وعدا على الأنصار فلم يمكن الأنصاريّ أن يقوم له فترك ناضحه وهرب فظفر حمزة بالناضح وجعل يقطعه فجاء الأنصاريّ إلى النّبي (صلى الله عليه وسلم) مستعديا فأخبره بخبر حمزة وفعاله بالناضح فغرم النّبي (صلى الله عليه وسلم) له ناضحا فقال عمر بن الخطاب يا رسول الله أما ترى إلى ما نلقي من أمر الخمر إنّها مذهبة للعقل متلفة للمال فأنزل الله تعالى بالمدينة {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير}
وقد قرئ كثير والمعنيان متقاربان {ومنافع للنّاس} وعلى هذا معارضة لقائل يقول أين المنفعة منها وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن الله تعالى لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها فالجواب على ذلك أنهم كانوا يبتاعونها في الشّام بالثّمن اليسير ويبيعونها في الحجاز بالثّمن الثمين وكانت المنافع فيها من الأرباح وكذلك قال الله تعالى {قل فيهما إثمٌ كبيرٌ} فانتهى عن شربها قوم وبقي آخرون حتّى دعا محمّد ابن عبد الرّحمن بن عوف الزّهريّ قوما فأطعمهم وسقاهم حتّى سكروا فلمّا حضر وقت الصّلاة صلوا المغرب فقدموا رجلا منهم يصلّي بهم وكان أكثرهم قرآنًا يقال له ابن أبي جعونة حليف الأنصار فقرأ فاتحة الكتاب وقل يا أيّها الكافرون فمن أجل سكره خلط فقال في موضع {لا أعبد} أعبد وفي موضع {أعبد} لا أعبد فبلغ ذلك رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فشق عليه فأنزل الله تعالى {يا أيّها الّذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتّى تعلموا ما تقولون}
الآية فكان الرجل منهم يشرب الخمر بعد العشاء الأخيرة ثمّ يرقد ويقوم عند صلاة الفجر وقد صحا ثمّ كان يشربها إن شاء بعد صلاة الفجر فيصحوا منها عند صلاة الظّهر فإذا كان وقت الظّهر لم يشربها البتّة حتّى يصلّي العشاء الأخيرة حتّى دعا سعد بن أبي وقاص الزّهريّ وقد عمل وليمة على رأس جزور فدعا أناسًا من المهاجرين والأنصار فأكلوا وشربوا وسكروا وافتخروا فعمد رجل والأنصار فأخذ أحد لحيي الجزور فضرب به أنف سعد ففزره وجاء سعد مستعديا إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فأنزل الله تعالى {يا أيّها الّذين آمنوا إنّما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشّيطان فاجتنبوه أي فاتركوه لعلّكم تفلحون} وهذه الآية تدل على تحريم الخمر في القرآن لأن الله تعالى ذكره مع المحرمات واختلف المفسّرون في موضع التّحريم أهو ههنا أم غيره فقال الأكثرون ههنا وقال آخرون التّحريم عند قوله تعالى {فهل أنتم منتهون} فقالوا أنتهينا يا رسول الله والمعنى انتهوا كما قال في الفرقان {أتصبرون} والمعنى اتّقوا اصبروا وفي الشّعراء {قوم فرعون ألا يتّقون} والمعنى اتّقوا
وأكد تحريها بقوله تعالى {قل إنّما حرّم ربّي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحقٍّ} والإثم الخمر قال الشّاعر
شربت الإثم حتّى ضل عقلي = كذاك الإثم يذهب بالعقول
وقال آخر
تشرب الإثم بالكؤوس جهاراً = وترى المتك بيننا مستعارا
ويروي بالنّهار جهارا والمتك الأترج فهذا تحريم الخمر والنتقاله في مواطنه
الآية الحادية والعشرون قوله تعالى {ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو} ومعنى العفو الفضل من المال وذلك أن الله تعالى فرض عليهم قبل الزّكاة إذا كان للإنسان مال أن يمسك منه ألف درهم أو قيمتها من الذّهب ويتصدّق بما بقي وقال آخرون فرض عليهم أن يمسكوا ثلث أموالهم ويتصدقوا بما بقى وإن كان من أهل زراعة الأرض وعمارتها أمرهم أن يمسكوا ما يقيتهم حولا ويتصدقوا بما بقي وإن كان ممّن يلي عمله بيديه أمسك ما يقوته يومه ويتصدّق
بما بقى فشق ذلك عليهم حتّى أنزل الله تعالى الزّكاة ففرض في المال الذّهب والفضّة إذا حال عليه الحول ربع عشرة إذا بلغ من الذّهب عشرين دينارا أو من الورق مائتي درهم فيكون من كل عشرين دينارا نصف دينار ومن كل مائتي درهم خمسة دراهم فأسقط عنهم الفضل في ذلك فصارت آية الزّكاة وهي قوله تعالى {خذ من أموالهم صدقةً تطهرهم وتزكيهم بها} فبينت ألسنة أعيان الزّكاة من الذّهب والفضّة والنّخل والزّرع والماشية فصارت هذه الآية ناسخة لما قبلها
). [الناسخ والمنسوخ لابن سلامة: 31-59]
قَالَ مَكِّيُّ بنُ أبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ) : (قوله تعالى: {يسألونك عن الخمر والميسر} الآية:
أكثر العلماء على أنها ناسخةٌ لما كان مباحًا من شرب الخمر؛ لأنه تعالى أخبرنا أن في الخمر إثمًا، وأخبرنا أن الإثم محرمٌ بقوله تعالى: {قل إنّما حرّم ربّي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحقّ} [الأعراف: 33] فنصّ على أن الإثم محرمٌ، وأخبر أن في شرب الخمر إثمًا، فهي محرّمةٌ بالنصّ الظّاهر الذي لا إشكال فيه. وما حرم: كثيره وقليله حرام، كلحم الخنزير والميتة والدّم.
وسورة البقرة مدنيةٌ، فلا يعترض على ما فيها بما نزل في الأنعام المكيّة في قوله: {قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرمًا على طاعمٍ يطعمه إلاّ أن يكون} [الأنعام: 145] الآية -؛ لأن هذا تحريمٌ نزل بمكّة والخمر نزل تحريمها بالمدينة.
وزادنا الله تأكيدًا في تحريم الخمر بقوله: {فهل أنتم منتهون}!!! فهذا تهديدٌ ووعيدٌ يدلاّن على تأكيد التحريم للخمر. وزاد ذلك بيانًا قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((حرّمت الخمر بعينها والسّكر من غيرها)).
وأكّد الله ذلك وحقّقه بقوله تعالى: {فاجتنبوه لعلّكم تفلحون} [المائدة: 90]. و"لعلّ" من الله واجبةٌ، فضمان الفلاح في اجتنابها، فنظيره الخسران مع مواقعتها.
وكما أنه تعالى حرّم أكل لحم الخنزير، وقليله ككثيره حرام بإجماع كذلك يجب أن يكون الخمر والمسكر من غيرها في التحريم قليلها ككثيرها في التحريم، وزاد ذلك بيانًا قوله عليه السلام: ((ما أسكر كثيره فقليله حرام)).
قال ابن جبير: لما نزلت: {قل فيهما إثمٌ كبيرٌ ومنافع للنّاس} [البقرة: 219] كره الخمر قومٌ للإثم، وشربها قومٌ للمنافع، حتى نزل: {لا تقربوا الصّلاة وأنتم سكارى} [النساء: 43] فتركوها عند الصّلاة حتى نزلت: {فاجتنبوه لعلّكم تفلحون} [المائدة: 90] فحرّمت.
فهذا يدلّ على أن آية البقرة منسوخةٌ بآية المائدة، والمائدة نزلت بعد البقرة بلا شك.
وقوله تعالى: {ومنافع للناس}: منسوخٌ إباحة منافعها بنسخ الخمر. والمنافع: هي ما كانوا ينحرون على الميسر من الجزور للضّعفاء ولأنفسهم، وذلك قمار، حرّمه الله لأنه من أكل المال بالباطل المحرّم بنصّ القرآن.
وقال ابن حبيب: المنافع التي في الخمر: هي أنّ الرّجل كان إذا أصابته مصيبةٌ تكربه وتغمّه، سقي الخمر فذهب عنه ذلك الغمّ.
وقيل: المنافع في الخمر: ما يصيبون من لذّتها وسرورها عند شربها.
قوله تعالى: {ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو} [البقرة: 219].
قال ابن عباس: هي منسوخةٌ بفرض الزكاة.
وقيل: هي محكمةٌ غير منسوخةٍ والمراد بالعفو: الزّكاة بعينها.
وقيل: هي محكمةٌ مخصوصةٌ في التطوّع. والعفو - عند ابن عباس -: القليل الذي لا يتبين خروجه من المال.
وقال طاووس: العفو: اليسير من كلّ شيء.
وقال الحسن وعطاء: العفو: ما لا يكون إسرافًا ولا إقتارًا.
وقال مجاهد: العفو: الصدقة عن ظهر غنى.
وقال الربيع: العفو: ما طاب من المال.
وقال قتادة: العفو أفضل المال وأطيبه.
).[الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه:123- 200]
قَالَ أبو الفَرَجِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَلِيٍّ ابْنُ الجَوْزِيِّ (ت: 597هـ): (ذكر الآية الخامسة والعشرين: قوله تعالى: {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثمٌ كبيرٌ ومنافع للنّاس}.
اختلف العلماء في هذه الآية: فقال قومٌ: إنّها تضمّنت ذمّ الخمر (لا تحريمها) وهو مذهب ابن عبّاسٍ وسعيد بن جبيرٍ، ومجاهدٍ، وقتادة.
وقال آخرون: بل تضمّنت تحريمها، وهو مذهب الحسن وعطاءٍ.
فأمّا قوله تعالى: {وإثمهما أكبر من نفعهما} فيتجاذبه أرباب القولين، فأمّا أصحاب القول الأوّل فإنّهم قالوا إثمهما بعد التّحريم أكبر من نفعهما قبله.
وقال أصحاب
القول الثّاني: إثمهما قبل التّحريم أكبر من نفعهما حينئذٍ أيضًا لأنّ الإثم الحادث عن شربها من ترك الصّلاة والإفساد الواقع عن السّكر لا يوازي منفعتها الحاصلة من لذّةٍ أو بيعٍ ولمّا كان الأمر محتملاً للتأويل، قال عمربن الخطّاب بعد نزول هذه الآية: اللّهمّ بيّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا، وعلى القول الأوّل يتوجه النسخ بقوله تعالى فا[جتبوه].
ذكر الآية السّادسة والعشرين: قوله تعالى: {ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو}
فالمراد بهذا الإنفاق ثلاثة أأقوال:
أحدها: أنّه الصّدقة والعفو ما يفضل عن الإنسان.
أخبرنا عبد الوهّاب الحافظ، قال: أبنا أبو الفضل بن خيرون وأبو طاهرٍ الباقلاويّ، قالا: أبنا أبو عليّ بن شاذان، قال: أبنا أحمد بن كاملٍ قال: أبنا محمّد بن (إسماعيل بن) سعدٍ قال حدّثني أبي، قال حدّثني عمّي، قال: حدّثني أبي عن جدّي، عن ابن عبّاسٍ رضي اللّه عنهما (قل العفوا) قال ما أتوك به من شيءٍ قليلٍ أو كثيرٍ فاقبله منهم لم يفرض فيه فريضةً معلومةً، ثمّ نزلت بعد ذلك الفرائض مسمّاةً، وقد قيل: إنّ المراد بهذه الصّدقة الزّكاة.
أخبرنا محمّد بن عبد اللّه بن حبيبٍ، قال: أبنا عليّ بن الفضل، قال: أبنا عبد الصّمد، قال: أبنا عبد اللّه بن حمّوية، قال: أبنا إبراهيم بن خريم، قال: أبنا عبد الحميد، قال: بنا شبابة عن ورقاء عن ابن أبي نجيحٍ عن مجاهدٍ، قال: العفو: الصّدقة المفروضة.
والقول الثّاني: [ أنّه كان فرض عليهم قبل الزّكاة أن ينفقوا ما يفضل عنهم، فكان أهل (المكاسب) يأخذون قدر ما يكفيهم من نصيبهم، ويتصدّقون بالباقي، وأهل الذّهب والفضّة يأخذون قدر ما يكفيهم في تجار = تهم ويتصدّقون = بالباقي، ذكره بعض المفسّرين.
والثّالث: أنّها نفقة التّطوّع، وذلك أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لمّا حثّهم على الصّدقة (ورغّبهم بها قالوا: ماذا ننفق؟ وعلى من ننفق؟ فنزلت هذه الآية).
قال مقاتل بن حيان في قوله: {ويسألونك ماذا ينفقون} قال: هي النّفقة في التّطوّع، فكان الرّجل يمسك من ماله ما يكفيه سنةً ويتصدّق بسائره، وإن كان ممن يعمل بيديه أمسك ما يكفيه يومًا ويتصدّق بسائره وإن كان من أصحاب الحقل والزّرع أمسك ما يكفيه سنة وتصدق (بسائره) فاشتدّ ذلك على المسلمين فنسختها آية الزّكاة.
قلت: فعلى هذا القول، معنى قوله: اشتدّ ذلك على المسلمين، أي: صعب ما ألزموا نفوسهم به، فإن قلنا إن هذه النّفقة نافلةٌ أو هي الزكاة فالآية محكمةٌ، وإن قلنا إنّها نفقةٌ فرضت قبل الزّكاة فهي منسوخة بآية الزكاة والأظهر أنها في الإنفاق في المندوب إليه.
). [نواسخ القرآن:125- 236]
قالَ أبو الفَرَجِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَلِيٍّ ابْنِ الْجَوْزِيِّ (ت:597هـ): (الثامنة عشرة: {ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو} قيل المراد بهذا الإنفاق الزكاة وقيل صدقة التطوع فالآية محكمة وزعم آخرون أنه إنفاق ما يفضل عن حاجة الإنسان وكان هذا واجبا فنسخ بالزكاة.). [المصَفَّى بأكُفِّ أهلِ الرسوخ: 14-21]
قالَ عَلَمُ الدِّينِ عليُّ بنُ محمَّدٍ السَّخَاوِيُّ (ت:643هـ): (وقوله عز وجل: {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما} الآية [البقرة: 219].
قال بعض مؤلفي الناسخ والمنسوخ:
أكثر العلماء على أنها ناسخة لما كان مباحا من شرب الخمر، قال: لأن الله تعالى أخبرنا أن في الخمر إثما، وأخبرنا أن الإثم محرم بقوله عز وجل: {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم} الآية [الأعراف: 33] قال: فنص على أن الإثم محرم، وأخبر أن في شرب الخمر إثما فهي محرمة بالنص الظاهر الذي لا إشكال فيه.
قال: وما حرم كثيره فقليله حرام كلحم الميتة والخنزير والدم، وسورة البقرة مدنية فلا يعترض على ما فيها بما في "الأنعام" المكية في قوله عز وجل: {قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه} الآية [الأنعام: 145] لأن هذا التحريم نزل بمكة، والخمر نزل تحريمها بالمدينة، وزادنا الله في تأكيد تحريم الخمر بقوله: {فهل أنتم منتهون} الآية [المائدة: 91]، فهذا تهديد ووعيد يدلان على تأكيد تحريم الخمر، وزاد ذلك بيانا قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((حرمت الخمر بعينها والمسكر من غيرها))، وأكد الله تعالى ذلك وحققه بقوله: {فاجتنبوه لعلكم تفلحون} الآية [المائدة: 90]، و(لعل) من الله واجبة، فضمن الفلاح مع اجتنابها، فنظيره الخسران مع مواقعتها وكما أنه تعالى حرم أكل الخنزير، وقليله ككثيره بإجماع، كذلك يجب أن يكون الخمر والميسر من غيرها، فقلتهما ككثرتهما في التحريم، وزاد لذلك بيانا ((ما أسكر كثيره فقليله حرام)).
قال وقال ابن جبير: لما نزل: {قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس} الآية [البقرة: 219] كره الخمر قوم للإثم، وشربها قوم للمنافع حتى نزل: {لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى} الآية [النساء: 43] فتركوها عند الصلاة حتى نزل: {فاجتنبوه لعلكم تفلحون} الآية [المائدة: 90] فحرمت بهذا، فهذا يدل على أن آية البقرة منسوخة بآية المائدة، والمائدة نزلت بعد البقرة بلا شك. وهذا سياق قول مكي بن أبي طالب في كتابه المسمى بـ "الموضح في الناسخ والمنسوخ".
وأقول مستعينا بالله: قوله إنها ناسخة لما كان مباحا من شرب الخمر يلزم منه أن الله عز وجل أنزل إباحتها ثم نسخ ذلك، ومتى أحل الله عز وجل شرب الخمر!، وإنما كان مسكوتا عنهم في شربها، جارون في ذلك على عادتهم ثم نزل التحريم، كما سكت عنهم في غيرها من المحرمات إلى وقت التحريم. وهذه الآية وما ذكر من الآيات الكل في التحريم كما جاء تحريم الميتة في غير آية.
وقوله: إن الله عز وجل أخبرنا أن في الخمر إثما، وأخبرنا أن الإثم محرما إلى قوله: فهي محرمة بالنص الظاهر الذي لا إشكال فيه – كلام لا وجه له؛ لأن الإثم هو الذنب، وإذا كان الذنب كبيرا أو كثيرا في ارتكاب شيء لم يجز ارتكابه، فكيف يسمعون قول الله عز وجل: {قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما} الآية [البقرة: 219] ثم يقدمون عليها مع التصريح بالخسران إذ كان الإثم أكبر من النفع، بل هذا كاف في التحريم.
وقوله: فأخبر أن في شرب الخمر إثما، ونص على أن الإثم محرم بقوله: {والإثم والبغي} الآية [الأعراف: 33] لا حاصل له؛ لأنه إن أراد أن الخمر هي الإثم، فكيف يقول: فنص على أن الإثم محرم، وأخبر أن في شرب الخمر إثما، فكيف تكون هي الإثم المحرم على هذا، وإن أراد بالإثم الذنب لم يحتج إلى شيء آخر، وإنما معنى آية "الأعراف": إنما حرم ربي الفواحش وما فيه الإثم، وكلامه كله فاسد إلى آخره.
وقوله: (لعل) من الله عز وجل واجبة ليس بصحيح، فقد قال عز وجل: {فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى} الآية [طه: 44]، وقد ألانا له القول {فكذب وعصى * ثم أدبر يسعى * فحشر فنادى * فقال أنا ربكم الأعلى} الآية [النازعات: 24] وإنما معنى قوله تعالى: {لعلكم تفلحون} فاجتنبوه راجين الفلاح، أو: فاجتنبوه وانووا إرادة الفلاح.
وأما قول ابن جبير: كره الخمر قوم للإثم، وشربها قوم للمنفعة وأي منفعة تبقى مع أن الإثم أكبر منها، فكيف يقدم مقدم على الانتفاع بشيء فيه وبال أكثر وأكبر من الانتفاع به، وأطرف من هذا قوله: تركوها عند الصلاة.
فاعلم أن الآية محكمة، غير ناسخة ولا منسوخة، وهي مصرحة بتحريم الخمر.
وأما قول الله عز وجل: {تتخذون منه سكرا} الآية [النحل: 67] فإن قلنا: السكر: الطعم، كما قال: جعلت عيب الأكرمين سكرا
فلا كلام، وإن قلنا: إن السكر الخمر، فليس فيه دليل على الإباحة؛ لأنه عز وجل امتن عليهم بما ذكره من ثمرات النخيل والأعناب، ثم قال: تتخذون من المذكور سكرا ورزقا حسنا فنبه بقوله عز وجل: {ورزقا حسنا} الآية [النحل: 67] على أن السكر ليس كذلك، وأشار فيه إلى ذم الخمر إن كان المراد بالسكر الخمر، وإن كان المراد بالسكر: الطعم، فهو سكر ورزق حسن، أي: تتخذون منه طعما تأكلونه رطبا، ورزقا حسنا، يعني التمر والزبيب، وزعموا أن قوله عز وجل: {منافع للناس} الآية [البقرة: 219] منسوخ بنسخ إباحة الخمر، وهذا ما أدري ما يقال فيه.
وقالوا في قوله عز وجل: {قل العفو} الآية [البقرة: 219] هي منسوخة بفرض الزكاة، وحكوا ذلك عن ابن عباس.
والعفو: القليل الذي لا يظهر من المال نقصه.
وقال طاووس: هو اليسير من كل شيء.
وقال الحسن وعطاء: العفو ما لا يكون إسرافا ولا إقتارا.
وقال مجاهد: العفو: الصدقة عن ظهر غنى.
وقال الربيع: العفو: ما طاب من المال، وكذلك قال قتادة، وقال: قوم كانوا قبل فرض الزكاة قد فرض عليهم: من كان له مال أن يمسك لنفسه منه ألف درهم أو قيمة ذلك من الذهب ويتصدق بالباقي، وإن كانوا من أهل الزراعة أمسكوا ما يقيمهم حولا وتصدقوا بما بقي، ومن لم يكن له إلا العمل بيده أمسك ما يقوته يومه وتصدق بما بقي، فشق ذلك عليهم، فأنزل الله عز وجل فرض الزكاة.
قلت: فلتكن آية الزكاة إذن ناسخة لا منسوخة؛ لأنها موافقة لقوله عز وجل: {قل العفو} الآية [البقرة: 219]؛ لأنها نقيض ما كانوا فيه من الجهد واستفراغ الوسع، وهذه حقيقة العفو، كما قالوا: العفو: الأرض السهلة، والآية محكمة، فإن أريد بها الزكاة فذاك، وإن أريد التطوع فذاك.
). [جمال القراء: 1/249-271]

روابط ذات صلة:
- أقوال المفسرين


رد مع اقتباس
  #9  
قديم 26 جمادى الآخرة 1434هـ/6-05-2013م, 04:00 PM
أم صفية آل حسن أم صفية آل حسن غير متواجد حالياً
عضو جديد
 
تاريخ التسجيل: Apr 2013
المشاركات: 2,594
افتراضي

قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُ‌ونَ أَزْوَاجًا يَتَرَ‌بَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْ‌بَعَةَ أَشْهُرٍ‌ وَعَشْرً‌ا ۖ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُ‌وفِ ۗ وَاللَّـهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ‌(234)}


قالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النَّحَّاسُ (ت: 338 هـ): (قال جلّ وعزّ {والّذين يتوفّون منكم ويذرون أزواجًا يتربّصن بأنفسهنّ أربعة أشهرٍ وعشرًا} [البقرة: 234] الآية
أكثر العلماء على أنّ هذه الآية ناسخةٌ لقوله جلّ وعزّ: {والّذين يتوفّون منكم ويذرون أزواجًا وصيّةً لأزواجهم متاعًا إلى الحول غير إخراجٍ} [البقرة: 240] لأنّ النّاس أقاموا برهةً من الإسلام إذا توفّي الرّجل، وخلّف امرأته حاملًا أوصى لها زوجها بنفقة سنةٍ وبالسّكنى ما لم تخرج فتتزوّج ثمّ نسخ ذلك بأربعة أشهرٍ وعشرٍ وبالميراث
واختلف الّذين قالوا هذا القول قال بعضهم نسخ من الأربعة الأشهر والعشر المتوفّى عنها زوجها وهي حاملٌ، فانقضاء عدّتها إذا ولدت وقال قومٌ: آخر الأجلين
وقال قومٌ هو عامٌّ بمعنى الخاصّ أي {والّذين يتوفّون منكم ويذرون أزواجًا} [البقرة: 234] لسن حوامل يتربّصن بأنفسهنّ أربعة أشهرٍ وعشرًا
وقال قومٌ ليس في هذا نسخٌ وإنّما هو نقصانٌ من الحول وقال قومٌ هما محكمتان واستدلّوا بأنّها منهيّةٌ عن المبيت في غير منزل زوجها
قال أبو جعفرٍ: ونحن نشرح هذه الأقوال ونذكر قائلي من نعرف منهم
[الناسخ والمنسوخ للنحاس: 2/70]
فممّن قال: إنّ الآية ناسخةٌ وصحّ ذلك عنه عثمان بن عفّان وعبد اللّه بن الزّبير حتى قال عبد اللّه بن الزّبير:
قلت لعثمان: لم أثبت في المصحف {والّذين يتوفّون منكم ويذرون أزواجًا وصيّةً لأزواجهم متاعًا إلى الحول غير إخراجٍ} [البقرة: 240] وقد نسختها {والّذين يتوفّون منكم ويذرون أزواجًا يتربّصن بأنفسهنّ أربعة أشهرٍ وعشرًا} [البقرة: 234] فقال يا ابن أخي إنّي لا أغيّر شيئًا عن مكانه
فبيّن عثمان رضي اللّه عنه أنّه إنّما أثبت في المصحف ما أخذه عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأخذه النّبيّ عليه السّلام عن جبريل على ذلك التّأليف لم يغيّر منه شيئًا
وأخبرنا أبو جعفرٍ، قال حدّثنا أحمد بن محمّد بن نافعٍ، قال حدّثنا سلمة، قال حدّثنا عبد الرّزّاق، قال أخبرنا معمرٌ، عن قتادة، {والّذين يتوفّون منكم ويذرون أزواجًا وصيّةً لأزواجهم} [البقرة: 240] قال: " نسخها {والّذين يتوفّون منكم ويذرون أزواجًا يتربّصن بأنفسهنّ أربعة أشهرٍ وعشرًا} [البقرة: 234] قال {متاعًا إلى الحول} [البقرة: 240] غير إخراجٍ نسختها الرّبع أو الثّمن ونسخ الحول العدّة أربعة أشهرٍ وعشرٌ "
[الناسخ والمنسوخ للنحاس: 2/71]
قال أبو جعفرٍ وحدّثنا بكر بن سهلٍ، قال حدّثنا أبو صالحٍ، قال حدّثني معاوية بن صالحٍ، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ، قال: وقوله عزّ وجلّ: {والّذين يتوفّون منكم ويذرون أزواجًا وصيّةً لأزواجهم} [البقرة: 240] الآية " كانت المرأة إذا مات زوجها وتركها اعتدّت منه سنةً وينفق عليها من ماله ثمّ أنزل اللّه جلّ وعزّ بعد ذلك {والّذين يتوفّون منكم ويذرون أزواجًا يتربّصن بأنفسهنّ أربعة أشهرٍ وعشرًا} [البقرة: 234] إلّا أن تكون حاملًا فانقضاء عدّتها أن تضع ما في بطنها، ونزل {ولهنّ الرّبع ممّا تركتم إن لم يكن لكم ولدٌ فإن كان لكم ولدٌ فلهنّ الثّمن ممّا تركتم} [النساء: 12] فبيّن اللّه جلّ وعزّ الميراث وترك النّفقة والوصيّة "
قال أبو جعفرٍ: وأمّا قول من قال إنّه عامٌّ بمعنى الخاصّ فقولٌ حسنٌ لأنّه قد تبيّن ذلك بالقرآن والحديث وسنذكر ذينك
وأمّا قول من قال نسخ منها الحوامل فيحتجّ بقول ابن مسعودٍ:
[الناسخ والمنسوخ للنحاس: 2/72]
من شاء لاعنته أنّ سورة النّساء القصرى نزلت بعد الطّولى
يعني أنّ قوله جلّ وعزّ {وأولات الأحمال أجلهنّ أن يضعن حملهنّ} [الطلاق: 4] نزلت بعد الّتي في البقرة
وهذا القول أعنّي أنّ {وأولات الأحمال} [الطلاق: 4] ناسخةٌ للّتي في البقرة أو مبيّنةٌ لها قول أكثر الصّحابة والتّابعين والفقهاء فمنهم عمر، وابن عمر، وابن
[الناسخ والمنسوخ للنحاس: 2/73]
مسعودٍ وأبو مسعودٍ البدريّ، وأبو هريرة وسعيد بن المسيّب، والزّهريّ، ومالكٌ، والأوزاعيّ، والثّوريّ وأصحاب الرّأي، والشّافعيّ وأبو ثورٍ
[الناسخ والمنسوخ للنحاس: 2/74]
وأمّا قول من قال آخر الأجلين فحجّته أنّه جمع بين الآيتين، وممّن قال به بلا اختلافٍ عنه عليّ بن أبي طالبٍ رضي اللّه عنه وكان بينه وبين الصّحابة فيه منازعةٌ شديدةٌ من أجل الخلاف فيه
كما حدّثنا أحمد بن محمّدٍ الأزدي، قال حدّثنا إبراهيم بن مرزوق، قال حدّثنا أبو داود الطّيالسيّ، عن شعبة، قال حدّثنا عبيد بن الحسن، قال حدّثنا ابن معقلٍ، قال: " شهدت عليّ بن أبي طالبٍ، رضي اللّه عنه وقد سئل عن رجلٍ توفّي وامرأته حاملٌ فقال: تعتدّ آخر الأجلين فقيل له يا أمير المؤمنين إنّ أبا مسعودٍ البدريّ يقول لتبتغ لنفسها فقال: إنّ فرّوخًا لا يعلم شيئًا فبلغ ذلك أبا مسعودٍ فقال: بلى وأنا أعلم " وذكر الحديث
[الناسخ والمنسوخ للنحاس: 2/75]
وممّن صحّ عنه أنّه قال تعتدّ آخر الأجلين عبد اللّه بن عبّاسٍ
قال أبو جعفرٍ: وقد ذكرنا من قال بغير هذا من الصّحابة حتّى قال عمر:
إن وضعت حملها وزوجها على السّرير حلّت
وعلى القول الآخر لا تحلّ حتّى تمضي أربعة أشهرٍ وعشرًا ثمّ جاء التّوقيف عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بأنّها تحلّ إذا توفّي زوجها وهي حاملٌ ثمّ ولدت قبل انقضاء أربعة أشهرٍ وعشرٍ، وصحّ ذلك عنه
كما حدّثنا بكر بن سهلٍ، قال حدّثنا عبد اللّه بن يوسف، قال أخبرنا مالكٌ، عن يحيى بن سعيدٍ، عن سليمان بن يسارٍ، أنّ عبد اللّه بن عبّاسٍ، وأبا سلمة بن عبد الرّحمن سئلا عن المرأة يتوفّى عنها زوجها وهي حاملٌ، فقال ابن عبّاسٍ: «آخر الأجلين» وقال أبو سلمة: «إذا ولدت فقد حلّت» فقال أبو هريرة " أنا مع ابن أخي. يعني أبا سلمة فأرسلوا كريبًا مولى ابن عبّاسٍ إلى أمّ سلمة زوج النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فجاء فأخبرهم أنّ أمّ سلمة قالت ولدت سبيعة الأسلميّة بعد وفاة زوجها بليالٍ فذكرت ذلك لرسول صلّى الله عليه وسلّم اللّه فقال: «قد حللت».
[الناسخ والمنسوخ للنحاس: 2/76]
وقال الحسن، والشّعبيّ: «لا تتزوّج حتّى تخرج من دم النّفاس» وكذا قال حمّاد بن أبي سليمان
قال أبو جعفرٍ: وإذا قال الرّسول صلّى الله عليه وسلّم شيئًا لم يلتفت إلى قولٍ غيره ولا سيّما ونصّ القرآن {وأولات الأحمال أجلهنّ أن يضعن حملهنّ} [الطلاق: 4]
وقد أجمع الجميع بلا خلافٍ بينهم أنّ رجلًا لو توفّي وترك امرأته حاملًا فانقضت أربعة أشهرٍ وعشرٌ أنّها لا تحلّ حتّى تلد فعلم أنّ المقصود الولادة
وأمّا قول من قال: ليس في هذا نسخٌ وإنّما هو نقصانٌ من الحول فحجّته أنّ هذا مثل صلاة المسافر لما نقصت من الأربع إلى اثنتين لم يكن هذا نسخًا وهذا غلطٌ بيّنٌ لأنّه إذا كان حكمها أن تعتدّ سنةً إذا لم تخرج فإن خرجت لم تمنع ثمّ أزيل هذا ولزمتها العدّة أربعة أشهرٍ وعشرٌ فهذا هو
[الناسخ والمنسوخ للنحاس: 2/77]
النّسخ وليس صلاة المسافر من هذا في شيءٍ
والدّليل على ذلك أنّ عائشة رضي اللّه عنها قالت:
فرضت الصّلاة ركعتين ركعتين فزيد في صلاة الحضر وأقرّت صلاة المسافر بحالها
وهكذا يقول جماعةٌ من الفقهاء إنّ فرض المسافر ركعتان
[الناسخ والمنسوخ للنحاس: 2/78]
قال أبو جعفرٍ: وقد عورضوا في هذا بأنّ عائشة رضي اللّه عنها كانت تتمّ في السّفر فكيف تتمّ في السّفر وهي تقول فرض المسافر ركعتان فهذا متناقضٌ فأجابوا عن ذلك بأنّ هذا ليس بمتناقضٍ لأنّه قد صحّ عنها ما ذكرناه وهي أمّ المؤمنين فحيث حلّت فهي مع أولادها فليست بمسافرةٍ وحكمها حكم من كان حاضرًا فلذلك كانت تتمّ الصّلاة إن صحّ عنها الإتمام
[الناسخ والمنسوخ للنحاس: 2/79]
وممّا يدلّك على أنّ الآية منسوخةٌ
إنّ بكر بن سهلٍ حدّثنا، قال: حدّثنا عبد اللّه بن يوسف، قال أخبرنا مالكٌ، عن عبد اللّه بن أبي بكر بن محمّد بن عمرو بن حزمٍ، عن حميد بن نافعٍ، عن زينب بنت أبي سلمة، أنّها أخبرته هذه الأحاديث الثّلاثة قالت زينب: «دخلت على أمّ حبيبة زوج النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم حين توفّي أبوها أبو سفيان بن حربٍ فدعت أمّ حبيبة، بطيبٍ فيه صفرةٌ خلوقٌ أو غيره فدهنت منه جاريةً ثمّ مسّت بعارضيها ثمّ قالت واللّه مالي بالطّيب من حاجةٍ غير أنّي سمعت رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم يقول» لا يحلّ لامرأةٍ تؤمن باللّه واليوم الآخر أن تحدّ على ميّتٍ فوق ثلاث ليالٍ إلّا على زوجٍ أربعة أشهرٍ وعشرًا "
قالت زينب: " ودخلت على زينب بنت جحشٍ، حين توفّي أخوها فدعت بطيبٍ فمسّت منه ثمّ قالت: أما واللّه ما لي بالطّيب من حاجةٍ غير أنّي سمعت رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم على المنبر يقول: ((لا يحلّ لامرأةٍ تؤمن باللّه واليوم الآخر أن تحدّ على ميّتٍ فوق ثلاث ليالٍ إلّا على زوجٍ أربعة أشهرٍ وعشرًا))
قالت زينب وسمعت أمّ سلمة، تقول: " جاءت امرأةٌ إلى رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم فقالت يا رسول اللّه إنّ ابنتي توفّي عنها زوجها قد
[الناسخ والمنسوخ للنحاس: 2/80]
اشتكت عينيها أفأكحلها؟ فقال رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم: «لا» مرّتين أو ثلاثًا، كلّ ذلك يقول: «لا» ثمّ قال رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم: «إنّما هي أربعة أشهرٍ وعشرٌ، وقد كانت إحداكنّ في الجاهليّة ترمي بالبعرة على رأس الحول» قال حميدٌ: فقلت لزينب وما ترمي بالبعرة على رأس الحول قال حميدٌ: فقالت زينب: «كانت المرأة إذا توفّي عنها زوجها دخلت حفشًا ولبست شرّ ثيابها ولم تمسّ طيّبًا ولا شيئًا حتّى تمرّ بها سنةٌ ثمّ تؤتى بدابّةٍ حمارٍ أو شاةٍ أو طائرٍ فتفتضّ به فقلّ ما تفتضّ بشيءٍ إلّا مات ثمّ تخرج فتعطى بعرةً فترمي بها ثمّ تراجع بعد ما شاءت من طيبٍ أو غيره»
[الناسخ والمنسوخ للنحاس: 2/81]
وفي هذا الحديث من الفقه والمعاني واللّغة شيءٌ كثيرٌ فمن ذلك إيجاب الإحداد والامتناع من الزّينة والكحل على المتوفّى عنها زوجها على خلاف ما روى إسماعيل ابن عليّة عن يونس عن الحسن:
أنّه كان لا يرى بأسًا بالزّينة للمتوفّى عنها زوجها ولا يرى الإحداد شيئًا
وفيه قوله صلّى الله عليه وسلّم: ((لا يحلّ لامرأةٍ تؤمن باللّه واليوم الآخر أن تحدّ على ميّتٍ فوق ثلاثٍ إلّا على زوجٍ))فأوجب هذا على كلّ امرأةٍ بالغةٍ كانت أو غير بالغةٍ مدخولًا بها أو غير مدخولٍ بها أمةً كانت تحت حرٍّ أو حرّةٍ كانت تحت عبدٍ أو مطلقةٍ واحدةٍ أو اثنتين لأنّها بمنزلة من لم يطلّق ودلّ هذا على أنّه لا إحداد على المبتوتة وإنّما هو على المتوفّى عنها زوجها ودلّ
[الناسخ والمنسوخ للنحاس: 2/82]
ظاهر الحديث على أنّه لا إحداد على كافرةٍ لقول النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ((تؤمن باللّه واليوم الآخر)) ودلّ أيضًا ظاهره أنّه لا إحداد على الحامل لذكره عليه السّلام أربعة أشهرٍ وعشرًا
فأمّا معنى ترمي بالبعرة فقال فيه أهل اللّغة والعلماء بمعاني العرب: إنّهنّ كنّ يفعلن ذلك ليرينّ أنّ مقامهنّ حولًا أهون عليهنّ من تلك البعرة المرميّة
وفيه من اللّغة والغريب قوله تفتضّ وقد رواه بعض الفقهاء الجلّة تقبص وقال معناه تجعل أصابعها على الطّائر كما قرئ: فقبصت قبصةً، فخالفه أصحاب مالكٍ أجمعون فقالوا: تفتضّ وهو على تفسير مالكٍ كذا يجب
كما حدّثنا بكر بن سهلٍ، قال: حدّثنا عبد اللّه بن يوسف، قال: سمعت مالكًا، وسئل ما تفتضّ به قال: «تمسح به جلدها»
قال أبو جعفرٍ: هذا مشتقٌّ من انفضّ القوم إذا تفرّقوا وزال بعضهم عن
[الناسخ والمنسوخ للنحاس: 2/83]
بعضٍ قال جلّ وعزّ: {حتّى ينفضّوا} [المنافقون: 7] فمعنى تفتضّ به تزول به لأنّها لا تزول من مكانها إلّا بهذا فقد صارت تفتضّ به
وأمّا قول من قال الآيتان محكمتان واحتجّ بأنّ على المتوفّى عنها
[الناسخ والمنسوخ للنحاس: 2/84]
زوجها ألّا تبيت إلّا في منزلها فليس بشيءٍ؛ لأنّه لو كان كما قال وجب عليها أن تقيم سنةً كما في الآية المنسوخة وأيضًا فليس مقامها في منزلها إجماعًا بل قد اختلف فيه الصّدر الأوّل ومن بعدهم
فمن قال إنّ عليها المقام عمر، وعثمان، وأمّ سلمة، وابن مسعودٍ، وابن عمر
[الناسخ والمنسوخ للنحاس: 2/85]
وتابعهم على ذلك أكثر فقهاء الأمصار فقال مالكٌ: «تزور وتقيم بعد العشاء إلى أن يهدأ النّاس ولا تبيت إلّا في منزلها»
وهذا قول اللّيث، وسفيان الثّوريّ وأبي حنيفة، والشّافعيّ وقال محمّد بن الحسن «لا تخرج المتوفّى عنها زوجها ولا المبتوتة من منزلها البتّة»
وممّن قال غير هذا وقال لها أن تخرج وتحجّ إن شاءت ولا تقيم في منزلها عليّ بن أبي طالبٍ رضي اللّه عنه، وعلى هذا صحّ عنه أنّه أخرج ابنته أمّ كلثومٍ زوجة عمر بن الخطّاب لمّا قتل عمر فضمّها إلى منزله قبل أن
[الناسخ والمنسوخ للنحاس: 2/86]
تنقضي عدّتها وصحّ عن ابن عبّاسٍ مثل هذا
روى الثّوريّ، عن ابن جريجٍ، عن عطاءٍ، عن ابن عبّاسٍ، قال: " ليس على المتوفّى عنها زوجها ولا على المبتوتة إقامةٌ في بيتها إنّما قال اللّه جلّ وعزّ {يتربّصن بأنفسهنّ أربعة أشهرٍ وعشرًا} [البقرة: 234] فإنّما عليها العدّة وليس عليها مقامٌ ولا نفقة لها
«وممّن قال بهذا القول أعني أنّه ليس على المتوفّى عنها زوجها إقامةٌ عائشة وجابر بن عبد اللّه هؤلاء أربعةٌ من الصّحابة لم يوجبوا الإقامة
[الناسخ والمنسوخ للنحاس: 2/87]
ومنهم من احتجّ بالآية والحجّة لمخالفهم قوله جلّ وعزّ يتربّصن بأنفسهنّ فعليهنّ أن يحبسن أنفسهنّ عن كلّ الأشياء إلّا ما خرج بدليلٍ
ومن الحجّة أيضًا توقيف الرّسول صلّى الله عليه وسلّم وقوله للفريعة
حين توفّي عنها زوجها» أقيمي في منزلك حتّى يبلغ الكتاب أجله " وقد قال قومٌ: إنّ قوله جلّ وعزّ {والّذين يتوفّون منكم ويذرون أزواجًا وصيّةً لأزواجهم} [البقرة: 240] منسوخٌ بالحديث:
[الناسخ والمنسوخ للنحاس: 2/88]
((لا وصيّة لوارثٍ))
وأكثر العلماء على أنّها منسوخةٌ بالآية الّتي ذكرناها
[الناسخ والمنسوخ للنحاس: 2/89]
وممّا يبيّن لك أنّها منسوخةٌ اختلاف العلماء في النّفقة على المتوفّى عنها زوجها وهي حاملٌ فأكثر العلماء يقول لا نفقة لها ولا سكنى فمن الصّحابة عبد اللّه بن عبّاسٍ وابن الزّبير، وجابرٌ ومن التّابعين سعيد بن المسيّب، والحسن، وعطاء بن أبي رباحٍ وممّن دونهم مالك بن أنسٍ وأبو حنيفة وزفر وأبو يوسف ومحمّدٌ وهو الصّحيح من قول الشّافعيّ.
وممّن قال للمتوفّى عنها زوجها وهي حاملٌ النّفقة من رأس المال عليّ بن أبي طالبٍ رضي اللّه عنه وابن مسعودٍ وابن عمر وهو قول شريحٍ
[الناسخ والمنسوخ للنحاس: 2/90]
وخلاس بن عمرٍو، والشّعبيّ، والنّخعيّ وأيّوب السّختيانيّ، وحمّاد بن أبي سليمان والثّوريّ، وأبي عبيدٍ
وفيه قولٌ ثالثٌ عن قبيصة بن ذؤيبٍ قال:
«لو كنت فاعلًا لجعلتها من مال ذي بطنها»
وحجّة من قال لا نفقة للمتوفّى عنها زوجها إجماع المسلمين أنّه لا نفقة لمن كانت تجب له النّفقة على الرّجل قبل موته من أطفاله وأزواجه وآبائه الّذين تجب عليه نفقتهم بإجماعٍ إذا كانوا زمنى فقراء فكذا تجب أيضًا في الحامل المتوفّى عنها زوجها.
[الناسخ والمنسوخ للنحاس: 2/91]
قال أبو جعفرٍ: واختلفوا أيضًا في الآية السّادسة والعشرين فمنهم من قال هي محكمةٌ واجبةٌ ومنهم من قال هي مندوبٌ إليها ومنهم من قال قد أخرج منها شيءٌ ومنهم من قال هي منسوخةٌ
[الناسخ والمنسوخ للنحاس: 2/92]


قَالَ مَكِّيُّ بنُ أبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ) : (قوله تعالى: {والذين يتوفّون منكم ويذرون أزواجًا يتربّصن بأنفسهنّ أربعة أشهرٍ وعشرًا}.أكثر العلماء على أن الآية ناسخةٌ للآية التي بعدها، وهي قوله: {والذين يتوفّون منكم ويذرون أزواجًا وصيّةً لأزواجهم متاعًا إلى الحول غير إخراج} [البقرة: 240].
فأوجبت هذه الآية للمتوفى عنها زوجها أن ينفق عليها سنةً من مال المتوفّى، وتسكن سنةً ما لم تخرج وتتزوج.
ثم نسخت النفقة بآية المواريث في النساء، وبقوله عليه السلام: ((لا وصيّة لوارث)) ونسخ الحول بأربعة أشهرٍ وعشرًا.
وذكر ابن حبيب أن الحرّة كانت إذا توفّي عنها زوجها خيّرت إن شاءت أن تقيم في بيت زوجها وينفق عليها من ماله سنة فإن أبت إلا الخروج لم يكن لها شيءٌ من ماله فنسخ ذلك بالمواريث في النساء.
وهذا مما تقدّم الناسخ فيه على المنسوخ في رتبة التّأليف للقرآن، وحقّ الناسخ في النّظر أن يأتي بعد المنسوخ: لأن الناسخ ثانٍ أبدًا، والمنسوخ متقدمٌ أبدًا.
وإنما استغرب هذا؛ لأنه في سورةٍ واحدةٍ، ولو كان في سورتين لم ينكر أن يكون الناسخ في الترتيب قبل المنسوخ، فهو كثيرٌ من سورتين، لأن السورة لم تؤلّف في التّقديم والتأخير على النزول، ألا ترى أنّ كثيرًا من المكّيّ بعد المدني، والمكيّ نزل أولاً.
وإنّما حكم في هذا بأن الأوّل نسخ الثاني دون أن ينسخ الثاني الأول على رتبة الناسخ والمنسوخ بالإجماع على أنّ المتوفى عنها زوجها ليس عليها أن تعتدّ سنةً، وأنّ عدّتها أربعة أشهرٍ وعشرًا، ولحديث النبي صلى الله عليه وسلم إذا قال: ((إنّما هي أربعة أشهرٍ وعشرٌ، وقد كانت إحداكنّ
في الجاهلية ترمي بالبعرة عند رأس الحول)). فبيّن أن الحول أمرٌ كان في الجاهليّة وأن العدّة في الإسلام أربعة أشهرٍ وعشر، والنبي عليه السلام. يبيّن القرآن فقد بيّنه، فعلم أن الأول ناسخٌ للثاني وعلم أن الأولى في التلاوة نزلت بعد الثانية ناسخةً لها.
وقد قيل: إنّ هذا ليس بنسخ؛ وإنما هو نقصانٌ من الحول لم ينسخ الحول كلّه إنما نقص منه.
ويلزم قائل هذا أن يكون قوله تعالى: {وإن يكن منكم مائةٌ صابرةٌ يغلبوا مائتين} ليس بناسخٍ لما قبله إنما هو نقصانٌ مما قبله.
وكونه منسوخًا أبين في المعنى وعليه أكثر العلماء؛ لأنه إزالة حكمٍ ووضع حكمٍ آخر موضعه منفصلٍ منه. وقد قال ابن مسعود: إنّ قوله: {يتربّصن بأنفسهنّ أربعة أشهرٍ وعشرًا} نسخ منها الحوامل بقوله: {وأولات الأحمال أجلهنّ أن يضعن حملهنّ} [الطلاق: 4] والذي عليه أهل النّظر أنه تخصيصٌ وبيانٌ بأنّ آية البقرة في غير الحوامل والمعنى: ويذرون أزواجًا غير حوامل يتربصن بعدهم أربعة أشهرٍ وعشرًا.
قوله تعالى: {فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهنّ من معروفٍ}:
ذكر ابن حبيبٍ أن قوله تعالى: {فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهنّ من معروف}: منسوخٌ بقوله: {والذين يتوفّون منكم ويذرون أزواجًا يتربّصن بأنفسهنّ أربعة أشهرٍ وعشرًا} [البقرة: 234] فصار التربّص عزيمةً لا خيار لهنّ في ذلك، وكنّ في السّنّة مخيّرات.
).[الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه:123- 200]
قالَ عَلَمُ الدِّينِ عليُّ بنُ محمَّدٍ السَّخَاوِيُّ (ت:643هـ): (ومن ذلك قوله عز وجل: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا} الآية [البقرة: 234] قالوا: نسخ منها الحوامل بقوله عز وجل: (وأولات الحمل أجلهن أن يضعن حملهن) وهذا ليس بنسخ، والآية ليست في الحوامل، يدل على ذلك قوله عز وجل: {فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف} الآية [البقرة: 234] أي: في ابتغاء الأزواج، والحامل ليس لها ذلك.
ومن ذلك قوله عز وجل: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج} الآية [البقرة: 240] قال جماعة: هي منسوخة بالتي تقدمت، وهي قوله عز وجل: {يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا} الآية [البقرة: 234] قالوا: نسخت هذه الحول، ونسخت آية الميراث النفقة عليها إلى الحول.
وقال الربيع: كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها أقامت إن شاءت حولا ولها السكنى والنفقة، فنسخ ذلك آية الميراث.
وقال عبد الملك بن حبيب: كانت الحرة المتوفى عنها زوجها تخير بين أن تقيم في بيته وينفق عليها من ماله سنة وبين أن تخرج فلا يكون لها شيء من ماله، فنسخ ذلك بآية الميراث.
وليست هذه الآية بمنسوخة بالتي قبلها؛ لأن الناسخ يتأخر نزوله عن المنسوخ، فكيف يكون نزولها متأخرا ثم توضع في التأليف قبل ما نزلت بعده، ناسخة له من غير فائدة في لفظ ولا معنى!، واحتجوا لذلك بأن المكي قد يؤخر عن المدني في السور، وليس هذا مثل ذلك، وليس في تقديم السورة وتأخيرها شيء من الإلباس بخلاف الآيات.
وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف نسخت الآية المتقدمة المتأخرة؟ قلت: قد تكون الآية متقدمة في التلاوة وهي متأخرة في التنزيل، كقوله تعالى: {سيقول السفهاء} الآية [البقرة: 142] مع قوله: {قد نرى تقلب وجهك في السماء} الآية [البقرة: 144].
والذي قال: غير صحيح، بل التلاوة على ترتيب التنزيل، وقد تقدم أن قوله عز وجل: {فول وجهك شطر المسجد الحرام} الآية [البقرة: 144] نزل بعد قولهم: {ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها} الآية [البقرة: 142] أي: دم على ذلك {وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره} الآية [البقرة: 144]، وقد قيل: إن أول ما نزل في ذلك قوله عز وجل: {ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله} الآية [البقرة: 142]، قيل: أعلم الله نبيه ما هم قائلون، فقال: إذا قالوا ذلك فقل لهم: {ولله المشرق والمغرب} الآية [البقرة: 142].
وقد تقدم أيضا قوله: {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} الآية [البقرة: 125] فهذا يدل على ما قلناه من أن قوله عز وجل: {فول وجهك شطر المسجد الحرام} الآية [البقرة: 144] أمر بالدوام على ما كان أمره به من اتخاذ المقام مصلى، ثم إن هذه الآيات كلها في قصة بخلاف الناسخ والمنسوخ، ولم يقل أحد من المفسرين إن قوله عز وجل: {سيقول السفهاء} الآية [البقرة: 142] أنزل بعد قوله تعالى: {قد نرى تقلب وجهك في السماء فول وجهك} الآية [البقرة: 144]، وإنما وهم الزمخشري فظن أن الإخبار بما يكون بعد الشيء قبل وقوعه هو الواقع بعده، وهذا غلط بين، وإنما مثال هذا أن يقول الملك لمن يريد أن يوليه ناحية: سيطعن السفهاء في ولايتك، ثم يقول له بعد ذلك: تول ناحية كذا كذلك.
قال الله تعالى: {سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها} الآية [البقرة: 142]، إخبارا بما سيكون بعد التولية، ثم قال سبحانه بعد ذلك: {قد نرى تقلب وجهك في السماء} الآية [البقرة: 144]، وهذا واضح جدا، وقد خفي عليه فصار إلى ما صار إليه من تقدم الآية في التلاوة وتأخرها في الإنزال، وليس بهين أن تجعل كلام الله عز وجل بهذه المثابة.
بل أقول: إن الآية غير منسوخة بالتي تقدمت، بل معناها إن المتوفى عنها زوجها كانت لها متعة كما أن للمطلقة متعة، وكانت متعة المتوفى عنها زوجها أن تخير بعد انقضاء العدة بين أن تقيم إلى تمام الحول ولها السكنى والنفقة، وبين أن تخرج، يدل على صحة ذلك قوله سبحانه وتعالى: {متاعا إلى الحول غير إخراج} الآية [البقرة: 240] أي: لا تخرج إذا لم ترد، ثم قال تعالى: {فإن خرجن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن من معروف} الآية [البقرة: 234]، وأباح لها أن تخرج، ولو كانت العدة حولا لم يبح لها ذلك، ولم تكن مخيرة فيه، ومن لم يفرق بين هذا وبين قوله عز وجل: {يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم} الآية [البقرة: 234]، ويميز بين المكث الواجب كيف جاء بهذا اللفظ، وبين المكث الراجع إلى الاختيار كيف جاء باللفظ الآخر، فقد سلب آلة التمييز، بل الآية المتأخرة دالة على تقدم الأولى بقوله عز وجل: {فإن خرجن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن من معروف} الآية [البقرة: 234] أي: فإن اخترن الخروج بعد بلوغ الأجل المذكور في الآية المتقدمة فلا حرج.
وقد قال مجاهد: إن الآية محكمة، ولها السكنى والنفقة من مال زوجها إن شاءت.
وإن قلنا: إن ذلك قد كان ثم بطل بأنه لا وصية لوارث، فذاك موافق لما عليه الجمهور، وأما أن نقول: إنها منسوخة بما تقدمها فلا.وهذا الموضع من أقبح ما ذكروه في كتاب الله عز وجل.
ثم ذكر بعد هذه المتعة الطلاق، فقال عز وجل عقيب هذه: {وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين} الآية [البقرة: 241].
). [جمال القراء: 1/249-271]

روابط ذات صلة:
- أقوال المفسرين


رد مع اقتباس
  #10  
قديم 26 جمادى الآخرة 1434هـ/6-05-2013م, 04:13 PM
أم صفية آل حسن أم صفية آل حسن غير متواجد حالياً
عضو جديد
 
تاريخ التسجيل: Apr 2013
المشاركات: 2,594
افتراضي

قوله تعالى { وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّ‌ضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ ۚ عَلِمَ اللَّـهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُ‌ونَهُنَّ وَلَـٰكِن لَّا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّ‌ا إِلَّا أَن تَقُولُوا قَوْلًا مَّعْرُ‌وفًا ۚ وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىٰ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّـهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُ‌وهُ ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّـهَ غَفُورٌ‌ حَلِيمٌ(235)}

قالَ عَلَمُ الدِّينِ عليُّ بنُ محمَّدٍ السَّخَاوِيُّ (ت:643هـ): (ومن ذلك قول ابن زيد في قوله عز وجل: {إلا أن تقولوا قولا معروفا} الآية [البقرة: 235] إنه منسوخ بقوله عز وجل: {ولا تعزموا عقدة النكاح} الآية [البقرة: 235] وليس كما قال، بل هي محكمة، والمراد بذلك التعريض بالنكاح.). [جمال القراء: 1/249-271]

روابط ذات صلة:
- أقوال المفسرين


رد مع اقتباس
  #11  
قديم 26 جمادى الآخرة 1434هـ/6-05-2013م, 05:39 PM
أم صفية آل حسن أم صفية آل حسن غير متواجد حالياً
عضو جديد
 
تاريخ التسجيل: Apr 2013
المشاركات: 2,594
افتراضي

قوله تعالى: {لَّا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِ‌ضُوا لَهُنَّ فَرِ‌يضَةً ۚ وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُ‌هُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ‌ قَدَرُ‌هُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُ‌وفِ ۖ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ(236)}

قالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النَّحَّاسُ (ت: 338 هـ): (قال جلّ وعزّ: {لا جناح عليكم إن طلّقتم النّساء ما لم تمسّوهنّ أو تفرضوا لهنّ فريضةً ومتّعوهنّ على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعًا بالمعروف حقًّا على المحسنين} [البقرة: 236]
فممّن قال بظاهر الآية وأنّه واجبٌ على كلّ مطلّقٌ المتعة للمطلّقة كما قال اللّه جلّ وعزّ {ومتّعوهنّ} [البقرة: 236] من الصّحابة عليّ بن أبي طالبٍ رضي اللّه عنه ومن التّابعين الحسن
قال الحسن وأبو العالية: لكلّ مطلّقةٍ متعةٌ مدخولٍ بها أو غير مدخولٍ بها مفروضٍ لها أو غير مفروضٍ لها
[الناسخ والمنسوخ للنحاس: 2/93]
وهذا قول سعيد بن جبيرٍ والضّحّاك وهو قول أبي ثورٍ
قال أبو جعفرٍ وحدّثنا بكر بن سهلٍ، قال: حدّثنا عبد اللّه بن يوسف، قال: أخبرنا مالكٌ، عن ابن شهابٍ، أنّه كان يقول: «لكلّ مطلّقةٍ متعةٌ» وأمّا من قال قد أخرج منها شيءٌ فعبد اللّه بن عمر
كما حدّثنا بكر بن سهلٍ، قال: حدّثنا عبد اللّه بن يوسف، قال أخبرنا مالكٌ، عن نافعٍ، عن ابن عمر، قال: «لكلّ مطلقةٍ متاعٌ إلّا الّتي لم يسمّ لها صداقٌ ولم تمسّ فحسبها نصف ما فرض لها»
[الناسخ والمنسوخ للنحاس: 2/94]
وأمّا قول من قال ومتّعوهنّ على النّدب لا على الحتم والإيجاب فهو قول شريحٍ قال:
«متّع إن كنت من المحسنين ألا تحبّ أن تكون من المتّقين» فهذا قول مالك بن أنسٍ أنّه لا يجبر على المتعة لامرأةٍ من المطلّقات كلّهنّ
وأمّا قول أبي حنيفة وأصحابه وهو يروى عن الشّافعيّ أنّه لا يجبر على
[الناسخ والمنسوخ للنحاس: 2/95]
المتعة إلّا أن يتزوّج امرأةً ولا يسمّي لها صداقًا فيطلّقها قبل أن يمسّها فإنّه يجبر على تمتيعها
وأمّا قول من قال بالنّسخ فيها فهو قول سعيد بن المسيّب
كما حدّثنا أحمد بن محمّدٍ الأزدي، قال حدّثنا أحمد بن الحسن الكوفيّ، قال حدّثنا أسباط بن محمّدٍ، قال حدّثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيّب، قال: «كانت المتعة واجبةً لمن لم يدخل بها من النّساء في سورة الأحزاب ثمّ نسختها الآية الّتي في البقرة»
قال أبو جعفرٍ: يجب أن تكون الّتي في سورة الأحزاب {يا أيّها الّذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثمّ طلّقتموهنّ من قبل أن تمسّوهنّ فما لكم عليهنّ من عدّةٍ تعتدّونها فمتّعوهنّ} [الأحزاب: 49] فهذا إيجاب المتعة، والنّاسخة لها عنده الّتي في البقرة {وإن طلّقتموهنّ من قبل أن تمسّوهنّ وقد فرضتم لهنّ فريضةً فنصف ما فرضتم} [البقرة: 237] الآية
وهذا لا يجب فيه ناسخٌ ولا منسوخٌ لأنّه ليس في الآية لا تمتّعوهنّ ولكنّ
[الناسخ والمنسوخ للنحاس: 2/96]
القول الصّحيح البيّن أنّه اجتزئ بذكر المتعة ثمّ فلم تذكرها هنا ولا سيّما وبعده {وللمطلّقات متاعٌ بالمعروف} [البقرة: 241]
فهذا أوكد من متّعوهنّ؛ لأنّ متّعوهنّ قد يقع على النّدب وذكره التّمتيع في القرآن مؤكّدٌ قال اللّه جلّ وعزّ {على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعًا بالمعروف} [البقرة: 236] وكذا ظاهر القرآن وهو قول عليّ بن أبي طالبٍ رضي اللّه عنه ومن ذكرناه وهو أحد قولي الشّافعيّ: إنّ على كلّ مطلّقٍ متعةً إذا كان الطّلاق من قبله
فأمّا تفرضوا لهنّ فريضةً ففيه أنّ عليّ بن أبي طلحة روى عن ابن عبّاسٍ قال:
«الفريضة الصّداق»
قال أبو جعفرٍ: الفرض في اللّغة الإيجاب ومنه فرض الحاكم على فلانٍ كذا كما قال:

كانت فريضةً ما تقول كما = كان الزّناء فريضة الرّجم


<iframe src"http://static.ak.facebook.com/connect/xd_arbiter.php?version=24#channel=f3e2a1361a4a602&origin=http%3A%2F%2Fjamharah.net&channel_path=%2Fshowthread.php%3Ft%3D17055%26fb_xd_fragment%23xd_sig%3Df30fb6d87625aa%26" style="border: medium none;" tab-index="-1" title="Facebook Cross Domain Communication Frame" aria-hidden="true" id="fb_xdm_frame_http" allowtransparency="true" name="fb_xdm_frame_http" frameborder="0" scrolling="no"></iframe><iframe src="https://s-static.ak.facebook.com/connect/xd_arbiter.php?version=24#channel=f3e2a1361a4a602&origin=http%3A%2F%2Fjamharah.net&channel_path=%2Fshowthread.php%3Ft%3D17055%26fb_xd_fragment%23xd_sig%3Df30fb6d87625aa%26" style="border: medium none;" tab-index="-1" title="Facebook Cross Domain Communication Frame" aria-hidden="true" id="fb_xdm_frame_https" allowtransparency="true" name="fb_xdm_frame_https" frameborder="0" scrolling="no"></iframe>

[الناسخ والمنسوخ للنحاس: 2/97]
وقد احتجّ قومٌ في أنّ التّمتيع ليس بواجبٍ لقول اللّه تبارك وتعالى {حقًّا على المحسنين} [البقرة: 236] وكذا {حقًّا على المتّقين} [البقرة: 180] وهذا لا يلزم لأنّه إذا كان واجبًا على المحسنين فهو على غيرهم أوجب وأيضًا فإنّ النّاس جميعًا مأمورون بأن يكونوا محسنين متّقين لأنّ معنى يجب أن تكون محسنًا يجب أن تحسن إلى نفسك بأن تؤدّي فرائض اللّه جلّ وعزّ وتجتنب معاصيه فتكون محسنًا إلى نفسك حتّى لا تدخل النّار ويجب أن تتّقي اللّه بترك معاصيه والانتهاء إلى ما كلّفكه من فرائضه فوجب على الخلق أن يكونوا محسنين متّقين
واختلف العلماء في الآية السّابعة والعشرين فقال بعضهم هي منسوخةٌ وقال بعضهم هي مخصوصةٌ
[الناسخ والمنسوخ للنحاس: 2/98]
قَالَ مَكِّيُّ بنُ أبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ) : (قوله تعالى: {لا جناح عليكم إن طلّقتم النّساء ما لم تمسّوهنّ}:
أمر الله في هذه الآية بالمتعة على من طلّق قبل الدخول ولم يفرض. قال ابن المسيّب: كانت المتعة واجبةً لمن لم يدخل بها من النساء، بقوله في الأحزاب: {فمتّعوهنّ وسرّحوهنّ سراحًا جميلاً} [الأحزاب: 49]، وبقوله في هذه السّورة: {ومتّعوهنّ على الموسع قدره، وعلى المقتر قدره} [البقرة: 236]. فنسخ ذلك بقوله: {وإن طلّقتموهنّ من قبل أن تمسّوهنّ وقد فرضتم لهنّ فريضةً فنصف ما فرضتم} [البقرة: 237].
وعنه أيضًا أنه قال: كانت المتعة واجبةً بالآية التي في الأحزاب قوله: {فمتّعوهنّ وسرّحوهنّ سراحًا جميلاً}، قال: ثمّ نسخها بالآية التي في البقرة، قوله: {حقًّا على المحسنين}، ولم يقل عليكم ولا واجبٌ عليكم.
قال أبو محمد: ويلزم من قال بهذا القول أن يكون المنسوخ منها التي قد فرض لها خاصة، وتكون التي لم يفرض لها باقيةً على حكم إيجاب المتعة؛ لأنه قال في الآية النّاسخة: {وقد فرضتم لهنّ فريضةً}، فإذا كانت المطلّقة قبل الدّخول بها لم يفرض لها شيءٌ، فهي باقيةٌ على حكم الآية الأولى في إيجاب المتعة وهو قول ابن عباس وجماعةٍ من الفقهاء.
لكن إيجاب ذلك على المتقين وعلى المحسنين دون غيرهم يدلّ على
أنه ندبٌ غير فرض؛ إذ لم يقل حقًا عليكم وإذ لم يأت بتحديد ما يمتّع به في كتابٍ ولا سنّةٍ ولا إجماعٍ. فالنّدب أولى به؛ إذ لا يعلم قدره.
وعن علي رضي الله عنه أنه قال: المتعة واجبةٌ لكلّ مطلّقةٍ وبه قال الحسن وابن جبيرٍ والضّحاك.
وقال شريح: المتعة: ندب الله إلى فعلها عباده: قال: ولو كانت واجبةً لم تجب على المحسنين وعلى المتقين دون غيرهم، ولكان يقول: حقًا عليكم. وكان شريح يقول: متّع إن كنت من المحسنين. ألا تحبّ أن تكون من المتقين.
وهذا القول هو الاختيار وهو مذهب مالك.
وأكثر الفقهاء يأمر من عقد النّكاح على التعريض ولم يفرض
وطلّق قبل الدخول بالمتعة، ولا يحكم عليه بها.
ويكون قوله تعالى في الأحزاب: {فمتّعوهنّ}، على الندب بدلالة آية البقرة في قوله: "على المحسنين"، "وعلى المتقين"؛ وبدلالة أنها غير محدودةٍ "ولا مقدّرةٍ"، من كتاب الله ولا من سنّة رسول الله ولا من إجماع.
فمن متّع بدرهمٍ فأقل وجب له اسم الإمتاع، وكذلك من متّع بألف مثقال.
وليس لهذا في الفروض نظيرٌ يحمل عليه. فهو بالنّدب أولى منه بالفرض. وهو قول عامّة الفقهاء والصّحابة والتابعين إلا اليسير منهم.
وقد أجمعوا على أن المطلّقة قبل الدخول لا تضرب مع الغرماء بالمتعة كان قد فرض لها أو لم يفرض، وتضرب معهم بنصف ما فرض لها. فدلّ ذلك على أن المتعة غير واجبةٍ.
وليس قول من احتجّ بأن سورة الأحزاب نزلت بعد البقرة فلا ينسخ ما في البقرة ما في الأحزاب بشيءٍ، لأنه لا يدّعي أحدٌ أن البقرة كلّها نزلت بعد الأحزاب. بل نزل منها شيءٌ قبل الأحزاب وبعدها.
فقد قال ابن عباسٍ وعمر بن عبد العزيز: آخر آيةٍ نزلت: {واتّقوا يومًا ترجعون فيه إلى الله} [البقرة: 281].
وقال عمرٌ رضي الله عنه: آخر ما نزل آية الرّبا.
وروي أن قوله: {واتّقوا يومًا ترجعون فيه إلى الله} نزل قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بثلاث ساعات، فقال: اجعلوها بعد ثمانين ومائتين من البقرة. فهذا يدلّ على أنّ أشياء من البقرة نزلت بعد الأحزاب. ولسنا نعيّن شيئًا من ذلك إلا برواية صحيحة.
فلا حجّة في أن الأحزاب نزلت بعد البقرة.
وعن ابن عباس: أنّ المتعة واجبةٌ للتي طلّقت قبل الدخول ولم يفرض لها. وبه قال العراقيون غير أنّهم حدّوا ما تمتّع به، فقالوا: إذا طلّق قبل الدخول ولم يفرض لها، متّعها بمثل نصف صداق مثلها.
).[الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه:123- 200]
قالَ عَلَمُ الدِّينِ عليُّ بنُ محمَّدٍ السَّخَاوِيُّ (ت:643هـ): (ومن ذلك قوله عز وجل: {ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين} الآية [البقرة: 236].
قال ابن المسيب: وجبت المتعة لغير المدخول بها بهذه الآية، وبقوله تعالى في الأحزاب: {فمتعوهن وسرحوهن} الآية [الأحزاب: 49] قال: ثمنسخ ذلك بقوله عز وجل: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم} الآية [البقرة: 237] وهذا ليس بنسخ لذلك؛ لأن الأولى في التي لم يفرض لها، والثانية في التي قد فرض لها.
وقال ابن المسيب أيضا: كانت المتعة واجبة بقوله عز وجل في سورة الأحزاب: {فمتعوهن وسرحوهن} الآية [الأحزاب: 49] ثم نسخت بآية البقرة، وهو قوله عز وجل: {حقا على المحسنين} الآية [البقرة: 236]، قال: ولم يقل: حقا عليكم، وهذا أيضا ليس كذلك؛ لأن قوله عز وجل {حقا على المحسنين} الآية [البقرة: 236] و{حقا على المتقين} الآية [البقرة: 241] لا يعارض قوله عز وجل: {فمتعوهن} ولذلك قال علي رضي الله عنه: المتعة واجبة لكل مطلقة، وإليه ذهب الحسن البصري والضحاك وابن جبير، وقال شريح: هي مندوب إليها، فمتع إن كنت تحب أن تكون من المحسنين، ألا تحب أن تكون من المتقين، وقال ابن عباس رحمه الله وغيره: (هي واجبة للتي لم يفرض لها إذا طلقت قبل الدخول، على الموسر خادم، ويمتع المتوسط بالورق، ودون المتوسط بالكسوة والنفقة)، وكذلك قال قتادة. وليس الغرض إيراد المذاهب وإنما الغرض أن الآية غير منسوخة ولا ناسخة.
). [جمال القراء: 1/249-271]

روابط ذات صلة:
- أقوال المفسرين


رد مع اقتباس
  #12  
قديم 26 جمادى الآخرة 1434هـ/6-05-2013م, 08:09 PM
أم صفية آل حسن أم صفية آل حسن غير متواجد حالياً
عضو جديد
 
تاريخ التسجيل: Apr 2013
المشاركات: 2,594
افتراضي

قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَىٰ وَقُومُوا لِلَّـهِ قَانِتِينَ(238)}

قَالَ مَكِّيُّ بنُ أبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ) : (قوله تعالى: {حافظوا على الصّلوات والصّلاة الوسطى وقوموا للّه قانتين}.تواترت الأخبار عن عائشة رضي الله عنها أنها قرأت: والصّلاة الوسطى وصلاة العصر.
فقال بعض العلماء: إن هذا مما نسخ من التّلاوة وبقي حفظه في القلوب.
وقيل: هي قراءةٌ على التفسير، وهذا إنما يصحّ بحذف الواو من "وصلاة العصر".
وهذا كلّه صحّ فإنما نسخه الإجماع على ما في المصحف، لأنّه لا يزاد فيه شيءٌ يخالف خطّه.
وقد روي عن البراء بن عازب أن قال: كنّا نقرأ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم {حافظوا على الصلوات وصلاة العصر}. قال: وكذلك نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم: قال: ثم إنّ الله نسخها بقوله: {حافظوا على الصّلوات والصّلاة الوسطى}.
فمن قال: الوسطى: صلاة العصر، قال: كان لها اسمان نسخ أحدهما بالآخر.
ومن قال: الوسطى غير صلاة العصر، لم يجعل للعصر إلا اسمًا واحدًا نسخ بصلاةٍ أخرى.
والوسطى عند مالك صلاة الصّبح لأنها بين صلاتين من اللّيل
وصلاتين من النهار، ولأنها أفضل الصلوات الخمس بدلائل قد ذكرناها في غير هذا. وفيها اختلافٌ كثيرٌ قد ذكرناه في غير هذا الكتاب.
قوله تعالى: {وقوموا للّه قانتين} [البقرة: 238]:قال بعض العلماء: هذا ناسخٌ لما كانوا عليه من الكلام في الصّلاة للنوائب، وردّ السلام، وتشميت العاطس في الخطبة، والأمر بقضاء الحوائج، ونسخ النّفخ في الصلاة بما نسخ به الكلام أيضًا، وكذلك، التّنحنح.
وقد روي أن النبيّ صلى الله عليه وسلم فعلهما في الصّلاة قبل نسخ الكلام في الصّلاة، ثم نسخا بما نسخ به الكلام.
قال أبو محمد: وقد كان يجب ألا يذكر هذا؛ لأنه لم ينسخ قرآنًا، إنما نسخ أمرًا كانوا عليه بغير إباحةٍ من الله ورسوله لهم، ولا نهى عنه. والقرآن كلّه على هذا المعنى نزل.
وأصل القنوت: الطاعة، فالواجب حمله على أصله، ويكون معناه: الأمر بالطاعة لله على كل حال لا يخص صلاة دون غيرها.
ويكون ترك الكلام في الصّلاة بفعل النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته بهم أكثر ما أقام بينهم، فهو من التّواتر المقطوع على تغييبه.
فمن قال نسخ الكلام في الصلاة بقوله: {وقوموا لله قانتين} قال: نسخ ذلك في المدينة.
ومن قال: نسخ ذلك بالسّنّة، قال: نسخ الكلام في الصّلاة بمكة وهو مذهب الشافعي.
.).[الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه:123- 200]

روابط ذات صلة:
- أقوال المفسرين


رد مع اقتباس
  #13  
قديم 26 جمادى الآخرة 1434هـ/6-05-2013م, 08:09 PM
أم صفية آل حسن أم صفية آل حسن غير متواجد حالياً
عضو جديد
 
تاريخ التسجيل: Apr 2013
المشاركات: 2,594
افتراضي

قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُ‌ونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ‌ إِخْرَ‌اجٍ ۚ فَإِنْ خَرَ‌جْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُ‌وفٍ ۗ وَاللَّـهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(240)}

قال الوليد بن محمد الموقّري الأموي (ت:182هـ): حدثني محمد بن مسلم بن عبد الله بن شِهَاب الزهري(124هـ) قال: (فقال تعالى: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً وصيةً لأزواجهم متاعاً إلى الحول غير إخراجٍ}. فنسخها بآية الميراث التي فرض لهن فيها الربع والثمن. *). [الناسخ والمنسوخ للزهري: 18-22]
قال محمد بن كثيرٍ العَبْدي (ت:223هـ) عن همّام بن يحيى البصري قال: (وعن قوله عز وجل: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج} قال كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها كان لها السكنى والنفقة حولا من مال زوجها ما لم تخرج ثم نسخ ذلك بعد في سورة النساء فجعل لها فريضة معلومة الثمن إن كان له ولد والربع إن لم يكن له ولد وعدتها {أربعة أشهر وعشرا} فنسخت هذه الآية ما كان قبلها من أمر الحول ونسخت الفريضة الثمن والربع ما كان قبلها من النفقة في الحول ). [الناسخ والمنسوخ لقتادة: 1/31-38]
قَالَ هِبَةُ اللهِ بنُ سَلامَةَ بنِ نَصْرٍ المُقْرِي (ت: 410 هـ): (الآية السّادسة والعشرون قوله تعالى {والّذين يتوفّون منكم ويذرون أزواجاً وصيّةً لأزواجهم متاعاً إلى الحول غير إخراج} كان رجل إذا مات عن امرأته أنفق عليها من ماله حولا كاملا وهي في عدته ما لم تخرج فإن خرجت انقضت العدة ولا شيء لها وكانوا إذا أقاموا بعد الميّت حولا عمدت المرأة فأخذت بعرة فألقتها في وجه كلب تخرج بذلك من عدتها عندهم فنسخ الله تعالى ذلك بالآية الّتي قبلها في النّظم وهي قوله تعالى {والّذين يتوفّون منكم ويذرون أزواجاً يتربّصن بأنفسهنّ أربعة أشهرٍ وعشراً} فصارت الأربعة أشهر والعشر ناسخة للحول وليس في كتاب الله تعالى آية ناسخة في سورة إلّا والمنسوخ قبلها إلّا هذه الآية وآية أخرى في سورة الأحزاب وهي قوله تعالى {لا يحل لك النساء من بعد} نسختها
الآية الّتي قبلها وهي قوله {يا أيها النّبي إنّا أحللنا لك أزواجك} الآية هذه الناسخة والمنسوخة {لا يحل لك النساء من بعد} ونسخ النّفقة بالربع والثمن فقال {والّذين يتوفون منكم} إلى قوله {وعشرا} جميعها محكم غير أولها
). [الناسخ والمنسوخ لابن سلامة: 31-59]
قالَ أبو الفَرَجِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَلِيٍّ ابْنِ الْجَوْزِيِّ (ت:597هـ): (ذكر الآية الثّالثة والثّلاثين: قوله تعالى: {والّذين يتوفّون منكم ويذرون أزواجاً وصيّةً لأزواجهم متاعاً إلى الحول غير إخراجٍ}.
قال المفسّرون: كان أهل الجاهليّة إذا مات أحدهم مكثت زوجته في بيته حولا ينفق عليها من ميراثه فإذا تمّ الحول خرجت إلى باب بيتها ومعها بعرة فرمت بها كلباً، وخرجت بذلك من عدّتها وكان معنى رميها
بالبعرة: أنّها تقول مكثي بعد وفاة زوجي أهون عندي من هذه البعرة. ثمّ جاء الإسلام فأقرهم على ما كانوا عليه من مكث الحول بهذه الآية ثمّ نسخ ذلك بالآية المتقدّمة في نظم القرآن على هذه الآية. وهي قوله تعالى: {والّذين يتوفّون منكم ويذرون أزواجاً يتربّصن بأنفسهنّ أربعة أشهرٍ وعشراً} ونسخ الأمر بالوصيّة لها بما فرض لها من ميراثه وهذا مجموع (قول) الجماعة.
أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: أبنا أبو الفضل عمر بن عبيد اللّه البقّال: قال، أبنا أبو الحسين بن بشران، قال: أبنا إسحاق بن أحمد الكاذيّ، فال: بنا عبد اللّه بن أحمد بن حنبلٍ، قال حدّثني أبي، قال: بنا حجّاجٌ عن ابن جريجٍ عن عطاءٍ الخراسانيّ عن ابن عبّاسٍ رضي اللّه عنهما {والّذين يتوفّون
منكم ويذرون أزواجاً وصيّةً لأزواجهم متاعاً إلى الحول غير إخراجٍ} فكان للمتوفي زوجها نفقتها وسكناها في الدّار سنةً فنسخها آية الميراث فجعل لهنّ الرّبع والثّمن ممّا ترك الزّوج.
وقال أحمد: وحدّثنا عبد الصّمد عن همّامٍ عن قتادة {متاعاً إلى الحول} فنسختها {يتربّصن بأنفسهنّ أربعة أشهرٍ وعشراً} فنسخت ما كان قبلها من أمر النّفقة في الحول ونسخت الفريضة الثّمن والرّبع ما كان قبلها من نققة (في الحول).
قال أحمد: وحدّثنا محمّد بن [جعفرٍ] الوركانيّ، قال بنا أبو الأحوص عن سماكٍ عن عكرمة {والّذين يتوفّون منكم ويذرون أزواجاً وصيّةً
لأزواجهم} قال: نسختها {والّذين يتوفّون منكم ويذرون أزواجاً يتربّصن بأنفسهنّ أربعة أشهرٍ وعشراً}.
قال أحمد: وحدّثنا وكيعٌ عن سفيان عن ابن جريجٍ عن عطاء (وصية لأزواجهم) قال: كانت المرأة في
الجاهليّة تعطى سكنى سنةٍ من يوم توفّي زوجها [فنسختها (أربعة أشهرٍ وعشراً] ).
وعن سفيان عن حبيب بن أبي ثابتٍ قال: سمعت إبراهيم قال: هي منسوخةٌ.
قال أحمد: وحدّثنا عبد الوهّاب عن سعيدٍ عن قتادة {وصيّةً لأزواجهم متاعاً إلى الحول} قال: كانت المرأة إذا توفّي عنها زوجها كان لها السّكنى والنفقة حولاً من ماله مالم تخرج من بيته ثمّ نسخ ذلك بقوله: {يتربّصن بأنفسهنّ أربعة أشهرٍ وعشراً}.
). [نواسخ القرآن:125- 236]
قالَ أبو الفَرَجِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَلِيٍّ ابْنِ الْجَوْزِيِّ (ت:597هـ): (الحادية والعشرون: {والّذين يتوفّون منكم ويذرون أزواجاً وصيّةً لأزواجهم متاعاً إلى الحول غير إخراجٍ} قال المفسرون كانت الجاهلية تمكث زوجة المتوفي في بيته حولا ينفق عليها من ميراثه فأقرهم بهذه الآية على مكث الحول ثم نسخها {يتربّصن بأنفسهنّ أربعة أشهرٍ وعشراً} . ). [المصَفَّى بأكُفِّ أهلِ الرسوخ: 14-21]

قالَ عَلَمُ الدِّينِ عليُّ بنُ محمَّدٍ السَّخَاوِيُّ (ت:643هـ):(
ومن ذلك قوله عز وجل: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج} الآية [البقرة: 240] قال جماعة: هي منسوخة بالتي تقدمت، وهي قوله عز وجل: {يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا} الآية [البقرة: 234] قالوا: نسخت هذه الحول، ونسخت آية الميراث النفقة عليها إلى الحول.
وقال الربيع: كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها أقامت إن شاءت حولا ولها السكنى والنفقة، فنسخ ذلك آية الميراث.
وقال عبد الملك بن حبيب: كانت الحرة المتوفى عنها زوجها تخير بين أن تقيم في بيته وينفق عليها من ماله سنة وبين أن تخرج فلا يكون لها شيء من ماله، فنسخ ذلك بآية الميراث.
وليست هذه الآية بمنسوخة بالتي قبلها؛ لأن الناسخ يتأخر نزوله عن المنسوخ، فكيف يكون نزولها متأخرا ثم توضع في التأليف قبل ما نزلت بعده، ناسخة له من غير فائدة في لفظ ولا معنى!، واحتجوا لذلك بأن المكي قد يؤخر عن المدني في السور، وليس هذا مثل ذلك، وليس في تقديم السورة وتأخيرها شيء من الإلباس بخلاف الآيات.
وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف نسخت الآية المتقدمة المتأخرة؟ قلت: قد تكون الآية متقدمة في التلاوة وهي متأخرة في التنزيل، كقوله تعالى: {سيقول السفهاء} الآية [البقرة: 142] مع قوله: {قد نرى تقلب وجهك في السماء} الآية [البقرة: 144].
والذي قال: غير صحيح، بل التلاوة على ترتيب التنزيل، وقد تقدم أن قوله عز وجل: {فول وجهك شطر المسجد الحرام} الآية [البقرة: 144] نزل بعد قولهم: {ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها} الآية [البقرة: 142] أي: دم على ذلك {وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره} الآية [البقرة: 144]، وقد قيل: إن أول ما نزل في ذلك قوله عز وجل: {ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله} الآية [البقرة: 142]، قيل: أعلم الله نبيه ما هم قائلون، فقال: إذا قالوا ذلك فقل لهم: {ولله المشرق والمغرب} الآية [البقرة: 142].
وقد تقدم أيضا قوله: {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} الآية [البقرة: 125] فهذا يدل على ما قلناه من أن قوله عز وجل: {فول وجهك شطر المسجد الحرام} الآية [البقرة: 144] أمر بالدوام على ما كان أمره به من اتخاذ المقام مصلى، ثم إن هذه الآيات كلها في قصة بخلاف الناسخ والمنسوخ، ولم يقل أحد من المفسرين إن قوله عز وجل: {سيقول السفهاء} الآية [البقرة: 142] أنزل بعد قوله تعالى: {قد نرى تقلب وجهك في السماء فول وجهك} الآية [البقرة: 144]، وإنما وهم الزمخشري فظن أن الإخبار بما يكون بعد الشيء قبل وقوعه هو الواقع بعده، وهذا غلط بين، وإنما مثال هذا أن يقول الملك لمن يريد أن يوليه ناحية: سيطعن السفهاء في ولايتك، ثم يقول له بعد ذلك: تول ناحية كذا كذلك.
قال الله تعالى: {سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها} الآية [البقرة: 142]، إخبارا بما سيكون بعد التولية، ثم قال سبحانه بعد ذلك: {قد نرى تقلب وجهك في السماء} الآية [البقرة: 144]، وهذا واضح جدا، وقد خفي عليه فصار إلى ما صار إليه من تقدم الآية في التلاوة وتأخرها في الإنزال، وليس بهين أن تجعل كلام الله عز وجل بهذه المثابة.
بل أقول: إن الآية غير منسوخة بالتي تقدمت، بل معناها إن المتوفى عنها زوجها كانت لها متعة كما أن للمطلقة متعة، وكانت متعة المتوفى عنها زوجها أن تخير بعد انقضاء العدة بين أن تقيم إلى تمام الحول ولها السكنى والنفقة، وبين أن تخرج، يدل على صحة ذلك قوله سبحانه وتعالى: {متاعا إلى الحول غير إخراج} الآية [البقرة: 240] أي: لا تخرج إذا لم ترد، ثم قال تعالى: {فإن خرجن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن من معروف} الآية [البقرة: 234]، وأباح لها أن تخرج، ولو كانت العدة حولا لم يبح لها ذلك، ولم تكن مخيرة فيه، ومن لم يفرق بين هذا وبين قوله عز وجل: {يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم} الآية [البقرة: 234]، ويميز بين المكث الواجب كيف جاء بهذا اللفظ، وبين المكث الراجع إلى الاختيار كيف جاء باللفظ الآخر، فقد سلب آلة التمييز، بل الآية المتأخرة دالة على تقدم الأولى بقوله عز وجل: {فإن خرجن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن من معروف} الآية [البقرة: 234] أي: فإن اخترن الخروج بعد بلوغ الأجل المذكور في الآية المتقدمة فلا حرج.
وقد قال مجاهد: إن الآية محكمة، ولها السكنى والنفقة من مال زوجها إن شاءت.
وإن قلنا: إن ذلك قد كان ثم بطل بأنه لا وصية لوارث، فذاك موافق لما عليه الجمهور، وأما أن نقول: إنها منسوخة بما تقدمها فلا.
وهذا الموضع من أقبح ما ذكروه في كتاب الله عز وجل.
ثم ذكر بعد هذه المتعة الطلاق، فقال عز وجل عقيب هذه: {وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين} الآية [البقرة: 241].
ومن ذلك قول ابن زيد في قوله عز وجل: {إلا أن تقولوا قولا معروفا} الآية [البقرة: 235] إنه منسوخ بقوله عز وجل: {ولا تعزموا عقدة النكاح} الآية [البقرة: 235] وليس كما قال، بل هي محكمة، والمراد بذلك التعريض بالنكاح.
). [جمال القراء: 1/249-271]
روابط ذات صلة:
- أقوال المفسرين


رد مع اقتباس
  #14  
قديم 26 جمادى الآخرة 1434هـ/6-05-2013م, 09:06 PM
أم صفية آل حسن أم صفية آل حسن غير متواجد حالياً
عضو جديد
 
تاريخ التسجيل: Apr 2013
المشاركات: 2,594
افتراضي

قوله تعالى: { لَا إِكْرَ‌اهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّ‌شْدُ مِنَ الْغَيِّ ۚ فَمَن يَكْفُرْ‌ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّـهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْ‌وَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا ۗ وَاللَّـهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(256)}

قَالَ أَبو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بْنُ حَزْمٍ الأَنْدَلُسِيُّ (ت: 320 هـ): (الآية الرابعة والعشرون: قوله تعالى: {لا إكراه في الدين...} الآية [256 / البقرة / 2] منسوخة وناسخها قوله تعالى: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم...} الآية [5 مدنية / التوبة / 9].) .[الناسخ والمنسوخ لابن حزم: 19-30]
قالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النَّحَّاسُ (ت: 338 هـ): (قال جلّ وعزّ: {لا إكراه في الدّين} [البقرة: 256] فمن العلماء من قال: هي منسوخةٌ لأنّ رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم قد أكره العرب على دين الإسلام وقاتلهم ولم يرض منهم إلّا بالإسلام
فممّن قال بذلك سليمان بن موسى قال:
نسخها {يا أيّها النّبيّ جاهد الكفّار والمنافقين} [التوبة: 73]
وقال زيد بن أسلم أقام رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم بمكّة عشر سنين يدعو النّاس إلى الإسلام ولا يقاتل أحدًا فأبى المشركون إلّا قتاله فاستأذن اللّه عزّ وجلّ في قتالهم فأذن له
وقال بعض العلماء ليست منسوخةً ولكن {لا إكراه في الدّين} [البقرة: 256] نزلت في أهل الكتاب لا يكرهون على الإسلام إذا أدّوا الجزية والّذين يكرهون أهل الأوثان فهم الّذين نزلت فيهم {يا أيّها النّبيّ جاهد الكفّار والمنافقين} [التوبة : 73]
وممّا يحتجّ به لهذا القول
[الناسخ والمنسوخ للنحاس: 2/99]
ما قرئ على أحمد بن محمّد بن الحجّاج، عن يحيى بن سليمان، قال أخبرنا سفيان بن عيينة، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، قال سمعت عمر بن الخطّاب، رضي اللّه عنه يقول لعجوزٍ نصرانيّةٍ: " أسلمي أيّتها العجوز تسلمي، إنّ اللّه جلّ وعزّ بعث محمّدًا صلّى الله عليه وسلّم بالحقّ، فقالت: أنا عجوزٌ كبيرةٌ وأموت إلى قريبٍ، فقال عمر اللّهمّ اشهد، ثمّ تلا {لا إكراه في الدّين} [البقرة: 256] "
وممّن قال إنّها مخصوصة ابن عبّاسٍ
كما قرئ على أحمد بن شعيبٍ، عن محمّد بن بشّارٍ، عن ابن أبي عديٍّ، في حديثه عن شعبة، عن أبي بشرٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ، قال: " كانت المرأة تجعل على نفسها إن عاش لها ولدٌ أن تهوّده فلمّا أجليت بنو النّضير كان فيهم من أبناء الأنصار، فقالت الأنصار: لا ندع أبناءنا فأنزل اللّه جلّ وعزّ {لا إكراه في الدّين قد تبيّن الرّشد من الغيّ} [البقرة: 256] "
[الناسخ والمنسوخ للنحاس: 2/100]
قول ابن عبّاسٍ في هذه الآية أولى الأقوال لصحّة إسناده وأنّ مثله لا يؤخذ بالرّأي فلمّا خبّر أنّ الآية نزلت في هذا وجب أن يكون أولى الأقوال وأن تكون الآية مخصوصةً نزلت في هذا، وحكم أهل الكتاب كحكمهم
فأمّا دخول الألف واللّام في الدّين فللتّعريف لأنّ المعنى لا إكراه في الإسلام
وفي ذلك قول آخر يكون التّقدير لا إكراه في دين الإسلام والألف واللّام عوضٌ من المضاف إليه مثل {يصهر به ما في بطونهم والجلود}[الحج: 20] أي وجلودهم
واختلف العلماء أيضًا في الآية الثّامنة والعشرين، فقال بعضهم هي ناسخةٌ وقال بعضهم نزلت في شيءٍ بعينه غير ناسخةٍ وقال بعضهم هي عامّةٌ
[الناسخ والمنسوخ للنحاس: 2/101]

قَالَ هِبَةُ اللهِ بنُ سَلامَةَ بنِ نَصْرٍ المُقْرِي (ت: 410 هـ): (الآية السّابعة والعشرون قوله تعالى {لا إكراه في الدّين} الآية نسخها الله تعالى بآية السّيف وذلك أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لما أجلى اليهود إلى أذرعات من الشّام كان لهم في أولاد الأنصار رضاع فقال أولاد الأنصار نخرج مع أمهاتنا أين خرجن فمنعهم آباؤهم فنزلت هذه الآية {لا إكراه في الّدين} ثمّ صار ذلك منسوخا نسخته آية السّيف
الآية الثّامنة والعشرون قوله تعالى {وأشهدوا إذا تبايعتم} فأمر الله بالشّهادة وقد كان جماعة من التّابعين يرون أن يشهدوا في كل بيع وابتياع منهم الشّعبيّ
وإبراهيم النّخعيّ كانوا يقولون إنّا نرى أن نشهد ولو على جرزة بقل ويروي حزمة ثمّ نسخت الشّهادة بقوله تعالى {فإن أمن بعضكم بعضاً فليؤدّ الّذي أؤتمن أمانته}
). [الناسخ والمنسوخ لابن سلامة: 31-59]
قَالَ مَكِّيُّ بنُ أبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ) : (قوله تعالى: {لا إكراه في الدّين} الآية:هذه الآية عند جماعةٍ منسوخةٌ بقوله: {يا أيّها النّبيّ جاهد الكفّار والمنافقين واغلظ عليهم} [التوبة: 73]، جعلوها عامّة، فلم يرض رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزولها من العرب إلاّ بالإسلام وإكراههم عليه.
وقد روي عن عمر أنه عرض على مملوك له الإسلام فأبى فتركه ولم يكرهه، فهي على هذا القول محكمة.
وقد قيل: إن الآية مخصوصةٌ نزلت في أهل الكتاب ألاّ يكرهوا إذا أدّوا الجزية، ودلّ على أنها في أهل الكتاب قوله: {يا أيّها النّبيّ جاهد الكفّار والمنافقين} [التوبة: 73] ولم يذكر أهلاً لكتاب.
ودلّ على ذلك أيضًا قوله: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرّمون ما حرّم الله ورسوله ولا يدينون دين الحقّ من الذين أوتوا الكتاب حتّى يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون} [التوبة: 29]. فقد منع من قتالهم وإكراههم إذا أعطوا الجزية.
وقال ابن عباس: الآية محكمةٌ مخضوضةٌ نزلت في أبناء الأنصار،
وذلك أن الأنصار كان تتزوج في اليهود بني النضير، وكانت المرأة منهم تجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن يهوّدوه، فلما أجلى النبي صلى الله عليه وسلم بني النّضير، وأخرجهم من جزيرة العرب، كان فيهم من أبناء الأنصار، فقالت الأنصار: لا ندع أبناءنا، فأنزل الله: لا إكراه في الدين، فكان من شاء لحق بأبيه، ومن شاء لم يلحق.
وقال الشعبي: نزلت هذه الآية في قومٍ من الأنصار كانوا يهوّدون أبناءهم قبل الإسلام، إذ لا يعلمون دينًا أفضل من اليهوديّة، فلمّا أتى الله بالإسلام وأسلم الآباء أرادوا أن يكرهوا أبناءهم على الإسلام، فأنزل الله: {لا إكراه في الدّين}.
وقال أبو عبيد: وجهها عندي أن تكون لأهل الذّمّة، يعني لا يكرهون على الإسلام إذا أدّوا الجزية.
فالآية محكمة على هذه الأقوال. وهو الأظهر فيها والأولى.
).[الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه:123- 200]
قالَ أبو الفَرَجِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَلِيٍّ ابْنِ الْجَوْزِيِّ (ت:597هـ): (ذكر الآية الرّابعة والثّلاثين: قوله تعالى: {لا إكراه في الدّين}.اختلف العلماء هل هذا القدر من الآية محكم أو منسوخ.
فذهب قومٌ إلى أنّه محكمٌ، ثمّ اختلفوا في وجه إحكامه على قولين:
أحدهما: أنّه من العامّ المخصوص وأنّه خصّ منه أهل الكتاب فإنّهم لا يكرهون على الإسلام بل يخيّرون بينه وبين أداء الجزية وهذا المعنى مرويٌّ عن ابن عبّاسٍ، ومجاهدٍ، وقتادة.
وكان السّبب في نزول هذه الآية ما أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: أبنا عمر بن عبيد اللّه البقّال، قال: أبنا ابن بشران، قال: أبنا إسحق الكاذيّ، قال: أبنا عبد اللّه بن أحمد، قال حدّثني أبي، قال: بنا علي بن عاصم قال: بنا داود بن أبي هندٍ عن عامرٍ، قال: كانت المرأة في الأنصار إذا كانت لا يعيش لها ولدٌ تدعى المقلاة، فكانت المرأة إذا كانت كذلك نذرت إن هي أعاشت ولدًا تصبغه يهوديًّا، فأدرك الإسلام طوائفٌ من أولاد الأنصار - وهم كذلك - فقالوا إنّما صبغناهم يهودًا ونحن نرى أن اليهود خيرٌ من (عبّاد) الأوثان. فإمّا إذ جاء اللّه بالإسلام فإنّا نكرههم على الإسلام، فأنزل اللّه تعالى: {لا إكراه في الدّين}.
قال أحمد، وحدثنا حسن، قال: بنا أبو هلال، قال بنا داود، قال: قال (عامرٌ) {لا إكراه في الدّين} كانت تكون المرأة مقلاةً في الجاهليّة لا يعيش لها ولدٌ فكانت تنذر اللّه عليها، إن عاش لها ولدٌ لتسلّمنّه في خير دينٍ تعلمه، ولم يكن في الجاهليّة دينٌ أفضل من اليهوديّة فتسلّمه في اليهوديّة فلمّا جاء الله بالإسلام قالوا: يا نبي اللّه كنّا لا نعلم
أو لا نرى أنّ دينًا أفضل من اليهوديّة، فلمّا جاء اللّه بالإسلام نرتجعهم، فأنزل الله عز وجل {لا إكراه في الدّين} لا تكرهوهم ولا نرتجعهم.
قال أحمد: (وبنا) وكيع، قال: بنا سفيان، عن خصيفٍ عن مجاهدٍ، قال: كان ناسٌ مسترضعون في بني قريظة فأرادوا أن يكرهوهم على الإسلام فنزلت: {لا إكراه في الدّين}.
أخبرنا عبد الوهّاب الحافظ، قال: أبنا ابن جبرون، وأبو ظاهرٍ الباقلاويّ، قالا: أبنا ابن شاذان، قال: أبنا ابن كامل (قال) بنا محمد ابن (سعدٍ) قال: أخبرني أبي، قال: حدّثني عمّي عن أبيه عن جدّه عن ابن عبّاسٍ رضي اللّه عنهما {لا إكراه في الدّين} قال: وذلك لمّا دخل النّاس في الإسلام وأعطى أهل الكتاب الجزية.
والثّاني: (أنّ المراد به) ليس الدين ما يدين به في الظّاهر على جهة الإكراه عليه ولم يشهد به القلب وينطوي عليه الضمائر، إنما الدّين هو المعتقد بالقلب، وهذا قول أبي بكر بن الأنباريّ.
والقول الثّاني: أنّه منسوخٌ، (لأنّ هذه الآية) نزلت قبل الأمر بالقتال ثمّ نسخت بآية السّيف، وهذا قول الضّحّاك والسّدّيّ وابن زيدٍ.
أخبرنا ابن ناصرٍ، قال: أبنا ابن أيّوب، قال: أبنا ابن شاذان، قال: أبنا أبو بكرٍ النّجّاد، قال: أبنا أبو داود قال: بنا جعفر بن محمد قال: بنا عمرو بن طلحة (القنّاد) قال: بنا أسباط بن نصرٍ عن إسماعيل السّدّيّ فأسنده إلى من فوقه {لا إكراه في الدّين} قال نسخ وأمر بقتال أهل الكتاب في براءة.
أخبرنا المبارك بن عليٍّ، قال: أبنا أحمد بن الحسن بن قريشٍ، قال: أبنا أبو إسحاق البرمكيّ قال: أبنا محمّد بن إسماعيل بن العبّاس، قال: أبنا أبو بكر بن أبي داود، قال: بنا حمر بن نوح، قال بنا أبو معاذ قال: بنا أبو مصلحٍ، عن الضّحّاك {لا إكراه في الدّين} قال: نزلت هذه الآية قبل أن يؤمر بالقتال قال أبو بكرٍ: وذكر المسيّب [بن واضحٍ عن بقيّة] بن الوليد
عن عتبة بن أبي حكيمٍ عن سليمان بن موسى قال: هذه الآية منسوخةٌ {لا إكراه في الدّين} نسختها: {يا أيّها النّبيّ جاهد الكفّار والمنافقين}.
). [نواسخ القرآن:125- 236]
قالَ أبو الفَرَجِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَلِيٍّ ابْنِ الْجَوْزِيِّ (ت:597هـ): (الثانية والعشرون: {لا إكراه في الدّين} اختلفوا فيه فقيل هو من العام المخصص خص منه أهل الكتاب فعلى هذا هو محكم وقيل نزلت قبل الأمر بالقتال ثمّ نسخ بآية السّيف.). [المصَفَّى بأكُفِّ أهلِ الرسوخ: 14-21]

قالَ عَلَمُ الدِّينِ عليُّ بنُ محمَّدٍ السَّخَاوِيُّ (ت:643هـ): (ومن ذلك قوله عز وجل: {لا إكراه في الدين} الآية [البقرة: 256] قال قوم: هي منسوخة بقوله عز وجل: {جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم} الآية [التوبة: 73] والجمهور على أنها محكمة.
قال ابن عباس رحمه الله: (نزلت في أهل الكتاب، لا يكرهون إذا أدوا الجزية).
). [جمال القراء: 1/249-271]

روابط ذات صلة:
- أقوال المفسرين


رد مع اقتباس
  #15  
قديم 26 جمادى الآخرة 1434هـ/6-05-2013م, 09:28 PM
أم صفية آل حسن أم صفية آل حسن غير متواجد حالياً
عضو جديد
 
تاريخ التسجيل: Apr 2013
المشاركات: 2,594
افتراضي

قوله تعالى { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَ‌ةٍ فَنَظِرَ‌ةٌ إِلَىٰ مَيْسَرَ‌ةٍ ۚ وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ‌ لَّكُمْ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(280)}

قالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النَّحَّاسُ (ت: 338 هـ): (قال جلّ وعزّ {وإن كان ذو عسرةٍ فنظرةٌ إلى ميسرةٍ} [البقرة: 280] فمن قال إنّها ناسخةٌ احتجّ بأنّ الإنسان في أوّل الإسلام كان إذا أعسر من دينٍ عليه بيع حتّى يستوفي المدين دينه منه فنسخ اللّه جلّ وعزّ ذلك بقوله جلّ ثناؤه {وإن كان ذو عسرةٍ فنظرةٌ إلى ميسرةٍ} [البقرة: 280]
ويدلّك على هذا القول أنّ أحمد بن محمّدٍ الأزدي حدّثنا، قال حدّثنا إبراهيم بن أبي داود، قال حدّثنا يحيى بن صالحٍ الوحاظيّ، قال حدّثنا مسلم بن خالدٍ الزّنجيّ، عن زيد بن أسلم، عن عبد الرّحمن بن البيلمانيّ، قال: " كنت بمصر فقال لي رجلٌ ألا أدلّك على رجلٍ من أصحاب رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم فقلت بلى فأشار إلى رجلٍ فجئته فقلت من أنت رحمك اللّه؟ فقال: أنا سرّقٌ فقلت: سبحان اللّه ما ينبغي لك أن تسمّى بهذا الاسم وأنت رجلٌ من أصحاب النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال إنّ رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم سمّاني سرّقًا فلن أدع ذلك أبدًا قلت: ولم سمّاك سرّقًا؟ قال لقيت رجلًا من أهل البادية ببعيرين له يبيعهما فابتعتهما منه وقلت انطلق معي حتّى أعطيك فدخلت بيتي ثمّ خرجت من خلفٍ خرج لي وقضيت بثمن البعيرين حاجتي وتغيّبت حتّى ظننت أنّ الأعرابيّ قد خرج
[الناسخ والمنسوخ للنحاس: 2/102]
فخرجت والأعرابيّ مقيمٌ فأخذني فقدّمني إلى رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم فأخبرته الخبر فقال رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم ما حملك على ما صنعت قلت قضيت بثمنها حاجتي يا رسول اللّه قال: «فاقضه» قال: قلت ليس عندي قال: «أنت سرّقٌ، اذهب به يا أعرابيّ فبعه حتّى تستوفي حقّك» قال فجعل النّاس يسومونه بي ويلتفت إليهم فيقول ما تريدون؟ فيقولون نريد أن نبتاعه منك قال، فواللّه إنّ منكم أحدًا أحوج إليه منّي اذهب فقد أعتقتك "
قال أحمد بن محمّدٍ الأزديّ ففي هذا الحديث بيع الحرّ في الدّين وقد
[الناسخ والمنسوخ للنحاس: 2/103]
كان ذلك في أوّل الإسلام يباع من عليه دينٌ فيما عليه من الدّين إذا لم يكن له مالٌ يقضيه عن نفسه حتّى نسخ اللّه جلّ وعزّ ذلك فقال عزّ وجلّ {وإن كان ذو عسرةٍ فنظرةٌ إلى ميسرةٍ} [البقرة: 280]
فذهب قومٌ إلى أنّ هذه الآية إنّما أنزلت في الرّبا وأنّه إذا كان لرجلٍ على رجلٍ دينٌ ولم يكن عنده ما يقضيه إيّاه حبس أبدًا حتّى يوفّيه واحتجّوا بقول اللّه جلّ وعزّ: {إنّ اللّه يأمركم أن تؤدّوا الأمانات إلى أهلها} [النساء: 58] هذا قول شريحٍ، وإبراهيم النّخعيّ
كما حدّثنا أحمد بن محمّد بن نافعٍ، قال حدّثنا سلمة، قال حدّثنا عبد الرّزّاق، قال أخبرنا معمرٌ، عن أيّوب، عن محمّد بن سيرين، في قول اللّه جلّ وعزّ {وإن كان ذو عسرةٍ فنظرةٌ إلى ميسرةٍ} [البقرة: 280] قال: " خاصم رجلٌ إلى شريحٍ في دينٍ له فقال آخر يعذّر صاحبه إنّه معسرٌ وقد قال اللّه تعالى {وإن كان ذو عسرةٍ فنظرةٌ إلى ميسرةٍ} [البقرة: 280] فقال شريحٌ كان هذا في الرّبا وإنّما كان في الأنصار وإنّ اللّه تعالى قال: {إنّ اللّه يأمركم أن تؤدّوا الأمانات إلى أهلها
[الناسخ والمنسوخ للنحاس: 2/104]
وإذا حكمتم بين النّاس أن تحكموا بالعدل} [النساء: 58] ولا يأمرنا اللّه جلّ وعزّ بشيءٍ ثمّ نخالفه احبسوه إلى جنب السّارية حتّى يوفّيه"
وقال جماعةٌ من أهل العلم فنظرةٌ إلى ميسرةٍ عامّةٍ في جميع النّاس وكلّ من أعسر أنظر وهذا قول أبي هريرة، والحسن وجماعةٍ من الفقهاء
وعارض في هذه الأقوال بعض الفقهاء بأشياء من النّظر والنّحو واحتجّ بأنّه لا يجوز أن يكون هذا في الرّبا قال لأنّ الرّبا قد أبطل فكيف يقال فيه {وإن كان ذو عسرةٍ فنظرةٌ إلى ميسرةٍ وأن تصدّقوا خيرٌ لكم} [البقرة: 280]
واحتجّ من النّحو بأنّه لو كان في الرّبا لكان وإن كان ذا عسرةٍ لأنّه قد تقدّم ذكره فلمّا كان في السّواد وإن كان ذو عسرةٍ علم أنّه منقطعٌ من الأوّل
[الناسخ والمنسوخ للنحاس: 2/105]
عامٌّ لكلّ من كان ذا عسرةٍ وكانت كان بمعنى وقع وحدثٌ كما قال [البحر الطويل]

فدًى لبني ذهل بن شيبان ناقتي = إذا كان يومٌ ذو كواكب أشهب

قال أبو جعفرٍ: وهذا الاحتجاج ظاهره حسنٌ فإذا فتّشت عنه لم يلزم وذلك أنّ قوله الرّبا قد أبطله اللّه تعالى فالأمر في قوله قد أبطله اللّه تعالى صحيحٌ إن كان يريد ألّا يعمل به وإلّا فقد قال {فلكم رءوس أموالكم} فما الّذي يمنع أن يكون الإعسار في مثل هذا
[الناسخ والمنسوخ للنحاس: 2/106]
وأمّا احتجاجه بالنّحو فلا يلزم قد يجوز أن يكون التّقدير وإن كان منهم ذو عسرةٍ وقد حكى النّحويّون المرء مقتولٌ بما قتل به إن خنجرٌ فخنجرٌ وإن كان يجوز فيه غير هذا
وأحسن ما قيل في الآية قول عطاءٍ والضّحّاك قالا:
«هي في الرّبا والدّين في كلّه» فهذا قولٌ يجمع الأقوال لأنّه يجوز أن تكون ناسخةً عامّةً نزلت في الرّبا ثمّ صار حكم غيره كحكمه
ولاسيّما وقد روى يزيد بن أبي زيادٍ عن مجاهدٍ عن ابن عبّاسٍ قال:
نزلت في الرّبا
وهذا توقيفٌ من ابن عبّاسٍ بحقيقة الأمر ممّا لا يجوز أن يؤخذ بقياسٍ ولا رأيٍ لأنّه خبّر أنّها نزلت فيه
[الناسخ والمنسوخ للنحاس: 2/107]
فأمّا {وأن تصدّقوا خيرٌ لكم} [البقرة: 280] فجعله قتادة على الموسر والمعسر، وقال السّدّي على المعسر وهذا أولى لأنّه يليه
واختلفوا في الآية التّاسعة والعشرين فجاء الاختلاف فيها عن الصّدر الأوّل والثّاني
[الناسخ والمنسوخ للنحاس: 2/108]
قَالَ مَكِّيُّ بنُ أبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ) : (قوله تعالى: {وإن كان ذو عسرةٍ فنظرةٌ إلى ميسرةٍ}.
قال جماعة: هذه الآية ناسخةٌ لما كانوا عليه من بيع المعسر فيما عليه من الدّين، وروي أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر أعرابيًا ببيع رجلٍ معسرٍ كان له عنده دين فأقبل الناس يسومونه فيه، وقالوا: نريد أن نفديه منك، فقال: والله
ما منكم من أحدٍ أحوج إلى الله مني اذهب فقد أعتقتك.
وروي أن النبيّ صلى الله عليه وسلم حدّث أن الخضر سأله مكاتبٌ في صدقة، وحلّفه بوجه الله، فأعطاه نفسه إعظامًا لوجه الله فباعه المكاتب بأربع مائة درهم، ثم أقام مدّةً مملوكًا حتى أعتقه مشتريه في قصّة طويلة ذكرنا بعضها على المعنى والله أعلم بصحة ذلك.
قال أبو محمد: وقد كان يجب ألاّ تذكر هذه الآية في الناسخ والمنسوخ؛ لأنها لم تنسخ قرآنًا، ولا سنّةً ثبتت. إنما نسخت فعلاً كانوا عليه بغير أمرٍ من الله. والقرآن كلّه أو أكثره على هذا، نقلهم حكمه عما كانوا عليه. وقد قال شريح: الآية في الربا خاصة.
والذي عليه جماعة العلماء أنها عامةٌ محكمةٌ في كلّ معسرٍ عليه دين من ربا وغيره، ينظر بالدّين إلى يسره.
).[الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه:123- 200]
قالَ عَلَمُ الدِّينِ عليُّ بنُ محمَّدٍ السَّخَاوِيُّ (ت:643هـ): (ومن ذلك قوله عز وجل: {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة} الآية [البقرة: 280] قالوا: هي ناسخة لما كانوا عليه من بيع المعسر فيما عليه من الديون، وقد قدمت أن مثل هذا لا يجمل أن يذكر في الناسخ؛ لأنه نقل عن فعل كانوا عليه بغير قرآن نزل فيه، ولا أمر من الله عز وجل، ولو كان ذا ناسخا لكان القرآن كله ناسخا؛ لأنه نزل في تغيير ما كانوا عليه وإبطاله.). [جمال القراء: 1/249-271]

روابط ذات صلة:
- أقوال المفسرين


رد مع اقتباس
  #16  
قديم 26 جمادى الآخرة 1434هـ/6-05-2013م, 09:53 PM
أم صفية آل حسن أم صفية آل حسن غير متواجد حالياً
عضو جديد
 
تاريخ التسجيل: Apr 2013
المشاركات: 2,594
افتراضي

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ۚ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ۚ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّـهُ ۚ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّـهَ رَ‌بَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا ۚ فَإِن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ ۚ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّ‌جَالِكُمْ ۖ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَ‌جُلَيْنِ فَرَ‌جُلٌ وَامْرَ‌أَتَانِ مِمَّن تَرْ‌ضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ‌ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَ‌ىٰ ۚ وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا ۚ وَلَا تَسْأَمُوا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيرً‌ا أَوْ كَبِيرً‌ا إِلَىٰ أَجَلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّـهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَىٰ أَلَّا تَرْ‌تَابُوا ۖ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَ‌ةً حَاضِرَ‌ةً تُدِيرُ‌ونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا ۗ وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ ۚ وَلَا يُضَارَّ‌ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ ۚ وَإِن تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ ۗ وَاتَّقُوا اللَّـهَ ۖ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّـهُ ۗ وَاللَّـهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(282)}

قَالَ أَبو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بْنُ حَزْمٍ الأَنْدَلُسِيُّ (ت: 320 هـ): (الآية الخامسة والعشرون: قوله تعالى: {وأشهدوا إذا تبايعتم...} الآية [282 / البقرة] منسوخة وناسخها قوله تعالى: {فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي أؤتمن أمانته} [283 مدنية / البقرة / 2].) .[الناسخ والمنسوخ لابن حزم: 19-30]
قالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النَّحَّاسُ (ت: 338 هـ): (قال جلّ وعزّ: {يا أيّها الّذين آمنوا إذا تداينتم بدينٍ إلى أجلٍ مسمًّى فاكتبوه}[البقرة: 282] الآية فافترق العلماء فيها على ثلاثة أقوالٍ فمنهم من قال: لا يسع مؤمنًا إذا باع بيعًا إلى أجلٍ أو اشترى إلّا أن يكتب كتابًا ويشهد إذا وجد كاتبًا ولا يسع مؤمنًا إذا اشترى شيئًا أو باعه إلّا أن يشهد ولا يكتب إذا لم يكن إلى أجلٍ واحتجّوا بظاهر القرآن
وقال بعضهم: هذا على النّدب والإرشاد لا على الحتم وقال بعضهم هو منسوخٌ
فممّن قال هو واجبٌ من الصّحابة ابن عمر وأبو موسى الأشعريّ
[الناسخ والمنسوخ للنحاس: 2/109]
ومن التّابعين محمّد بن سيرين، وأبو قلابة، والضّحّاك، وجابر بن زيدٍ، ومجاهدٌ ومن أشدّهم في ذلك عطاءٌ قال:
" أشهد إذا بعت وإذا اشتريت بدرهمٍ أو نصف درهمٍ أو ثلث درهمٍ أو أقلّ من ذلك فإنّ اللّه تعالى يقول: {وأشهدوا إذا تبايعتم} [البقرة: 282] "
وحدّثنا جعفر بن مجاشعٍ، قال حدّثنا إبراهيم بن إسحاق، قال حدّثنا شجاعٌ، قال حدّثنا هشيمٌ، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: «أشهد إذا بعت وإذا اشتريت ولو دستجة بقلٍ»
[الناسخ والمنسوخ للنحاس: 2/110]
وممّن كان يذهب إلى هذا محمّد بن جريرٍ وأنّه لا يحلّ لمسلمٍ إذا باع أو اشترى إلّا أن يشهد وإلّا كان مخالفًا كتاب اللّه جلّ وعزّ وكذا إن كان إلى أجلٍ فعليه أن يكتب ويشهد إن وجد كاتبًا واحتجّ بحججٍ سنذكرها في آخر الأقوال في الآية
فممّن قال إنّها منسوخةٌ من الصّحابة أبو سعيدٍ الخدريّ
كما حدّثنا محمّد بن جعفرٍ بالأنبار، قال حدّثنا إبراهيم بن ديسمٍ الخراسانيّ، قال حدّثنا عبيد اللّه بن عمر، قال حدّثنا محمّد بن مروان، قال حدّثنا عبد الملك بن أبي نضرة، عن أبيه، عن أبي سعيدٍ الخدريّ، " أنّه تلا: {يا أيّها الّذين آمنوا إذا تداينتم بدينٍ إلى أجلٍ مسمًّى فاكتبوه} [البقرة: 282] إلى {فإن أمن بعضكم بعضًا فليؤدّ الّذي اؤتمن أمانته} [البقرة: 283]، قال: «نسخت هذه ما قبلها»
[الناسخ والمنسوخ للنحاس: 2/111]
قال أبو جعفرٍ: وهذا قول الحسن، والحكم، وعبد الرّحمن بن زيدٍ
وممّن قال إنّها على النّدب والإرشاد لا على الحتم الشّعبيّ ويحكى أنّ هذا قول مالكٍ والشّافعيّ وأصحاب الرّأي
واحتجّ محمّد بن جريرٍ في أنّها أمرٌ لازمٌ وأنّه واجبٌ على كلّ من اشترى شيئًا إلى أجلٍ أن يكتب ويشهد وإن اشتراه بغير أجلٍ أن يشهد بظاهر الآية وأنّه
[الناسخ والمنسوخ للنحاس: 2/112]
فرضٌ لا يسع تضييعه لأنّ اللّه تبارك وتعالى أمر به وأمر اللّه سبحانه لازمٌ لا يحمل على النّدب والإرشاد إلّا بدليلٍ، ولا دليل يدلّ على ذلك ولا يجوز عنده أن يكون هذا نسخًا؛ لأنّ معنى النّاسخ أن ينفي حكم المنسوخ ولم تأت آيةٌ فيها لا تكتبوا ولا تشهدوا فيكون هذا ناسخًا واحتجّ بأنّه لا معنى لقول من قال: {فإن أمن بعضكم بعضًا فليؤدّ الّذي اؤتمن أمانته} [البقرة: 283] ناسخٌ للأوّل، لا معنى له لأنّ هذا حكمٌ غير ذاك وإنّما هذا حكم من لم يجد كاتبًا أو كتابًا قال جلّ وعزّ: {ولم تجدوا كاتبًا فرهانٌ مقبوضةٌ فإن أمن بعضكم بعضًا} [البقرة: 283] أي فلم يطالبه برهنٍ فليؤدّ الّذي اؤتمن أمانته
قال: ولو جاز أن يكون هذا ناسخًا للأوّل لجاز أن يكون قوله تعالى: {وإن كنتم مرضى أو على سفرٍ أو جاء أحدٌ منكم من الغائط} [النساء: 43] الآية ناسخًا لقوله تعالى: {يا أيّها الّذين آمنوا إذا قمتم إلى الصّلاة} [المائدة: 6] الآية ولجاز أن يكون قوله: {فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين} [النساء: 92] ناسخًا لقوله تعالى: {فتحرير رقبةٍ مؤمنةٍ} [النساء: 92]
قال أبو جعفرٍ: فهذا كلامٌ بيّنٌ غير أنّ الفقهاء الّذين تدور عليهم الفتيا وأكثر النّاس على أنّ هذا ليس بواجبٍ وممّا يحتجّون فيه أنّ المسلمين
[الناسخ والمنسوخ للنحاس: 2/113]
مجمعون على أنّ رجلًا لو خاصم رجلًا إلى الحاكم فقال باعني كذا فقال ما بعته ولم تكن بيّنةٌ أنّ الحاكم يستحلفه
ويحتجّون أيضًا بحديث الزّهريّ عن عمارة بن خزيمة بن ثابتٍ عن عمّه وكان من أصحاب النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم:
" أنّ رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم ابتاع فرسًا من أعرابيٍّ ثمّ استتبعه ليدفع إليه ثمنه فأسرع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم المشي فساوم قوم الأعرابيّ بالفرس ولم يعلموا فصاح الأعرابيّ بالنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أتبتاعه منّي أم أبيعه فقال: «أليس قد ابتعته منك؟» قال: لا واللّه ما ابتعته منّي فأقبل النّاس يقولون له ويحك إنّ رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم لا يقول إلّا حقًّا، فقال: هل من شاهدٍ فقال: خزيمة أنا أشهد فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «بم تشهد؟» قال: أشهد بتصديقك، فجعل النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم شهادة خزيمة شهادة رجلين "
[الناسخ والمنسوخ للنحاس: 2/114]
فاحتجّوا بهذا الحديث أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ابتاع بغير إشهادٍ
فأمّا ما احتجّ به محمّد بن جريرٍ فصحيحٌ غير أنّ ثمّ وجهًا يخرّج منه لم يذكره وهو:
أنّ عليّ بن أبي طلحة روى عن، ابن عبّاسٍ، في قوله تعالى {ما ننسخ من آيةٍ أو ننسها} [البقرة: 106] قال ننسها نتركها، هكذا يقول المحدثون والصّواب نتركها
قال أبو جعفرٍ: وفي هذا معنًى لطيفٌ شرحه سهل بن محمّدٍ على مذهب ابن عبّاسٍ وبيّن معنى ذلك
قال ننسخها نزيل حكمها بآيةٍ غيرها و {ننسها} [البقرة: 106] نزيل حكمها بأن نطلق لكم تركها كما قال تعالى: {يا أيّها النّبيّ إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن باللّه شيئًا ولا يسرقن ولا يزنين} [الممتحنة: 12] الآية ثمّ أطلق للمسلمين ترك ذلك من غير آيةٍ نسختها
[الناسخ والمنسوخ للنحاس: 2/115]
فكذا {إذا تداينتم بدينٍ إلى أجلٍ مسمًّى فاكتبوه} [البقرة: 282] وكذا {وأشهدوا إذا تبايعتم} [البقرة: 282]
قال أبو جعفرٍ: فأمّا النّسخ فكما قال محمّد بن جريرٍ، وأمّا النّدب فلا يحمل عليه الأمر إلّا بدليلٍ قاطعٍ
وأمّا قول مجاهدٍ: لا يجوز الرّهن إلّا في السّفر لأنّه في الآية كذلك، فقولٌ شاذٌّ، الجماعة على خلافه
قال أبو جعفرٍ وقرئ على أحمد بن شعيبٍ، عن يوسف بن حمّادٍ، قال: حدّثنا سفيان بن حبيبٍ، عن هشامٍ، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ، قال «توفّي رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم ودرعه مرهونةٌ عند يهوديٍّ بثلاثين صاعًا من شعيرٍ لأهله»
[الناسخ والمنسوخ للنحاس: 2/116]
قال أبو جعفرٍ: وليس كون الرّهن في الآية في السّفر ممّا يحظر غيره
وأمّا {إذا تداينتم بدينٍ} [البقرة: 282] والفائدة في {بدينٍ} [البقرة: 282] وقد تقدّم {تداينتم} [البقرة: 282] فالجواب عنه أنّ العرب تقول تداينّا أي تجازينا وتعاطينا الأخذ بيننا فأبان اللّه جلّ وعزّ بقوله {بدينٍ} [البقرة: 282] المعنى الّذي قصد له
واختلف العلماء في الآية الّتي هي تتمّة ثلاثين آيةً من هذه السّورة فمنهم من قال: هي منسوخةٌ ومنهم من قال: هي محكمةٌ عامّةٌ ومنهم من قال: هي محكمةٌ خاصّةٌ
[الناسخ والمنسوخ للنحاس: 2/117]
قَالَ هِبَةُ اللهِ بنُ سَلامَةَ بنِ نَصْرٍ المُقْرِي (ت: 410 هـ): (الآية الثّامنة والعشرون قوله تعالى {وأشهدوا إذا تبايعتم} فأمر الله بالشّهادة وقد كان جماعة من التّابعين يرون أن يشهدوا في كل بيع وابتياع منهم الشّعبيّ
وإبراهيم النّخعيّ كانوا يقولون إنّا نرى أن نشهد ولو على جرزة بقل ويروي حزمة ثمّ نسخت الشّهادة بقوله تعالى {فإن أمن بعضكم بعضاً فليؤدّ الّذي أؤتمن أمانته}
). [الناسخ والمنسوخ لابن سلامة: 31-59]
قَالَ مَكِّيُّ بنُ أبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ) : (قوله تعالى: {يا أيّها الذين آمنوا إذا تداينتم بدينٍ إلى أجلٍ مسمّىً فاكتبوه}.أمر الله جلّ ذكره في هذه الآية بكتاب الدّين للتّوثّق من الذي عليه الدّين لئلا يجحد أو يموت.
وقال بعد ذلك: {وأشهدوا إذا تبايعتم}، فأمر بالإشهاد أمرًا عامًا.
وقال: {ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرًا أو كبيرًا إلى أجله}، فأكّد إيجاب ذلك عليهم.
ثم نسخ ذلك وخفّفه بقوله: {فإن أمن بعضكم بعضًا فليؤدّ الذي أؤتمن أمانته} [البقرة: 283] - وهذا قول أبي سعيد الخدري والحسن وابن زيد والحكم والشعبي ومالك وجماعةٍ من العلماء -.
فيكون هذا - على هذا القول - ممّا نسخ فرضه بغير فرض. بل نحن مخيّرون في فعل الأوّل وتركه، من شاء كتب ومن شاء لم يكتب ومن شاء أشهد، ومن شاء لم يشهد.
وقال مالكٌ وغيره: هو ندبٌ وإرشادٌ لا فرضٌ. فلا نسخ فيه على هذا القول.
لكن يحتاج هذا القول إلى دليلٍ يخرج لفظ الأمر إلى معنى الإرشاد والنّدب، وإلاّ فالكلام على ظاهره أمر حتم. والذي يدل على أنه ندبٌ غير حتم، قوله: {فإن أمن بعضكم بعضًا فليؤدّ} [البقرة: 283] الآية، وقوله: {وأحلّ الله البيع وحرّم الرّبا} [البقرة: 275] - ولم يقل أحلّه ببيّنة -. وحمله على الإرشاد والنّدب
قول أكثر العلماء وهو الصواب إن شاء الله.
قال ابن شعبان. الأمر بالإشهاد منسوخ بقوله: {وأحلّ الله البيع}، ولم يذكر معه إشهادًا.
ويدلّ على أن الإشهاد ليس بفرضٍ إجماع العلماء أنّ من ادّعى على رجلٍ دينًا وقال لم أشهد عليه، أنه يحكم له عليه باليمين إذا أنكر. فلو كان الإشهاد فرضًا لم يحكم له عليه باليمين؛ لأنه ترك الفرض الذي لزمه وأتى بدعوى فدلّ ذلك على إجازة البيع بغير إشهاد.
ولو كان البيع لا يجوز إلاّ بإشهاد لانفسخت كلّ صفقةٍ تعقد بلا إشهاد، لأنهما عقدا على ما لا يحلّ إن كان الإشهاد فرضًا.
فدلّ ذلك على أنّه ندبٌ غير حتم.
وقالت طائفةٌ من العلماء: الآية محكمةٌ. والإشهاد والكتاب فرضٌ وعلى من له دينٌ أن يكتبه إذا وجد كاتبًا، قالوا: وقوله: {فإن أمن بعضكم بعضًا} الآية إنما ذلك عند عدم الكاتب والشّهود في السّفر - وهو قولٌ روي عن ابن عمر وابن عبّاس وأبي موسى الأشعري وابن
سيرين وأبي قلابة والضّحاك وجابر بن زيد ومجاهد.
وقد قال عطاء: أشهد إذا بعت أو اشتريت بدرهم أو بنصف درهم، أو بثلث درهم ومثله عن الشعبي، وإلى هذا القول ذهب داود، وبه قال الطّبري يريدون إذا كان التّبايع بدينٍ في الثمن أو في المثمن واستدلّوا على ذلك بأنّ الله تعالى قد جعل عوض الشّهود أخذ الرهن إذا عدم الكاتب والشهود، أو الكتاب والشاهد.
ثم ذكر الأمانة بعد عدم الشاهد والكاتب، فيترك أخذ الرّهن ويأتمنه على ماله عليه. وإنّما الأمانة عند عدم الكاتب والشّاهد.
والعفو عن أخذ الرّهن إذ لا يجد معه رهنًا.
والإشهاد واجبٌ إذا وجد الكاتب والشهود أو الشهود فقط.
وقال بعضهم: الآية على الأمر حتى يأتي ما يدلّ على أنها ندبٌ وإرشادٌ. وقد ذكرنا ما يدلّ على ذلك.
قال أبو محمد: وهذا المذهب فيه حرجٌ عظيم وضيقٌ يحتاج
الشيخ الكبير والعجوز الضعيفة القليلة الحيلة وغيرهم إذا اشتروا أو باعوا في النهار عشر مرات فأكثر بثلث درهم وبنصف درهم أن يشهدوا في كل مرّة إذا لم يقبضوا ما اشتروا في الوقت أو باعوا، وقد قال الله جلّ ذكره: {وما جعل عليكم في الدّين من حرج} [الحج: 78] فنفى فرض ما فيه الحرج، وهذا من أعظم الحرج.
وقد قال قومٌ: إنّ هذه الآية تدلّ على جواز التّبايع إلى أجل عامّةً فتدلّ على جواز السّلم في كل شيءٍ فهي ناسخة لنهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عندك، إذ السّلم: هو بيع ما ليس عندك.
وقال آخرون: الحديث مخصوصٌ في غير السّلم بإجازة النبي صلى الله عليه وسلم السّلم في الشيء المعلوم إلى أجلٍ معلوم. فالمعنى: أنه نهى عن بيع ما ليس عندك مما ليس بسلم في شيءٍ معلومٍ إلى أجلٍ معلوم. فالحديث مخصوصٌ محكم والآية محكمةٌ على النّدب
).[الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه:123- 200]
قَالَ أبو الفَرَجِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَلِيٍّ ابْنُ الجَوْزِيِّ (ت: 597هـ): (ذكر الآية الخامسة والثّلاثين: قوله تعالى: {يا أيّها الّذين آمنوا إذا تداينتم بدينٍ إلى أجلٍ مسمّىً فاكتبوه}.
هذه الآية تتضمّن الأمر بإثبات الدّين في كتابٍ وإثبات الشّهادة في البيع والدّين.
واختلف العلماء هل هذا أمر وجوبٍ أم استحبابٍ، فذهب الجمهور إلى أنّه أمر ندبٍ واستحبابٍ.
أخبرنا أبو بكر بن أبي طاهرٍ، قال: أبنا أبو محمّدٍ الجوهريّ، قال: أبنا
محمّد بن المظفّر، قال: أبنا عليّ بن إسماعيل، قال: أبنا أبو حفص عمر وابن علي قال: بنا معتمر بن سليمان، قال: سمعت أبي يقول: سألت الحسن عن الرّجل يبيع ولا يشهد فقال: أليس قد قال الله عز وجل: {فإن أمن بعضكم بعضاً}.
قال أبو حفصٍ: وحدّثنا يزيد بن (زريع) قال: بنا داود بن أبي هندٍ عن الشّعبيّ قال: "إن شاء أشهد".
وأخبرنا ابن الحصين، قال: أبنا أبو طالب بن غيلان، قال: أبنا أبو بكرٍ الشّافعيّ، قال: أبنا إسحاق بن ميمون، قال: بنا موسى بن مسعود،
قال: بنا الثّوريّ عن إسماعيل بن أبي خالدٍ عن الشّعبيّ قال: إن شاء أشهد وإن شاء لم يشهد ثمّ قرأ {فإن أمن بعضكم بعضاً} فعلى هذا القول (الآية محكمةٌ).
وذهب آخرون) إلى أنّ الكتابة والإشهاد واجبان وهو مرويٌّ عن ابن عمر وأبي موسى ومجاهدٍ وعطاءٍ وابن سيرين والضّحّاك وأبي قلابة
والحكم وابن زيدٍ في آخرين.
ثمّ اختلف أرباب هذا القول هل نسخ أم لا؟
فذهب قومٌ منهم عطاءٌ وإبراهيم إلى أنه لم ينسخ.
وذهب آخرون منهم أبو سعيدٍ الخدريّ والشّعبيّ وابن زيدٍ إلى أنّه نسخ بقوله: {فإن أمن بعضكم بعضاً}.
أخبرنا محمّد بن عبد الباقي البزّاز قال: أبنا أبو محمّدٍ الجوهريّ، قال: أبنا محمّد بن المظفر، قال: بنا عليّ بن إسماعيل بن حمّادٍ، قال: أبنا أبو حفصٍ عمرو بن علي قال: بنا محمد بن مروان، قال: بنا عبد الملك بن أبي (نضرة) عن أبيه عن أبي سعيدٍ، أنه قرأ هذه الآية {يا أيّها الّذين آمنوا إذا تداينتم بدينٍ إلى أجلٍ مسمّىً فاكتبوه} حتى بلغ {فإن أمن بعضكم بعضاً} قال: "هذه نسخت ما قبلها".
أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: أبنا عمر بن عبيد اللّه البقّال، قال:
أبنا ابن بشران، قال: أبنا إسحاق الكاذيّ، قال: بنا عبد اللّه بن أحمد بن حنبلٍ قال: حدّثني أبي قال: بنا عفان، قال: بنا عبد الوارث.
وأخبرنا محمّد بن أبي القاسم، قال: بنا أحمد بن أحمد، قال: بنا أبو نعيمٍ الحافظ، قال: أبنا أحمد بن إسحاق قال: بنا أبو يحيى الرازي، قال: بنا عبد الرّحمن بن عمر، قال: بنا عبد الرّحمن بن مهديٍّ قال بنا محمّد بن دينارٍ كلاهما عن يؤنس عن الحسن {وأشهدوا إذا تبايعتم} قال: نسختها {فإن أمن بعضكم بعضاً}.
قلت: وهذا ليس بنسخٍ، لأنّ النّاسخ (ينافي) المنسوخ ولم يقل ههنا فلا تكتبوا، ولا تشهدوا، وإنّما بيّن التّسهيل في ذلك ولو كان مثل هذا ناسخًا لكان قوله: {فلم تجدوا ماءً فتيمّموا} ناسخًا للوضوء بالماء، وقوله: {فمن لم يجد فصيام شهرين} ناسخاً قوله: {فتحرير رقبةٍ} والصّحيح أنّه ليس ههنا نسخٌ وأنّه أمر ندبٍ.
وقد اشترى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم الفرس الّذي شهد فيه خزيمة (بلا) إشهاد.
أخبرنا المبارك بن عليٍّ، قال: أبنا أحمد بن الحسين بن قريش، قال: أبنا أبو إسحق البرمكيّ، قال: أبنا محمّد بن إسماعيل بن العبّاس، قال: أبنا أبو بكر بن أبي داود، قال: بنا محمد بن بشار، قال: بنا محمد، قال: بنا شعبة، عن فراسٍ، عن الشّعبيّ، عن أبي بردة عن أبي موسى. قال: "ثلاثةٌ يدعون اللّه فلا يستجاب لهم... "
أحدهم: رجلٌ كان له على رجلٍ دينٌ فلم يشهد عليه.
). [نواسخ القرآن:125- 236]
قالَ عَلَمُ الدِّينِ عليُّ بنُ محمَّدٍ السَّخَاوِيُّ (ت:643هـ): (ومن ذلك قوله عز وجل: {إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه} إلى قوله عز وجل: {..... ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله} الآية [البقرة: 282] فأمر بالكتابة والإشهاد، قالوا: ثم نسخ جميع ذلك بقوله سبحانه وتعالى: {فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذين أؤتمن أمانته} الآية [البقرة: 283] وليس هذا بنسخ، وفيه بيان كون الأمر بالكتابة والإشهاد ليس على الوجوب.
وذهب ابن عمر وابن عباس وأبو موسى الأشعري وجابر بن زيد وابن سيرين والضحاك وأبو قلابة وعطاء والشعبي وداود إلى وجوب الكتابة والإشهاد، وأوجبوا على رب الدين أن يكتب وأن يشهد إذا قدر على ذلك.
قالوا: وأما قوله عز وجل: {فإن أمن بعضكم بعضا} الآية [البقرة: 283] فإنما ذلك عند عدم القدرة على الكتابة والإشهاد، وإذا عفا عن الرهن أو لم يجده.
وقال الشعبي وعطاء: أشهد إذا بعت أو اشتريت بدرهم أو بنصف درهم أو بثلث درهم، وبهذا يقول الطبري، وعلى الجملة فالآية محكمة على كل حال.
). [جمال القراء: 1/249-271]

روابط ذات صلة:
- أقوال المفسرين


رد مع اقتباس
  #17  
قديم 27 جمادى الآخرة 1434هـ/7-05-2013م, 09:21 AM
أم صفية آل حسن أم صفية آل حسن غير متواجد حالياً
عضو جديد
 
تاريخ التسجيل: Apr 2013
المشاركات: 2,594
افتراضي

قوله تعالى:{لِّلَّـهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْ‌ضِ ۗ وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّـهُ ۖ فَيَغْفِرُ‌ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّـهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‌(284)}


قال الوليد بن محمد الموقّري الأموي (ت:182هـ): حدثني محمد بن مسلم بن عبد الله بن شِهَاب الزهري(124هـ) قال: (
وقال تعالى: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها}. فيما فرض إن لم يستطع الحج ولا الجهاد أولم يستطع أن يصلي قائماً فيصلي جالساً. قال تعالى: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء}. نسخت بقوله تعالى:الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} أي لا يكتب على أحدٍ إلا ما فعل وما عمل.). [الناسخ والمنسوخ للزهري: 18-22]
قال محمد بن كثيرٍ العَبْدي (ت:223هـ) حدثنا همّام بن يحيى البصري قال: (وعن قتادة : {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء} ثم أنزل الله عز وجل والآية التي بعدها فيها تخفيف ويسر وعافية لا : {يكلف الله نفسا إلا وسعها أي طاقتها لها ما كسبت} فنسختها هذه الآية

حدثنا قتادة عن زرارة بن أوفى عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله عز وجل تجاوز لأمتي عن كل شيء تحدث أنفسها ما لم تكلم به أو تعمل به)) ). [الناسخ والمنسوخ لقتادة: 1/31-38]
قَالَ أَبو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بْنُ حَزْمٍ الأَنْدَلُسِيُّ (ت: 320 هـ): (الآية السادسة والعشرون: قوله تعالى: {لله ما في السموات وما في الأرض) هذا محكم ثم قال: (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله} [284 مدنية / البقرة / 2] فشق نزولها عليهم فقال النبي (ص) لا تقولوا كما قالت اليهود سمعنا وعصينا ولكن قولوا سمعنا وأطعنا فلما علم الله تسليمهم لأمره أنزل ناسخ هذه بقوله تعالى: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها}
[286 مدنية / البقرة / 2] وخفف من الوسع بقول تعالى: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} [185 مدنية / البقرة / 2] ) .[الناسخ والمنسوخ لابن حزم: 19-30]

قالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النَّحَّاسُ (ت: 338 هـ): (قال جلّ وعزّ {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه} [البقرة: 284] الآية فعن ابن عبّاسٍ فيها ثلاثة أقوالٍ:
إحداهنّ: أنّها منسوخةٌ بقوله تعالى: {لا يكلّف اللّه نفسًا إلّا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} [البقرة: 286] وسنذكره بإسناده
والثّاني: أنّها غير منسوخةٍ وأنّها عامّةٌ يحاسب المؤمن والكافر والمنافق بما أبدى وأخفى فيغفر للمؤمنين ويعاقب الكافرون والمنافقون
والثّالث: أنّها مخصوصةٌ وأنّها في كتمان الشّهادة وإظهارها كذا روى يزيد بن أبي زيادٍ عن مقسمٍ عن ابن عبّاسٍ
[الناسخ والمنسوخ للنحاس: 2/118]
فأمّا الرّواية عن، عائشة، فإنّها قالت «ما همّ به العبد من خطيئةٍ عوقب على ذلك بما يلحقه من الهمّ والحزن في الدّنيا»
فهذه أربعة أقوالٍ
وقرئ على أحمد بن محمّد بن الحجّاج عن يحيى بن سليمان، قال: حدّثنا إسماعيل ابن عليّة، قال: حدّثنا ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، في قول اللّه تعالى {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه} [البقرة: 284] فقال: «هذا في الشّكّ واليقين»
[الناسخ والمنسوخ للنحاس: 2/119]
وهذه الأقوال الخمسة يقرب بعضها من بعضٍ فقول مجاهدٍ في الشّكّ واليقين قريبٌ من قول ابن عبّاسٍ إنّها لم تنسخ وإنّها عامّةٌ، وقول ابن عبّاسٍ الّذي رواه عنه مقسمٌ إنّها في الشّهادة يصحّ على أنّ غير الشّهادة بمنزلتها وقول عائشة إنّها ما يلحق الإنسان في الدّنيا على أن تكون عامّةً أيضًا
فأمّا أن تكون منسوخةً فيصحّ من جهةٍ ويبطل من جهةٍ فأمّا الجهة الّتي تبطل منها فإنّ الأخبار لا يكون فيها ناسخٌ ولا منسوخٌ ومن زعم أنّ في الأخبار ناسخًا ومنسوخًا فقد ألحد أو جهل فأخبر اللّه تعالى أنّه يحاسب من أبدى شيئًا أو أخفاه فمحالٌ أن يخبر بضدّه وأيضًا فإنّ الحكم إذا كان منسوخًا فإنّما ينسخ بنفيه وبآخر ناسخٌ له نافٍ له من كلّ جهاته فلو كان {لا يكلّف اللّه نفسًا إلّا وسعها} [البقرة: 286] ناسخًا لنسخ تكليف ما لا طاقة به وهذا منفيٌّ عن اللّه عزّ وجلّ أن يتعبّد به كما قال تعالى {لا يكلّف اللّه نفسًا إلّا ما آتاها} [الطلاق: 7]
وصحّ عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، أنّه كان يلقّن أصحابه إذا بايعوا «فيما استطعتم»
[الناسخ والمنسوخ للنحاس: 2/120]
فأمّا الوجه الّذي يصحّ منه وهو الّذي ينبغي أن يتبيّن ويوقف عليه لأنّ المعاند ربّما عارض بقول الصّحابة والتّابعين في أشياء من الأخبار ناسخةٌ ومنسوخةٌ فالجاهل باللّغة إمّا أن يحيّر فيها وإمّا أن يلحد فيقول في الأخبار ناسخٌ ومنسوخٌ وهو يعلم أنّ الإنسان إذا قال قام فلانٌ ثمّ نسخ هذا فقال لم يقم فقد كذب وفي حديث ابن عبّاسٍ تبيين ما أراد
كما حدّثنا محمّد بن جعفرٍ الأنباريّ، قال: حدّثنا صالح بن زيادٍ الرّقّيّ، قال: حدّثنا يزيد، قال أخبرنا سفيان بن حسينٍ، عن الزّهريّ، عن سالمٍ، أنّ عبد اللّه بن عمر، تلا {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه} [البقرة: 284] فدمعت عيناه فبلغ صنيعه ابن عبّاسٍ فقال: " يرحم اللّه أبا عبد الرّحمن صنع كما صنع أصحاب محمّدٍ صلّى الله عليه وسلّم حين أنزلت ونسختها الآية الّتي بعدها {لا يكلّف اللّه نفسًا إلّا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} [البقرة: 286] معنى
[الناسخ والمنسوخ للنحاس: 2/121]
نسختها نزلت بنسختها سواءً وليس هذا من النّاسخ والمنسوخ في شيءٍ "
قرئ على عبد اللّه بن الصّقر بن نصرٍ، عن زياد بن أيّوب، قال: أخبرنا هشيمٌ، قال: أخبرنا شيبان، عن الشّعبيّ، قال: لمّا نزلت {وإن تبدوا ما في
[الناسخ والمنسوخ للنحاس: 2/122]
أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه} [البقرة: 284] لحقتهم منها شدّةٌ حتّى نسخها ما بعدها "
وفي هذا معنًى لطيفٌ وهو أن يكون معنى نسختها نسخت الشّدّة الّتي لحقتهم أي أزالتها كما يقال نسخت الشّمس الظّلّ أي أزالته
ومن حسن ما قيل في الآية وأشبهه بالظّاهر قول ابن عبّاسٍ إنّها عامّةٌ يدلّك على ذلك
ما حدّثناه أحمد بن عليّ بن سهلٍ، قال: حدّثنا زهيرٌ وهو ابن حربٍ، قال: أخبرنا إسماعيل وهو ابن عليّة عن هشامٍ وهو الدّستوائيّ، عن قتادة، عن صفوان بن محرزٍ، قال: قال رجلٌ لابن عمر: كيف سمعت رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم يقول في النّجوى؟ قال: سمعته يقول: " يدني المؤمن من ربّه تعالى حتّى يضع عليه كنفه فيقرّره بذنوبه فيقول: هل تعرف؟ فيقول: ربّ أعرف، قال: فإنّي سترتها عليك في الدّنيا وإنّي أغفرها لك اليوم، فيعطى صحيفة حسناته، فأمّا الكفّار والمنافقون فينادى بهم على رءوس الخلائق هؤلاء الّذين كذبوا على اللّه جلّ وعزّ " ففي هذا الحديث حقيقة
[الناسخ والمنسوخ للنحاس: 2/123]
معنى الآية وأنّه لا نسخ فيها وإسناده إسنادٌ لا يدخل القلب منه لبسٌ وهو من أحاديث أهل السّنّة والجماعة
[الناسخ والمنسوخ للنحاس: 2/124]

قَالَ هِبَةُ اللهِ بنُ سَلامَةَ بنِ نَصْرٍ المُقْرِي (ت: 410 هـ): (الآية التّاسعة والعشرون قوله تعالى {للّه ما في السماوات وما في الأرض} هذا محكم والمنسوخ قوله {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله} الآية
اختلف المفسّرون في معناها فروي عن عائشة رضي الله عنها أنّها قالت إن الله تعالى يخبر الخلق يوم القيامة بما عملوا في الدّنيا سرا وجهرا فيغفر للمؤمن ما أسر ويعاقب الكافر على ما أسر وقال ابن مسعود هي عموم في سائر أهل القبلة
وقال المحقّقون لما نزلت هذه الآية شقّ نزولها عليهم وقالوا إنّه يجول الأمر في نفوسنا لو سقطنا من السّماء إلى الأرض لكان ذلك أهون علينا وقال المسلمون يا رسول الله لا نطيق فقال النّبي (صلى الله عليه وسلم) لا تقولوا كما قالت اليهود سمعنا وعصينا ولكن قولوا سمعنا واطعنا فنزلت {لا يكلّف الله نفساً إلّا وسعها} الآية
الآية الثّلاثون قوله تعالى {لا يكلّف الله نفسا إلّا وسعها} علم الله تعالى أن الوسع لا يطاق فخفف الوسع بقوله تعالى {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} وقد قيل إن الله تعالى نسخ بآخر آية الدّين أولها وقد روى عن النّبي (صلى الله عليه وسلم) حجّة لمن ذهب إلى نسخ قوله {أو تخفوه} وهو قول النّبي (صلى الله عليه وسلم) إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم
يكلم به أو يعمل وعن الخطأ والنّسيان وما استكرهوا عليه فهذا ما ورد في منسوخ سورة البقرة والله تعالى أعلم). [الناسخ والمنسوخ لابن سلامة: 31-59]

قَالَ مَكِّيُّ بنُ أبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ) : (قوله تعالى: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله}:
قال ابن عباس: هي منسوخةٌ بقوله: {لا يكلّف الله نفسًا إلاّ وسعها} [البقرة: 286].
وقال ابن مسعود: وعن أحدهما أيضًا أنه قال: هي محكمةٌ لا منسوخةٌ، وأن الله يحاسب كلّ نفسٍ بما أخفت فيغفر للمؤمن ويعاقب الكافر، وهو قوله: {فيغفر لمن يشاء} وهو المؤمن {ويعذّب من يشاء}. وهو الكافر وهذا قولٌ حسن.
وعن ابن عباسٍ أيضًا أنه قال: الآية مخصوصةٌ محكمةٌ نزلت في كتمان الشّهادة خاصةً. ودلّ على ذلك تقدّم ذكر الشهادة والأمر بترك كتمانها وأدائها وهو قول عكرمة فهذا أيضًا قولٌ صالح.).[الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه:123- 200]

قَالَ أبو الفَرَجِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَلِيٍّ ابْنُ الجَوْزِيِّ (ت: 597هـ): (ذكر الآية السّادسة والثّلاثين: قوله تعالى: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به}.
أمّا إبداء ما في النّفس فإنّه العمل بما أضمره العبد
أو نطق به، وهذا ممّا يحاسب عليه العبد، ويؤاخذ به.
فأمّا ما يخفيه في نفسه فاختلف العلماء في المراد بالمخفيّ في هذه الآية على قولهم:
أحدهما: أنّه عامٌّ في جميع المخفيّات. وهو قول الأكثرين.
ثمّ اختلفوا هل هذا الحكم ثابتٌ في المؤاخذة أم منسوخٌ؟ على قولين:
أحدهما: أنّه منسوخٌ بقوله: {لا يكلّف اللّه نفساً إلاّ وسعها}. هذا قول علي وابن مسعود في آخرين.
أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: أبنا عمر بن عبيد اللّه، قال: أبنا ابن بشران، قال: أبنا إسحق الكاذي، قال: بنا عبد اللّه بن أحمد بن حنبلٍ، قال حدّثني أبي، قال: بنا عبد العزيز يعني: ابن أبانٍ، قال: بنا إسرائيل عن السّدّيّ، عمّن سمع عليًّا رضي اللّه عنه، قال: نزلت {لله ما في السّماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه} أحزنتنا وهمّتنا فقلنا: يحدّث أحدنا نفسه فيحاسب به فلم ندر ما يغفر منه وما لم يغفر، فنزلت بعدها فنسختها {لا يكلّف اللّه نفساً إلاّ وسعها}.
أخبرنا المبارك بن عليٍّ قال: أبنا أحمد بن الحسين بن قريش، قال: أبنا أبو إسحق البرمكيّ قال: أبنا: محمّد بن إسماعيل بن عباس، قال: أبنا أبو بكر بن أبي داود قال: بنا إسحاق بن إبراهيم بن زيدٍ، قال: بنا
حجاج قال: بنا هشيمٌ عن (سيّارٍ) أبي الحكم عن الشّعبيّ عن أبي عبيدة عن عبد اللّه بن مسعودٍ، في قوله: {إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه} قال نسختها الآية الّتي تليها: {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت}.
أخبرنا أبو بكرٍ العامريّ، قال: أبنا أبو عبد اللّه الطّوسيّ، قال: أبنا عليّ بن أحمد النّيسابوريّ قال: أبنا عبد القاهر بن ظاهرٍ، قال: أبنا محمّد بن عبد اللّه بن عليٍّ قال: أبنا محمّد بن إبراهيم اليوشنجي، قال: أبنا أميّة بن بسطامٍ، قال: بنا يزيد بن زريع، قال: بنا روح بن القاسم عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: (لمّا أنزل الله عز وجل {إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه} اشتدّ ذلك على أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم ثمّ أتوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم، فقالوا: لو كلفنا من الأعمال ما نطيق الصّلاة والصّيام والجهاد، والصّدقة وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم (أتريدون) أن تقولوا كما قال أهل الكتاب من قبلكم - أراه (قال) سمعنا وعصينا - قولوا سمعنا
وأطعنا غفرانك ربّنا وإليك المصير (فلمّا اقترأها) القوم (ذلّت) بها ألسنتهم فأنزل الله عز وجل في إثرها {آمن الرّسول بما أنزل إليه من
ربّه} الآية كلّها، ونسخها اللّه تعالى فأنزل اللّه {لا يكلّف اللّه نفساً إلاّ وسعها} الآية إلى آخرها.
أخبرنا عبد الوهّاب، قال: أبنا أبو طاهرٍ الباقلاويّ، قال: أبنا ابن شاذان، قال: بنا عبد الرّحمن بن الحسن، قال: بنا إبراهيم بن الحسين، قال: بنا آدم. قال: بنا ورقاء عن عطاء بن السّائب عن سعيد بن جبيرٍ عن ابن عبّاسٍ، قال: لمّا نزلت: {إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه} نسختها الآية الّتي بعدها {لا يكلّف اللّه نفساً إلاّ وسعها}.
أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: أبنا عمر بن عبيد اللّه البقّال قال: أبنا ابن بشران، قال: بنا إسحاق الكاذي، قال: بنا عبد اللّه بن أحمد بن حنبلٍ قال: حدّثني أبي، قال بنا علي بن حفص، قال بنا ورقاء عن عطاء ابن السّائب عن ابن جبيرٍ عن ابن عبّاسٍ رضي اللّه عنهما {لا يكلّف اللّه نفساً إلاّ وسعها} قال نسخت هذه الآية {إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه
يحاسبكم به اللّه}.
قال أحمد: وحدّثنا محمّد بن حميدٍ عن سفيان عن آدم عن سعيد ابن جبيرٍ عن ابن عبّاسٍ قال: لما نزلت: {إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه} شقّ ذلك على المسلمين، قال: فنزلت: {لا يكلّف اللّه نفساً إلاّ وسعها} فنسختها.
أخبرنا بن ناصرٍ، قال: بنا علي ابن أيّوب، قال: أبنا أبو عليّ بن شاذان، قال: أبنا أبو بكر النجاد، قال: بنا أبو داود السجستاني، قال: بنا أحمد بن محمّد بن ثابتٍ، قال: حدثني أبو عليّ بن الحسين عن أبيه عن يزيد النّحويّ عن عكرمة عن ابن عبّاسٍ رضي اللّه عنهما {إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه} قال: نسخت، فقال لله: {لا يكلّف اللّه نفساً إلاّ وسعها}.
أخبرنا المبارك بن عليٍّ، قال: بنا أحمد بن الحسين، قال: أبنا أبو إسحاق البرمكيّ، قال: أبنا محمد بن إسماعيل بن عباس، قال: بنا أبو بكر ابن أبي داود، قال: بنا عليّ بن سهل بن المغيرة، قال: بنا عفان، قال: بنا أبو عوانة، عن عطاء بن السّائب، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ رضي اللّه عنهما قال: نسختها الآية الّتي بعدها {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت}.
أخبرنا عبد الوهّاب، قال: أبنا عاصم بن الحسن، قال: أبنا أبو عمر بن مهديٍّ، قال: بنا الحسين بن إسماعيل المحامليّ، قال: بنا يعقوب الدورقي، قال: بنا يزيد بن هارون، قال: أبنا سفيان عن الزّهريّ، عن سالمٍ عن ابن عمر رضي اللّه عنهما أنّه تلا هذه الآية: {إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه} فدمعت عيناه فبلغ صنيعه ابن عبّاسٍ رضي اللّه عنهما فقال: "يرحم اللّه أبا عبد الرّحمن لقد صنع ما صنع أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حين نزلت فنسختها: {لا يكلّف اللّه نفساً إلاّ وسعها} ".
أخبرنا بن الحصين، قال: أبنا ابن المذهّب، قال: أبنا أحمد بن جعفرٍ، قال: بنا عبد اللّه بن أحمد بن حنبل، قال: حدثني أبي، قال: بنا عبد الرزاق، قال: بنا معمرٌ عن حميدٍ الأعرج، عن مجاهدٍ، قال: دخلت على ابن عبّاسٍ، فقلت: "يا ابن عبّاسٍ كنت عند ابن عمر، فقرأ هذه الآية، فبكى قال: "أيّة آية؟ "
قلت: {إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه} قال ابن عبّاسٍ إنّ هذه الآية حين أنزلت غمّت أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم غماً شديدًا، وغاظتهم غيظًا شديدًا يعني وقالوا: يا رسول اللّه هلكنا إن كنّا نؤاخذ بما تكلّمنا به وبما نعمل به فأمّا قلوبنا فليست بأيدينا، فقال لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: قولوا سمعنا وأطعنا. قالوا: سمعنا وأطعنا، قال: فنسختها هذه الآية {آمن الرّسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون}
إلى {لا يكلّف اللّه نفساً إلاّ وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} فتجوّز لهم عن حديث النّفس وأخذوا بالأعمال.
أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: أبنا عمر بن عبيد اللّه البقّال، قال: أبنا ابن بشران، قال: بنا إسحاق بن أحمد الكاذيّ، قال: بنا عبد اللّه بن أحمد بن حنبلٍ، قال: حدّثني أبي: قال بنا وكيع، قال: بنا سفيان عن عطاء ابن السّائب عن سعيد بن جبيرٍ، وعن إبراهيم بن مهاجرٍ عن إبراهيم، وعن جابرٍ عن مجاهدٍ، قال: ونسخت هذه الآية {لا يكلّف اللّه نفساً إلاّ وسعها} نسخت {إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه}.
قال أحمد: وحدّثنا معاوية بن عمرو، قال: بنا زايدة عن عطاء بن السّائب عن سعيد بن جبيرٍ، قال: {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت}، نسخت {إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه}.
قال أحمد: وحدثّنا يونس قال: بنا حمّادٌ يعني: ابن سلمة عن حميد عن الحسن {إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه} قال: نسختها {لا يكلّف اللّه نفساً إلاّ وسعها}.
قال أحمد: وحدّثنا عبد الوهّاب عن سعيدٍ
عن قتادة قال: نزلت هذه الآية فكبرت عليهم فأنزل اللّه تعالى بعدها آيةً فيها تيسيرٌ وعافيةٌ وتخفيفٌ {لا يكلّف اللّه نفساً إلاّ وسعها}.
أخبرنا المبارك بن عليٍّ، قال: أبنا أحمد بن الحسين بن قريش، قال: أبنا أبو إسحق البرمكيّ قال: أبنا محمّد بن إسماعيل الوراق، قال: بنا أبو بكر بن أبي داود، قال: بنا زياد بن أيوب، قال: بنا هشيمٌ عن يسارٍ عن الشّعبيّ قال: لما نزلت: {إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه} كان فيها شدّةٌ حتّى نزلت الآية الّتي بعدها {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} فنسخت ما قبلها.
قال أبو بكرٍ: وحدّثنا إسحاق بن إبراهيم، قال بنا الأسود عن حمّادٍ عن يونس عن الحسن {إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه} قال: نسختها {لا يكلّف اللّه نفساً إلاّ وسعها}. وإلى هذا القول ذهبت عائشة رضي اللّه عنها، وعليّ بن الحسين، وابن سيرين وعطاءٌ الخراسانيّ والسدي، وابن زيد، ومقاتل.
والقول الثاني: أنه لم تنسخ، ثمّ اختلف أرباب هذا القول على ثلاثة أقوالٍ:
أحدها: أنّه ثابتٌ في المؤاخذة على العموم فيؤاخذ به من يشاء ويغفر لمن يشاء. وهذا مرويٌّ عن ابن عبّاسٍ أيضًا وابن عمر، والحسن واختاره
أبو سليمان الدمشقي، والقاضي أبو يعلى.
والثّاني: أنّ المؤاخذة به واقعةٌ، لكن معناها إطلاع العبد على فعله السيئ.
أخبرنا المبارك بن محلي، قال: أبنا أحمد بن الحسين بن قريشٍ، قال: أبنا أبو إسحاق البرمكيّ، قال. أبنا محمّد بن إسماعيل بن عباس، قال: أبنا أبو بكر بن أبي داود، قال: بنا يعقوب بن سفيان، قال: بنا أبو صالح قال: بنا معاوية بن صالحٍ عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عبهما {إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه} قال: هذه الآية (لم تنسخ) ولكن الله عز وجل إذا جمع الخلائق يوم القيامة يقول لهم: إنّي أخبركم بما أخفيتم في أنفسكم ممّا (لم يطّلع) عليه ملائكتي فأمّا المؤمنون فيخبرهم ويغفر لهم ما حدّثوا به أنفسهم، وهو قوله: {يحاسبكم به اللّه} يقول: يخبركم به اللّه.
وفي روايةٍ أخرى: وأمّا أهل الشّرك والرّيب فيخبرهم بما أخفوا من التّكذيب وهو قوله: {فيغفر لمن يشاء ويعذّب من يشاء}.
وقال أبو بكرٍ: وحدّثنا محمّد بن أيوب، قال: بنا أحمد بن عبد الرّحمن، قال: بنا عبد اللّه بن أبي جعفرٍ عن أبيه عن الرّبيع بن أنس، قال: هي محكمةٌ لم ينسخها شيءٌ. (يقول) {يحاسبكم به اللّه} يقول: يعرّفه يوم القيامة أنّك
أخفيت في صدرك كذا وكذا فلا يؤاخذه.
والثّالث: أنّ محاسبة العبد به نزول الغمّ والحزن والعقوبة والأذى به في الدّنيا، وهذا قول عائشة رضي اللّه عنها.
والقول الثّاني: أنّه أمرٌ به خاصٌّ في نوعٍ من المخفيّات ثمّ لأرباب هذا القول فيه قولان:
أحدهما: (أنّه) في الشّهادة والمعنى إن تبدوا بها (الشّهود) ما في أنفسكم من كتمان الشّهادة أو تخفوه.
أخبرنا المبارك بن عليٍّ، قال: أبنا أحمد بن الحسين بن قريشٍ، قال: أبنا إسحاق البرمكيّ، قال: أبنا محمّد بن إسماعيل، قال: بنا أبو بكر بن أبي داود، قال: بنا زياد بن أيوب.
وأخبرنا عبد الوهّاب الحافظ، قال: أبنا عاصم بن الحسن، قال: أبنا أبو عمر بن مهديٍّ، قال: أبنا أبو عبد اللّه المحاملي، قال: بنا يعقوب الدّورقيّ.
وأخبرنا إسماعيل بن أحمد، ابن بشران، قال: بنا الكاذي، قال: قال: أبنا عمربن عبيد الله، قال: أبنا بنا عبد اللّه بن أحمد، قال: حدثني
أبي قال: بنا هشيمٌ، قال: أبنا يزيد بن أبي زيادة، عن مقسمٍ عن ابن عبّاسٍ رضي اللّه عنهما أنه قال: {إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه} قال: نزلت في كتمان الشّهادة، وإقامتها.
قال أحمد: وحدّثنا يونس، قال: بنا حمّادٌ عن حميدٍ عن عكرمة، قال: هذه في الشّهادة {ومن يكتمها فإنّه آثمٌ قلبه} وبهذا قال الشّعبيّ.
والثّاني: أنّه الشّكّ واليقين.
أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: (أبنا) عمر بن عبيد اللّه البقّال، قال: أبنا ابن بشران قال: بنا إسحاق الكاذي، فال: بنا عبد الله ابن أحمد ابن حنبل، قال: حدثني أبي.
وأخبرنا المبارك بن عليٍّ قال: أبنا أحمد بن الحسين بن قريش، قال: أبنا أبو إسحق البرمكيّ قال: أبنا محمّد بن إسماعيل بن عباس، قال: أبنا أبو بكر بن أبي داود، قال: بنا المؤمل بن هشام (قال) بنا إسماعيل بن علية.
وأخبرنا عبد الوهّاب، قال: أبنا أبو طاهرٍ الباقلاويّ، قال: أبنا ابن شاذان، قال: أبنا عبد الرّحمن بن الحسن، قال: بنا إبراهيم بن الحسين، قال: بنا آدم، قال: بنا ورقاء كلاهما عن ابن أبي نجيح عن مجاهد {إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه} من الشّكّ واليقين فعلى هذا الآية محكمةٌ.
قال:
ابن الأنباريّ والّذي نختاره أن تكون الآية محكمةٌ لأنّ النّسخ إنّما يدخل على الأمر والنّهي.
وقال أبو جعفرٍ النّحّاس: "لا يجوز أن يقع (في) مثل هذه الآية نسخٌ؛ لأنّها خبرٌ، وإنّما التّأويل أنّه لمّا أنزل اللّه تعالى: {إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه} اشتدّ عليهم ووقع في قلوبهم منه شيءٌ عظيمٌ، فنسخ ذلك قوله تعالى: {لا يكلّف اللّه نفساً إلاّ وسعها} أي: نسخ ما وقع بقلوبهم، أي: أزاله ورفعه".
). [نواسخ القرآن:125- 236]
قالَ أبو الفَرَجِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَلِيٍّ ابْنِ الْجَوْزِيِّ (ت:597هـ): (الثالثة والعشرون: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه} قيل نسخت بقوله {لا يكلّف اللّه نفساً إلّا وسعها} وقال ابن عباس نزلت في كتمان الشهادة وإقامتها وقال مجاهد في الشك واليقين فعلى هذا الأية محكمة ويؤكده أنه خبر.). [المصَفَّى بأكُفِّ أهلِ الرسوخ: 14-21]
قالَ عَلَمُ الدِّينِ عليُّ بنُ محمَّدٍ السَّخَاوِيُّ (ت:643هـ): (ومن ذلك قولهم في قوله عز وجل: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله} الآية [البقرة: 284] إنه منسوخ بقوله عز وجل: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} الآية [البقرة: 286] وليس في هذين ناسخ ومنسوخ، والنسخ لا يدخل في الأخبار.
ففي هذه السورة ثلاثون موضعا أدخلت في الناسخ والمنسوخ لم يقع الاتفاق على شيء منها، بل فيها ما لا يشك في أنه ليس بناسخ ولا منسوخ، ومستند قولهم في ذلك الظن لا اليقين، ولا يثبت ناسخ القرآن ومنسوخه بالظن والاجتهاد). [جمال القراء: 1/249-271]

روابط ذات صلة:
- أقوال المفسرين


رد مع اقتباس
  #18  
قديم 27 جمادى الآخرة 1434هـ/7-05-2013م, 09:25 AM
أم صفية آل حسن أم صفية آل حسن غير متواجد حالياً
عضو جديد
 
تاريخ التسجيل: Apr 2013
المشاركات: 2,594
افتراضي

قوله تعالى:{لَا يُكَلِّفُ اللَّـهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ۗ رَ‌بَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ۚ رَ‌بَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرً‌ا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ۚ رَ‌بَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ۖ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ‌ لَنَا وَارْ‌حَمْنَا ۚ أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْ‌نَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِ‌ينَ(286)}
قَالَ أبو الفَرَجِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَلِيٍّ ابْنُ الجَوْزِيِّ (ت: 597هـ): (ذكر الآية السّابعة والثّلاثين: قوله تعالى: {لا يكلّف اللّه نفساً إلاّ وسعها}.
اختلفوا في هذه الآية هل هي محكمةٌ أو منسوخةٌ على قولين:
أحدهما: أنّها محكمةٌ، وأنّ اللّه تعالى إنّما يكلّف العباد قدر طاقتهم
فحسب وهذا مذهب الأكثرين.
والثّاني: أنّها اقتضت التّكليف بمقدار الوسع بحيث لا ينقص منه، فنزل قوله تعالى: {يريد اللّه بكم اليسر} وذلك ينقص عن مقدار الوسع فنسختها.
والقول الأول أصح.).
[نواسخ القرآن:125- 236]

روابط ذات صلة:
- أقوال المفسرين


رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 11:17 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
جميع الحقوق محفوظة