العودة   جمهرة العلوم > قسم التفسير > جمهرة التفاسير > تفسير سورة الأنفال

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 18 شعبان 1435هـ/16-06-2014م, 02:05 PM
أم إسماعيل أم إسماعيل غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Dec 2010
المشاركات: 4,914
افتراضي

تفاسير القرن الثالث الهجري

....

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 18 شعبان 1435هـ/16-06-2014م, 02:05 PM
أم إسماعيل أم إسماعيل غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Dec 2010
المشاركات: 4,914
افتراضي

تفاسير القرن الرابع الهجري

....

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 18 شعبان 1435هـ/16-06-2014م, 02:05 PM
أم إسماعيل أم إسماعيل غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Dec 2010
المشاركات: 4,914
افتراضي

تفاسير القرن الخامس الهجري

....

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 18 شعبان 1435هـ/16-06-2014م, 02:05 PM
أم إسماعيل أم إسماعيل غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Dec 2010
المشاركات: 4,914
افتراضي

تفاسير القرن السادس الهجري

تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: وإذ يمكر بك الّذين كفروا الآية، يشبه أن يكون قوله وإذ معطوفا على قوله إذ أنتم قليلٌ [الأنفال: 26]، وهذا تذكير بحال مكة وضيقها مع الكفرة وجميل صنع الله تعالى في جمعها، ويحتمل أن يكون ابتداء كلام، وهذا كله على أن الآية مدنية كسائر السورة وهذا هو الصواب، وحكى الطبري عن عكرمة ومجاهد أن هذه الآية مكية، وحكي عن ابن زيد أنها نزلت عقب كفاية الله رسوله المستهزئين بما أحله بكل واحد منهم، الحديث المشهور، ويحتمل عندي قول عكرمة ومجاهد هذه مكية أن أشارا إلى القصة لا إلى الآية، والمكر المخاتلة والتداهي، تقول: فلان يمكر بفلان إذا كان يستدرجه ويسوقه إلى هوة وهو يظهر جميلا وتسترا بما يريد، ويقال أصل المكر الفتل، قاله ابن فورك فكأن الماكر بالإنسان يفاتله حتى يوقعه، ومن المكر الذي هو الفتل قولهم للجارية المعتدلة اللحم: ممكورة، فمكر قريش بالنبي صلى الله عليه وسلم كان تدبيرهم ما يسوءه وسعيهم في فساد حاله وإطفاء نوره، وتدبير قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الخصال الثلاث لم يزل قديما من لدن ظهوره لكن إعلانهم لا يسمى مكرا وما استسروا به هو المكر، وقد ذكر الطبري بسند أن أبا طالب قال للنبي صلى الله عليه وسلم يا محمد ماذا يدبر فيك قومك، قال: يريدون أن أقتل أو أسجن أو أخرج، قال أبو طالب من أعلمك هذا؟
قال: ربي، قال: إن ربك لرب صدق فاستوص به خيرا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل هو يا عم يستوصي بي خيرا.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا المكر الذي ذكره الله في هذه الآية هو بإجماع من المفسرين إشارة إلى
اجتماع قريش في دار الندوة بمحضر إبليس في صورة شيخ نجدي على ما نص ابن إسحاق في سيره، الحديث بطوله، وهو الذي كان خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة بسببه، ولا خلاف أن ذلك كان بعد موت أبي طالب، ففي القصة أن أبا جهل قال: الرأي أن نأخذ من كل بطن في قريش فتى قويا جلدا فيجتمعون ثم يأخذ كل واحد منهم سيفا ويأتون محمدا في مضجعه فيضربونه ضربة رجل واحد، فلا يقدر بنو هاشم على قتال قريش بأسرها، فيأخذون العقل ونستريح منه، فقال النجدي: صدق الفتى، هذا الرأي لا أرى غيره. فافترقوا على ذلك فأخبر الله بذلك نبيه صلى الله عليه وسلم، وأذن له في الخروج إلى المدينة فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من ليلته، وقال لعلي بن أبي طالب التفّ في بردي الحضرمي واضطجع في مضجعي فإنه لا يضرك شيء، ففعل علي وجاء فتيان قريش فجعلوا يرصدون الشخص وينتظرون قيامه فيثورون به، فلما قام رأوا عليا فقالوا له أين صاحبك؟ قال: لا أدري. وفي السير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عليهم وهم في طريقه فطمس الله عيونهم عنه، وجعل على رأس كل واحد منهم ترابا ومضى لوجهه فجاءهم رجل فقال ما تنتظرون، قالوا محمدا، قال إني رأيته الآن جائيا من ناحيتكم وهو لا محالة وضع التراب على رؤوسكم، فمد كل واحد يده إلى رأسه، وجاؤوا إلى مضجع النبي صلى الله عليه وسلم فوجدوا عليا فركبوا وراءه حينئذ كل صعب وذلول وهو بالغار،
ومعنى ليثبتوك ليسجنوك فتثبت، قاله السدي وعطاء وابن أبي كثير، وقال ابن عباس ومجاهد: معناه ليوثقوك، وقال الطبري وقال آخرون المعنى ليسحروك.
وقرأ يحيى بن وثاب فيما ذكر أبو عمرو الداني «ليثّبتوك» وهذه أيضا تعدية بالتضعيف، وحكى النقاش عن يحيى بن وثاب أنه قرأ «ليبيتوك» من البيات، وهذا أخذ مع القتل فيضعف من هذه الجهة، وقال أبو حاتم معنى ليثبتوك أي بالجراحة، كما يقال أثبتته الجراحة، وحكاه النقاش عن أهل اللغة ولم يسم أحدا، وقوله تعالى: ويمكر اللّه معناه يفعل أفعالا منها تعذيب لهم وعقوبة ومنها ما هو إبطال لمكرهم ورد له ودفع في صدره حتى لا ينجع، فسمى ذلك كله باسم الذنب الذي جاء ذلك من أجله، ولا يحسن في هذا المعنى إلا هذا وأما أن ينضاف المكر إلى الله عز وجل على ما يفهم في اللغة فغير جائز أن يقال، وقد ذكر ابن فورك في هذا ما يقرب من هذا الذي ضعفناه، وإنما قولنا ويمكر الله كما تقول في رجل شتم الأمير فقتله الأمير هذا هو الشتم فتسمى العقوبة باسم الذنب، وقوله خير الماكرين أي أقدرهم وأعزهم جانبا.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وفي هذه الجهة أعني القدرة والعزة يقع التفضيل لأن مكرة الكفار لهم قدرة ما، فوقع التفضيل لمشاركتهم بها، وأما من جهة الصلاح الذي فيما يعلمه الله تعالى فلا مشاركة للكفار بصلاح، فيتعذر التفضيل على مذهب سيبويه والبصريين إلا على ما قد بيناه في ألفاظ العموم مثل خير واجب ونحو هذا إذ لا يخلو من اشتراك ولو على معتقد من فرقة أو أحد). [المحرر الوجيز: 4/ 171-173]

تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلاّ أساطير الأوّلين (31) وإذ قالوا اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارةً من السّماء أو ائتنا بعذابٍ أليمٍ (32)
الضمير في عليهم عائد على الكفار، و «الآيات» هنا آيات القرآن خاصة بقرينة قوله تتلى، وقد سمعنا يريد وقد سمعنا هذا المتلو لو نشاء لقلنا مثله وقد سمعنا نظيره على ما روي أن النضر سمع أحاديث أهل الحيرة من العباد فلو نشاء لقلنا مثله من القصص والأنباء فإن هذه إنما هي أساطير من قد تقدم، أي قصصهم المكتوبة المسطورة، وأساطير جمع أسطورة، ويحتمل أن يكون جمع أسطار ولا يكون جمع أسطر كما قال الطبري، لأنه كان يجيء أساطر دون ياء، هذا هو قانون الباب، وقد شذ منه شيء كصيرف قالوا في جمعه صياريف، والذي تواترت به الروايات عن ابن جريج والسدي وابن جبير الذي قال هذه المقالة هو النضر بن الحارث، وذلك أنه كان كثير السفر إلى فارس والحيرة، فكان قد سمع من قصص الرهبان والأناجيل، وسمع من أخبار رستم وإسبنديار، فلما سمع القرآن ورأى فيه من أخبار الأنبياء والأمم، قال: لو شئت لقلت مثل هذا، وكان النضر من مردة قريش النائلين من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزلت فيه آيات من كتاب الله، وقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم صبرا بالصفراء منصرفه من بدر في موضع يقال له الأثيل وكان أسره المقداد، فلما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بضرب عنقه قال المقداد: أسيري يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه كان يقول في كتاب الله ما قد علمتم، ثم أعاد المقداد مقالته حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم أغن المقداد من فضلك»، فقال المقداد: هذا الذي أردت، فضرب عنق النضر، وحكى الطبري عن سعيد بن جبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل يوم بدر صبرا ثلاثة نفر، المطعم بن عدي، والنضر بن الحارث، وعقبة بن أبي معيط.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا وهم عظيم في خبر المطعم، فقد كان مات قبل يوم بدر، وفيه قال النبي صلى الله عليه وسلم: لو كان المطعم حيا وكلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له يعني أسرى بدر). [المحرر الوجيز: 4/ 174-175]

تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله وإذ قالوا اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك الآية، روي عن مجاهد وابن جبير وعطاء والسدي أن قائل هذه المقالة هو النضر بن الحارث الذي تقدم ذكره، وفيه نزلت هذه الآية.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وترتب أن يقول النضر بن الحارث مقالة وينسبها القرآن إلى جميعهم، لأن النضر كان فيهم موسوما بالنبل والفهم مسكونا إلى قوله، فكان إذا قال قولا قاله منهم كثير واتبعوه عليه حسبما يفعله الناس أبدا بعلمائهم وفقهائهم، والمشار إليه بـ«هذا» هو القرآن وشرع محمد صلى الله عليه وسلم، والذي حملهم على هذه المقالة هو الحسد، وذلك أنهم استبعدوا أن يكرم الله عليهم محمدا صلى الله عليه وسلم هذه الكرامة، وعميت بصائرهم عن الهدى، وصمموا على أن هذا ليس بحق، فقالوا هذه المقالة كما يقول الإنسان لأمر قد تحقق بزعمه إنه لم يكن، إن كان كذا وكذا ففعل الله بي وصنع، وحكى ابن فورك أن هذه المقالة خرجت مخرج العناد مع علمهم بأنه حق، وكذلك ألزم بعض أهل اليمن معاوية بن أبي سفيان القصة المشهورة في باب الأجوبة، وحكاه الطبري عن محمد بن قيس ويزيد بن رومان.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا بعيد التأويل ولا يقول هذا على جهة العناد عاقل، ويجوز في العربية رفع الحقّ على أنه خبر هو والجملة خبر كان، قال الزجّاج: ولا أعلم أحدا قرأ بهذا الجائز وقراءة الناس إنما هي بنصب «الحقّ» على أن يكون خبر «كان» ويكون هو فصلا، فهو حينئذ اسم وفيه معنى الإعلام بأن الذي بعده خبر ليس بصفة. وفأمطر إنما يستعمل في المكروه ومطر في الرحمة كذا قال أبو عبيدة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ويعارض هذه قوله هذا عارضٌ ممطرنا [الأحقاف: 24] لأنهم ظنوها سحابة رحمة، وقولهم من السّماء مبالغة وإغراق وهذان النوعان اللذان اقترحوهما هما السالفان في الأمم عافانا الله وعفا عنا ولا أضلنا بمنّه ويمنه). [المحرر الوجيز: 4/ 175-176]

تفسير قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون (33) وما لهم ألاّ يعذّبهم اللّه وهم يصدّون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلاّ المتّقون ولكنّ أكثرهم لا يعلمون (34)
قالت فرقة: نزلت هذه الآية كلها بمكة، وقالت فرقة: نزلت كلها بعد وقعة بدر حكاية عما مضى، وقال ابن أبزى: نزل قوله وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم بمكة إثر قولهم أو ائتنا بعذابٍ أليمٍ [الأنفال: 32] ونزل قوله وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون عند خروج النبي صلى الله عليه وسلم عن مكة في طريقه إلى المدينة، وقد بقي بمكة مؤمنون يستغفرون، ونزل قوله وما لهم إلى آخر الآية بعد بدر عند ظهور العذاب عليهم.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وأجمع المتأولون على أن معنى قوله وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم، أن الله عز وجل لم يعذب قط أمة ونبيها بين أظهرها، فما كان ليعذب هذه وأنت فيهم، بل كرامتك لديه أعظم، قال: أراه عن أبي زيد سمعت من العرب من يقول «ما كان ليعذبهم» بفتح اللام وهي لغة غير معروفة ولا مستعملة في القرآن، واختلفوا في معنى قوله وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون فقال ابن عباس وابن أبزى وأبو مالك والضحاك ما مقتضاه: إن الضمير في قوله معذّبهم يعود على كفار مكة والضمير في قوله وهم عائد على المؤمنين الذين بقوا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، أي وما كان الله ليعذب الكفار والمؤمنون بينهم يستغفرون.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ويدفع في صدر هذا القول أن المؤمنين الذين رد الضمير عليهم لم يجر لهم ذكر، وقال ابن عباس أيضا ما مقتضاه: أن يقال الضميران عائدان على الكفار، وذلك أنهم كانوا يقولون في دعائهم غفرانك، ويقولون لبيك لا شريك لك، ونحو هذا مما هو دعاء واستغفار، فجعله الله أمنة من عذاب الدنيا، وعلى هذا تركب قول أبي موسى الأشعري وابن عباس إن الله جعل من عذاب الدنيا أمنتين، كون
الرسول صلى الله عليه وسلم مع الناس والاستغفار، فارتفعت الواحدة وبقي الاستغفار إلى يوم القيامة، وقال قتادة: الضمير للكفار، وقوله وهم يستغفرون، جملة في موضع الحال أن لو كانت، فالمعنى وما كان الله معذبهم وهم بحال توبة واستغفار من كفرهم لو وقع ذلك منهم، واختاره الطبري، ثم حسن الزجر والتوقيف بعد هذا بقوله وما لهم ألّا يعذّبهم اللّه وقال الزجّاج ما معناه، إن الضمير في قوله وهم عائد على الكفار.
والمراد به من سبق له في علم الله أن يسلم ويستغفر، فالمعنى: وما كان الله ليعذب الكفار وفيهم من يستغفر ويؤمن في ثاني حال، وحكاه الطبري عن ابن عباس.
وقال مجاهد في كتاب الزهراوي: المراد بقوله وهم يستغفرون ذرية المشركين يومئذ الذين سبق لهم في علم الله أن يكونوا مؤمنين، فالمعنى: وما كان الله ليعذبهم وذريتهم يستغفرون ويؤمنون، فنسب الاستغفار إليهم، إذ ذريتهم منهم، وذكره مكي ولم ينسبه، وفي الطبري عن فرقة أن معنى يستغفرون يصلون، وعن أخرى يسلمون ونحو هذا من الأقوال التي تتقارب مع قول قتادة،
وقوله عز وجل: وما لهم ألّا يعذّبهم اللّه توعد بعذاب الدنيا، فتقديره وما يعلمهم أو يدريهم ونحو هذا من الأفعال التي توجب أن تكون «أن» في موضع نصب، وقال الطبري: تقديره وما يمنعهم من أن يعذبوا، والظاهر في قوله وما أنها استفهام على جهة التقرير والتوبيخ والسؤال، وهذا أفصح في القول وأقطع لهم في الحجة، ويصح أن تكون ما نافية ويكون القول إخبارا، أي وليس لهم ألا يعذبوا وهم يصدون، وقوله وهم يصدّون على التأويلين جملة في موضع الحال، ويصدّون في هذا الموضع معناه يمنعون غيرهم، فهو متعدّ كما قال الشاعر: [الوافر]
صددت الكأس عنا أمّ عمرو
وقد تجيء صد عير متعدّ كما أنشد أبو علي: [البسيط]
صدت خليدة عنّا ما تكلّمنا
والضمير في قوله أولياؤه عائد على الله عز وجل من قوله يعذّبهم اللّه، أو على المسجد الحرام، كل ذلك جيد، روي الأخير عن الحسن، والضمير الآخر تابع للأول، وقوله ولكنّ أكثرهم لا يعلمون معناه لا يعلمون أنهم ليسوا بأوليائه بل يظنون أنهم أولياؤه، وقوله أكثرهم ونحن نجد كلهم بهذه الصفة، لفظ خارج إما على أن تقول إنه لفظ خصوص أريد به العموم وهذا كثير في كلام العرب، ومنه حكى سيبويه من قولهم: قل من يقول ذلك، وهم يريدون لا يقوله أحد.
وإما أن يقول: إنه أراد بقوله أكثرهم أن يعلم ويشعر أن بينهم وفي خلالهم قوما قد جنحوا إلى الإيمان ووقع لهم علم وإن كان ظاهرهم الكفر فاستثارهم من الجميع بقوله أكثرهم وكذلك كانت حال مكة وأهلها، فقد كان فيهم العباس وأم الفضل وغيرها، وحكى الطبري عن عكرمة قال الحسن بن أبي الحسن: إن قوله وما لهم ألّا يعذّبهم اللّه، ناسخ لقوله وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وفي هذا نظر، لأنه خبر لا يدخله نسخ). [المحرر الوجيز: 4/ 177-180]

تفسير قوله تعالى: {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: وما كان صلاتهم عند البيت إلاّ مكاءً وتصديةً فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون (35)
قرأ الجمهور «وما كان صلاتهم» بالرفع «عند البيت إلا مكاء» بالنصب «وتصدية» كذلك، وروي عن عاصم أنه قرأ: «صلاتهم» بالنصب «إلا مكاء وتصدية» بالرفع، ورويت عن سليمان الأعمش بخلاف عنه فيما حكى أبو حاتم، وذكر أبو علي عن الأعمش أنه قال في قراءة عاصم: أفإن لحن عاصم تلحن أنت؟
قال أبو الفتح: وقد روي الحرف كذلك عن أبان بن تغلب، قال قوم: وهذه القراءة خطأ لأنه جعل الاسم نكرة والخبر معرفة، قال أبو حاتم: فإن قيل إن المكاء والتصدية اسم جنس واسم الجنس معرفا ومنكرا واحد في التعريف، قيل إن استعماله هكذا لا يجوز إلا في ضرورة الشعر، كما قال حسان: [الوافر].
كأنّ سبيئة من بيت رأس = يكون مزاجها عسل وماء
ولا يقاس على ذلك، فأما أبو الفتح فوجه هذه القراءة بما ذكرناه من تعريف اسم الجنس وبعد ذلك يرجح قراءة الناس قال أبو علي الفارسي: وإنما ذهب من ذهب إلى هذه القراءة لما رأى الفعل أن الصلاة مؤنثة ورأى المسند إليها ليس فيه علامة تأنيث فأراد تعليقه بمذكر وهو المكاء، وأخطأ في ذلك، فإن العرب تعلق الفعل لا علامة فيه بالمؤنث، ومنه قوله تعالى: وأخذ الّذين ظلموا الصّيحة [هود: 67] وقوله فانظر كيف كان عاقبة مكرهم [النمل: 51] وكيف كان عاقبة المفسدين [الأعراف: 86- 103، النمل: 14] ونحو هذا مما أسند فيه الفعل دون علامة إلى المؤنث، والمكاء على وزن الفعال الصفير قاله ابن عباس والجمهور،
فقد يكون بالفم وقد يكون بالأصابع والكف في الفم، قال مجاهد وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وقد يشارك الأنف يقال مكا يمكو إذا صفر، ومنه قول عنترة: [الكامل]
وخليل غانية تركت مجدلا = تمكو فريصته كشدق الأعلم
ومنه قول الشاعر:
فكأنما يمكو بأعصم عاقل = ... ... ... ...
يصف رجلا فر به حيوان ومنه قول الطرماح: [الكامل]
فنحا لأولاها بطعنة محفظ = تمكو جوانبها من الإنهار
ومكت است الدابة إذا صفرت يقال ولا تمكو إلا است مكشوفة ومن هذا قيل للاست مكوة قال أبو علي: فالهمزة في مكاءً منقلبة عن واو.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ومن هذا قيل للطائر المكّاء لأنه يمكو أي يصفر في تغريده، ووزنه فعّال بشد
العين كخطاف، والأصوات في الأكثر تجيء على فعال بتخفيف العين كالبكاء والصراخ والدعاء والجؤار والنباح ونحوه، وروي عن قتادة أن المكاء صوت الأيدي وذلك ضعيف، وروي عن أبي عمرو أنه قرأ «إلا مكا» بالقصر، و «التصدية» عبر عنها أكثر الناس بأنها التصفيق، وقتادة بأنه الضجيج والصياح، وسعيد بن جبير بأنها الصد والمنع، ومن قال التصفيق قال: إنما كان للمنع عن ذكر الله ومعارضة لقراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم للقرآن، و «التصدية» يمكن أن تكون من صدى يصدى إذا صوت والصدى الصوت، ومنه قول الطرماح يصف الأروية: [الطويل]
لها كلما ريعت صداة وركدة = بمصران أعلى ابني شمام البوائن
فيلتئم على هذا الاشتقاق قول من قال: هو التصفيق، وقول من قال الضجيج، ولا يلتئم عليه قول من قال هو الصد والمنع إلا أن يجعل التصويت إنما يقصد به المنع، ففسر اللفظ بالمقصود لا بما يخصه من معناه، ويمكن أن تكون «التصدية» من صد يصد استعمل الفعل مضعفا للمبالغة والتكثير لا ليعدى فقيل صدد، وذلك أن الفعل الذي يتعدى إذا ضعف فإنما يضعف للتكثير، إذ التعدي حاصل قبل التضعيف، وذلك نحو قوله وغلّقت الأبواب [يوسف: 23] والذي يضعف ليعدى هو كقولهم علم وغرم فإذا قلنا في صد صدد ففعل في الصحيح يجيء مصدره في الأكثر على تفعيل وفي الأقل على تفعلة مثل كمل تكميلا وتكملة وغير ذلك، بخلاف المعتل فإنه يجيء في الأكثر على تفعلة مثل عزى وتعزية وفي الشاذ على تفعيل، مثل قول الشاعر: [الرجز] بات ينزي دلوه تنزّيا وإذا كان فعل في الصحيح يتسق فيه المثلان رفض فيه تفعلة مثل قولنا تصدية وصير إلى تفعيل لتحول الياء بين المثلين كتخفيف وتشديد، فلما سلكوا مصدر صدد المسلك المرفوض أصلح ذلك بأن إبدال أحد المثلين ياء كبدلهم في تظننت ونحوه، فجاء «تصدية»، فعلى هذا الاشتقاق يلتئم قول من قال التصدية الصد عن البيت والمنع، ويمكن أن تكون التصدية من صد يصد بكسر الصاد في المستقبل إذا ضج، ويبدل أيضا على هذا أحد المثلين، ومنه قوله تعالى: إذا قومك منه يصدّون [الزخرف: 57] بكسر الصاد، ذكره النحاس، وذهب أكثر المفسرين إلى أن «المكاء والتصدية» إنما أحدثها الكفار عند مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم لتقطع عليه وعلى المؤمنين قراءتهم وصلاتهم ويخلط عليهم، فكان المصلي إذا قام يقرأ من المؤمنين اكتنفه من الكفار عن يمينه وشماله من يمكو ويصدي حتى تختلط عليه قراءته، فلما نفى الله تعالى ولايتهم للبيت أمكن أن يعترض معترض بأن يقول، وكيف لا نكون أولياءه ونحن نسكنه ونصلي عنده؟ فقطع الله هذا الاعتراض بأن قال وما كان صلاتهم إلا المكاء والتصدية، وهذا كما يقول رجل أنا أفعل الخير فيقال له ما فعلك الخير إلا أن تشرب الخمر وتقتل، أي هذه عادتك وغايتك.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والذي مر بي من أمر العرب في غير ما ديوان أن المكاء والتصدية كان من فعل العرب قديما قبل الإسلام على جهة التقرب به والتشرع، ورأيت عن بعض أقوياء العرب أنه كان يمكو على الصفا فيسمع من جبل حراء، وبينهما أربعة أميال، وعلى هذا يستقيم تعييرهم وتنقصهم بأن شرعهم وصلاتهم وعبادتهم لم تكن رهبة ولا رغبة، إنما كانت مكاء وتصدية من نوع اللعب، ولكنهم كانوا يتزيدون فيها وقت النبي صلى الله عليه وسلم ليشغلوه وأمته عن القراءة والصلاة، وقوله فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون إشارة إلى عذابهم ببدر بالسيف قاله ابن جريج والحسن والضحاك، فيلزم من هذا أن هذه الآية الأخيرة نزلت بعد بدر ولا بد.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والأشبه أن الكل نزل بعد بدر حكاية عما مضى والله ولي التوفيق برحمته).[المحرر الوجيز: 4/ 180-185]


رد مع اقتباس
  #5  
قديم 18 شعبان 1435هـ/16-06-2014م, 02:06 PM
أم إسماعيل أم إسماعيل غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Dec 2010
المشاركات: 4,914
افتراضي

تفاسير القرن السابع الهجري

....

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 18 شعبان 1435هـ/16-06-2014م, 02:06 PM
أم إسماعيل أم إسماعيل غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Dec 2010
المشاركات: 4,914
افتراضي

تفاسير القرن الثامن الهجري

تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({وإذ يمكر بك الّذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر اللّه واللّه خير الماكرين (30)}
قال ابن عبّاسٍ، ومجاهدٌ، وقتادة: {ليثبتوك} [أي]: ليقيّدوك.
وقال عطاءٌ، وابن زيدٍ: ليحبسوك.
وقال السّدّيّ: "الإثبات". هو الحبس والوثاق.
وهذا يشمل ما قاله هؤلاء وهؤلاء، وهو مجمع الأقوال وهو الغالب من صنيع من أراد غيره بسوءٍ.
وقال سنيد، عن حجّاجٍ، عن ابن جريج، قال عطاءٌ: سمعت عبيد بن عمير يقول: لمّا ائتمروا بالنّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم ليثبتوه أو يقتلوه أو يخرجوه، قال له عمّه أبو طالبٍ: هل تدري ما ائتمروا بك؟ قال: "يريدون أن يسحروني أو يقتلوني أو يخرجوني"، فقال: من أخبرك بهذا؟ قال: "ربّي"، قال: نعم الرّبّ ربّك، استوص به خيرًا فقال: "أنا أستوصي به؟ ! بل هو يستوصي بي"
وقال أبو جعفر بن جريرٍ: حدّثني محمّد بن إسماعيل البصريّ، المعروف بالوساوسيّ، أخبرنا عبد الحميد بن أبي روّاد عن ابن جريجٍ، عن عطاءٍ، عن عبيد بن عميرٍ، عن المطّلب بن أبي وداعة، أنّ أبا طالبٍ قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: ما يأتمر بك قومك؟ قال: "يريدون أن يسحروني أو يقتلوني أو يخرجوني". فقال: من أخبرك بهذا؟ قال: "ربّي"، قال: نعم الرّبّ ربّك، فاستوص به خيرًا، "قال: أنا أستوصي به؟! بل هو يستوصي بي". قال: فنزلت: {وإذ يمكر بك الّذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك} الآية
وذكر أبي طالبٍ في هذا، غريبٌ جدًّا، بل منكرٌ؛ لأنّ هذه الآية مدنيّةٌ، ثمّ إنّ هذه القصّة واجتماع قريشٍ على هذا الائتمار والمشاورة على الإثبات أو النّفي أو القتل، إنّما كان ليلة الهجرة سواءً، وكان ذلك بعد موت أبي طالبٍ بنحوٍ من ثلاث سنين لمّا تمكّنوا منه واجترءوا عليه بعد موت عمّه أبي طالبٍ، الّذي كان يحوطه وينصره ويقوم بأعبائه. والدّليل على صحّة ما قلنا: ما رواه الإمام محمّد بن إسحاق بن يسار صاحب "المغازي" عن عبد اللّه بن أبي نجيح، عن مجاهدٍ، عن ابن عبّاسٍ قال: وحدّثني الكلبيّ، عن باذان مولى أمّ هانئٍ، عن ابن عبّاسٍ؛ أنّ نفرًا من قريشٍ من أشراف كلّ قبيلةٍ، اجتمعوا ليدخلوا دار النّدوة، فاعترضهم إبليس في صورة شيخٍ جليلٍ، فلمّا رأوه قالوا: من أنت؟ قال: شيخٌ من نجدٍ، سمعت أنّكم اجتمعتم، فأردت أن أحضركم ولن يعدمكم رأيي ونصحي. قالوا: أجل، ادخل فدخل معهم فقال: انظروا في شأن هذا الرّجل، واللّه ليوشكنّ أن يواثبكم في أمركم بأمره. قال: فقال قائلٌ منهم: احبسوه في وثاقٍ، ثمّ تربّصوا به ريب المنون، حتّى يهلك كما هلك من كان قبله من الشّعراء: زهيرٌ والنّابغةٌ، إنّما هو كأحدهم، قال: فصرخ عدوّ اللّه الشّيخ النّجديّ فقال: واللّه ما هذا لكم برأيٍ، واللّه ليخرجنّه ربّه من محبسه إلى أصحابه، فليوشكنّ أن يثبوا عليه حتّى يأخذوه من أيديكم، فيمنعوه منكم، فما آمن عليكم أن يخرجوكم من بلادكم. قال: فانظروا في غير هذا.
قال: فقال قائلٌ منهم: أخرجوه من بين أظهركم تستريحوا منه، فإنّه إذا خرج لن يضرّكم ما صنع وأين وقع، إذا غاب عنكم أذاه واسترحتم، وكان أمره في غيركم، فقال الشّيخ النّجديّ: واللّه ما هذا لكم برأيٍ، ألم تروا حلاوة [قوله] وطلاوة لسانه، وأخذ القلوب ما تسمع من حديثه؟ واللّه لئن فعلتم، ثمّ استعرض العرب، ليجتمعنّ عليكم ثمّ ليأتينّ إليكم حتّى يخرجكم من بلادكم ويقتل أشرافكم. قالوا: صدق واللّه، فانظروا بابًا غير هذا.
قال: فقال أبو جهلٍ، لعنه اللّه: واللّه لأشيرنّ عليكم برأيٍ ما أراكم تصرمونه بعد، ما أرى غيره. قالوا: وما هو؟ قال: نأخذ من كلّ قبيلةٍ غلامًا شابًّا وسيطًا نهدًا، ثمّ يعطى كلّ غلامٍ منهم سيفًا صارمًا، ثمّ يضربونه ضربة رجلٍ واحدٍ، فإذا قتلوه تفرّق دمه في القبائل [كلّها] فلا أظنّ هذا الحيّ من بني هاشمٍ يقوون على حرب قريشٍ كلّها. فإنّهم إذا رأوا ذلك قبلوا العقل، واسترحنا وقطعنا عنّا أذاه.
قال: فقال الشّيخ النّجديّ: هذا واللّه الرّأي. القول ما قال الفتى لا رأي غيره، قال: فتفرّقوا على ذلك وهم مجمعون له
فأتى جبريل النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، فأمره ألّا يبيت في مضجعه الّذي كان يبيت فيه، وأخبره بمكر القوم. فلم يبت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في بيته تلك اللّيلة، وأذن اللّه له عند ذلك بالخروج، وأنزل اللّه عليه بعد قدومه المدينة "الأنفال" يذكر نعمه عليه وبلاءه عنده: {وإذ يمكر بك الّذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر اللّه واللّه خير الماكرين} وأنزل [اللّه] في قولهم: "تربّصوا به ريب المنون، حتّى يهلك كما هلك من كان قبله من الشّعراء"، {أم يقولون شاعرٌ نتربّص به ريب المنون} [الطّور: 30] وكان ذلك اليوم يسمّى "يوم الزّحمة" للّذي اجتمعوا عليه من الرّأي
وعن السّدّيّ نحو هذا السّياق، وأنزل اللّه في إرادتهم إخراجه قوله تعالى: {وإن كادوا ليستفزّونك من الأرض ليخرجوك منها وإذًا لا يلبثون خلافك إلا قليلا} [الإسراء: 76].
وكذا روى العوفي، عن ابن عبّاسٍ. وروي عن مجاهدٍ، وعروة بن الزّبير، وموسى بن عقبة، وقتادة، ومقسم، وغير واحدٍ، نحو ذلك.
وقال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق: فأقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ينتظر أمر اللّه، حتّى إذا اجتمعت قريشٌ فمكرت به، وأرادوا به ما أرادوا، أتاه جبريل، عليه السّلام، فأمره ألّا يبيت في مكانه الّذي كان يبيت فيه فدعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عليّ بن أبي طالبٍ، فأمره أن يبيت على فراشه وأن يتسجّى ببرد له أخضر، ففعل. ثمّ خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم على القوم وهم على بابه، وخرج معه بحفنةٍ من ترابٍ، فجعل يذرها على رؤوسهم، وأخذ اللّه بأبصارهم عن نبيّه محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم وهو يقرأ: {يس والقرآن الحكيم} إلى قوله: {فأغشيناهم فهم لا يبصرون} [يس: 1-9].
وقال الحافظ أبو بكرٍ البيهقيّ: روي عن عكرمة ما يؤكّد هذا
وقد روى [أبو حاتم] ابن حبّان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، من حديث عبد اللّه بن عثمان بن خثيم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاسٍ قال: دخلت فاطمة على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وهي تبكي، فقال: "ما يبكيك يا بنيّة؟ " قالت: يا أبت، [و] ما لي لا أبكي، وهؤلاء الملأ من قريشٍ في الحجر يتعاقدون باللّات والعزّى ومناة الثّالثة الأخرى، لو قد رأوك لقاموا إليك فيقتلونك، وليس منهم إلّا من قد عرف نصيبه من دمك. فقال: "يا بنيّة، ائتني بوضوء". فتوضّأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، ثمّ خرج إلى المسجد. فلمّا رأوه قالوا: إنّما هو ذا فطأطؤوا رؤوسهم، وسقطت أذقانهم بين أيديهم، فلم يرفعوا أبصارهم. فتناول رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قبضةً من ترابٍ فحصبهم بها، وقال: "شاهت الوجوه". فما أصاب رجلًا منهم حصاة من حصياته إلّا قتل يوم بدرٍ كافرًا.
ثمّ قال الحاكم: صحيحٌ على شرط مسلمٍ، ولم يخرّجاه، ولا أعرف له علة
وقال الإمام أحمد: حدّثنا عبد الرّزّاق، أخبرنا معمر، أخبرني عثمان الجزري، عن مقسم مولى ابن عبّاسٍ أخبره عن ابن عبّاسٍ في قوله: {وإذ يمكر بك الّذين كفروا ليثبتوك} قال: تشاورت قريشٌ ليلةً بمكّة، فقال بعضهم: إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق -يريدون النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم -وقال بعضهم: بل اقتلوه. وقال بعضهم: بل أخرجوه. فأطلع اللّه نبيّه على ذلك، فبات عليٌّ رضي اللّه عنه على فراش رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، وخرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حتّى لحق بالغار، وبات المشركون يحرسون عليًّا يحسبونه النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، فلمّا أصبحوا ثاروا إليه، فلمّا رأوا عليًّا ردّ اللّه تعالى مكرهم، فقالوا: أين صاحبك هذا؟ قال: لا أدري. فاقتصّا أثره، فلمّا بلغوا الجبل اختلط عليهم، فصعدوا في الجبل فمرّوا بالغار، فرأوا على بابه نسج العنكبوت، فقالوا: لو دخل هاهنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه، فمكث فيه ثلاث ليالٍ
وقال محمّد بن إسحاق، عن محمّد بن جعفر بن الزّبير، عن عروة بن الزّبير في قوله: {ويمكرون ويمكر اللّه واللّه خير الماكرين} أي: فمكرت بهم بكيدي المتين، حتّى خلّصتك منهم). [تفسير القرآن العظيم: 4/ 43-46]

تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأوّلين (31) وإذ قالوا اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارةً من السّماء أو ائتنا بعذابٍ أليمٍ (32) وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون (33)}
يخبر تعالى عن كفر قريشٍ وعتوّهم وتمرّدهم وعنادهم، ودعواهم الباطل عند سماع آياته حين تتلى عليهم أنّهم يقولون: {قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا} وهذا منهم قولٌ لا فعلٌ، وإلّا فقد تحدّوا غير ما مرّةٍ أن يأتوا بسورةٍ من مثله فلا يجدون إلى ذلك سبيلًا. وإنّما هذا قولٌ منهم يغرّون به أنفسهم ومن اتّبعهم على باطلهم.
وقد قيل: إنّ القائل لذلك هو النّضر بن الحارث -لعنه اللّه -كما قد نصّ على ذلك سعيد بن جبير، والسّدّيّ، وابن جريج وغيرهم؛ فإنّه -لعنه اللّه -كان قد ذهب إلى بلاد فارس، وتعلّم من أخبار ملوكهم رستم واسفنديار، ولمّا قدم وجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قد بعثه اللّه، وهو يتلو على النّاس القرآن، فكان إذا قام صلّى اللّه عليه وسلّم من مجلسٍ، جلس فيه النّضر فيحدّثهم من أخبار أولئك، ثمّ يقول: باللّه أيّهما أحسن قصصًا؟ أنا أو محمّدٌ؟ ولهذا لمّا أمكن اللّه تعالى منه يوم بدرٍ ووقع في الأسارى، أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن تضرب رقبته صبرًا بين يديه، ففعل ذلك، وللّه الحمد. وكان الّذي أسره المقداد بن الأسود، رضي اللّه عنه، كما قال ابن جريرٍ: حدّثنا محمّد بن بشّار، حدّثنا محمّد بن جعفرٍ، حدّثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير قال: قتل النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم يوم بدرٍ صبرًا عقبة بن أبي معيط وطعيمة بن عدي، والنّضر بن الحارث. وكان المقداد أسر النّضر، فلمّا أمر بقتله، قال المقداد: يا رسول اللّه، أسيري. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: " إنّه كان يقول في كتاب اللّه، عزّ وجلّ، ما يقول". فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بقتله، فقال المقداد: يا رسول اللّه، أسيري. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "اللّهمّ أغن المقداد من فضلك". فقال المقداد: هذا الّذي أردت. قال: وفيه أنزلت هذه الآية: {وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأوّلين}
وكذا رواه هشيم، عن أبي بشرٍ جعفر بن أبي وحشيّة، عن سعيد بن جبير؛ أنّه قال: "المطعم بن عديٍّ" "بدل طعيمة" وهو غلطٌ؛ لأنّ المطعم بن عديٍّ لم يكن حيًّا يوم بدرٍ؛ ولهذا قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يومئذٍ: "لو كان المطعم حيًّا، ثمّ سألني في هؤلاء النّتنى لوهبتهم له" -يعني: الأسارى -لأنّه كان قد أجار رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يوم رجع من الطّائف.
ومعنى: {أساطير الأوّلين} وهو جمع أسطورةٍ، أي: كتبهم اقتبسها، فهو يتعلّم منها ويتلوها على النّاس. وهذا هو الكذب البحت، كما أخبر اللّه عنهم في الآية الأخرى: {وقالوا أساطير الأوّلين اكتتبها فهي تملى عليه بكرةً وأصيلا قل أنزله الّذي يعلم السّرّ في السّماوات والأرض إنّه كان غفورًا رحيمًا} [الفرقان: 5، 6].أي: لمن تاب إليه وأناب؛ فإنّه يتقبّل منه ويصفح عنه). [تفسير القرآن العظيم: 4/ 46-47]

تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله: {وإذ قالوا اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارةً من السّماء أو ائتنا بعذابٍ أليمٍ} هذا من كثرة جهلهم وعتوّهم وعنادهم وشدّة تكذيبهم، وهذا ممّا عيبوا به، وكان الأولى لهم أن يقولوا: "اللّهمّ، إن كان هذا هو الحقّ من عندك، فاهدنا له، ووفّقنا لاتّباعه". ولكن استفتحوا على أنفسهم، واستعجلوا العذاب، وتقديم العقوبة كما قال تعالى: {ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجلٌ مسمًّى لجاءهم العذاب وليأتينّهم بغتةً وهم لا يشعرون} [العنكبوت:53]، {وقالوا ربّنا عجّل لنا قطّنا قبل يوم الحساب} [ص:16]، {سأل سائلٌ بعذابٍ واقعٍ للكافرين ليس له دافعٌ من اللّه ذي المعارج} [المعارج: 1-3]، وكذلك قال الجهلة من الأمم السّالفة، كما قال قوم شعيبٍ له: {فأسقط علينا كسفًا من السّماء إن كنت من الصّادقين} [الشّعراء: 187]، وقال هؤلاء: {اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارةً من السّماء أو ائتنا بعذابٍ أليمٍ}
قال شعبة، عن عبد الحميد، صاحب الزّياديّ، عن أنس بن مالكٍ قال: هو أبو جهل بن هشامٍ قال: {اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارةً من السّماء أوائتنا بعذابٍ أليمٍ} فنزلت {وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون} الآية.
رواه البخاريّ عن أحمد ومحمّد بن النّضر، كلاهما عن عبيد اللّه بن معاذ، عن أبيه، عن شعبة، به
وأحمد هذا هو: أحمد بن النّضر بن عبد الوهّاب. قاله الحاكم أبو أحمد، والحاكم أبو عبد اللّه النّيسابوريّ، واللّه أعلم.
وقال الأعمش، عن رجلٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ في قوله: {وإذ قالوا اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارةً من السّماء أو ائتنا بعذابٍ أليمٍ} قال: هو النّضر بن الحارث بن كلدة، قال: فأنزل اللّه: {سأل سائلٌ بعذابٍ واقع * للكافرين ليس له دافع} [المعارج: 1-2] وكذا قال مجاهدٌ، وعطاءٌ، وسعيد بن جبيرٍ، والسّدّيّ: إنّه النّضر بن الحارث -زاد عطاءٌ: فقال اللّه تعالى: {وقالوا ربّنا عجّل لنا قطّنا قبل يومالحساب} [ص: 16] وقال {ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أوّل مرّةٍ} [الأنعام: 94] وقال {سأل سائلٌ بعذابٍ واقعٍ للكافرين ليس له دافعٌ} [المعارج: 1، 2]، قال عطاءٌ: ولقد أنزل فيه بضع عشرة آيةً من كتاب اللّه، عزّ وجلّ.
وقال ابن مردويه: حدّثنا محمّد بن إبراهيم، حدّثنا الحسن بن أحمد بن اللّيث، حدّثنا أبو غسّان حدّثنا أبو تميلة، حدّثنا الحسين، عن ابن بريدة، عن أبيه قال: رأيت عمرو بن العاص واقفًا يوم أحد على فرسٍ، وهو يقول: اللّهمّ، إن كان ما يقول محمّدٌ حقًّا، فاخسف بي وبفرسي".
وقال قتادة في قوله: {وإذ قالوا اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك} الآية، قال: قال ذلك سفهة هذه الأمّة وجهلتها فعاد اللّه بعائدته ورحمته على سفهة هذه الأمّة وجهلتها). [تفسير القرآن العظيم: 4/ 47-48]

تفسير قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله تعالى: {وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون} قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا أبو حذيفة موسى بن مسعودٍ، حدّثنا عكرمة بن عمّارٍ، عن أبي زميل سماك الحنفيّ، عن ابن عبّاسٍ قال: كان المشركون يطوفون بالبيت ويقولون: لبّيك اللّهمّ لبّيك، لبّيك لا شريك لك فيقول النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: "قد قد"! ويقولون: لا شريك لك، إلّا شريكًا هو لك، تملكه وما ملك. ويقولون: غفرانك، غفرانك، فأنزل اللّه: {وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون} قال ابن عبّاسٍ: كان فيهم أمانان: النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، والاستغفار، فذهب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وبقي الاستغفار
وقال ابن جريرٍ: حدّثني الحارث، حدّثنا عبد العزيز، حدّثنا أبو معشر، عن يزيد بن رومان ومحمّد بن قيسٍ قالا قالت قريشٌ بعضها لبعضٍ: محمّدٌ أكرمه اللّه من بيننا: {اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارةً من السّماء أو ائتنا بعذابٍ أليمٍ} فلمّا أمسوا ندموا على ما قالوا، فقالوا: غفرانك اللّهمّ! فأنزل اللّه، عزّ وجلّ: {وما كان اللّه [ليعذّبهم وأنت فيهم وما كان اللّه] معذّبهم وهم يستغفرون} إلى قوله: {ولكنّ أكثرهم لا يعلمون} [الأنفال:34].
وقال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: {وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم} يقول: ما كان اللّه ليعذّب قومًا وأنبياؤهم بين أظهرهم حتّى يخرجهم، ثمّ قال: {وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون} يقول: وفيهم من قد سبق له من اللّه الدخول في الإيمان، وهو الاستغفار -يستغفرون، يعني: يصلّون -يعني بهذا أهل مكّة.
وروي عن مجاهد، وعكرمة، وعطيّة العوفي، وسعيد بن جبير، والسّدّيّ نحو ذلك.
وقال الضّحّاك وأبو مالكٍ: {وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون} يعني: المؤمنين الّذين كانوا بمكّة.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا عبد الغفّار بن داود، حدّثنا النّضر بن عربي [قال] قال ابن عبّاسٍ: إنّ اللّه جعل في هذه الأمّة أمانين لا يزالون معصومين مجارين من قوارع العذاب ما داما بين أظهرهم: فأمانٌ قبضه اللّه إليه، وأمانٌ بقي فيكم، قوله: {وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون}
قال أبو صالحٍ عبد الغفّار: حدّثني بعض أصحابنا، أنّ النّضر بن عربيٍّ حدّثه هذا الحديث، عن مجاهدٍ، عن ابن عبّاسٍ.
وروى ابن مردويه وابن جريرٍ، عن أبي موسى الأشعريّ نحوًا من هذا وكذا روي عن قتادة وأبي العلاء النّحويّ المقرئ.
وقال التّرمذيّ: حدّثنا سفيان بن وكيع، حدّثنا ابن نمير، عن إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجرٍ، عن عبّاد بن يوسف، عن أبي بردة بن أبي موسى، عن أبيه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "أنزل اللّه عليّ أمانين لأمّتي: {وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون} فإذا مضيت، تركت فيهم الاستغفار إلى يوم القيامة"
ويشهد لهذا ما رواه الإمام أحمد في مسنده، والحاكم في مستدركه، من حديث عبد اللّه بن وهبٍ: أخبرني عمرو بن الحارث، عن دراج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيدٍ، أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال: "إنّ الشّيطان قال: وعزّتك يا ربّ، لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم. فقال الرّبّ: وعزّتي وجلالي، لا أزال أغفر لهم ما استغفروني".
ثمّ قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرّجاه
وقال الإمام أحمد: حدّثنا معاوية بن عمرٍو، حدّثنا رشدين -هو ابن سعدٍ -حدّثني معاوية بن سعدٍ التّجيبي، عمّن حدّثه، عن فضالة بن عبيد، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه قال: "العبد آمنٌ من عذاب اللّه ما استغفر الله، عز وجل"). [تفسير القرآن العظيم: 4/ 48-50]

تفسير قوله تعالى: {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({وما لهم ألا يعذّبهم اللّه وهم يصدّون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتّقون ولكنّ أكثرهم لا يعلمون (34) وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاءً وتصديةً فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون (35)}
يخبر تعالى أنّهم أهلٌ لأن يعذّبهم، ولكن لم يوقع ذلك بهم لبركة مقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بين أظهرهم؛ ولهذا لمّا خرج من بين أظهرهم، أوقع اللّه بهم بأسه يوم بدرٍ، فقتل صناديدهم وأسرت سراتهم. وأرشدهم تعالى إلى الاستغفار من الذّنوب، الّتي هم متلبّسون بها من الشّرك والفساد.
قال قتادة والسّدّي وغيرهما: لم يكن القوم يستغفرون، ولو كانوا يستغفرون لما عذّبوا.
واختاره ابن جريرٍ، فلولا ما كان بين أظهرهم من المستضعفين من المؤمنين المستغفرين، لأوقع بهم البأس الّذي لا يردّ، ولكن دفع عنهم بسبب أولئك، كما قال تعالى في يوم الحديبية: {هم الّذين كفروا وصدّوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفًا أن يبلغ محلّه ولولا رجالٌ مؤمنون ونساءٌ مؤمناتٌ لم تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرّةٌ بغير علمٍ ليدخل اللّه في رحمته من يشاء لو تزيّلوا لعذّبنا الّذين كفروا منهم عذابًا أليمًا} [الفتح:25].
قال ابن جريرٍ: حدّثنا ابن حميد، حدّثنا يعقوب، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن ابن أبزى قال: كان النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم بمكّة، فأنزل اللّه: {وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم} قال: فخرج النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم إلى المدينة، فأنزل اللّه: {وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون} قال: وكان أولئك البقيّة من المؤمنين الّذين بقوا فيها يستغفرون -يعني بمكّة- فلمّا خرجوا، أنزل اللّه: {وما لهم ألا يعذّبهم اللّه وهم يصدّون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه} قال: فأذن اللّه في فتح مكّة، فهو العذاب الّذي وعدهم.
وروي عن ابن عبّاسٍ، وأبي مالكٍ والضّحّاك، وغير واحدٍ نحو هذا.
وقد قيل: إنّ هذه الآية ناسخةٌ لقوله: {وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون} على أن يكون المراد صدور الاستغفار منهم أنفسهم.
قال ابن جريرٍ: حدّثنا ابن حميد، حدّثنا يحيى بن واضحٍ، عن الحسين بن واقدٍ، عن يزيد النّحويّ، عن عكرمة والحسن البصريّ قالا قال في "الأنفال": {وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون} فنسختها الآية الّتي تليها: {وما لهم ألا يعذّبهم اللّه} إلى قوله: {فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون} فقوتلوا بمكّة، فأصابهم فيها الجوع والضّرّ.
وكذا رواه ابن أبي حاتمٍ من حديث أبي تميلة يحيى بن واضحٍ
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا الحسن بن محمّد بن الصّبّاح، حدّثنا حجّاج بن محمّدٍ، عن ابن جريج وعثمان بن عطاءٍ، عن عطاءٍ، عن ابن عبّاسٍ: {وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون} ثمّ استثنى أهل الشّرك فقال [تعالى] {وما لهم ألا يعذّبهم اللّه وهم يصدّون عن المسجد الحرام}
وقوله: {وما لهم ألا يعذّبهم اللّه وهم يصدّون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتّقون ولكنّ أكثرهم لا يعلمون} أي: وكيف لا يعذّبهم اللّه وهم يصدّون عن المسجد الحرام أي الّذي ببكّة، يصدّون المؤمنين الّذين هم أهله عن الصّلاة عنده والطّواف به؛ ولهذا قال: {وما كانوا أولياءه} أي: هم ليسوا أهل المسجد الحرام، وإنّما أهله النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه، كما قال تعالى: {ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد اللّه شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النّار هم خالدون إنّما يعمر مساجد اللّه من آمن باللّه واليوم الآخر وأقام الصّلاة وآتى الزّكاة ولم يخش إلا اللّه فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين} [التّوبة: 17، 18]،وقال تعالى: {وصدٌّ عن سبيل اللّه وكفرٌ به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند اللّه [والفتنة أكبر من القتل]} الآية [البقرة: 217]..
وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسير هذه الآية: حدّثنا سليمان بن أحمد -هو الطّبرانيّ-حدّثنا جعفر بن إلياس بن صدقة المصريّ، حدّثنا نعيم بن حمّادٍ، حدّثنا نوح بن أبي مريم، عن يحيى بن سعيدٍ الأنصاريّ، عن أنس بن مالكٍ، رضي اللّه عنه، قال: سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من آلك؟ قال كلّ تقيٍّ"، وتلا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: {إن أولياؤه إلا المتّقون}
وقال الحاكم في مستدركه: حدّثنا أبو بكرٍ الشّافعيّ، حدّثنا إسحاق بن الحسن، حدّثنا أبو حذيفة، حدّثنا سفيان، عن عبد اللّه بن عثمان بن خثيم عن إسماعيل بن عبيد بن رفاعة، عن أبيه، عن جدّه قال: جمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قريشًا فقال: "هل فيكم من غيركم؟ " قالوا: فينا ابن أختنا وفينا حليفنا، وفينا مولانا. فقال: "حليفنا منّا، وابن أختنا منّا، ومولانا منّا، إنّ أوليائي منكم المتّقون".
ثمّ قال: هذا [حديثٌ] صحيحٌ، ولم يخرجاه
وقال عروة، والسّدّي، ومحمّد بن إسحاق في قوله تعالى: {إن أولياؤه إلا المتّقون} قال: هم محمّدٌ صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه، رضي اللّه عنهم.
وقال مجاهدٌ: هم المجاهدون، من كانوا، وحيث كانوا). [تفسير القرآن العظيم: 4/ 50-52]

تفسير قوله تعالى: {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (ثمّ ذكر تعالى ما كانوا يعتمدونه عند المسجد الحرام، وما كانوا يعاملونه به، فقال: {وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاءً وتصديةً} قال عبد اللّه بن عمر، وابن عبّاسٍ، ومجاهدٍ، وعكرمة، وسعيد بن جبير، وأبو رجاءٍ العطارديّ، ومحمّد بن كعبٍ القرظيّ، وحجر بن عنبس، ونبيط بن شريط، وقتادة، وعبد الرّحمن بن زيد بن أسلم: هو الصّفير -وزاد مجاهدٌ: وكانوا يدخلون أصابعهم في أفواههم.
وقال السّدّيّ: المكاء: الصّفير على نحو طيرٍ أبيض يقال له: "المكاء"، ويكون بأرض الحجاز.
والتّصدية: التّصفيق.
قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبو خلاد سليمان بن خلّادٍ، حدّثنا يونس بن محمّدٍ المؤدّب، حدّثنا يعقوب -يعني ابن عبد اللّه الأشعريّ -حدّثنا جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ في قوله: {وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاءً وتصديةً} قال: كانت قريشٌ تطوف بالكعبة عراةً تصفّر وتصفّق. والمكاء: الصّفير، وإنّما شبّهوا بصفير الطّير وتصدية التّصفيق.
وهكذا روى عليّ بن أبي طلحة والعوفي، عن ابن عبّاسٍ. وكذا روي عن ابن عمر، ومجاهدٍ، ومحمّد بن كعبٍ، وأبي سلمة بن عبد الرّحمن، والضّحّاك، وقتادة، وعطيّة العوفيّ، وحجر بن عنبس، وابن أبزى نحو هذا.
وقال ابن جريرٍ: حدّثنا ابن بشّارٍ، حدّثنا أبو عمر، حدّثنا قرّة، عن عطيّة، عن ابن عمر في قوله: {وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاءً وتصديةً} قال: المكاء: الصّفير. والتّصدية: التّصفيق. قال قرّة: وحكى لنا عطيّة فعل ابن عمر، فصفّر ابن عمر، وأمال خدّه، وصفّق بيديه.
وعن ابن عمر أيضًا أنّه قال: كانوا يضعون خدودهم على الأرض ويصفّقون ويصفّرون. رواه ابن أبي حاتمٍ في تفسيره بسنده عنه.
وقال عكرمة: كانوا يطوفون بالبيت على الشّمال.
قال مجاهدٌ: وإنّما كانوا يصنعون ذلك ليخلطوا بذلك على النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم صلاته.
وقال الزّهريّ: يستهزئون بالمؤمنين.
وعن سعيد بن جبير وعبد الرّحمن بن زيدٍ: {وتصدية} قال: صدّهم النّاس عن سبيل اللّه، عزّ وجل.
قوله: {فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون} قال الضّحّاك، وابن جريج، ومحمّد بن إسحاق: هو ما أصابهم يوم بدر من القتل والسّبي. واختاره ابن جريرٍ، ولم يحك غيره.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا ابن أبي عمر، حدّثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهدٍ قال: عذاب أهل الإقرار بالسّيف، وعذاب أهل التّكذيب بالصّيحة والزّلزلة). [تفسير القرآن العظيم: 4/ 52-53]


رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 08:24 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
جميع الحقوق محفوظة