العودة   جمهرة العلوم > قسم التفسير > جمهرة التفاسير > تفسير سورة التوبة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 6 جمادى الأولى 1434هـ/17-03-2013م, 10:35 PM
أم حذيفة أم حذيفة غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: May 2011
المشاركات: 1,054
افتراضي تفسير سورة التوبة [ الآيتين (117) ، (118) ]

تفسير سورة التوبة
[ الآيتين (117) ، (118) ]

بسم الله الرحمن الرحيم
{ لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) }



رد مع اقتباس
  #2  
قديم 6 جمادى الأولى 1434هـ/17-03-2013م, 10:40 PM
أم حذيفة أم حذيفة غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: May 2011
المشاركات: 1,054
افتراضي

تفسير السلف

تفسير قوله تعالى: (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) )
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (عن معمر عن عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب في قوله تعالى الذين اتبعوه في ساعة العسرة قال خرجوا في غزوة تبوك الرجلان والثلاثة على بعير واحد وخرجوا في حر شديد فأصابهم يوما عطش شديد حتى جعلوا ينحرون إبلهم فيعصرون أكراشها ويشربون ماءها فكان ذلك عسرة من الماء وعسرة من الظهر وعسرة من النفقة). [تفسير عبد الرزاق: 1/290]
قال محمدُ بنُ إسماعيلَ بن إبراهيم البخاريُّ (ت: 256هـ) : (باب قوله: (لقد تاب اللّه على النّبيّ والمهاجرين والأنصار الّذين اتّبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد تزيغ قلوب فريقٍ منهم ثمّ تاب عليهم إنّه بهم رءوفٌ رحيمٌ)
- حدّثنا أحمد بن صالحٍ، قال: حدّثني ابن وهبٍ، قال أخبرني يونس، ح قال أحمد: وحدّثنا عنبسة، حدّثنا يونس، عن ابن شهابٍ، قال: أخبرني عبد الرّحمن بن كعب بن مالكٍ، قال: أخبرني عبد اللّه بن كعبٍ، وكان قائد كعبٍ من بنيه حين عمي، قال: سمعت كعب بن مالكٍ، في حديثه: {وعلى الثّلاثة الّذين خلّفوا} [التوبة: 118] قال: في آخر حديثه: إنّ من توبتي أن أنخلع من مالي صدقةً إلى اللّه وإلى رسوله، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «أمسك بعض مالك فهو خيرٌ لك»). [صحيح البخاري: 6/69-70]
- قال أحمدُ بنُ عَلَيِّ بنِ حجرٍ العَسْقَلانيُّ (ت: 852هـ): ( (قوله باب قوله لقد تاب اللّه على النّبيّ والمهاجرين والأنصار الآية)
كذا لأبي ذرٍّ وساق غيره الآية إلى رحيمٍ ذكر فيه طرفًا من حديث كعبٍ الطّويل في قصّة توبته وقد سبق شرحه مستوفًى في كتاب المغازي والقدر الّذي اقتصر عليه هنا أيضًا في الوصايا
[4676] وقوله هنا حدثنا أحمد بن صالح حدثني بن وهبٍ أخبرني يونس قال أحمد وحدّثنا عنبسة حدّثنا يونس مراده أنّ أحمد بن صالحٍ روى هذا الحديث عن شيخين عن يونس لكن فرّقهما لاختلاف الصّيغة ثمّ إنّ ظاهره أن السّند عنهما متحد وليس كذلك لأن في رواية بن وهب أن شيخ بن شهابٍ هنا هو عبد الرّحمن بن كعبٍ كما في رواية عنبسة وليس كذلك بل هو في رواية بن وهبٍ عبد الرّحمن بن عبد اللّه بن كعبٍ كذلك أخرجه النّسائيّ عن سليمان بن داود المهري عن بن وهبٍ ولعلّ البخاريّ بناه على أنّ عبد الرّحمن نسب لجدّه فتتّحد الرّوايتان نبّه على ذلك الحافظ أبو عليّ الصّدفيّ فيما قرأته بخطّه بهامش نسخته قلت قد أفرد البخاريّ رواية بن وهبٍ بهذا الإسناد في النّذر فوقع في رواية أبي ذرٍّ عبد الرّحمن بن عبد اللّه بن كعبٍ وإنّما أخرج النّسائيّ بعض الحديث وقد وجدت بعض الحديث أيضًا في سنن أبي داود عن سليمان بن داود شيخ البخاريّ فيه كما في النّسائيّ وعن أبي الطّاهر بن السّرح عن بن وهب كذلك). [فتح الباري: 8/342]
- قال محمودُ بنُ أحمدَ بنِ موسى العَيْنِيُّ (ت: 855هـ) : ( (باب قوله: {لقد تاب الله على النبيّ والمهاجرين والأنصار الّذين اتّبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كان تزيغ قلوب فريقٍ منهم ثمّ تاب عليهم إنّه بهم رؤوفٌ رحيمٌ} (التّوبة: 117)
أي: هذا باب في قوله: {لقد تاب} الآية. وفي رواية أبي ذر، هكذا ساق إلى قوله: {اتّبعوه} الآية. قال الزّمخشريّ: في قوله: {تاب الله على النّبي} كقوله: {وليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخّر} (الفتح: 2) {فاستغفر لذنبك} (غافر: 255) وهو بعث للمؤمنين على التّوبة وأنه ما من مؤمن إلّا وهو يحتاج إلى التّوبة والاستغفار، حتّى النّبي والمهاجرين والأنصار، وقيل: تاب الله عن إذنه للمنافقين في التّخلّف عنه. وقيل: معنى التّوبة على النّبي صلى الله عليه وسلم أنه مفتاح كلام لأنّه لما كان سبب توبة التائبين ذكر معهم كقوله: {فإن لله خمسة وللرّسول} (محمّد: 19) قوله: (في ساعة العسرة) أي: الشدّة وضيق الحال. قال جابر: عسرة الظّهر وعسرة الزّاد وعسرة المال، وقال مجاهد وغيره: نزلت هذه الآية في غزو تبوك وذلك أنهم خرجوا إليها في شدّة الحر في سنة مجدية وعسر من الزّاد والماء، وقال: قتادة: ذكر لنا أن رجلين كانا يشقان التّمر بينهما وكان النّفر يتناولون الثّمرة بينهم يمصها هذا ثمّ يشرب عليها ثمّ يمصها هذا ثمّ يشرب عليها فتاب الله عليهم وأقفلهم من غزوتهم. قوله: (من بعدما كاد تزيغ) ، أي: تميل (قلوب فريق منهم) عن الحق ونشك في دين رسول الله صلى الله عليه وسلم بالّذي نالهم من المشقّة والشدة. قوله: (ثمّ تاب عليهم) ، أي: رزقهم الله الإنابة إليه والرّجوع إلى الثّبات على دينه إنّه أي: إن الله (بهم رؤوف رحيم) .
- حدّثنا أحمد بن صالحٍ قال حدّثني ابن وهبٍ قال أخبرني يونس قال أحمد وحدّثنا عنبسة حدّثنا يونس عن ابن شهابٍ قال أخبرني عبد الرّحمان بن كعبٍ قال أخبرني عبد الله بن كعبٍ وكان قائد كعبٍ من بنيه حين عمي قال سمعت كعب بن مالكٍ في حديثه وعلى الثّلاثة الّذين خلّفوا قال في آخر حديثه إنّ من توبتي أن أنخلع من مالي صدقةً إلى الله ورسوله فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: (أمسك بعض مالك فهو خيرٌ لك) .
مطابقته للتّرجمة تؤخذ من قوله: (ثمّ تاب عليهم) وأحمد بن صالح أبو جعفر المصريّ روى عن عبد الله بن وهب المصريّ وعن عنبسة بفتح العين المهملة وسكون النّون وفتح الباء الموحدة وبالسين المهملة ابن خالد بن أخي يونس بن يزيد الأيلي يروي عن عمه يونس عن محمّد بن مسلم بن شهاب الزّهريّ عن عبد الرّحمن بن كعب بن مالك الأنصاريّ عن أبيه عبد الله بن كعب بن مالك الأنصاريّ، سمع أبا كعب بن مالك الأنصاريّ، وهذا طرف من حديث طويل في قصّة كعب بن مالك مضى في كتاب المغازي، وهذا القدر الّذي اختصر عليه في كتاب الوصايا. قوله: (وكان قائد كعب) ، أي: كان عبد الله قائد أبيه من بين أبنائه حين عمي كعب وأبناؤه ثلاثة، عبد الله وعبد الرّحمن وعبيد الله، وكلهم رووا عن أبيهم كعب بن مالك). [عمدة القاري: 18/277]
- قال أحمدُ بنُ محمدِ بن أبي بكرٍ القَسْطَلاَّنيُّ (ت: 923هـ) : (باب قوله: {لقد تاب اللّه على النّبيّ والمهاجرين والأنصار الّذين اتّبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريقٍ منهم ثمّ تاب عليهم إنّه بهم رءوفٌ رحيمٌ} [التوبة: 117]
(باب قوله) سبحانه وتعالى: ({لقد تاب الله على النبي}) من إذنه للمنافقين في التخلف في غزوة تبوك والأحسن أن يكون من قبيلاً {ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر} وقيل هو بعث على التوبة على سبيل التعريض لأنه -صلّى اللّه عليه وسلّم- ممن يستغني عن التوبة فوصف بها ليكون بعثًا للمؤمنين على التوبة على سبيل التعريض وإبانة لفضلها ({والمهاجرين والأنصار}) أي وتاب عليهم حقيقة لأنه لا ينفك الإنسان عن الزلات أو كانوا يتوبون على وساوس تقع في قلوبهم ({الذين اتبعوه}) حقيقة بأن خرج أوّلاً وتبعوه أو مجازًا عن اتباعهم أمره ونهيه ({في ساعة العسرة}) في وقت الشدة الحاصلة لهم في غزوة تبوك أي من عسرة الزاد والماء والظهر والقيظ وبعد الشقة إذ السفرة كلها تبع لتلك الساعة وبها يقع الأجر على الله تعالى وإن كان عرف الساعة لما قل من الزمن كالقطعة من النهار كساعات الرواح إلى الجمعة، فالمراد بها هنا من وقت الخروج إلى العود روي أنه لما نفد زادهم كان النفر منهم يمصون التمرة تداولاً بينهم وإنهم عطشوا حتى نحروا بعض إبلهم فشربوا عصارة ما في كروشها حتى استسقى لهم -صلّى اللّه عليه وسلّم- فأمطرت عليهم سحابة لم تتجاوزهم وكان الرجلان والثلاثة يتعقبون البعير الواحد ({من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم}) عن الثبات على الإيمان أو اتباع الرسول ما نالهم من المشقة والشدة ({ثم تاب عليهم}) تكرير للتوكيد من حيث المعنى فيكون الضمير للنبي -صلّى اللّه عليه وسلّم- والمهاجرين والأنصار ويجوز أن يكون الضمير للفريق المذكور في قوله كاد تزيغ قلوب فريق منهم لصدور الكيدودة منهم ({إنه بهم رؤوف رحيم}) [التوبة: 117] حتى تاب عليهم وسقط قوله في ساعة العسرة الخ لأبي ذر وقال: بعد قوله {اتبعوه} الآية.
- حدّثنا أحمد بن صالحٍ قال: حدّثني ابن وهبٍ، قال: أخبرني يونس.
قال أحمد: حدّثنا عنبسة، حدّثنا يونس عن ابن شهابٍ قال: أخبرني عبد الرّحمن بن كعبٍ، قال: أخبرني عبد اللّه بن كعبٍ، وكان قائد كعبٍ من بنيه حين عمي قال: سمعت كعب بن مالكٍ في حديثه وعلى الثّلاثة الّذين خلّفوا قال في آخر حديثه: إنّ من توبتي أن أنخلع من مالي صدقةً إلى اللّه ورسوله فقال النّبيّ -صلّى اللّه عليه وسلّم-: «أمسك بعض مالك فهو خيرٌ لك».
وبه قال: (حدّثنا أحمد بن صالح) أبو جعفر بن الطبري المصري (قال: حدّثني) بالإفراد ولأبي ذر حدّثنا (ابن وهب) عبد الله المصري (قال: أخبرني) بالإفراد (يونس) بن يزيد الأيلي (قال أحمد): هو ابن صالح شيخ المؤلّف المذكور (وحدّثنا) أيضًا (عنبسة) بفتح العين المهملة وسكون النون وفتح الموحدة والسين المهملة ابن خالد بن يزيد الأيلي ابن أخي يونس قال: (حدّثنا) عمي (يونس) الأيلي (عن ابن شهاب) الزهري أنه (قال: أخبرني) بالإفراد (عبد الرحمن بن كعب) نسبه لجده واسم أبيه عبد الله ولأبي ذر زيادة ابن مالك (قال: أخبرني) بالإفراد أيضًا أبي (عبد الله بن كعب) الأنصاري المدني الشاعر.
قال في فتح الباري: والحاصل أن أحمد بن صالح روى هذا الحديث عن شيخين عن يونس لكن فرقهما لاختلاف الصيغة، ثم ظاهره أن السند بينهما متحد وليس كذلك لأن في رواية ابن وهب أن شيخ ابن شهاب هنا هو عبد الرحمن بن كعب كما في رواية عنبسة وليس كذلك بل هو في رواية عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب كذلك أخرجه النسائي عن سليمان بن مهران عن ابن وهب، ولعل البخاري بناه على أن عبد الرحمن نسب لجده فتتحد الروايتان على ذلك الحافظ أبو علي الصدفي فيما قرأته بخطه بهامش نسخته وقد أفرد البخاري رواية ابن وهب بهذا الإسناد في النذر فوقع في رواية أبي ذر عبد الرحمن بن كعب، وإنما أخرج النسائي بعض الحديث وقد وجدت بعض الحديث أيضًا في سنن أبي داود عن سليمان بن داود شيخ البخاري فيه كما في النسائي، وعن أبي الطاهر بن السراج عن ابن وهب كذلك.
وقد تعقبه تلميذه شيخنا الحافظ أبو الخير السخاوي -رحمه الله تعالى- فيما وجد بخطه في حاشية نسخته من فتح الباري بأن البخاري قد أخرج حديث عنبسة في وفود الأنصار فيما مضى ووقع هناك عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، وأخرج حديث ابن وهب في النذر فيما سيأتي، ووقع أيضًا فيه كذلك وحينئذٍ فسندهما متحد وكذا رأيت الدمياطي ألحق هنا في نسخته مما صحح عليه عبد الله في نسب عبد الرحمن وكذا ثبت عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب في سنن أبي داود حسبما ثبت في رواية اللؤلؤي وابن داسة عنه عن شيخه ابن السراج وسليمان بن داود المهري كلاهما عن ابن وهب. نعم قيل إن الذي في رواية ابن داسة عبد الله بن عبد الله بن كعب وهو وهم لأن عبد الله الأول إنما هو عبد الرحمن وأما روايته فهي كما مر في روايتي ابن السني وابن الأحمر عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك بدونها وحينئذٍ فهذا خلاف ما اقتضاه كلام شيخنا من اتحاد سند أبي داود والنسائي، ثم إن قوله سليمان بن مهران سهو إما من الكاتب أو من غيره فإنما هو ابن داود اهـ.
(وكان) أي عبد الله (قائد كعب) أبيه (من) بين (بنيه) بني بفتح الموحدة وكسر النون وسكون التحتية (حين عمي) وكان أبناؤه أربعة عبد الله وعبد الرحمن ومحمد وعبيد الله (قال: سمعت) أبي (كعب بن مالك في حديثه) الطويل في قصة توبته المسوق هنا مختصرًا مقتصرًا على المحتاج منه كالوصايا المنزل فيه قوله تعالى: {وعلى الثلاثة الذين خلفوا} زاد في نسخة حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت (قال في آخر حديثه) يا رسول الله (إن من توبتي أن أنخلع) أن أخرج (من) جميع (مالي صدقة إلى الله ورسوله) بنصب صدقة أي لأجل التصدق أو حالاً بمعنى متصدقًا وإلى بمعنى اللام أي صدقة خالصة لله ولرسوله، ولأبي ذر: وإلى رسوله (فقال) له (النبي -صلّى اللّه عليه وسلّم-): (امسك) عليك (بعض مالك فهو خير لك) من أن تضرر بالفقر وتجرع الصبر على الإضاقة). [إرشاد الساري: 7/158-160]
قال محمدُ بنُ عيسى بنِ سَوْرة التِّرْمِذيُّ (ت: 279هـ) : (حدّثنا عبد بن حميدٍ، قال: أخبرنا عبد الرّزّاق، قال: أخبرنا معمرٌ، عن الزّهريّ، عن عبد الرّحمن بن كعب بن مالكٍ، عن أبيه، قال: لم أتخلّف عن رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم في غزوةٍ غزاها حتّى كانت غزوة تبوك إلاّ بدرًا، ولم يعاتب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أحدًا تخلّف عن بدرٍ، إنّما خرج يريد العير فخرجت قريشٌ مغيثين لعيرهم فالتقوا عن غير موعدٍ كما قال اللّه عزّ وجلّ، ولعمري إنّ أشرف مشاهد رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم في النّاس لبدرٌ، وما أحبّ أنّي كنت شهدتها، مكان بيعتي ليلة العقبة حيث تواثقنا على الإسلام، ثمّ لم أتخلّف بعد عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم حتّى كانت غزوة تبوك، وهي آخر غزوةٍ غزاها، وآذن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم النّاس بالرّحيل، فذكر الحديث بطوله، قال: فانطلقت إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، فإذا هو جالسٌ في المسجد وحوله المسلمون وهو يستنير كاستنارة القمر، وكان إذا سرّ بالأمر استنار، فجئت فجلست بين يديه فقال: أبشر يا كعب بن مالكٍ بخير يومٍ أتى عليك منذ ولدتك أمّك، فقلت: يا نبيّ الله، أمن عند الله أم من عندك؟ قال: بل من عند الله ثمّ تلا هؤلاء الآيات: {لقد تاب اللّه على النّبيّ والمهاجرين والأنصار الّذين اتّبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريقٍ منهم ثمّ تاب عليهم إنّه بهم رءوفٌ رحيمٌ} قال: وفينا أنزلت أيضًا: {اتّقوا اللّه وكونوا مع الصّادقين} قال: قلت: يا نبيّ الله، إنّ من توبتي أن لا أحدّث إلاّ صدقًا، وأن أنخلع من مالي كلّه صدقةً إلى الله وإلى رسوله، فقال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: أمسك عليك بعض مالك فهو خيرٌ لك، فقلت: فإنّي أمسك سهمي الّذي بخيبر، قال: فما أنعم اللّه عليّ نعمةً بعد الإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم حين صدقته أنا وصاحباي، ولا نكون كذبنا فهلكنا كما هلكوا، وإنّي لأرجو أن لا يكون اللّه أبلى أحدًا في الصّدق مثل الّذي أبلاني ما تعمّدت لكذبةٍ بعد، وإنّي لأرجو أن يحفظني اللّه فيما بقي.
وقد روي عن الزّهريّ هذا الحديث بخلاف هذا الإسناد فقد قيل: عن عبد الرّحمن بن عبد الله بن كعب بن مالكٍ، عن أبيه، عن كعبٍ، وقد قيل غير هذا. وروى يونس هذا الحديث عن الزّهريّ، عن عبد الرّحمن بن عبد الله بن كعب بن مالكٍ، أنّ أباه حدّثه، عن كعب بن مالكٍ). [سنن الترمذي: 5/132-133]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {لقد تاب اللّه على النّبيّ والمهاجرين والأنصار الّذين اتّبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريقٍ منهم ثمّ تاب عليهم إنّه بهم رءوفٌ رّحيمٌ}.
يقول تعالى ذكره: لقد رزق اللّه الإنابة إلى أمره وطاعته نبيّه محمّدًا صلّى اللّه عليه وسلّم، والمهاجرين ديارهم وعشيرتهم إلى دار الإسلام، وأنصار رسوله في اللّه، الّذين اتّبعوا رسول اللّه في ساعة العسرة منهم من النّفقة والظّهر والزّاد والماء {من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريقٍ منهم} يقول: من بعد ما كاد يميل قلوب بعضهم عن الحقّ ويشكّ في دينه ويرتاب بالّذي ناله من المشقّة والشّدّة في سفره وغزوه {ثمّ تاب عليهم} يقول: ثمّ رزقهم جلّ ثناؤه الإنابة والرّجوع إلى الثّبات على دينه وإبصار الحقّ الّذي كان قد كاد يلتبس عليهم.
{إنّه بهم رءوفٌ رحيمٌ} يقول: إنّ ربّكم بالّذين خالط قلوبهم ذلك لما نالهم في سفرهم من الشّدّة والمشقّة، {رءوفٌ} بهم، {رحيمٌ} أن يهلكهم، فينزع منهم الإيمان بعد ما قد أبلوا في اللّه ما أبلوا مع رسوله وصبروا عليه من البأساء والضّرّاء.
وبنحو الّذي قلنا في ذلك قال أهل التّأويل.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثني محمّد بن عمرٍو، قال: حدّثنا أبو عاصمٌ، قال: حدّثنا عيسى، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، {في ساعة العسرة} في غزوة تبوك.
- حدّثنا محمّد بن عبد الأعلى، قال: حدّثنا محمّد بن ثورٍ، عن معمرٍ، عن عبد اللّه بن محمّد بن عقيلٍ: {في ساعة العسرة} قال: خرجوا في غزوة تبوك الرّجلان والثّلاثة على بعيرٍ، وخرجوا في حرٍّ شديدٍ، وأصابهم يومئذٍ عطشٌ شديدٌ، فجعلوا ينحرون إبلهم فيعصرون أكراشها ويشربون ماءها، كان ذلك عسرةً من الماء وعسرةً من الظّهر وعسرةً من النّفقة.
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: ثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ، {ساعة العسرة} قال: غزوة تبوك، قال: العسرة: أصابهم جهدٌ شديدٌ حتّى أنّ الرّجلين ليشقّان التّمرة بينهما وأنّهم ليمصّون التّمرة الواحدة ويشربون عليها الماء.
- حدّثنا ابن وكيعٍ، قال: حدّثنا ابن نميرٍ، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ: {الّذين اتّبعوه في ساعة العسرة} قال: غزوة تبوك.
- قال: حدّثنا زكريّا بن عديٍّ، عن ابن مباركٍ، عن معمرٍ، عن عبد اللّه بن محمّد بن عقيلٍ، عن جابرٍ، {الّذين اتّبعوه في ساعة العسرة} قال: عسرة الظّهر، وعشرة الزّاد، وعشرة الماء.
- حدّثنا بشرٌ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، قوله: {لقد تاب اللّه على النّبيّ والمهاجرين والأنصار الّذين اتّبعوه في ساعة العسرة} الآية، الّذين اتّبعوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في غزوة تبوك قبل الشّأم في لهبان الحرّ على ما يعلم اللّه من الجهد، أصابهم فيها جهدٌ شديدٌ، حتّى لقد ذكر لنا أنّ الرّجلين كانا يشقّان التّمرة بينهما، وكان النّفر يتناولون التّمرة بينهم؛ يمصّها هذا ثمّ يشرب عليها ثمّ يمصّها هذا ثمّ يشرب عليها، فتاب اللّه عليهم وأقفلهم من غزوهم.
- حدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: أخبرني عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبي هلالٍ، عن عتبة بن أبي عتبة، عن نافع بن جبير بن مطعمٍ، عن عبد اللّه بن عبّاسٍ، أنّه قيل لعمر بن الخطّاب رحمة اللّه عليه في شأن العسرة، فقال عمر: خرجنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلى تبوك في قيظٍ شديدٍ، فنزلنا منزلاً أصابنا فيه عطشٌ، حتّى ظننّا أنّ رقابنا ستنقطع، حتّى أن كان الرّجل ليذهب يلتمس الماء فلا يرجع حتّى يظنّ أنّ رقبته ستنقطع، حتّى إنّ الرّجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه، ويجعل ما بقي على كبده؛ فقال أبو بكرٍ: يا رسول اللّه إنّ اللّه قد عوّدك في الدّعاء خيرًا، فادع لنا قال: تحبّ ذلك؟ قال: نعم. فرفع يديه فلم يرجعهما حتّى مالت السّماء، فأظلّت ثمّ سكبت، فملئوا ما معهم، ثمّ رجعنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر.
- حدّثني إسحاق بن زيادٍ العطّار، قال: حدّثنا يعقوب بن محمّدٍ، قال: حدّثنا عبد اللّه بن وهبٍ، قال: حدّثنا عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبي هلالٍ، عن نافع بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ قال: قيل لعمر بن الخطّاب رحمة اللّه عليه: حدّثنا عن شأن جيش العسرة، فقال عمر: خرجنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، ثمّ ذكر نحوه). [جامع البيان: 12/49-53]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (لقد تاب اللّه على النّبيّ والمهاجرين والأنصار الّذين اتّبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريقٍ منهم ثمّ تاب عليهم إنّه بهم رءوفٌ رحيمٌ (117)
قوله تعالى: لقد تاب اللّه على النّبيّ والمهاجرين.
- ذكر عن أسود بن عامرٍ، أنبأ إسرائيل عن سماكٍ عن عكرمة عن ابن عبّاسٍ لقد تاب اللّه على النّبيّ والمهاجرين قال: هم الّذين هاجروا معه إلى المدينة.
قوله تعالى: والأنصار
- حدّثنا عليّ بن الحسين الهسنجانيّ، ثنا أحمد بن حنبلٍ ثنا هشيمٌ عن إسماعيل ومطرّفٌ عن الشّعبيّ في قوله: والأنصار قال: هم الّذين بايعوا بيعة الرّضوان.
قوله تعالى: الّذين اتّبعوه في ساعة العسرة الآية.
- حدّثنا أبي ثنا محمّد بن عبد الأعلى ثنا محمّد بن ثورٍ عن معمرٍ عن عبد اللّه بن محمّد بن عقيلٍ في ساعة العسرة قال: خرجوا في غزوة تبوك، الرّجلان والثّلاثة على بعيرٍ، وخرجوا في حرٍّ شديدٍ، فأصابهم يومًا عطشٌ شديدٌ، فجعلوا ينحرون إبلهم فيعصرون أكراشها، فيشربون ماءه، فكان ذلك عسرةٌ من الماء وعسرةٌ من الظّهر، وعسرةٌ من النّفقة.
- حدّثنا حجّاج بن حمزة ثنا شبابة ثنا ورقاء عن ابن أبي نجيحٍ عن مجاهدٍ
في قوله: ساعة العسرة في غزوة تبوك.
- حدّثنا عليّ بن الحسين ثنا أبو الجماهر ثنا سعيدٌ عن قتادة قوله: لقد تاب اللّه على النّبيّ والمهاجرين والأنصار الّذين اتّبعوه في ساعة العسرة قال: هم الّذين اتّبعوا النّبيّ- صلّى اللّه عليه وسلّم- في غزوة تبوك قبل الشّام، في لهبان الحرّ على ما يعلم اللّه من الجهد، أصابهم فيها جهدٌ شديدٌ، حتّى لقد ذكر لنا أن الرجلين كانا يشقّان التّمرة بينهما، وكان النّفر يتداولون التّمرة بينهم يمصّها أحدهم ثمّ يشرب عليها من الماء ثمّ يمصّها الآخر، فتاب اللّه عليهم، فأقفلهم من غزوهم.
قوله تعالى: ثمّ تاب عليهم إنه بهم رؤف رحيمٌ.
- وبه عن قتادة ثمّ تاب عليهم إنّه بهم رؤف رحيمٌ قال: فتاب اللّه عليهم، وأقفلهم من غزوهم). [تفسير القرآن العظيم: 6/1898-1899]
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ الحَسَنِ الهَمَذَانِيُّ (ت: 352هـ): (نا إبراهيم نا آدم نا ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله والذين اتبعوه في ساعة العسرة يعني في غزوة تبوك). [تفسير مجاهد: 288]

قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (الآية 117.
أخرج ابن جرير، وابن خزيمة، وابن حبان والحاكم وصححه، وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي معا في الدلائل والضياء في المختارة عن ابن عباس، أنه قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه حدثنا من شأن ساعة العسرة، فقال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك في قيظ شديد فنزلنا منزلا فأصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستقطع حتى أن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه ويجعل ما بقي على كبده فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: يا رسول الله إن الله قد عودك في الدعاء خيرا فادع لنا، فرفع يديه فلم يرجعهما حتى قالت السماء فأهطلت ثم سكبت فملأوا ما معهم ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن مجاهد في قوله {في ساعة العسرة} قال: غزوة تبوك.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله {لقد تاب الله على النّبيّ والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة} قال: هم الذين اتبعوا النّبيّ صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك قبل الشام في لهبان الحر على ما يعلم الله من الجهد أصابهم فيها جهد شديد حتى لقد ذكر لنا أن الرجلين كان يشقا التمرة بينهما وكان النفر يتداولون التمرة بينهم يمصها أحدهم ثم يشرب عليها الماء ثم يمصها الآخر فتاب الله عليهم فأقفلهم من غزوتهم.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي في الدلائل عن محمد بن عبد الله بن عقيل بن أبي طالب في قوله {الذين اتبعوه في ساعة العسرة} قال: خرجوا في غزوة تبوك الرجلان والثلاثة على بعير وخرجوا في حر شديد فأصابهم يوما عطش حتى جعلوا ينحرون إبلهم فيعصرون أكراشها ويشربون ماءها فكان ذلك عسرة من الماء وعسرة من النفقة وعسرة من الظهر.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن مردويه، عن جابر في قوله {الذين اتبعوه في ساعة العسرة} قال: عسرة الظهر وعسرة وعسرة الماء
وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك، أنه قرأ {من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم}). [الدر المنثور: 7/566-568]

تفسير قوله تعالى: (وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) )
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (عن معمر عن من سمع عكرمة في قوله تعالى وعلى الثلاثة الذين خلفوا قال خلفوا عن التوبة
معمر عن قتادة في قوله تعالى وما كان المؤمنون لينفروا كافة قال كافة ويدعون النبي). [تفسير عبد الرزاق: 1/290-291]
قالَ سعيدُ بنُ منصورٍ بن شعبة الخراسانيُّ: (ت:227هـ): ( [الآية (118) : قوله تعالى: {وعلى الثّلاثة الّذين خلّفوا حتّى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت... } الآية]
- حدّثنا سعيدٌ، قال: نا أبو الأحوص، عن سعيد بن مسروقٍ، عن عكرمة - في قوله {وعلى الثّلاثة الّذين خلّفوا} - قال: كعب بن مالكٍ، وهلال بن أمية، ومرارة بن الرّبيع، كلّهم من الأنصار.
- حدّثنا سعيدٌ، قال: نا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر بن عبد اللّه، قال : كعب بن مالكٍ، وهلال بن أمية، ومرارة بن ربيعٍ، كلّهم من الأنصار). [سنن سعيد بن منصور: 5/291]
قال محمدُ بنُ إسماعيلَ بن إبراهيم البخاريُّ (ت: 256هـ) : (باب {وعلى الثّلاثة الّذين خلّفوا حتّى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم وظنّوا أن لا ملجأ من اللّه إلّا إليه، ثمّ تاب عليهم ليتوبوا، إنّ اللّه هو التّوّاب الرّحيم} [التوبة: 118]
- حدّثني محمّدٌ، حدّثنا أحمد ابن أبي شعيبٍ، حدّثنا موسى بن أعين، حدّثنا إسحاق بن راشدٍ، أنّ الزّهريّ حدّثه، قال: أخبرني عبد الرّحمن بن عبد اللّه بن كعب بن مالكٍ، عن أبيه، قال: سمعت أبي كعب بن مالكٍ - وهو أحد الثّلاثة الّذين تيب عليهم، أنّه لم يتخلّف عن رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم في غزوةٍ غزاها قطّ، غير غزوتين غزوة العسرة، وغزوة بدرٍ - قال: فأجمعت صدقي رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم ضحًى، وكان قلّما يقدم من سفرٍ سافره إلّا ضحًى، وكان يبدأ بالمسجد فيركع ركعتين، ونهى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن كلامي، وكلام صاحبيّ، ولم ينه عن كلام أحدٍ من المتخلّفين غيرنا، فاجتنب النّاس كلامنا، فلبثت كذلك حتّى طال عليّ الأمر، وما من شيءٍ أهمّ إليّ من أن أموت فلا يصلّي عليّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، أو يموت رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم فأكون من النّاس بتلك المنزلة فلا يكلّمني أحدٌ منهم، ولا يصلّي ولا يسلّم عليّ فأنزل اللّه توبتنا على نبيّه صلّى الله عليه وسلّم، حين بقي الثّلث الآخر من اللّيل، ورسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم عند أمّ سلمة، وكانت أمّ سلمة محسنةً في شأني معنيّةً في أمري، فقال رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم: «يا أمّ سلمة تيب على كعبٍ» قالت: أفلا أرسل إليه فأبشّره؟ قال: «إذًا يحطمكم النّاس فيمنعونكم النّوم سائر اللّيلة» حتّى إذا صلّى رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم صلاة الفجر آذن بتوبة اللّه علينا، وكان إذا استبشر استنار وجهه، حتّى كأنّه قطعةٌ من القمر، وكنّا أيّها الثّلاثة الّذين خلّفوا عن الأمر الّذي قبل من هؤلاء الّذين اعتذروا، حين أنزل اللّه لنا التّوبة، فلمّا ذكر الّذين كذبوا رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم من المتخلّفين واعتذروا بالباطل، ذكروا بشرّ ما ذكر به أحدٌ، قال اللّه سبحانه: {يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم، قل: لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبّأنا اللّه من أخباركم، وسيرى اللّه عملكم ورسوله} [التوبة: 94] الآية). [صحيح البخاري: 6/70]
- قال أحمدُ بنُ عَلَيِّ بنِ حجرٍ العَسْقَلانيُّ (ت: 852هـ): ( (قوله وعلى الثلاثة الّذين خلّفوا حتّى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت الآية)
كذا لأبي ذرٍّ وساق غيره إلى الرّحيم
[4677] قوله حدّثني محمّد حدّثنا أحمد بن أبي شعيبٍ كذا للأكثر وسقط محمّدٌ من رواية بن السّكن فصار للبخاريّ عن أحمد بن أبي شعيبٍ بلا واسطةً وعلى قول الأكثر فاختلف في محمّدٍ فقال الحاكم هو محمّد بن النّضر النّيسابوريّ يعني الّذي تقدّم ذكره في تفسير الأنفال وقال مرّةٌ هو محمّد بن إبراهيم البوشنجيّ لأنّ هذا الحديث وقع له من طريقه وقال أبو عليٍّ الغسّانيّ هو الذّهليّ وأيّد ذلك أنّ الحديث في علل حديث الزّهريّ للذّهليّ عن أحمد بن أبي شعيبٍ والبخاريّ يستمدّ منه كثيرًا وهو يهمل نسبه غالبًا وأمّا أحمد بن أبي شعيبٍ فهو الحرّانيّ نسبه المؤلّف إلى جدّه واسم أبيه عبد اللّه بن مسلمٍ وأبو شعيبٍ كنية مسلمٍ لا كنية عبد اللّه وكنية أحمد أبو الحسن وهو ثقةٌ باتّفاقٍ وليس له في البخاريّ سوى هذا الموضع ثمّ ذكر المصنّف قطعًا من قصّة توبة كعب بن مالكٍ وقد تقدّم شرحه مستوفًى في المغازي وقوله فلا يكلّمني أحدٌ منهم ولا يصلّى عليّ في رواية الكشميهنيّ ولا يسلّم وحكى عياضٌ أنّه وقع لبعض الرّواة فلا يكلّمني أحدٌ منهم ولا يسلّمني واستبعده لأنّ المعروف أنّ السّلام إنّما يتعدّى بحرف جرٍّ وقد يوجّه بأن يكون اتّباعًا أو يرجع إلى قول من فسّر السّلام بأنّ معناه أنت مسلمٌ منّي وقوله وكانت أمّ سلمة معنيّةً في أمري كذا للأكثر بفتح الميم وسكون المهملة وكسر النّون بعدها تحتانيّةٌ ثقيلةٌ من الاعتناء وفي رواية الكشميهنيّ معيّنةٌ بضمّ الميم وكسر العين وسكون التّحتانيّة بعدها نونٌ من العون والأوّل أنسب وقوله يحطمكم في رواية أبي ذرٍّ عن الكشميهنيّ والمستملي يخطفكم). [فتح الباري: 8/343]
- قال محمودُ بنُ أحمدَ بنِ موسى العَيْنِيُّ (ت: 855هـ) : ( (بابٌ: {وعلى الثّلاثة الّذين خلّفوا حتّى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلاّ إليه ثمّ تاب عليهم ليتوبوا إنّ الله هو التّوّاب الرّحيم} (التّوبة: 118)
لم يذكر هنا لفط باب، والآية المذكورة بتمامها في رواية الأكثرين، وفي رواية أبي ذر إلى قوله: (بما رحبت) الآية. قوله: (وعلى الثّلاثة) ، أي: وتاب الله على الثّلاثة، وهم كعب بن مالك ومرارة بن الرّبيع وهلال بن أميّة. قوله: (خلفوا) أي: عن الغزو، وقرىء: خلفوا، بفتح الخاء واللّام المخففة. أي: خلفوا المغازين بالمدينة وفسدوا من الخالفة وخلوف الفم، وقرأ جعفر الصّادق: خالفوا وقرأ الأعمش: وعلى الثّلاثة المخلفين. قوله: (بما رحبت) أي: برحبها أي: بسعتها وهو مثل للحيرة في أمرهم كأنّهم لا يجدون فيها مكانا يقرون فيها قلقا وجزعا ممّا هم فيه. قوله: (أنفسهم) أي: قلوبهم لا يسعها أنس ولا سرور. قوله: (وظنوا) أي: علموا أن لا ملجأ من سخط الله إلاّ إلى الله بالاستغفار قوله: (ثمّ تاب عليهم) أي: ثمّ رجع عليهم بالقبول والرّحمة كرة بعد أخرى. (ليتوبوا) أي: ليستقيموا على توبتهم ويثبتوا وليتوبوا أيضا في المستقبل إن حصلت منهم خطيئة.
- حدّثني محمّدٌ حدّثنا أحمد بن أبي شعيبٍ حدّثنا موسى بن أعين حدّثنا إسحاق ابن راشدٍ أنّ الزّهري حدّثه قال أخبرني عبد الرّحمان بن عبد الله بن كعبٍ بن مالكٍ عن أبيه قال سمعت أبي كعب بن مالكٍ وهو أحد الثّلاثة الّذين تيب عليهم أنّه لم يتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوةٍ غزاها قطّ غير غزوتين غزوة العسرة وغزوة بدرٍ قال فأجمعت صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحًى وكان قلما يقدم من سفرٍ سافره إلاّ ضحًى وكان يبدأ بالمسجد فيركع ركعتين ونهى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن كلامي وكلام صاحبيّ ولم ينه عن كلام أحدٍ من المتخلّفين غيرنا فاجتنب النّاس كلامنا فلبثت كذلك حتّى طال عليّ الأمر وما من شيءٍ أهمّ إليّ من أن أموت فلا يصلّي عليّ النّبي صلى الله عليه وسلم أو يموت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكون من النّاس بتلك المنزلة فلا يكلّمني أحدٌ منهم ولا يصلّي عليّ فأنزل الله توبتنا على نبيّه صلى الله عليه وسلم حين بقي الثّلث الآخر من اللّيل ورسول الله صلى الله عليه وسلم عند أمّ سلمة وكانت أمّ سلمة محسنةٍ في شأني معنيّةً في أمري فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أمّ سلمة تيب على كعبٍ قالت أفلا أرسل إليه فأبشّره قال إذا يحطمكم النّاس فيمنعونكم النّوم سائر اللّيلة حتّى إذا صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر آذن بتوبة الله علينا وكان إذا استبشر استنار وجهه حتّى كأنّه قطعةٌ من القمر وكنّا أيّها الثّلاثة الّذين خلفوا عن الأمر الّذي قبل من هاؤلاء الّذين اعتذروا حين أنزل الله لنا التّوبة فلمّا ذكر الّذين كذبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من المتخلّفين واعتذروا بالباطل ذكروا بشرّ ما ذكر به أحدٌ قال الله سبحانه: {يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم قلّ لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبّأنا الله من أخباركم وسيرى الله عملكم ورسوله} (التّوبة: 94) الآية.
مطابقته للتّرجمة ظاهرة. ومحمّد شيخ البخاريّ مختلف فيه، فقال الحاكم: هو محمّد بن النّضر النّيسابوري وقد مر في تفسير سورة الأنفال، وقال مرّة: هو محمّد بن إبراهيم البوشنجي، وقال أبو عليّ الغساني: هو محمّد بن يحيى الذهلي، وأحمد ابن أبي شعيب هو أحمد بن عبد الله بن مسلم وأبو شعيب كنية مسلم لا كنية عبد الله وكنية أحمد أبو الحسن، وقد وقع في رواية أبي عليّ بن السكن، حدثني أحمد بن أبي شعيب، بلا ذكر محمّد، والأول هو قول الأكثرين، وإن كان أحمد بن أبي شعيب من مشايخه، وهو ثقة باتّفاق، وليس له في البخاريّ سوى هذا الموضع، وموسى بن أعين، بفتح الهمزة والياء آخر الحروف وسكون العين المهملة بينهما الجزري، بالجيم والزّاي والرّاء، وقد مر في الصّوم، وإسحاق بن راشد الجزري أيضا والزهريّ محمّد بن مسلم.
وهذا الحديث قطعة من قصّة كعب بن مالك. وقد تقدّمت بكمالها في المغازي في غزوة تبوك.
قوله: (تيب) بكسر التّاء المثنّاة وسكون الياء آخر الحروف، مجهول تاب توبة. قوله: (غزوة العسرة) ، ضد اليسرة، وهي غزوة تبوك. قوله: (فأجمعت) أي: عزمت قوله: (صاحبي) وهما مرارة بن الرّبيع وهلال بن أميّة. قوله: (أهم) من: أهمني الأمر إذا أقلقك وأحزنك. قوله: (ولا يصلّي) ، على صيغة المجهول وفي وراية الكشميهني: ولا يسلم، وحكى عياض أنه وقع لبعض الرواة. فلا يكلمني أحد منهم ولا يسلمني. واستبعده لأن المعروف أن السّلام إنّما يتعدّى بحرف الجرّ، وقد وجهه بعضهم بأن يكون اتباعا أو يرجع إلى قول من فسر السّلام، بأنت مسلم مني. قلت: هذا توجيه لا طائل تحته. قوله: (ورسول الله صلى الله عليه وسلم، عند أم سلمة) ، الواو فيه للحال. وأم سلمة هند. قوله: (معنية) ، بفتح الميم وسكون العين المهملة وكسر النّون وبالياء آخر الحروف المشدّدة من الاعتناء، وهذه رواية الأكثرين وفي رواية الكشميهني: معينة، بضم الميم وكسر العين وسكون الياء وفتح النّون من الإعانة، وليست بمشتقة من العون. كما قاله بعضهم: قوله: (إذا يحطمكم) من الخطم وهو الدوس، وفي رواية أبي ذر عن المستملي والكشميهني: إذا يخطفكم، بالحاء المعجمة وبالفاء من الخطف وهو مجاز عن الازدحام. قوله: (آذز) أي: اعلم. قوله: (كذبوا) بتخفيف الذّال ورسول الله بالنّصب لأن كذب يتعدّى بدون الصّلة. قوله: (يعتذرون إليكم) يعني: المنافقين إذا رجعوا إلى المدينة يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم. قوله: (لن نؤمن لكم) أي: لن نصدقكم. قوله: (قد نبأنا الله) أي: قد أخبرنا الله من سرائركم وما تخفى صدوركم وسيرى الله عملكم ورسوله فيما بعد أتتوبون من نفاقكم أم تقيمون عليه وتردون بعد الموت إلى عالم الغيب والشّهادة فينبئكم فيخبركم بما كنتم تعلمون في السّرّ والعلانية ويجزيكم عليها). [عمدة القاري: 18/278-279]
- قال أحمدُ بنُ محمدِ بن أبي بكرٍ القَسْطَلاَّنيُّ (ت: 923هـ) : (باب {وعلى الثّلاثة الّذين خلّفوا حتّى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنّوا أن لا ملجأ من اللّه إلاّ إليه ثمّ تاب عليهم ليتوبوا إنّ اللّه هو التّوّاب الرّحيم} [التوبة: 118]
({وعلى الثلاثة}) أي وتاب على الثلاثة فهو نسق على النبي أو على الضمير في عليهم: أي ثم تاب عليهم وعلى الثلاثة ولذا كرر حرف الجر والثلاثة هم كعب بن مالك الأسلمي وهلال بن أمية الواقفي ومرارة بن الربيع العمري ({الذين خلفوا}) تخلفوا عن غزوة تبوك أو خلف أمرهم فإنهم المرجون ({حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت}) برحبها أي مع سعتها لشدة حيرتهم وقلقهم ({وضاقت عليهم أنفسهم}) فلم تتسع لصبر ما نزل بها من الهم والإشفاق ({وظنوا}) علموا ({أن لا ملجأ من الله}) أن لا مفر من عذاب الله ({إلا إليه}) بالتوبة والاستغفار والاستثناء من العام المحذوف أي لا ملجأ لأحد إلا إليه ({ثم تاب عليهم}) رجع عليهم بالقبول والرحمة كرة بعد أخرى ({ليتوبوا}) ليستقيموا على توبتهم ويثبتوا أو ليتوبوا أيضًا فيما يستقبل كلما فرطت منهم زلة لأنهم علموا بالنصوص الصحيحة أن طريان الخطيئة يستدعي تجدد التوبة ({إن الله هو التوّاب}) على من تاب ولو عاد في اليوم مائة مرة كما روي ما أصرّ من استغفر ولو عاد في اليوم مائة مرة ({الرحيم}) [التوبة: 118] به بعد التوبة وسقط قوله وضاقت عليهم أنفسهم الخ ولأبي ذر وقال بعد قوله رحبت الآية.
- حدّثني محمّدٌ، حدّثنا أحمد بن أبي شعيبٍ، حدّثنا موسى بن أعين، حدّثنا إسحاق بن راشدٍ، أنّ الزّهريّ حدّثه قال: أخبرني عبد الرّحمن بن عبد اللّه بن كعب بن مالكٍ عن أبيه قال: سمعت أبي كعب بن مالكٍ وهو أحد الثّلاثة الّذين تيب عليهم أنّه لم يتخلّف عن رسول اللّه -صلّى اللّه عليه وسلّم- في غزوةٍ غزاها قطّ غير غزوتين: غزوة العسرة، وغزوة بدرٍ، قال: فأجمعت صدق رسول اللّه -صلّى اللّه عليه وسلّم- ضحًى وكان قلّما يقدم من سفرٍ سافره إلاّ ضحًى، وكان يبدأ بالمسجد فيركع ركعتين ونهى النّبيّ -صلّى اللّه عليه وسلّم- عن كلامي وكلام صاحبيّ، ولم ينه عن كلام أحدٍ من المتخلّفين غيرنا فاجتنب النّاس كلامنا فلبثت كذلك حتّى طال عليّ الأمر وما من شيءٍ أهمّ إليّ من أن أموت فلا يصلّي عليّ النّبيّ -صلّى اللّه عليه وسلّم- أو يموت رسول اللّه -صلّى اللّه عليه وسلّم- فأكون من النّاس بتلك المنزلة فلا يكلّمني أحدٌ منهم ولا يصلّي عليّ فأنزل اللّه توبتنا على نبيّه -صلّى اللّه عليه وسلّم- حين بقي الثّلث الآخر من اللّيل، ورسول اللّه -صلّى اللّه عليه وسلّم- عند أمّ سلمة وكانت أمّ سلمة محسنةً في شأني معنيّةً في أمري فقال رسول اللّه -صلّى اللّه عليه وسلّم-: «يا أمّ سلمة تيب على كعبٍ» قالت: أفلا أرسل إليه فأبشّره؟ قال: «إذًا يحطمكم النّاس فيمنعونكم النّوم سائر اللّيلة» حتّى إذا صلّى رسول اللّه -صلّى اللّه عليه وسلّم- صلاة الفجر آذن بتوبة اللّه علينا وكان إذا استبشر استنار وجهه حتّى كأنّه قطعةٌ من القمر وكنّا أيّها الثّلاثة الّذين خلّفوا عن الأمر الّذي قبل من هؤلاء الّذين اعتذروا حين أنزل اللّه لنا التّوبة، فلمّا ذكر الّذين كذبوا رسول اللّه -صلّى اللّه عليه وسلّم- من المتخلّفين فاعتذروا بالباطل ذكروا بشرّ ما ذكر به أحدٌ قال اللّه سبحانه: {يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبّأنا اللّه من أخباركم وسيرى اللّه عملكم ورسوله} [التوبة: 94] الآية.
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد (محمد) هو ابن النضر النيسابوري أو ابن إبراهيم البوشنجي أو ابن يحيى الذهلي وبالأوّلين قال الحاكم وبالأخير أبو علي الغساني قال: (حدّثنا أحمد بن أبي شعيب) نسبه لجده واسم أبيه عبد الله بن أبي شعيب مسلم. قال الحافظ ابن حجر: وقع في رواية ابن السكن حدّثني أحمد بن أبي شعيب من غير ذكر محمد المختلف فيه والأوّل هو المشهور وإن كان أحمد بن أبي شعيب من مشايخ المؤلّف قال: (حدّثنا موسى بن أعين) بفتح الهمزة والتحتية بينهما عين ساكنة وآخره نون الجزري بالجيم والزاي والراء قال: (حدّثنا إسحاق بن راشد) الجزري أيضًا (إن الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب (حدّثه قال: أخبرني) بالإفراد (عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه) عبد الله (قال: سمعت أبي كعب بن مالك وهو) أي كعب (أحد الثلاثة) هو وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع (الذين تيب عليهم) بكسر الفوقية وسكون التحتية مجهول تاب يتوب توبة (أنه لم يتخلف عن رسول الله -صلّى اللّه عليه وسلّم- في غزوة غزاها قط غير غزوتين غزوة العسرة) بضم العين وسكون السين المهملتين وهي غزوة تبوك (وغزوة بدر قال: فأجمعت صدق رسول الله) ولأبي ذر عن الكشميهني صدقي رسول الله (-صلّى اللّه عليه وسلّم-) أي بعد أن بلغه أنه عليه الصلاة والسلام توجه قافلاً من الغزو واهتم لتخلفه من غير عذر وتفكّر فيما يخرج به من سخط الرسول وطفق يتذكر الكذب لذلك فأزاح الله عنه الباطل فأجمع على الصدق. أي جزم به وعقد عليه قصده وأصبح رسول الله -صلّى اللّه عليه وسلّم- قادمًا في رمضان (ضحى) وسقطت هذه اللفظة من كثير من الأصول.
(وكان) عليه الصلاة والسلام (قلما يقدم من سفر سافره إلا ضحى وكان يبدأ بالمسجد فيركع) فيه (ركعتين) قبل أن يدخل منزله (ونهى النبي -صلّى اللّه عليه وسلّم-) أي بعد أن اعترف بين يديه أنه تخلف من غير عذر وقوله عليه الصلاة والسلام له قم حتى يقضي الله فيك (عن كلامي وكلام صاحبي) هلال ومرارة لكونهما تخلفا من غير عذر واعترفا كذلك (ولم ينه عن كلام أحد من المتخلفين غيرنا) وهم الذين اعتذروا إليه وقبل منهم علانيتهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله تعالى وكانوا بضعة وثمانين رجلاً (فاجتنب الناس كلامنا) أيها الثلاثة قال كعب (فلبثت كذلك حتى طال عليّ الأمر وما من شيء أهم إليّ من أن أموت فلا يصلّي عليّ النبي -صلّى اللّه عليه وسلّم- أو يموت رسول الله -صلّى اللّه عليه وسلّم- فأكون من الناس بتلك المنزلة فلا يكلمني أحد منهم ولا يصلي عليّ) بكسر لام يصلي، وفي نسخة يصلى بفتحها ولأبي ذر عن الكشميهني ولا يسلم عليّ بدل يصلي، وفي نسخة حكاها القاضي عياض عن بعض الرواة ولا يسلمني والمعروف أن فعل السلام إنما يتعدى بعلى وقد يكون اتباعًا ليكلمني.
قال القاضي: أو يرجع إلى قول من فسر السلام بأن معناه إنك مسلم مني. قال في المصابيح: وسقطت ولا يسلمني للأصيلي كذا قال فليحرر (فأنزل الله) عز وجل (توبتنا على نبيه -صلّى اللّه عليه وسلّم- حين بقي الثلث الآخر من الليل) بعد مضي خمسين ليلة من النهي عن كلامهم (ورسول الله -صلّى اللّه عليه وسلّم- عند أم سلمة) رضي الله تعالى عنها والواو للحال، (وكانت أم سلمة محسنة في شأني معنية) بفتح الميم وسكون العين المهملة وكسر النون وتشديد التحتية أي ذات اعتناء ولأبي ذر عن الكشميهني معينة بضم الميم وكسر العين فتحتية ساكنة فنون مفتوحة أي ذات إعانة (في أمري) قال العيني: وليست بمشتقة من العون كما قاله بعضهم يريد الحافظ ابن حجر، وقد رأيت في هامش الفرع مما عزاه لليونينية ورأيته فيها عن عياض معنية يعني بفتح الميم وسكون العين كذا عند الأصيلي ولغيره معينة بضم الميم أي وكسر العين من العون قال والأوّل أليق بالحديث.
(فقال رسول الله -صلّى اللّه عليه وسلّم-: يا أم سلمة تيب على كعب، قالت: أفلا) بهمزة الاستفهام (أرسل إليه فأبشره قال: إذًا يحطمكم الناس) بفتح أوّله وكسر ثالثه منصوب بإذا من الحطم بالحاء والطاء المهملتين وهو الدرس وللمستملي والكشميهني يخطفكم بفتح ثالثه والنصب من الخطف بالخاء المعجمة والفاء وهو مجاز عن الازدحام (فيمنعونكم النوم) بإثبات النون بعد الواو وللأصيلي فيمنعوكم بحذفها (سائر الليلة) أي باقيها (حتى إذا صلى رسول الله -صلّى اللّه عليه وسلّم- صلاة الفجر آذن) بمد الهمزة أي أعلم (بتوبة الله علينا وكان) عليه الصلاة والسلام (إذا استبشر استنار وجهه حتى كأنه قطعة من القمر) شبه به دون الشمس لأنه يملأ الأرض بنوره ويؤنس كل من شاهده ومجمع النور من غير أذى ويتمكن من النظر إليه بخلاف الشمس فإنها تكل البصر فلا يتمكن البصر من رؤيتها بالقطعة مع كثرة ما ورد في كثير من كلام البلغاء من التشبيه بالقمر من غير تقييد، وقد كان كعب قائل هذا من شعراء الصحابة فلا بد في التقييد بذلك من حكمة وما قيل في ذلك من أنه احتراز من السواد الذي في القمر ليس بقوي لأن المراد بتشبيهه ما في القمر من الضياء والاستنارة وهو في تمامه لا يكون فيها أقل مما في القطعة المجردة فكأن التشبيه وقع على بعض الوجه فناسب أن يشبه ببعض القمر.
(وكنا أيها الثلاثة) بلفظ النداء ومعناه الاختصاص (الذين خلفوا) ولأبي ذر خلفنا (عن الأمر الذي قبل) بضم أوّله مبنيًّا للمفعول كالسابق (من هؤلاء الذين اعتذروا) ووكّل سرائرهم إلى الله عز وجل وليس المراد التخلف عن الغزو بل التخلف عن حكم أمثالهم من المتخلفين عن الغزو الذين اعتذروا وقبلوا (حين أنزل الله) عز وجل (لنا التوبة، فلما ذكر) بالضم (الذين كذبوا رسول الله -صلّى اللّه عليه وسلّم- من المتخلفين) كذب يتعدى بدون الصلة (فاعتذروا بالباطل ذكروا بشر ما ذكر به أحد قال الله سبحانه وتعالى: {يعتذرون إليكم}) أي في التخلف ({إذا رجعتم إليهم}) من الغزو ({قل لا تعتذروا}) بالمعاذير الكاذبة ({لن نؤمن لكم}) لن نصدقكم أن لكم عذرًا ({قد نبأنا الله من أخباركم وسيرى الله عملكم ورسوله}) [التوبة: 94] (الآية) يعني إن تبتم وأصلحتم رأى الله عملكم وجازاكم عليه وذكر الرسول لأنه شهيد عليهم ولهم سقط قوله الآية لأبي ذر.
وهذا الحديث قطعة من حديث كعب وقد ذكره المؤلّف تامًّا في المغازي). [إرشاد الساري: 7/160-162]
- قال محمدُ بنُ عبدِ الهادي السِّنْديُّ (ت: 1136هـ) : (باب {وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم}
قوله: (ونهى النبي صلى الله عليه وسلّم عن كلامي، وكلام صاحبي) هما: هلال ومرارة لأن الثلاثة تخلفوا من غير عذر، واعترفوا بذلك.
قوله: (ولم ينه عن كلام أحد من المتخلفين غيرنا) أي: وهم الذين اعتذروا إليه، وقبل منهم علانيتهم، واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله تعالى، وكانوا بضعة وثمانين رجلاً). [حاشية السندي على البخاري: 3/54]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {وعلى الثّلاثة الّذين خلّفوا حتّى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنّوا أن لا ملجأ من اللّه إلاّ إليه ثمّ تاب عليهم ليتوبوا إنّ اللّه هو التّوّاب الرّحيم}.
يقول تعالى ذكره: لقد تاب اللّه على النّبيّ والمهاجرين والأنصار وعلى الثّلاثة الّذين خلّفوا وهؤلاء الثّلاثة الّذين وصفهم اللّه في هذه الآية بما وصفهم به فيما قبل، هم الآخرون الّذين قال جلّ ثناؤه: {وآخرون مرجون لأمر اللّه إمّا يعذّبهم وإمّا يتوب عليهم واللّه عليمٌ حكيمٌ} فتاب عليهم عزّ ذكره وتفضّل عليهم.
وقد مضى ذكر من قال ذلك من أهل التّأويل بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
فتأويل الكلام إذًا: ولقد تاب اللّه على الثّلاثة الّذين خلّفهم اللّه عن التّوبة، فأرجأهم عمّن تاب عليه ممّن تخلّف عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم.
- كما حدّثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرّزّاق، قال: أخبرنا معمرٌ، عمّن سمع عكرمة، في قوله: {وعلى الثّلاثة الّذين خلّفوا} قال: خلّفوا عن التّوبة.
- حدّثنا بشرٌ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، أما قوله: {خلّفوا} فخلّفوا عن التّوبة.
{حتّى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت} يقول: بسعتها غمًّا وندمًا على تخلّفهم عن الجهاد مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم {وضاقت عليهم أنفسهم} بما نالهم من الوجد والكرب بذلك {وظنّوا أن لا ملجأ} يقول: وأيقنوا بقلوبهم أن لا شيء لهم يلجئون إليه ممّا نزل بهم من أمر اللّه من البلاء بتخلّفهم خلاف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ينجيهم من كربه، ولا ممّا يحذرون من عذاب اللّه إلاّ اللّه. ثمّ رزقهم الإنابة إلى طاعته، والرّجوع إلى ما يرضيه عنهم، لينيبوا إليه ويرجعوا إلى طاعته والانتهاء إلى أمره ونهيه. {إنّ اللّه هو التّوّاب الرّحيم} يقول: إنّ اللّه هو الوهّاب لعباده الإنابة إلى طاعته الموفّق من أحبّ توفيقه منهم لما يرضيه عنه، الرّحيم بهم أن يعاقبهم بعد التّوبة، أو يخذل من أراد منهم التّوبة والإنابة ولا يتوب عليه.
وبنحو الّذي قلنا في ذلك قال أهل التّأويل.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثنا ابن وكيعٍ، قال: حدّثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابرٍ، في قوله: {وعلى الثّلاثة الّذين خلّفوا}. قال. كعب بن مالكٍ، وهلال بن أميّة، ومرارة بن ربيعة، وكلّهم من الأنصار.
- حدّثني عبيد بن محمّدٍ الورّاق، قال: حدّثنا أبو أسامة، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابرٍ بنحوه، إلاّ أنّه قال: ومرارة بن الرّبيع، أو ابن ربيعة، شكّ أبو أسامة.
- حدّثنا ابن وكيعٍ، قال: حدّثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابرٍ، عن عكرمة، وعامرٍ، {وعلى الثّلاثة الّذين خلّفوا} قال: أرجئوا في أوسط براءة.
- حدّثنا القاسم، قال. حدّثنا الحسين، قال: ثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ، {الثّلاثة الّذين خلّفوا} قال: الّذين أرجئوا في أوسط براءة قوله: {وآخرون مرجون لأمر اللّه} هلال بن أميّة، ومرارة بن ربيعة، وكعب بن مالكٍ.
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا أبو حذيفة، قال: حدّثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، {وعلى الثّلاثة الّذين خلّفوا} الّذين أرجئوا في وسط براءة.
- حدّثنا ابن وكيعٍ، قال: حدّثنا أبي، عن أبيه، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ: {وعلى الثّلاثة الّذين خلّفوا} قال: كلّهم من الأنصار: هلال بن أميّة، ومرارة بن ربيعة، وكعب بن مالكٍ.
- قال: حدّثنا ابن نميرٍ، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ: {وعلى الثّلاثة الّذين خلّفوا} قال: الّذين أرجئوا.
- قال: حدّثنا جريرٌ، عن يعقوب، عن جعفرٍ، عن سعيدٍ، قال: {الثّلاثة الّذين خلّفوا} كعب بن مالكٍ وكان شاعرًا، ومرارة بن الرّبيع، وهلال بن أميّة، وكلّهم أنصارٌ.
- قال: حدّثنا أبو خالدٍ الأحمر، والمحاربيّ، عن جويبرٍ، عن الضّحّاك، قال: كلّهم من الأنصار: هلال بن أميّة، ومرارة بن الرّبيع، وكعب بن مالكٍ.
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا عمرو بن عونٍ، قال: أخبرنا هاشمٌ، عن جويبرٍ، عن الضّحّاك، قوله: {وعلى الثّلاثة الّذين خلّفوا} قال: هلال بن أميّة، وكعب بن مالكٍ، ومرارة بن الرّبيع؛ كلّهم من الأنصار.
- حدّثنا بشرٌ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، قوله: {وعلى الثّلاثة الّذين خلّفوا}، إلى قوله: {ثمّ تاب عليهم ليتوبوا إنّ اللّه هو التّوّاب الرّحيم} كعب بن مالكٍ، وهلال بن أميّة، ومرارة بن ربيعة؛ تخلّفوا في غزوة تبوك. ذكر لنا أنّ كعب بن مالكٍ أوثق نفسه إلى ساريةٍ، فقال: لا أطلقها أو لا أطلق نفسي حتّى يطلقني رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال رسول اللّه: واللّه لا أطلقه حتّى يطلقه ربّه إن شاء. وأمّا الآخر فكان تخلّف على حائطٍ له كان أدرك، فجعله صدقةً في سبيل اللّه، وقال: واللّه لا أطعمه وأمّا الآخر فركب المفاوز يتبع رسول اللّه ترفعه أرضٌ وتضعه أخرى، وقدماه تشلشلان دمًا.
- حدّثنا ابن وكيعٍ، قال: حدّثنا عبيد اللّه، عن إسرائيل، عن السّدّيّ، عن أبي مالكٍ، قال: {الثّلاثة الّذين خلّفوا} هلال بن أميّة، وكعب بن مالكٍ، ومرارة بن ربيعة.
- قال: حدّثنا أبو داود الحفريّ، عن سلاّمٍ أبي الأحوص، عن سعيد بن مسروقٍ، عن عكرمة، {وعلى الثّلاثة الّذين خلّفوا} قال: هلال بن أميّة، ومرارة، وكعب بن مالكٍ.
- حدّثني يعقوب، قال: حدّثنا ابن عليّة، قال: أخبرنا ابن عونٍ، عن عمر بن كثير بن أفلح، قال: قال كعب بن مالكٍ: ما كنت في غزاةٍ أيسر للظّهر والنّفقة منّي في تلك الغزاة. قال كعب بن مالكٍ: لمّا خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قلت: أتجهّز غدًا ثمّ ألحقه فأخذت في جهازي، فأمسيت ولم أفرغ؛ فلمّا كان اليوم الثّالث أخذت في جهازي، فأمسيت ولم أفرغ، فقلت: هيهات، سار النّاس ثلاثًا فأقمت. فلمّا قدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم جعل النّاس يعتذرون إليه، فجئت حتّى قمت بين يديه فقلت: ما كنت في غزاةٍ أيسر للظّهر والنّفقة منّي في هذه الغزاة. فأعرض عنّي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فأمر النّاس أن لا يكلّمونا، وأمرت نساؤنا أن يتحوّلن عنّا. قال: فتسوّرت حائطًا ذات يومٍ فإذا أنا بجابر بن عبد اللّه، فقلت: أي جابر، نشدتك باللّه هل علمتني غششت اللّه ورسوله يومًا قطّ؟ فسكت عنّي، فجعل لا يكلّمني. فبينا أنا ذات يومٍ، إذ سمعت رجلاً على الثّنيّة يقول: كعب كعب حتّى دنا منّي، فقال: بشّروا كعبًا.
- حدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهابٍ، قال: غزا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم غزوة تبوك وهو يريد الرّوم ونصارى العرب بالشّام، حتّى إذا بلغ تبوك أقام بها بضع عشرة ليلةً ولقيه بها وفد أذرح ووفد أيلة، صالحهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم على الجزية. ثمّ قفل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من تبوك ولم يجاوزها، وأنزل اللّه: {لقد تاب اللّه على النّبيّ والمهاجرين والأنصار الّذين اتّبعوه في ساعة العسرة} الآية، والثّلاثة الّذين خلّفوا: رهطٌ منهم: كعب بن مالكٍ، وهو أحد بني سلمة، ومرارة بن ربيعة، وهو أحد بني عمرو بن عوفٍ، وهلال بن أميّة، وهو من بني واقفٍ. وكانوا تخلّفوا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في تلك الغزوة في بضعةٍ وثمانين رجلاً؛ فلمّا رجع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلى المدينة، صدقه أولئك حديثهم واعترفوا بذنوبهم، وكذب سائرهم، فحلفوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ما حبسهم إلاّ العذر، فقبل منهم رسول اللّه وبايعهم، ووكّلهم في سرائرهم إلى اللّه. ونهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن كلام الّذين خلّفوا، وقال لهم حين حدّثوه حديثهم واعترفوا بذنوبهم: قد صدقتم فقوموا حتّى يقضي اللّه فيكم فلمّا أنزل اللّه القرآن تاب على الثّلاثة، وقال للآخرين: {سيحلفون باللّه لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم} حتّى بلغ: {لا يرضى عن القوم الفاسقين}.
- قال ابن شهابٍ: وأخبرني عبد الرّحمن بن عبد اللّه بن كعب بن مالكٍ، أنّ عبد اللّه بن كعب بن مالكٍ، وكان قائد كعبٍ من بنيه حين عمي، قال: سمعت كعب بن مالكٍ، يحدّث حديثه حين تخلّف عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في غزوة تبوك، قال كعب: لم أتخلّف عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في غزوةٍ غزاها قطّ إلاّ في غزوة تبوك، غير أنّي قد تخلّفت في غزوة بدرٍ، ولم يعاتب أحدًا تخلّف عنها؛ إنّما خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم والمسلمون يريدون عير قريشٍ، حتّى جمع اللّه بينهم وبين عدوّهم على غير ميعادٍ. ولقد شهدت مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام، وما أحبّ أنّ لي بها مشهد بدرٍ وإن كانت بدرٌ أذكر في النّاس منها.
فكان من خبري حين تخلّفت عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم في غزوة تبوك أنّي لم أكن قطّ أقوى ولا أيسر منّي حين تخلّفت عنه في تلك الغزوة، واللّه ما جمعت قبلها راحلتين قطّ حتّى جمعتهما في تلك الغزوة. فغزاها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في حرٍّ شديدٍ، واستقبل سفرًا بعيدًا ومفاوز، واستقبل عدوًّا كثيرًا، فجلّى للمسلمين أمرهم ليتأهّبوا أهبّة غزوهم، فأخبرهم بوجهه الّذي يريد، والمسلمون مع النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم كثيرٌ، ولا يجمعهم كتابٌ حافظٌ يريد بذلك الدّيوان قال كعب: فما رجلٌ يريد أن يتغيّب إلاّ يظنّ أنّ ذلك سيخفى ما لم ينزل فيه وحي من اللّه. وغزا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم تلك الغزوة حين طابت الثّمار والظّلال، وأنا إليهما أصعر.
فتجهّز رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم والمسلمون معه، وطفقت أغدو لكي أتجهّز معهم، فلم أقض من جهازي شيئًا، ثمّ غدوت فرجعت ولم أقض شيئًا. فلم يزل ذلك يتمادى حتّى أسرعوا وتفارط الغزو، وهممت أن أرتحل فأدركهم، فيا ليتني فعلت، فلم يقدّر ذلك لي، فطفقت إذا خرجت في النّاس بعد خروج النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم يحزنني أنّي لا أرى لي أسوةٌ إلاّ رجلاً مغموصًا عليه في النّفاق أو رجلاً ممّن عذر اللّه من الضّعفاء. ولم يذكرني رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حتّى بلغ تبوك، فقال وهو جالسٌ في القوم بتبوك: ما فعل كعب بن مالكٍ؟ فقال رجلٌ من بني سلمة: يا رسول اللّه حبسه برداه والنّظر في عطفيه. فسكت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فبينا هو على ذلك رأى رجلاً مبيّضًا يزول به السّراب، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: كن أبا خيثمة فإذا هو أبو خيثمة الأنصاريّ، وهو الّذي تصدّق بصاع التّمر، فلمزه المنافقون. قال كعبٌ: فلمّا بلغني أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قد توجّه قافلاً من تبوك حضرني همّي، فطفقت أتذكّر الكذب وأقول بم أخرج من سخطه غدًا؟ وأستعين على ذلك بكلّ ذي رأي من أهلي. فلمّا قيل: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قد أظلّ قادمًا زاح عنّي الباطل، حتّى عرفت أنّي لن أنجو منه بشيءٍ أبدًا، فأجمعت صدقه.
وصبّح رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قادمًا، وكان إذا قدم من سفرٍ بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين ثمّ جلس للنّاس؛ فلمّا فعل ذلك جاءه المخلّفون، فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له، وكانوا بضعةً وثمانين رجلاً، فقبل منهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم، ووكّل سرائرهم إلى اللّه؛ حتّى جئت، فلمّا سلّمت تبسّم تبسّم المغضب، ثمّ قال: تعال فجئت أمشي حتّى جلست بين يديه، فقال لي: ما خلّفك، ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟ قال: قلت يا رسول اللّه إنّي واللّه لو جلست عند غيرك من أهل الدّنيا لرأيت أنّي سأخرج من سخطه بعذرٍ لقد أعطيت جدلاً، ولكنّي واللّه لقد علمت لئن حدّثتك اليوم حديث كذبٍ ترضى به عنّي ليوشكنّ اللّه أن يسخطك عليّ، ولئن حدّثتك حديث صدقٍ تجد عليّ فيه إنّي لأرجو فيه عفوّ اللّه؛ واللّه ما كان في عذرٌ، واللّه ما كنت قطّ أقوى ولا أيسر منّي حين تخلّفت عنك فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: أمّا هذا فقد صدق، قم حتّى يقضي اللّه فيك فقمت، وثار رجالٌ من بني سلمة، فاتّبعوني وقالوا: واللّه ما علمناك أذنبت ذنبًا قبل هذا، لقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بما اعتذر به المتخلّفون، فقد كان كافيك ذنبك استغفار رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لك. قال: فواللّه ما زالوا يؤنّبونني، حتّى أردت أن أرجع إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فأكذّب نفسي. قال: ثمّ قلت لهم: هل لقي هذا معي أحدٌ؟ قالوا: نعم لقيه معك رجلان قالا مثل ما قلت وقيل لهما مثل ما قيل لك. قال: قلت من هما؟ قالوا: مرارة بن الرّبيع العامريّ وهلال بن أميّة الواقفيّ.
قال: فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرًا فيهما أسوةٌ. قال: فمضيت حين ذكروهما لي. ونهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم المسلمين عن كلامنا أيّها الثّلاثة من بين من تخلّف عنه، قال: فاجتنبنا النّاس وتغيّروا لنا حتّى تنكّرت لي في نفسي الأرض فما هي بالأرض الّتي أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلةً. فأمّا صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأمّا أنا فكنت أشبّ القوم وأجلدهم، فكنت أخرج وأشهد الصّلاة وأطوف في الأسواق ولا يكلّمني أحدٌ، وآتي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فأسلّم عليه وهو في مجلسه بعد الصّلاة، فأقول في نفسي هل حرّك شفتيه يردّ السّلام أم لا؟ ثمّ أصلّي معه وأسارقه النّظر، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إليّ وإذا التفت نحوه أعرض عنّي. حتّى إذا طال ذلك عليّ من جفوة المسلمين، مشيت حتّى تسوّرت جدار حائط أبي قتادة وهو ابن عمّي وأحبّ النّاس إليّ، فسلّمت عليه، فواللّه ما ردّ عليّ السّلام، فقلت: يا أبا قتادة أنشدك باللّه هل تعلم أنّي أحبّ اللّه ورسوله؟ فسكت، قال: فعدت فناشدته فسكت، فعدت فناشدته فقال: اللّه ورسوله أعلم ففاضت عيناي، وتولّيت حتّى تسوّرت الجدار. فبينا أنا أمشي في سوق المدينة، إذا بنبطيٍّ من نبط أهل الشّام ممّن قدم بالطّعام يبيعه بالمدينة، يقول: من يدلّ على كعب بن مالكٍ؟ قال: فطفق النّاس يشيرون له حتّى جاءني، فدفع إليّ كتابًا من ملك غسّان، وكنت كاتبًا، فقرأته فإذا فيه: أما بعد فإنّه قد بلغنا أنّ صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك اللّه بدار هوانٍ ولا مضيعةٍ، فالحق بنا نواسك.
قال: فقلت حين قرأتها: وهذه أيضًا من البلاء. فتأمّمت به التّنّور فسجرته به.
حتّى إذا مضت أربعون من الخمسين واستلبث الوحي إذا رسول رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يأتيني فقال: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يأمرك أن تعتزل امرأتك، قال: فقلت: أطلّقها أم ماذا أفعل؟ قال: لا بل اعتزلها فلا تقربها قال: وأرسل إلى صاحبيّ بذلك، قال: فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك تكوني عندهم حتّى يقضي اللّه في هذا الأمر قال: فجاءت امرأة هلال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقالت: يا رسول اللّه إنّ هلال بن أميّة شيخٌ ضائعٌ ليس له خادمٌ، فهل تكره أن أخدمه؟ فقال: لا، ولكن لا يقربنّك قالت: فقلت: إنّه واللّه ما به حركةٌ إلى شيءٍ، ووالله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا قال: فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في امرأتك فقد أذن لامرأة هلال أن تخدمه قال: فقلت لا أستأذن فيها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، وما يدريني ماذا يقول لي إذا استأذنته فيها وأنا رجلٌ شابٌّ.
فلبثت بعد ذلك عشر ليالٍ، فكمل لنا خمسون ليلةً من حين نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن كلامنا. قال: ثمّ صلّيت صلاة الفجر صباح خمسين ليلةً على ظهر بيتٍ من بيوتنا، فبينا أنا جالسٌ على الحال الّتي ذكر اللّه عنّا قد ضاقت عليّ نفسي وضاقت عليّ الأرض بما رحبت، سمعت صوت صارخٍ أوفى على جبل سلعٍ يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالكٍ أبشر قال: فخررت ساجدًا، وعرفت أن قد جاء فرجٌ.
قال: وأذن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بتوبة اللّه علينا حين صلّى صلاة الفجر، فذهب النّاس يبشّروننا، فذهب قبل صاحبيّ مبشّرون، وركض رجلٌ إليّ فرسًا، وسعى ساعٍ من أسلم قبلي وأوفى الجبل، وكان الصّوت أسرع من الفرس. فلمّا جاءني الّذي سمعت صوته يبشّرني نزعت له ثوبيّ، فكسوتهما إيّاه ببشارته، واللّه ما أملك غيرهما يومئذٍ، واستعرت ثوبين فلبستهما. وانطلقت أتأمّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فتلقّاني النّاس فوجًا فوجًا يهنّئوني بالتّوبة، ويقولون: لتهنك توبة اللّه عليك حتّى دخلت المسجد، فإذا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم جالسٌ في المسجد حوله النّاس، فقام إليّ طلحة بن عبيد اللّه يهرول حتّى صافحني وهنّأني، واللّه ما قام رجلٌ من المهاجرين غيره - قال: فكان كعبٌ لا ينساها لطلحة - قال كعبٌ: فلمّا سلّمت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال وهو يبرق وجهه من السّرور: أبشر بخير يومٍ مرّ عليك منذ ولدتك أمّك فقلت: أمن عندك يا رسول اللّه، أم من عند اللّه؟ قال: لا بل من عند اللّه. وكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إذا سرّ استنار وجهه حتّى كأنّ وجهه قطعة قمرٍ، وكنّا نعرف ذلك منه.
قال: فلمّا جلست بين يديه قلت: يا رسول اللّه إنّ من توبتي أن أنخلع من مالي صدقةً إلى اللّه وإلى رسوله فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أمسك بعض مالك فهو خيرٌ لك قال: فقلت: فإنّي أمسك سهمي الّذي بخيبر. وقلت: يا رسول اللّه إنّ اللّه إنّما أنجاني بالصّدق، وإنّ من توبتي أن لا أحدّث إلاّ صدقًا ما بقيت قال: فواللّه ما علمت أحدًا من المسلمين ابتلاه اللّه في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول اللّه عليه الصّلاة والسّلام أحسن ممّا ابتلاني، واللّه ما تعمّدت كذبةً منذ قلت ذلك لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلى يومي هذا، وإنّي أرجو أن يحفظني اللّه فيما بقي. قال: فأنزل اللّه: {لقد تاب اللّه على النّبيّ}.. حتّى بلغ: {وعلى الثّلاثة الّذين خلّفوا}، إلى: {اتّقوا اللّه وكونوا مع الصّادقين} قال كعب: واللّه ما أنعم اللّه عليّ من نعمةٍ قطّ بعد أن هداني للإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن لا أكون كذبته فأهلك كما هلك الّذين كذبوه، فإنّ اللّه قال للّذين كذبوا حين أنزل الوحي شرّ ما قال لأحدٍ: {سيحلفون باللّه لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنّهم رجسٌ ومأواهم جهنّم جزاءً بما كانوا يكسبون}، إلى قوله: {لا يرضى عن القوم الفاسقين}.
قال كعبٌ: خلّفنا أيّها الثّلاثة عن أمر، أولئك الّذين قبل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم توبتهم حين حلفوا له، فبايعهم واستغفر لهم، وأرجأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أمرنا حتّى قضى اللّه فيه، فبذلك قال اللّه: {وعلى الثّلاثة الّذين خلّفوا} وليس الّذي ذكر اللّه ممّا خلّفنا عن الغزو إنّما هو تخليفه إيّانا وإرجاؤه أمرنا عمّن حلف له واعتذر إليه، فقبل منهم.
- حدّثنا المثنّى، قال: حدّثنا أبو صالحٍ، قال: ثني اللّيث، عن عقيلٍ، عن ابن شهابٍ، قال: أخبرني عبد الرّحمن بن عبد اللّه بن كعب بن مالكٍ، أنّ عبد اللّه بن كعب بن مالكٍ، وكان قائد كعبٍ من بنيه حين عمي، قال: سمعت كعب بن مالكٍ يحدّث حديثه حين تخلّف، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في غزوة تبوك، فذكر نحوه.
- حدّثنا محمّد بن عبد الأعلى، قال: حدّثنا محمّد بن ثورٍ، عن معمرٍ، عن الزّهريّ، عن عبد الرّحمن بن كعبٍ، عن أبيه، قال: لم أتخلّف عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم في غزاةٍ غزاها إلاّ بدرًا، ولم يعاتب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أحدًا تخلّف عن بدرٍ، ثمّ ذكر نحوه.
- حدّثنا ابن حميدٍ قال: حدّثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن ابن شهابٍ الزّهريّ، عن عبد الرّحمن بن عبد اللّه بن كعب بن مالكٍ الأنصاريّ ثمّ السّلميّ، عن أبيه. أنّ أباه عبد اللّه بن كعبٍ، وكان قائد أبيه كعبٍ حين أصيب بصره، قال: سمعت أبي كعب بن مالكٍ يحدّث حديثه حين تخلّف عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في غزوة تبوك، وحديث صاحبيه قال: ما تخلّفت عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في غزوةٍ غزاها، غير أنّي كنت تخلّفت عنه في غزوة بدرٍ، ثمّ ذكر نحوه). [جامع البيان: 12/53-66]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (وعلى الثّلاثة الّذين خلّفوا حتّى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنّوا أن لا ملجأ من اللّه إلّا إليه ثمّ تاب عليهم ليتوبوا إنّ اللّه هو التّوّاب الرّحيم (118)
قوله تعالى: وعلى الثّلاثة الّذين خلّفوا.
[الوجه الأول]
- حدّثنا محمّد بن عزيزٍ الأيليّ ثنا سلامة بن روح بن خالدٍ حدّثني عقيل بن خالدٍ قال: سألت محمّد بن مسلمٍ عن أمر كعب بن مالكٍ حين تخلّف عن غزوة تبوك، فأخبرني محمّد بن مسلمٍ أنّ عبد الرّحمن بن عبد اللّه بن كعب أخبره أنّ عبد اللّه بن كعب وكان قائد كعبٍ من بنيه حين عمي- قال: سمعت كعب بن مالكٍ يحدّث حديثه حين تخلّف عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في غزوة تبوك، فقال كعبٌ: لم أتخلّف عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في غزوةٍ غزاها قطّ إلا في غزوة تبوك، غير أنّي تخلّفت عنه غزوة بدرٍ، ولم يعاتب أحدًا تخلّف عنها، إنّما خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يريد عير قريشٍ حين جمع اللّه بينهم وبين عدوّهم على غير ميعادٍ، ولقد شهدت مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ليلة العقبة.
فكان من خبري حين تخلّفت عن رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وسلّم- في غزوة تبوك أنّي لم أكن قطّ أقوى ولا أيسر منّي حين تخلّفت عن تلك الغزوة، واللّه ما اجتمعت عندي قبلها راحلتان قطّ حتّى جمعتهما في تلك الغزوة فغزاها رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم في حرٍّ شديدٍ واستقبل سفرًا بعيدًا واستقبل عدوًّا كثيرًا ومفازًا فجلا للمسلمين أمرهم ليتأهّبوا أهبة غزوهم، فأخبرهم بوجهه، والمسلمون مع رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وسلّم- كثيرٌ، وغزا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم تلك الغزوة حين طابت الثّمار والظّلال، وطفقت أغدو لكي أتجهّز معه فأرجع ولم أقض شيئًا، فأقول في نفسي: إنّي قادرٌ على ذلك إذا أردته، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتّى تشمّر بالنّاس الجدّ، وأصبح رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم غاديًا، والمسلمون معه ولم أقض من جهازي شيئا فقلت: أتجهز بعده يوم أو يومين ثمّ ألحقهم، فرجعت ولم أقض شيئًا، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتّى أسرعوا وتفاوت الغزو، وهممت أن أرتحل فأدركهم وليتني فعلت فلم يقدّر لي فطفقت إذا خرجت في النّاس أحزنني أنّي لا أرى إلا رجلا مغموصًا عليه النّفاق، أو رجلا ممّن عذر اللّه من الضّعفاء، ولم يذكرني رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حتّى بتبوك فقال وهو جالسٌ في وسط القوم: ما فعل كعب بن مالكٍ؟ فقال رجلٌ من بني سلمة يا رسول اللّه، حبسه براده، والنّظر في عطفيه، فقال له معاذ بن جبلٍ: بئس ما قلت واللّه يا رسول اللّه ما علمنا إلا خيرًا، فسكت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فلمّا بلغني أنّ رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وسلّم- قد توجّه قافلا من تبوك حضرني بثّي وطفقت أتذكّر الكذب وأقول: بماذا أخرج من سخطته غدًا؟ وأستعين على ذلك بكلّ ذي لبٍّ من أهلي، فلمّا قيل: أنّ رسول اللّه- صلّى الله عليه وسلّم- قد أظلّ قادمًا زاح الباطل عنّي وعرفت ألا أنجو منه بشيءٍ فيه كذبٌ فأجمعت صدقه وأصبح رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قادمًا وكان إذا قدم من سفرٍ بدأ بالمسجد، فركع ركعتينٍ ثمّ جلس للنّاس فلمّا فعل ذلك جاءه المخلّفون، فطفقوا يعتذرون إليه، ويحلفون له وكانوا بضعةً وثمانين رجلا فقبل علانيتهم، وبايعهم، واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى اللّه، حتّى جئت فلمّا سلّمت عليه تبسّم تبسّم المغضب، ثمّ قال: تعال، فجئت أمشي حتّى جلست بين يديه، فقال: ما خلّفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرًا؟ قلت: بلى يا رسول اللّه، إنّي واللّه لو جلست عند غيرك اليوم من أهل الدّنيا لرأيت أنّي سأخرج من سخطه بعذرٍ لقد أعطيت جدلا، ولكن واللّه لقد علمت لئن حدّثتك حديث كذبٍ ترضى به عنّي ليوشكنّ اللّه أن يسخطك عليّ ولئن حدّثتك حديث صدقٍ تجد عليّ فيه إنّي لأرجو فيه عقبى اللّه، لا والله ما كان لي من عذر والله ما كنت قطّ أقوى ولا أيسر منّي حين تخلّفت عنك، فقال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وسلّم-: أمّا هذا فقد صدق، قم حتى يقضي الله فيك، وثار رجالٌ من بني سلمة فاتّبعوني فقالوا: واللّه ما علمناك أذنبت قطّ قبل هذا ولقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وسلّم- ممّا اعتذر إليه المخلّفون فقد كان كافيك ذنبك استغفار رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وسلّم- لك قال كعب: فو الله ما زالوا يؤنّبوني حتّى أردت أن أرجع فأكذّب نفسي ثمّ قلت لهم: هل لقي هذا معي أحدٌ؟ قالوا: نعم، رجلان قالا: مثل ما قلت وقيل لهما: مثل ما قيل لك، فقلت: من هما؟ قالوا: مرارة بن الرّبيع العامريّ، هلال بن أميّة الواقفيّ، فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرًا، فيهما أسوةٌ فمضيت حين ذكروهما لي. ونهى رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وسلّم- النّاس عن كلامنا أيّها الثّلاثة من بين من تخلّف عليه فاجتنبنا النّاس، واعتزلونا، حتّى تنكّرت في نفسي الأرض فما هي الّتي كنت أعرف فلبثنا على ذلك خمسين ليلةً فأمّا صاحباي: فاشتكيا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأمّا أنا: فكنت أجلد القوم وأشبههم فكنت أخرج فأشهد الصّلاة مع رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وسلّم- والمسلمين، وأطوف في الأسواق لا يكلّمني أحدٌ، وأتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وهو في مجلسه فأسلم عليه بعد الصّلاة فأقول في نفسي: هل حرّك شفتيه برد السّلام عليّ أم لا؟ ثمّ أصلّي قريبًا منه فأسارقه النّظر، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إليّ، وإذا التفت إلى نحوه أعرض عنّي.
حتّى إذا طال ذلك عليّ من جفوة المسلمين مشيت يومًا حتّى تصوّرت جدار حائطٍ لأبي قتادة وهو ابن عمّي وأحبّ النّاس إليّ، فسلّمت عليه فو الله ما ردّ عليّ السّلام، فقلت له: يا أبا قتادة، أنشدك باللّه، هل تعلمني أحبّ للّه ورسوله؟ قال: فسكت، فعدت فنشدته، قال: فسكت قال: فعدت فنشدته، فقال: اللّه ورسوله أعلم، ففاضت عيناي، فتولّيت حتّى تصوّرت الجدار.
قال كعبٌ: فبينا أنا أمشي بسوق المدينة إذا أنا بنبطيٍّ من نبط الشّام ممّن قدم بالطّعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدلّني على كعب بن مالكٍ؟ فطفق النّاس يشيرون له إليّ، حتّى إذا جاءني دفع إليّ كتابًا من ملك غسّان- وكتب كتابًا فإذا فيه، أمّا بعد: فقد بلغني أنّ صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك اللّه بدار هوانٍ ولا منقصةٍ، الحق بنا نواسيك فقلت حين قرأته: وهذا أيضًا من البلاء فتيمّمت التّنّور فسجّرته بها.
حتّى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين، إذا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يأتيني فقال: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يأمرك بأن تعتزل امرأتك قال: فقلت له: أطلّقها، أم ماذا أفعل؟ قال: لا، اعتزلها ولا تقربها، وأرسل رسولا إلى صاحبي بمثل ذلك فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك فكوني عندهم حتّى يقضي اللّه في هذا الأمر، وجاءت امرأة هلال بن أميّة إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقالت: يا رسول اللّه، إنّ هلال بن أميّة شيخٌ كبيرٌ ضائعٌ ليس له خادمٌ، فهل تكره أن أخدمه؟ قال: لا ولكن لا يقربك، قالت: إنّه واللّه ما به حركةٌ إلا شيءٌ، واللّه ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا، قال كعبٌ: فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول اللّه في امرأتك، فقد أذن لامرأة هلال بن أميّة، قال: فقلت: واللّه لا أستأذن فيها رسول اللّه، وما يدريني ما يقول لي: رسول اللّه إذا استأذنته، وأنا رجلٌ شابٌّ؟.
فلبثت بعد ذلك عشر ليالٍ حتّى كملت لنا خمسون ليلةً من حين نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن كلامنا ثمّ صلّيت صلاة صبح خمسين ليلةً على ظهر بيتٍ من بيوتنا فبينا أنا جالسٌ على الحال الّتي ذكر اللّه منا، قد ضاقت علينا الأرض بما رحبت وضاقت عليّ نفسي، سمعت صوت صارخ أوفى على جبل بأعلى سلع بأعلى صوته: يا كعب بن مالك، أبشر فخررت ساجدًا، وعرفت أن قد جاء الفرج وأذن رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وسلّم- بتوبة اللّه علينا حين صلّى صلاة الفجر، فذهب النّاس يبشّروننا وذهب قبل صاحبيّ مبشّرون وركض رجلٌ إليّ فرسًا وسعى ساعٍ من أسلم، فأوفى على الجبل، فكان الصّوت أسرع من الفرس، فلمّا جاءني الّذي سمعت صوته يبشّرني نزعت ثوبيّ فكسوتهما إيّاه بشارةً واللّه ما أملك يومئذٍ غيرهما، واستعرت ثوبين فلبستهما فانطلقت إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فتلقّاني النّاس فوجًا فوجًا يهنّوني يقولون: لنهنّك توبة اللّه عليك، حتّى دخلت المسجد فإذا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم جالسٌ حوله الناس فقام إليّ طلحة بن عبيد اللّه يهرول حتّى صافحني وهنّاني واللّه ما قام إليّ رجلٌ من المهاجرين غيره فكان كعب لا ينساها لطلحة قال: فلمّا سلّمت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «وهو يبرق وجهه من السّرور أبشر بخير يومٍ مرّ عليك منذ ولدتك أمّك، فقلت: أمن عند اللّه يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إذا سرّ وجهه استنار حتّى كأنّه قطعة قمرٍ، وكنّا نعرف ذلك منه فلمّا جلست بين يديه قلت: يا رسول اللّه، إنّ من توبتي أن أنخلع من مالي صدقةً إلى اللّه وإلى رسوله، فقال: أمسك سهمي الّذي بخيبر فقلت: يا رسول اللّه، إنّ اللّه إنّما أنجاني بالصّدق، وإنّ من توبتي ألا أحدّث إلا صدقًا ما بقيت، فو الله ما أعلم أحدًا من المسلمين أبلاه اللّه في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أحسن ممّا أبلاني، واللّه ما تعمّدت من كذبةٍ منذ ذكرت ذلك لرسول اللّه- صلّى اللّه عليه وسلّم- إلى يومي هذا، وإنّي لأرجو أن يعصمني اللّه فيما بقي.
قال كعبٌ: وأنزل اللّه على رسوله لقد تاب اللّه على النّبيّ والمهاجرين والأنصار الّذين اتّبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريقٍ منهم ثمّ تاب عليهم إنّه بهم رؤف رحيمٌ وعلى الثّلاثة الّذين خلّفوا حتّى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنّوا أن لا ملجأ من اللّه إلا إليه ثمّ تاب عليهم ليتوبوا إنّ اللّه هو التّوّاب الرّحيم قال كعب بن مالك: فو الله ما أنعم اللّه عليّ من نعمةٍ بعد إذ هداني للإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله ألا أكون كذبته فأهلك كما هلك الّذين كذبوه، فإنّ اللّه قال للّذين كذبوه حين أنزل وحيّه شرّ ما قال لأحدٍ، فقال تبارك وتعالى اسمه سيحلفون باللّه لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنّهم رجسٌ ومأواهم جهنّم جزاءً بما كانوا يكسبون يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإنّ اللّه لا يرضى عن القوم الفاسقين.
قال كعبٌ: وكنّا تخلّفنا أيّها الثّلاثة عن أمر أولئك الّذين قبل منهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حين حلفوا له فبايعهم، واستغفر لهم، وأرجأ رسول الله أمرنا حتّى قضى اللّه تعالى فيه، فلذلك قال اللّه عزّ وجلّ وعلى الثّلاثة الّذين خلّفوا وليس الّذي ذكر اللّه ممّا خلّفنا لتخلّفنا عن الغزو، إنّما هو تخليفه إيّانا، وإرجاؤه أمرنا عمّن حلف له واعتذر إليه، فقبل منهم- صلى الله عليه وسلم-.
- حدّثنا أبي حدّثنا موسى بن إسماعيل حدّثنا مباركٌ قال: سمعت الحسن قال: لمّا غزا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم تبوك تخلّف كعب بن مالكٍ وهلال بن أميّة، وربيع بن مرارة أو مرارة بن الرّبيع قال: أمّا أحدهم فكان له حائطٌ حين زها قد فشت فيه الحمرة والصّفرة قال: قد غزوت مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فلو أقمت عامي هذا في هذا الحائط فأصبت منه فلمّا خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه دخل حائطه فقال: ما خلّفني عن رسول اللّه وما استبق المؤمنون من الجهاد في سبيل اللّه إلا ضنٌّ بك أيّها الحائط، اللّهمّ إنّي أشهدك أنّي قد تصدّقت به في سبيلك.
وأمّا الآخر: فكان قد تفرّق عنه من أهله ناسٌ، واجتمعوا له فقال: قد غزوت مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وغزوت، فلو أنّي أقمت العام في أهلي فلمّا خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه، قال: ما خلّفني عن رسول الله، وما استبق إليه المؤمنون في الجهاد في سبيل اللّه إلا ضنٌّ بكم أيّها الأهل، اللّهمّ إنّ لك عليّ ألا أرجع إلى أهلي ومالي حتّى أعلم ما تقضي فيّ، وأمّا الآخر فقال: اللّهمّ إنّ لك عليّ أن تقطع نفسي أو ألحق بالقوم. فأنزل اللّه تعالى: لقد تاب اللّه على النّبيّ والمهاجرين والأنصار إلى قوله: وعلى الثّلاثة الّذين خلّفوا قال الحسن يا سبحان اللّه! حتّى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت الآية، قال الحسن: يا سبحان اللّه! واللّه ما أكلوا مالا حرامًا، ولا أصابوا دمًا حرامًا، ولا أفسدوا في الأرض، غير أنّهم قد أبطئوا في تلك الغزاة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فبلغ منهم ما تسمعون.
- حدّثنا عليّ بن الحسين ثنا أبو الجماهر ثنا سعيدٌ عن قتادة وعلى الثّلاثة الّذين خلّفوا أي: عن التّوبة حتّى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم عن قتادة: إنه كعب بن مالكٍ وهلال بن أميّة، ومرارة بن ربيعة، نفرٌ من الأنصار، قال قتادة: واللّه ما سفكوا دمًا، ولا أكلوا مالًا، ولا أنكروا معرفةً، ولكنّهم تخلّفوا عن غزوة رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وسلّم- بتبوك، فتابوا أحسن التّوبة، وفزعوا أحسن الفزع، أمّا أحدهم فأوثق نفسه إلى سارية فقال: واللّه لا أطلقها حتّى يطلقني رسول اللّه، وأمّا الآخر: فعمد إلى حائطه الّذي تخلّف عليه وهو مونعٌ فجعله صدقةً، وأمّا الآخر: فركت المفاوز والوقع حتّى لحق نبيّ اللّه- صلّى اللّه عليه وسلّم- ورجلاه تسيلان دمًا.
- حدّثنا عبد اللّه بن سعيدٍ الأشجّ ثنا المحاربيّ عن جويبرٍ عن الضّحّاك وعلى الثّلاثة الّذين خلّفوا قال: يعني: خلّفوا عن التّوبة، لم يتب عليهم حتّى تاب اللّه على أبي لبابة وأصحابه
- وروي عن أبي مالكٍ أنّه قال: خلّفوا عن التّوبة.
والوجه الثّاني:
- حدّثنا عليّ بن الحسين ثنا أحمد بن الصّبّاح ثنا الخفّاف عن أبي عمرٍو عن عكرمة بن خالدٍ المخزوميّ أنّه كان يقرؤها وعلى الثّلاثة الّذين خلفوا نصب أي بعد محمّدٌ صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه.
قوله تعالى: حتّى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم الآية.
- حدّثنا محمّد بن عزيزٍ الأيليّ ثنا سلامة بن روحٍ ثنا عقيلٌ قال: سألت ابن شهابٍ عن أمر كعب بن مالكٍ حين تخلّف عن غزوة تبوك، فأخبرني محمّد بن مسلمٍ أنّ عبد الرّحمن بن عبد اللّه بن كعب أخبره أنّ عبد اللّه بن كعبٍ قال: وكان قائد كعبٍ قال: سمعت كعب بن مالكٍ قال: فبينا أنا جالسٌ على الحال الّتي ذكر اللّه منّا، قد ضاقت عليّ نفسي وضاقت عليّ الأرض بما رحبت، سمعت صارخًا أوفى على جبل بأعلى سلع بأعلى صوته: يا كعب بن مالك، أبشر فخررت ساجدًا.
قوله تعالى: وظنّوا أن لا ملجأ من اللّه إلا إليه.
- حدّثنا أبو سعيدٍ ثنا عقبة بن خالدٍ عن إسرائيل عن جابرٍ عن مجاهدٍ قال: ما كان من ظنٍّ في القرآن فهو يقينٌ.
قوله تعالى: ثمّ تاب عليهم ليتوبوا.
- حدّثنا أبي ثنا أبو صالحٍ ثنا معاوية بن صالحٍ عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عبّاسٍ قوله: ثمّ تاب عليهم فبدأ التّوبة من اللّه ليتوبوا إنّ اللّه هو التّوّاب الرّحيم يعني إن استقاموا- وروي عن الضّحّاك: مثل ذلك). [تفسير القرآن العظيم: 6/1899-1905]
قال أبو السعادات المبارك بن محمد بن محمد ابن الأثير الجزري (ت: 606هـ) : ( (خ م ت د س) ابن شهاب الزهري-رحمه الله -: قال: أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالكٍ: أنّ عبد الله بن كعبٍ، كان قائد كعبٍ من بنيه حين عمي - قال: وكان أعلم قومه وأوعاهم لأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال: سمعت كعب بن مالكٍ يحدّث حديثه حين تخلّف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، قال كعبٌ: لم أتخلّف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها قطّ إلا في غزوة تبوك، غير أنّي تخلّفت في غزوة بدرٍ، ولم يعاتب أحداً تخلّف عنها، إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون يريدون عير قريش، حتى جمع الله بينهم وبين عدوّهم على غير ميعادٍ، ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة، حين تواثقنا على الإسلام، وما أحبّ أنّ لي بها مشهد بدرٍ وإن كانت بدرٌ أذكر في الناس منها، وكان من خبري حين تخلّفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، أنّي لم أكن قطّ أقوى، ولا أيسر منّي حين تخلّفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الغزوة، والله ما جمعت قبلها راحلتين قطّ، حتى جمعتهما في تلك الغزوة، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلا ورّى بغيرها، حتى كانت تلك الغزوة فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرٍّ شديدٍ، واستقبل سفراً بعيداً ومفازاً، واستقبل عدوّاً كثيراً فجلّى للمسلمين أمرهم ليتأهّبوا أهبة غزوهم، وأخبرهم بوجههم الذي يريد، والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير لا يجمعهم كتاب حافظٍ - يريد بذلك الديوان - قال كعبٌ: فقلّ رجل يريد أن يتغيّب، إلا ظنّ أنّ ذلك سيخفى ما لم ينزل فيه وحيٌ من الله عز وجل، وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة حين طابت الثمار والظّلال، فأنا إليها أصعر، فتهجر رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، وطفقت أغدو لكي أتجهّز معهم، فأرجع ولم أقض شيئاً، وأقول في نفسي: أنا قادرٌ على ذلك إذا أردت، فلم يزل ذلك يتمادى بي، حتى استمرّ بالناس الجدّ، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غادياً، والمسلمون معه، ولم أقض من جهازي شيئاً، ثم غدوت فرجعت، ولم أقض شيئاً، فلم يزل ذلك يتمادى [بي] حتى أسرعوا، وتفارط الغزو، فهممت أن أرتحل فأدركهم، فيا ليتني فعلت، ثم لم يقدّر ذلك لي، فطفقت إذا خرجت في الناس - بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم يحزنني أني لا أرى لي أسوة، إلا رجلاً مغموصاً عليه في النّفاق، أو رجلاً ممن عذر الله من الضعفاء، ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوكاً فقال وهو جالس في القوم بتبوك: «ما فعل كعب بن مالك؟»، فقال رجل من بني سلمة: يا رسول الله، حبسه برداه، والنّظر في عطفيه، فقال له معاذ بن جبل: بئس ما قلت، والله يا رسول الله، ما علمنا عليه إلا خيراً، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبينا هو على ذلك رأى رجلاً مبيّضاً يزول به السّراب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كن أبا خيثمة »، فإذا هو أبو خيثمة الأنصاريّ، وهو الذي تصدّق بصاع التمر حين لمزه المنافقون، قال كعبٌ: فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجّه قافلاً من تبوك، حضرني بثّي، فطفقت أتذكّر الكذب، وأقول: بم أخرج من سخطه غداً؟ وأستعين على ذلك بكلّ ذي رأيٍ من أهلي، فلما قيل: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظلّ قادماً، زاح عنّي الباطل، حتى عرفت أني لن أنجو منه بشيءٍ أبداً، فأجمعت صدقه، وصبّح رسول الله صلى الله عليه وسلم قادماً، وكان إذا قدم من سفرٍ بدأ بالمسجد، فركع فيه ركعتين، ثم جلس للناس، فلمّا فعل ذلك جاءه المخلّفون، فطفقوا يعتذرون إليه، ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلاً، فقبل منهم علانيتهم، وبايعهم، واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله، حتى جئت، فلمّا سلّمت تبسّم تبسّم المغضب، ثم قال: «تعال»، فجئت أمشي، حتى جلست بين يديه، فقال لي: «ما خلّفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟» قلت: يا رسول الله، إنّي - والله- لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا، لرأيت أنّي سأخرج من سخطه بعذرٍ، لقد أعطيت جدلاً، ولكني -والله- لقد علمت لئن حدّثتك اليوم حديث كذبٍ ترضى به عني، ليوشكنّ الله أن يسخطك عليّ، ولئن حدّثتك حديث صدقٍ تجد عليّ فيه، إني لأرجو فيه عقبى الله عز وجل - وفي رواية: عفو الله -[والله] ما كان لي من عذرٍ، والله ما كنت قطّ أقوى ولا أيسر منّي حين تخلّفت عنك، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمّا هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك»، فقمت، وثار رجالٌ من بني سلمة، فاتّبعوني، فقالوا لي: والله ما علمناك أذنبت ذنباً قبل هذا، لقد عجزت في أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر إليه المخلّفون، فقد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك، قال: فو الله ما زالوا يؤنّبونني حتى أردت أن أرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأكذب نفسي، قال: ثم قلت لهم: هل لقي هذا معي من أحدٍ؟ قالوا: نعم، لقيه معك رجلان، قالا مثل ما قلت، وقيل لهما مثل ما قيل لك، قال: قلت: من هما؟ قالوا: مرارة بن الرّبيع العامريّ، وهلال ابن أميّة الواقفيّ، قال: فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدراً، ففيهما أسوةٌ، قال: فمضيت حين ذكروهما لي، قال: ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا أيّها الثلاثة من بين من تخلّف عنه، قال: فاجتنبنا الناس - أو قال: تغيّروا لنا - حتى تنكّرت لي في نفسي الأرض، فما هي بالأرض التي أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة، فأمّا صاحباي فاستكانا، وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشبّ القوم وأجلدهم، فكنت أخرج، فأشهد الصلاة، وأطوف في الأسواق، فلا يكلّمني أحدٌ، وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلّم عليه - وهو في مجلسه - بعد الصلاة، فأقول في نفسي: هل حرّك شفتيه بردّ السلام، أم لا؟ ثمّ أصلّي قريباً منه، وأسارقه النّظر، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إليّ، وإذا التفتّ نحوه أعرض عنّي، حتى إذا طال عليّ ذلك من جفوة المسلمين، مشيت حتّى تسوّرت جدار حائط أبي قتادة - وهو ابن عمّي، وأحبّ النّاس إليّ - فسلّمت عليه، فو الله ما ردّ عليّ السلام، فقلت له: يا أبا قتادة، أنشدك بالله، هل تعلمنّ أنّي أحبّ الله ورسوله؟ قال: فسكت، فعدت فناشدته، فسكت، فعدت فناشدته، فقال: الله ورسوله أعلم، ففاضت عيناي، وتوّليت حتى تسوّرت الجدار، فبينا أنا أمشي في سوق المدينة، إذا نبطيٌّ من نبط أهل الشام، ممّن قدم بطعامٍ يبيعه بالمدينة، يقول: من يدلّ على كعب بن مالكٍ؟ قال: فطفق النّاس يشيرون له إليّ، حتى جاءني، فدفع إليّ كتاباً من ملك غسان، وكنت كاتباً، فقرأته، فإذا فيه: أما بعد، فإنّه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوانٍ، ولا مضيعةٍ، فالحق بنا نواسك، قال: فقلت حين قرأتها: وهذه أيضاً من البلاء، فتيمّمت بها التّنّور، فسجرتها، حتى إذا مضت أربعون من الخمسين، واستلبث الوحي، فإذا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني، فقال: «إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك»، قال: فقلت: أطلّقها، أم ماذا أفعل؟ قال: «لا، بل اعتزلها فلا تقربنّها»، قال: وأرسل إلى صاحبيّ بمثل ذلك، قال: فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك، فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر، قال: فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله إنّ هلال بن أميّة شيخٌ ضائعٌ، ليس له خادمٌ، فهل تكره أن أخدمه؟ قال: «لا، ولكن لا يقربنّك»، فقالت: إنّه والله ما به حركةٌ إلى شيءٍ، ووالله ما زال يبكي، منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا، قال: فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك، فقد أذن لامرأة هلال بن أميّة أن تخدمه؟ قال: فقلت: لا أستأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما يدريني ما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استأذنته فيها، وأنا رجلٌ شابٌّ؟ قال: فلبثت بذلك عشر ليالٍ، فكمل لنا خمسون ليلة من حين نهي عن كلامنا، قال: ثم صليت صلاة الفجر صباح خمسين ليلة، على ظهر بيتٍ من بيوتنا، فبينما أنا جالسٌ على الحال التي ذكر الله عز وجل منّا: قد ضاقت عليّ نفسي، وضاقت عليّ الأرض بما رحبت، سمعت صوت صارخٍ أوفى على سلعٍ يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالكٍ، أبشر، قال: فخررت ساجداً، وعلمت أن قد جاء فرجٌ، قال: وآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلّى صلاة الفجر، فذهب النّاس يبشّروننا، فذهب قبل صاحبيّ مبشّرون، وركض رجلٌ إليّ فرساً، وسعى ساعٍ من أسلم قبلي، وأوفى على الجبل، وكان الصوت أسرع من الفرس، فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشّرني، نزعت له ثوبيّ، فكسوتهما إيّاه ببشارته، والله ما أملك غيرهما يومئذٍ، واستعرت ثوبين فلبستهما، وانطلقت أتأمّم رسول الله صلى الله عليه وسلم، يتلقّاني النّاس فوجاً فوجاً، يهنّؤوني بالتّوبة، ويقولون: لتهنئك توبة الله عليك، حتّى دخلت المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم حوله النّاس، فقام طلحة بن عبيد الله يهرول، حتى صافحني وهنّأني، والله ما قام رجلٌ من المهاجرين غيره، قال: فكان كعبٌ لا ينساها لطلحة، قال كعبٌ: فلما سلّمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال- وهو يبرق وجهه من السرور -: «أبشر بخير يومٍ مرّ عليك منذ ولدتك أمّك» ، قال: فقلت: أمن عندك يا رسول الله، أم من عند الله؟ فقال: «بل من عند الله»، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سرّ استنار وجهه، حتى كأنّ وجهه قطعة قمرٍ، قال: وكنّا نعرف ذلك، قال: فلمّا جلست بين يديه، قلت: يا رسول الله، إنّ من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمسك بعض مالك، فهو خيرٌ لك»، قال: فقلت: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر، قال: وقلت: يا رسول الله، إن الله إنّما أنجاني بالصّدق، وإن من توبتي أن لا أحدّث إلا صدقاً ما بقيت، قال: فوالله ما علمت أحداً من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن مما أبلاني الله، ووالله ما تعمّدت كذبة منذ قلت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا، وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقي، قال: فأنزل الله عز وجل: {لقد تاب الله على النبيّ والمهاجرين والأنصار الذين اتّبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنّه بهم رؤوفٌ رحيمٌ. وعلى الثلاثة الذين خلّفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنّوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إنّ الله هو التّواب الرحيم. يا أيّها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} [التوبة: 117 - 119]، قال كعبٌ: والله ما أنعم الله عليّ من نعمةٍ قطّ - بعد إذ هداني للإسلام - أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن لا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوا، إنّ الله قال للذين كذبوا حين أنزل الوحي شرّ ما قال لأحدٍ، فقال الله: {سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنّهم رجسٌ ومأواهم جهنّم جزاءً بما كانوا يكسبون. يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإنّ الله لا يرضى عن القوم الفاسقين} [التوبة: 95 - 96]، قال كعب: كنّا خلّفنا - أيّها الثلاثة - عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حلفوا له، فبايعهم واستغفر لهم، وأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا، حتى قضى الله تعالى فيه بذلك، قال الله عز وجل: {وعلى الثلاثة الذين خلّفوا} [التوبة: 118]، وليس الذي ذكر مما خلّفنا عن الغزو، وإنّما هو تخليفه إيّانا، وإرجاؤه أمرنا عمّن حلف له، واعتذر إليه فقبل منه.
وفي رواية: ونهى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن كلامي وكلام صاحبيّ، ولم ينه عن كلام أحدٍ من المتخلّفين غيرنا، فاجتنب الناس كلامنا، فلبثت كذلك، حتى طال عليّ الأمر، وما من شيءٍ أهمّ إليّ من أن أموت، فلا يصلّي عليّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أو يموت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأكون من النّاس بتلك المنزلة، فلا يكلّمني أحدٌ منهم، ولا يسلّم عليّ، ولا يصلّي عليّ، قال: فأنزل الله توبتنا على نبيّه صلى الله عليه وسلم، حين بقي الثلث الأخير من الليل، ورسول الله صلى الله عليه وسلم عند أمّ سلمة، وكانت أمّ سلمة محسنة في شأني معنيّة بأمري، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أمّ سلمة، تيب على كعبٍ»، قالت: أفلا أرسل إليه فأبشّره؟ قال: إذاً يحطمكم الناس، فيمنعونكم النوم سائر الليل، حتى إذا صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر، آذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا.
وفي رواية: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم خرج يوم الخميس في غزوة تبوك، وكان يحبّ أن يخرج يوم الخميس. وفي رواية طرفٌ من هذا الحديث، وفيها زيادة معنى: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يقدم من سفرٍ إلا نهاراً في الضّحى، فإذا قدم بدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين، ثم جلس فيه. هذه روايات البخاري ومسلم.
وأخرج الترمذي طرفاً من أوّله قليلاً: ثم قال... وذكر الحديث بطوله، ولم يذكر لفظه... ثم أعاد ذكر دخول كعبٍ على النبيّ صلى الله عليه وسلم في المسجد، بعد نزول القرآن في شأنه... إلى آخر الحديث.
وأخرجه أبو داود مجملاً، وهذا لفظه: أنّ عبد الله بن كعبٍ - وكان قائد كعبٍ من بنيه حين عمي - قال: سمعت كعب بن مالك - وذكر ابن السّرح قصّة تخلّفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك - قال: ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا أيّها الثلاثة، حتى إذا طال عليّ تسوّرت جدار حائط أبي قتادة - وهو ابن عمي- فسلّمت عليه، فو الله ما ردّ عليّ السلام - ثم ساق خبر تنزيل توبته، هذا لفظ أبي داود. وأخرج أيضاً منه فصلاً في كتاب الطلاق، وهذا لفظه: أنّ عبد الله بن كعب - وكان قائد كعب من بنيه حين عمي - قال: سمعت كعب بن مالك - وساق قصته في تبوك - قال: حتى إذا مضت أربعون من الخمسين إذا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني، فقال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك، قال: فقلت: أطلّقها، أم ماذا أفعل؟ قال: لا، بل اعتزلها فلا تقربنّها، فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك، وكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر.
وأخرج أيضاً منه فصلاً في كتاب الجهاد، في باب إعطاء البشير، قال: سمعت كعب بن مالك يقول: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا قدم مّن سفرٍ بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين، ثم جلس للناس، - قال أبو داود: وقصّ ابن السّرح الحديث - قال: ونهى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن كلامنا أيّها الثلاثة، حتى إذا طال علي، تسوّرت جدار حائط أبي قتادة - وهو ابن عمّي - فسّلمت عليه، فو الله ما ردّ عليّ السلام، ثم صلّيت الصبح صباح خمسين ليلة، على ظهر بيتٍ من بيوتنا، سمعت صارخاً: يا كعب بن مالكٍ، أبشر، فلما جاء الذي سمعت صوته يبشّرني نزعت له ثوبيّ، فكسوتهما إيّاه، فانطلقت، حتى إذا دخلت المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسٌ، فقام إليّ طلحة بن عبيد الله يهرول، حتى صافحني وهنّأني.
وأخرج أيضاً منه فصلاً آخر في كتاب النذور، قال: فقلت: يا رسول الله، إنّي أنخلع من مالي صدقة إلى الله عز وجل، وإلى رسوله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمسك عليك بعض مالك فهو خيرٌ لك، قال: فقلت: إني ممسكٌ سهمي الذي بخيبر. وفي أخرى له قال: قال كعب للنبي صلى الله عليه وسلم أو أبو لبابة، أو من شاء الله -: إنّ من توبتي: أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذّنب، وأن أنخلع من مالي كلّه صدقة، قال: ويجزئ عنك الثّلث.
وأخرج النسائي منه فصلاً، قال: عبد الله بن كعبٍ: سمعت كعب بن مالك يحدّث حديثه، حين تخلّف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، قال: وصبّح رسول الله صلى الله عليه وسلم قادماً - وكان إذا قدم من سفرٍ بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين، ثم جلس للناس - فلما فعل ذلك: جاءه المخلّفون، فطفقوا يعتذرون إليه، ويحلفون له، وكانوا بضعاً وثمانين رجلاً، فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم، وبايعهم، واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله تعالى، فجئت حتى جلست بين يديه، فقال: ما خلّفك؟ ألم تكن ابتعت ظهرك؟ قلت: يا رسول الله، والله لو جلست... وذكر الحديث إلى قوله: قم، حتى يقضي الله فيك، فقمت فمضيت.
وأخرج منه أيضاً: أمره باعتزال امرأته. وأخرج منه فصلاً في كتاب النذور، مثل ما أخرج أبو داود.
[شرح الغريب]
(عير) العير: الإبل والحمير تحمل الميرة والتجارة، ونحو ذلك.
(تواثقنا) التواثق: تفاعل من الميثاق، وهو العهد والحلف.
(راحلتين) الراحلة: الجمل والناقة القويان على الأسفار والأحمال، والهاء فيه للمبالغة. كداهية، وراوية، وقيل: إنما سميت راحلة، لأنها ترحّل، أي: تحمّل، فهي فاعلة بمعنى مفعولة، كقوله تعالى {في عيشةٍ راضيةٍ} [الحاقة: 21] أي: مرضية.
(ورّى) عن الشيء: إذا أخفاه وذكر غيره.
(مفازاً) المفاز والمفازة: البرية القفر، سميت بذلك تفاؤلاً بالفوز والنجاة، وقيل: بل هو من قولهم: فوّز: إذا مات.
(فجلا) جلا الشيء: إذا كشفه، أي: أظهر للناس مقصده.
(بوجههم) وجه كل شيء: مستقبله، ووجههم: جهتهم التي يستقبلونها ومقصدهم.
(أصعر) : أميل.
(فتهجّر) التهجير: معناه: المبادرة إلى الشيء في أول وقته، ويجوز أن يريد به وقت الهاجرة.
(استمر الجد) أي تتابع الاجتهاد في السير.
(يتمادى) التمادي: التطاول والتأخر.
(تفارط) الغزو: تقدم وتباعد: أي بعد ما بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المسافة.
(طفقت) مثل جعلت.
(أسوة) الأسوة - بكسر الهمزة وضمها-: القدوة.
(مغموصاً) المغموص: المعيب المشار إليه بالعيب.
(والنظر في عطفيه) يقال: فلان ينظر في عطفيه. إذا كان معجباً بنفسه.
(يزول به السراب) زال به السراب يزول: إذا ظهر شخصه خيالاً فيه.
(لمزه) اللمز: العيب، وقد ذكر.
(قافلاً) القافل: الراجع من سفره إلى وطنه.
(بثي) البث: أشد الحزن، كأنه من شدته يبثه صاحبه: أي يظهره.
(أظل) الإظلال: الدنو، وأظلك فلان: أي دنا منك، كأنه ألقى عليك ظله.
(زاح) عني الأمر: زال وذهب.
(فأجمعت) أجمعت على الشيء: إذا عزمت على فعله.
(المخلّفون) جمع مخلّف، وهم المتأخرون عن الغزو، خلفهم أصحابهم بعدهم فتخلّفوهم.
(بضعة) البضع: ما بين الثلاث إلى التسع من العدد. (ووكل سرائرهم) وكلت الشيء إليك: أي رددته إليك، وجعلته إليك. والمراد به: أنه صرف بواطنهم إلى علم الله تعالى.
(ظهرك) الظهر هنا: عبارة عما يركب.
(ليوشكن) أوشك يوشك: إذا أسرع.
(تجد) تجد من الموجدة: الغضب.
(يؤنبونني) التأنيب: الملامة والتوبيخ.
(فاستكانا) الاستكانة: الخضوع.
(تسوّرت) الجدار: إذا ارتفعت فوقه وعلوته.
(مضيعة) المضيعة: مفعلة من الضياع: الاطراح والهوان، كذا أصله، فلما كانت عين الكلمة ياء، وهي مكسورة، نقلت حركتها إلى الفاء وسكنت الياء، فصارت بوزن معيشة، والتقدير فيهما سواء، لأنهما من ضاع وعاش.
(نواسك) المواساة: المشاركة والمساهمة في المعاش والرزق ونحو ذلك.
(فتيممت) التيمم: القصد.
(استلبث) : استفعل، من لبث: إذا قام وأبطأ.
(رحب) الرحب: السعة.
(أوفى) على الشيء: إذا أشرف عليه.
(سلع) : جبل في أرض المدينة.
(ركض) الركض: ضرب الراكب الفرس برجليه ليسرع في العدو.
(آذن) : أعلم.
(أتأمم) بمعنى: أتيمم: أي أقصد.
(فوجاً) الفوج: الجماعة من الناس.
(يبرق) برق وجهه: إذا لمع وظهر عليه أمارات السرور والفرح.
(أنخلع) أنخلع من مالي: أي أخرج من جميعه، كما يخلع الإنسان قميصه.
(ساعة العسرة) سمي جيش تبوك جيش العسرة، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ندب الناس إلى الغزو في شدة الحر، فعسر عليهم. وكان وقت إدراك الثمار.
(رجس) الرجس: النجس.
(إرجاء) الإرجاء: التأخير.
(يحطمكم) الناس: أي يطؤونكم ويزدحمون عليكم، وأصل الحطم: الكسر). [جامع الأصول: 2/171-190]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (الآية 118.
أخرج ابن جرير، وابن المنذر وأبو الشيخ، وابن منده، وابن مردويه، وابن عساكر، عن جابر بن عبد الله في قوله {وعلى الثلاثة الذين خلفوا} قال: كعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن ربيعة وكلهم من الأنصار.
وأخرج ابن مردويه عن مجمع بن جارية قال: الثلاثة الذين خلفوا فتاب الله عليهم كعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن ربعي.
وأخرج ابن مردويه عن ابن شهاب قال: إن الثلاثة الذين خلفوا كعب بن مالك من بني سلمة وهلال بن أمية من بني واقف ومرارة بن ربيع من بني عمرو بن عوف.
وأخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك قال: لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي أوان خرج عامة المنافقين الذين كانوا تخلفوا عنه يتلقونه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه لا تكلمن رجلا تخلف عنا ولا تجالسوه حتى آذن لكم فلم يكلموهم فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أتاه الذين تخلفوا يسلمون عليه فأعرض عنهم وأعرض المؤمنون عنهم حتى أن الرجل ليعرض عنه أخوه وأبوه وعمه فجعلوا يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعتذرون بالجهد والأسقام فرحمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعهم واستغفر لهم وكان ممن تخلف عن غير شك ولا نفاق ثلاثة نفر الذين ذكر الله تعالى في سورة التوبة، كعب بن مالك السلمي وهلال بن أمية الواقفي ومرارة بن ربيعة العامري.
وأخرج ابن منده، وابن عساكر عن ابن عباس رضي الله عنهما {وعلى الثلاثة الذين خلفوا} قال: كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية.
وأخرج عبد الرزاق، وابن أبي شيبة وأحمد والبخاري ومسلم، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن حبان، وابن مردويه والبيهقي من طريق الزهري قال: أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك أن عبد الله بن كعب بن مالك وكان قائد كعب من بنيه حين عمي قال: سمعت كعب بن مالك يحدث حديثه حين تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك قال كعب: لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها قط إلا في غزوة تبوك غير أني تخلفت في غزوة بدر ولم يعاتب أحدا تخلف عنها إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام وما أحب أن لي بها مشهد بدر وإن كانت بدر أذكر في الناس منها وأشهر، وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزاة والله ما جمعت قبلها راحلتين قط حتى جمعتهما في تلك الغزاة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلما يريد غزاة إلا ورى بغيرها حتى كانت تلك الغزوة فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد واستقبل سفرا بعيدا ومفازا واستقبل عدوا كثيرا فجلا للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة عدوهم فأخبرهم وجهه الذي يريد والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير لا يجمعهم كتاب حافظ يريد الديوان، قال كعب رضي الله عنه: فقل رجل يريد أن يتغيب إلى ظن أن ذلك سيخفى ما لم ينزل فيه وحي من الله عز وجل وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزاة حين طابت الثمار والظل وآن لها أن تصغر فتجهز إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون معه وطفقت أغدو لكي أتجهز معهم فأرجع ولا أقضي شيئا فأقول لنفسي: أنا قادر على ذلك إن أردت، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى استمر بالناس الجد فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غاديا والمسلمون معه ولم أقض من جهازي شيئا وفلت الجهاز بعد يوم أو يومين ثم ألحقه فغدوت بعد ما فصلوا لأتجهز فرجعت ولم أقض من جهازي شيئا ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئا فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى انتهوا وتفارط الغزو فهممت أن أرتحل فأدركهم - وليت أني أفعل - ثم لم يقدر لي ذلك فطفقت إذ خرجت في الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم يحزنني أني لا أرى إلا رجلا مغموصا عليه من النفاق أو رجلا ممن عذره الله، ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك فقال وهو جالس في القوم بتبوك ما فعل كعب بن مالك فقال رجل من بني سلمة: حبسه يا رسول الله برداه والنظر في عطفيه، فقال له معاذ بن جبل: بئسما قلت والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرا، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال كعب بن مالك: فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه قافلا من تبوك حضرني همي فطفقت أتذكر الكذب وأقول: بماذا أخرج من سخطه غدا وأستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي فلما قيل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادما راح عني الباطل وعرفت أني لم أنج منه بشيء أبدا فأجمعت صدقه وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قادما وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع ركعتين ثم جلس للناس فلما فعل ذلك جاءه المتخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له وكانوا بضعة وثمانين رجلا فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم علانيتهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله حتى جئت فلما سلمت عليه تبسم تبسم المغضب ثم قال لي تعال، فجئت أمشي حتى جلست بين يديه فقال: ما خلفك ألم تكن قد اشتريت ظهرك فقلت: يا رسول الله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن أخرج من سخطه بعذر لقد أعطيت جدلا ولكنه - والله - لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى عني به ليوشكن الله يسخطك علي ولئن حدثتك الصدق وتجد علي فيه أني لأرجو قرب عتبي من الله والله ما كان لي عذر والله ما كنت قط أفرغ ولا أيسر مني حين تخلفت عنك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما هذا فقد صدق فقم حتى يقضي الله فيك.
فقمت وبادرني رجال من بني سلمة واتبعوني فقالوا لي: والله ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا ولقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر به المتخلفون فلقد كان كافيك من ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فوالله ما زالوا يؤنبوني حتى أردت أن أرجع فأكذب نفسي ثم قلت لهم: هل لقي هذا معي أحدا قالوا: نعم لقيه معك رجلان قالا ما قلت وقيل لهما مثل ما قيل لك، فقلت: من هما قالوا: مرارة بن الربيع وهلال بن أمية الواقفي فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرا لي فيهما أسوة حسنة فمضيت حين ذكروهما لي قال: ونهى رسول الله الناس عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا حتى تنكرت لي في نفسي الأرض التي كنت أعرف فلبثنا على ذلك خمسين ليلة فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما وأما أنا فكنت أشد القوم وأجلدهم فكنت أشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف بالأسواق فلا يكلمني أحد وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مجلسه بعد الصلاة فأسلم وأقول في نفسي هل حرك شفتيه برد السلام أم لا ثم أصلي قريبا منه وأسارقه النظر فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي فإذا التفت نحوه أعرض عني حتى إذا طال علي ذلك من هجر المسلمين مشيت حتى تسورت حائط أبي قتادة وهو ابن عمي وأحب الناس إلي فسلمت عليه فوالله ما رد السلام علي فقلت له: يا أبا قتادة أنشدك الله تعالى هل تعلم أني أحب الله ورسوله قال: فسكت، قال: فعدت فنشدته فسكت فعدت فنشدته قال: الله ورسوله أعلم ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار، وبينا أنا أمشي بسوق المدينة إذا نبطي من أنباط الشام ممن قدم بطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدل على كعب بن مالك فطفق الناس يشيرون له إلي حتى جاء فدفع إلي كتابا من ملك غسان - وكنت كاتبا - فإذا فيه: أما بعد فقد بلغنا أن صاحبك قد جفاك ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة فالحق بنا نواسك، فقلت حين قرأتها: وهذا أيضا من البلاء، فيممت بها التنور فسجرته فيها حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين إذا برسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل إمرأتك، فقلت: أطلقها أم ماذا أفعل قال: بل اعتزلها ولا تقربها وأرسل إلى صاحبي مثل ذلك، فقلت لإمرأتي: الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن هلالا شيخ ضائع وليس له خادم فهل تكره أن أخدمه قال: لا ولكن لا يقربنك، فقالت: إنه والله ما به حركة إلى شيء والله ما زال يبكي من لدن إن كان من أمرك ما كان إلى يومه هذا، فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك فقد أذن لامرأة هلال أن تخدمه، فقلت: والله لا استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أدري ما يقول إذا استأذنته وأنا رجل شاب، قال: فلبثنا عشر ليال فكمل لنا خمسون ليلة من حين نهى عن كلامنا، قال: ثم صليت الفجر صباح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله عنا قد ضاقت علي نفسي وضاقت علي الأرض بما رحبت سمعت صارخا أوفى جبل سلع يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالك أبشر، فخررت ساجدا وعرفت أن قد جاء الفرج فآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى الفجر فذهب الناس يبشروننا وذهب قبل صاحبي مبشرون وركض إلي رجل فرسا وسعى ساع من أسلم وأوفى على الجبل فكان الصوت أسرع من الفرس فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبي فكسوتهما إياه ببشارته - والله ما أملك غيرهما يومئذ - فاستعرت ثوبين فلبستهما فانطلقت أؤم رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلقاني الناس فوجا بعد فوج يهنئونني بالتوبة يقولون: ليهنك توبة الله عليك حتى دخلت المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحوله الناس فقام إلي طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهناني والله ما قام إلي رجل من المهاجرين غيره، قال: فكان كعب رضي الله عنه لا ينساها لطلحة، قال كعب رضي الله عنه: فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يبرق وجهه من السرور أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك، قلت: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله قال: لا بل من عند الله، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سر استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر، فلما جلست بين يديه قلت يا رسول الله إن من توبتي أن انخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم قال: أمسك بعض مالك فهو خير لك، قلت: إني أمسك سهمي الذي بخيبر وقلت: يا رسول الله إنما نجاني الله بالصدق وإن من توبتي أن لا أحدث إلا صدقا ما بقيت، قال: فوالله ما أعلم أحدا من المسلمين أبلاه الله من الصدق في الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن مما أبلاني الله تعالى والله ما تعمدت منذ قلت ذلك إلى يومي هذا كذبا وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقي وأنزل الله (لقد تاب الله على النّبيّ والمهاجرين والأنصار) (التوبة الآية 117) إلى قوله {وكونوا مع الصادقين} فوالله ما أنعم الله علي من نعمة قط بعد أن هداني الله للإسلام أعظم في نفسي من صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ أن لا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوه فإن الله قال للذين كذبوه حين أنزل الوحي شر ما قال لأحد فقال (سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس) (التوبة الآية 95) إلى قوله: {الفاسقين} قال: وكنا خلفنا أيها الثلاثة عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خلفوا فبايعهم واستغفر لهم وأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا حتى قضى الله فيه فبذلك قال {وعلى الثلاثة الذين خلفوا} وليس تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرنا الذي ذكر مما خلفنا بتخلفنا عن الغزو وإنما هو حلف له واعتذر إليه فقبل منه.
وأخرج أبو الشيخ، وابن مردويه عن كعب بن مالك رضي الله عنه قال: لما نزلت توبتي أتيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقبلت يده وركبتيه وكسوت المبشر ثوبين.
وأخرج ابن جرير عن مجاهد رضي الله عنه {وعلى الثلاثة الذين خلفوا} قال: الذين أرجأوا في وسط براءة قوله {وآخرون مرجون لأمر الله}) (التوبة الآية 106) هلال بن أمية ومرارة بن ربيعة وكعب بن مالك.
وأخرج ابن جرير عن قتادة رضي الله عنه {وعلى الثلاثة الذين خلفوا} مثقلة يقول: عن غزوة تبوك.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الحسن رضي الله عنه قال: لما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تبوك تخلف كعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع قال: أما أحدهم فكان له حائط حين زها قد فشت فيه الحمرة والصفرة فقال: غزوت وغزوت وغزوت مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم فلو أقمت العام في هذا الحائط فأصبت منه، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه دخل حائطه فقال: ما خلفني رسول الله صلى الله عليه وسلم وما استبق المؤمنون في الجهاد في سبيل الله إلا ضن بك أيها الحائط اللهم إني أشهدك أني تصدقت به في سبيلك.
وأمّا الآخر فكان قد تفرق عنه من أهله ناس واجتمعوا له فقال: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وغزوت فلو أني أقمت العام في أهلي، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه قال: ما خلفني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وما استبق إليه المجاهدون في سبيل الله إلا ضن بكم أيها الأهل اللهم إن لك علي أن لا أرجع إلى أهلي ومالي حتى أعلم ما تقضي في.
وأمّا الآخر فقال: اللهم إن لك علي أن ألحق بالقوم حتى أدركهم أو أنقطع، فجعل يتتبع الدقع والحزونة حتى لحق بالقوم فأنزل الله {لقد تاب الله على النبي} إلى قوله {وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت}
قال الحسن رضي الله عنه: يا سبحان الله والله ما أكلوا مالا حراما لا أصابوا دما حراما ولا أفسدوا في الأرض غير أنهم أبطأوا عن شيء من الخير الجهاد في سبيل الله وقد - والله - جاهدوا وجاهدوا وجاهدوا فبلغ منهم ما سمعتم فهكذا يبلغ الذنب من المؤمن.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الضحاك في قوله {وعلى الثلاثة الذين خلفوا} يعني خلفوا عن التوبة لم يتب عليهم حتى تاب الله على أبو لبابة وأصحابه.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر وأبو الشيخ، وابن عساكر عن عكرمة في قوله {وعلى الثلاثة الذين خلفوا} عن التوبة.
وأخرج ابن ابي حاتم عن عكرمة بن خالد المخزومي أنه كان يقرؤها {وعلى الثلاثة الذين خلفوا} نصب أي بعد محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: دعا الله إلى توبته من قال (أنا ربكم الأعلى) (النازعات الآية 24)، وقال (ما علمت لكم من إله غيري) (القصص الآية 38) ومن آيس العباد من التوبة بعد هؤلاء فقد جحد كتاب الله ولكن لا يقدر العبد أن يتوب حتى يتوب الله وهو قوله {ثم تاب عليهم ليتوبوا} فبدء التوبة من الله عز وجل). [الدر المنثور: 7/568-581]


رد مع اقتباس
  #3  
قديم 6 جمادى الأولى 1434هـ/17-03-2013م, 10:43 PM
أم حذيفة أم حذيفة غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: May 2011
المشاركات: 1,054
افتراضي

التفسير اللغوي

تفسير قوله تعالى: (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) )
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ: (ت: 207هـ): (قوله: {لقد تاب الله على النّبيّ والمهاجرين والأنصار...}
وقوله: {وعلى الثّلاثة الّذين خلّفوا...}
وهم كعب بن مالك، وبلال بن أميّة، ومرارة). [معاني القرآن: 1/451]
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ: (ت: 207هـ): (وقوله: {من بعد ما كاد يزيغ...}
و{كاد تزيغ}. [من] قال: {كاد يزيغ} جعل في {كاد يزيغ} اسما مثل الذي في قوله: {عسى أن يكونوا خيرا منهم} وجعل {يزيغ} به ارتفعت القلوب مذكّرا؛ كما قال الله تبارك وتعالى: {لن ينال الله لحومها} و{لا يحل لك النساء من بعد} ومن قال {تزيغ} جعل فعل القلوب مؤنّثا؛ كما قال: {نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا} وهو وجه الكلام، ولم يقل {يطمئن} وكل فعل كان لجماع مذكر أو مؤنث فإن شئت أنّثت فعله إذا قدمته، وإن شئت ذكّرته). [معاني القرآن: 1/454]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ( {تزيغ قلوب فريقٍ منهم} أي تعدل وتجور وتحيد، فريق: بعض. {رؤوفٌ} فعول من الرأفة وهي أرق الرحمة، قال كعب بن مالك الأنصاري:
نطيع نبيّنا ونطيع ربّاً..=. هو الرحمن كان بنا رءوفا
وقال:
ترى للمسلمين عليك حقاً.=.. كفعل الوالد الرؤف الرحيم
{رحبت} أي اتسعت، والرحيب الواسع). [مجاز القرآن: 1/270-271]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ) : ( {لقد تاب الله على النّبيّ والمهاجرين والأنصار الّذين اتّبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريقٍ مّنهم ثمّ تاب عليهم إنّه بهم رءوفٌ رّحيمٌ}
وقال: {من بعد ما كاد يزيغ قلوب} وقال بعضهم {تزيغ} جعل في {كاد} و {كادت} اسما مضمرا ورفع القلوب على {تزيغ} وإن شئت رفعتها على {كاد} وجعلت {تزيغ} حالا وإن شئت جعلته مشبها بـ"كان" فأضمرت في {كاد} اسما وجعلت {تزيغ قلوب} في موضع الخبر). [معاني القرآن: 2/30]
قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : (الحسن وأبو عمرو {من بعد ما كاد تزيغ} بالتاء.
عاصم {يزيغ} بالياء، وسنخبر عن ذلك في الإعراب إن شاء الله.
ابن مسعود وأبي "من بعد ما كادت" وذلك مخالف للكتاب). [معاني القرآن لقطرب: 637]
قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : (وقوله {والمهاجرين} قال عدي بن زيد:
فإن لم تندموا فثكلت عمرا = وهاجرت المروق والسماعا
يريد: هجرت.
وقال الأسود:
ولقد تلوت الظاعنين بجسرة = أجد مهاجرة السقاب جماد
كأنه قال: هاجرة.
{والأنصار} الواحد: نصر؛ أي ناصر؛ وقوم نصر أيضًا للأنصار؛ مثل: قوم صوم، ورجل نوم، ورجل فطر، وقوم فطر، ورجل دوم، وقوم دوم.
وقال عدي بن زيد:
حولنا الأعداء ما ينصرنا = غير عون الله والله نصر
جعلها فعل، فيجوز: أن تكون النصار جمع نصر، أو جمع نصر.
والغالب عليها في الكثرة ناصر، إلا أن "أفعال" قل ما تجيء جمعًا لفاعل؛ وقد قالوا: صاحب وأصحاب، وبار وأبرار، وحائر وأحوار، وحائط وأحواط.
وقوله {الأشهاد} من ذلك، يجوز أن يكون جمع شهيد، مثل: يتيم وايتام، ويجوز أن يكون جمع شاهد كالذي ذكرنا.
ومثل ذلك في مثل لهم: "أجناؤها أبناؤها"، جان وأجناء، وبان وأبناء؛ والمعنى يدل على ذلك؛ إنما يريد: الذين بنوها هم الذين جنوا عليها؛ حتى هدمت.
ومثل ذلك قول الحارث بن حلزة:
وفديناهم بتسعة أملاك كرام أسلابهم أغلاء
جمع غال وأغلاء). [معاني القرآن لقطرب: 647]
قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : (وقوله {من بعد ما كاد تزيغ}؛ فمن قرأها {يزيغ} ذكر الفعل لما تقدم؛ كقوله {فمن جاءه موعظة من ربه} {وقال نسوة}؛ وقد فسرنا ذلك في سورة البقرة.
وعلى قراءة ابن مسعود وأبي "كادت تزيغ" وهو القياس، لولا مخالفة الكتاب.
[معاني القرآن لقطرب: 650]
ومن قرأ {كاد تزيغ} فذكر "كاد" وأنث "تزيغ"؛ وهي قراءة الحسن وأبي عمرو؛ فيجوز على شيئين:
أحدهما: أن ترتفع "القلوب" بــ"كاد" كأنه قال: كاد قلوب فريق تزيغ؛ فترتفع القلوب بكاد؛ ويكون فعلاً مقدمًا، لم تدخله تاء التأنيث، مثل {فمن جاءه موعظة من ربه}.
ووجه آخر يجوز: أن تضمر في "كاد" الأمر؛ كأنه قال: كاد الأمر تزيغ قلوب، على مثل قولهم في كان وليس؛ لأن "كاد" لا يقتصر فيها على الفاعل وحده؛ لو قلت: كاد زيد، إلا وأنت تضمر الخبر، فأشبهت قولهم في كان وليس: كان عبد الله ظرف، وليس زيد ذاهب، فيضمرون في كان، وليس الأمر أو الحديث؛ كأنه قال: كان الأمر، أو كان الحديث زيد منطلق.
وهذا مثل قوله {إنه لا يفلح الظالمون} فالهاء ليست للظالمين؛ لأنها ليست بجمع؛ وإنما المعنى: إن الحديث، أو إن الأمر لا يفلح الظالمون؛ وكذلك: إنه أمة الله عاقلة؛ فالهاء ليست لها؛ لأنها مذكرة.
وقال هشام بن عقبة:
هي الشفاء لدائي لو ظفرت به = وليس منها شفاء الداء مبذول
فرفع الخبر.
وقال الآخر:
إذا مت كان الناس صنفان شامت = وآخر مثن بالذي كنت تصنع
فرفع على ما ذكرنا من هذه اللغة.
[معاني القرآن لقطرب: 651]
ومثله في كلامهم: إن كان لا تقوى إلا بي فلا تقوين؛ ولو عملت كان فيمن يخاطب لقال: إن كنت لا تقوى، ولكنها عملت في الأمر؛ كأنه قال: إن كان الأمر.
وكذلك قولهم: ليس خلق الله مثله؛ ولم يوجد كان مثلهم، على إضمار الأمر وشبهه). [معاني القرآن لقطرب: 652]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ) : ({يزيغ قلوب}: يعدل). [غريب القرآن وتفسيره: 167]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ) : ( {يزيغ قلوب فريقٍ منهم} أي: بما اتسعت.
يريد: ضاقت: تعدل وتميل عليهم مع سعتها). [تفسير غريب القرآن: 193]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ) : (وقوله: {لقد تاب اللّه على النّبيّ والمهاجرين والأنصار الّذين اتّبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثمّ تاب عليهم إنّه بهم رءوف رحيم}
معناها في وقت العسرة، لأن السّاعة تقع على كل زمان، وكان في ذلك الوقت حر شديد، وكان القوم في ضيقة شديدة، وكان الجمل بين جماعة يعتقبون عليه، وكانوا من الشدة والفقر ربما اقتسم الثمرة اثنان وربما مصّ الثمرة الجماعة ليشربوا عليها الماء، وربما نحروا الإبل فشربوا من ماء كرّوشها من الحر.
فأعلم اللّه عزّ وجلّ أنّه قد تاب عليهم من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم، أي من بعد ما كادوا يقفلون من غزوتهم للشدة، ليس أنّه يزيغ عن الإيمان، إنما هو أن كادوا يرجعون فتاب الله عليهم بأن أقفلهم من غزوتهم). [معاني القرآن: 2/474]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ) : ( ثم قال جل وعز: {من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم}
تزيغ تميل وليس ميلا عن الإسلام وإنما هموا بالقفول فتاب الله عليهم وأمرهم به). [معاني القرآن: 3/264]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ( {تَزِيغُ}: تميل). [العمدة في غريب القرآن: 150]

تفسير قوله تعالى: (وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) )
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ: (ت: 207هـ): (قوله: {لقد تاب الله على النّبيّ والمهاجرين والأنصار...}
وقوله: {وعلى الثّلاثة الّذين خلّفوا...}
وهم كعب بن مالك، وبلال بن أميّة، ومرارة). [معاني القرآن: 1/451] (م)
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ) : ( {وعلى الثّلاثة الّذين خلّفوا حتّى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنّوا أن لاّ ملجأ من اللّه إلاّ إليه ثمّ تاب عليهم ليتوبوا إنّ اللّه هو التّوّاب الرّحيم}
وقال: {وظنّوا أن لاّ ملجأ} وهي هكذا إذا وقفت عليها ولا تقول {ملجأ} لأنه ليس ههنا نون. ألا ترى أنك لو وقفت على "لا خوف" لم تلحق ألفا. وأمّا "لو يجدون ملجأا" فالوقف عليه بالألف لأن النصب فيه منون). [معاني القرآن: 2/30]
قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : (أبو عمرو وأهل المدينة {خلفوا} بالتثقيل.
وكان أبو عمرو يقول "خلفوا" بالتخفيف، لغة؛ يريد {خلفوا} مثقل.
يحيى بن يعمر "خالفوا" ). [معاني القرآن لقطرب: 637]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ) : ({بما رحبت}: اتسعت). [غريب القرآن وتفسيره: 168]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ) : ( {ضاقت عليهم الأرض بما رحبت} أي بما اتسعت. يريد: ضاقت عليهم مع سعتها.
{وظنّوا أن لا ملجأ من اللّه إلّا إليه} أي استيقنوا أن لا ينجيهم من اللّه ومن عذابه غيره شيء). [تفسير غريب القرآن: 193]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ) : ( وقول عز وجل: {وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت}
كان أبو مالك يقول خلفوا عن التوبة
وحكي عن محمد بن يزيد معنى خلفوا تركوا لأن معنى خلفت فلانا فارقته قاعدا عما نهضت فيه
وقرأ عكرمة بن خالد خلفوا أي أقاموا بعقب رسول الله صلى الله عليه وسلم
وروي عن جعفر بن محمد أنه قرأ خالفوا
ومعنى رحبت وسعت
ومعنى وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه وأيقنوا
وقوله جل وعز: {ثم تاب عليم ليتوبوا}
فيه جوابان
أحدهما أن المعنى ثم تاب عليهم ليثبتوا على التوبة كما
قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا آمنوا}
والآخر أنه فسح لهم ولم يعجل عقابهم كما فعل بغيرهم قال جل وعز: {فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم} ). [معاني القرآن: 3/264-266]
قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت:345 هـ) : ( {وظنوا}: تيقنوا – هاهنا). [ياقوتة الصراط: 249]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ( {بِمَا رَحُبَتْ} أي اتسعت). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 100]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ( {رَحُبَتْ}: اتسعت). [العمدة في غريب القرآن: 150]


رد مع اقتباس
  #4  
قديم 6 جمادى الأولى 1434هـ/17-03-2013م, 10:50 PM
أم حذيفة أم حذيفة غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: May 2011
المشاركات: 1,054
افتراضي

التفسير اللغوي المجموع
[ما استخلص من كتب علماء اللغة مما له صلة بهذا الدرس]

تفسير قوله تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) }
قَالَ سِيبَوَيْهِ عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ بْنِ قُنْبُرٍ (ت: 180هـ): (ومثل ذلك في الإضمار قول بعض الشعراء العجير سمعناه ممّن يوثق بعربّيته:
إذا متّ كان الناس صنفان شامتٌ = وآخر مثن بالّذي كنت أصنع
أضمر فيها وقال بعضهم كان أنت حيرٌ منه كأنّه قال إنّه أنت خيرٌ منه ومثله: (كاد تزيغ قلوب فريقٍ منهم) وجاز هذا التفسير لأنّ معناه كادت قلوب فريق منهم تزيغ كما قلت ما كان الطّيب إلاّ المسك على إعمال ما كان الأمر الطيب إلاّ المسك فجاز هذا إذ كان معناه ما الطيب إلاّ المسك). [الكتاب: 1/71]
قالَ المبرِّدُ محمَّدُ بنُ يزيدَ الثُّمَالِيُّ (ت: 285هـ): (ومن هذه الحروف كاد، وهي للمقاربة، وهي فعل. تقول: كاد العروس يكون أميراً، وكاد النعام يطير. فأما قول الله عز وجل: {إذا أخرج يده لم يكد يراها} فمعناه - والله أعلم - لم يرها، ولم يكد، أي: لم يدن من رؤيتها. وكذلك: {من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم}. فلا تذكر خبرها إلا فعلاً، لأنها لمقاربة الفعل في ذاته). [المقتضب: 3/74-75] (م)
قالَ المبرِّدُ محمَّدُ بنُ يزيدَ الثُّمَالِيُّ (ت: 285هـ): (وقوله:
"وقد كربت أعناقها أن تقطعا"
يقول: سقيت هذا السجل وقد دنت أعناقها من أن تقطع عطشًا، وكرب في معنى المقاربة، يقال: كاد يفعل ذلك، وجعل يفعل ذلك، وكرب يفعل ذلك، أي دنا من ذلك. ويقال: جاء زيد والخيل كاربته، أي قد دنت منه وقربت. فأما أخذ يفعل، وجعل يفعل، فمعناهما أنه قد صار يفعل، ولا تقع بعد واحدة منهما: "أن" إلا أن يضطر شاعرٌ، قال الله عز وجل: {إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} أي لم يقرب من رؤيتها، وإيضاحه: لم يرها ولم يكد، وكذلك: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ}، وكذلك: {كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ} بغير "أن". ومن أمثال العرب: كاد النعام يطير، وكاد العروس يكون أميرًا، وكاد المنتعل يكون راكبًا وقد اضطر الشاعر فأدخل "أن" بعد "كاد"، كما أدخلها هذا بعد "كرب" فقال:
"وقد كربت أعناقها أن تقطعها"
وقال رؤبة:
"قد كاد من طول البلى أن يمصحا"
فكاد بمنزلة كرب في الإعمال والمعنى، قال الشاعر:

أغثني غياثًا يا سليمان إنني = سبقت إليك الموت، والموت كاربي
خشية جورٍ من أميرٍ مسلطٍ = ورهطي، وما عاداك مثل الأقارب).
[الكامل: 1/252-253] (م)
قالَ المبرِّدُ محمَّدُ بنُ يزيدَ الثُّمَالِيُّ (ت: 285هـ): (وقوله:
وصبري عمن كنت ما إن أزايله
إن: زائدة، وهي تزاد مغيرة للإعراب، وتزاد توكيدًا، وهذا موضع ذلك، فالموضع الذي تغير فيه الإعراب هو وقوعها بعد"ما" الحجازية، تقول: ما زيدٌ أخاك، وما هذا بشرًا، فإذا أدخلت إن هذه بطل النصب بدخولها، فقلت: ما إن زيد منطلق، قال الشاعر:
وما إن طبنا جبنٌ ولكن = منايانا ودولة آخرينا
فزعم سيبويه أنها منعت "ما" العمل كما منعت "ما" إن الثقيلة أن تنصب تقول: إن زيدًا منطلق، فإذا أدخلت"ما" صارت من حروف الابتداء، ووقع بعدها المبتدأ وخبره والأفعال، نحو: إنما زيد أخوك، {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} ولولا "ما" لم يقع الفعل بعد"إن" لأن"إن" بمنزلة الفعل، ولا يلي فعل فعلاً لأنه لا يعمل فيه، فأما كان يقوم زيدٌ، {كاد يزيغ قلوب فريق منهم} ففي كان وكاد فاعلان مكنيان.
و"ما" تزاد على ضربين، فأحدهما أن يكون دخولها في الكلام كإلغائها، نحو {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} أي فبرحمة، وكذلك: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا} وكذلك {مَثَلاً مَا بَعُوضَةً} وتدخل لتغيير اللفظ، فتوجب في الشيء ما لولا هي لم يقع، نحو ربما ينطلق زيد، و{رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا}، ولولا" ما" لم تقع رب على الأفعال، لأنها من عوامل الأسماء، وكذلك جئت بعد ما قام زيد، كما قال المرار:
أعلقة أم الوليد بعد ما = أفنان رأسك كالثغام المخلس
فلولا" ما" لم يقع بعدها إلا اسم واحد، وكان مخفوضًا بإضافة" بعد" إليه، تقول: جئتك بعد زيد). [الكامل: 1/440-442] (م)
قالَ أبو العبَّاسِ أَحمدُ بنُ يَحْيَى الشَّيبانِيُّ - ثَعْلَبُ - (ت:291هـ): (وقال أبو العباس أحمد بن يحيى في قوله عز وجل: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ}. قال: غفر له ما تقدم من الجاهلية قبل أن يوحى إليه بأربعين سنة، إنما كانت مخايل ثم أوحى إليه). [مجالس ثعلب: 77]

تفسير قوله تعالى: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) }
قالَ المبرِّدُ محمَّدُ بنُ يزيدَ الثُّمَالِيُّ (ت: 285هـ): (ولا يجوز أن يكون هذا النفي إلا عاماً. من ذلك قول الله عز وجل {لا عاصم اليوم من أمر الله} وقال {لا ريب فيه} وقال: {لا ملجأ من الله إلا إليه}.
فإن قدرت دخولها على شيء قد عمل فيه غيرها لم تعمل شيئاً، وكان الكلام كما كان عليه؛ لأنك أدخلت النفي على ما كان موجباً، وذلك قولك: أزيد في الدار أم عمرو? فتقول: لا زيد في الدار ولا عمرو.
وكذلك تقول: أرجل في الدار أم امرأة? فالجواب: لا رجل في الدار ولا امرأة. لا تبالي معرفةً كانت أم نكرةً. وعلى هذا قراءة بعضهم: {لا خوف عليهم} ومن قرأ: {لا خوفَ عليهم} فعلى ما ذكرت لك.
وأما قوله: {ولا هم يحزنون} فلا يكون هم إلا رفعاً؛ لأن لا لا تعمل في المعارف). [المقتضب: 4/359] (م)

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 6 جمادى الأولى 1434هـ/17-03-2013م, 10:53 PM
أم حذيفة أم حذيفة غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: May 2011
المشاركات: 1,054
افتراضي

تفاسير القرن الثالث الهجري

....


رد مع اقتباس
  #6  
قديم 6 جمادى الأولى 1434هـ/17-03-2013م, 10:54 PM
أم حذيفة أم حذيفة غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: May 2011
المشاركات: 1,054
افتراضي

تفاسير القرن الرابع الهجري
...


رد مع اقتباس
  #7  
قديم 23 شعبان 1435هـ/21-06-2014م, 06:35 PM
أم إسماعيل أم إسماعيل غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Dec 2010
المشاركات: 4,914
افتراضي

تفاسير القرن الخامس الهجري

....

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 23 شعبان 1435هـ/21-06-2014م, 06:35 PM
أم إسماعيل أم إسماعيل غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Dec 2010
المشاركات: 4,914
افتراضي

تفاسير القرن السادس الهجري

تفسير قوله تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: لقد تاب اللّه على النّبيّ والمهاجرين والأنصار الّذين اتّبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريقٍ منهم ثمّ تاب عليهم إنّه بهم رؤفٌ رحيمٌ (117) وعلى الثّلاثة الّذين خلّفوا حتّى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنّوا أن لا ملجأ من اللّه إلاّ إليه ثمّ تاب عليهم ليتوبوا إنّ اللّه هو التّوّاب الرّحيم (118) يا أيّها الّذين آمنوا اتّقوا اللّه وكونوا مع الصّادقين (119)
«التوبة» من الله رجوعه بعبده من حالة إلى أرفع منها، فقد تكون في الأكثر رجوعا من حالة طاعة إلى أكمل منها وهذه توبته في هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم لأنه رجع به من حاله قبل تحصيل الغزوة وأجرها وتحمل مشقاتها إلى حاله بعد ذلك كله، وأما توبته على «المهاجرين والأنصار» فحالها معرضة لأن تكون من تقصير إلى طاعة وجد في الغزو ونصرة الدين، وأما توبته على الفريق الذي كاد أن يزيغ فرجوع من حالة محطوطة إلى حال غفران ورضا، واتّبعوه معناه: دخلوا في أمره وانبعاثه ولم يرغبوا بأنفسهم عن نفسه، وقوله في ساعة العسرة، يريد في وقت العسرة فأنزل الساعة منزلة المدة والوقت والزمن، وإن كان عرف الساعة في اللغة أنه لما قلّ من الزمن كالقطعة من النهار.
ألا ترى قوله صلى الله عليه وسلم في رواح يوم الجمعة «في الساعة الأولى وفي الثانية» الحديث، فهي هنا بتجوز، ويمكن أن يريد بقوله في ساعة العسرة الساعة التي وقع فيها عزمهم وانقيادهم لتحمل المشقة إذ السفرة كلها تبع لتلك الساعة وبها وفيها يقع الأجر على الله، وترتبط النية، فمن اعتزم على الغزو وهو معسر فقد اتبع في ساعة العسرة ولو اتفق أن يطرأ لهم غنى في سائر سفرتهم لما اختل كونهم متبعين «في ساعة عسرة» والعسرة الشدة وضيق الحال والعدم، ومنه قوله تعالى: وإن كان ذو عسرةٍ [البقرة: 280] وهذا هو جيش العسرة الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه: من جهز جيش العسرة فله الجنة فجهزه عثمان بن عفان رضي الله عنه بألف جمل وألف دينار.
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلب الدنانير بيده وقال: وما على عثمان ما عمل بعد هذا، وجاء أيضا رجل من الأنصار بسبعمائة وسق من تمر، وقال مجاهد وقتادة: إن العسرة بلغت بهم في تلك الغزوة وهي غزوة تبوك إلى أن قسموا التمرة بين رجلين، ثم كان النفر يأخذون التمرة الواحدة فيمضغها أحدهم ويشرب عليها الماء ثم يفعل كلهم بها ذلك.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: وأصابهم في بعضها عطش شديد حتى جعلوا ينحرون الإبل ويشربون ما في كروشها من الماء ويعصرون الفرث حتى استسقى لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فرفع يديه يدعو فما رجعهما حتى انسكبت سحابة فشربوا وادخروا ثم ارتحلوا فإذا السحابة لم تخرج عن العسكر، وحينئذ قال رجل من المنافقين: وهل هذه إلا سحابة مرت، وكانت الغزوة في شدة الحر، وكان الناس كثيرا، فقل الظهر فجاءتهم العسرة من جهات، ووصل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أوائل بلد العدو فصالحه أهل أذرج وأيلة وغيرهما على الجزية ونحوها، وانصرف وأما «الزيغ» الذي كادت قلوب فريق منهم أن تواقعه، فقيل همت فرقة بالانصراف لما لقوا من المشقة والعسرة، قاله الحسن، وقيل زيغها إنما كان بظنون لها ساءت في معنى عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على تلك الغزوة لما رأته من شدة العسرة وقلة الوفر وبعد المشقة وقوة العدو المقصود، وقرأ جمهور الناس وأبو بكر عن عاصم «تزيغ» بالتاء من فوق على لفظ القلوب.
وروي عن أبي عمرو أنه كان يدغم الدال في التاء، وقرأ حمزة وحفص عن عاصم والأعمش والجحدري «يزيغ» بالياء على معنى جمع القلوب، وقرأ ابن مسعود «من بعد ما زاغت قلوب فريق»، وقرأ أبي بن كعب «من بعد ما كادت تزيغ»،
وأما كان فيحتمل أن يرتفع بها ثلاثة أشياء أولها وأقواها القصة والشأن هذا مذهب سيبويه، وترتفع «القلوب» على هذا ب «تزيغ»، والثاني أن يرتفع بها ما يقتضيه ذكر المهاجرين والأنصار أولا، ويقدر ذلك القوم فكأنه قال من بعد ما كاد القوم تزيغ قلوب فريق منهم، والثالث أن يرتفع بها «القلوب» ويكون في قوله «تزيغ» ضمير «القلوب»، وجاز ذلك تشبيها بكان في قوله كان حقًّا علينا نصر المؤمنين [الروم: 47] وأيضا فلأن هذا التقديم للخبر يراد به التأخير، وشبهت كاد ب «كان» للزوم الخبر لها، قال أبو علي ولا يجوز ذلك في عسى.
ثم أخبر عز وجل أنه تاب أيضا على هذا الفريق وراجع به، وأنس بإعلامه للأمة بأنه رؤفٌ رحيمٌ). [المحرر الوجيز: 4/ 426-429]

تفسير قوله تعالى: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (والثلاثة هم كعب بن مالك وهلال بن أمية الواقفي ومرارة بن الربيع العامري ويقال ابن ربيعة ويقال ابن ربعي، وقد خرج حديثهم بكماله البخاري ومسلم وهو في السير، فلذلك اختصرنا سوقه، وهم الذين تقدم فيهم وآخرون مرجون [التوبة: 106]، ومعنى خلّفوا أخروا وترك أمرهم ولم تقبل منهم معذرة ولا ردت عليهم، فكأنهم خلفوا عن المعتذرين، وقيل معنى خلّفوا أي عن غزوة تبوك، قاله قتادة وهذا ضعيف وقد رده كعب بن مالك بنفسه وقال: معنى خلّفوا تركوا عن قبول العذر وليس بتخلفنا عن الغزو، ويقوي ذلك من اللفظة جعله إذا ضاقت غاية للتخليف ولم يكن ذلك عن تخليفهم عن الغزو، وإنما ضاقت عليهم الأرض عن تخليفهم عن قبول العذر، وقرأ الجمهور «خلّفوا» بضم الخاء وشد اللام المكسورة، وقرأ عكرمة بن هارون المخزومي وزر بن حبيش وعمرو بن عبيد وأبو عمرو أيضا «خلفوا» بفتح الخاء واللام غير مشددة، وقرأ أبو مالك «خلفوا» بضم الخاء وتخفيف اللام المكسورة، وقرأ أبو جعفر محمد بن علي وعلي بن الحسين وجعفر بن محمد وأبو عبد الرحمن «خالفوا» والمعنى قريب من التي قبلها، وقال أبو جعفر ولو خلفوا لم يكن لهم ذنب، وقرأ الأعمش «وعلى الثلاثة المخلفين»، وقوله: بما رحبت معناه برحبها كأنه قال: على ما هي في نفسها رحبة، ف «ما» مصدرية، وضاقت عليهم أنفسهم استعارة لأن الغم والهم ملأها، وظنّوا في هذه الآية بمعنى أيقنوا وحصل علم لهم وقوله: ثمّ تاب عليهم ليتوبوا لما كان هذا القول في تعديد نعمه بدا في ترتيبه بالجهة التي هي عن الله عز وجل ليكون ذلك منبها على تلقي النعمة من عنده لا رب غيره، ولو كان القول في تعديد ذنب لكان الابتداء بالجهة التي هي عن المذنب كما قال الله تعالى: فلمّا زاغوا أزاغ اللّه قلوبهم [الصف: 5] ليكون هذا أشد تقريرا للذنب عليهم، وهذا من فصاحة القرآن وبديع نظمه ومعجز اتساقه، وبيان هذه الآية ومواقع ألفاظها إنما يكمل مع مطالعة حديث «الثلاثة» الذين خلفوا في الكتب التي ذكرنا، وإنما عظم ذنبهم واستحقوا عليه ذلك لأن الشرع يطلبهم من الجد فيه بحسب منازلهم منه وتقدمهم فيه إذ هم أسوة وحجة للمنافقين والطاعنين، إذ كان كعب من أهل العقبة وصاحباه من أهل بدر.
وفي هذا يقتضي أن الرجل العالم والمقتدى به أقل عذرا في السقوط من سواه، وكتب الأوزاعي رحمه الله إلى المنصور أبي جعفر في آخر رسالة: واعلم أن قرابتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم لن تزيد حق الله عليك إلا عظما ولا طاعته إلا وجوبا ولا الناس فيما خالف ذلك منك إلا إنكارا والسلام، ولقد أحسن القاضي التنوخي في قوله: [الكامل] والعيب يعلق بالكبير كبير وفي بعض طرق حديث «الثلاثة» أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ليلة نزول توبتهم في بيت أم سلمة، وكانت لهم صالحة فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا أمّ سلمة: تيب على كعب بن مالك وصاحبيه»، فقالت يا رسول الله ألا أبعث إليهم؟ فقال «إذا يحطمكم الناس سائر الليلة فيمنعوكم النوم»). [المحرر الوجيز: 4/ 429-431]


رد مع اقتباس
  #9  
قديم 23 شعبان 1435هـ/21-06-2014م, 06:35 PM
أم إسماعيل أم إسماعيل غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Dec 2010
المشاركات: 4,914
افتراضي

تفاسير القرن السابع الهجري

....

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 23 شعبان 1435هـ/21-06-2014م, 06:36 PM
أم إسماعيل أم إسماعيل غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Dec 2010
المشاركات: 4,914
افتراضي

تفاسير القرن الثامن الهجري

تفسير قوله تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({لقد تاب اللّه على النّبيّ والمهاجرين والأنصار الّذين اتّبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريقٍ منهم ثمّ تاب عليهم إنّه بهم رءوفٌ رحيمٌ (117)}
قال مجاهدٌ وغير واحدٍ: نزلت هذه الآية في غزوة تبوك، وذلك أنّهم خرجوا إليها في شدّةٍ من الأمر في سنةٍ مجدبة وحرٍّ شديدٍ، وعسرٍ من الزّاد والماء.
قال قتادة: خرجوا إلى الشّام عام تبوك في لهبان الحرّ، على ما يعلم اللّه من الجهد، أصابهم فيها جهدٌ شديدٌ، حتّى لقد ذكر لنا أنّ الرّجلين كانا يشقّان التّمرة بينهما، وكان النّفر يتداولون التّمرة بينهم، يمصّها هذا، ثمّ يشرب عليها، ثمّ يمصّها هذا، ثمّ يشرب عليها، [ثمّ يمصّها هذا، ثمّ يشرب عليها] فتاب اللّه عليهم وأقفلهم من غزوتهم.
وقال ابن جريرٍ: حدّثني يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهبٍ، أخبرني عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبي هلالٍ، عن عتبة بن أبي عتبة، عن نافع بن جبير بن مطعمٍ، عن عبد اللّه بن عبّاسٍ؛ أنّه قيل لعمر بن الخطّاب في شأن العسرة، فقال عمر بن الخطّاب: خرجنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلى تبوك في قيظٍ شديدٍ، فنزلنا منزلًا فأصابنا فيه عطش، حتّى ظننّا أنّ رقابنا ستنقطع [حتّى إن كان الرّجل ليذهب يلتمس الماء، فلا يرجع حتّى يظنّ أنّ رقبته ستنقطع] حتّى إنّ الرّجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه، ويجعل ما بقي على كبده، فقال أبو بكرٍ الصّدّيق: يا رسول اللّه، إنّ اللّه عزّ وجلّ، قد عوّدك في الدّعاء خيرًا، فادع لنا. قال: "تحبّ ذلك". قال: نعم! فرفع يديه فلم يرجعهما حتّى مالت السّماء فأظلّت ثمّ سكبت، فملئوا ما معهم، ثمّ ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر.
وقال ابن جريرٍ في قوله: {لقد تاب اللّه على النّبيّ والمهاجرين والأنصار الّذين اتّبعوه في ساعة العسرة} أي: من النّفقة والظّهر والزّاد والماء، {من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريقٍ منهم} أي: عن الحقّ ويشكّ في دين رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ويرتاب، بالّذي نالهم من المشقّة والشّدّة في سفره وغزوه، {ثمّ تاب عليهم} يقول: ثمّ رزقهم الإنابة إلى ربّهم، والرّجوع إلى الثّبات على دينه، {إنّه بهم رءوفٌ رحيمٌ}). [تفسير القرآن العظيم: 4/ 228-229]

تفسير قوله تعالى: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({وعلى الثّلاثة الّذين خلّفوا حتّى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنّوا أن لا ملجأ من اللّه إلا إليه ثمّ تاب عليهم ليتوبوا إنّ اللّه هو التّوّاب الرّحيم (118) يا أيّها الّذين آمنوا اتّقوا اللّه وكونوا مع الصّادقين (119)}
قال الإمام أحمد: حدّثنا يعقوب بن إبراهيم، حدّثنا ابن أخي الزّهريّ محمّد بن عبد اللّه، عن عمّه محمّد بن مسلمٍ الزّهريّ، أخبرني عبد الرّحمن بن عبد اللّه بن كعب بن مالكٍ، أنّ عبد اللّه بن كعب بن مالكٍ -وكان قائد كعبٍ من بنيه حين عمى -قال: سمعت كعب بن مالكٍ يحدّث حديثه حين تخلّف عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في غزوة تبوك، فقال كعب بن مالكٍ: لم أتخلّف عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في غزاةٍ غيرها قطّ إلّا في غزوة تبوك، غير أنّي كنت تخلّفت في غزاة بدرٍ، ولم يعاتب أحدٌ تخلّف عنها، وإنّما خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يريد عير قريشٍ، حتّى جمع اللّه بينهم وبين عدوّهم على غير ميعادٍ، ولقد شهدت مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ليلة العقبة حين توافقنا على الإسلام، وما أحبّ أنّ لي بها مشهد بدرٍ، وإن كانت بدرٌ أذكر في النّاس منها وأشهر، وكان من خبري حين تخلّفت عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في غزوة تبوك أنّي لم أكن قطّ أقوى ولا أيسر منّي حين تخلّفت عنه في تلك الغزاة، واللّه ما جمعت قبلها راحلتين قطّ حتّى جمعتهما في تلك الغزاة، وكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قلّما يريد غزوةً يغزوها إلّا ورّى بغيرها، حتّى كانت تلك الغزوة فغزاها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في حرٍّ شديدٍ، واستقبل سفرًا بعيدًا ومفازًا، واستقبل عدوًّا كثيرًا فجلّى للمسلمين أمرهم ليتأهّبوا أهبة عدوهم، فأخبرهم وجهه الّذي يريد، والمسلمون مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كثيرٌ، لا يجمعهم كتابٌ حافظٌ -يريد الدّيوان -فقال كعبٌ: فقلّ رجلٌ يريد أن يتغيّب إلّا ظنّ أنّ ذلك سيخفى له ما لم ينزل فيه وحيٌ من اللّه، عزّ وجلّ، وغزا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم تلك الغزاة حين طابت الثّمار والظّلّ، وأنا إليها أصعر. فتجهّز إليها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم والمؤمنون معه، وطفقت أغدو لكي أتجهّز معهم، فأرجع ولم أقض من جهازي شيئًا، فأقول لنفسي: أنا قادرٌ على ذلك إذا أردت، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتّى شمّر بالنّاس الجدّ، فأصبح رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم غاديًا والمسلمون معه، ولم أقض من جهازي شيئًا، وقلت: الجهاز بعد يومٍ أو يومين ثمّ ألحقه فغدوت بعدما فصلوا لأتجهّز، فرجعت ولم أقض شيئًا من جهازي. ثمّ غدوت فرجعت ولم أقض شيئًا، فلم يزل [ذلك] يتمادى بي حتّى أسرعوا وتفارط الغزو، فهممت أن أرتحل فأدركهم -وليت أنّي فعلت -ثمّ لم يقدّر ذلك لي، فطفقت إذا خرجت في النّاس بعد [خروج] رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم [فطفت فيهم] يحزنني ألّا أرى إلّا رجلًا مغموصا عليه في النّفاق، أو رجلًا ممّن عذره اللّه، عزّ وجلّ، ولم يذكرني رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حتّى بلغ تبوك، فقال وهو جالسٌ في القوم بتبوك: "ما فعل كعب بن مالكٍ؟ " قال رجلٌ من بني سلمة: حبسه يا رسول اللّه برداه، والنّظر في عطفيه. فقال له معاذ بن جبلٍ: بئسما قلت! واللّه يا رسول اللّه ما علمنا عليه إلّا خيرًا! فسكت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، قال كعب بن مالكٍ: فلمّا بلغني أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قد توجّه قافلًا من تبوك حضرني بثّي فطفقت أتذكّر الكذب، وأقول: بماذا أخرج من سخطه غدًا؟ أستعين على ذلك كلّ ذي رأيٍ من أهلي. فلمّا قيل: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قد أظلّ قادمًا، زاح عنّي الباطل وعرفت أنّي لم أنج منه بشيءٍ أبدًا. فأجمعت صدقه، وصبّح رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، وكان إذا قدم من سفرٍ بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين، ثمّ جلس للنّاس. فلمّا فعل ذلك جاءه المتخلّفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له -وكانوا بضعةً وثمانين رجلًا -فقبل منهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم علانيتهم ويستغفر لهم، ويكل سرائرهم إلى اللّه تعالى، حتّى جئت، فلمّا سلّمت عليه تبسّم تبسّم المغضب، ثمّ قال لي: "تعال"، فجئت أمشي حتّى جلست بين يديه، فقال لي: "ما خلّفك، ألم تك قد اشتريت ظهرك"؟ قال: فقلت: يا رسول اللّه، إنّي لو جلست عند غيرك من أهل الدّنيا لرأيت أن أخرج من سخطه بعذرٍ، لقد أعطيت جدلا ولكنّه واللّه لقد علمت لئن حدّثتك اليوم حديث كذب ترضى به عنّي، ليوشكنّ اللّه يسخطك عليّ، ولئن حدّثتك بصدقٍ تجد عليّ فيه، إنّي لأرجو أقرب عقبى ذلك [عفوًا] من اللّه، عزّ وجلّ واللّه ما كان لي عذرٌ، واللّه ما كنت قطّ أفرغ ولا أيسر منّي حين تخلّفت عنك قال: فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "أمّا هذا فقد صدق، فقم حتّى يقضي اللّه فيك". فقمت وبادرني رجالٌ من بني سلمة واتّبعوني، فقالوا لي: واللّه ما علمناك كنت أذنبت ذنبًا قبل هذا، ولقد عجزت ألّا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر به المتخلّفون فقد كان كافيك [من ذنبك] استغفار رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لك. قال: فواللّه ما زالوا يؤنّبوني حتّى أردت أن أرجع فأكذّب نفسي، قال: ثمّ قلت لهم: هل لقي هذا معي أحدٌ؟ قالوا: نعم، [لقيه معك] رجلان، قالا ما قلت، وقيل لهما مثل ما قيل لك. قلت: فمن هما؟ قالوا: مرارة بن الرّبيع العامريّ، وهلال بن أميّة الواقفيّ. فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرًا لي فيهما أسوةٌ. قال: فمضيت حين ذكروهما لي -قال: ونهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم المسلمين عن كلامنا -أيّها الثّلاثة -من بين من تخلّف عنه، فاجتنبنا النّاس وتغيّروا لنا، حتّى تنكرت لي في نفسي الأرض، فما هي بالأرض الّتي كنت أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلةً. فأمّا صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأمّا أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم، فكنت أشهد الصّلاة مع المسلمين، وأطوف بالأسواق فلا يكلّمني أحدٌ، وآتي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وهو في مجلسه بعد الصّلاة فأسلّم، وأقول في نفسي: حرّك شفتيه بردّ السّلام عليّ أم لا؟ ثمّ أصلّي قريبًا منه، وأسارقه النّظر، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إليّ، فإذا التفتّ نحوه أعرض، حتّى إذا طال عليّ ذلك من هجر المسلمين مشيت حتّى تسوّرت حائط أبي قتادة -وهو ابن عمّي، وأحبّ النّاس إليّ -فسلّمت عليه، فواللّه ما ردّ عليّ السّلام، فقلت له: يا أبا قتادة، أنشدك اللّه: هل تعلم أنّي أحبّ اللّه ورسوله؟ قال: فسكت. قال: فعدت فنشدته [فسكت، فعدت فنشدته] فقال: اللّه ورسوله أعلم. قال: ففاضت عيناي وتولّيت حتّى تسوّرت الجدار. فبينا أنا أمشي بسوق المدينة إذا نبطيٌّ من أنباط الشّام، ممّن قدم بطعامٍ يبيعه بالمدينة يقول: من يدلّ على كعب بن مالكٍ؟ قال: فطفق النّاس يشيرون له إليّ، حتّى جاء فدفع إليّ كتابًا من ملك غسّان، وكنت كاتبًا فإذا فيه: أمّا بعد، فقد بلغنا أنّ صاحبك قد جفاك ولم يجعلك اللّه بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك. قال: فقلت حين قرأتها: وهذا أيضًا من البلاء. قال: فتيمّمت به التّنّور فسجرته حتّى إذا مضت أربعون ليلةً من الخمسين، إذا برسول رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يأتيني، فقال: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يأمرك أن تعتزل امرأتك. قال: فقلت: أطلّقها أم ماذا أفعل؟ قال: بل اعتزلها ولا تقربها. قال: وأرسل إلى صاحبيّ بمثل ذلك قال: فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك، فكوني عندهم حتّى يقضي اللّه في هذا الأمر. قال: فجاءت امرأة هلال بن أميّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقالت له: يا رسول اللّه، إنّ هلالًا شيخٌ ضائعٌ ليس له خادمٌ، فهل تكره أن أخدمه؟ قال: "لا ولكن لا يقربنّك" قالت: وإنّه واللّه ما به حركةٌ إلى شيءٍ، واللّه ما يزال يبكي من لدن أن كان من أمرك ما كان إلى يومه هذا. قال: فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في امرأتك، فقد أذن لامرأة هلال بن أميّة أن تخدمه. قال: فقلت: واللّه لا أستأذن فيها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، وما أدري ما يقول رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إذا استأذنته وأنا رجلٌ شابٌّ؟ قال: فلبثنا [بعد ذلك] عشر ليالٍ، فكمل لنا خمسون ليلةً من حين نهى عن كلامنا قال: ثمّ صلّيت صلاة الفجر صباح خمسين ليلةً على ظهر بيتٍ من بيوتنا، فبينا أنا جالسٌ على الحال الّتي ذكر اللّه تعالى منّا: قد ضاقت عليّ نفسي، وضاقت عليّ الأرض بما رحبت سمعت صارخًا أوفى على جبل سلع يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالكٍ، أبشر. قال: فخررت ساجدًا، وعرفت أن قد جاء فرجٌ، فآذن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بتوبة اللّه علينا حين صلّى الفجر، فذهب النّاس يبشّروننا، وذهب قبل صاحبيّ مبشّرون، وركض إليّ رجل فرسًا، وسعى ساعٍ من أسلم وأوفى على الجبل، فكان الصّوت أسرع من الفرس. فلمّا جاءني الّذي سمعت صوته يبشّرني، فنزعت ثوبيّ، فكسوتهما إيّاه ببشارته، واللّه ما أملك غيرهما يومئذٍ، واستعرت ثوبين فلبستهما، وانطلقت أؤمّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، يلقاني النّاس فوجًا فوجًا يهنّئوني بالتّوبة، يقولون: ليهنك توبة اللّه عليك. حتّى دخلت المسجد، فإذا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم جالسٌ في المسجد حوله النّاس، فقام إليّ طلحة بن عبيد اللّه يهرول، حتّى صافحني وهنّأني، واللّه ما قام إليّ رجلٌ من المهاجرين غيره قال: فكان كعبٌ لا ينساها لطلحة. قال كعبٌ: فلمّا سلّمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يبرق وجهه من السّرور: "أبشر بخير يومٍ مرّ عليك منذ ولدتك أمّك". قال: قلت: أمن عندك يا رسول اللّه أم من عند اللّه؟ قال: "لا بل من عند اللّه". قال: وكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إذا سرّ استنار وجهه حتّى كأنّه قطعة قمرٍ، حتّى يعرف ذلك منه. فلمّا جلست بين يديه قلت: يا رسول اللّه، إنّ من توبتي أن أنخلع من مالي صدقةً إلى اللّه وإلى رسوله. قال: "أمسك عليك بعض مالك، فهو خيرٌ لك". قال: فقلت: فإنّي أمسك سهمي الّذي بخيبر. وقلت: يا رسول اللّه، إنّما نجّاني اللّه بالصّدق، وإنّ من توبتي ألّا أحدّث إلّا صدقًا ما بقيت. قال: فواللّه ما أعلم أحدًا من المسلمين أبلاه اللّه من الصّدق في الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أحسن ممّا أبلاني اللّه تعالى، واللّه ما تعمّدت كذبةً منذ قلت ذلك لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلى يومي هذا، وإنّي لأرجو أن يحفظني اللّه فيما بقي. قال: وأنزل اللّه تعالى: {لقد تاب اللّه على النّبيّ والمهاجرين والأنصار الّذين اتّبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريقٍ منهم ثمّ تاب عليهم إنّه بهم رءوفٌ رحيمٌ. وعلى الثّلاثة الّذين خلّفوا حتّى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنّوا أن لا ملجأ من اللّه إلا إليه ثمّ تاب عليهم ليتوبوا إنّ اللّه هو التّوّاب الرّحيم. يا أيّها الّذين آمنوا اتّقوا اللّه وكونوا مع الصّادقين} قال كعبٌ: فواللّه ما أنعم اللّه عليّ من نعمةٍ قطّ بعد أن هداني للإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يومئذٍ ألّا أكون كذبته فأهلك كما هلك الّذين كذبوه [حين كذبوه] ؛ فإنّ اللّه تعالى قال للّذين كذبوه حين أنزل الوحي شرّ ما قال لأحدٍ، قال اللّه تعالى: {سيحلفون باللّه لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنّهم رجسٌ ومأواهم جهنّم جزاءً بما كانوا يكسبون. يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإنّ اللّه لا يرضى عن القوم الفاسقين} [التّوبة: 95، 96]. قال: وكنّا خلّفنا -أيّها الثّلاثة -عن أمر أولئك الّذين قبل منهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حين حلفوا، فبايعهم واستغفر لهم، وأرجأ رسول اللّه أمرنا، حتّى قضى اللّه فيه، فبذلك قال اللّه تعالى: {وعلى الثّلاثة الّذين خلّفوا} وليس تخليفه إيّانا وإرجاؤه أمرنا الّذي ذكر ممّا خلّفنا بتخلّفنا عن الغزو، وإنّما هو عمّن حلف له واعتذر إليه، فقبل منه.
هذا حديثٌ صحيحٌ ثابتٌ متّفقٌ على صحّته، رواه صاحبا الصّحيح: البخاريّ ومسلمٌ من حديث الزّهريّ، بنحوه.
فقد تضمّن هذا الحديث تفسير هذه الآية الكريمة بأحسن الوجوه وأبسطها. وكذا روي عن غير واحدٍ من السّلف في تفسيرها، كما رواه الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر بن عبد اللّه في قوله تعالى: {وعلى الثّلاثة الّذين خلّفوا} قال: هم كعب بن مالكٍ، وهلال بن أميّة، ومرارة بن ربيعة وكلّهم من الأنصار.
وكذا قال مجاهدٌ، والضّحّاك، وقتادة، والسّدّيّ وغير واحدٍ -وكلّهم قال: مرارة بن ربيعة.
[وكذا في مسلمٍ: مرارة بن ربيعة في بعض نسخه، وفي بعضها: مرارة بن الرّبيع].
وفي روايةٍ عن سعيد بن جبير: ربيع بن مرارة.
وقال الحسن البصريّ: ربيع بن مرارة أو مرارة بن ربيعٍ.
وفي روايةٍ عن الضّحّاك: مرارة بن الرّبيع، كما وقع في الصّحيحين، وهو الصّواب.
وقوله: "فسمّوا رجلين شهدا بدرًا"، قيل: إنّه خطأٌ من الزّهريّ، فإنّه لا يعرف شهود واحدٍ من هؤلاء الثّلاثة بدرًا، واللّه أعلم). [تفسير القرآن العظيم: 4/ 229-233]


رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
إبحث في الموضوع:

البحث المتقدم
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 06:21 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
جميع الحقوق محفوظة