العودة   جمهرة العلوم > قسم التفسير > جمهرة التفاسير > تفسير سورة البقرة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 10 ربيع الثاني 1434هـ/20-02-2013م, 12:24 AM
الصورة الرمزية إشراق المطيري
إشراق المطيري إشراق المطيري غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jun 2010
المشاركات: 885
افتراضي تفسير سورة البقرة [من الآية (283) إلى الآية (284) ]

تفسير سورة البقرة
[من الآية (283) إلى الآية (284) ]

{وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)}


رد مع اقتباس
  #2  
قديم 18 ربيع الثاني 1434هـ/28-02-2013م, 07:34 PM
الصورة الرمزية إشراق المطيري
إشراق المطيري إشراق المطيري غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jun 2010
المشاركات: 885
افتراضي جمهرة تفاسير السلف

جمهرة تفاسير السلف

تفسير قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283) }
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (نا معمر والثوري وابن عيينة عن ابن شبرمة عن الشعبي في قوله تعالى فإن أمن بعضكم بعضا قال لا بأس به إذا أمنته ألا تكتب ولا تشهد فإن أمن بعضكم بعضا قال ابن عيينة عن ابن شبرمة قال الشعبي إلى هذا انتهى فإن أمن بعضكم بعضا قال لا بأس إذا أمنته ألا تكتب و لا تشهد). [تفسير عبد الرزاق: 1/111]
قال أبو حذيفة موسى بن مسعود النهدي (ت:220هـ): (سفيان [الثوري] عن إسماعيل بن أبي خالدٍ عن الشّعبيّ في قوله جل وعز: {أشهدوا إذا تبايعتم} قال: إن شاء أشهد وإن شهد لم يشهد قال: وقرأ {فإن أمن بعضكم بعضا} [الآية: 283]). [تفسير الثوري: 73] (م)
قالَ سعيدُ بنُ منصورٍ بن شعبة الخراسانيُّ: (ت:227هـ): ( [قوله تعالى: {وإن كنتم على سفرٍ ولم تجدوا كاتبًا فرهانٌ مقبوضةٌ} ]
- حدّثنا سعيدٌ، قال: نا سفيان، عن يزيد بن أبي زيادٍ، عن مقسم، عن ابن عبّاسٍ أنّه قرأ: {فإن لم تجدوا كتّابًا}، فقال: قد يوجد الكتّاب، ولا توجد الدّواة، ولا الصحيفة.
[سنن سعيد بن منصور: 3/1000]
- حدّثنا سعيدٌ، قال: نا هشيمٌ، قال: نا يزيد، عن مقسم، عن ابن عبّاسٍ، أنّه كان يقرأ: {فإن لم تجدوا كتّابا}، قال: يعني الكاتب والصّحيفة والدّواة والقلم.
[سنن سعيد بن منصور: 3/1001]
- حدّثنا سعيدٌ، قال: نا حمّاد بن زيدٍ، عن الزّبير بن الخرّيت، عن عكرمة - في قوله عزّ وجلّ: {فإن لم تجدوا كتابًا} -، وقال: أرأيت إن وجدوا كاتبًا، ولم يجدوا الصّحيفة والدّواة؟.
- حدّثنا سعيدٌ، قال: نا سفيان، عن حميدٍ الأعرج، أنّه كان يقرأ: {فرهن مقبوضةٌ}.
[سنن سعيد بن منصور: 3/1002]
- حدّثنا سعيدٌ، قال: نا هشيمٌ، عن مغيرة، عن إبراهيم: {فرهن مقبوضةٌ}.
- حدّثنا سعيدٌ، قال: نا هشيمٌ، قال: أخبرني عبّاد بن راشدٍ، عن الحسن، وأبو الأشهب، عن أبي الرّجاء أنّهما كانا يقرآن: {فرهانٌ مقبوضةٌ}). [سنن سعيد بن منصور: 3/1003]
قالَ أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ النَّسَائِيُّ (ت: 303هـ): (قوله تعالى {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه}
[السنن الكبرى للنسائي: 10/40]
- أخبرنا محمود بن غيلان، أخبرنا وكيعٌ، حدّثنا سفيان، عن آدم بن سليمان، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ قال: لمّا نزلت هذه الآية: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله} [البقرة: 284] دخل قلوبهم منها شيءٌ لم يدخله من شيءٍ، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: " قولوا سمعنا وأطعنا وسلّمنا، فألقى الله الإيمان في قلوبهم فأنزل الله عزّ وجلّ {آمن الرّسول بما أنزل إليه من ربّه والمؤمنون} [البقرة: 285] الآية {لا يكلّف الله نفسًا إلّا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربّنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} [البقرة: 286] قال: قد فعلت {ربّنا ولا تحمل علينا إصرًا كما حملته على الّذين من قبلنا} [البقرة: 286] قال: قد فعلت {ربّنا ولا تحمّلنا ما لا طاقة لنا به، واعف عنّا، واغفر لنا، وارحمنا، أنت مولانا، فانصرنا على القوم الكافرين} [البقرة: 286] قال: قد فعلت "). [السنن الكبرى للنسائي: 10/40]

قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {وإن كنتم على سفرٍ ولم تجدوا كاتبًا فرهانٌ مقبوضةٌ فإن أمن بعضكم بعضًا فليؤدّ الّذي اؤتمن أمانته وليتّق اللّه ربّه ولا تكتموا الشّهادة ومن يكتمها فإنّه آثمٌ قلبه واللّه بما تعملون عليمٌ}
اختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته القرّاء في الأمصار جميعًا {كاتبًا}، بمعنى: ولم تجدوا من يكتب لكم كتاب الدّين الّذي تداينتموه إلى أجلٍ مسمًّى {فرهانٌ مقبوضةٌ}،
وقرأ جماعةٌ من المتقدّمين: ولم تجدوا كتابًا بمعنى: ولم يكن لكم إلى اكتتاب كتاب الدّين سبيلٌ، إمّا بتعذّر الدّواة والصّحيفة، وإمّا بتعذّر الكاتب وإن وجدتم الدّواة والصّحيفة.
[جامع البيان: 5/120]
والقراءة الّتي لا يجوز غيرها عندنا هي قراءة الأمصار: {ولم تجدوا كاتبًا} بمعنى: من يكتب؛ لأنّ ذلك كذلك في مصاحف المسلمين، مثبت من القراءات
فاذا كان ذلك كذلك فتاويل الكلام وإن كنتم أيّها المتداينون في سفرٍ بحيث لا تجدون كاتبًا يكتب لكم، ولم يكن لكم إلى اكتتاب كتاب الدّين الّذي تداينتموه إلى أجلٍ مسمًّى بينكم الّذي أمرتكم باكتتابه والإشهاد عليه سبيلٌ، فارتهنوا بديونكم الّتي تداينتموها إلى الأجل المسمّى رهونًا تقبضونها ممّن تداينونه كذلك ليكون ثقةً لكم بأموالكم.
ذكر من قال ما قلنا في ذلك:
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا إسحاق، قال: حدّثنا أبو زهيرٍ، عن جويبرٍ، عن الضّحّاك، قوله: (وإن كنتم على سفرٍ ولم تجدوا كاتبًا فرهنٌ مقبوضةٌ) فمن كان على سفرٍ فبايع بيعًا إلى أجلٍ فلم يجد كاتبًا فرخّص له في الرّهان المقبوضة، وليس له إن وجد كاتبًا أن يرتهن.
- حدّثت عن عمّارٍ، قال: حدّثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرّبيع، قوله: {وإن كنتم على سفرٍ ولم تجدوا كاتبًا} يقول: كاتبًا يكتب لكم، {فرهانٌ مقبوضةٌ}.
[جامع البيان: 5/121]
- حدّثني يحيى بن أبي طالبٍ، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبرٌ، عن الضّحّاك، قال: ما كان من بيعٍ إلى أجلٍ، فأمر اللّه عزّ وجلّ أن يكتب ويشهد عليه وذلك في المقام، فإن كان قومٌ على سفرٍ تبايعوا إلى أجلٍ فلم يجدوا كاتبًا، فرهانٌ مقبوضةٌ.
ذكر قول من تأوّل ذلك على القراءة الاخرى الّتي حكيناها:
- حدّثنا أبو كريبٍ، قال: حدّثنا هشيمٌ، قال: أخبرنا يزيد بن أبي زيادٍ، عن مقسمٍ، عن ابن عبّاسٍ: فإن لم تجدوا كتابًا يعني بالكتاب: الكاتب والصّحيفة والدّواة والقلم.
- حدّثني يعقوب، قال: حدّثنا ابن عليّة، قال: أخبرنا ابن جريجٍ، قال: أخبرني أبي، عن ابن عبّاسٍ، أنّه قرأ: فإن لم تجدوا كتابًا، قال: ربّما وجد الرّجل الصّحيفة ولم يجد كاتبًا.
- حدّثني يعقوب، قال: حدّثنا ابن عليّة، قال: حدّثنا ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، كان يقرؤها: فإن لم تجدوا كتابًا ويقول: ربّما وجد الكاتب ولم توجد الصّحيفة أو المداد، ونحو هذا من القول.
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا أبو حذيفة، قال: حدّثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ: وإن كنتم على سفرٍ ولم تجدوا كتابًا يقول: مدادًا، يقرؤها كذلك، يقول: فإن لم تجدوا مدادًا، فعند ذلك تكون الرّهون المقبوضة، {فرهانٌ مقبوضةٌ} قال: لا يكون الرّهن إلا في السّفر.
[جامع البيان: 5/122]
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا الحجّاج، قال: حدّثنا حمّاد بن زيدٍ، عن شعيب بن الحبحاب، قال: إنّ أبا العالية كان يقرؤها: فإن لم تجدوا كتابًا قال أبو العالية: توجد الدّواة ولا توجد الصّحيفة وربما وجد الكاتب ولاتوجدالصحيفة
واختلف القرّاء في قراءة قوله: {فرهانٌ مقبوضةٌ} فقرأ ذلك عامّة قرّاء الحجاز والعراق: {فرهانٌ مقبوضةٌ} بمعنى جماع رهنٍ، كما الكباش جماع كبشٍ، والبغال جماع بغلٍ، والنّعال جماع نعلٍ،
وقرأ ذلك جماعةٌ آخرون: (فرهنٌ مقبوضةٌ) على معنى جمع رهانٍ ورهنٍ جمع الجمع، وقد وجّهه بعضهم إلى أنّها جمع رهنٍ مثل سقفٍ وسقفٍ، وقرأه آخرون: (فرهنٌ) مخفّفة الهاء، على معنى جماع رهنٍ، كما تجمع السّقف سقفًا؛ قالوا: ولا نعلم اسمًا على فعلٍ يجمع على فعلٍ وفعلٍ إلاّ الرّهن والرّهن والسّقف والسّقف. والّذي هو أولى بالصّواب في ذلك قراءة من قرأه: {فرهانٌ مقبوضةٌ} لأنّ ذلك الجمع المعروف لما كان من اسمٍ على فعلٍ، كما يقال حبلٌ وحبالٌ، وكعبٌ وكعابٌ، ونحو ذلك من الأسماء، فأمّا جمع الفعل على الفعل أو الفعل فشاذٌّ قليلٌ إنّما جاء في أحرفٍ يسيرة، وقيل: سقفٌ وسقفٌ وسقفٌ، وقلبٌ وقلبٌ وقلبٌ من قلب النّخل، وجدٌّ وجدٌّ، للجدّ الّذي هو بمعنى الحظّ، وأمّا ما جاء من جمع فعلٍ على فعلٍ فثطٌّ وثطٌّ، ووردٌ ووردٌ، وجونٌ وجون
[جامع البيان: 5/123]
وإنّما دعا الّذي قرأ ذلك: (فرهنٌ مقبوضةٌ) إلى قراءته فيما أظنّ كذلك مع شذوذه في جمع فعلٍ، أنّه وجد الرّهان مستعملةً في رهان الخيل، فأحبّ صرف ذلك عن اللّفظ الملتبس برهان الخيل، الّذي هو بغير معنى الرّهان، الّذي هو جمع رهنٍ، ووجد الرّهن مقولاً في جمع رهنٍ، كما قال قعنبٌ:
بانت سعاد وأمسى دونها عدن = وغلقت عندها من قلبك الرّهن). [جامع البيان: 5/124]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {فإن أمن بعضكم بعضًا فليؤدّ الّذي اؤتمن أمانته وليتّق اللّه ربّه}
يعني بذلك جلّ ثناؤه: فإن كان المدين أمينًا عند ربّ المال والدّين فلم يرتهن منه في سفره رهنًا بدينه لأمانته عنده على ماله وثقته، فليتّق اللّه المدين ربّه، يقول: فليخف اللّه ربّه في الّذي عليه من دين صاحبه أن يجحده، أو يلطّ دونه، أو يحاول الذّهاب به، فيتعرّض من عقوبة اللّه ما لا قبل له به، وليؤدّ دينه الّذي ائتمنه عليه إليه.
وقد ذكرنا قول من قال: هذا الحكم من اللّه عزّ وجلّ ناسخٌ الأحكام الّتي في الآية قبلها من أمر اللّه عزّ وجلّ بالشّهود والكتاب، وقد دلّلنا على أولى ذلك بالصّواب من القول فيه فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع
[جامع البيان: 5/124]
- وقد: حدّثني يحيى بن أبي طالبٍ، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبرٌ، عن الضّحّاك، في قوله: {فإن أمن بعضكم بعضًا فليؤدّ الّذي اؤتمن أمانته} إنّما يعني بذلك في السّفر، فأمّا الحضر فلا وهو واجدٌ كاتبًا، فليس له أن يرتهن ولا يأمن بعضهم بعضًا
وهذا الّذي قاله الضّحّاك من أنّه ليس لربّ الدّين ائتمان المدين وهو واجدٌ إلى الكاتب والكتاب والإشهاد عليه سبيلاً وإن كانا في سفرٍ، فكما قال لما قد دلّلنا على صحّته فيما مضى قبل.
وأمّا ما قاله من الأمر في الرّهن أيضًا كذلك مثل الائتمان في أنّه ليس لربّ الحقّ الارتهان بماله إذا وجد إلى الكاتب والشّهيد سبيلاً في حضرٍ أو سفرٍ، فإنّه قولٌ لا معنى له؛ لصحّة الخبر عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه اشترى طعامًا نساءً، ورهن به درعًا له، فجائزٌ للرّجل أن يرهن بما عليه، ويرتهن بماله من حقٍّ في السّفر والحضر؛ لصحّة الخبر بما ذكرنا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، وأنّ معلومًا أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم لم يكن حين رهن ما ذكرنا غير واجدٍ كاتبًا ولا شهيدًا؛ لأنّه لم يكن متعذّرًا عليه بمدينته في وقتٍ من الأوقات الكاتب والشّاهد غير أنّهما إذا تبايعا برهنٍ، فالواجب عليهما إذا وجدا سبيلاً إلى كاتبٍ وشهيدٍ، وكان البيع أو الدّين إلى أجلٍ مسمًّى أن يكتبا ذلك ويشهدا على المال والرّهن، وإنّما يجوز ترك الكاتب والإشهاد في ذلك حيث لا يكون لهما إلى ذلك سبيلٌ). [جامع البيان: 5/125]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {ولا تكتموا الشّهادة ومن يكتمها فإنّه آثمٌ قلبه واللّه بما تعملون عليمٌ}
وهذا خطابٌ من اللّه عزّ وجلّ للشّهود الّذين أمر المستدين وربّ المال بإشهادهم، فقال لهم: ولا يأب الشّهداء إذا ما دعوا، ولا تكتموا أيّها الشّهود بعد ما شهدتم شهادتكم عند الحكّام، كما شهدتم على ما شهدتم عليه، ولكن أجيبوا من شهدتم له إذا دعاكم لإقامة شهادتكم على خصمه على حقّه عند الحاكم الّذي يأخذ له بحقّه، ثمّ أخبر الشّاهد جلّ ثناؤه ما عليه في كتمان شهادته وإبائه من أدائها والقيام بها عند حاجة المستشهد إلى قيامه بها عند حاكمٍ، أو ذي سلطانٍ، فقال: {ومن يكتمها} يعني ومن يكتم شهادته، {فإنّه آثمٌ قلبه} يقول: فاجرٌ قلبه، مكتسبٍ بكتمانه إيّاها معصية اللّه.
- كما: حدّثني المثنّى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: حدّثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرّبيع، في قوله: {ولا تكتموا الشّهادة ومن يكتمها فإنّه آثمٌ قلبه} فلا يحلّ لأحدٍ أن يكتم شهادةً هي عنده، وإن كانت على نفسه والوالدين، ومن يكتمها فقد ركب إثمًا عظيمًا.
- حدّثني موسى، قال: حدّثنا عمرٌو، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ، قوله: {ومن يكتمها فإنّه آثمٌ قلبه} يقول: فاجرٌ قلبه.
[جامع البيان: 5/126]
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا أبو صالحٍ، قال: حدّثني معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عبّاسٍ، قال: أكبر الكبائر الإشراك باللّه؛ لأنّ اللّه يقول: {منّ من يشرك باللّه فقد حرّم اللّه عليه الجنّة ومأواه النّار}، وشهادة الزّور، وكتمان الشّهادة، لأنّ اللّه عزّ وجلّ يقول: {ومن يكتمها فإنّه آثمٌ قلبه}
وقد روي عن ابن عبّاسٍ أنّه كان يقول: على الشّاهد أن يشهد حيثما استشهد ويخبر بها حيث استخبر.
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا سويدٌ، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن محمّد بن مسلمٍ، قال: أخبرنا عمرو بن دينارٍ، عن ابن عبّاسٍ، قال: إذا كانت عندك شهادةٌ فسألك عنها، فأخبره بها، ولا تقل: أخبر بها عند الأمير، أخبره بها لعلّه يراجع أو يرعوي
وأمّا قوله: {واللّه بما تعملون عليمٌ} فإنّه يعني بما تعملون في شهادتكم من إقامتها والقيام بها أو كتمانكم إيّاها عند حاجة من استشهدكم إليها، وبغير ذلك من سرائر أعمالكم وعلانيتها، {عليمٌ} يحصيه عليكم ليجزيكم بذلك كلّه جزاءكم، إمّا خيرًا، وإمّا شرًّا على قدر استحقاقكم). [جامع البيان: 5/127]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (وإن كنتم على سفرٍ ولم تجدوا كاتبًا فرهانٌ مقبوضةٌ فإن أمن بعضكم بعضًا فليؤدّ الّذي اؤتمن أمانته وليتّق اللّه ربّه ولا تكتموا الشّهادة ومن يكتمها فإنّه آثمٌ قلبه واللّه بما تعملون عليمٌ (283)
قوله: وإن كنتم على سفرٍ ولم تجدوا كاتبا
[الوجه الأول]
- حدّثنا أحمد بن محمّد بن يحيى بن سعيدٍ القطّان، ثنا أبو داود، ثنا ثابت بن يزيد، عن عاصمٍ الأحول، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ قال: إن لم تجدوا كاتبًا، ولم تجدوا قلمًا، ولا دواةً، قال: وذكر الصّحيفة ولم تجدوا كاتبًا يجمع ذلك كلّه. فقال: وكذلك كانت قراءة أبيٍّ.
[تفسير القرآن العظيم: 2/568]
- حدّثني أبو عبد اللّه الطّهرانيّ، ثنا حفص بن عمر، ثنا الحكم بن أبان، حدّثني عكرمة، عن ابن عبّاسٍ: الكتاب كثيرٌ، ولكنّه يعني: دواةً وقرطاسًا.
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا يحيى بن عبد اللّه، حدّثني عبد اللّه بن لهيعة حدّثني عطاء بن دينارٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، في قول اللّه: وإن كنتم على سفرٍ ولم تجدوا كاتبًا يعني: لم تقدروا على كتابة الدّين في السّفر.
والوجه الثّاني:
- حدّثنا أبي، ثنا المعلّى بن أسدٍ، ثنا خالد بن عبد اللّه، ابنا يزيد بن أبا زيادٍ، عن مقسمٍ، عن ابن عبّاسٍ، أنّه كان يقرأ ولم تجدوا كتابًا قال: ربّما وجدوا كتابًا، ولم يجدوا الدّواة والصّحيفة.
وروي عن مجاهدٍ وأبي العالية، نحو ذلك). [تفسير القرآن العظيم: 1/569]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله تعالى: فرهان مقبوضة
[الوجه الأول]
- حدّثنا أبو سعيدٍ الأشجّ، ثنا وكيعٌ، عن شريكٌ، عن سالمٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، في قوله: فرهانٌ مقبوضةٌ قال: لا يكون الرّهن إلا مقبوضًا يقبضه الّذي له المال.
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا يحى بن عبد اللّه، حدّثنا عبد اللّه بن لهيعة حدّثني عطاء بن دينارٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، في قول اللّه: فرهانٌ مقبوضةٌ يقول:
فليرتهن الّذي له الحقّ من المطلوب.
والوجه الثّاني:
- حدّثنا أبي، ثنا أبو حذيفة، ثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ فرهانٌ مقبوضةٌ قال: لا يكون الرّهن إلّا في السّفر.
الوجه الثّالث:
- حدّثنا عليّ بن الحسين، ثنا موسى بن هارون، ثنا مروانٌ، عن جويبرٍ عن الضّحّاك فرهن مقبوضةٌ يعني بذلك: أنّه لا يصلح إذا كان بيعًا في سفرٍ، إذا وجد كتابًا، أن يأخذ رهنًا، ولكن ليكتب حقّه إلى أجله.
[تفسير القرآن العظيم: 2/569]
والوجه الرّابع:
- حدّثنا عليّ بن الحسين، ثنا عبد اللّه بن عامر بن زرارة الخزّاز، ثنا شريكٌ، عن أبي بكرٍ، عن عامرٍ، في قوله: فرهانٌ مقبوضةٌ قال هي منسوخةٌ فإن أمن بعضكم بعضًا يعني: نسخه ذلك). [تفسير القرآن العظيم: 1/570]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: فإن أمن بعضكم بعضا
[الوجه الأول]
- حدّثنا أبي، ثنا إبراهيم بن مهديٍّ، ثنا محمد مروان العقيلي ابنا عبد الملك بن أبي نضرة، عن أبيه، عن أبي سعيدٍ الخدريّ، أنّه تلا هذه الآية: يا أيّها الّذين آمنوا إذا تداينتم بدينٍ حتّى بلغ فإن أمن بعضكم بعضًا قال: هذه نسخت ما قبلها.
- حدّثنا الحسن بن أبي الرّبيع، أبنا عبد الرّزّاق عن الثّوريّ ومعمرٌ عن ابن شبرمة، عن الشّعبيّ، في قوله: فإن أمن بعضكم بعضًا قال: لا بأس إذا أمنته، ألا تكتب ولا تشهد، لقوله: فإن أمن بعضكم بعضًا.
والوجه الثّاني:
- حدّثنا عليّ بن الحسين، ثنا موسى بن هارون، ثنا مروانٌ، عن جويبرٍ عن الضّحّاك فإن أمن بعضكم بعضًا فمن لم يجد، فإنّها عزمةٌ أن يكتب ويشهد، ولا يأخذ رهنًا إذا وجد كاتبًا، كما قال في الظّهار فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين وكما قال في جزاء الصّيد!! فما استيسر من الهدي فهذا يشبه بعضه بعضًا، وآية الدّين، حكمٌ حكمه اللّه وفصّله وبيّنه، فليس لأحدٍ أن يتخيّر في حكم اللّه.
والوجه الثّالث:
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا يحيى بن عبد اللّه بن بكيرٍ، حدّثني ابن لهيعة، حدّثني عطاء بن دينارٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، في قول اللّه: فإن أمن بعضكم بعضًا يقول: فإن كان الّذي عليه الحقّ أمينًا عند صاحب الحق، فلم يرتهن، لثقته، وحسن ظنه.
[تفسير القرآن العظيم: 2/570]
والوجه الرّابع:
- حدّثنا أبو جعفرٍ محمّد بن عمّارٍ، ثنا عبد الرّحمن بن عبد اللّه الدّشتكيّ، ثنا أبو سنانٍ، عن حمّاد بن أبي سليمان، في قوله: فإن أمن بعضكم بعضًا قال: أخلاقٌ، دلّهم عليها). [تفسير القرآن العظيم: 1/571]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله تعالى: فليؤدّ الّذي اؤتمن أمانته
- حدّثنا أبو سعيدٍ الأشج أبو معاوية عن إسماعيل بن أبي خالدٍ عن الشّعبيّ، في قوله: فليؤدّ الّذي اؤتمن أمانته قال: صار الأمر إلى الأمانة.
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا يحيى بن عبد اللّه بن بكيرٍ، حدّثني عبد اللّه ابن لهيعة، حدّثني عطاء بن دينارٍ عن سعيد بن جبيرٍ، في قول اللّه: فليؤدّ الّذي اؤتمن أمانته يقول: ليؤدّ الحقّ الّذي عليه إلى صاحبه). [تفسير القرآن العظيم: 1/571]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: وليتّق اللّه ربّه
- وبه عن سعيد بن جبيرٍ، قال: خوّف اللّه، الّذي عليه الحقّ، فقال: وليتّق اللّه ربّه). [تفسير القرآن العظيم: 1/571]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: ولا تكتموا الشّهادة
- وبه عن سعيد بن جبيرٍ، في قول اللّه: ولا تكتموا الشّهادة يعني:
عند الحكّام، يقول: من أشهد على حقٍّ، فليقمها على وجهها، كيف كانت.
- حدّثنا أبي، ثنا أحمد بن عبد الرّحمن، ثنا عبد اللّه بن أبي جعفرٍ عن أبيه عن الرّبيع ولا تكتموا الشّهادة فلا يحلّ لأحدٍ أن يكتم شهادةً هي عنده، وإن كانت على نفسه أو الوالدين أو الأقربين). [تفسير القرآن العظيم: 1/571]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله تعالى: ومن يكتمها
- حدّثنا أبي، ثنا أبو صالحٍ، حدّثني معاوية بن صالحٍ، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ، قال: ومن الكبائر، كتمان الشّهادة، لأنّ اللّه يقول: ومن يكتمها فإنّه آثمٌ قلبه
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا يحيى بن عبد اللّه، حدّثني عبد اللّه بن لهيعة
[تفسير القرآن العظيم: 2/571]
حدّثني عطاءٌ، عن سعيد بن جبيرٍ، في قول اللّه: ومن يكتمها يعني الشّهادة، لا يشهد بها إذا دعي لها، فإنّه آثمٌ قلبه). [تفسير القرآن العظيم: 1/572]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله تعالى: فإنّه آثمٌ قلبه
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا عمرو بن حمّادٍ، ثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ، قوله: فإنّه آثمٌ قلبه يقول: فاجر قلبه). [تفسير القرآن العظيم: 1/572]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: واللّه بما تعملون عليمٌ
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا يحيى بن عبد اللّه، حدّثني عبد اللّه بن لهيعة حدّثني عطاء بن دينارٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، في قول اللّه: واللّه بما تعملون عليمٌ يعني: من كتمان الشّهادة، وإقامتها عليهم). [تفسير القرآن العظيم: 1/572]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (أخرج أبو عبيد وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير وابن
[الدر المنثور: 3/407]
المنذر، وابن أبي حاتم، وابن الأنباري في المصاحف من طرق عن ابن عباس أنه قرأ (ولم تجدوا كتابا) وقال: قد يوجد الكاتب ولا يوجد القلم ولا الدواة ولا الصحيفة والكتاب يجمع ذلك كله قال: وكذلك كانت قراءة أبي.
وأخرج عبد بن حميد عن أبي العالية أنه كان يقرأ (فإن لم تجدوا كتابا) قال: يوجد الكاتب ولا توجد الدواة ولا الصحيفة.
وأخرج ابن الأنباري عن الضحاك، مثله.
وأخرج أبو عبيد، وعبد بن حميد، وابن الأنباري عن عكرمة أنه قرأها (فإن لم تجدوا كتابا).
وأخرج أبو عبيد، وعبد بن حميد، وابن الأنباري عن مجاهد أنه قرأها (فإن لم تجدوا كتابا) قال: مدادا.
وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس أنه كان يقرؤها (فإن لم تجدوا كتابا) وقال: الكتاب كثير لم يكن حواء من العرب إلا كان فيهم كاتب ولكن كانوا لا يقدرون على القرطاس والقلم والدواة
[الدر المنثور: 3/408]
وأخرج ابن الأنباري عن ابن عباس أنه كان يقرأ (ولم تجدوا كتابا) بضم الكاف وتشديد التاء.
وأخرج الحاكم وصححه عن زيد بن ثابت قال: أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم (فرهن مقبوضة) بغير ألف.
وأخرج سعيد بن منصور عن حميد الأعرج وإبراهيم أنهما قرآ (فرهن مقبوضة).
وأخرج سعيد بن منصور عن الحسن وأبي الرجاء أنهما قرآ {فرهان مقبوضة}.
وأخرج ابن جرير عن الضحاك في قوله {وإن كنتم على سفر} الآية، قال: من كان على سفر فبايع بيعا إلى أجل فلم يجد كاتبا فرخص له في الرهان المقبوضة وليس له إن وجد كاتبا أن يرتهن.
وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله {وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة} قال: لا يكون الرهان إلا في السفر
[الدر المنثور: 3/409]
وأخرج البخاري ومسلم والنسائي، وابن ماجة والبيهقي عن عائشة قالت اشترى رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاما من يهودي بنسيئة ورهنه درعا له من حديد.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله {وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا} يعني لم تقدروا على كتابة الدين في السفر {فرهان مقبوضة} يقول: فليرتهن
الذي له الحق من المطلوب {فإن أمن بعضكم بعضا} يقول: فإن كان الذي عليه الحق أمينا عند صاحب الحق فلم يرتهن لثقته وحسن ظنه {فليؤد الذي اؤتمن أمانته} يقول: ليؤد الحق الذي عليه إلى صاحبه وخوف الله الذي عليه الحق فقال {وليتق الله ربه ولا تكتموا الشهادة} يعني عند الحكام يقول: من أشهد على حق فليقمها على وجهها كيف كانت {ومن يكتمها} يعني الشهادة ولا يشهد بها إذا دعي لها {فإنه آثم قلبه والله بما تعملون عليم} يعني من كتمان الشهادة وإقامتها.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: لا يكون الرهن إلا مقبوضا يقبضه الذي له المال ثم قرأ {فرهان مقبوضة}
[الدر المنثور: 3/410]
وأخرج البخاري في التاريخ الكبير وأبو داود والنحاس معا في الناسخ، وابن ماجة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في "سننه" بسند جيد عن أبي سعيد الخدري، أنه قرأ هذه الآية {يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين} حتى إذا بلغ {فإن أمن بعضكم بعضا} قال: هذه نسخت ما قبلها.
وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم والبيهقي عن الشعبي قال: لا بأس إذا أمنته أن لا تكتب ولا تشهد لقوله {فإن أمن بعضكم بعضا}.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع {ولا تكتموا الشهادة} قال: لا يحل لأحد أن يكتم شهادة هي عنده وإن كانت على نفسه أو الوالدين أو الأقربين.
وأخرج ابن جرير عن السدي في قوله {آثم قلبه} قال: فاجر قلبه). [الدر المنثور: 3/411]

تفسير قوله تعالى: (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284) )
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (نا معمر عن قتادة في قوله تعالى وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله قال نسخها قوله تعالى لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت الآية). [تفسير عبد الرزاق: 1/111]
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (نا معمر قال سمعت الزهري يقول إن ابن عمر قرأ وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه فبكى وقال أإنا لمؤاخذون بما نحدث به أنفسنا فبكى حتى سمع نشيجه فقام رجل من عنده فأتى ابن عباس فذكر له ذلك فقال رحم الله ابن عمر لقد وجد المسلمون نحوا مما وجد حتى نزلت بعدها لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت). [تفسير عبد الرزاق: 1/112]
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (نا جعفر بن سليمان عن حميد الأعرج عن مجاهد قال كنت عند ابن عمر فقرأ لله ما في السموات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم إلى قوله تعالى قدير فبكى قال فانطلقت حتى أتيت على ابن عباس قلت يا أبا عباس كنت عند ابن عمر آنفا فقرأ هذه الآية فبكى قال أية آية قال قلت لله ما في السموات وما في الأرض إلى قدير قال فضحك ابن
[تفسير عبد الرزاق: 1/113]
عباس وقال يرحم الله ابن عمر أو ما يدري فيما أنزلت وكيف أنزلت إن هذه الآية حين أنزلت غمت أصحاب رسول الله غما شديدا أو غاظتهم غيظا شديدا وقالوا يا رسول الله هلكنا إنما كنا نؤخذ بما تكلمنا فأما ما تعقل قلوبنا ليست بأيدينا فقال لهم رسول الله قولوا سمعنا وأطعنا قال فنسختها هذه الآية آمن الرسول إلى وعليها ما اكتسبت قال فتجوز لهم عن حديث النفس وأخذوا بالأعمال). [تفسير عبد الرزاق: 1/114]
قالَ سعيدُ بنُ منصورٍ بن شعبة الخراسانيُّ: (ت:227هـ): ( [قوله تعالى: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله... } إلى قوله: {فانصرنا على القوم الكافرين} ]
- حدّثنا سعيدٌ، قال: نا خالد بن عبد اللّه، عن يزيد بن أبي زيادٍ، عن مجاهدٍ، عن ابن عبّاسٍ - في قوله عزّ وجلّ: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه} -، (قال): نزلت في الشهادة.
[سنن سعيد بن منصور: 3/1004]
- حدّثنا سعيدٌ، قال: نا عتّاب بن بشيرٍ، عن خصيف، عن مجاهدٍ - في قوله عزّ وجلّ: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه} -، قالوا: فشقّ ذلك عليهم، قالوا: يا رسول اللّه، إنّا لنحدّث أنفسنا بشيءٍ ما يسرّنا أن يطّلع عليه أحدٌ من الخلائق وأنّا لنا كذا وكذا؟ قال: ((أوقد لقيتم هذا؟ ذلك صريح الإيمان))، فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {آمن الرّسول بما أنزل إليه من ربّه... } الآيتين.
[سنن سعيد بن منصور: 3/1005]
.....
- حدّثنا سعيدٌ، قال: نا خالد بن عبد اللّه، عن بيان، عن عامرٍ الشّعبي قال: نسخت هذه الآية: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه} ما بعدها: {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت}.
[سنن سعيد بن منصور: 3/1016]
- حدّثنا سعيدٌ، قال: نا هشيمٌ قال: نا سيّار، عن الشّعبيّ، قال: لمّا نزلت: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله}، فكانت فيها شدّةٌ، فنزلت هذه الآية الّتي بعدها فنسختها: {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت}.
- حدّثنا سعيدٌ، قال: نا هشيمٌ، قال: نا جويبر، عن الضّحّاك، عن عائشة رضي اللّه عنها - في قوله عزّ وجلّ: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذّب من يشاء}، (قالت): هو الرّجل يهمّ بالمعصية ولا يعملها، فيرسل عليه من الغمّ والحزن بقدر ما كان همّ به من المعصية، فتلك محاسبته))
[سنن سعيد بن منصور: 3/1017]
- حدّثنا سعيدٌ، قال: نا هشيمٌ، قال: نا جويبر، عن الضّحّاك، عن ابن مسعودٍ قال: " نسختها الآية الّتي بعدها: {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت}). [سنن سعيد بن منصور: 3/1018]
قال أبو بكرٍ عبدُ الله بنُ محمدٍ ابنُ أبي شيبةَ العبسيُّ (ت: 235هـ): (حدّثنا ابن فضيلٍ، عن البراء بن سليمٍ، عن نافعٍ، عن ابن عمر، قال: ما تلا هذه الآية قطّ إلاّ بكى: {إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه}). [مصنف ابن أبي شيبة: 19/ 196]
قال أبو بكرٍ عبدُ الله بنُ محمدٍ ابنُ أبي شيبةَ العبسيُّ (ت: 235هـ): (حدّثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا سفيان بن حسينٍ، عن الزّهريّ، عن سالم بن عبد الله أنّ ابن عمر قرأ: {وإن تبدوا ما في أنفسكم، أو تخفوه يحاسبكم به اللّه} الآية فدمعت عيناه فبلغ صنيعه ابن عبّاسٍ، فقال: يرحم اللّه أبا عبد الرّحمن، لقد صنع كما صنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزلت، فنسختها الآية الّتي بعدها {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت}). [مصنف ابن أبي شيبة: 19/ 454]
قال محمدُ بنُ إسماعيلَ بن إبراهيم البخاريُّ (ت: 256هـ): (باب {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه، فيغفر لمن يشاء ويعذّب من يشاء، واللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ} [البقرة: 284]

[صحيح البخاري: 6/33]
- حدّثنا محمّدٌ، حدّثنا النّفيليّ، حدّثنا مسكينٌ، عن شعبة، عن خالدٍ الحذّاء، عن مروان الأصفر، عن رجلٍ من أصحاب النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وهو ابن عمر: " أنّها قد نسخت: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه} [البقرة: 284] " الآية). [صحيح البخاري: 6/33]
- قال أحمدُ بنُ عَلَيِّ بنِ حجرٍ العَسْقَلانيُّ (ت: 852هـ): ( (قوله باب قوله تعالى وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه الآية)
كذا لأبي ذرٍّ وساق غيره الآية إلى قديرٍ
- قوله حدّثنا محمّدٌ كذا للأكثر وبه صرّح الإسماعيليّ وأبو نعيمٍ وغيرهما ووقع لأبي عليّ بن السّكن عن الفربريّ عن البخاريّ حدّثنا النّفيليّ فأسقط ذكر محمّدٍ المهمل والصّواب إثباته ولعلّ بن السّكن ظنّ أنّ محمّدًا هو البخاريّ فحذفه وليس كذلك لما ذكرته وذكر أبو عليٍّ الجيّانيّ أنّه وقع محذوفًا في رواية أبي محمّدٍ الأصيليّ عن أبي أحمد الجرجانيّ وأشار إلى أنّ الصّواب إثباته انتهى وكلام أبي نعيمٍ في المستخرج يقتضي أنّه في روايته عن الجرجانيّ ثابتٌ وقد ثبت في رواية النّسفيّ عن البخاريّ أيضًا واختلف فيه فقال الكلاباذي هو بن يحيى الذّهليّ فيما أراه قال وقال لي الحاكم هو محمّد بن إبراهيم البوشنجيّ قال وهذا الحديث ممّا أملاه البوشنجيّ بنيسابور انتهى وذكر الحاكم هذا الكلام في تاريخه عن شيخه أبي عبد اللّه بن الأخرم وكلام أبي نعيمٍ يقتضي أنّه محمّد بن إدريس أبو حاتمٍ الرّازيّ فإنّه أخرجه من طريقه ثمّ قال أخرجه البخاريّ عن محمّدٍ عن النّفيليّ والنّفيليّ بنونٍ وفاءٍ مصغّرٌ اسمه عبد اللّه بن محمّد بن عليّ بن نفيلٍ يكنّى أبا جعفرٍ وليس له في البخاريّ ولا لشيخه مسكين بن بكيرٍ الحرّانيّ إلّا هذا الحديث الواحد قوله حدّثنا شعبة قال أبو عليٍّ الجيّانيّ وقع في رواية أبي محمّدٍ الأصيليّ عن أبي أحمد حدّثنا مسكينٌ وشعبة وكتب بين الأسطر أراه حدّثنا شعبة قال أبو عليٍّ وهذا هو الصّواب لا شكّ فيه ومسكينٌ هذا إنّما يروي عن شعبة قوله عن مروان الأصفر تقدّم ذكره في الحجّ وأنّه ليس له في البخاريّ سوى هذا الحديث الواحد وآخر في الحجّ قوله عن رجلٍ من أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وهو بن عمر لم يتّضح لي من هو الجازم بأنّه بن عمر فإنّ الرّواية الآتية بعد هذه وقعت بلفظ أحسبه بن عمر وعندي في ثبوت كونه بن عمر توقف لأنّه ثبت أن بن عمر لم يكن اطّلع على كون هذه الآية منسوخةً فروى أحمد من طريق مجاهدٍ قال دخلت على بن عبّاس فقلت كنت عند بن عمر فقرأ وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه فبكى فقال بن عبّاسٍ إنّ هذه الآية لمّا أنزلت غمّت أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم غمّا شديدًا وقالوا يا رسول اللّه هلكنا فإنّ قلوبنا ليست بأيدينا فقال قولوا سمعنا وأطعنا فقالوا فنسختها هذه الآية لا يكلّف الله نفسا إلّا وسعها وأصله عند مسلمٌ من طريق سعيد بن جبيرٍ عن بن عبّاس دون قصّة بن عمر وأخرج الطّبريّ بإسنادٍ صحيحٍ عن الزّهريّ أنه سمع سعيد بن مرجانة يقول كنت عند بن عمر فتلا هذه الآية وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه فقال واللّه لئن واخذنا اللّه بهذا لنهلكنّ ثمّ بكى حتّى سمع نشيجه فقمت حتّى أتيت بن عبّاس فذكرت له ما قال بن عمر وما فعل حين تلاها فقال يغفر اللّه لأبي عبد الرّحمن لعمري لقد وجد المسلمون حين نزلت مثل ما وجد فأنزل الله لايكلف الله نفسا إلّا وسعها وروى مسلمٌ من حديث أبي هريرة قال لمّا نزلت للّه ما في السّماوات وما في الأرض الآية اشتدّ ذلك على أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فذكر القصّة مطوّلًا وفيها فلمّا فعلوا نسخها اللّه فأنزل اللّه لايكلف الله نفسا إلّا وسعها إلى آخر السّورة ولم يذكر قصّة بن عمر ويمكن أن بن عمر كان أوّلًا لا يعرف القصّة ثمّ لمّا تحقّق ذلك جزم به فيكون مرسل صحابيّ والله أعلم). [فتح الباري: 8/206]
- قال محمودُ بنُ أحمدَ بنِ موسى العَيْنِيُّ (ت: 855هـ): ( (بابٌ: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذّب من يشاء والله على كلّ شيءٍ قديرٌ} (البقرة: 284).
أي: هذا باب فيه قوله تعالى: {وإن تبدوا ما في إنفسكم} إلى آخره هكذا في رواية الأكثرين أن الآية المذكورة سبقت إلى آخرها وفي رواية أبي ذر إلى قوله: (أو تخفوه) في (تفسير ابن المنذر) عن ابن عبّاس ومولاه نزلت هذه الآية في كتمان الشّهادة. وقال ابن أبي حاتم وروى عن الشّعبيّ ومقسم مثله وفي (صحيح مسلم) عن أبي هريرة: لما نزلت هذه الآية الكريمة قالت الصحابية يا رسول الله، كافنا من الأعمال ما نطيق الصّلاة والصّيام والجهاد والصّدقة. وقد أنزلت هذه الآية لانطيقها. فقال النّبي صلى الله عليه وسلم: لا أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتاب من قبلكم سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: {سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير} (البقرة: 285) فلمّا أقرأها القوم زلت ألسنتهم فأنزل الله عز وجل: {آمن الرّسول} إلى {وإليك المصير} فلمّا فعلوا ذلك نسخها الله تعالى فأنزل {لا يكلف الله نفسا إلّا وسعها} (البقرة: 286) إلى قوله: {أخطأنا} وعند الواحدي الصّحابة الّذين قالوا ذلك أبو بكر وعمر وعبد الرّحمن بن عوف ومعاذ بن جبل وناس من الأنصار، رضي الله تعالى عنهم، فقالوا: ما نزلت آية أشد علينا من هذه الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هكذا أنزلت. فقولوا: سمعنا وأطعنا. فمكثوا بذلك حولا فأنزل الله عزل وجل الفرج والراحة بقوله: {لا يكلف الله نفسا إلّا وسعها} فنسخت هذه الآية ما قبلها. وقال صلى الله عليه وسلم: إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم يعملوا أو يتكلموا به، وعند النّحاس، قال ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما: هذه الآية لم تنسخ، ووجه ما قاله بأن هذه الآية خبر، والأخبار لا يلحقها ناسخ ولا منسوخ. قيل: ومن زعم أن من الأخبار ناسخا هذه الآية لم تنسخ، ووجه ما قاله بأن هذه الآية خبر، والأخبار لا يلحقها ناسخ ولا منسوخ قيل: ومن زعم أن من الأبخار ناسخا ومنسوخا فقد ألحد وأجهل. وأجيب بأنّه وإن كان خبرا لكنه يتضمّن حكما ومهما كان من الأخبار ما يتضمّن حكما أمكن دخول النّسخ فيه كسائر الأحكام وإنّما الّذي لا يدخله النّسخ من الأخبار وما كان خبرا محضا لا يتضمّن حكما كالأخبار عمّا مضى من أحاديث الأمم ونحو ذلك: وقيل: يحتمل أن يكون المراد بالنسخ في الحديث التّخصيص، فإن المتقدّمين يطلقون لفظ النّسخ عليه كثيرا وفي (تفسير ابن أبي حاتم) من طريق عليّ بن أبي طلحة عن ابن عبّاس: هذه الآية لم تنسخ، ولكن إذا جمع الله الخلائق يقول إنّي أخبركم ما أخفيتم في أنفسكم ممّا لم يطلع عليه ملائكتي، فأما المؤمنون فيخبرهم ثمّ يغفر لهم، وأما أهل الريب فيخبرهم بما أخفوا من التّكذيب فذلك قوله: {يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء}.
- حدّثنا محمّدٌ حدّثنا النّفيليّ حدّثنا مسكينٌ عن شعبة عن خالدٍ الحذّاء عن مروان الأصفر عن رجلٍ من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو ابن عمر أنّها قد نسخت {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه} الآية مطابقته للتّرجمة ظاهرة ومحمّد شيخ البخاريّ الّذي ذكره مجردا هو ابن يحيى الذهلي قال الكلاباذي وقال الحاكم هو محمّد بن إبراهيم البوشنجي وقيل كلام أبي نعيم يقتضى أنه محمّد بن إدريس أبي حاتم الرّازيّ فإنّه أخرجه من طريقه ثمّ قال أخرجه البخاريّ عن محمّد عن النّفيلي وقاله الجياني كذا هو في أكثر النّسخ يعني حدثنا محمّد حدثنا النّفيلي وسقط من كتاب ابن السكن -.
[عمدة القاري: 18/133]
ذكر محمّد، وإنّما فيه حدّثنا النّفيلي وهو عبد الله بن محمّد بن عليّ بن نفيل البخاريّ، والصّواب ثبوته، وزعم ابن السكن أن محمّدًا هو البخاريّ فحذفه، وليس كذلك، ومسكين أخو الفقير بن بكير مصغر بكر أبو عبد الرّحمن الحرّاني، بفتح الحاء المهملة وتشديد الرّاء وبالنون نسبة إلى حران مدينة بالشرق واليوم خرابة، مات سنة ثمان وتسعين ومائة وليس له في البخاريّ إلاّ هذا ومروان الأصفر، ويقال له الأحمر أيضا وقد تقدم في الحج وليس له إلاّ هذا الحديث وآخر في الحج.
قوله: (عن رجل من أصحاب النّبي صلى الله عليه وسلم)، وهو ابن عمر، أبهم أولا ثمّ أوضح ثانيًا بأنّه عبد الله بن عمر، قال الكرماني: هذا التّوضيح من الرّاوي عن مروان، أو تذكر بعد نسيانه، وقال بعضهم: لم يتّضح لي من هو الجازم بأنّه ابن عمر. فإن الرّواية الآتية بعد هذه بلفظ: أحسبه ابن عمر. قلت: لا يحتاج إلى إيضاح الجازم إيّاه لأنّه أحد رواه الحديث على كل حال. وهم ثقات، وقد جزم في هذه الرّواية بأنّه ابن عمر. وقوله في الرّواية الأخرى: أحسبه يحتمل أن يكون قبل جزمه بأنّه ابن عمر فلمّا تحقق ابن عمر ذكره بالجزم. وقال ابن التّين إن ثبت هذا عن ابن عمر، رضي الله تعالى عنهما، فمعنى النّسخ هنا العفو والوضع. قوله: (أنّها نسخت)، ويروى أنه قال أنّها نسخت، أي: أن قوله: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله} وقوله: (وإن تبدوا) إلى آخره بيان لما قبله، وهو أن المنسوخ هو قوله: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله} فإن قلت: روى أحمد من طريق مجاهد. قال: دخلت على ابن عبّاس. فقلت: عبد الله بن عمر، فقرأ {وإن تبدوا ما في أنفسكم يحاسبكم به الله} فبكى. وقال ابن عبّاس: إن هذه الآية لما نزلت غمت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، غما شديدا. وقالوا: يا رسول الله! هلكنا، فإن قلوبنا ليست بأيدينا فقال: قولوا سمعنا وأطعنا. فقالوا: فنسختها هذه الآية: {لا يكلف الله نفسا إلاّ وسعها} انتهى. فهذا يدل على أن ابن عمر لم يطلع على كون هذه الآية منسوخة. قلت: أجيب بأنّه يمكن أن ابن عمر لم يكن عرف القصّة أولا. ثمّ لما تحقق ذلك جزم بالنسخ، فيكون مرسل صحابيّ). [عمدة القاري: 18/134]
- قال أحمدُ بنُ محمدِ بن أبي بكرٍ القَسْطَلاَّنيُّ (ت: 923هـ) : (باب {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه فيغفر لمن يشاء ويعذّب من يشاء واللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ} [البقرة: 284]
هذا (باب) بالتنوين ({وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه}) من السوء فيها ({يحاسبكم به الله}) يوم القيامة ({فيغفر لمن يشاء}) مغفرته ({ويعذب من يشاء}) تعذيبه ويغفر ويعذب مجزومان عطفًا على الجزاء المجزوم ورفعهما ابن عامر وعاصم خبر مبتدأ محذوف أي فهو يغفر ({والله على كل شيء قدير}) [البقرة: 284] فيقدر على الإحياء والمحاسبة. وسقط قوله: {يحاسبكم} إلى آخر الآية لأبي ذر وقال بعد {أو تخفوه} الآية، ولما نزلت هذه الآية اشتدّ ذلك على الصحابة رضي الله تعالى عنهم وخافوا منها ومن محاسبة الله لهم على جليل الأعمال وحقيرها.
- حدّثنا محمّدٌ حدّثنا النّفيليّ، حدّثنا مسكينٌ عن شعبة، عن خالدٍ الحذّاء عن مروان الأصفر، عن رجلٍ من أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وهو ابن عمر أنّها قد نسخت {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه} الآية. [الحديث 4545 - طرفه في: 4546].
وبه قال: (حدّثنا محمد) غير منسوب فقيل هو ابن يحيى الذهلي قاله الكلاباذي، وقيل
[إرشاد الساري: 7/47]
ابن إبراهيم البوشنجي قاله الحاكم وقيل ابن إدريس الرازي قال: (حدّثنا النفيلي) بضم النون وفتح
الفاء وسكون التحتية عبد الله بن محمد بن علي بن نفيل قال: (حدّثنا مسكين) بكسر الميم وسكون السين المهملة ابن بكير الحراني وليس له ولا للنفيلي في البخاري إلا هذا الحديث (عن شعبة) بن الحجاج العتكي مولاهم (عن خالد الحذاء) بالحاء المهملة والذال المعجمة المشدّدة ممدودًا ابن مهران أبي المنازل بفتح الميم وكسر الزاي البصري (عن مروان الأصفر) أبي خليفة البصري قيل اسم أبيه خاقان وقيل سالم (عن رجل من أصحاب النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وهو ابن عمر) بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما (أنها قد نسخت) بضم النون مبنيًا للمفعول وسقط لفظ أنها لأبي ذر ({وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه} الآية) نسختها الآية التي بعدها كما قال في التي بعد.
وعند الإمام أحمد من حديث أبي هريرة: لما نزلت {وإن تبدوا ما في أنفسكم} الآية اشتد ذلك على الصحابة فأتوا رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم ثم جثوا على المركب وقالوا: يا رسول الله كلفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة والصيام والجهاد، وقد أنزل عليك هذه الآية ولا نطيقها فقال رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم: "أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم سمعنا وعصينا بل قولوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير" فلما قرأها القوم وذلت بها ألسنتهم أنزل الله في أثرها: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون} إلى {وإليك المصير} [البقرة: 285] فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى فأنزل {لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها} [البقرة: 286] إلى آخرها.
ورواه مسلم منفردًا به ولفظه: فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى فأنزل الله: {لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} قال: نعم {ربنا ولا تحمل علينا إصرًا كما حملته على الذين من قبلنا} قال: نعم {ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به} قال: نعم {واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين} [البقرة: 286] قال: نعم). [إرشاد الساري: 7/48]
قال محمدُ بنُ عيسى بنِ سَوْرة التِّرْمِذيُّ (ت: 279هـ) : (حدّثنا عبد بن حميدٍ، قال: حدّثنا الحسن بن موسى، وروح بن عبادة، عن حمّاد بن سلمة، عن عليّ بن زيدٍ، عن أميّة، أنّها سألت عائشة، عن قول الله تعالى: {إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه} وعن قوله: {من يعمل سوءًا يجز به} فقالت: ما سألني عنها أحدٌ منذ سألت رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم فقال: هذه معاتبة الله العبد بما يصيبه من الحمّى والنّكبة حتّى البضاعة يضعها في كمّ قميصه فيفقدها فيفزع لها حتّى إنّ العبد ليخرج من ذنوبه كما يخرج التّبر الأحمر من الكير.
هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ من حديث عائشة، لا نعرفه إلاّ من حديث حمّاد بن سلمة). [سنن الترمذي: 5/71]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {للّه ما في السّموات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه فيغفر لمن يشاء ويعذّب من يشاء واللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ}
يعني جلّ ثناؤه بقوله: {للّه ما في السّموات وما في الأرض} للّه ملك كلّ ما في السّموات وما في الأرض من صغيرٍ وكبيرٍ وقليل،وكثير وإليه تدبير جميعه، وبيده صرفه وتقليبه، لا يخفى عليه منه شيءٌ؛ لأنّه مدبّره ومالكه ومصرّفه
[جامع البيان: 5/127]
وإنّما عنى بذلك جلّ ثناؤه كتمان الشّهود الشّهادة، يقول: لا تكتموا الشّهادة أيّها الشّهود، ومن يكتمها يفجر قلبه، ولن يخفى عليّ كتمانه، وذلك لأنّي بكلّ شيءٍ عليمٌ، وبيدي صرف كلّ شيءٍ في السّماوات والأرض وملكه، أعلم خفيّ ذلك وجليّه، فاتّقوا عقابي إيّاكم على كتمانكم الشّهادة. وعيدًا من اللّه بذلك من كتمها وتخويفًا منه له به،
ثمّ أخبرهم عمّا هو فاعلٌ بهم في آخرتهم وبمن كان من نظرائهم ممّن انطوى كشحًا على معصيةٍ فأضمرها، أو أظهر موبقةً فأبداها من نفسه من المحاسبة عليها، فقال: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه} يقول: وإن تظهروا فيما عندكم من الشّهادة على حقّ ربّ المال الجحود والإنكار، أو تخفوا ذلك فتضمروه في أنفسكم وغير ذلك من سيّئ أعمالكم، {يحاسبكم به اللّه} يعني بذلك: يحتسب به عليكم من أعماله، فيجازي من شاء منكم من المسيئين بسوء عمله، وغافرٌ لمن شاء منكم من المسيئين
ثمّ اختلف أهل التّأويل فيما عنى بقوله: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه} فقال بعضهم بما قلنا من أنّه عنى به الشّهود في كتمانهم الشّهادة، وأنّه لاحقٌ بهم كلّ من كان من نظرائهم ممّن أضمر معصيةً أو أبداها.
[جامع البيان: 5/128]
ذكر من قال ذلك:
- حدّثني أبو زائدة زكريّا بن يحيى بن أبي زائدة، قال: حدّثنا أبن فضيلٍ، عن يزيد بن أبي زيادٍ، عن مجاهدٍ، عن ابن عبّاسٍ، في قوله: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه} يقول: يعني في الشّهادة.
- حدّثنا ابن بشّارٍ، قال: حدّثنا أبو أحمد، قال: حدّثنا سفيان، عن يزيد بن أبي زيادٍ، عن مقسمٍ، عن ابن عبّاسٍ في قوله: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه} قال: في الشّهادة.
- حدّثنا محمّد بن المثنّى، قال: حدّثنا عبد الأعلى، قال: سئل داود عن قوله: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه} فحدّثنا عن عكرمة، قال: هي الشّهادة إذا كتمتها.
- حدّثنا ابن المثنّى، قال: حدّثنا محمّد بن جعفرٍ، قال: حدّثنا شعبة، عن عمرٍو وأبي سعيدٍ أنّه سمع عكرمة يقول في هذه الآية: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه} قال: في الشّهادة.
- حدّثنا ابن بشّارٍ، قال: حدّثنا أبو أحمد، قال: حدّثنا سفيان، عن السّدّيّ، عن الشّعبيّ، في قوله: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه} قال: في الشّهادة.
[جامع البيان: 5/129]
- حدّثنا يعقوب، قال: حدّثنا هشيمٌ، قال: أخبرنا يزيد بن أبي زيادٍ، عن مقسمٍ، عن ابن عبّاسٍ أنّه قال في هذه الآية: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه} قال: نزلت في كتمان الشّهادة وإقامتها.
- حدّثني يحيى بن أبي طالبٍ قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبرٌ، عن عكرمة في قوله: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه} يعني كتمان الشّهادة وإقامتها على وجهها
وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية إعلامًا من اللّه تبارك وتعالى عباده أنّه مؤاخذهم بما كسبته أيديهم وحدّثتهم به أنفسهم ممّا لم يعملوه،
ثمّ اختلف متأوّلو ذلك كذلك، فقال بعضهم: ثمّ نسخ اللّه ذلك بقوله: {لا يكلّف اللّه نفسًا إلاّ وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت}.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثنا أبو كريبٍ، قال: حدّثنا إسحاق بن سليمان، عن مصعب بن ثابتٍ، عن العلاء بن عبد الرّحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: لمّا نزلت: {للّه ما في السّموات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه} اشتدّ ذلك على القوم، فقالوا: يا رسول اللّه، إنّا لمؤاخذون بما نحدّث به أنفسنا؟ هلكنا، فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {لا يكلّف اللّه نفسًا إلاّ وسعها} الآية، إلى قوله: {ربّنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} قال أبي: قال أبو هريرة: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: قال اللّه: نعم {ربّنا ولا تحمل علينا إصرًا كما حملته على الّذين من قبلنا} إلى آخر الآية، قال أبي: قال أبو هريرة: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: قال اللّه عزّ وجلّ: نعم.
[جامع البيان: 5/130]
- حدّثنا أبو كريبٍ، قال: حدّثنا وكيعٌ، وحدّثنا سفيان بن وكيعٍ، قال: حدّثنا ابى عن سفيان، عن آدم بن سليمان، مولى خالد بن خالدٍ، قال: سمعت سعيد بن جبيرٍ، يحدّث عن ابن عبّاسٍ، قال: لمّا نزلت هذه الآية: {إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه فيغفر لمن يشاء ويعذّب من يشاء} دخل قلوبهم منها شيءٌ لم يدخلها من شيءٍ، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم:قولوا سمعنا وأطعنا وسلّمنا قال: فألقى اللّه عزّ وجلّ الإيمان في قلوبهم، قال: فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {آمن الرّسول بما أنزل إليه من ربّه} قال أبو كريبٍ: فقرأ: {ربّنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} قال: فقال: قد فعلت {ربّنا ولا تحمل علينا إصرًا كما حملته على الّذين من قبلنا} قال: قد فعلت {ربّنا ولا تحمّلنا ما لا طاقة لنا به} قال: قد فعلت {واعف عنّا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين} قال: قد فعلت.
[جامع البيان: 5/131]
- حدّثني أبو الرّدّادٍ المصريّ عبد اللّه بن عبد السّلام، قال: حدّثنا أبو زرعة وهب اللّه بن راشدٍ، عن حيوة بن شريحٍ، قال: سمعت يزيد بن أبي حبيبٍ، يقول: قال ابن شهابٍ: حدّثني سعيد بن مرجانة، قال: جئت عبد اللّه بن عمر، فتلا هذه الآية: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه فيغفر لمن يشاء ويعذّب من يشاء} ثمّ قال ابن عمر: لئن أخذنا بهذه الآية لنهلكنّ ثمّ بكى ابن عمر حتّى سالت دموعه، قال: ثمّ جئت عبد اللّه بن العبّاس، فقلت: يا أبا عبّاسٍ، إنّي جئت ابن عمر فتلا هذه الآية: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه} الآية، ثمّ قال: لئن أخذنا بهذه الآية لنهلكنّ، ثمّ بكى حتّى سالت دموعه، فقال ابن عبّاسٍ: يغفر اللّه لعبد اللّه بن عمر لقد فرق أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم منها كما فرق ابن عمر منها فأنزل اللّه: {لا يكلّف اللّه نفسًا إلاّ وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} فنسخ اللّه الوسوسة، وأثبت القول والفعل.
- حدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: أخبرني يونس بن يزيد، عن ابن شهابٍ، عن سعيد بن مرجانة يحدّث: أنّه بينا هو جالسٌ مع عبد اللّه بن عمر تلا هذه الآية: {للّه ما في السّموات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه} الآية، فقال: واللّه لئن أخذنا اللّه بهذا لنهلكنّ، ثمّ بكى ابن عمر حتّى سمع نشيجه، فقال ابن مرجانة: فقمت حتّى أتيت ابن عبّاسٍ، فذكرت له ما تلا ابن عمر، وما فعل حين تلاها، فقال عبد اللّه بن عبّاسٍ: يغفر اللّه لأبي عبد الرّحمن، لعمري لقد وجد المسلمون منها حين أنزلت مثل ما وجد عبد اللّه بن عمر فأنزل اللّه بعدها: {لا يكلّف اللّه نفسًا إلاّ وسعها} إلى آخر السّورة. قال ابن عبّاسٍ: فكانت هذه الوسوسة ممّا لا طاقة للمسلمين بها، وصار الأمر إلى أن قضى اللّه عزّ وجلّ أنّ للنّفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت في القول والفعل.
[جامع البيان: 5/132]
- حدّثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرّزّاق، قال: أخبرنا معمرٌ، قال: سمعت الزّهريّ، يقول في قوله: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه} قال: قرأها ابن عمر، فبكى وقال: إنّا لمؤاخذون بما نحدّث به أنفسنا، فبكى حتّى سمع نشيجه، فقام رجلٌ من عنده، فأتى ابن عبّاسٍ، فذكر ذلك له، فقال: رحم اللّه ابن عمر لقد وجد المسلمون نحوًا ممّا وجد، حتّى نزلت: {لا يكلّف اللّه نفسًا إلاّ وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت}.
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا إسحاق، قال: حدّثنا عبد الرّزّاق، عن جعفر بن سليمان، عن حميدٍ الأعرج، عن مجاهدٍ، قال: كنت عند ابن عمر فقال: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه} الآية، فبكى، فدخلت على ابن عبّاسٍ، فذكرت له ذلك، فضحك ابن عبّاسٍ فقال: يرحم اللّه ابن عمر، أوما يدري كيف أنزلت؟ إنّ هذه الآية حين أنزلت غمّت أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم غمًّا شديدًا، وقالوا: يا رسول اللّه هلكنا فقال لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: قولوا سمعنا وأطعنا، فنسختها: {آمن الرّسول بما أنزل إليه من ربّه والمؤمنون كلٌّ آمن باللّه وملائكته وكتبه ورسله لا نفرّق بين أحدٍ من رسله} إلى قوله: {وعليها ما اكتسبت} فتجوّز لهم من حديث النّفس، وأخذوا بالأعمال.
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا إسحاق، قال: حدّثنا يزيد بن هارون، عن سفيان بن حسينٍ، عن الزّهريّ، عن سالمٍ، أنّ أباه، قرأ: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه} فدمعت عينه. فبلغ صنيعه ابن عبّاسٍ فقال: يرحم اللّه أبا عبد الرّحمن، لقد صنع كما صنع أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حين أنزلت، فنسختها الآية الّتي بعدها: {لا يكلّف اللّه نفسًا إلا وسعها}.
[جامع البيان: 5/133]
- حدّثنا محمّد بن بشّارٍ، قال أبو أحمد، قال: حدّثنا سفيان، عن ادم بن ابن سليمان مولى خالد عن سعيد ابن جبير بمثله،
- حدّثنا ابن بشّارٍ، قال: حدّثنا أبو أحمد، قال: حدّثنا سفيان، عن آدم بن سليمان، عن سعيد بن جبيرٍ، قال: لمّا نزلت هذه الآية: {إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه} قالوا: أنؤاخذ بما حدّثنا به أنفسنا ولم تعمل به جوارحنا؟ قال: فنزلت هذه الآية: {لا يكلّف اللّه نفسًا إلاّ وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربّنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} قال: ويقول: قد فعلت، قال: فأعطيت هذه الأمّة خواتيم سورة البقرة، لم تعطها الأمم قبلها.
- حدّثنا أبو كريبٍ، قال: حدّثنا جابر بن نوحٍ، قال: حدّثنا إسماعيل، عن عامرٍ: {إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه فيغفر لمن يشاء ويعذّب من يشاء} قال: فنسختها الآية بعدها قوله: {لا يكلّف اللّه نفسًا إلاّ وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت}.

[جامع البيان: 5/134]
- حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا جريرٌ، عن مغيرة، عن الشّعبيّ: {إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه} قال: نسختها الآية الّتي بعدها: {لا يكلّف اللّه نفسًا إلاّ وسعها} وقوله: {وإن تبدوا} قال: يحاسب بما أبدى من سرٍّ أو أخفى من سرٍّ، فنسختها الّتي بعدها.
- حدّثني يعقوب، قال: حدّثنا هشيمٌ، قال: أخبرنا سيّارٌ، عن الشّعبيّ، قال: لمّا نزلت هذه الآية: {إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه فيغفر لمن يشاء ويعذّب من يشاء} قال: فكان فيها شدّةٌ حتّى نزلت هذه الآية الّتي بعدها: {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} قال: فنسخت ما كان قبلها.
- حدّثني يعقوب، قال: حدّثنا ابن عليّة، عن ابن عونٍ، قال: ذكروا عند الشّعبيّ: {إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه} حتّى بلغ: {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} قال: فقال الشّعبيّ: إلى هذا صار، رجعت إلى آخر الآية.
- حدّثني يحيى بن أبي طالبٍ، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبرٌ، عن الضّحّاك، في قوله: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه} قال: قال ابن مسعودٍ: كانت المحاسبة قبل أن تنزل: {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} فلمّا نزلت نسخت الآية الّتي كانت قبلها
[جامع البيان: 5/135]
- حدّثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذٍ يقول: حدّثنا عبيدٌ، قال: سمعت الضّحّاك يذكر عن ابن مسعودٍ، نحوه.
- حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا جريرٌ، عن بيانٍ، عن الشّعبيّ، قال: نسخت {إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه}، {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت}.
- حدّثنا ابن وكيعٍ، قال: حدّثنا أبي، عن موسى بن عبيدة، عن محمّد بن كعبٍ، وسفيان، عن جابرٍ، عن مجاهدٍ، وعن إبراهيم بن مهاجرٍ، عن مجاهدٍ، قالوا: نسخت هذه الآية: {لا يكلّف اللّه نفسًا إلاّ وسعها} {إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه} الآية
- حدّثنا ابن وكيعٍ، قال: حدّثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابرٍ، عن عكرمة، وعامرٍ، بمثله.
- حدّثنا المثنّى، قال: حدّثنا الحجّاج، قال: حدّثنا حمّاد عن حميدٍ، عن الحسن، في قوله: {إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه} إلى آخر الآية، قال: نسختها: {لا يكلّف اللّه نفسًا إلاّ وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت}.
[جامع البيان: 5/136]
- حدّثنا بشرٌ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، أنّه قال: نسخت هذه الآية، يعني قوله: {لا يكلّف اللّه نفسًا إلاّ وسعها} الآية الّتي كانت قبلها: {إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه}.
- حدّثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرّزّاق، قال: أخبرنا معمرٌ، عن قتادة في قوله: {إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه} قال: نسختها قوله: {لا يكلّف اللّه نفسًا إلا وسعها}.
- حدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: حدّثني ابن زيدٍ، قال: لمّا نزلت هذه الآية: {إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه} إلى آخر الآية، اشتدّت على المسلمين، وشقّت مشقّةً شديدةً، فقالوا: يا رسول اللّه، لو وقع في أنفسنا شيءٌ لم نعمل به وأخذنا اللّه به؟ قال: فلعلّكم تقولون كما قال بنو إسرائيل: سمعنا وعصينا، قالوا: بل سمعنا وأطعنا يا رسول اللّه، قال: فنزل القرآن يفرّجها عنهم: {آمن الرّسول بما أنزل إليه من ربّه والمؤمنون كلٌّ آمن باللّه وملائكته وكتبه ورسله} إلى قوله: {لا يكلّف اللّه نفسًا إلاّ وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} قال: فصيّره إلى الأعمال، وترك ما يقع في القلوب.
[جامع البيان: 5/137]
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا الحجّاج، قال: حدّثنا هشيمٌ، عن سيّارٍ أبي الحكم، عن الشّعبيّ، عن أبي عبيدة، عن عبد اللّه بن مسعودٍ في قوله: {إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه} قال: نسخت هذه الآية الّتي بعدها: {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت}.
- حدّثني موسى، قال: حدّثنا عمرٌو، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ، قوله: {إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه} قال: يوم نزلت هذه الآية كانوا يؤاخذون بما وسوست به أنفسهم وما عملوا، فشكوا ذلك إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، فقالوا: إن عمل أحدنا وإن لم يعمل أخذنا به، واللّه ما نملك الوسوسة، فنسخها اللّه بهذه الآية الّتي بعدها بقوله: {لا يكلّف اللّه نفسًا إلاّ وسعها} فكان حديث النّفس ممّا لم تطيقوا.
- حدّثت عن عمّارٍ، قال: حدّثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن قتادة، أنّ عائشة أمّ المؤمنين، رضي اللّه عنها قالت: نسختها قوله: {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت}
وقال آخرون ممّن قال معنى ذلك: الإعلام من اللّه عزّ وجلّ عباده أنّه مؤاخذهم بما كسبته أيديهم وعملته جوارحهم، وبما حدّثتهم به أنفسهم ممّا لم يعملوه، هذه الآية محكمةٌ غير منسوخةٍ، واللّه عزّ وجلّ محاسبٌ خلقه على ما عملوا من عملٍ وعلى ما لم يعملوه ممّا أصرّوه في أنفسهم ونووه وأرادوه، فيغفره للمؤمنين، ويؤاخذ به أهل الكفر والنّفاق.
[جامع البيان: 5/138]
ذكر من قال ذلك:
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا عبد اللّه بن صالحٍ، قال: حدّثني معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عبّاسٍ، قوله: {إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه} فإنّها لم تنسخ، ولكنّ اللّه عزّ وجلّ إذا جمع الخلائق يوم القيامة، يقول اللّه عزّ وجلّ: إنّي أخبركم بما أخفيتم في أنفسكم ممّا لم تطّلع عليه ملائكتي، فأمّا المؤمنون فيخبرهم ويغفر لهم ما حدّثوا به أنفسهم، وهو قوله: {يحاسبكم به اللّه} يقول: يخبركم، وأمّا أهل الشّكّ والرّيب، فيخبرهم بما أخفوا من التّكذيب، وهو قوله: {فيغفر لمن يشاء ويعذّب من يشاء} وهو قوله: {ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم} من الشّكّ والنّفاق.
- حدّثني محمّد بن سعدٍ، قال: حدّثني أبي، قال: حدّثني عمّي، قال: حدّثني أبي، عن أبيه، عن ابن عبّاسٍ: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه} فذلك سرّ عملكم وعلانيته، يحاسبكم به اللّه، فليس من عبدٍ مؤمنٍ يسرّ في نفسه خيرًا ليعمل به، فإن عمل به كتبت له به عشر حسناتٍ، وإن هو لم يقدر له أن يعمل به كتبت له به حسنةٌ من أجل أنّه مؤمنٌ، واللّه يرضى سرّ المؤمنين وعلانيتهم، وإن كان سوءًا حدّث به نفسه اطّلع اللّه عليه وأخبره به يوم تبلى السّرائر، وإن هو لم يعمل به لم يؤاخذه اللّه به حتّى يعمل به، فإن هو عمل به تجاوز اللّه عنه، كما قال: {أولئك الّذين نتقبّل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيّئاتهم}.
[جامع البيان: 5/139]
- حدّثني يحيى بن أبي طالبٍ، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبرٌ، عن الضّحّاك، في قوله: {إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه} الآية، قال: قال ابن عبّاسٍ: إنّ اللّه يقول يوم القيامة: إنّ كتّابي لم يكتبوا من أعمالكم إلاّ ما ظهر منها، فأمّا ما أسررتم في أنفسكم فأنا أحاسبكم به اليوم، فأغفر لمن شئت، وأعذّب من شئت.
- حدّثني يحيى بن أبي طالبٍ، قال: أخبرنا عليّ بن عاصمٍ، قال: أخبرنا بيانٌ، عن بشرٍ، عن قيس بن أبي حازمٍ، قال: إذا كان يوم القيامة، قال اللّه عزّ وجلّ يسمع الخلائق: إنّما كان كتّابي يكتبون عليكم ما ظهر منكم، فأمّا ما أسررتم فلم يكونوا يكتبونه، ولا يعلمونه، أنا اللّه أعلم بذلك كلّه منكم، فأغفر لمن شئت، وأعذّب من شئت.
- حدّثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذٍ، قال: أخبرنا عبيدٌ، قال: سمعت الضّحّاك، يقول في قوله: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه} كان ابن عبّاسٍ يقول: إذا دعي النّاس للحساب، أخبرهم اللّه بما كانوا يسرّون في أنفسهم ممّا لم يعملوه، فيقول: إنّه كان لا يعزب عني شيءٌ، وإنّي مخبركم بما كنتم تسرّون من السّوء، ولم تكن حفظتكم عليكم مطّلعين عليه، فهذه المحاسبة
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثنا أبو تميلة، عن عبيد بن سليمان، عن الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ، نحوه.
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا إسحاق، قال: حدّثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرّبيع، في قوله: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه} قال: هي محكمةٌ لم ينسخها شيءٌ، يقول: يحاسبكم به اللّه، يقول: يعرّفه اللّه يوم القيامة أنّك أخفيت في صدرك كذا وكذا لا يؤاخذه.
[جامع البيان: 5/140]
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا إسحاق، قال: حدّثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن عمرو بن عبيدٍ، عن الحسن، قال: هي محكمةٌ لم تنسخ.
- حدّثني يعقوب، قال: حدّثنا ابن عليّة، قال: حدّثنا ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، في قوله: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه} قال: من الشّكّ واليقين.
- حدّثني محمّد بن عمرٍو، قال: حدّثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قول اللّه عزّ وجلّ: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه} يقول: في اليقين والشّكّ
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا أبو حذيفة، قال: حدّثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، مثله
فتأويل هذه الآية على قول ابن عبّاسٍ الّذي رواه عليّ بن أبي طلحة: {وإن تبدوا ما في أنفسكم} من سيءٍ من الأعمال، فتظهروه بأبدانكم وجوارحكم، أو تخفوه فتسرّوه في أنفسكم، فلم يطّلع عليه أحدٌ من خلقي، أحاسبكم به، فأغفر كلّ ذلك لأهل الإيمان، وأعذّب أهل الشّرك والنّفاق في ديني.
[جامع البيان: 5/141]
وأمّا على الرّواية الّتي رواها عنه الضّحّاك من رواية عبيد بن سليمان عنه، وعلى ما قاله الرّبيع بن أنسٍ، فإنّ تأويلها: إن تظهروا ما في أنفسكم فتعملوه من المعاصي، أو تضمروا إرادته في أنفسكم، فتخفوه، يعلمكم به اللّه يوم القيامة، فيغفر لمن يشاء، ويعذّب من يشاء.
وأمّا قول مجاهدٍ فشبيهٌ معناه بمعنى قول ابن عبّاسٍ الّذي رواه عليّ بن أبي طلحة.
وقال آخرون ممّن قال: هذه الآية محكمةٌ وهي غير منسوخةٍ ووافقوا الّذين قالوا: معنى ذلك أنّ اللّه عزّ وجلّ أعلم عباده به ما هو فاعلٌ بهم فيما أبدوا وأخفوا من أعمالهم، معناها أنّ اللّه محاسبٌ جميع خلقه بجميع ما أبدوا من سيّئ أعمالهم، وجميع ما أسرّوه، ومعاقبهم عليه، غير أنّ عقوبته إيّاهم على ما أخفوه ممّا لم يعملوه ما يحدث لهم في الدّنيا من المصائب، والأمور الّتي يحزنون عليها ويألمون لها.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثني يحيى بن أبي طالبٍ، قال: حدّثنا يزيد، قال: أخبرنا جويبرٌ، عن الضّحّاك، في قوله: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه} الآية، قال: كانت عائشة رضي اللّه عنها تقول: من همّ بسيّئةٍ فلم يعملها أرسل اللّه عليه من الهمّ والحزن مثل الّذي همّ به من السّيّئة فلم يعملها، فكانت كفّارته.
[جامع البيان: 5/142]
- حدّثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذٍ، قال: أخبرنا عبيدٌ، قال: سمعت الضّحّاك يقول في قوله: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه} قال: كانت عائشة تقول: كلّ عبدٍ يهمّ بمعصيةٍ، أو يحدّث بها نفسه، حاسبه اللّه بها في الدّنيا، يخاف ويحزن ويهتمّ.
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني أبو تميلة، عن عبيدٍ، عن الضّحّاك، قال: قالت عائشة في ذلك: كلّ عبدٍ همّ بسوءٍ ومعصيةٍ، وحدّث نفسه به، حاسبه اللّه في الدّنيا، يخاف ويحزن ويشتدّ همّه، لا يناله من ذلك شيءٌ، كما همّ بالسّوء ولم يعمل منه شيئًا.
- حدّثنا الرّبيع، قال: حدّثنا أسد بن موسى، قال: حدّثنا حمّاد بن سلمة، عن عليّ بن زيدٍ، عن أمّيه، أنّها سألت عائشة عن هذه الآية: {إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه} و{من يعمل سوءًا يجز} به فقالت: ما سألني عنها أحدٌ مذ سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فقال: يا عائشة، هذه متابعة اللّه العبد بما يصيبه من الحمّى والنّكبة والشّوكة، حتّى البضاعة يضعها في كمّه فيفقدها فيرع لها، فيجدها في ضبنه حتّى إنّ المؤمن ليخرج من ذنوبه كما يخرج التّبر الأحمر من الكير
[جامع البيان: 5/143]
وأولى الأقوال الّتي ذكرناها بتأويل الآية قول من قال: إنّها محكمةٌ وليست بمنسوخةٍ، وذلك أنّ النّسخ لا يكون في حكمٍ إلاّ ينفيه بآخر له نافٍ من كلّ وجوهه، وليس في قوله جلّ وعزّ: {لا يكلّف اللّه نفسًا إلاّ وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} نفي الحكم الّذي أعلم عباده بقوله: {أو تخفوه يحاسبكم به اللّه} لأنّ المحاسبة ليست بموجبةٍ عقوبةً، ولا مؤاخذةً بما حوسب عليه العبد من ذنوبه، وقد أخبر اللّه عزّ وجلّ عن المجرمين أنّهم حين تعرض عليهم كتب أعمالهم يوم القيامة، يقولون: {يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلاّ أحصاها} فأخبر أنّ كتبهم محصيةٌ عليهم صغائر أعمالهم وكبائرها، فلم تكن الكتب وإن أحصت صغائر الذّنوب وكبائرها بموجب إحصاؤها على أهل الإيمان باللّه ورسوله وأهل الطّاعة له، أن يكونوا بكلّ ما أحصته الكتب من الذّنوب معاقبين؛ لأنّ اللّه عزّ وجلّ وعدّهم العفو عن الصّغائر باجتنابهم الكبائر، فقال في تنزيله: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفّر عنكم سيّئاتكم وندخلكم مدخلاً كريمًا}، فدلّك أنّ محاسبة اللّه عباده المؤمنين بما هو محاسبهم به من الأمور الّتي أخفتها أنفسهم غير موجبةٍ لهم منه عقوبةً، بل محاسبته إيّاهم إن شاء اللّه عليها ليعرّفهم تفضّله عليهم بعفوه لهم عنها كما بلغنا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في الخبر الّذي:
- حدّثني به، أحمد بن المقدام، قال: حدّثنا المعتمر بن سليمان، قال: سمعت أبي، عن قتادة، عن صفوان بن محرزٍ، عن ابن عمر، عن نبيّ اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: يدني اللّه عبده المؤمن يوم القيامة حتّى يضع عليه كنفه فيقرّره بسيّئاته يقول: هل تعرف؟ فيقول: نعم، فيقول: سترتها في الدّنيا وأغفرها اليوم، ثمّ يظهر له حسناته، فيقول: هاؤم اقرءوا كتابيه أو كما قال: وأمّا الكافر، فإنّه ينادي به على رءوس الأشهاد.
[جامع البيان: 5/144]
- حدّثنا ابن بشّارٍ، قال: حدّثنا ابن أبي عديٍّ، عن سعيدٍ، وهشامٍ، وحدّثني يعقوب، قال: حدّثنا ابن عليّة، قال: أخبرنا هشامٌ، قالا جميعًا في حديثهما، عن قتادة، عن صفوان بن محرزٍ، قال: بينما نحن نطوف بالبيت مع عبد اللّه بن عمر وهو يطوف إذ عرض له رجلٌ، فقال: يا ابن عمر أما سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول في النّجوى؟ فقال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: يدنو المؤمن من ربّه حتّى يضع عليه كنفه فيقرّره بذنوبه، فيقول: هل تعرف كذا؟ فيقول: ربّ اغرف مرّتين، حتّى إذا بلغ به ما شاء اللّه أن يبلغ قال: فإنّي قد سترتها عليك في الدّنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، قال: فيعطى صحيفة حسناته أو كتابه بيمينه، وأمّا الكفّار والمنافقون، فينادي بهم على رءوس الأشهاد {: هؤلاء الّذين كذبوا على ربّهم، ألا لعنة اللّه على الظّالمين }
قال ابو جعفر إنّ اللّه يفعل بعبده المؤمن من تعريفه إيّاه سيّئات أعماله حتّى يعرّفه تفضّله عليه بعفوه له عنها، فكذلك فعله تعالى ذكره في محاسبته إيّاه بما أبداه من نفسه، وبما أخفاه من ذلك، ثمّ يغفر له كلّ ذنب بعد تعريفه تفضّله وتكرّمه عليه، فيستره عليه، وذلك هو المغفرة الّتي وعد اللّه عباده المؤمنين، فقال: {يغفر لمن يشاء}.
[جامع البيان: 5/145]
فإن قال قائلٌ: فإنّ قوله: {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} ينبئ عن أنّ جميع الخلق غير مؤاخذين إلاّ بما كسبته أنفسهم من ذنبٍ، ولا مثابين إلاّ بما كسبته من خيرٍ، قيل: إنّ ذلك كذلك، وغير مؤاخذٍ العبد بشيءٍ من ذلك إلاّ بفعل ما نهي عن فعله، أو ترك ما أمر بفعله.
فإن قال: فإذا كان ذلك كذلك، فما معنى وعيد اللّه عزّ وجلّ إيّانا على ما أخفته أنفسنا بقوله: {ويعذّب من يشاء} إن كان {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} وما أضمرته قلوبنا وأخفته أنفسنا من همٍّ بذنبٍ، أو إرادةٍ لمعصيةٍ، لم تكتسبه جوارحنا؟
قيل له: إنّ اللّه جلّ ثناؤه قد وعد المؤمنين أن يعفو لهم عمّا هو أعظم ممّا همّ به أحدهم من المعاصي فلم يفعله وهو ما ذكرنا من وعده إيّاهم العفو عن صغائر ذنوبهم إذا هم اجتنبوا كبائرها، وإنّما الوعيد من اللّه عزّ وجلّ بقوله: {ويعذّب من يشاء} على ما أخفته نفوس الّذين كانت أنفسهم تخفي الشّكّ في اللّه، والمرية في وحدانيّته، أو في نبوّة نبيّه صلّى اللّه عليه وسلّم، وما جاء به من عند اللّه، أو في المعاد والبعث من المنافقين، على نحو ما قال ابن عبّاسٍ ومجاهدٌ، ومن قال بمثل قولهما أنّ تأويل قوله: {أو تخفوه يحاسبكم به اللّه} على الشّكّ واليقين. غير أنّا نقول: إنّ المتوعّد بقوله: {ويعذّب من يشاء} هو من كان إخفاء نفسه ما تخفيه الشّكّ والمرية في اللّه، وفيما يكون الشّكّ فيه باللّه كفرًا، والموعود الغفران بقوله: {فيغفر لمن يشاء} هو الّذي أخفاؤه، وما يخفيه الهمّة بالتّقدّم على بعض ما نهاه اللّه عنه من الأمور الّتي كان جائزًا ابتداء تحليله وإباحته، فحرّمه على خلقه جلّ ثناؤه،
[جامع البيان: 5/146]
أو على ترك بعض ما أمر اللّه بفعله ممّا كان جائزًا ابتداءً إباحة تركه، فأوجب فعله على خلقه، فإنّ الّذي يهمّ بذلك من المؤمنين إذا هو لم يصحّح همّه بما يهمّ به، ويحقّق ما أخفته نفسه من ذلك بالتّقّدّم عليه لم يكن مأخوذًا كما روي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه قال: من همّ بحسنةٍ فلم يعملها كتبت له حسنةً، ومن همّ بسيّئةٍ فلم يعملها لم تكتب عليه فهذا الّذي وصفنا هو الّذي يحاسب اللّه به مؤمني عباده ثمّ لا يعاقبهم عليه.
فأمّا من كان ما أخفته نفسه شكًّا في اللّه وارتيابًا في نبوّة أنبيائه، فذلك هو الهالك المخلّد في النّار، الّذي أوعده جلّ ثناؤه العذاب الأليم بقوله: {ويعذّب من يشاء}
فتأويل الآية إذًا: {وإن تبدوا ما في أنفسكم} أيّها النّاس، فتظهروه {أو تخفوه} فتنطوي عليه نفوسكم، {يحاسبكم به اللّه} فيعرّف مؤمنكم تفضّله بعفوه عنه، ومغفرته له، فيغفره له، ويعذّب منافقكم على شّكّه الّذي انطوت عليه نفسه في وحدانيّة خالقه ونبوّة أنبيائه). [جامع البيان: 5/147]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {واللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ}
يعني بذلك جلّ ثناؤه: واللّه عزّ وجلّ على العفو عمّا أخفته نفس هذا المؤمن من الهمّة بالخطيئة وعلى عقاب هذا الكافر على ما أخفته نفسه من الشّكّ في توحيد اللّه عزّ وجلّ، ونبوّة أنبيائه، ومجازاة كلّ واحدٍ منهما على كلّ ما كان منه، وعلى غير ذلك من الأمور قادرٌ). [جامع البيان: 5/147]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (للّه ما في السّماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه فيغفر لمن يشاء ويعذّب من يشاء واللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ (284)
قوله: لّلّه ما في السّماوات وما في الأرض
- حدّثنا أبي، ثنا أحمد بن عبد الرّحمن، ثنا عبد اللّه بن أبي جعفرٍ عن أبيه، عن الرّبيع بن أنسٍ، قوله: للّه ما في السّماوات وما في الأرض قال: هي محكمةٌ لم ينسخها شيءٌ). [تفسير القرآن العظيم: 1/572]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه
[الوجه الأول]
- حدّثنا أبو سعيدٍ الأشجّ، ثنا ابن فضيلٍ، عن يزيد بن أبي زيادٍ، عن مجاهدٍ، عن ابن عبّاسٍ، في قوله: وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه قال: في الشّهادة. وروي عن الشّعبيّ وعكرمة ومقسمٍ، مثل ذلك.
والوجه الثّاني:
- حدّثنا أبي، ثنا أبو صالحٍ، حدّثني معاوية بن صالحٍ، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ، قوله: وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه فذلك سرّ أمرك وعلانيته يحاسبكم به اللّه وإنّها لم تنسخ، وإنّ اللّه إذا جمع الخلائق يوم القيامة، يقول إنّي أخبركم بما أخفيتم في نفوسكم، ممّا لم تطّلع عليه ملائكتي.
[تفسير القرآن العظيم: 2/572]
الوجه الثّالث:
- حدّثنا محمّد بن سعدٍ العوفيّ فيما كتب إليّ، حدّثني أبي، حدّثنا عمّي الحسين، عن أبيه، عن جدّه، عن ابن عبّاسٍ، قوله: وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه فذلك سرّ عملك وعلانيته يحاسبك به اللّه، وليس من عبدٍ مؤمنٍ، يسرّ في نفسه خيرًا ليعمل به فإن عمل به، كتبت له عشر حسناتٍ، وإن هو لم يقدّر له أن يعمل كتب له به حسنةٌ، من أجل أنّه مؤمنٌ، واللّه يرضى سرّ المؤمنين وعلانيتهم، وإن كان سوءًا، حدّث به نفسه، اطّلع اللّه عليه، أخبره به، يوم تبلى السّرائر، فإن هو لم يعمل به، لم يؤاخذ اللّه به، حتّى يعمل به فإن هو عمل به، تجاوز اللّه عنه، كما قال: أولئك الّذين نتقبّل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيّئاتهم.
وروي عن مقاتل بن حيّان، أنّه بلغه، أنّ ابن عبّاسٍ، كان يقول إذا دعي النّاس إلى الحساب، يحاسب العبد بما عمل، وينظر في عمله ويخبره الله بما وما أسرّ في نفسه، ولم يعمله، ولم تكن الملائكة، تطّلع عليه حاسبه بما (أعلن) أسرّوا في أنفسهم، وعلمه اللّه، فلم يخف عليه منه شيءٌ. فهذه المحاسبة.
- حدّثنا أبو سعيد الأشج، ثنا بن عليّة، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ
وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه قال: من اليقين والشّكّ). [تفسير القرآن العظيم: 1/573]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: يحاسبكم به الله
[الوجه الأول]
- حدّثنا الحسن بن محمّد بن الصّبّاح، ثنا عفّان، ثنا عبد الرّحمن بن إبراهيم، ثنا العلاء بن عبد الرّحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال لمّا نزلت للّه ما في السّماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه قال: أتوا النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم حتّى حثوا على الرّكب، فقالوا يا رسول اللّه:
كلّفنا الصّلاة والصّيام والجهاد والصّدقة. فأمّا هذا، فإنّا لا نطيقه أن نبدي ما في أنفسنا أو نخفيه، يحاسبنا به اللّه. فقال: تريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم سمعنا وعصينا، لا ولكن قولوا: سمعنا وأطعنا حتّى إذا ذلّت بها ألسنتهم أنزل اللّه التّخفيف فقال: آمن الرّسول بما أنزل إليه من ربّه والمؤمنون كلٌّ آمن باللّه وملائكته وكتبه ورسله
[تفسير القرآن العظيم: 2/573]
فأنزل اللّه: لا يكلّف اللّه نفسًا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت فصار الكسب، فنسخت هذه ما قبلها.
- حدّثنا أبي، ثنا أميّة بن بسطامٍ، ثنا يزيد بن زريعٍ، عن روح بن القاسم، عن العلاء، وذكر بإسناده، نحوه.
قال أبو محمّدٍ: وروي عن عليّ بن أبي طالبٍ وابن عمر وابن عبّاسٍ، في إحدى الرّوايات وكعب الأحبار والشّعبيّ والنّخعيّ وعكرمة وسعيد بن جبيرٍ ومحمّد بن كعبٍ وقتادة، أنّها منسوخةٌ.
والوجه الثاني
: أنها محكمة:
- حدثنا أبى، سليمان بن حربٍ، ثنا حمّاد بن سلمة، عن عليّ بن زيدٍ، عن أميّة قال سألت عائشة عن هذه الآية: وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه فقالت: ما سألني عنها أحدٌ، منذ سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عنها، فقالت: هذه مبايعة اللّه العبد، وما يصيبه من الحمّى والنّكبة، والبضاعة يضعها في يد كمه فيفتقدها، فيفزع لها، ثمّ يجدها في ضبينه حتّى إنّ المؤمن ليخرج من ذنوبه، كما يخرج التّبر الأحمر.
- حدّثنا سهل بن بحرٍ العسكريّ، ثنا ابن الأصبهاني، ابنا ابن يمانٍ عن البراء بن سليمان الضّبّيّ، قال سمعت نافعًا يعني مولى عبد اللّه بذكر عن ابن عمر، أنّه كان إذا مرّ بهذه الآية وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه قال: إن هذا إلا إحصاءٌ شديدٌ.
وروي عن الحسن والضّحّاك والرّبيع أنّها محكمةٌ.
- حدّثنا أبي، ثنا أبو صالحٍ، حدّثني معاوية بن صالحٍ، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس يحاسبكم به اللّه يقول: يخبركم.
والوجه الثّالث:
- حدّثنا أبي، ثنا أحمد بن عبد الرّحمن، ثنا عبد اللّه بن أبي جعفرٍ عن أبيه، عن الرّبيع يحاسبكم به اللّه هي محكمةٌ لم ينسخها شيءٌ، بقوله: يعرفه
[تفسير القرآن العظيم: 2/574]
يوم القيامة: إنّك أخفيت في صدرك كذا وكذا ولا يؤاخذه. وروي عن الضّحّاك، نحو ذلك). [تفسير القرآن العظيم: 1/575]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: فيغفر لمن يشاء
[الوجه الأول]
- حدّثنا أبي، ثنا أبو صالحٍ، حدّثني معاوية بن صالحٍ، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ، قوله: فيغفر لمن يشاء قال: فأمّا المؤمنون، فيخبرهم ويغفر لهم ما حدّثوا به أنفسهم.
والوجه الثّاني:
- حدّثنا أبي، ثنا إبراهيم بن مهديٍّ، ثنا يحيى بن يعلى، عن منصورٍ أو ليثٍ، عن مجاهدٍ، في قوله: فيغفر لمن يشاء قال يغفر لمن يشاء الكبير من الذّنوب. وروي عن الثّوريّ، مثل ذلك). [تفسير القرآن العظيم: 1/575]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله ويعذّب من يشاء
[الوجه الأول]
- حدّثنا أبي، ثنا أبو صالحٍ، حدّثني معاوية بن صالحٍ، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ، قوله: ويعذّب من يشاء قال: وأمّا أهل الشّكّ والرّيب فيخبرهم بما أخفوا من التّكذيب.
والوجه الثّاني:
- حدّثنا أبي، ثنا إبراهيم بن مهديٍّ، ثنا يحي بن يعلى، عن منصورٍ، أو ليثٍ، عن مجاهدٍ، في قوله: ويعذّب من يشاء قال: يعذّب من يشاء على الصّغير. وروي عن الثّوريّ، مثل ذلك). [تفسير القرآن العظيم: 1/575]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: واللّه على كل شيء قدير
قد تقم تفسيره آية 20). [تفسير القرآن العظيم: 1/575]
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ الحَسَنِ الهَمَذَانِيُّ (ت: 352هـ): (نا إبراهيم قال نا آدم قال نا ورقاء عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال لما نزلت إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه نسختها الآية التي بعدها لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت). [تفسير مجاهد: 118]
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ الحَسَنِ الهَمَذَانِيُّ (ت: 352هـ): (نا إبراهيم قال نا آدم قال ثنا ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه من الشك واليقين). [تفسير مجاهد: 119]
قال محمدُ بنُ عبدِ اللهِ الحاكمُ النَّيْسابوريُّ (ت: 405هـ): (أخبرنا أبو زكريّا يحيى بن محمّدٍ العنبريّ، ثنا محمّد بن عبد السّلام، ثنا إسحاق بن إبراهيم، أنبأ وكيعٌ، ثنا سفيان، عن آدم بن سليمان، قال: سمعت سعيد بن جبيرٍ، يحدّث، عن ابن عبّاسٍ رضي اللّه عنهما، قال: لمّا نزلت هذه الآية {إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه} [البقرة: 284] شقّ ذلك عليهم ما لم يشقّ عليهم مثل ذلك، فقال لهم رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم: «قولوا سمعنا وأطعنا» فألقى اللّه الإيمان في قلوبهم فقالوا: سمعنا وأطعنا. فأنزل اللّه عزّ وجلّ {لا يكلّف اللّه نفسًا إلّا وسعها، لها ما كسبت، وعليها ما اكتسبت} [البقرة: 286] إلى قوله تعالى {أو أخطأنا} [البقرة: 286] قال: قد فعلت. إلى آخر البقرة «هذا حديثٌ صحيح الإسناد ولم يخرجاه» ). [المستدرك: 2/314]
قال محمدُ بنُ عبدِ اللهِ الحاكمُ النَّيْسابوريُّ (ت: 405هـ): (حدّثنا أحمد بن كاملٍ القاضي، ببغداد، ثنا عبد اللّه بن روحٍ المدائنيّ، ثنا يزيد بن هارون، أنبأ سفيان بن حسينٍ، عن الزّهريّ، عن سالمٍ، أنّ أباه، قرأ {إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه، يحاسبكم به اللّه فيغفر لمن يشاء، ويعذّب من يشاء} [البقرة: 284] فدمعت عيناه، فبلغ صنيعه ابن عبّاسٍ فقال: " يرحم اللّه أبا عبد الرّحمن لقد صنع أصحاب رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم حين نزلت فنسختها الآية الّتي بعدها {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} [البقرة: 286] «هذا حديثٌ صحيح الإسناد ولم يخرجاه» ). [المستدرك: 2/315]
قال أبو السعادات المبارك بن محمد بن محمد ابن الأثير الجزري (ت: 606هـ) : ( (خ) مروان الأصفر رحمه الله عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن عمر- قال: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه
[جامع الأصول: 2/58]
يحاسبكم به اللّه فيغفر لمن يشاء ويعذّب من يشاء واللّه على كلّ شيء قديرٌ} [البقرة: 284] إنها قد نسخت.
وفي رواية: «نسختها الآية التي بعدها» أخرجه البخاري). [جامع الأصول: 2/59]
قال أبو السعادات المبارك بن محمد بن محمد ابن الأثير الجزري (ت: 606هـ) : ( (ت) السديّ رحمه الله قال: حدثني من سمع علياً يقول: لما نزلت هذه الآية: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه فيغفر لمن يشاء ويعذّب من يشاء واللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ}.
[جامع الأصول: 2/59]
أحزنتنا قال: قلنا، يحدّث أحدنا نفسه، فيحاسب به؟ لا يدري ما يغفر منه وما لا يغفر؟ فنزلت هذه الآية بعدها فنسختها {لا يكلّف اللّه نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} [البقرة: 286] أخرجه الترمذي). [جامع الأصول: 2/60]
قال أبو السعادات المبارك بن محمد بن محمد ابن الأثير الجزري (ت: 606هـ) : ( (م) أبو هريرة رضي الله عنه قال: «لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لله ما في السموات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله... الآية} [البقرة: 284] اشتدّ ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمّ بركوا على الرّكب»، فقالوا: أي رسول الله، كلّفنا من الأعمال ما نطيق، الصلاة والصيام، والجهاد، والصدقة، وقد أنزلت عليك هذه الآية، ولا نطيقها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير» [قالوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير] فلما اقترأها القوم، وذلّت بها ألسنتهم أنزل الله في إثرها: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربّه والمؤمنون كلٌّ آمن باللّه وملائكته وكتبه ورسله لا نفرّق بين أحدٍ من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير} فلما فعلوا ذلك: نسخها الله تعالى، فأنزل الله عزّ وجلّ: {لا يكلّف اللّه نفساً إلا وسعها لها ما كسبت
[جامع الأصول: 2/60]
وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} قال: نعم {ربّنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا} قال: نعم {ربّنا ولا تحمّلنا ما لا طاقة لنا به} قال: نعم {واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين} قال: نعم. أخرجه مسلم.
[شرح الغريب]
(اقترأها) بمعنى قرأها، وهو افتعل من القراءة). [جامع الأصول: 2/61]
قال أبو السعادات المبارك بن محمد بن محمد ابن الأثير الجزري (ت: 606هـ) : ( (م ت) ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت هذه الآية {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه} دخل قلوبهم منها شيءٌ، لم يدخل قلوبهم من شيء، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «قولوا: سمعنا وأطعنا وسلّمنا»، قال: فألقى الله الإيمان في قلوبهم، فأنزل الله عز وجل: {لا يكلّف اللّه نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربّنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} قال: قد فعلت {ربّنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا} قال: قد فعلت: {واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا} قال: فعلت. أخرجه مسلم.
وفي رواية الترمذي مثله، وقال: فأنزل الله {آمن الرّسول بما أنزل إليه من ربّه والمؤمنون... } الآية، وزاد فيه: {ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحمّلنا ما لا طاقة لنا به واعف عنّا واغفر
[جامع الأصول: 2/61]
لنا}... الحديث.
[شرح الغريب]
(الإصر) : العهد والميثاق، وقيل: الحمل والثقل). [جامع الأصول: 2/62]
قال أبو السعادات المبارك بن محمد بن محمد ابن الأثير الجزري (ت: 606هـ) : ( (خ م ت د س) أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الله تعالى تجاوز لأمّتي ما حدّثث به أنفسها، ما لم يعملوا به أو يتكلّموا ». وفي رواية «ما وسوست به صدورها».أخرجه الجماعة إلا الموطأ.
ولفظ أبي داود: «إنّ الله تجاوز لأمّتي ما لم تكلّم به أو تعمل به، وما حدّثت به أنفسها».
[جامع الأصول: 2/62]
قال أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل البوصيري (ت: 840هـ) : (وقال أحمد بن منيع: ثنا يزيد، أبنا سفيان، عن الزّهريّ، عن سالم بن عبد اللّه "أن أباه قرأ: (إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه ... الآية فدمعت عيناه، فبلغ صنيعه ابن عبّاسٍ فقال: يرحم اللّه أبا عبد الرّحمن لقد صنع كما صنع أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حين نزلت فنسختها الآية الّتي بعدها: "لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت".
هذا إسنادٌ صحيحٌ، روى مسلمٌ في صحيحه والتّرمذيّ والنّسائيّ منه ما قاله ابن عبّاسٍ دون ما قاله ابن عمر من طريق آدم بن سليمان، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ به). [إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة: 6/187]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (أخرج سعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم من طريق مجاهد عن ابن عباس في قوله {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله} قال: نزلت في الشهادة.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر من طريق مقسم عن ابن عباس في قوله {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه} الآية، قال: نزلت في كتمان الشهادة وإقامتها
وأخرج أحمد ومسلم وأبو داود في ناسخه، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم {لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير} اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جثوا على الركب فقالوا: يا رسول الله كلفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة والصيام والجهاد والصدقة وقد أنزل عليك هذه الآية ولا نطيقها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم سمعنا وعصينا بل قولوا (سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير) (البقرة الآية 285) فلما اقترأها القوم وذلت بها ألسنتهم أنزل الله في أثرها (آمن الرسول) (البقرة الآية 285) الآية، فلما فعلوا ذلك نسخها الله فأنزل الله (لا
[الدر المنثور: 3/412]
يكلف الله نفسا إلا وسعها) (البقرة الآية 286) إلى آخرها.
وأخرج أحمد ومسلم والترمذي والنسائي، وابن جرير، وابن المنذر والحاكم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله} دخل في قلوبهم منه شيء لم يدخل من شيء فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم (يوجد خطأ) فقال: قولوا سمعنا وأطعنا وسلمنا، فألقى الله الإيمان في قلوبهم فأنزل الله (آمن الرسول) (البقرة الآية 285) الآية (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) (البقرة الآية 286) قال: قد فعلت (ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا) قال: قد فعلت (ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به) قال: قد فعلت (واعف عنا واغفر لنا وارحمنا) الآية قال: قد فعلت.
وأخرج عبد الرزاق وأحمد، وابن جرير، وابن المنذر عن مجاهد قال: دخلت على ابن عباس فقلت: كنت عند ابن عمر فقرأ هذه الآية فبكى، قال: أية آية قلت {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه} قال ابن عباس: إن هذه الآية حين أنزلت غمت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غما شديدا
[الدر المنثور: 3/413]
وغاظتهم غيظا شديدا وقالوا: يا رسول
الله هلكنا إن كنا نؤاخذ بما تكلمنا وبما نعمل فأما قلوبنا فليست بأيدينا فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قولوا سمعنا وأطعنا، قال: فنسختها هذه الآية (آمن الرسول) (البقرة الآية 385) إلى (وعليها ما اكتسبت) فتجوز لهم عن حديث النفس وأخذوا بالأعمال.
وأخرج عبد بن حميد وأبو داود في ناسخه، وابن جرير والطبراني والبيهقي في الشعب عن سعيد بن مرجانة، أنه بينما هو جالس مع عبد الله بن عمر تلا هذه الآية {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه} الآية، فقال: والله لئن آخذنا الله بهذا لنهلكن ثم بكى حتى سمع نشيجه قال ابن مرجانة: فقمت حتى أتيت ابن عباس فذكرت له ما قال ابن عمر وما فعل حين تلاها، فقال ابن عباس: يغفر الله لأبي عبد الرحمن لعمري لقد وجد المسلمون منها حين أنزلت مثل ما وجد عبد الله بن عمر فأنزل الله بعدها (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) (البقرة الآية 286) إلى آخر السورة قال ابن عباس: فكانت هذه الوسوسة مما لا طاقة للمسلمين بها وصار الأمر إلى أن قضى الله أن للنفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت من القول والعمل.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير والنحاس في ناسخه والحاكم وصححه عن سالم أن أباه قرأ {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله} فدمعت عيناه فبلغ صنيعه ابن عباس فقال: يرحم الله أبا
[الدر المنثور: 3/414]
عبد الرحمن لقد صنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزلت فنسختها الآية التي بعدها (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها).
وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد في الزهد، وعبد بن حميد عن نافع قال: لقلما أتى ابن عمر على هذه الآية إلا بكى {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه} إلى آخر الآية، ويقول: إن هذا لاحصاء شديد.
وأخرج البخاري والبيهقي في الشعب عن مروان الأصغر عن رجل من أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم أحسبه ابن عمر {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه} قال: نسختها الآية التي بعدها.
وأخرج عبد بن حميد والترمذي، عن علي، قال: لما نزلت هذه الآية {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله}) الآية، أحزنتنا قلنا: أيحدث أحدنا
نفسه فيحاسب به لا ندري ما يغفر منه ولا ما لا يغفر منه فنزلت هذه الآية بعدها فنسختها (لا يكلف الله نفسا إلا سعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت)، واخرج سعيد بن منصور، وابن جرير والطبراني عن ابن مسعود في الآية قال: كانت المحاسبة قبل أن تنزل (لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) فلما
[الدر المنثور: 3/415]
نزلت نسخت الآية التي كانت قبلها.
وأخرج ابن جرير من طريق قتادة عن عائشة أم المؤمنين في الآية قال: نسختها (لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت).
وأخرج سفيان، وعبد بن حميد والبخاري ومسلم وأبوداود والترمذي والنسائي، وابن ماجة، وابن المنذر عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم وتعمل به.
وأخرج الفريابي، وعبد بن حميد، وابن المنذر عن محمد بن كعب القرظي قال ما بعث الله من نبي ولا أرسل من رسول أنزل عليهم الكتاب إلا أنزل عليه هذه الآية {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير} فكانت الأمم تأبى على أنبيائها ورسلها ويقولون: نؤاخذ بما نحدث به أنفسنا ولم تعمله جوارحنا فيكفرون ويضلون فلما نزلت على النّبيّ صلى الله عليه وسلم اشتد على المسلمين ما اشتد على الأمم قبلهم فقالوا: يا رسول الله أنؤاخذ بما نحدث به أنفسنا
[الدر المنثور: 3/416]
ولم تعمله جوارحنا قال: نعم فاسمعوا وأطيعوا واطلبوا إلى ربكم فذلك قوله (آمن الرسول) (البقرة الآية 285) الآية، فوضع الله عنهم حديث النفس إلا ما عملت الجوارح لها ما كسبت من خير وعليها ما اكتسبت من شر (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) (البقرة الآية 286) قال: فوضع عنهم الخطأ والنسيان (ربنا ولا تحمل علينا اصرا) الآية، قال: فلم يكلفوا ما لم يطيقوا ولم يحمل عليهم الاصر الذي جعل على الأمم قبلهم وعفا عنهم وغفر لهم ونصرهم.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم من طريق علي عن ابن عباس في قوله {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه} فذلك سرائرك وعلانيتك {يحاسبكم به الله} فإنها لم تنسخ ولكن الله إذا جمع الخلائق يوم القيامة يقول: إني أخبركم بما
أخفيتم في أنفسكم مما لم تطلع عليه ملائكتي فأما المؤمنون فيخبرهم ويغفر لهم ما حدثوا به أنفسهم وهو قوله (يحاسبكم به الله) يقول: يخبركم وأما أهل الشك والريب فيخبرهم بما أخفوا من التكذيب وهو قوله (ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم) (البقرة الآية 225)
[الدر المنثور: 3/417]
وأخرج عبد بن حميد وأبو داود في ناسخه، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم والنحاس عن مجاهد في قوله {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه} قال: من اليقين والشك.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه} فذلك سر عملك وعلانيته {يحاسبكم به الله} فما من عبد مؤمن يسر في نفسه خيرا ليعمل به فإن عمل به كتبت له عشر حسنات وإن هو لم يقدر له أن يعمل كتب له به حسنة من أجل أنه مؤمن والله رضي سر المؤمنين وعلانيتهم وإن كان سوءا حدث به نفسه اطلع الله عليه أخبره الله به يوم تبلى السرائر فإن هو لم يعمل به لم يؤاخذه الله به حتى يعمل به فإن هو عمل به تجاوز الله عنه كما قال (أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم) (الأحقاف الآية 16).
وأخرج أبو داود في ناسخه عن ابن عباس قال {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله} نسخت فقال (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) (البقرة الآية 286)
[الدر المنثور: 3/418]
وأخرج الطبراني والبيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله} قال: لما نزلت اشتد ذلك على المسلمين وشق عليهم فنسخها الله فأنزل الله (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) (البقرة الآية 286).
وأخرج الطبراني في مسند الشاميين عن ابن عباس قال: لما نزلت {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه}) الآية أتى أبو بكر وعمر ومعاذ بن جبل وسعد بن زرارة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ما نزل علينا آية أشد من هذه.
وأخرج ابن جرير من طريق الضحاك عن ابن عباس في الآية قال: إن الله يقول
يوم القيامة: إن كتابي لم يكتبوا من أعمالكم إلا ما ظهر منها فأما ما أسررتم في أنفسكم فأنا أحاسبكم به اليوم فأغفر لمن شئت وأعذب من شئت.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس في الآية قال: هي محكمة لم ينسخها شيء يعرفه الله يوم القيامة أنك أخفيت في صدرك كذا وكذا ولا يؤاخذه
[الدر المنثور: 3/419]
وأخرج الطيالسي وأحمد والترمذي وحسنه، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن أمية أنها سألت عائشة عن قول الله تعالى {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله} وعن قوله (من يعمل سوءا يجز به) (النساء الآية 123) فقالت: ما سألني عنها أحد منذ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: هذه معاتبة الله العبد فيما يصيبه من الحمى والنكبة حتى البضاعة يضعها في يد قميصه فيفقدها فيفزع لها ثم يجدها في ضبينه حتى أن العبد ليخرج من ذنوبه كما يخرج التبر الأحمر من الكير.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن جرير من طريق الضحاك عن عائشة في قوله {وإن تبدوا ما في أنفسكم} الآية، قالت: هو الرجل يهم بالمعصية ولا يعملها فيرسل عليه من الغم والحزن بقدر ما كان هم من المعصية فتلك محاسبته
[الدر المنثور: 3/420]
وأخرج ابن جرير عن عائشة قالت: كل عبد هم بسوء ومعصية وحدث به نفسه حاسبه الله به في الدنيا يخاف ويحزن ويشتد همه لا يناله من ذلك شيء كما هم بالسوء ولم يعمل منه شيئا.
وأخرج عبد بن حميد عن عاصم أنه قرأ {فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء} بالرفع فيهما.
وأخرج عن الأعمش: أنه قرأ بجزمهما.
وأخرج ابن أبي داود في المصاحف عن الأعمش، أنه قال: في قراءة ابن مسعود (يحاسبكم به الله يغفر لمن يشاء) بغير فاء.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله {فيغفر لمن يشاء} الآية، قال: يغفر لمن يشاء الكبير من الذنوب ويعذب من يشاء على الصغير). [الدر المنثور: 3/421]


رد مع اقتباس
  #3  
قديم 9 جمادى الأولى 1434هـ/20-03-2013م, 08:11 PM
الصورة الرمزية إشراق المطيري
إشراق المطيري إشراق المطيري غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jun 2010
المشاركات: 885
افتراضي

التفسير اللغوي


تفسير قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت:207هـ): (وقوله: {فرهانٌ مّقبوضةٌ...}
وقرأ مجاهد "فرهن" على جمع الرهان كما قال "كلوا من ثمره" لجمع الثمار. وقوله: {ومن يكتمها فإنّه آثمٌ قلبه} [وأجاز قوم (قلبه) بالنصب] فإن يكن حقا فهو من جهة قولك: سفهت رأيك وأثمت قلبك). [معاني القرآن: 1/188]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ( {فرهنٌ مقبوضةٌ} قال أبو عمرو: الرّهان في الخيل، وأنشد قول قعنب بن أمّ صاحب من بني عبد الله بن غطفان:
بانت سعاد وأمس دونها عدن... وغلّقت عندها من قبلك الرّهن). [مجاز القرآن: 1/84]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت:215هـ): ({وإن كنتم على سفرٍ ولم تجدوا كاتباً فرهان مّقبوضةٌ فإن أمن بعضكم بعضاً فليؤدّ الّذي اؤتمن أمانته وليتّق اللّه ربّه ولا تكتموا الشّهادة ومن يكتمها فإنّه آثمٌ قلبه واللّه بما تعملون عليمٌ}
قال: {فرهان مّقبوضةٌ} تقول: "رهنٌ"، و"رهان" مثل: "حبلٌ" و"حبالٌ".
وقال أبو عمرو: "فرهنٌ" وهي قبيحةٌ لأنّ "فعلاً" لا يجمع على "فعل" إلا قليلاً شاذاً، زعم أنهم يقولون: "سقفٌ" و"سقفٌ" وقرأوا هذه الآية {سقفاً من فضّةٍ}.
وقالوا: "قلبٌ" و"قلبٌ" و"قلبٌ" من "قلب النّخلةٍ" و"لحد" و"لحد" لـ"لحد القبر" وهذا شاذٌ لا يكاد يعرف.
وقد جمعوا "فعلاً" على "فعلٍ" فقالوا: "ثطٌّ" و"ثطٌّ"، و"جونٌ" و"جونٌ"، و"وردٌ" و"وردٌ". وقد يكون "رهنٌ" جماعةً لـ"الرّهان" كأنّه جمع الجماعة و"رهان" أمثل من هذا الاضطرار. وقد قالوا: "سهمٌ خشنٌ" في "سهامٍ خشنٍ". خفيفة.
وقال أبو عمرو: "قالت العرب: "رهنٌ" ليفصلوا بينه وبين رهان الخيل.
قال الأخفش: "كلّ جماعةٍ على "فعل" فإنّه يقال فيها "فعل".
وقال{فليؤدّ الّذي اؤتمن أمانته} وهي من "أدّى" "يؤدّي" فلذلك همز و"اؤتمن" همزها لأنها من "الأمانة" [و] موضع الفاء منها همزة، إلاّ أنك إذا استأنفت ثبتت ألف الوصل فيها فلم تهمز موضع الفاء لئلا تجتمع همزتان). [معاني القرآن: 1/157-158]
قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : (ابن عباس رحمه الله "ولم تجدوا كتابا".
وقد حكي عنه "كتابا" - فيما يغلب علي - يعني الدواة والقلم والصحيفة والكاتب.
الحسن وأبو عمرو {ولم تجدوا كاتبا}.
ابن عباس وأبو عمرو {فرهن مقبوضة}.
قراءة الحسن {فرهان مقبوضة}؛ وكان أبو عمرو بن العلاء يقول: إنما الرهان في الخيل، وأنشدنا هذا البيت عن أبي عمرو على قراءته:
بانت سعاد وأمسى دونها عدن = وغلقت عندها من قلبها الرهن). [معاني القرآن لقطرب: 280]
قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : (وأما قوله جل ثناؤه {فرهان مقبوضة} فالفعل: رهنت عنده رهنًا، بلا ألف؛ هذه الجيدة؛ وقد قال بعضهم: أرهنت إرهانًا، وقالوا: أرهنت في السلعة؛ أي غاليت بها.
وقال النابغة:
تطوي ابن سلمى بها عن راكب بكرًا = عيدية أرهنت فيها الدنانير
وأما قوله عز وجل {فليؤد الذي اؤتمن أمانته} من ايتمن؛ لأنه مهموز في الأصل فلا يدغم؛ ومثله في القياس: ايتزر، وايتكل يأتكل، وياتمن.
وقيس تقول في غير المهموز: يأتعد ويأتزر؛ ولا تدغم أيضًا، وذلك شاذ.
وقال بعض أهل الحجاز: إيتسخ الثوب، ياتسخ). [معاني القرآن لقطرب: 388]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت:276هـ): ({فرهانٌ مقبوضةٌ} جمع «رهن».
ومن قرأ (فرهن مقبوضة) أراد جمع «رهان». فكأنه جمع الجمع). [تفسير غريب القرآن: 100]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة فإن أمن بعضكم بعضا فليؤدّ الّذي اؤتمن أمانته وليتّق اللّه ربّه ولا تكتموا الشّهادة ومن يكتمها فإنّه آثم قلبه واللّه بما تعملون عليم}
قرأ الناس " فرهن مقبوضة " و " فرهان مقبوضة "
فأمّا "رهن" فهي قراءة أبي عمرو، وذكر فيه غير واحد أنها قرئت: " فرهن " ليفصل بين الرهان في الخيل وبين جمع رهن في غيرها، ورهن ورهان أكثر في اللغة:
1-قال الفراء " رهن " جمع رهان،
2-وقال غيره: رهن وررهن " مثل سقف وسقف.
وفعل وفعل قليل إلا إنّه صحيح قد جاء؛ فأما في الصفة فكثير، يقال: فرس ورد، وخيل ورد.
ورجل ثط وقوم ثط، والقراءة على " رهن " أعجب إليّ لأنها موافقة للمصحف، وما وافق المصحف وصح معناه وقرأت به القراء فهو المختار.
ورهان جيّد بالغ.
يقال: رهنت الرهن وأرهنته، وأرهنت أقلهما.
قال الشاعر في أرهنت:
فلمّا خشيت أظافيرهم... نجوت وأرهنتهم مالكا
وقال في رهنت: أنشده غير واحد:
فهل من كاهن أو ذي إله... إذا ما حان من ربي قفول
يراهنني فيرهنني بنيه... وأرهنه بني بما أقول
لما يدري الفقير متى غناه... وما يدري الغنيّ متى يعيل). [معاني القرآن: 1/366-368]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت:338هـ): (ثم قال تعالى: {وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة}
وقرأ ابن عباس (كتابا) وقال: قد يوجد الكاتب ولا توجد الصحيفة.
وكذا قرأ أبو العالية وعكرمة والضحاك ومجاهد.
وقيل: إن كتابا جمع كاتب كما يقال قايم وقيام.
وقيل: هما بمنزلة اثنين.
ثم قال تعالى: {فرهان مقبوضة}
قرئ {فرهن مقبوضة} رهن جميع رهان ويجوز أن يكون جمع رهن مثل سقف وسقف). [معاني القرآن: 1/324-325]

تفسير قوله تعالى: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)}
قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : (الحسن {فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء} يرفع.
وابن عباس "فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء} ينصب.
أبو عمرو {فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء} جزم.
[معاني القرآن لقطرب: 280]
فالرفع على الابتداء؛ والنصب على الجواب بالفاء، وليس بالكثير في الجزاء، وسنخبر عن ذلك؛ والجزم على العطف على أوله ولا بأس به؛ والابتداء أيضًا حسن). [معاني القرآن لقطرب: 281]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {للّه ما في السّماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه فيغفر لمن يشاء ويعذّب من يشاء واللّه على كلّ شيء قدير}معناه: هو خالقهما.
{وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه}معناه: إن تظهروا العمل به أو تسرّوه يحاسبكم به اللّه، وقد قيل إن هذا منسوخ، روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال ((تجوّز لهذه الأمة عن نسيانها وما حدّثت به أنفسها)).
ولما ذكر اللّه - جلّ وعزّ - فرض الصلاة والزكاة والطلاق والحيض والإيلاء والجهاد وأقاصيص الأنبياء والدّين والربا، ختم السورة بذكر تعظيمه وذكر تصديق نبيه - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين بجميع ذلك فقال:
{آمن الرّسول بما أنزل إليه من ربّه والمؤمنون كلّ آمن باللّه وملائكته وكتبه ورسله لا نفرّق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربّنا وإليك المصير}). [معاني القرآن: 1/368]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت:338هـ): (وقوله عز وجل: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله}فيها أقوال:
1- روي عن ابن مسعود وأبي هريرة وابن عباس أنها منسوخة بقوله تعالى: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها}.
2- إلا أن علي بن أبي طلحة روى عن ابن عباس أنه قال: لم تنسخ ولكن إذا جمع الله الخلائق يقول إني أخبركم بما أكننتم في أنفسكم فأما المؤمنون فيخبرهم ثم يغفر لهم
وأما أهل الشك والريب فيخبرهم بما أخفوا من التكذيب فذلك قوله عز وجل: {يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء}وهو قول جل وعز: {ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم} من الشك والنفاق.
وحدثنا أحمد بن شعيب قال أخبرنا محمود بن غيلان قال حدثنا وكيع قال حدثنا سفيان عن آدم بن سليمان عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية{وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله} دخل قلوبهم منها شيء لم يدخلها من قبل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((قولوا سمعنا وأطعنا وسلمنا)) فألقى الله الإيمان في قلوبهم فأنزل الله عز وجل: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه} الآية وأنزل {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} قال: قد فعلت {ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا} قال: قد فعلت {ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين} قال: قد فعلت
وروى إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي قال: نسختها الآية التي بعدها {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها}
وروى مقسم عن ابن عباس نزلت في الشهادة، أي: في إظهارها وكتمانها
وقال مجاهد: هذا في الشك واليقين.
وروى حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أمية أنها سألت عائشة عن هذه الآية {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله} وسألتها عن هذه الآية {من يعمل سوءا يجز به} فقالت عائشة: ما سألني عنهما أحد منذ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:(( يا عائشة هذه معاتبة الله العبد بما يصيبه من الحمى والنكبة والشوكة حتى البضاعة يضعها في كمه فيفقدها فيفزع لها فيجدها في ضبنه حتى إن المؤمن ليخرج من ذنوبه كما يخرج التبر الأحمر من الكير))
وقال الضحاك: يعلمه الله يوم القيامة بما كان يسره ليعلم أنه لم يخف عليه.
وقيل: لا يكون في هذا نسخ لأنه خبر ولكن يبينه {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم}
فالمعنى: والله أعلم وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه من الكبائر والذي رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس حسن والله أعلم بما أراد.
فأما ما روي عن ابن عباس من النسخ فمما يجب أن يوقف على تأويله إذ كانت الأخبار لا يقع فيها ناسخ ولا منسوخ.
فإن صح فتأويله أن الثاني مثل الأول كما تقول نسخت هذا من هذا
وقيل: فيه قول آخر يكون معناه فأزيل ما خالط قلوبهم من ذلك وبين). [معاني القرآن: 1/325-330]


رد مع اقتباس
  #4  
قديم 3 جمادى الآخرة 1434هـ/13-04-2013م, 12:36 AM
الصورة الرمزية إشراق المطيري
إشراق المطيري إشراق المطيري غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jun 2010
المشاركات: 885
افتراضي

التفسير اللغوي المجموع
[ما استخلص من كتب علماء اللغة مما له صلة بهذا الدرس]

تفسير قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283) }
قالَ المبرِّدُ محمَّدُ بنُ يزيدَ الثُّمَالِيُّ (ت: 285هـ): (فأما ما كان على فعلٍ فإنه مما يلزمه أفعال، ولا يكاد يجاوزها؛ وذلك قولك: عنق وأعناق، وطنب وأطناب، وأذن وآذان.

و قد يجيء من الأبنية المتحركة والساكنة من الثلاثة جمعٌ على فعل، وذلك قولك: فرس ورد، وخيل ورد، ورجل ثط وقوم ثط وتقول: سقف وسقف وإن شئت حركت؛ كما قال الله عز وجل: {لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً}. وقالوا: رهن ورهن وكان أبو عمرو يقرؤها (فرهنٌ مقبوضةٌ) ويقول: لا أعرف الرهان إلا في الخيل، وقد قرأ غيره (فرهانٌ مقبوضةٌ). ومن كلام العرب المأثور: غلقت الرهان بما فيها). [المقتضب: 2/200-201] (م)

تفسير قوله تعالى: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284) }
قَالَ سِيبَوَيْهِ عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ بْنِ قُنْبُرٍ (ت: 180هـ): (واعلم أن ثم إذا أدخلته على الفعل الذي بين المجزومين لم يكن إلا جزماً لأنه ليس مما ينصب وليس يحسن الابتداء لأن ما قبله لم ينقطع وكذلك الفاء والواو وأو إذا لم ترد بهن النصب فإذا انقضى الكلام ثم
جئت بثم فإن شئت جزمت وإن شئت رفعت وكذلك الواو والفاء قال الله تعالى: {وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون} وقال تبارك وتعالى: {وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم} إلا أنه قد يجوز النصب بالفاء والواو.
وبلغنا أن بعضهم قرأ: (يحاسبكم به الله فيغفرَ لمن يشاء ويعذبَ من يشاء والله على كل شيء قدير).
وتقول إن تأتني فهو خيرٌ لك وأكرمك وإن تأتني فأنا آتيك وأحسن إليك وقال عز وجل: {وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خيرٌ لكم ونكفر عنكم من سيئاتكم} والرفع ههنا وجه الكلام وهو الجيد لأن الكلام الذي بعد الفاء جرى مجراه في غير الجزاء فجرى الفعل هنا كما كان يجري في غير الجزاء.
وقد بلغنا أن بعض القراء قرأ: {من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم في طغيانهم يعمهون} وذلك لأنه حمل الفعل على موضع الكلام لأن
هذا الكلام في موضع يكون جواباً لأن أصل الجزاء الفعل وفيه تعمل حروف الجزاء ولكنهم قد يضعون في موضع الجزاء غيره). [الكتاب: 3/89-91] (م)
قالَ المبرِّدُ محمَّدُ بنُ يزيدَ الثُّمَالِيُّ (ت: 285هـ): (وتقول في الجزاء: من يأتني فيكرمني أعطه، لا يكون إلا ذلك؛ لأن الكلام معطوف على ما قبله.
فإن قلت: من يأتني آته فأكرمه كان الجزم الوجه، والرفع جائز على القطع على قولك: فأنا أكرمه.
ويجوز النصب وإن كان قبيحاً؛ لأن الأول ليس بواجب إلا بوقوع غيره.
وقد قرئ هذا الحرف على ثلاثة أضرب {يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء} بالجزم والرفع والنصب). [المقتضب: 2/20-21]
قالَ المبرِّدُ محمَّدُ بنُ يزيدَ الثُّمَالِيُّ (ت: 285هـ): (وتقول في الفاء: من يأتني آته فأكرمه على القطع من الأول وعطف جملة على جملة؛ وكذلك ثم.
و إنما جاز الإضمار هاهنا، ولم يجز حيث كانا متوسطين بين الجزاء وجوابه؛ لأن الكلام قد تم فاحتمل الاستئناف، ولا تكون الحال في ثم ولا الفاء؛ لأنهما لا تكونان إلا بعد. إلا أن الفاء، والواو يجوز بعدهما النصب على إضمار أن؛ لأن الجزاء غير واجب آخره إلا بوجوب أوله. وقد تقدم ذكرنا لهذا في باب الفاء والواو.
و قد قرئ هذا الحرف على ثلاثة أوجه: {يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء} بالجزم وهو أجودها، ويليه الرفع، ثم النصب. والأمر فيه على ما ذكرت لك). [المقتضب: 2/64-65]

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 30 جمادى الأولى 1435هـ/31-03-2014م, 04:35 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن الثالث الهجري


.....

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 30 جمادى الأولى 1435هـ/31-03-2014م, 04:40 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن الرابع الهجري


.....

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 30 جمادى الأولى 1435هـ/31-03-2014م, 04:40 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن الخامس الهجري


.....

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 30 جمادى الأولى 1435هـ/31-03-2014م, 04:40 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن السادس الهجري

تفسير قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {وإن كنتم على سفرٍ ولم تجدوا كاتباً فرهانٌ مقبوضةٌ فإن أمن بعضكم بعضاً فليؤدّ الّذي اؤتمن أمانته وليتّق اللّه ربّه ولا تكتموا الشّهادة ومن يكتمها فإنّه آثمٌ قلبه واللّه بما تعملون عليمٌ (283)}
لما ذكر الله تعالى الندب إلى الإشهاد والكتب لمصلحة حفظ الأموال والأديان عقب ذلك بذكر حال
الأعذار المانعة من الكتب وجعل لها الرهن ونص من أحوال العذر على السفر الذي هو الغالب من الأعذار لا سيما في ذلك الوقت لكثرة الغزو، ويدخل في ذلك بالمعنى كل عذر، فرب وقت يتعذر فيه الكاتب في الحضر كأوقات أشغال الناس وبالليل، وأيضا فالخوف على خراب ذمة الغريم عذر يوجب طلب الرهن.
وقد رهن النبي صلى الله عليه وسلم درعه عند يهودي طلب منه سلف الشعير، فقال: «إنما يريد محمد أن يذهب بمالي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «كذب إني لأمين في الأرض أمين في السماء، ولو ائتمنني لأديت، اذهبوا إليه بدرعي».
وقد قال جمهور من العلماء: «الرهن في السفر ثابت في القرآن، وفي الحضر ثابت في الحديث».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وهذا حسن، إلا أنه لم يمعن فيه النظر في لفظ السفر في الآية، وإذا كان السفر في الآية مثالا من الأعذار فالرهن في الحضر موجود في الآية بالمعنى، إذ قد تترتب الأعذار في الحضر»، وذهب الضحاك ومجاهد إلى أن الرهن والائتمان إنما هو في السفر، وأما في الحضر فلا ينبغي شيء من ذلك، وضعف الطبري قولهما في الرهن بحسب الحديث الثابت الذي ذكرته، وقوي قولهما في الائتمان، والصحيح ضعف القول في الفصلين بل يقع الائتمان في الحضر كثيرا ويحسن، وقرأ جمهور القراء «كاتبا» بمعنى رجل يكتب، وقرأ أبي بن كعب وابن عباس «كتابا» بكسر الكاف وتخفيف التاء وألف بعدها وهو مصدر، قال مكي: «وقيل هو جمع كاتب كقائم وقيام».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «ومثله صاحب وصحاب»، وقرأ بذلك مجاهد وأبو العالية وقالا: «المعنى وإن عدمت الدواة والقلم أو الصحيفة، ونفي وجود الكتاب يكون بعدم أي آلة اتفق من الآلة، فنفي الكتاب يعمها، ونفي الكاتب أيضا يقتضي نفي الكتاب فالقراءتان حسنتان إلا من جهة خط المصحف»، وروي عن ابن عباس أنه قرأ «كتابا» بضم الكاف على جمع كاتب، وهذا يحسن من حيث لكل نازلة كاتب، فقيل للجماعة ولم تجدوا كتابا، وهذا هو الجنس الذي تدل عليه قراءة من قرأ «كاتبا»، وحكى المهدوي عن أبي العالية أنه قرأ «كتبا» وهذا جمع كتاب من حيث النوازل مختلفة، وهذا هو الجنس الذي تدل عليه قراءة من قرأ «كتابا».
وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي وجمهور من العلماء «فرهان»، وقرأ أبو عمرو وابن كثير «فرهن» بضم الراء والهاء، وروي عنهما تخفيف الهاء. وقد قرأ بكل واحدة جماعة غيرهما.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «رهن الشيء في كلام العرب معناه: دام واستمر، يقال أرهن لهم الشراب وغيره» قال ابن سيده: «ورهنه أي أدامه»، ومن رهن بمعنى دام قول الشاعر:
اللحم والخبز لهم راهن ....... وقهوة راووقها ساكب
أي دائم قال أبو علي ولما كان الرهن بمعنى الثبوت والدوام فمن ثم بطل الرهن عند الفقهاء إذا خرج من يد المرتهن إلى يد الراهن بوجه من الوجوه لأنه فارق ما جعل له، ويقال أرهن في السلعة إذا غالى فيها حتى أخذها بكثير الثمن، ومنه قول الشاعر في وصف ناقة:
يطوي ابن سلمى بها من راكب بعدا ....... عيدية أرهنت فيها الدّنانير
العيد بطن من مهرة، وإبل مهرة موصوفة بالنجابة، ويقال في معنى الرهن الذي هو التوثقة من الحق: أرهنت إرهانا فيما حكى بعضهم، وقال أبو علي يقال: «أرهنت في المغالاة، وأما في القرض والبيع فرهنت».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «ويقال بلا خلاف في البيع والقرض: رهنت رهنا، ثم سمي بهذا المصدر الشيء المدفوع، ونقل إلى التسمية، ولذلك كسر في الجمع كما تكسر الأسماء وكما تكسر المصادر التي يسمى بها وصار فعله ينصبه نصب المفعول به لا نصب المصدر، تقول: رهنت رهنا فذلك كما تقول رهنت ثوبا، لا كما تقول: رهنت الثوب رهنا وضربت ضربا»، قال أبو علي: «وقد يقال في هذا المعنى أرهنت، وفعلت فيه أكثر، ومنه قول الشاعر:
يراهنني ويرهنني بنيه ....... وأرهنه بنيّ بما أقول
وقال الأعشى:
حتّى يقيدك من بنيه رهينة ....... نعش ويرهنك السّماك الفرقدا
فهذه رويت من رهن وأما أرهن فمنه قول همام بن مرة:
ولمّا خشيت أظافرهم ....... نجوت وأرهنتهم مالكا
قال الزجّاج: «يقال في الرهن رهنت وأرهنت»، وقاله ابن الأعرابي، ويقال رهنت لساني بكذا ولا يقال فيه أرهنت.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «فمن قرأ «فرهان» فهو جمع رهن، ك «كبش» و «كباش»، و «كعب» وكعاب، ونعل ونعال، وبغل وبغال، ومن قرأ «فرهن» بضم الراء والهاء فهو جمع رهن، ك «سقف وسقف، وأسد وأسد، إذ فعل وفعل يتقاربان في أحكامهما، ومن قرأ «فرهن» بسكون الهاء فهو تخفيف رهن، وهي لغة في هذا الباب كله، كتف وفخذ وعضد وغير ذلك»، قال أبو علي: «وتكسير رهن على أقل العدد لم أعلمه جاء، ولو جاء لكان قياسه أفعل ككلب وأكلب، وكأنهم استغنوا بالكثير عن القليل في قولهم: ثلاثة شسوع، وكما استغني ببناء القليل عن بناء الكثير في رسن وأرسان، فرهن يجمع على بناءين من أبنية الجموع وهما فعل وفعال، فمما جاء على «فعل» قول الأعشى:
آليت لا أعطيه من أبنائنا ....... رهنا فيفسدهم كمن قد أفسدا
قال الطبري: «تأول قوم أن «رهنا» بضم الراء والهاء جمع رهان، فهو جمع جمع»، وحكاه الزجّاج عن الفرّاء، ووجه أبو علي قياسا يقتضي أن يكون رهانا جمع رهن بأن يقال يجمع فعل على فعال كما جمعوا فعالا على فعائل في قول ذي الرمة:
وقرّبن بالزرق الجمائل بعد ما ....... تقوّب عن غربان أوراكها الخطر
ثم ضعف أبو علي هذا القياس وقال إن سيبويه لا يرى جمع الجمع مطردا فينبغي أن لا يقدم عليه حتى يرد سماعا.
وقوله عز وجل: {مقبوضةٌ} يقتضي بينونة المرتهن بالرهن، وأجمع الناس على صحة قبض المرتهن، وكذلك على قبض وكيله فيما علمت.
واختلفوا في قبض عدل يوضع الرهن على يديه، فقال مالك وجميع أصحابه وجمهور العلماء: «قبض العدل قبض»، وقال الحكم بن عتيبة وأبو الخطاب قتادة بن دعامة وغيرهما: «ليس قبض العدل بقبض»، وقول الجمهور أصح من جهة المعنى في الرهن.
وقوله تعالى: {فإن أمن} الآية، شرط ربط به وصية الذي عليه الحق بالأداء، وقوله: {فليؤدّ} أمر بمعنى الوجوب بقرينة الإجماع على وجوب أداء الديون وثبوت حكم الحاكم به وجبره الغرماء عليه، وبقرينة الأحاديث الصحاح في تحريم مال الغير، وقوله: {أمانته} مصدر سمي به الشيء الذي في الذمة، وأضافها إلى الذي عليه الدين من حيث لها إليه نسبة، ويحتمل أن يريد بالأمانة نفس المصدر، كأنه قال: فليحفظ مروءته، فيجيء التقدير: فليؤد ذا أمانته، وقرأ عاصم فيما روى عنه أبو بكر الذي اؤتمن برفع الألف ويشير بالضم إلى الهمزة، قال أحمد بن موسى وهذه الترجمة غلط، وقرأ الباقون بالذال مكسورة وبعدها همزة ساكنة بغير إشمام، وهذا هو الصواب الذي لا يجوز غيره، وروى سليم عن حمزة إشمام الهمزة الضم، وهذا خطأ أيضا لا يجوز، وصوّب أبو علي هذا القول كله الذي لأحمد بن موسى واحتج له، وقرأ ابن محيصن «الذي أيتمن» بياء ساكنة مكان الهمزة، وكذلك ما كان مثله.
وقوله تعالى: {ولا تكتموا الشّهادة} نهي على الوجوب بعدة قرائن، منها الوعيد وموضع النهي هو حيث يخاف الشاهد ضياع حق، وقال ابن عباس: «على الشاهد أن يشهد حيثما استشهد ويخبر حيثما استخبر، قال ولا تقل أخبر بها عند الأمير بل أخبره بها لعله يرجع ويرعوي».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وهذا عندي بحسب قرينة حال الشاهد والمشهود فيه والنازلة، لا سيما مع فساد الزمن وأرذال الناس ونفاق الحيلة وأعراض الدنيا عند الحكام، فرب شهادة إن صرح بها في غير موضع النفوذ كانت سببا لتخدم باطلا ينطمس به الحق»، وآثمٌ معناه قد تعلق به الحكم اللاحق عن المعصية في كتمان الشهادة، وإعرابه أنه خبر «إن»، وقلبه فاعل ب آثمٌ، ويجوز أن يكون ابتداء وقلبه فاعل يسد مسد الخبر، والجملة خبر إن، ويجوز أن يكون قلبه بدلا على بدل البعض من الكل.
وخص الله تعالى ذكر القلب إذ الكتم من أفعاله، وإذ هو المضغة التي بصلاحها يصلح الجسد كما قال عليه السلام، وقرأ ابن أبي عبلة «فإنه آثم قلبه» بنصب الباء، قال مكي: «هو على التفسير ثم ضعفه من أجل أنه معرفة».
وفي قوله تعالى: {واللّه بما تعملون عليمٌ} توعد وإن كان لفظها يعم الوعيد والوعد). [المحرر الوجيز: 2/ 125-131]

تفسير قوله تعالى: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {للّه ما في السّماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه فيغفر لمن يشاء ويعذّب من يشاء واللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ (284)}
المعنى جميع ما في السموات وما في الأرض ملك الله وطاعة، لأنه الموجد المخترع لا رب غيره، وعبر ب ما وإن كان ثم من يعقل لأن الغالب إنما هو جماد، ويقل من يعقل من حيث قلت أجناسه، إذ هي ثلاثة: ملائكة، وإنس، وجن، وأجناس الغير كثيرة.
وقوله تعالى: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه} معناه أن الأمر سواء، لا تنفع فيه المواراة والكتم، بل يعلمه ويحاسب عليه، وقوله: {في أنفسكم} تقتضي قوة اللفظ أنه ما تقرر في النفس واعتقد واستصحبت الفكرة فيه، وأما الخواطر التي لا يمكن دفعها فليست في النفس إلا على تجوز.
واختلف الناس في معنى هذه الآية، فقال ابن عباس وعكرمة والشعبي: «هي في معنى الشهادة التي نهي عن كتمها، ثم أعلم في هذه الآية أن الكاتم لها المخفي في نفسه محاسب»، وقال ابن عباس أيضا وأبو هريرة والشعبي وجماعة من الصحابة والتابعين: «إن هذه الآية لما نزلت شق ذلك على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وقالوا هلكنا يا رسول الله إن حوسبنا بخواطر نفوسنا، وشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم لكنه قال لهم: «أتريدون أن تقولوا كما قالت بنو إسرائيل: سمعنا وعصينا؟! بل قولوا سمعنا وأطعنا»، فقالوها، فأنزل الله بعد ذلك: {لا يكلّف اللّه نفساً إلّا وسعها} [البقرة: 286]، فكشف عنهم الكربة ونسخ الله بهذه الآية تلك»، هذا معنى الحديث المروي، لأنه تطرق من جهات، واختلفت عباراته واستثبتت عبارة هؤلاء القائلين بلفظة النسخ في هذه النازلة. وقال سعيد بن مرجانة جئت عبد الله بن عمر فتلا هذه الآية {إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه} ثم قال: «والله لئن أخذنا بهذه الآية لنهلكن، ثم بكى حتى سالت دموعه، وسمع نشيجه، قال ابن مرجانة فقمت حتى جئت ابن عباس فأخبرته بما قال ابن عمر وبما فعل، فقال: يرحم الله أبا عبد الرحمن، لقد وجد المسلمون منها حين نزلت مثل ما وجد عبد الله بن عمر فأنزل الله {لا يكلّف اللّه نفساً إلّا وسعها} الآية فنسخت الوسوسة، وثبت القول والفعل»، وقال الطبري وقال آخرون: «هذه الآية محكمة غير منسوخة، والله تعالى يحاسب خلقه على ما عملوا من عمل وعلى ما لم يعملوه مما ثبت في نفوسهم فأضمروه ونووه وأرادوه، فيغفر للمؤمنين ويأخذ به أهل الكفر والنفاق»، ثم أدخل عن ابن عباس ما يشبه هذا المعنى، وقال مجاهد: «الآية فيما يطرأ على النفوس من الشك واليقين»، وقال الحسن: «الآية محكمة ليست بمنسوخة»، قال الطبري وقال آخرون: «نحو هذا المعنى الذي ذكر عن ابن عباس، إلا أنهم قالوا إن العذاب الذي يكون جزاء لما خطر في النفس وصحبه الفكر هو بمصائب الدنيا وآلامها وسائر مكارهها»، ثم أسند عن عائشة رضي الله عنها نحو هذا المعنى، ورجح الطبري أن الآية محكمة غير منسوخة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وهذا هو الصواب»، وذلك أن قوله تعالى: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه} معناه مما هو في وسعكم وتحت كسبكم، وذلك استصحاب المعتقد والفكر فيه، فلما كان اللفظ مما يمكن أن تدخل فيه الخواطر أشفق الصحابة والنبي صلى الله عليه وسلم، فبيّن الله تعالى لهم ما أراد بالآية الأولى وخصصها، ونص على حكمه أنه {لا يكلّف نفساً إلّا وسعها} [البقرة: 286]، والخواطر ليست هي ولا دفعها في الوسع، بل هو أمر غالب، وليست مما يكسب ولا يكتسب، وكان في هذا البيان فرحهم وكشف كربهم، وباقي الآية محكمة لا نسخ فيها.
ومما يدفع أمر النسخ أن الآية خبر، والأخبار لا يدخلها النسخ، فإن ذهب ذاهب إلى تقرير النسخ فإنما يترتب له في الحكم الذي لحق الصحابة حين فزعوا من الآية، وذلك أن قول النبي صلى الله عليه وسلم لهم: «قولوا سمعنا وأطعنا» يجيء منه الأمر بأن يبنوا على هذا ويلتزموه وينتظروا لطف الله في الغفران، فإذا قرر هذا الحكم فصحيح وقوع النسخ فيه، وتشبه الآية حينئذ قوله عز وجل: {إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين} [الأنفال: 65] فهذا لفظ الخبر ولكن معناه: التزموا هذا وابنوا عليه واصبروا بحسبه، ثم نسخ ذلك بعد ذلك.
وأجمع الناس فيما علمت على أن هذه الآية في الجهاد منسوخة بصبر المائة للمائتين، وهذه الآية في البقرة أشبه شيء بها، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي «فيغفر»، «ويعذب» جزما، وقرأ ابن عامر وعاصم «فيغفر» و «يعذب» رفعا، فوجه الجزم أنه أتبعه ما قبله ولم يقطعه، وهكذا تحسن المشاكلة في كلامهم، ووجه الرفع أنه قطعه من الأول، وقطعه على أحد وجهين، إما أن تجعل الفعل خبرا لمبتدأ محذوف فيرتفع الفعل لوقوعه موقع خبر المبتدأ، وإما أن تعطف جملة من فعل وفاعل على ما تقدمها، وقرأ ابن عباس والأعرج وأبو حيوة «فيغفر» و «يعذب» بالنصب على إضمار «أن»، وهو معطوف على المعنى كما في قوله: {فيضاعفه} [الحديد 11] وقرأ الجعفي وخلاد وطلحة بن مصرف يغفر بغير فاء، وروي أنها كذلك في مصحف ابن مسعود، قال ابن جني: «هي على البدل من يحاسبكم فهي تفسير المحاسبة، وهذا كقول الشاعر:
رويدا بني شيبان بعض وعيدكم ....... تلاقوا غدا خيلي على سفوان
تلاقوا جيادا لا تحيد عن الوغى ....... إذا ما غدت في المأزق المتدان
فهذا على البدل، وكرر الشاعر الفعل لأن الفائدة فيما يليه من القول.
وقوله تعالى: {ويعذّب من يشاء} يعني من العصاة الذين ينفذ عليهم الوعيد، قال النقاش: «{يغفر لمن يشاء} أي لمن ينزع عنه، {ويعذّب من يشاء} أي من أقام عليه»، وقال سفيان الثوري: «{يغفر لمن يشاء} العظيم ويعذب من يشاء على الصغير».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وتعلق بهذه قوم ممن قال بجواز تكليف ما لا يطاق».، وقال: «إن الله قد كلفهم أمر الخواطر، وذلك مما لا يطاق».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وهذا غير بين، وإنما كان أمر الخواطر تأويلا تأوله أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يثبت تكليفا إلا على الوجه الذي ذكرنا من تقدير النبي صلى الله عليه وسلم إياهم على ذلك».
ومسألة تكليف ما لا يطاق، نتكلم عليها فيما بعد إن شاء الله تعالى.
ولما ذكر المغفرة والتعذيب بحسب مشيئته تعالى أعقب ذلك بذكر القدرة على جميع الأشياء، إذ ما ذكر جزء منها). [المحرر الوجيز: 2/ 131-135]


رد مع اقتباس
  #9  
قديم 30 جمادى الأولى 1435هـ/31-03-2014م, 04:40 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن السابع الهجري


.....

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 30 جمادى الأولى 1435هـ/31-03-2014م, 04:41 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن الثامن الهجري

تفسير قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {وإن كنتم على سفرٍ ولم تجدوا كاتبًا فرهانٌ مقبوضةٌ فإن أمن بعضكم بعضًا فليؤدّ الّذي اؤتمن أمانته وليتّق اللّه ربّه ولا تكتموا الشّهادة ومن يكتمها فإنّه آثمٌ قلبه واللّه بما تعملون عليمٌ (283)}
يقول تعالى: {وإن كنتم على سفرٍ} أي: مسافرين وتداينتم إلى أجلٍ مسمّى {ولم تجدوا كاتبًا} يكتب لكم. قال ابن عبّاسٍ: «أو وجدوه ولم يجد قرطاسًا أو دواةً أو قلمًا فرهن مقبوضةٌ، أي: فليكن بدل الكتابة رهان مقبوضةٌ في يد صاحب الحقّ».
وقد استدلّ بقوله: {فرهانٌ مقبوضة} على أنّ الرّهن لا يلزم إلّا بالقبض، كما هو مذهب الشّافعيّ والجمهور، واستدلّ بها آخرون على أنّه لا بدّ أن يكون الرّهن مقبوضًا في يد المرتهن، وهو روايةٌ عن الإمام أحمد، وذهب إليه طائفةٌ.
واستدلّ آخرون من السّلف بهذه الآية على أنّه لا يكون الرّهن مشروعًا إلّا في السّفر، قاله مجاهدٌ وغيره.
وقد ثبت في الصّحيحين، عن أنسٍ، أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم توفّي ودرعه مرهونةٌ عند يهوديٍّ على ثلاثين وسقًا من شعيرٍ، رهنها قوتًا لأهله. وفي روايةٍ: من يهود المدينة. وفي رواية الشّافعيّ: عند أبي الشّحم اليهوديّ. وتقرير هذه المسائل في كتاب "الأحكام الكبير"، ولله الحمد والمنة، وبه المستعان.
وقوله: {فإن أمن بعضكم بعضًا فليؤدّ الّذي اؤتمن أمانته} روى ابن أبي حاتمٍ بإسنادٍ جيّدٍ، عن أبي سعيدٍ الخدريّ أنّه قال: «هذه نسخت ما قبلها».
وقال الشّعبيّ: «إذا ائتمن بعضكم بعضًا فلا بأس ألّا تكتبوا أو لا تشهدوا».
وقوله: {وليتّق اللّه ربّه} يعنى: المؤتمن، كما جاء في الحديث الّذي رواه الإمام أحمد وأهل السّنن، من رواية قتادة، عن الحسن، عن سمرة: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال: «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه».
وقوله: {ولا تكتموا الشّهادة} أي: لا تخفوها وتغلّوها ولا تظهروها. قال ابن عبّاسٍ وغيره: «شهادة الزّور من أكبر الكبائر، وكتمانها كذلك». ولهذا قال: {ومن يكتمها فإنّه آثمٌ قلبه} قال السّدّيّ: يعني: «فاجرٌ قلبه»، وهذه كقوله تعالى: {ولا نكتم شهادة اللّه إنّا إذًا لمن الآثمين} [المائدة: 106]، وقال تعالى: {يا أيّها الّذين آمنوا كونوا قوّامين بالقسط شهداء للّه ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيًّا أو فقيرًا فاللّه أولى بهما فلا تتّبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإنّ اللّه كان بما تعملون خبيرًا} [النّساء: 135]، وهكذا قال هاهنا: {ولا تكتموا الشّهادة ومن يكتمها فإنّه آثمٌ قلبه واللّه بما تعملون عليمٌ} ). [تفسير ابن كثير: 1/ 727-728]

تفسير قوله تعالى: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {للّه ما في السّماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه فيغفر لمن يشاء ويعذّب من يشاء واللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ (284)}
يخبر تعالى أنّ له ملك السموات والأرض وما فيهنّ وما بينهنّ، وأنّه المطّلع على ما فيهنّ، لا تخفى عليه الظّواهر ولا السّرائر والضّمائر، وإن دقّت وخفيت، وأخبر أنّه سيحاسب عباده على ما فعلوه وما أخفوه في صدورهم كما قال: {قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه اللّه ويعلم ما في السّماوات وما في الأرض واللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ} [آل عمران: 29]، وقال: {يعلم السّرّ وأخفى} [طه: 7]، والآيات في ذلك كثيرةٌ جدًّا، وقد أخبر في هذه بمزيدٍ على العلم، وهو: المحاسبة على ذلك، ولهذا لمّا نزلت هذه الآية اشتدّ ذلك على الصّحابة، رضي اللّه عنهم، وخافوا منها، ومن محاسبة اللّه لهم على جليل الأعمال وحقيرها، وهذا من شدّة إيمانهم وإيقانهم.
قال الإمام أحمد: حدّثنا عفّان، حدّثنا عبد الرّحمن بن إبراهيم، حدّثني أبو عبد الرّحمن - يعني العلاء -عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: لمّا نزلت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: {للّه ما في السّماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه فيغفر لمن يشاء ويعذّب من يشاء واللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ} اشتدّ ذلك على أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فأتوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، ثم جثوا على الرّكب، وقالوا: يا رسول اللّه، كلّفنا من الأعمال ما نطيق: الصّلاة والصّيام والجهاد والصّدقة، وقد أنزل عليك هذه الآية ولا نطيقها. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا، غفرانك ربّنا وإليك المصير». فلمّا أقر بها القوم وذلّت بها ألسنتهم، أنزل اللّه في أثرها: {آمن الرّسول بما أنزل إليه من ربّه والمؤمنون كلٌّ آمن باللّه وملائكته وكتبه ورسله لا نفرّق بين أحدٍ من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربّنا وإليك المصير} فلمّا فعلوا ذلك نسخها اللّه فأنزل: {لا يكلّف اللّه نفسًا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربّنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} إلى آخره.
ورواه مسلمٌ منفردًا به، من حديث يزيد بن زريعٍ، عن روح بن القاسم، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة، فذكر مثله ولفظه: «فلمّا فعلوا ذلك نسخها اللّه، فأنزل: {لا يكلّف اللّه نفسًا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربّنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} قال: نعم، {ربّنا ولا تحمل علينا إصرًا كما حملته على الّذين من قبلنا} قال: نعم، {ربّنا ولا تحمّلنا ما لا طاقة لنا به} قال: نعم، {واعف عنّا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين} قال: نعم».
حديث ابن عبّاسٍ في ذلك: قال الإمام أحمد: حدّثنا وكيع، حدّثنا سفيان، عن آدم بن سليمان، سمعت سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ قال: «لمّا نزلت هذه الآية: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه} قال: «دخل قلوبهم منها شيءٌ لم يدخل قلوبهم من شيءٍ، قال: فقال رسول اللّه، صلّى اللّه عليه وسلّم: «قولوا سمعنا وأطعنا وسلّمنا». فألقى اللّه الإيمان في قلوبهم، فأنزل الله. {آمن الرّسول بما أنزل إليه من ربّه والمؤمنون كلٌّ آمن باللّه وملائكته وكتبه ورسله لا نفرّق بين أحدٍ من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربّنا وإليك المصير} إلى قوله: {فانصرنا على القوم الكافرين}.
وهكذا رواه مسلمٌ، عن أبي بكر بن أبي شيبة، وأبي كريب، وإسحاق بن إبراهيم، ثلاثتهم عن وكيعٍ، به وزاد: «{ربّنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} قال: قد فعلت {ربّنا ولا تحمل علينا إصرًا كما حملته على الّذين من قبلنا} قال: قد فعلت، {ربّنا ولا تحمّلنا ما لا طاقة لنا به} قال: قد فعلت {واعف عنّا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا} قال: قد فعلت».
طريقٌ أخرى عن ابن عبّاسٍ: قال الإمام أحمد: حدّثنا عبد الرّزّاق، أخبرنا معمر، عن حميدٍ الأعرج، عن مجاهدٍ، قال: دخلت على ابن عبّاسٍ فقلت: «يا أبا عبّاسٍ، كنت عند ابن عمر فقرأ هذه الآية فبكى. قال: أيّة آيةٍ؟ قلت: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه} قال ابن عبّاسٍ، إنّ هذه الآية حين أنزلت غمّت أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم غمًّا شديدًا، وغاظتهم غيظًا شديدًا، يعني، وقالوا: يا رسول اللّه، هلكنا، إن كنّا نؤاخذ بما تكلّمنا وبما نعمل، فأمّا قلوبنا فليست بأيدينا، فقال لهم رسول اللّه، صلّى اللّه عليه وسلّم: «قولوا: سمعنا وأطعنا». قالوا: سمعنا وأطعنا. قال: فنسختها هذه الآية: {آمن الرّسول بما أنزل إليه من ربّه والمؤمنون كلٌّ آمن باللّه} إلى {لا يكلّف اللّه نفسًا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} فتجوز لهم عن حديث النّفس وأخذوا بالأعمال.
طريقٌ أخرى عنه: قال ابن جريرٍ: حدّثني يونس، أخبرنا ابن وهبٍ، أخبرني يونس بن يزيد، عن ابن شهابٍ، عن سعيد بن مرجانة، سمعه يحدّث: «أنّه بينما هو جالسٌ مع عبد اللّه بن عمر تلا هذه الآية: {للّه ما في السّماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه فيغفر لمن يشاء} الآية. فقال: «واللّه لئن واخذنا اللّه بهذا لنهلكنّ، ثمّ بكى ابن عمر حتّى سمع نشيجه. قال ابن مرجانة: فقمت حتّى أتيت ابن عبّاسٍ، فذكرت له ما قال ابن عمر، وما فعل حين تلاها، فقال عبد اللّه بن عبّاسٍ: يغفر اللّه لأبي عبد الرّحمن. لعمري لقد وجد المسلمون منها حين أنزلت مثل ما وجد عبد اللّه بن عمر، فأنزل اللّه بعدها: {لا يكلّف اللّه نفسًا إلا وسعها} إلى آخر السّورة، قال ابن عبّاسٍ: فكانت هذه الوسوسة ممّا لا طاقة للمسلمين بها، وصار الأمر إلى أن قضى اللّه، عزّ وجلّ، أنّ للنّفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت في القول والفعل».
طريقٌ أخرى: قال ابن جريرٍ: حدّثني المثنّى، حدّثنا إسحاق، حدّثنا يزيد بن هارون، عن سفيان بن حسينٍ، عن الزّهريّ، عن سالمٍ: «أنّ أباه قرأ: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه} فدمعت عيناه، فبلغ صنيعه ابن عبّاسٍ، فقال: يرحم اللّه أبا عبد الرّحمن، لقد صنع كما صنع أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حين أنزلت، فنسختها الآية الّتي بعدها: {لا يكلّف اللّه نفسًا إلا وسعها}». فهذه طرقٌ صحيحةٌ عن ابن عبّاسٍ، وقد ثبت عن ابن عمر كما ثبت عن ابن عبّاسٍ.
قال البخاريّ: حدّثنا إسحاق، حدّثنا روحٌ، حدّثنا شعبة، عن خالدٍ الحذّاء، عن مروان الأصفر، عن رجلٍ من أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم -أحسبه ابن عمر - {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه} قال: «نسختها الآية الّتي بعدها».
وهكذا روي عن عليٍّ، وابن مسعودٍ، وكعب الأحبار، والشّعبيّ، والنخعي، ومحمّد بن كعبٍ القرظي، وعكرمة، وسعيد بن جبير، وقتادة: «أنّها منسوخةٌ بالّتي بعدها».
وقد ثبت بما رواه الجماعة في كتبهم السّتّة من طريق قتادة، عن زرارة بن أوفى، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «إنّ اللّه تجاوز لي عن أمّتي ما حدّثت به أنفسها، ما لم تكلّم أو تعمل ».
وفي الصّحيحين، من حديث سفيان بن عيينة، عن أبي الزّناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «قال اللّه: [إذا هم عبدي بسيّئةٍ فلا تكتبوها عليه، فإن عملها فاكتبوها سيّئةً، وإذا همّ بحسنةٍ فلم يعملها فاكتبوها حسنة، فإن عملها فاكتبوها عشرًا]. لفظ مسلمٍ وهو في أفراده من طريق إسماعيل بن جعفرٍ، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «قال اللّه: [إذا همّ عبدي بحسنةٍ ولم يعملها كتبتها له حسنةً، فإن عملها كتبتها عشر حسناتٍ إلى سبعمائة ضعفٍ، وإذا همّ بسيّئةٍ فلم يعملها لم أكتبها عليه، فإن عملها كتبتها سيّئةً واحدةً].
وقال عبد الرّزّاق: أخبرنا معمر، عن همام بن منبّهٍ قال: هذا ما حدّثنا أبو هريرة، عن محمّدٍ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «قال اللّه: [إذا تحدّث عبدي بأن يعمل حسنةً، فأنا أكتبها له حسنةً ما لم يعمل، فإذا عملها فأنا أكتبها بعشر أمثالها، وإذا تحدّث بأن يعمل سيّئةً فأنا أغفرها له، ما لم يعملها، فإن عملها فأنا أكتبها له بمثلها]. وقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «قالت الملائكة: ربّ، وإنّ عبدك يريد أن يعمل سيّئةً -وهو أبصر به -فقال: ارقبوه، فإن عملها فاكتبوها له بمثلها، وإن تركها فاكتبوها له حسنةً، وإنّما تركها من جراي». وقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «إذا أحسن أحدٌ إسلامه، فكلّ حسنةٍ يعملها تكتب بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعفٍ، وكلّ سيّئةٍ تكتب بمثلها حتّى يلقى اللّه عزّ وجلّ».
تفرّد به مسلمٌ عن محمّد بن رافعٍ، عن عبد الرّزّاق بهذا السّياق واللّفظ وبعضه في صحيح البخاريّ.
وقال مسلمٌ أيضًا: حدّثنا أبو كريبٍ، حدّثنا أبو خالدٍ الأحمر، عن هشامٍ، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «من همّ بحسنةٍ فلم يعملها كتبت له حسنةً، ومن همّ بحسنةٍ فعملها كتبت له عشرًا إلى سبعمائة ضعفٍ، ومن همّ بسيّئةٍ فلم يعملها لم تكتب، وإن عملها كتبت». تفرّد به مسلمٌ دون غيره من أصحاب الكتب.
وقال مسلمٌ حدّثنا شيبان بن فرّوخٍ، حدّثنا عبد الوارث، عن الجعد أبي عثمان، حدّثنا أبو رجاءٍ العطاردي، عن ابن عبّاسٍ، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فيما يروي عن ربّه تعالى قال: [إنّ اللّه كتب الحسنات والسّيّئات، ثمّ بيّن ذلك، فمن همّ بحسنةٍ فلم يعملها كتبها اللّه عنده حسنةً كاملةً، وإن همّ بها فعملها كتبها اللّه عنده عشر حسناتٍ إلى سبعمائة ضعفٍ، إلى أضعافٍ كثيرةٍ. وإن همّ بسيئة فلم يعملها كتبها اللّه عنده حسنةً كاملةً، وإن همّ بها فعملها كتبها اللّه سيّئةً واحدةً].
ثمّ رواه مسلمٌ، عن يحيى بن يحيى، عن جعفر بن سليمان، عن الجعد أبي عثمان في هذا الإسناد بمعنى حديث عبد الوارث وزاد: «ومحاها اللّه، ولا يهلك على اللّه إلّا هالكٌ».
وفي حديث سهيلٍ، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: جاء ناسٌ من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فسألوه: إنّا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلّم به. قال: «وقد وجدتموه؟» قالوا: نعم. قال:«ذاك صريح الإيمان».
لفظ مسلمٍ وهو عند مسلمٍ أيضًا من طريق الأعمش، عن أبي صالحٍ، عن أبي هريرة، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، به. وروى مسلمٌ أيضًا من حديث مغيرة، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد اللّه، قال: سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن الوسوسة، قال: «تلك صريح الإيمان». وقال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: «{وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه} فإنّها لم تنسخ، ولكنّ اللّه إذا جمع الخلائق يوم القيامة يقول: إنّي أخبركم بما أخفيتم في أنفسكم، ممّا لم يطّلع عليه ملائكتي، فأمّا المؤمنون فيخبرهم ويغفر لهم ما حدّثوا به أنفسهم، وهو قوله: {يحاسبكم به اللّه} يقول: يخبركم، وأمّا أهل الشّكّ والرّيب فيخبرهم بما أخفوا من التّكذيب وهو قوله: {فيغفر لمن يشاء ويعذّب من يشاء} وهو قوله: {ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم} [البقرة: 225] أي: من الشّكّ والنّفاق». وقد روى العوفيّ والضّحّاك عنه قريبًا من هذا.
وروى ابن جريرٍ، عن مجاهدٍ والضّحّاك، نحوه. وعن الحسن البصريّ أنّه قال: «هي محكمة لم تنسخ». واختار ابن جريرٍ ذلك، واحتجّ على أنّه لا يلزم من المحاسبة المعاقبة، وأنّه تعالى قد يحاسب ويغفر، وقد يحاسب ويعاقب بالحديث الّذي رواه عند هذه الآية، قائلًا حدّثنا ابن بشّارٍ، حدّثنا ابن أبي عديٍّ، عن سعيدٍ وهشامٍ، (ح) وحدّثني يعقوب بن إبراهيم، حدّثنا ابن عليّة، حدّثنا هشامٌ، قالا جميعًا في حديثهما: عن قتادة، عن صفوان بن محرز، قال: «بينما نحن نطوف بالبيت مع عبد اللّه بن عمر، وهو يطوف، إذ عرض له رجلٌ فقال: يا ابن عمر، ما سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول في النّجوى؟ فقال: سمعت نبيّ اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: «يدنو المؤمن من ربّه، عزّ وجلّ، حتّى يضع عليه كنفه، فيقرّره بذنوبه فيقول: هل تعرف كذا؟ فيقول: ربّ أعرف -مرّتين -حتّى إذا بلغ به ما شاء اللّه أن يبلغ قال: فإنّي قد سترتها عليك في الدّنيا وأنا أغفرها لك اليوم». قال: "فيعطى صحيفة حسناته -أو كتابه -بيمينه، وأمّا الكفّار والمنافقون فينادى بهم على رؤوس الأشهاد: {هؤلاء الّذين كذبوا على ربّهم ألا لعنة اللّه على الظّالمين} [هودٍ: 18]».
وهذا الحديث مخرّجٌ في الصّحيحين وغيرهما من طرقٍ متعدّدةٍ، عن قتادة، به.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا سليمان بن حربٍ، حدّثنا حمّاد بن سلمة، عن عليّ بن زيدٍ، عن أميّة قالت: سألت عائشة عن هذه الآية: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه} فقالت: «ما سألني عنها أحدٌ منذ سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عنها فقال: «هذه مبايعة اللّه العبد، وما يصيبه من الحمّى، والنّكبة، والبضاعة يضعها في يد كمّه، فيفتقدها فيفزع لها، ثمّ يجدها في ضبنه، حتّى إنّ المؤمن ليخرج من ذنوبه كما يخرج التّبر الأحمر من الكير».
وكذا رواه التّرمذيّ، وابن جريرٍ من طريق حمّاد بن سلمة، به. وقال التّرمذيّ: غريبٌ لا نعرفه إلّا من حديثه.
قلت: وشيخه عليّ بن زيد بن جدعان ضعيفٌ، يغرب في رواياته وهو يروي هذا الحديث عن امرأة أبيه: أمّ محمّدٍ أميّة بنت عبد اللّه، عن عائشة، وليس لها عنها في الكتب سواه). [تفسير ابن كثير: 1/ 728-733]


رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
إبحث في الموضوع:

البحث المتقدم
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 03:47 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
جميع الحقوق محفوظة