العودة   جمهرة العلوم > قسم التفسير > جمهرة التفاسير > تفسير سورة الأنعام

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 16 ربيع الثاني 1434هـ/26-02-2013م, 01:27 PM
ريم الحربي ريم الحربي غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jan 2010
الدولة: بلاد الحرمين
المشاركات: 2,656
افتراضي تفسير سورة الأنعام [ من الآية (71) إلى الآية (73) ]

{قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)}


رد مع اقتباس
  #2  
قديم 21 ربيع الثاني 1434هـ/3-03-2013م, 12:08 AM
ريم الحربي ريم الحربي غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jan 2010
الدولة: بلاد الحرمين
المشاركات: 2,656
افتراضي تفسير السلف

تفسير السلف


تفسير قوله تعالى: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71)}

قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (عن معمر، عن قتادة، في قوله تعالى: {استهوته الشياطين قال أضلته الشياطين في الأرض حيران}). [تفسير عبد الرزاق: 1/ 212]
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (أنا معمر ورجل، عن مجاهد في قوله تعالى:{ حيران} قال هذا مثل ضربه الله للكافر يقول الكافر حيران يدعوه المسلم إلى هدى فلا يجيب). [تفسير عبد الرزاق: 1/ 212]
قال محمدُ بنُ إسماعيلَ بن إبراهيم البخاريُّ (ت: 256هـ) :(قال ابن عبّاسٍ: {ثمّ لم تكن فتنتهم} [الأنعام: 23] : «معذرتهم» {معروشاتٍ} [الأنعام: 141] : «ما يعرش من الكرم وغير ذلك» ، {حمولةً} [الأنعام: 142] : «ما يحمل عليها»، {وللبسنا} [الأنعام: 9] : «لشبّهنا» ، {لأنذركم به} [الأنعام: 19] : «أهل مكّة» {ينأون}[الأنعام: 26] : «يتباعدون» . {تبسل} [الأنعام: 70] : «تفضح» . {أبسلوا} [الأنعام: 70] : «أفضحوا» ، {باسطو أيديهم} : «البسط الضّرب» ، وقوله: {استكثرتم من الإنس} [الأنعام: 128] : «أضللتم كثيرًا»، {ممّا ذرأ من الحرث}[الأنعام: 136] : «جعلوا للّه من ثمراتهم ومالهم نصيبًا، وللشّيطان والأوثان نصيبًا» ، {أكنّةً} [الأنعام: 25] : «واحدها كنانٌ» ، {أمّا اشتملت} [الأنعام: 143] : «يعني هل تشتمل إلّا على ذكرٍ أو أنثى، فلم تحرّمون بعضًا وتحلّون بعضًا؟» {مسفوحًا}: [الأنعام: 145] : مهراقًا، {صدف} [الأنعام: 157] : " أعرض، أبلسوا: أويسوا "، و {أبسلوا} [الأنعام: 70] : «أسلموا» ، {سرمدًا} [القصص: 71] : «دائمًا» ، {استهوته} [الأنعام: 71] : «أضلّته»). [صحيح البخاري: 6/ 55-56] (م)
- قال أحمدُ بنُ عَلَيِّ بنِ حجرٍ العَسْقَلانيُّ (ت: 852هـ): (قوله استهوته أضلّته هو تفسير قتادة أخرجه عبد الرّزّاق وقال أبو عبيدة في قوله تعالى: {كالّذي استهوته الشّياطين} هو الّذي تشبّه له الشّياطين فيتبعها حتّى يهوي في الأرض فيضلّ). [فتح الباري: 8/ 290]
- قال أحمدُ بنُ عَلَيِّ بنِ حجرٍ العَسْقَلانيُّ (ت: 852هـ): (وبه قوله:{كالّذي استهوته الشّياطين في الأرض} يقول هم الغيلان يدعونه باسمه واسم أبيه فيتبعها ويرى أنه في شيء فيصبح وقد ألقته في هلكة أو تلقيه في مضلة من الأرض يهلك فيها عطشا فهذا مثل ما أجاب من يعبد من دون الله). [تغليق التعليق: 4/ 211]
- قال محمودُ بنُ أحمدَ بنِ موسى العَيْنِيُّ (ت: 855هـ) : (استهوته أضلّته
أشار به إلى قوله تعالى: {كالّذي استهوته الشّياطين} وفسره بقوله أضلته وكذا فسره قتادة). [عمدة القاري: 18/ 221]
- قال أحمدُ بنُ محمدِ بن أبي بكرٍ القَسْطَلاَّنيُّ (ت: 923هـ) : (وفي قوله: ({استهوته}) أي (أضلته) الشياطين). [إرشاد الساري: 7/ 116]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {قل أندعو من دون اللّه ما لا ينفعنا ولا يضرّنا ونردّ على أعقابنا بعد إذ هدانا اللّه كالّذي استهوته الشّياطين في الأرض حيران له أصحابٌ يدعونه إلى الهدى ائتنا}.
وهذا تنبيهٌ من اللّه تعالى ذكره نبيّه -صلّى اللّه عليه وسلّم- على حجّته على مشركي قومه من عبدة الأوثان، يقول له تعالى ذكره: قل يا محمّد لهؤلاء العادلين بربّهم الأوثان والأنداد والآمرين لك باتّباع دينهم وعبادة الأصنام معهم: أندعو من دون اللّه حجرًا أو خشبًا لا يقدر على نفعنا أو ضرّنا، فنخصّه بالعبادة دون اللّه، وندع عبادة الّذي بيده الضّرّ والنّفع والحياة والموت، إن كنتم تعقلون فتميّزون بين الخير والشّرّ، فلا شكّ أنّكم تعلمون أنّ خدمة ما يرتجى نفعه ويرهب ضرّه أحقّ وأولى من خدمة من لا يرجى نفعه ولا يخشى ضرّه.
{ونردّ على أعقابنا} يقول: ونردّ إلى أدبارنا فنرجع القهقرى خلفنا لم نظفر بحاجتنا.
وقد بيّنّا معنى الرّدّ على العقب، وأنّ العرب تقول لكلّ طالب حاجةٍ لم يظفر بها: ردّ على عقبيه، فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
وإنّما يراد به في هذا الموضع: ونردّ من الإسلام إلى الكفر بعد إذ هدانا اللّه فوفّقنا له، فيكون مثلنا في ذلك مثل الرّجل الّذي استتبعه الشّيطان يهوي في الأرض حيران.
وقوله: {استهوته} استفعلته، من قول القائل: هوى فلانٌ إلى كذا يهوي إليه، ومن قول اللّه تعالى ذكره: {فاجعل أفئدةً من النّاس تهوي إليهم} بمعنى: تنزع إليهم وتريدهم.
وأمّا حيران: فإنّه فعلان من قول القائل: قد حار فلانٌ في الطّريق فهو يحار فيه حيرةً وحيرانًا وحيرورةً، وذلك إذا ضلّ فلم يهتد للمحجّة.
{له أصحابٌ يدعونه إلى الهدى}، يقول: لهذا الحيران الّذي قد استهوته الشّياطين في الأرض أصحابٌ على المحجّة واستقامة السّبيل، يدعونه إلى المحجّة لطريق الهدى الّذي هم عليه، يقولون له: ائتنا. وترك إجراء حيران، لأنّه (فعلان)، وكلّ اسمٍ كان على (فعلان) ممّا أنثاه (فعلى) فإنّه لا يجرى في كلام العرب في معرفةٍ ولا نكرةٍ.
وهذا مثلٌ ضربه اللّه -تعالى- لمن كفر باللّه بعد إيمانه فاتّبع الشّياطين من أهل الشّرك باللّه، وأصحابه الّذين كانوا أصحابه في حال إسلامه المقيمون على الدّين الحقّ يدعونه إلى الهدى الّذي هم عليه مقيمون، والصّواب الّذي هم به متمسّكون، وهو له مفارقٌ، وعنه زائلٌ، يقولون له: ائتنا، فكن معنا على استقامةٍ وهدًى، وهو يأبى ذلك، ويتّبع دواعي الشّيطان، ويعبد الآلهة والأوثان.
وبمثل الّذي قلنا في ذلك قال جماعةٌ من أهل التّأويل، وخالف في ذلك جماعةٌ.
ذكر من قال ذلك مثل ما قلنا:
- حدّثني محمّد بن الحسين، قال: حدّثنا أحمد بن المفضّل، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ: {قل أندعو من دون اللّه ما لا ينفعنا ولا يضرّنا ونردّ على أعقابنا بعد إذ هدانا اللّه كالّذي استهوته الشّياطين في الأرض حيران له أصحابٌ يدعونه إلى الهدى ائتنا} قال: قال المشركون للمؤمنين: اتّبعوا سبيلنا، واتركوا دين محمّدٍ -صلّى اللّه عليه وسلّم-، فقال اللّه تعالى ذكره: قل أندعو من دون اللّه ما لا ينفعنا ولا يضرّنا، هذه الآلهة، ونردّ على أعقابنا بعد إذ هدانا اللّه، فيكون مثلنا كمثل الّذي استهوته الشّياطين في الأرض، يقول: مثلكم إن كفرتم بعد الإيمان كمثل رجلٍ كان مع قومٍ على الطّريق، فضلّ الطّريق، فحيّرته الشّياطين واستهوته في الأرض، وأصحابه على الطّريق، فجعلوا يدعونه إليهم، يقولون: ائتنا، فإنّا على الطّريق، فأبى أن يأتيهم. فذلك مثل من يتّبعكم بعد المعرفة بمحمّدٍ، ومحمّدٌ الّذي يدعو إلى الطّريق، والطّريق هو الإسلام.
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا أبو صالحٍ، قال: حدّثني معاوية، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ، قوله: {أندعو من دون اللّه ما لا ينفعنا ولا يضرّنا ونردّ على أعقابنا} قال: هذا مثلٌ ضربه اللّه للآلهة ومن يدعو إليها، وللدّعاة الّذين يدعون إلى اللّه، كمثل رجلٍ ضلّ عن الطّريق، إذ ناداه منادٍ: يا فلان ابن فلانٍ، هلمّ إلى الطّريق، وله أصحابٌ يدعونه: يا فلان، هلمّ إلى الطّريق، فإن اتّبع الدّاعي الأوّل انطلق به حتّى يلقيه في الهلكة، وإن أجاب من يدعوه إلى الهدى اهتدى إلى الطّريق، وهذه الدّاعية الّتي تدعو في البريّة من الغيلان، يقول: مثل من يعبد هؤلاء الآلهة من دون اللّه، فإنّه يرى أنّه في شيءٍ حتّى يأتيه الموت فيستقبل الهلكة والنّدامة.
وقوله: {كالّذي استهوته الشّياطين في الأرض}، وهم الغيلان يدعونه باسمه واسم أبيه واسم جدّه، فيتبعها فيرى أنّه في شيءٍ فيصبح وقد ألقته في الهلكة وربّما أكلته، أو تلقيه في مضلّةٍ من الأرض يهلك فيها عطشًا، فهذا مثل من أجاب الآلهة الّتي تعبد من دون اللّه عزّ وجلّ.
- حدّثنا محمّد بن عبد الأعلى، قال: حدّثنا محمّد بن ثورٍ، قال: حدّثنا معمرٌ، عن قتادة: {استهوته الشّياطين في الأرض} قال: أضلّته في الأرض حيران.
- حدّثني محمّد بن عمرٍو، قال: حدّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدّثنا عيسى، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، في قوله: {ما لا ينفعنا ولا يضرّنا} قال: الأوثان.
- حدّثني محمّد بن عمرٍو، قال: حدّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدّثنا عيسى، وحدّثني المثنّى، قال: حدّثنا أبو حذيفة، قال: حدّثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، في قول اللّه تعالى: {استهوته الشّياطين في الأرض حيران} قال: رجلٌ حيران يدعوه أصحابه إلى الطّريق، كذلك مثل من يضلّ بعد إذ هدي.
- حدّثنا محمّد بن عبد الأعلى قال: حدّثنا محمّد بن ثورٍ، عن معمرٍ قال: حدّثنا رجلٌ، عن مجاهدٍ قال: حيران هذا مثلٌ ضربه اللّه للكافر، يقول: الكافر حيران يدعوه المسلم إلى الهدى فلا يجيب.
- حدّثنا بشرٌ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، قوله: {قل أندعو من دون اللّه ما لا ينفعنا ولا يضرّنا} حتّى بلغ: {لنسلم لربّ العالمين}: علّمها اللّه محمّدًا وأصحابه يخاصمون بها أهل الضّلالة.
وقال آخرون في تأويل ذلك بما:
- حدّثني به، محمّد بن سعدٍ قال: حدّثني أبي قال: حدّثني عمّي، قال: حدّثني أبي، عن أبيه، عن ابن عبّاسٍ، قوله: {كالّذي استهوته الشّياطين في الأرض حيران له أصحابٌ يدعونه إلى الهدى}: فهو الرّجل الّذي لا يستجيب لهدى اللّه، وهو رجلٌ أطاع الشّيطان وعمل في الأرض بالمعصية وحار عن الحقّ وضلّ عنه، وله أصحابٌ يدعونه إلى الهدى، ويزعمون أنّ الّذي يأمرونه هدًى، يقول اللّه ذلك لأوليائهم من الإنس: إنّ الهدى هدى اللّه، والضّلالة ما تدعو إليه الجنّ.
فكأنّ ابن عبّاسٍ على هذه الرّواية يرى أنّ أصحاب هذا الحيران الّذين يدعونه إنّما يدعونه إلى الضّلال، ويزعمون أنّ ذلك هدًى، وأنّ اللّه أكذبهم بقوله: {قل إنّ هدى اللّه هو الهدى}، لا ما يدعوه إليه أصحابه.
وهذا تأويلٌ له وجهٌ لو لم يكن اللّه سمّى الّذي دعا الحيران إليه أصحابه هدًى، وكان الخبر بذلك عن أصحابه الدّعاة له إلى ما دعوه إليه، أنّهم هم الّذين سمّوه، ولكنّ اللّه سمّاه هدًى، وأخبر عن أصحاب الحيران أنّهم يدعونه إليه. وغير جائزٍ أن يسمّي اللّه الضّلال هدًى، لأنّ ذلك كذبٌ، وغير جائزٍ وصف اللّه بالكذب، لأنّ ذلك وصفه بما ليس من صفته. وإنّما كان يجوز توجيه ذلك إلى الصّواب لو كان ذلك خبرًا من اللّه عن الدّاعي الحيران أنّهم قالوا له: تعال إلى الهدى، فأمّا وهو قائلٌ: يدعونه إلى الهدى، فغير جائزٍ أن يكون ذلك وهم كانوا يدعونه إلى الضّلال.
وأمّا قوله: {ائتنا}، فإنّ معناه: يقولون: ائتنا، هلمّ إلينا، فحذف القول لدلالة الكلام عليه.
وذكر عن ابن مسعودٍ أنّه كان يقرأ ذلك: (يدعونه إلى الهدى بيّنًا).
- حدّثنا بذلك ابن وكيعٍ، قال: حدّثنا غندرٌ، عن شعبة، عن أبي إسحاق، قال: في قراءة عبد اللّه: (يدعونه إلى الهدى بيّنًا).
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثنا حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، قال: أخبرني عبد اللّه بن كثيرٍ، أنّه سمع مجاهدًا، يقول: في قراءة ابن مسعودٍ: (له أصحابٌ يدعونه إلى الهدى بيّنًا)، قال: الهدى: الطّريق، أنّه بيّنٌ.
وإذا قرئ ذلك كذلك، كان البيّن من صفة الهدى، ويكون نصب البيّن على القطع من الهدى، كأنّه قيل: يدعونه إلى الهدى البيّن، ثمّ نصب (البيّن) لمّا حذفت الألف واللاّم، وصار نكرةً من صفة المعرفة.
وهذه القراءة الّتي ذكرناها عن ابن مسعودٍ تؤيّد قول من قال: الهدى في هذا الموضع: هو الهدى، على الحقيقة). [جامع البيان: 9/ 326-332]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {قل إنّ هدى اللّه هو الهدى وأمرنا لنسلم لربّ العالمين}.
يقول تعالى ذكره لنبيّه محمّدٍ -صلّى اللّه عليه وسلّم-: قل يا محمّد لهؤلاء العادلين بربّهم الأوثان القائلين لأصحابك: اتّبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم، فإنّا على هدًى: ليس الأمر كما زعمتم {إنّ هدى اللّه هو الهدى} يقول: إنّ طريق اللّه الّذي بيّنه لنا وأوضحه، وسبيلنا الّذي أمرنا بلزومه، ودينه الّذي شرعه لنا فبيّنه، هو الهدى والاستقامة الّتي لا شكّ فيها، لا عبادة الأوثان والأصنام الّتي لا تضرّ ولا تنفع، فلا نترك الحقّ ونتّبع الباطل. {وأمرنا لنسلم لربّ العالمين} يقول: وأمرنا ربّنا وربّ كلّ شيءٍ، تعالى وجهه، لنسلم له: لنخضع له بالذّلّة والطّاعة والعبوديّة، فنخلص ذلك له دون ما سواه من الأنداد والآلهة.
وقد بيّنّا معنى الإسلام بشواهده فيما مضى من كتابنا بما أغنى عن إعادته.
وقيل: {وأمرنا لنسلم} بمعنى: وأمرنا كي نسلم، وأن نسلم لربّ العالمين، لأنّ العرب تضع (كي) و(اللاّم) الّتي بمعنى (كي) مكان (أن)، و(أن) مكانها).[جامع البيان: 9/ 333]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): ({قل أندعو من دون اللّه ما لا ينفعنا ولا يضرّنا ونردّ على أعقابنا بعد إذ هدانا اللّه كالّذي استهوته الشّياطين في الأرض حيران له أصحابٌ يدعونه إلى الهدى ائتنا قل إنّ هدى اللّه هو الهدى وأمرنا لنسلم لربّ العالمين (71)}
قوله تعالى: {قل أندعوا من دون اللّه ما لا ينفعنا ولا يضرنا}.
- أخبرنا أحمد بن عثمان بن حكيمٍ فيما كتب إليّ، ثنا أحمد بن مفضّلٍ، ثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ قوله: {قل أندعوا من دون اللّه ما لا ينفعنا ولا يضرّنا}، قال المشركون للمؤمنين: اتّبعوا سبيلنا، واتركوا دين محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم.
قال اللّه تعالى:{ قل أندعوا من دون اللّه ما لا ينفعنا ولا يضرّنا بهذه الآلهة}.
- حدّثنا حجّاجٌ، ثنا شبابة، ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ
قوله:{ ما لا ينفعنا ولا يضرّنا} قال: الأوثان.
قوله: {ونردّ على أعقابنا بعد إذ هدانا اللّه}.
- أخبرنا أحمد بن عثمان بن حكيمٍ فيما كتب إليّ، ثنا أحمد بن مفضّلٍ، ثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ قوله: ونردّ على أعقابنا بعد إذ هدانا اللّه قال: نردّ على أعقابنا في الكفر بعد إذ هدانا اللّه، فيكون مثلنا مثل الّذي استهوته الشّياطين في الأرض.
قوله: {كالّذي استهوته الشّياطين في الأرض}
- حدّثنا أبي، ثنا أبو صالحٍ كاتب اللّيث، حدّثني معاوية بن صالحٍ، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ قوله: {كالّذي استهوته الشّياطين في الأرض} يقول: هم الغيلان يدعونه باسمه واسم أبيه فيتبعها ويرى أنّه في شيءٍ، فيصبح وقد ألقته في هلكةٍ، وربّما أكلته، أو تلقيه في مضلّةٍ من الأرض يهلك فيها عطشًا. فهذا مثل من أجاب الآلهة الّتي تعبد من دون اللّه عزّ وجلّ.
- حدّثنا أبو بكر بن أبي موسى، ثنا هارون بن حاتمٍ، ثنا عبد الرّحمن بن أبي حمّادٍ، عن أسباطٍ، عن السّدّيّ عن أبي مالكٍ: قوله: {الشّياطين} يعني: إبليس وذرّيّته.
قوله: {حيران}.
- حدّثنا حجّاج بن حمزة، ثنا شبابة، ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قوله: في الأرض حيران، رجلٌ حيران يدعوه أصحابه إلى الطّريق فذلك مثل من يضلّ بعد إذ هدي.
- أخبرنا أحمد بن عثمان الأوديّ فيما كتب إليّ، ثنا أحمد بن مفضّلٍ، ثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ قوله: {في الأرض حيران} يقول: مثلكم إن كفرتم بعد الإيمان، كمثل رجلٍ كان مع قومٍ على الطّريق، فضلّ الطّريق، فحيّرته الشّياطين واستهوته في الأرض، وأصحابه على الطّريق فجعلوا يدعونه إليهم يقولون: ائتنا فإنّا على الطّريق، فأبى أن يأتيهم فذلك مثل من يتّبعكم بعد المعرفة بمحمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم الّذي يدعو إلى الطّريق، والطّريق هو الإسلام.
قوله تعالى:{ له أصحابٌ يدعونه إلى الهدى ائتنا}.
- حدّثنا أبي، ثنا أبو صالحٍ كاتب اللّيث، حدّثني معاوية بن صالحٍ، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ قوله: {قل أندعوا من دون اللّه ما لا ينفعنا ولا يضرّنا}، قال: هذا مثلٌ ضربه اللّه للآلهة، وللدّعاة الّذين يدعون إلى اللّه، كمثل رجلٍ ضلّ عن الطّريق تائهًا ضالا إذ ناداه منادٍ: فلان ابن فلانٍ، هلمّ إلى الطّريق،{ وله أصحابٌ يدعونه}: يا فلان، هلمّ إلى الطّريق. فإن اتّبع الدّاعي الأوّل انطلق به حتّى يلقيه في هلكةٍ، وإن أجاب من يدعو إلى الهدى اهتدى إلى الطّريق. وهذه الدّاعية الّتي تدعو في البرّيّة من الغيلان. يقول: مثل من يعبد هذه الآلهة من دون اللّه فإنّه يرى أنّه في شيءٍ حتّى يأتيه الموت، فيستقبل الهلكة والنّدامة.
- أخبرنا أحمد بن عثمان بن حكيمٍ، ثنا أحمد بن مفضّلٍ، ثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ قوله: له أصحابٌ يدعونه إلى الهدى ائتنا: محمّدٌ صلّى اللّه عليه وسلّم، الّذي يدعو إلى الطّريق، والطّريق هو الإسلام.
قوله: {قل إنّ هدى اللّه هو الهدى ... الآية}.
- أخبرنا محمّد بن سعدٍ فيما كتب إليّ، حدّثني أبي، حدّثني عمّي، حدّثني أبي، عن عطيّة عن ابن عبّاسٍ قوله: {له أصحابٌ يدعونه إلى الهدى ائتنا قل إنّ هدى اللّه هو الهدى وأمرنا لنسلم لربّ العالمين}
قال: هو الّذي لا يستجيب لهدى اللّه، وهو رجلٌ أطاع الشّيطان، وعمل في الأرض بالمعصية، وجار عن الحقّ وضلّ عنه، وله أصحابٌ يدعونه إلى الهدى، ويزعمون أنّ الّذي يأمرونه به هدى اللّه يقول ذلك لأوليائهم من الإنس، يقول: قل إنّ الهدى هدى اللّه، والضّلالة: ما يدعو إليه الجنّ.
- حدّثنا محمّد بن يحيى، أنا العبّاس بن الوليد، ثنا يزيد، ثنا سعيدٌ، عن قتادة قوله: {قل إنّ هدى اللّه هو الهدى وأمرنا لنسلم لربّ العالمين}. خصومةٌ علّمها اللّه تعالى محمّداً صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه، يخاصمون بها أهل الضّلالة). [تفسير القرآن العظيم: 4/ 1320-1322]
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ الحَسَنِ الهَمَذَانِيُّ (ت: 352هـ):
(ثنا إبراهيم قال ثنا آدم قال نا ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قل أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا يعني به الأوثان بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران قال هو رجل حيران يدعو أصحابه إلى الطريق ذلك مثل من يضل بعد الهدى). [تفسير مجاهد: 218]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس: {قل أندعو من دون الله} هذا مثل ضربه الله للآلهة وللدعاة الذين يدعون إلى الله كمثل رجل ضل عن الطريق تائها ضالا إذ ناداه مناد فلان بن فلان هلم إلى الطريق وله أصحاب يدعونه يا فلان بن فلان هلم إلى الطريق فإن اتبع الداعي الأول انطلق به حتى يلقيه في هلكة وإن أجاب من يدعو إلى الهدى اهتدى إلى الطريق وهذه الداعية التي تدعو في البرية الغيلان، يقول: مثل من يعبد هذه الآلهة من دون الله فإنه يرى أنه في شيء حتى يأتيه الموت فيستقبل الهلكة والندامة، وقوله: {كالذي استهوته الشياطين في الأرض}، يقول: أضلته وهم الغيلان يدعونه باسمه واسم أبيه وجده
فيتبعها ويرى أنه في شيء فيصبح وقد ألقته في هلكة وربما أكلته أو تلقيه في مضلة من الأرض يهلك فيها عطشا فهذا مثل من أجاب الآلهة التي تعبد من دون الله
- وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله: {قل أندعو من دون الله} الآية، قال: قال المشركون للمؤمنين: اتبعوا سبيلنا واتركوا دين محمد، فقال الله: {قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا} فهذه الآلهة {ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله} فيكون مثلنا {كالذي استهوته الشياطين في الأرض} يقول: مثلكم إن كفرتم بعد الإيمان كمثل رجل كان مع قوم على طريق فضل الطريق فحيرته الشياطين واستهوته في الأرض وأصحابه على الطريق فجعلوا يدعونه إليهم يقولون ائتنا فإنا على الطريق فأبى أن يأتيهم فذلك مثل من تبعكم بعد المعرفة لمحمد ومحمد الذي يدعو إلى الطريق والطريق هو الإسلام.
- وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ، عن مجاهد في قوله: {قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا} قال: الأوثان، وفي قوله: {كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران}، قال: رجل حيران يدعو أصحابه إلى الطريق فذلك مثل من يضل بعد إذ هدى
- وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {كالذي استهوته الشياطين} الآية، قال: هو الرجل الذي لا يستجيب لهدى الله وهو رجل أطاع الشيطان وعمل في الأرض بالمعصية وجار عن الحق وضل عنه وله أصحاب يدعونه إلى الهدى ويزعمون أن الذي يأمرونه به هدى الله يقول الله ذلك لأوليائهم من الأنس يقول: {إن الهدى هدى الله} والضلالة ما يدعو إليه الجن.
- وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في الآية قال: خصومة علمها الله محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه يخاصمون بها أهل الضلالة.
- وأخرج ابن الأنباري في المصاحف عن أبي إسحاق قال: في قراءة عبد الله (كالذي استهواه الشيطان).
- وأخرج ابن جرير، وابن الانباري عن أبي إسحاق قال: في قراءة عبد الله (يدعونه إلى الهدى بينا).
- وأخرج أبو الشيخ عن مجاهد قال: في قراءة ابن مسعود (يدعونه إلى الهدى بينا) قال: الهدى الطريق إنه بين والله أعلم).[الدر المنثور: 6/ 93-96]

تفسير قوله تعالى: {وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72)}
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {وأن أقيموا الصّلاة واتّقوه وهو الّذي إليه تحشرون}.
يقول تعالى ذكره: وأمرنا أن أقيموا الصّلاة.
وإنّما قيل: {وأن أقيموا الصّلاة} فعطف بـ (أن) على اللاّم من (لنسلم) لأنّ قوله: {لنسلم} معناه: أن نسلم، فردّ قوله: {وأن أقيموا} على معنى: (لنسلم)، إذ كانت اللاّم الّتي في قوله: {لنسلم} لامًا لا تصحب إلاّ المستقبل من الأفعال، وكانت (أن) من الحروف الّتي تدلّ على الاستقبال دلالة اللاّم الّتي في {لنسلم}، فعطف بها عليها لاتّفاق معنييهما فيما ذكرت، فـ (أن) في موضع نصبٍ بالرّدّ على اللاّم.
وكان بعض نحويّي البصرة يقول: إمّا أن يكون ذلك: أمرنا لنسلم لربّ العالمين، وأن أقيموا الصّلاة، يقول: أمرنا كي نسلم، كما قال: {وأمرت أن أكون من المؤمنين}، أي إنّما أمرت بذلك، ثمّ قال: {وأن أقيموا الصّلاة واتّقوه}: أي أمرنا أن أقيموا الصّلاة، أو يكون أوصل الفعل باللاّم، والمعنى: أمرت أن أكون، كما أوصل الفعل باللاّم في قوله: {هم لربّهم يرهبون}.
فتأويل الكلام: وأمرنا بإقامة الصّلاة، وذلك أداؤها بحدودها الّتي فرضت علينا. {واتّقوه} يقول: واتّقوا ربّ العالمين الّذي أمرنا أن نسلم له، فخافوه واحذروا سخطه بأداء الصّلاة المفروضة عليكم، والإذعان له بالطّاعة وإخلاص العبادة له. {وهو الّذي إليه تحشرون} يقول: وربّكم ربّ العالمين هو الّذي إليه تحشرون فتجمعون يوم القيامة، فيجازي كلّ عاملٍ منكم بعمله، وتوفّى كلّ نفسٍ ما كسبت). [جامع البيان: 9/ 333-335]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): ({وأن أقيموا الصّلاة واتّقوه وهو الّذي إليه تحشرون (72)}
قوله تعالى: {وأن أقيموا الصّلاة}
- حدّثنا عصام بن روّادٍ، ثنا آدم، ثنا مبارك بن فضالة، عن الحسن في قوله: وأن أقيموا الصّلاة، قال: فريضةٌ واجبةٌ لا تنفع الأعمال إلا بها.
- حدّثنا أبي، ثنا عبد الرّحمن بن إبراهيم دحيمٌ، ثنا الوليد، ثنا عبد الرّحمن، عن نمرٍ قال: سألت الزّهريّ، عن قول اللّه: {أقيموا الصّلاة}، قال الزّهريّ: إقامتها أن تصلّي الصّلوات الخمس لوقتها. وروي، عن عطاء بن أبي رباحٍ وقتادة نحو ذلك.
- قرأت على محمّد بن الفضل، ثنا محمّد بن عليٍّ، ثنا محمّد بن مزاحمٍ، ثنا بكير بن معروفٍ، عن مقاتل بن حيّان قال: قوله لأهل الكتاب: {أقيموا الصّلاة} أمرهم أن يصلّوا مع النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم.
قوله: {واتقوه}.
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا يحيى بن عبد اللّه بن بكيرٍ، حدّثني عبد اللّه بن لهيعة، حدّثني عطاء بن دينارٍ، عن سعيد بن جبيرٍ في قول اللّه: {واتّقوه} يعني: لا تعصوه.
قوله: {وهو الّذي إليه تحشرون}.
- حدّثنا أبو سعيدٍ الأشجّ، ثنا ابن نميرٍ، عن حنظلة القاصّ، عن الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ قال: «يحشر كلّ شيءٍ حتّى إنّ الذباب لتحشر»). [تفسير القرآن العظيم: 4/ 1322-1323]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (أخرج أبو الشيخ عن الأوزاعي قال: «ما من أهل بيت يكون لهم مواقيت يعلمون الصلاة إلا بورك فيهم كما بورك في إبراهيم وآل إبراهيم»). [الدر المنثور: 6/ 96]

تفسير قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)}
قال محمدُ بنُ إسماعيلَ بن إبراهيم البخاريُّ (ت: 256هـ) :(قال ابن عبّاسٍ: {ثمّ لم تكن فتنتهم} [الأنعام: 23] : «معذرتهم» {معروشاتٍ} [الأنعام: 141] : «ما يعرش من الكرم وغير ذلك» ، {حمولةً} [الأنعام: 142] : «ما يحمل عليها»، {وللبسنا} [الأنعام: 9] : «لشبّهنا» ، {لأنذركم به} [الأنعام: 19] : «أهل مكّة» {ينأون} [الأنعام: 26] : «يتباعدون» . {تبسل} [الأنعام: 70] : «تفضح» . {أبسلوا} [الأنعام: 70] : «أفضحوا» ، {باسطو أيديهم} : «البسط الضّرب» ، وقوله: {استكثرتم من الإنس} [الأنعام: 128] : «أضللتم كثيرًا»، {ممّا ذرأ من الحرث } [الأنعام: 136] : «جعلوا للّه من ثمراتهم ومالهم نصيبًا، وللشّيطان والأوثان نصيبًا» ، {أكنّةً} [الأنعام: 25] : «واحدها كنانٌ» ، {أمّا اشتملت} [الأنعام: 143] : «يعني هل تشتمل إلّا على ذكرٍ أو أنثى، فلم تحرّمون بعضًا وتحلّون بعضًا؟» {مسفوحًا}[الأنعام: 145] : مهراقًا، {صدف} [الأنعام: 157] : " أعرض، أبلسوا: أويسوا "، و {أبسلوا} [الأنعام: 70] : «أسلموا» ، {سرمدًا}[القصص: 71] : «دائمًا» ، {استهوته} [الأنعام: 71] : «أضلّته» ، {تمترون}[الأنعام: 2] : «تشكّون» ، {وقرٌ}[فصلت: 5] : " صممٌ، وأمّا الوقر: فإنّه الحمل "، {أساطير} [الأنعام: 25] : «واحدها أسطورةٌ وإسطارةٌ، وهي التّرّهات» ، {البأساء} [البقرة: 177] : «من البأس، ويكون من البؤس» . {جهرةً} [البقرة: 55] : «معاينةً» ، {الصّور} [الأنعام: 73] : «جماعة صورةٍ، كقوله سورةٌ وسورٌ»).[صحيح البخاري: 6/ 55-56] (م)
- قال أحمدُ بنُ عَلَيِّ بنِ حجرٍ العَسْقَلانيُّ (ت: 852هـ): (قوله: الصّور جماعة صورةٍ كقولك سورةٌ وسورٌ بالصّاد أوّلًا وبالسّين ثانيًا كذا للجميع إلّا في رواية أبي أحمد الجرجانيّ ففيها كقوله صورةٌ وصورٌ بالصّاد في الموضعين والاختلاف في سكون الواو وفتحها قال أبو عبيدة في قوله تعالى ويوم ينفخ في الصّور يقال إنّها جمع صورةٍ ينفخ فيها روحها فتحيا بمنزلة قولهم سور المدينة واحدها سورةٌ قال النّابغة:
ألم تر أنّ اللّه أعطاك سورةً ....... يرى كلّ ملكٍ دونها يتذبذب
انتهى والثّابت في الحديث أنّ الصّور قرنٌ ينفخ فيه وهو واحدٌ لا اسم جمعٍ وحكى الفراء الوجهين وقال في الأوّل فعلى هذا فالمراد النّفخ في الموتى وذكر الجوهريّ في الصّحاح أنّ الحسن قرأها بفتح الواو وسبق النّحاس فقال ليست بقراءةٍ وأثبتها أبو البقاء العكبريّ قراءةً في كتابه إعراب الشّواذّ وسيأتي البحث في ذلك في كتاب الرّقاق إن شاء اللّه تعالى).[فتح الباري: 8/ 288-289]
- قال محمودُ بنُ أحمدَ بنِ موسى العَيْنِيُّ (ت: 855هـ) : (الصّور جماعة صورةٍ كقوله صورةٌ وسورٌ
أشار به إلى قوله تعالى: {يوم ينفخ في الصّدور} [الأنعام: 33] وذكر أن الصّور جمع صورة كما أن السّور جمع سورة، واختلف المفسّرون في قوله: {يوم ينفخ في الصّور} فقال بعضهم: المراد بالصور هنا جمع سورة أي: يوم ينفخ فيها ضحى، قال ابن جرير: كما يقال سور لسور البلد وهو جمع سورة، والصّحيح أن المراد بالصور، القرن الّذي ينفخ فيه إسرافيل، عليه السّلام، وقال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل حدثنا سليمان التّميمي عن أسلم العجليّ عن بشر بن سعاف عن عبد الله بن عمرو قال: قال أعرابي: يا رسول الله ما الصّور؟ قال: قرن ينفخ فيه انتهى، وهو واحد لا اسم جمع). [عمدة القاري: 18/ 222]
- قال أحمدُ بنُ محمدِ بن أبي بكرٍ القَسْطَلاَّنيُّ (ت: 923هـ) : (وقوله: ({الصور}) بضم الصاد وفتح الواو في قوله: {يوم ينفخ في الصور} أي (جماعة صورة) أي يوم ينفخ فيها فتحيا (كقوله: سورة وسور) بالسين المهملة فيهما. قال ابن كثير: والصحيح أن المراد بالصور القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام للأحاديث الواردة فيه).[إرشاد الساري: 7/ 116]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {وهو الّذي خلق السّموات والأرض بالحقّ ويوم يقول كن فيكون قوله الحقّ وله الملك يوم ينفخ في الصّور عالم الغيب والشّهادة وهو الحكيم الخبير}.
يقول تعالى ذكره لنبيّه محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم: قل يا محمّد لهؤلاء العادلين بربّهم الأنداد، الدّاعيك إلى عبادة الأوثان: أمرنا لنسلم لربّ العالمين الّذي خلق السّموات والأرض بالحقّ، لا من لا ينفع ولا يضرّ، ولا يسمع ولا يبصر.
واختلف أهل التّأويل في تأويل قوله: {بالحقّ}، فقال بعضهم: معنى ذلك: وهو الّذي خلق السّموات والأرض حقًّا وصوابًا، لا باطلاً وخطأً، كما قال تعالى ذكره: {وما خلقنا السّماء والأرض وما بينهما باطلاً}، قالوا: وأدخلت فيه الباء والألف واللاّم، كما تفعل العرب في نظائر ذلك، فتقول: فلانٌ يقول بالحقّ، بمعنى أنّه يقول الحقّ. قالوا: ولا شيء في قوله بالحقّ غير إصابته الصّواب فيه، لا أنّ الحقّ معنًى غير القول، وإنّما هو صفةٌ للقول إذا كان بها القول كان القائل موصوفًا بالقول بالحقّ وبقول الحقّ. قالوا: فكذلك خلق السّموات والأرض حكمةٌ من حكم اللّه، فاللّه موصوفٌ بالحكمة، خلقهما وخلق ما سواهما من سائر خلقه، لا أنّ ذلك حقٌّ سوى خلقهما خلقهما به.
وقال آخرون: معنى ذلك: خلق السّموات والأرض بكلامه وقوله لهما: {ائتيا طوعًا أو كرهًا}. قالوا: فالحقّ في هذا الموضع معنيّ به كلامه. واستشهدوا لقيلهم ذلك بقوله: {ويوم يقول كن فيكون قوله الحقّ}، الحقّ هو قوله وكلامه. قالوا: واللّه خلق الأشياء بكلامه وقيله كما خلق به الأشياء غير المخلوقة. قالوا: فإذ كان ذلك كذلك، وجب أن يكون كلام اللّه الّذي خلق به الخلق غير مخلوقٍ.
وأمّا قوله: {ويوم يقول كن فيكون} فإنّ أهل العربيّة اختلفوا في العامل في {يوم يقول}، وفي معنى ذلك، فقال بعض نحويّي البصرة: (اليوم) مضافٌ إلى (يقول كن فيكون)، قال: وهو نصبٌ وليس له خبرٌ ظاهرٌ، واللّه أعلم، وهو على ما فسّرت لك، كأنّه يعني بذلك أنّ نصبه على: (واذكر يوم يقول كن فيكون)، قال: وكذلك {يوم ينفخ في الصّور}، قال: وقال بعضهم: يوم ينفخ في الصّور عالم الغيب والشّهادة.
وقال بعضهم: يقول كن فيكون، للصّور خاصّةً.
فمعنى الكلام على تأويلهم: يوم يقول للصّور: كن فيكون، قوله الحقّ يوم ينفخ فيه عالم الغيب والشّهادة، فيكون (القول) حينئذٍ مرفوعًا بـ (الحقّ)، والحقّ بالقول. وقوله: {يوم يقول كن فيكون} و{يوم ينفخ في الصّور} صلة (الحقّ).
وقال آخرون: بل قوله: {كن فيكون} معنيّ به كلّ ما كان اللّه معيده في الآخرة بعد إفنائه، ومنشئه بعد إعدامه. فالكلام على مذهب هؤلاء متناهٍ عند قوله: {كن فيكون}، وقوله: {قوله الحقّ} خبر مبتدأٍ.
وتأويله: وهو الّذي خلق السّموات والأرض بالحقّ، ويوم يقول للأشياء: كن فيكون، خلقهما بالحقّ بعد فنائهما، ثمّ ابتدأ الخبر عن قوله ووعده خلقه أنّه معيدهما بعد فنائهما عن أنّه حقٌّ، فقال: قوله هذا الحقّ الّذي لا شكّ فيه، وأخبر أنّ له الملك يوم ينفخ في الصّور، فـ {يوم ينفخ في الصّور} يكون على هذا التّأويل من صلة (الملك).
وقد يجوز على هذا التّأويل أن يكون قوله: {يوم ينفخ في الصّور} من صلة {الحقّ}.
وقال آخرون: بل معنى الكلام: ويوم يقول لما فني: (كن) فيكون قوله الحقّ، فجعل القول مرفوعًا بقوله: {ويوم يقول كن فيكون} وجعل قوله: {كن فيكون} للقول محلًّا، وقوله: {يوم ينفخ في الصّور} من صلة (الحقّ)، كأنّه وجّه تأويل ذلك إلى: ويومئذٍ قوله الحقّ يوم ينفخ في الصّور. وإن جعل على هذا التّأويل: {يوم ينفخ في الصّور} بيانًا عن اليوم الأوّل، كان وجهًا صحيحًا، ولو جعل قوله: {قوله الحقّ} مرفوعًا بقوله: {يوم ينفخ في الصّور}، وقوله: {يوم ينفخ في الصّور} محلًّا، وقوله: {ويوم يقول كن فيكون} من صلته كان جائزًا.
والصّواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إنّ اللّه تعالى ذكره أخبر أنّه المنفرد بخلق السّموات والأرض دون كلّ ما سواه، معرّفًا من أشرك به من خلقه جهله في عبادة الأوثان والأصنام، وخطأ ما هم عليه مقيمون من عبادة ما لا يضرّ ولا ينفع ولا يقدر على اجتلاب نفعٍ إلى نفسه ولا دفع ضرٍّ عنها، ومحتجًّا عليهم في إنكارهم البعث بعد الممات والثّواب والعقاب بقدرته على ابتداع ذلك ابتداءً، وأنّ الّذي ابتدع ذلك غير متعذّرٍ عليه إفناؤه ثمّ إعادته بعد إفنائه، فقال: وهو الّذي خلق أيّها العادلون بربّهم من لا ينفع ولا يضرّ ولا يقدر على شيءٍ، السّموات والأرض بالحقّ، حجّةً على خلقه، ليعرفوا بها صانعها وليستدلّوا بها على عظيم قدرته وسلطانه، فيخلصوا له العبادة. {ويوم يقول كن فيكون} يقول: ويوم يقول حين تبدّل الأرض غير الأرض والسّموات كذلك: (كن فيكون)، كما شاء تعالى ذكره، فتكون الأرض غير الأرض عند قوله (كن)، فيكون متناهيًا.
وإذا كان كذلك معناه وجب أن يكون في الكلام محذوفٌ يدلّ عليه الظّاهر، ويكون معنى الكلام: ويوم يقول لذلك: كن فيكون، تبدّل غير السّموات والأرض، ويدلّ على ذلك قوله: {وهو الّذي خلق السّموات والأرض بالحقّ} ثمّ ابتدأ الخبر عن القول فقال: {قوله الحقّ} بمعنى: وعده هذا الّذي وعد تعالى ذكره من تبديله السّموات والأرض غير الأرض والسّموات، الحقّ الّذي لا شكّ فيه، {وله الملك يوم ينفخ في الصّور} فيكون قوله: {يوم ينفخ في الصّور} من صلة (الملك)، ويكون معنى الكلام: وللّه الملك يومئذٍ لأنّ النّفخة الثّانية في الصّور حال تبديل اللّه السّموات والأرض غيرهما.
وجائزٌ أن يكون القول، أعنى قوله: {الحقّ} مرفوعًا بقوله: {ويوم يقول كن فيكون} ويكون قوله: {كن فيكون} محلًّا للقول مرافعًا.
فيكون تأويل الكلام: وهو الّذي خلق السّموات والأرض بالحقّ، ويوم يبدّلها غير السّموات والأرض فيقول لذلك كن فيكون قوله الحقّ.
وأمّا قوله: {وله الملك يوم ينفخ في الصّور} فإنّه خصّ بالخبر عن ملكه يومئذٍ، وإن كان الملك له خالصًا في كلّ وقتٍ في الدّنيا والآخرة، لأنّه عنى تعالى ذكر أنّه لا منازع له فيه يومئذٍ ولا مدّعي له، وأنّه المنفرد به دون كلّ من كان ينازعه فيه في الدّنيا من الجبابرة فأذعن جميعهم يومئذٍ له به، وعلموا أنّهم كانوا من دعواهم في الدّنيا في باطلٍ.
واختلف في معنى الصّور في هذا الموضع، فقال بعضهم: هو قرنٌ ينفخ فيه نفختان: إحداهما لفناء من كان حيًّا على الأرض، والثّانية لنشر كلّ ميّتٍ. واعتلّوا لقولهم ذلك بقوله: {ونفخ في الصّور فصعق من في السّموات ومن في الأرض إلاّ من شاء اللّه ثمّ نفخ فيه أخرى فإذا هم قيامٌ ينظرون}، وبالخبر الّذي روي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه قال إذ سئل عن الصّور: هو قرنٌ ينفخ فيه.
وقال آخرون: الصّور في هذا الموضع: جمع صورةٍ ينفخ فيها روحها فتحيا، كقولهم: سورٌ لسور المدينة، وهو جمع سورةٍ، كما قال جريرٌ:
سور المدينة والجبال الخشّع
والعرب تقول: نفخ في الصّور، ونفخ الصّور. ومن قولهم: نفخ الصّور قول الشّاعر:
لولا ابن جعدة لم تفتح قهندزكم ....... ولا خراسان حتّى ينفخ الصّور
والصّواب من القول في ذلك عندنا ما تظاهرت به الأخبار عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، أنّه قال: إنّ إسرافيل قد التقم الصّور وحنى جبهته ينتظر متى يومر فينفخ، وأنّه قال: الصّور قرنٌ ينفخ فيه.
وذكر عن ابن عبّاسٍ أنّه كان يقول في قوله: {يوم ينفخ في الصّور عالم الغيب والشّهادة} يعني: أنّ عالم الغيب والشّهادة هو الّذي ينفخ في الصّور.
- حدّثني به المثنّى، قال: حدّثنا عبد اللّه بن صالحٍ، قال: حدّثنا معاوية، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ، في قوله: {عالم الغيب والشّهادة} يعني: أنّ عالم الغيب والشّهادة هو الّذي ينفخ في الصّور.
فكأنّ ابن عبّاسٍ تأوّل في ذلك أنّ قوله: {عالم الغيب والشّهادة} اسم الفاعل الّذي لم يسمّ في قوله: {يوم ينفخ في الصّور}، وأنّ معنى الكلام: يوم ينفخ اللّه في الصّور عالم الغيب والشّهادة، كما تقول العرب: أكل طعامك عبد اللّه، فتظهر اسم الآكل بعد أن قد جرى الخبر بما لم يسمّ آكله. وذلك وإن كان وجهًا غير مدفوعٍ، فإنّ أحسن من ذلك أن يكون قوله: {عالم الغيب والشّهادة} مرفوعًا على أنّه نعتٌ لـ (الّذي) في قوله: {وهو الّذي خلق السّموات والأرض بالحقّ}.
وروي عنه أيضًا أنّه كان يقول: الصّور في هذا الموضع: النّفخة الأولى.
- حدّثني محمّد بن سعدٍ، قال: حدّثني أبي قال: حدّثني عمّي، قال: حدّثني أبي، عن أبيه، عن ابن عبّاسٍ، قوله: {يوم ينفخ في الصّور عالم الغيب والشّهادة} يعني بالصّور النّفخة الأولى، ألم تسمع أنّه يقول: {ونفخ في الصّور فصعق من في السّموات ومن في الأرض إلاّ من شاء اللّه ثمّ نفخ فيه أخرى} يعني الثّانية {فإذا هم قيامٌ ينظرون}.
ويعني بقوله: {عالم الغيب والشّهادة} عالم ما تعاينون أيّها النّاس فتشاهدونه، وما يغيب عن حواسكم وأبصاركم فلا تحسّونه ولا تبصرونه، وهو الحكيم في تدبيره وتصريفه خلقه من حال الوجود إلى العدم، ثمّ من حال العدم والفناء إلى الوجود، ثمّ في مجازاتهم بما يجازيهم به من ثوابٍ أو عقابٍ، خبيرٌ بكلّ ما يعملونه ويكسبونه من حسنٍ وسيّئٍ، حافظٌ ذلك عليهم ليجازيهم على كلّ ذلك. يقول تعالى ذكره: فاحذروا أيّها العادلون بربّكم عقابه، فإنّه عليمٌ بكلّ ما تأتون وتذرون، وهو لكم من وراء الجزاء على ما تعملون).[جامع البيان: 9/ 335-342]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): ({وهو الّذي خلق السّماوات والأرض بالحقّ ويوم يقول كن فيكون قوله الحقّ وله الملك يوم ينفخ في الصّور عالم الغيب والشّهادة وهو الحكيم الخبير (73) }
قوله: {وهو الّذي خلق السّماوات والأرض بالحقّ ويوم يقول كن فيكون}
- أخبرنا محمّد بن سعدٍ العوفيّ فيما كتب إليّ، حدّثني أبي، حدّثني عمّي، حدّثني أبي، عن عطيّة، عن ابن عبّاسٍ قوله: {ويوم يقول كن فيكون قوله الحقّ} قال: فهو خلق الإنسان.
قوله: {يوم ينفخ في الصّور}.
- حدّثنا أبي، ثنا الفضل بن دكينٍ، ثنا سفيان، عن سليمان التّيميّ، عن أسلم العجليّ، عن بشر بن شفاف، عن عبد اللّه بن عمرٍو قال: سئل النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، عن الصّور فقال: «قرنٌ ينفخ فيه».
- أخبرنا محمّد بن سعدٍ فيما كتب إليّ، حدّثني أبي، حدّثني عمّي، عن أبيه، عن عطيّة، عن ابن عبّاسٍ قوله: يوم ينفخ في الصّور يقول: في الصّور النّفخة الأولى، ألم تسمع أنّه يقول: ونفخ في الصور فصعق من في السّماوات ومن في الأرض إلا من شاء اللّه ثمّ نفخ فيه أخرى الثّانية فإذا هم قيامٌ ينظرون.
قوله: {عالم الغيب والشّهادة}.
- حدّثنا أبي، ثنا أبو صالحٍ، حدّثني معاوية بن صالحٍ، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ قوله: عالم الغيب والشّهادة، يعني أنّ عالم الغيب والشّهادة هو الّذي ينفخ في الصّور.
- حدّثنا عليّ بن الحسين، ثنا المقدّميّ، ثنا عامر بن صالحٍ، عن أبي بكرٍ الهذليّ، عن الحسن قال: الشّهادة، ما قد رأيتم من خلقه، والغيب: ما غاب عنكم ما لم تروه.
قوله: {وهو الحكيم الخبير}.
- حدّثنا عصام بن روّادٍ، ثنا آدم، ثنا أبو جعفرٍ الرّازيّ، عن الرّبيع، عن أبي العالية قوله: الحكيم قال: حكيمٌ في أمره.
- حدّثنا محمّد بن يحيى، أنا أبو غسّان، ثنا سلمة قال: قال محمّد بن إسحاق: وحدّثني محمّد بن جعفر بن الزّبير في قوله: الحكيم قال: الحكيم في عذره ورحمته إلى عباده). [تفسير القرآن العظيم: 4/ 1323-1324]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (أخرج ابن المبارك في الزهد، وعبد بن حميد وأبو داود والترمذي وحسنه والنسائي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن حبان والحاكم وصححه، وابن مردويه والبيهقي في البعث عن عبد الله بن عمرو قال: سأل النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن الصور فقال: «هو قرن ينفخ فيه».
- وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو أن أهل منى اجتمعوا على أن يقلوا القرن من الأرض ما أقلوه
- وأخرج مسدد في مسنده، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر والطبراني عن ابن مسعود قال: الصور كهيئة القرن ينفخ فيه.
- وأخرج الفريابي، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: الصور كهيئة البوق.
- وأخرج ابن ماجه والبزار، وابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزال صاحبا القرن ممسكين بالصور ينتظران متى يؤمران.
- وأخرج الحاكم وصححه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:« ان طرف صاحب الصور مذ وكل به مستعد ينظر نحو العرش مخافة أن يؤمر قبل أن يرتد إليه طرفه كأن عينيه كوكبان دريان».
- وأخرج أحمد والطبراني في الأوسط والحاكم والبيهقي في البعث عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«كيف أنعم وصاحب الصور قد التقم القرن وحنى جبهته وأصغى بسمعه ينتظر متى يؤمر» كيف نقول يا رسول الله قال: قولوا:« حسبنا الله ونعم الوكيل على الله توكلنا».
- وأخرج سعيد بن منصور وأحمد، وعبد بن حميد والترمذي وحسنه، وابن المنذر والحاكم والبيهقي عن أبي سعيد عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «كيف أنعم وصاحب الصور قد التقم القرن وحنى الجبهة وأصغى بالأذن متى يؤمر فينفخ» قالوا: فما نقول يا رسول الله قال: «قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل على الله توكلنا».
- وأخرج أبو نعيم في الحلية، عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كيف أنعم وصاحب القرن قد التقمه وحنى جبهته وأصغى بسمعه ينتظر متى يؤمر فينفخ» قالوا: يا رسول الله فما تأمرنا قال:« حسبنا الله ونعم الوكيل».
- وأخرج البزار والحاكم عن أبي سعيد عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال:« ما من صباح إلا وملكان يناديان يقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفا وملكان موكلان بالصور ينتظران متى يؤمران فينفخان وملكان يناديان: يا باغي الخير هلم ويقول الآخر: يا باغي الشر أقصر وملكان يناديان يقول أحدهما: ويل للرجال من النساء وويل للنساء من الرجال».
- وأخرج أحمد والحاكم عن عبد الله بن عمرو عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال:« النافخان في السماء الثانية رأس أحدهما بالمشرق ورجلاه بالمغرب وينتظران متى يؤمران أن ينفخا في الصور فينفخا».
- وأخرج عبد بن حميد والطبراني في الأوسط وأبو الشيخ في العظمة بسند حسن عن عبد الله بن الحارث قال كنت عند عائشة وعندها كعب الحبر فذكر إسرافيل فقالت عائشة:« أخبرني عن إسرافيل فقال كعب: عندكم العلم، قالت: أجل فأخبرني قال: له أربعة أجنحة جناحان في الهواء وجناح قد تسربل به وجناح على كاهله والقلم على أذنه فإذا نزل الوحي كتب القلم ثم درست الملائكة وملك الصور جاث على إحدى ركبتيه وقد نصب الأخرى فالتقم الصور محنى ظهره وقد أمر إذا رأى إسرافيل قد ضم جناحيه أن ينفخ في الصور»، فقالت عائشة: هكذا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول.
- وأخرج أبو الشيخ في العظمة عن وهب بن منبه قال: خلق الله الصور من لؤلؤة
بيضاء في صفاء الزجاجة ثم قال للعرش: خذ الصور فتعلق به ثم قال: كن فكان إسرافيل فأمره أن يأخذ الصور فأخذه وبه ثقب بعدد كل روح مخلوقة ونفس منفوسة لا تخرج روحان من ثقب واحد وفي وسط الصور كوة كاستدارة السماء والأرض وإسرافيل واضع فمه على تلك الكوة ثم قال له الرب تعالى: قد وكلتك بالصور فأنت للنفخة والصيحة فدخل إسرافيل في مقدم العرش فأدخل رجله اليمنى تحت العرش وقدم اليسرى ولم يطرف منذ خلقه الله ينتظر متى يؤمر به.
- وأخرج أبو الشيخ عن أبي بكر الهزلي قال: إن ملك الصور وكل به أن إحدى قدميه لفي الأرض السابعة وهو جاث على ركبتيه شاخص بصره إلى إسرافيل ما طرف منذ خلقه الله تعالى ينتظر متى يشير إليه فينفخ في الصور
- وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {يوم ينفخ في الصور} قال: يعني النفخة الأولى ألم تسمع أنه يقول: {ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى} [الزمر: 68] يعني الثاني {فإذا هم قيام ينظرون}.
- وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير وأبو الشيخ، عن قتادة، أنه قرأ: {يوم ينفخ في الصور} أي في الخلق.
- وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {عالم الغيب والشهادة} يعني أن عالم الغيب والشهادة هو الذي ينفخ في الصور.
- وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {عالم الغيب والشهادة} قال: السر والعلانية.
- وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال: الشهادة ما قد رأيتم من خلقه والغيب ما غاب عنكم مما لم تروه). [الدر المنثور: 6/ 96-101]


رد مع اقتباس
  #3  
قديم 23 ربيع الثاني 1434هـ/5-03-2013م, 11:41 AM
ريم الحربي ريم الحربي غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jan 2010
الدولة: بلاد الحرمين
المشاركات: 2,656
افتراضي

التفسير اللغوي

{قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)}


تفسير قوله تعالى: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71)}:
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (قوله: {يدعونه إلى الهدى ائتنا...}
كان أبو بكر الصدّيق وامرأته يدعوان عبد الرحمن ابنهما إلى الإسلام فهو قوله: {إلى الهدى ائتنا} أي :أطعنا، ولو كانت "إلى الهدى أن ائتنا" لكان صوابا؛ كما قال: {إنّا أرسلنا نوحاً إلى قومه أن أنذر قومك} في كثير من أشباهه، يجيء بأن، ويطرحها). [معاني القرآن: 1/ 339]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت: 210هـ): ({ونردّ على أعقابنا} يقال: ردّ فلان على عقيبيه أي: رجع ولم يظفر بما طلب ولم يصب شيئاً). [مجاز القرآن: 1/ 196]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت: 210هـ): ({كالّذي استهوته الشّياطين}؛ وهو: الحيران الذي يشبّه له الشياطين فيتبعها حتى يهوى في الأرض فيضلّ). [مجاز القرآن: 1/ 196]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({قل أندعوا من دون اللّه ما لا ينفعنا ولا يضرّنا ونردّ على أعقابنا بعد إذ هدانا اللّه كالّذي استهوته الشّياطين في الأرض حيران له أصحابٌ يدعونه إلى الهدى ائتنا قل إنّ هدى اللّه هو الهدى وأمرنا لنسلم لربّ العالمين}
وأمّا قوله: {حيران له أصحابٌ} فإنّ كلّ "فعلان" له "فعلى" فإنّه لا ينصرف في المعرفة ولا النكرة.
وأمّا قوله: {إلى الهدى ائتنا} فان الألف التي في {ائتنا} ألف وصل ولكن بعدها همزة من الأصل هي التي في "أتى" وهي الياء التي في قولك "إيتنا"، ولكنها لم تهمز حين ظهرت ألف الوصل. لأن ألف الوصل مهموزة إذا استؤنفت فكرهوا اجتماع همزتين.
وقال: {وأمرنا لنسلم لربّ العالمين} يقول: إنّما أمرنا كي نسلم لربّ العالمين، كما قال: {وأمرت أن أكون من المؤمنين} أي: إنما أمرت بذلك). [معاني القرآن: 1/ 241-242]
قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : (أهل المدينة والحسن وأبو عمرو {كالذي استهوته الشياطين}.
عبد الله "استهواه الشيطان" يجعله واحدًا.
[معاني القرآن لقطرب: 514]
أبي بن كعب "كالذي استهوت الشياطين" يحذف الهاء). [معاني القرآن لقطرب: 515]
قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : (وقوله عز وجل {ونرد على أعقابنا} فإنه حكي لنا: أنهم يقولون لك لمن لم يظفر بشيء: رد علي عقبيه.
[معاني القرآن لقطرب: 543]
وأما قوله عز وجل {كالذي استهوته الشياطين} فهو من قولك: تهوي إليهم؛ أي تريدهم وتؤمهم؛ كأنه قال هوت.
وأما قوله عز وجل {حيران له أصحاب} فالفعل حار الرجل حيرًا وحيرة، وحيرًا في المصدر). [معاني القرآن لقطرب: 544]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ( {نرد على أعقابنا}: نرجع.
{استهوته الشياطين}: استمالته). [غريب القرآن وتفسيره: 138]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت:276هـ): ( {كالّذي استهوته الشّياطين في الأرض} أي: هوت به وذهبت
{حيران له أصحابٌ يدعونه إلى الهدى ائتنا} يقولون له: ائتنا نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر وأصحابه: أبوه وأمه). [تفسير غريب القرآن: 155]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله: {قل أندعو من دون اللّه ما لا ينفعنا ولا يضرّنا ونردّ على أعقابنا بعد إذ هدانا اللّه كالّذي استهوته الشّياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا قل إنّ هدى اللّه هو الهدى وأمرنا لنسلم لربّ العالمين}
{ونردّ على أعقابنا بعد إذ هدانا اللّه} أي: نرجع إلى الكفر، ويقال لكل من أدبر قد رجع إلى خلف ورجع القهقرى.
وقوله: {كالذي استهوته الشياطين في الأرض}أي: كالذي زينت له الشياطين هواه.
وقوله {حيران}منصوب على الحال، أي: كالذي استهوته في حال حيرته.
وقوله:{له أصحاب يدعونه إلى الهدى}قيل في التفسير: يعنى بهذا عبد الرحمن بن أبي بكر، {ائتنا}أي تابعنا في إيماننا.
{وأمرنا لنسلم لربّ العالمين} أي: يدعونه ويقولون له {أمرنا لنسلم لربّ العالمين}
العرب تقول أمرتك بأن تفعل، وأمرتك لتفعل، وأمرتك بأن تفعل،
- فمن قال أمرتك بأن تفعل فالباء للإلصاق، المعنى وقع الأمر بهذا الفعل.
- ومن قال أمرتك أن تفعل فعلى حذف الباء.
- ومن قال أمرتك لتفعل فقد أخبر بالعلّة التي لها وقع الأمر.
المعنى أمرنا للإسلام). [معاني القرآن: 2/ 262]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (وقوله جل وعز: {قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا}،
قال مجاهد: يعني الأوثان). [معاني القرآن: 2/ 445]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال جل وعز: {ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله} أي: إلى الكفر،
قال أبو عبيدة: يقال لمن رد عن حاجته ولم يظفر بها قد رد على عقبيه.
وقال أبو العباس محمد بن يزيد: معناه: يعقب بالشر بعد الخير وأصله من العاقبة والعقبى وهما ما كان تاليا للشيء راجيا أن يتبعه ومنه والعاقبة للمتقين ومنه عقب الرجل ومنه العقوبة لأنها تالية للذنب وعنه تكون). [معاني القرآن: 2/ 445]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (وقوله جل وعز: {كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران} معنى استهوته زينت له هواه). [معاني القرآن: 2/ 446]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال جل وعز: {له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا}). [معاني القرآن: 2/ 446]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): {اسْتَهْوَتْهُ} أي: هوت به وذهبت). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 77]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({اسْتَهْوَتْهُ}: استمالته). [العمدة في غريب القرآن: 128]

تفسير قوله تعالى:{وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72)}:
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {وأن أقيموا الصّلاة...}
مردودة على اللام التي في قوله: {وأمرنا لنسلم} والعرب تقول: أمرتك لتذهب (وأن تذهب) فأن في موضع نصب بالردّ على الأمر. ومثله في القرآن كثير). [معاني القرآن: 1/ 339]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({وأن أقيموا الصّلاة واتّقوه وهو الّذي إليه تحشرون}
ثم قال: {وأن أقيموا الصّلاة واتّقوه} أي: وأمرنا أن أقيموا الصّلاة واتّقوه. أو يكون أوصل الفعل بالّلام،
والمعنى: أمرت أن أكون. كما أوصل باللام في قوله: {لربّهم يرهبون}). [معاني القرآن: 1/ 242]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله جلّ وعزّ: {وأن أقيموا الصّلاة واتّقوه وهو الّذي إليه تحشرون}
فيه وجهان:
1- أحدهما أن تكون أمرنا لأن نسلم ولأن نقيم الصلاة
2- ويجوز أن يكون محمولا على المعنى، لأن المعنى أمرنا بالإسلام. وبإقامة الصلاة.
وموضع أن نصب، لأن الباء لما سقطت أفضى الفعل فنصب.
وفيه وجه آخر، يجوز أن يكون محمولا على قوله: {يدعونه إلى الهدى ائتنا}،
{وأن أقيموا الصلاة} أي: ويدعونه أن أقيموا الصلاة). [معاني القرآن: 2/ 263]

تفسير قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)}:
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {كن فيكون...}
يقال إنّ قوله: {فيكون}للصّور خاصّة، أي يقول للصّور:{كن فيكون}.
ويقال إن قوله: {كن فيكون} لقوله هو الحقّ من نعت القول، ثم تجعل فعله {يوم ينفخ في الصّور} يريد: يكون قوله الحقّ يومئذ.
وقد يكون أن تقول: {ويوم يقول كن فيكون} لكل شيء فتكون كلمة مكتفية وترفع القول بالحقّ، وتنصب (اليوم) لأنه محل لقوله الحقّ.
والعرب تقول: نفخ في الصور ونفخ.

وفي قراءة عبد الله: {كهيئة الطير فأنفخها فتكون طيرا بإذني}
وقال الشاعر:

لولا ابن جعدة لم يفتح قهندزكم ....... ولا خراسان حتى ينفخ الصور
ويقال: إن الصّور قرن.
ويقال: هو جمع للصور ينفخ في الصور في الموتى. والله أعلم بصواب ذلك). [معاني القرآن: 1/ 340]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت: 210هـ): ({يوم ينفخ في الصّور} يقال: إنها جمع صورة تنفخ فيها روحها فتحيا، بمنزلة قولهم: سور المدينة واحدتها سورة، وكذلك كل ما علا وارتفع، كقول النابغة:
ألم تر أنّ الله أعطاك سورةً ....... ترى كلّ ملكٍ دونها يتذبذب
وقال العجّاج:
فربّ ذي سرادقٍ محجور ....... سرت إليه في أعالي السّور
ومنها: سورة المجد أعاليه؛ وقال جرير:
لمّا أتى خبر الزّبير تواضعت ....... سور المدينة والجبال الخشّع).
[مجاز القرآن: 1/ 196-197]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({وهو الّذي خلق السّماوات والأرض بالحقّ ويوم يقول كن فيكون قوله الحقّ وله الملك يوم ينفخ في الصّور عالم الغيب والشّهادة وهو الحكيم الخبير}
وقال: {ويوم يقول كن فيكون}
قال: {يوم} مضاف إلى قوله: {كن فيكون} وهو نصب وليس له خبر ظاهر والله اعلم. وهو على ما فسرت لك.
وكذلك: {يوم ينفخ في الصّور}، وقال بعضهم: {يوم ينفح في الصّور}، وقال بعضهم: {ينفخ} {عالم الغيب والشّهادة}). [معاني القرآن: 1/ 242]
قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : (العامة {يوم ينفخ في الصور}.
وفي قراءة بعض أهل البصرة "يوم ينفخ في الصور" يحرك الواو.
وفي اللغة يقال: هو صورة وصور بالكسر؛ وهذا المذهب حسن.
وقد يجوز أن يكون الصور أيضًا يريد جمع الصورة، كما قالوا: صوفة وصوف، وبومة وبوم؛ فأسكن وسطه، وقول الحسن: "ينفخ في الصور"؛ أي صور الخلائق؛ يعني الأرواح في الأبدان). [معاني القرآن لقطرب: 515]
قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : (وقال مجاهد {في الصور} و{نقر في الناقور} قال: هما سواء؛ وهو شبه البوق ينفخ فيه.
وقال العجاج في مثل صورة وصور:
ورب ذي سرادق محجور = سرت إليه في أعالي السور
وقالوا في فعله: صورت الصورة، وصرتها؛ زعم ذلك لنا أبو عبيدة.
وقال الأعشى على ذلك:
ولا الأيبلي على هيكل = بناه وصلب فيه وصارا
أي صوره). [معاني القرآن لقطرب: 516]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وهو الّذي خلق السّماوات والأرض بالحقّ ويوم يقول كن فيكون قوله الحقّ وله الملك يوم ينفخ في الصّور عالم الغيب والشّهادة وهو الحكيم الخبير}
{ويوم يقول كن فيكون}
نصب " يوم " على وجهين:
- أحدهما: على معنى: واتقوه ويوم يقول فيكون نسقا على الهاء، كما قال عزّ وجلّ: {واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا}.
- والأجود: أن يكون على معنى: واذكر يقول كن فيكون، لأن بعده.. {وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر}
- وفيه وجه ثالث: وهو العطف على السّماوات والأرض.
المعنى: وهو الذي خلق السّماوات والأرض بالحق وخلق يوم يقول كن فيكون.
فإن قال قائل: إن يوم القيامة لم يأت بعد. فإن ما أنبأنا اللّه بكونه فحقيقته واقع لا محالة.
وقوله: {كن فيكون}
قال بعضهم: المخاطبة ههنا للصور المعنى ويوم يقول للصور كن فيكون، وما ذكر من الصور يدل عليه.
وقيل إن قوله (كن) فيه أسماء جميع ما يخلق في ذلك الوقت المعنى:

{ويوم يقول كن فيكون} وهذا ذكر ليدل على سرعة أمر البعث والساعة.
كأنه قال: ويوم يقول للخلق موتوا فيموتون وانتشروا فينتشرون.
كأنه يأمر الحياة فتكون فيهم، والموت فيحل أولا يفنى جميع الخلق.
وقيل: {ويوم يقول كن فيكون} (قوله) أي يأمر فيقع أمره، و (الحقّ) من نعت (قوله) كما تقول: قد قلت فكان قولك، فالمعنى ليس أنك قلت فكان الكلام، إنما المعنى أنه كان ما دلّ عليه القول.
وعلى القول الأول قد رفع (قوله) بالابتداء و (الحقّ) خبر الابتداء.
وقوله: {يوم ينفخ في الصّور}.
يجوز أن يكون نصب (يوم) على {وله الملك يوم ينفخ في الصّور} مبينا عن قوله: {ويوم يقول كن فيكون}.
ويجوز أن يكون منصوبا بقوله (الحق).
المعنى و {قوله الحق يوم ينفخ في الصور} .
* فإن قال قائل: للّه الملك في كل وقت فلم خصّ يوم القيامة، ويوم ينفخ في الصور؟
- فالجواب: في هذا أنه في اليوم الذي لا يظهر فيه من أحد نفع لأحد ولا ضر، كما قال: {والأمر يومئذ للّه} والأمر في كل وقت للّه جلّ وعزّ.
وقالوا في الصور قولين:
1- قيل: في التفسير إن الصور اسم لقرن ينفخ فيه.
2- وقيل: الصور جمع صورة، وكلاهما جائز، وأثبتها في الحديث.
والرواية أن الصور قرن، والصور جمع صورة: أهل اللغة على هذا). [معاني القرآن: 2/ 263-264]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (وقوله جل وعز: {وهو الذي خلق السموات والأرض بالحق ويوم يقول كن فيكون} والمعنى: اتقوا يوم يقول كن فيكون، ويجوز أن يكون معطوفا على قوله تعالى: {وهو الذي خلق السموات والأرض بالحق}.
* فإن قيل ما معنى وخلق يوم يقول كن فيكون؟
- فالجواب:
- أن ما أخبر الله جل وعز أنه كائن فهو بمنزلة ما قد كان
- ويجوز أن يكون المعنى واذكروا وهذا أحسن الأجوبة لأن بعده {وإذ قال إبراهيم}.
وقيل المعنى: {ويوم يقول كن فيكون} للصور.
وقيل المعنى: فيكون ما أراد من موت الخلائق وبعثهم والتمام على هذين الجوابين عند قوله: {فيكون}.
وقيل المعنى: فيكون قوله أي فيكون يأمر به ويكون التمام على هذا فيكون قوله الحق.
قال أبو عبيدة: الصور جمع صورة وهذا القول مما رد عليه لأن عبد الله بن مسعود قال: الصور قرن.
وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لم يزل صاحب الصور ملتقمه منذ خلقه الله ينتظر متى يؤمر بالنفخ فيه»
وقال عمرو بن عبيد: قرأ عياض {يوم ينفخ في الصور} وهذا يعني به الخلق. والله أعلم). [معاني القرآن: 2/ 446-448]


رد مع اقتباس
  #4  
قديم 28 ربيع الثاني 1434هـ/10-03-2013م, 11:41 PM
ريم الحربي ريم الحربي غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jan 2010
الدولة: بلاد الحرمين
المشاركات: 2,656
افتراضي

التفسير اللغوي المجموع
[ما استخلص من كتب علماء اللغة مما له صلة بهذا الدرس]

تفسير قوله تعالى: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71) }

تفسير قوله تعالى: {وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) }

تفسير قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73) }


رد مع اقتباس
  #5  
قديم 20 جمادى الآخرة 1435هـ/20-04-2014م, 11:39 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن الثالث الهجري

....

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 20 جمادى الآخرة 1435هـ/20-04-2014م, 11:39 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن الرابع الهجري

....

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 20 جمادى الآخرة 1435هـ/20-04-2014م, 11:39 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن الخامس الهجري

....

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 20 جمادى الآخرة 1435هـ/20-04-2014م, 11:39 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن السادس الهجري

تفسير قوله تعالى: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {قل أندعوا من دون اللّه ما لا ينفعنا ولا يضرّنا ونردّ على أعقابنا بعد إذ هدانا اللّه كالّذي استهوته الشّياطين في الأرض حيران له أصحابٌ يدعونه إلى الهدى ائتنا قل إنّ هدى اللّه هو الهدى وأمرنا لنسلم لربّ العالمين (71)}
المعنى: قل في احتجاجك: أنطيع رأيكم في أن ندعو من دون الله، والدعاء يعم العبادة وغيرها لأن من جعل شيئا موضع دعائه فإياه يعبد وعليه يتكل ما لا ينفعنا ولا يضرّنا يعني الأصنام، إذ هي جمادات حجارة وخشب ونحوه، وضرر الأصنام في الدين لا يفهمه الكفار فلذلك قال: ولا يضرّنا إنما الضرر الذي يفهمونه من نزول المكاره الدنياوية، ونردّ على أعقابنا تشبيه، وذلك أن المردود على العقب هو أن يكون الإنسان يمشي قدما وهي المشية الجيدة فيرد يمشي القهقرى، وهي المشية الدنية فاستعمل المثل بها فيمن رجع من خير إلى شر ووقعت في هذه الآية في تمثيل الراجع من الهدى إلى عبادة الأصنام، وهدانا بمعنى أرشدنا، قال الطبري وغيره الرد على العقب يستعمل فيمن أمل أمرا فخاب أمله.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا قول قلق وقوله تعالى: {كالّذي استهوته الشّياطين ... الآية} الكاف في موضع نصب نعت لمصدر محذوف تقديره ردا كرد الذي واستهوته استفعلته بمعنى استدعت هواه وأمالته، قال أبو عبيدة: ويحتمل هويه وهو جده وركوب رأسه في النزوع إليهم، والهوى من هوى يهوي يستعمل في السقوط من علو إلى أسفل، ومنه قول الشاعر:
هوى أبني من دار أشرف ....... فزلّت رجله ويده
وهذا المعنى لا مدخل له في هذه الآية إلا أن تتأول اللفظة بمعنى ألقته الشياطين في هوة، وقد ذهب إليه أبو علي وقال: هو بمعنى أهوى كما أن استزل بمعنى أزل.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والتحرير: أن العرب تقول: هوى وأهواه غيره واستهواه بمعنى طلب منه أن يهوي هو أو طلب منه أن يهوي شيئا، وبيستعمل الهوى أيضا في ركوب الرأس في النزوع إلى الشيء ومنه قوله تعالى: {فاجعل أفئدةً من النّاس تهوي إليهم} [إبراهيم: 37]، ومنه قول شاعر الجن: [السريع]
تهوي إلى مكّة تبغي الهدى ....... ما مؤمن الجنّ كأنجاسها
وهذا المعنى هو الذي يليق بالآية، وقرأ الجمهور من الناس «استهوته الشياطين» وقرأ الحسن «استهوته الشياطون». وقال بعض الناس: هو لحن، وليس كذلك بل هو شاذ قبيح وإنما هو محمول على قولهم، سنون وأرضون إلا أن هذه في جمع مسلم وشياطون في جمع مكسر فهذا موضع الشذوذ، وقرأ حمزة «استهواه الشياطين» وأمال استهواه، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي والأعمش وطلحة «استهويه الشيطان» بالياء وإفراد الشيطان، وذكر الكسائي أنها كذلك في مصحف ابن مسعود، وقوله: في الأرض يحكم بأن استهوته إنما هو بمعنى استدعت هويه الذي هو الجد في النزوع وحيران في موضع الحال، ومؤنثه حيرى فهو لا ينصرف في معرفة ولا نكرة، ومعناه ضالا متحيرا وهو حال من الضمير في استهوته والعامل فيه استهوته، ويجوز أن يكون من الذي والعامل فيه المقدر بعد الكاف، وقوله استهوته يقتضي أنه كان على طريق فاستدعته.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: فسياق هذا المثل كأنه قال أيصلح أن يكون بعد الهدى نعبد الأصنام فيكون ذلك منا ارتدادا على العقب فيكون كرجل على طريق واضح فاستهوته عنه الشياطين فخرج عنه إلى دعوتهم فبقي حائرا وقوله: له أصحابٌ يحتمل أن يريد له أصحاب على الطريق الذي خرج منه فيشبه بالأصحاب على هذا المؤمنون الذين يدعون من ارتد إلى الرجوع إلى الهدى، وهذا تأويل مجاهد وابن عباس ويحتمل أن يريد له أصحاب أي من الشياطين الدعاة أولا يدعونه إلى الهدى بزعمهم وإنما يوهمونه فيشبه بالأصحاب على هذا الكفرة الذين يثبتون من ارتد عن الإسلام على ارتداده، وروي هذا التأويل عن ابن عباس أيضا، وائتنا من الإتيان بمعنى المجيء، وفي مصحف عبد الله «إلى الهدى بينا» وهذه تؤيد تأويل من تأول الهدى حقيقة إخبار من الله، وحكى مكي وغيره أن المراد ب «الذي» في هذه الآية عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وب «الأصحاب» أبوه وأمه.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا ضعيف لأن في الصحيح أن عائشة رضي الله عنها لما سمعت قول قائل: إن قوله تعالى: {والّذي قال لوالديه أفٍّ لكما} [الأحقاف: 17] نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر قالت: كذبوا والله ما نزل فينا من القرآن شيء إلا براءتي.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: حدثني أبي رضي الله عنه قال: سمعت الفقيه الإمام أبا عبد الله المعروف بالنحوي المجاور بمكة يقول: من نازع أحدا من الملحدة فإنما ينبغي أن يرد عليه وينازعه بالقرآن والحديث فيكون كمن يدعو إلى الهدى بقوله: ائتنا، ومن ينازعهم بالجدل ويحلق عليهم به فكأنه بعد عن الطريق الواضح أكثر ليرد هذا الزائغ فهو يخاف عليه أن يضل.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا انتزاع حسن جدا، وقوله تعالى: {قل إنّ هدى اللّه ... الآية}، من قال إن «الأصحاب» هم من الشياطين المستهزئين وتأول إلى الهدى بزعمهم قال: إن قوله: {قل إنّ هدى اللّه هو الهدى} رد عليهم في زعمهم فليس ما زعموه صحيحا وليس بهدى بل هو نفسه كفر وضلال، وإنما الهدى هدى الله وهو الإيمان، ومن قال: إن «الأصحاب» هم على الطريق المدعو إليها وإن المؤمنين الداعين للمرتدين شبهوا بهم وإن الهدى هو هدى على حقيقته يجيء على قوله: {قل إنّ هدى اللّه} بمعنى أن دعاء الأصحاب وإن كان إلى هدى فليس بنفس دعائهم تقع الهداية وإنما يهتدي بذلك الدعاء من هداه الله تعالى بهداه، وأمرنا لنسلم اللام لام كي ومعها أن مقدرة ويقدر مفعول ل أمرنا مضمر تقديره وأمرنا بالإخلاص أو بالإيمان ونحو هذا، فتقدير الجملة كلها وأمرنا بالإخلاص لأن نسلم، ومذهب سيبويه في هذه أن لنسلم هو موضع المفعول وأن قولك: أمرت لأقوم وأمرت أن أقوم يجريان سواء ومثله قول الشاعر: [الطويل]
أردت لأنسى ذكرها
إلى غير ذلك من الأمثلة، «ونسلم» يعم الدين والاستسلام). [المحرر الوجيز: 3/ 389-393]

تفسير قوله تعالى: {وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {وأن أقيموا الصّلاة واتّقوه وهو الّذي إليه تحشرون (72) وهو الّذي خلق السّماوات والأرض بالحقّ ويوم يقول كن فيكون قوله الحقّ وله الملك يوم ينفخ في الصّور عالم الغيب والشّهادة وهو الحكيم الخبير (73)}
وأن أقيموا يتجه أن يكون بتأويل وإقامة فهو عطف على المفعول المقدر في: {أمرنا} ، وقيل بل هو معطوف على قوله: {لنسلم} تقديره لأن نسلم وأن أقيموا.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا قول الزجاج واللفظ يمانعه وذلك أن قوله «لأن نسلم» معرب، وقوله أن أقيموا مبني وعطف المبني على المعرب لا يجوز لأن العطف يقتضي التشريك في العامل اللهم إلا أن تجعل العطف في «أن» وحدها وذلك قلق وإنما يتخرج على أن يقدر قوله وأن أقيموا بمعنى لنقيم ثم خرجت بلفظ الأمر لما في ذلك من جزالة اللفظ فجاز العطف على أن يلغى حكم اللفظ ويعول على المعنى، ويشبه هذا من جهة «ما» ما حكاه يونس عن العرب: أدخلوا الأول فالأول بالنصب، وقال الزجّاج أيضا: يحتمل أن يكون وأن أقيموا معطوفا على ائتنا.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وفيه بعد، والضمير في قوله: {واتّقوه} عائد على رب العالمين). [المحرر الوجيز: 3/ 393-394]

تفسير قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73) }

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وهو ابتداء وما بعده وهو لفظ خبر يتضمن التنبيه والتخويف، وقوله تعالى: {وهو الّذي خلق ... الآية}، خلق ابتدع وأخرج من العدم إلى الوجود، وبالحقّ، أي لم يخلقها باطلا بغير معنى بل لمعان مفيدة ولحقائق بينة منها ما يحسه البشر من الاستدلال بها على الصانع ونزول الأرزاق وغير ذلك، وقيل المعنى بأن حق له أن يفعل ذلك، وقيل بالحقّ معناه بكلامه في قوله للمخلوقات {كن} وفي قوله: {ائتيا طوعاً أو كرهاً} [فصّلت: 11].
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وتحرير القول أن المخلوقات إنما إيجادها بالقدرة لا بالكلام، واقتران «كن» بحالة إيجاد المخلوق فائدته إظهار العزة والعظمة ونفوذ الأوامر وإعلان القصد، ومثال ذلك في الشاهد أن يضرب إنسان شيئا فيكسره ويقول في حال الكسر بلسانه: انكسر فإن ذلك إنفاذ عزم وإظهار قصد، ولله المثل الأعلى، لا تشبيه ولا حرف ولا صوت ولا تغير، أمره واحدة كلمح البصر فكأن معنى الآية على هذا القول وهو الذي خلق السماوات والأرض بقوله كن المقترنة بالقدرة التي بها يقع إيجاد المخلوق بعد عدمه، فعبر عن ذلك بالحقّ، ويوم يقول نصب على الظرف وهو معلق بمعمول فعل مضمر، تقديره: واذكر الخلق والإعادة يوم، وتحتمل الآية مع هذا أن يكون معناها: واذكر الإعادة يوم يقول الله للأجساد كن معادة، ثم يحتمل أن يتم الكلام هنا ثم يبدأ بإخبار أن يكون قوله الحق الذي كان في الدنيا إخبارا بالإعادة، ويحتمل أن يكون تمام الكلام في قوله فيكون ويكون قوله الحقّ ابتداء وخبر أو على الاحتمال الذي قبل ف قوله فاعل، قال الزجّاج قوله ويوم معطوف على الضمير من قوله: {واتّقوه} فالتقدير هنا على هذا القول واتقوا العقاب أو الأهوال والشدائد يوم، وقيل: إن الكلام معطوف على قوله خلق السّماوات والتقدير على هذا: وهو الذي خلق السماوات والأرض والمعادات إلى الحشر يوم، ولا يجوز أن تعمل هذه الأفعال لا تقديرك اذكر ولا اتقوا ولا خلق في يوم لأن أسماء الزمان إذا بنيت مع الأفعال فلا يجوز أن تنصب إلا على الظرف، ولا يجوز أن يتعلق يوم بقوله: قوله الحقّ لأن المصدر لا يعمل فيما تقدمه، وقد أطلق قوم أن العامل اذكر أو خلق، ويحتمل أن يريد ب «يقول» معنى المضي كأنه قال: وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق يوم يقول بمعنى قال لها «كن»، ف يوم ظرف معطوف على موضع قوله الحقّ إذ هو في موضع نصب، ويجيء تمام الكلام في قوله فيكون، ويجيء قوله الحقّ ابتداء وخبرا ويحتمل أن يتم الكلام في كن، ويبتدأ فيكون قوله الحقّ وتكون «يكون» تامة بمعنى يظهر، والحقّ صفة للقول، وقوله فاعل، وقرأ الحسن: «قوله» بضم القاف، وله الملك ابتداء وخبر يوم ينفخ في الصّور «يوم» بدل من الأولى على أن «يقول» مستقبل لا على تقدير مضيه، وقيل: بل متعلق بما تضمن الملك من معنى الفعل أو بتقدير ثابت أو مستقر يوم، وفي الصّور قال أبو عبيدة هو جمع صورة فالمعنى يوم تعاد العوالم، وقال الجمهور هو الصور القرن الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم إنه ينفخ فيه للصعق ثم للبعث، ورجحه الطبري بقول النبي عليه السلام: إن إسرافيل قد التقم الصور وحنى جبهته ينظر متى يؤمر فينفخ، وقرأ الحسن «في الصور» بفتح الواو وهذه تؤيد التأويل الأول وحكاها عمرو بن عبيد عن عياض عالم رفع بإضمار مبتدأ وقيل نعت ل الّذي وقرأ الحسن والأعمش «عالم» بالخفض على النعت للضمير الذي في له، أو على البدل منه من قوله له الملك، وقد رويت عن عاصم، وقيل ارتفع «عالم» بفعل مضمر من لفظ الفعل المبني للمفعول تقديره ينفخ فيه عالم على ما أنشد سيبويه: [الطويل]
ليبك يزيد ضارع لخصومة ....... وآخر ممّن طوّحته الطّوائح
التقدير يبكيه ضارع، وحكى الطبري هذا التأويل الذي يشبه ليبك يزيد عن ابن عباس ونظيرها من القرآن قراءة من قرأ: {زيّن لكثيرٍ من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم} [الأنعام 137] بضم الزاي ورفع الشركاء وروي عن عبد الوارث عن أبي عمرو «يوم ننفخ في الصور» بنون العظمة، والغيب والشّهادة معناه ما غاب عنا وما حضر، وهذا يعم جميع الموجودات). [المحرر الوجيز: 3/ 394-396]


رد مع اقتباس
  #9  
قديم 20 جمادى الآخرة 1435هـ/20-04-2014م, 11:39 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن السابع الهجري

....

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 20 جمادى الآخرة 1435هـ/20-04-2014م, 11:39 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن الثامن الهجري

تفسير قوله تعالى: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {قل أندعو من دون اللّه ما لا ينفعنا ولا يضرّنا ونردّ على أعقابنا بعد إذ هدانا اللّه كالّذي استهوته الشّياطين في الأرض حيران له أصحابٌ يدعونه إلى الهدى ائتنا قل إنّ هدى اللّه هو الهدى وأمرنا لنسلم لربّ العالمين (71) وأن أقيموا الصّلاة واتّقوه وهو الّذي إليه تحشرون (72) وهو الّذي خلق السّماوات والأرض بالحقّ ويوم يقول كن فيكون قوله الحقّ وله الملك يوم ينفخ في الصّور عالم الغيب والشّهادة وهو الحكيم الخبير (73)}
قال السّدّي: قال المشركون للمؤمنين: اتّبعوا سبيلنا، واتركوا دين محمّدٍ، فأنزل اللّه، عزّ وجلّ: {قل أندعو من دون اللّه ما لا ينفعنا ولا يضرّنا ونردّ على أعقابنا} أي: في الكفر {بعد إذ هدانا اللّه} فيكون مثلنا مثل الّذي {استهوته الشّياطين في الأرض [حيران]} يقول: مثلكم، إن كفرتم بعد الإيمان، كمثل رجلٍ كان مع قومٍ على الطّريق، فضلّ الطّريق، فحيّرته الشّياطين، واستهوته في الأرض، وأصحابه على الطّريق، فجعلوا يدعونه إليهم يقولون: "ائتنا فإنّا على الطّريق"، فأبى أن يأتيهم. فذلك مثل من يتّبعهم بعد المعرفة بمحمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم ومحمّدٌ هو الّذي يدعو إلى الطّريق، والطّريق هو الإسلام. رواه ابن جريرٍ.
وقال قتادة: {استهوته الشّياطين في الأرض} أضلّته في الأرض، يعني: استهوته مثل قوله: {تهوي إليهم} [إبراهيم: 37].
وقال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ في قوله: {قل أندعو من دون اللّه ما لا ينفعنا ولا يضرّنا ... الآية}. هذا مثلٌ ضربه اللّه للآلهة ومن يدعو إليها، والدّعاة الّذين يدعون إلى اللّه، عزّ وجلّ، كمثل رجلٍ ضلّ عن طريقٍ تائهًا ضالًّا إذ ناداه منادٍ: "يا فلان بن فلانٍ، هلمّ إلى الطّريق"، وله أصحابٌ يدعونه: "يا فلان، هلمّ إلى الطّريق"، فإن اتّبع الدّاعي الأوّل، انطلق به حتّى يلقيه إلى الهلكة وإن أجاب من يدعوه إلى الهدى، اهتدى إلى الطّريق. وهذه الدّاعية الّتي تدعو في البريّة من الغيلان، يقول: مثل من يعبد هذه الآلهة من دون اللّه، فإنّه يرى أنّه في شيءٍ حتّى يأتيه الموت، فيستقبل الهلكة والنّدامة. وقوله: {كالّذي استهوته الشّياطين في الأرض} هم "الغيلان"، يدعونه باسمه واسم أبيه وجدّه، فيتّبعها وهو يرى أنّه في شيءٍ، فيصبح وقد ألقته في هلكةٍ، وربّما أكلته -أو تلقيه في مضلّةٍ من الأرض، يهلك فيها عطشًا، فهذا مثل من أجاب الآلهة الّتي تعبد من دون اللّه، عزّ وجلّ. رواه ابن جريرٍ.
وقال ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ: {كالّذي استهوته الشّياطين في الأرض حيران} قال: رجلٌ حيران يدعوه أصحابه إلى الطّريق، وذلك مثل من يضلّ بعد أن هدي.
وقال العوفي، عن ابن عبّاسٍ، قوله: {كالّذي استهوته الشّياطين في الأرض حيران} هو الّذي لا يستجيب لهدى اللّه، وهو رجلٌ أطاع الشّيطان، وعمل في الأرض بالمعصية، وجار عن الحقّ وضلّ عنه، وله أصحابٌ يدعونه إلى الهدى، ويزعمون أنّ الّذي يأمرونه به هدًى، يقول اللّه ذلك لأوليائهم من الإنس، يقول [اللّه] {إنّ هدى اللّه هو الهدى} والضّلال ما يدعو إليه الجنّ. رواه ابن جريرٍ، ثمّ قال: وهذا يقتضي أنّ أصحابه يدعونه إلى الضّلال، ويزعمون أنّه هدًى. قالت: وهذا خلاف ظاهر الآية؛ فإنّ اللّه أخبر أنّ أصحابه يدعونه إلى الهدى، فغير جائزٍ أن يكون ضلالًا وقد أخبر اللّه أنّه هدًى.
وهو كما قال ابن جريرٍ، وكان سياق الآية يقتضي أنّ هذا الّذي استهوته الشّياطين في الأرض حيران، وهو منصوبٌ على الحال، أي: في حال حيرته وضلاله وجهله وجه المحجّة، وله أصحابٌ على المحجّة سائرون، فجعلوا يدعونه إليهم وإلى الذّهاب معهم على الطّريقة المثلى. وتقدير الكلام: فيأبى عليهم ولا يلتفت إليهم، ولو شاء اللّه لهداه، ولردّ به إلى الطّريق؛ ولهذا قال: {قل إنّ هدى اللّه هو الهدى} كما قال: {ومن يهد اللّه فما له من مضلٍّ} [الزّمر: 37]، وقال: {إن تحرص على هداهم فإنّ اللّه لا يهدي من يضلّ وما لهم من ناصرين} [النّحل: 37]، وقوله {وأمرنا لنسلم لربّ العالمين} أي: نخلص له العباد وحده لا شريك له). [تفسير القرآن العظيم: 3/ 279-281]

تفسير قوله تعالى: {وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) }

قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {وأن أقيموا الصّلاة واتّقوه} أي: وأمرنا بإقامة الصّلاة وبتقواه في جميع الأحوال، {وهو الّذي إليه تحشرون} أي: يوم القيامة). [تفسير القرآن العظيم: 3/ 281]

تفسير قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {وهو الّذي خلق السّماوات والأرض بالحقّ} أي: بالعدل، فهو خالقهما ومالكهما، والمدبّر لهما ولمن فيهما.
وقوله: {ويوم يقول كن فيكون} يعني: يوم القيامة، الّذي يقول اللّه: {كن} فيكون عن أمره كلمح البصر، أو هو أقرب.
{ويوم} منصوبٌ إمّا على العطف على قوله: {واتّقوه} وتقديره: واتّقوا يوم يقول كن فيكون، وإمّا على قوله: {خلق السّماوات والأرض} أي: وخلق يوم يقول كن فيكون. فذكر بدء الخلق وإعادته، وهذا مناسبٌ. وإمّا على إضمار فعلٍ تقديره: واذكر يوم يقول كن فيكون.
وقوله: {قوله الحقّ وله الملك} جملتان محلّهما الجرّ، على أنّهما صفتان لربّ العالمين.
وقوله: {يوم ينفخ في الصّور} يحتمل أن يكون بدلًا من قوله: {ويوم يقول كن فيكون} {يوم ينفخ في الصّور} ويحتمل أن يكون ظرفًا لقوله: {وله الملك يوم ينفخ في الصّور} كقوله: {لمن الملك اليوم للّه الواحد القهّار} [غافرٍ: 16]، وكقوله: {الملك يومئذٍ الحقّ للرّحمن وكان يومًا على الكافرين عسيرًا} [الفرقان: 26]، وما أشبه ذلك.
واختلف المفسّرون في قوله: {يوم ينفخ في الصّور} فقال بعضهم: المراد بالصّور هاهنا جمع "صورةٍ" أي: يوم ينفخ فيها فتحيا.
قال ابن جريرٍ: كما يقال سورٌ -لسور البلد هو جمع سورةٍ. والصّحيح أنّ المراد بالصّور: "القرن" الّذي ينفخ فيه إسرافيل، عليه السّلام، قال ابن جريرٍ: والصّواب عندنا ما تظاهرت به الأخبار عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال: «إنّ إسرافيل قد التقم الصّور وحنى جبهته، ينتظر متى يؤمر فينفخ».
وقال الإمام أحمد: حدّثنا إسماعيل، حدّثنا سليمان التّيميّ، عن أسلم العجلي، عن بشر بن شغاف، عن عبد اللّه بن عمرٍو قال: قال أعرابيٌّ: يا رسول اللّه، ما الصّور؟ قال: «قرنٌ ينفخ فيه».
وقد روّينا حديث الصّور بطوله، من طريق الحافظ أبي القاسم الطّبرانيّ، في كتابه "الطّوالات" قال: حدّثنا أحمد بن الحسن المصريّ الأيلي، حدّثنا أبو عاصمٍ النّبيل، حدّثنا إسماعيل بن رافعٍ، عن محمّد بن زيادٍ، عن محمّد بن كعبٍ القرظي، عن أبي هريرة، رضي اللّه عنه قال: حدّثنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، وهو في طائفةٍ من أصحابه، فقال: «إنّ اللّه لمّا فرغ من خلق السّموات والأرض، خلق الصّور فأعطاه إسرافيل، فهو واضعه على فيه، شاخصًا بصره إلى العرش، ينتظر متى يؤمر». قلت: يا رسول اللّه، وما الصّور؟ قال: «القرن». قلت: كيف هو؟ قال: "عظيمٌ، والّذي بعثني بالحقّ، إنّ عظم دارة فيه كعرض السّموات والأرض. ينفخ فيه ثلاث نفخاتٍ: النّفخة الأولى نفخة الفزع، والثّانية نفخة الصّعق، والثّالثة نفخة القيام لربّ العالمين. يأمر اللّه تعالى إسرافيل بالنّفخة الأولى، فيقول. انفخ، فينفخ نفخة الفزع، فيفزع أهل السموات [وأهل] الأرض إلّا من شاء اللّه. ويأمره فيديمها ويطيلها ولا يفتر، وهي كقول اللّه: {وما ينظر هؤلاء إلا صيحةً واحدةً ما لها من فواقٍ} [ص: 15]، فيسيّر اللّه الجبال فتمرّ مرّ السّحاب، فتكون سرابًا".
ثمّ ترتجّ الأرض بأهلها رجّةً فتكون كالسّفينة المرميّة في البحر، تضربها الأمواج، تكفأ بأهلها كالقنديل المعلّق بالعرش، ترجرجه الرّياح، وهي الّتي يقول: {يوم ترجف الرّاجفة تتبعها الرّادفة قلوبٌ يومئذٍ واجفةٌ} [النّازعات: 6 -8]، فيميد النّاس على ظهرها، وتذهل المراضع، وتضع الحوامل، وتشيب الولدان، وتطير الشّياطين هاربةً من الفزع، حتّى تأتي الأقطار، فتأتيها الملائكة فتضرب وجوهها، فترجع، ويولّي النّاس مدبرين ما لهم من أمر اللّه من عاصمٍ، ينادي بعضهم بعضًا، وهو الّذي يقول اللّه تعالى: {يوم التّناد} [غافرٍ: 32].
فبينما هم على ذلك، إذ تصدّعت الأرض من قطرٍ إلى قطرٍ، فرأوا أمرًا عظيمًا لم يروا مثله، وأخذهم لذلك من الكرب والهول ما اللّه به عليمٌ، ثمّ نظروا إلى السّماء، فإذا هي كالمهل، ثمّ انشقّت فانتشرت نجومها، وانخسف شمسها وقمرها. قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «الأموات لا يعلمون بشيءٍ من ذلك» قال أبو هريرة: يا رسول اللّه، من استثنى اللّه، عزّ وجلّ، حين يقول: {ففزع من في السّماوات ومن في الأرض إلا من شاء اللّه} [النّمل: 87]، قال: «أولئك الشّهداء، وإنّما يصل الفزع إلى الأحياء، وهم أحياءٌ عند اللّه يرزقون، وقاهم اللّه فزع ذلك اليوم، وآمنهم منه، وهو عذاب اللّه يبعثه على شرار خلقه»، قال: وهو الّذي يقول اللّه، عزّ وجلّ: {يا أيّها النّاس اتّقوا ربّكم إنّ زلزلة السّاعة شيءٌ عظيمٌ * يوم ترونها تذهل كلّ مرضعةٍ عمّا أرضعت وتضع كلّ ذات حملٍ حملها وترى النّاس سكارى وما هم بسكارى ولكنّ عذاب اللّه شديدٌ} [الحج: 1، 2] ، فيكونون في ذلك العذاب ما شاء اللّه، إلّا أنّه يطول.
ثمّ يأمر اللّه إسرافيل بنفخة الصّعق، فينفخ نفخة الصّعق، فيصعق أهل السموات وأهل الأرض إلا من شاء الله، فإذا هم قد خمدوا، وجاء ملك الموت إلى الجبّار، عزّ وجلّ، فيقول: يا ربّ، قد مات أهل السّموات والأرض إلّا من شئت. فيقول اللّه -وهو أعلم بمن بقي -: فمن بقي؟ فيقول: يا ربّ، بقيت أنت الحيّ الّذي لا تموت، وبقيت حملة العرش، وبقي جبريل وميكائيل، وبقيت أنا. فيقول اللّه، عزّ وجلّ: ليمت جبريل وميكائيل. فينطق اللّه العرش فيقول: يا ربّ، يموت جبريل وميكائيل!! فيقول: اسكت، فإنّي كتبت الموت على كلّ من كان تحت عرشي، فيموتان. ثمّ يأتي ملك الموت إلى الجبّار [عزّ وجلّ] فيقول يا ربّ، قد مات جبريل وميكائيل. فيقول اللّه [عزّ وجلّ] -وهو أعلم بمن بقي -: فمن تبقّى؟ فيقول: بقيت أنت الحيّ الّذي لا تموت، وبقيت حملة عرشك، وبقيت أنا. فيقول اللّه، [عزّ وجلّ] ليمت حملة عرشي. فيموتوا، ويأمر اللّه العرش. فيقبض الصّور من إسرافيل، ثمّ يأتي ملك الموت، فيقول: يا ربّ، قد مات حملة عرشك. فيقول اللّه -وهو أعلم بمن بقي -:: فمن بقي؟ فيقول: يا ربّ، بقيت أنت الحيّ الّذي لا تموت، وبقيت أنا. فيقول اللّه [عزّ وجلّ] أنت خلق من خلقي، خلقتك لما رأيت، فمت. فيموت. فإذا لم يبق إلّا اللّه [الواحد القهّار الأحد الصّمد] الّذي لم يلد ولم يولد، كان آخرًا كما كان أوّلًا طوى السّموات والأرض طيّ السّجلّ للكتب ثمّ دحاهما ثمّ يلقفهما ثلاث مرّاتٍ، ثمّ يقول: أنا الجبّار، أنا الجبّار، أنا الجبّار ثلاثًا. ثمّ هتف بصوته: {لمن الملك اليوم} ثلاث مرّاتٍ، فلا يجيبه أحدٌ، ثمّ يقول لنفسه: {للّه الواحد القهّار}[غافرٍ: 16]، يقول اللّه: {يوم تبدّل الأرض غير الأرض والسّماوات} [إبراهيم: 48]، فيبسطهما ويسطحهما، ثمّ يمدّهما مدّ الأديم العكاظيّ {لا ترى فيها عوجًا ولا أمتًا} [طه: 107].
ثمّ يزجر اللّه الخلق زجرةً، فإذا هم في هذه الأرض المبدّلة مثل ما كانوا فيها من الأولى، من كان في بطنها كان في بطنها، ومن كان على ظهرها كان على ظهرها، ثمّ ينزّل اللّه [عزّ وجلّ] عليهم ماءً من تحت العرش، ثمّ يأمر اللّه السّماء أن تمطر، فتمطر أربعين يومًا، حتّى يكون الماء فوقهم اثني عشر ذراعًا، ثمّ يأمر اللّه الأجساد أن تنبت فتنبت كنبات الطّراثيث -أو: كنبات البقل -حتّى إذا تكاملت أجسادهم فكانت كما كانت، قال اللّه، عزّ وجلّ: ليحيا حملة عرشي، فيحيون. ويأمر اللّه إسرافيل فيأخذ الصّور، فيضعه على فيه، ثمّ يقول: ليحيا جبريل وميكائيل، فيحيان، ثمّ يدعو الله الأرواح فيؤتى بها تتوهّج أرواح المسلمين نورًا، وأرواح الكافرين ظلمةً، فيقبضها جميعًا ثمّ يلقيها في الصّور.
ثمّ يأمر اللّه إسرافيل أن ينفخ نفخة البعث، فينفخ نفخة البعث، فتخرج الأرواح كأنّها النّحل قد ملأت ما بين السّماء والأرض، فيقول [اللّه] وعزّتي وجلالي، ليرجعنّ كلّ روحٍ إلى جسده، فتدخل الأرواح في الأرض إلى الأجساد، فتدخل في الخياشيم، ثمّ تمشي في الأجساد كما يمشي السّمّ في اللّديغ، ثمّ تنشقّ الأرض عنكم وأنا أوّل من تنشقّ الأرض عنه، فتخرجون سراعًا إلى ربّكم تنسلون: {مهطعين إلى الدّاع يقول الكافرون هذا يومٌ عسرٌ} [القمر: 8] حفاة عراة [غلفًا] غرلا فتقفون موقفًا واحدًا مقداره سبعون عامًا، لا ينظر إليكم ولا يقضى بينكم، فتبكون حتّى تنقطع الدّموع، ثمّ تدمعون دمًا وتعرقون حتّى يلجمكم العرق، أو يبلغ الأذقان، وتقولون من يشفع لنا إلى ربّنا فيقضي بيننا؟ فتقولون من أحقّ بذلك من أبيكم آدم، خلقه اللّه بيده، ونفخ فيه من روحه، وكلّمه قبلًا؟ فيأتون آدم، فيطلبون ذلك إليه فيأبى، ويقول: ما أنا بصاحب ذلك. فيستقرءون الأنبياء نبيًّا نبيًّا، كلّما جاءوا نبيًّا، أبى عليهم. قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «حتّى يأتوني، فأنطلق إلى الفحص فأخر ساجدًا» قال أبو هريرة: يا رسول اللّه، وما الفحص؟ قال: «قدّام العرش حتّى يبعث اللّه إليّ ملكًا فيأخذ بعضدي، ويرفعني، فيقول لي: يا محمّد فأقول: نعم يا ربّ. فيقول اللّه، عزّ وجلّ: ما شأنك؟ وهو أعلم، فأقول: يا ربّ، وعدتني الشّفاعة فشفعني في خلقك، فاقض بينهم. قال [اللّه] قد شفّعتك، أنا آتيكم أقضي بينكم».
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «فأرجع فأقف مع النّاس، فبينما نحن وقوفٌ، إذ سمعنا حسًّا من السّماء شديدًا، فهالنا فنزل أهل السّماء الدّنيا بمثلي من في الأرض من الجنّ والإنس، حتّى إذا دنوا من الأرض، أشرقت الأرض بنورهم، وأخذوا مصافّهم، وقلنا لهم: أفيكم ربّنا؟ قالوا: لا وهو آتٍ. ثمّ ينزل [من] أهل السّماء الثّانية بمثلي من نزل من الملائكة، وبمثلي من فيها من الجنّ والإنس، حتّى إذا دنوا من الأرض، أشرقت الأرض بنورهم، وأخذوا مصافّهم، وقلنا لهم: أفيكم ربّنا؟ فيقولون: لا وهو آتٍ. ثمّ ينزلون على قدر ذلك من التّضعيف، حتّى ينزل الجبّار، عزّ وجلّ، في ظلل من الغمام والملائكة، فيحمل عرشه يومئذٍ ثمانيةٌ -وهم اليوم أربعة -أقدامهم في تخوم الأرض السفلى، والأرض والسّموات إلى حجزتهم والعرش على مناكبهم، لهم زجلٌ في تسبيحهم، يقولون: سبحان ذي العرش والجبروت، سبحان ذي الملك والملكوت، سبحان الحيّ الذي لا يموت، سبحان الذي يميت الخلائق ولا يموت، سبّوح قدّوسٌ قدّوسٌ قدّوسٌ، سبحان ربّنا الأعلى، ربّ الملائكة والرّوح، سبحان ربّنا الأعلى، الّذي يميت الخلائق ولا يموت، فيضع اللّه كرسيّه حيث يشاء من أرضه، ثمّ يهتف بصوته يا معشر الجنّ والإنس، إنّي قد أنصتّ لكم منذ خلقتكم إلى يومكم هذا، أسمع قولكم وأبصر أعمالكم، فأنصتوا إليّ، فإنّما هي أعمالكم وصحفكم تقرأ عليكم، فمن وجد خيرًا فليحمد اللّه، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلّا نفسه.ثمّ يأمر اللّه جهنّم، فيخرج منها عنقٌ [مظلمٌ] ساطعٌ، ثمّ يقول: {ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشّيطان إنّه لكم عدوٌّ مبينٌ * وأن اعبدوني هذا صراطٌ مستقيمٌ * ولقد أضلّ منكم جبلا كثيرًا أفلم تكونوا تعقلون * هذه جهنّم الّتي كنتم توعدون} -أو: بها تكذّبون -شكّ أبو عاصمٍ - {وامتازوا اليوم أيّها المجرمون} [يس: 60 -64] فيميّز اللّه النّاس وتجثو الأمم. يقول اللّه تعالى: {وترى كلّ أمّةٍ جاثيةً كلّ أمّةٍ تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون} [الجاثية: 28] فيقضي اللّه، عزّ وجلّ، بين خلقه، إلّا الثّقلين الجنّ والإنس، فيقضي بين الوحش والبهائم، حتّى إنّه ليقضي للجمّاء من ذات القرن، فإذا فرغ من ذلك، فلم تبق تبعةٌ عند واحدةٍ للأخرى قال اللّه [لها] كوني ترابًا. فعند ذلك يقول الكافر: {يا ليتني كنت ترابًا} [النّبأ: 40] ثمّ يقضي اللّه [عزّ وجلّ] بين العباد، فكان أوّل ما يقضي فيه الدّماء، ويأتي كلّ قتيلٍ في سبيل اللّه، عزّ وجلّ، ويأمر اللّه [عزّ وجلّ] كلّ قتيل فيحمل رأسه تشخب أو داجه يقول: يا ربّ، فيم قتلني هذا؟ فيقول -وهو أعلم -: فيم قتلتهم؟ فيقول: قتلتهم لتكون العزّة لك. فيقول اللّه له: صدقت. فيجعل اللّه وجهه مثل نور الشّمس، ثمّ تمرّ به الملائكة إلى الجنّة. ويأتي كلّ من قتل على غير ذلك يحمل رأسه وتشخب أوداجه، فيقول: يا ربّ، [فيم] قتلني هذا؟ فيقول -وهو أعلم -: لم قتلتهم؟ فيقول: يا ربّ، قتلتهم لتكون العزّة لك ولي. فيقول: تعست. ثمّ لا تبقى نفسٌ قتلها إلّا قتل بها، ولا مظلمةٌ ظلمها إلّا أخذ بها، وكان في مشيئة اللّه إن شاء عذّبه، وإن شاء رحمه. ثمّ يقضي اللّه تعالى بين من بقي من خلقه حتّى لا تبقى مظلمةٌ لأحدٍ عند أحدٍ إلّا أخذها [اللّه] للمظلوم من الظّالم، حتّى إنّه ليكلّف شائب اللّبن بالماء ثمّ يبيعه أن يخلص اللبن من الماء.
فإذا فرغ اللّه من ذلك، ناد منادٍ يسمع الخلائق كلّهم: ألا ليلحق كلّ قومٍ بآلهتهم وما كانوا يعبدون من دون اللّه. فلا يبقى أحدٌ عبد من دون اللّه إلّا مثّلت له آلهته بين يديه، ويجعل يومئذٍ ملكٌ من الملائكة على صورة عزير، ويجعل ملكٌ من الملائكة على صورة عيسى ابن مريم. ثمّ يتبع هذا اليهود وهذا النّصارى، ثمّ قادتهم آلهتهم إلى النّار، وهو الّذي يقول [تعالى]: {لو كان هؤلاء آلهةً ما وردوها وكلٌّ فيها خالدون} [الأنبياء: 99].
فإذا لم يبق إلّا المؤمنون فيهم المنافقون، جاءهم اللّه فيما شاء من هيئته، فقال: يا أيّها النّاس، ذهب النّاس فالحقوا بآلهتكم وما كنتم تعبدون. فيقولون: واللّه ما لنا إلهٌ إلّا اللّه، وما كنّا نعبد غيره، فينصرف عنهم، وهو اللّه الّذي يأتيهم فيمكث ما شاء اللّه أن يمكث، ثمّ يأتيهم فيقول: يا أيّها النّاس، ذهب النّاس فالحقوا بآلهتكم وما كنتم تعبدون. فيقولون: واللّه ما لنا إلهٌ إلّا اللّه وما كنّا نعبد غيره، فيكشف لهم عن ساقه، ويتجلّى لهم من عظمته ما يعرفون أنّه ربّهم، فيخرّون سجّدًا على وجوههم، ويخرّ كلّ منافقٍ على قفاه، ويجعل اللّه أصلابهم كصياصي البقر. ثمّ يأذن اللّه لهم فيرفعون، ويضرب اللّه الصّراط بين ظهراني جهنّم كحدّ الشّفرة -أو: كحدّ السّيف -عليه كلاليب وخطاطيف وحسكٌ كحسك السّعدان، دون جسر دحضٍ مزلّةٍ، فيمرّون كطرفٍ العين، أو كلمح البرق، أو كمرّ الرّيح، أو كجياد الخيل، أو كجياد الرّكاب، أو كجياد الرّجال. فناجٍ سالمٌ، وناجٍ مخدوشٌ، ومكردسٌ على وجهه في جهنّم.
فإذا أفضى أهل الجنّة إلى الجنّة، قالوا: من يشفع لنا إلى ربّنا فندخل الجنّة؟ فيقولون: من أحقّ بذلك من أبيكم آدم، عليه السّلام، خلقه اللّه بيده، ونفخ فيه من روحه، وكلّمه قبلًا؟ فيأتون آدم فيطلبون ذلك إليه، فيذكر ذنبًا ويقول: ما أنا بصاحب ذلك، ولكن عليكم بنوحٍ، فإنّه أوّل رسل اللّه. فيؤتى نوحٌ فيطلب ذلك إليه، فيذكر ذنبًا ويقول: ما أنا بصاحب ذلك، ويقول عليكم بإبراهيم، فإنّ اللّه اتّخذه خليلًا. فيؤتى إبراهيم، فيطلب ذلك إليه، فيذكر ذنبًا ويقول: ما أنا بصاحب ذلك، ويقول: عليكم بموسى فإنّ اللّه قرّبه نجيّا، وكلّمه وأنزل عليه التّوراة. فيؤتى موسى، فيطلب ذلك إليه، فيذكر ذنبًا ويقول: لست بصاحب ذلك، ولكن عليكم بروح اللّه وكلمته عيسى ابن مريم.
فيؤتى عيسى ابن مريم، فيطلب ذلك إليه، فيقول: ما أنا بصاحبكم، ولكن عليكم بمحمّدٍ». قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «فيأتوني -ولي عند ربّي ثلاث شفاعاتٍ [وعدنهنّ] -فأنطلق فآتي الجنّة، فآخذ بحلقة الباب، فأستفتح فيفتح لي، فأحيّى ويرحّب بي. فإذا دخلت الجنّة فنظرت إلى ربّي خررت ساجدًا، فيأذن اللّه لي من حمده وتمجيده بشيءٍ ما أذن به لأحدٍ من خلقه، ثمّ يقول: ارفع رأسك يا محمّد، واشفع تشفّع، وسل تعطه. فإذا رفعت رأسي يقول اللّه -وهو أعلم -: ما شأنك؟ فأقول: يا ربّ، وعدتني الشّفاعة، فشفّعني في أهل الجنّة فيدخلون الجنّة، فيقول اللّه: قد شفّعتك وقد أذنت لهم في دخول الجنّة».
وكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: «والّذي نفسي بيده، ما أنتم في الدّنيا بأعرف بأزواجكم ومساكنكم من أهل الجنّة بأزواجهم ومساكنهم، فيدخل كلّ رجلٍ منهم على اثنتين وسبعين زوجةً، سبعين ممّا ينشئ اللّه، عزّ وجلّ، وثنتين آدميّتين من ولد آدم، لهما فضلٌ على من أنشأ اللّه، لعبادتهما اللّه في الدّنيا. فيدخل على الأولى في غرفةٍ من ياقوتةٍ، على سريرٍ من ذهبٍ مكلّلٍ باللّؤلؤ، عليها سبعون زوجًا من سندسٍ وإستبرقٍ، ثمّ إنّه يضع يده بين كتفيها، ثمّ ينظر إلى يده من صدرها، ومن وراء ثيابها وجلدها ولحمها، وإنّه لينظر إلى مخّ ساقها كما ينظر أحدكم إلى السّلك في قصبة الياقوت، كبدها له مرآةٌ، وكبده لها مرآةٌ. فبينا هو عندها لا يملّها ولا تملّه، ما يأتيها من مرّةٍ إلّا وجدها عذراء، ما يفتر ذكره، وما تشتكي قبلها. فبينا هو كذلك إذ نودي: إنّا قد عرفنا أنّك لا تملّ ولا تملّ، إلّا أنّه لا مني ولا منية إلّا أنّ لك أزواجًا غيرها. فيخرج فيأتيهنّ واحدةً واحدةً، كلّما أتى واحدةً [له] قالت: له واللّه ما أرى في الجنّة شيئًا أحسن منك، ولا في الجنّة شيءٌ أحبّ إليّ منك.
وإذا وقع أهل النّار في النّار، وقع فيها خلقٌ من خلق ربّك أوبقتهم أعمالهم، فمنهم من تأخذ النّار قدميه لا تجاوز ذلك، ومنهم من تأخذه إلى أنصاف ساقيه، ومنهم من تأخذه إلى ركبتيه، ومنهم من تأخذه إلى حقويه، ومنهم من تأخذ جسده كلّه، إلّا وجهه حرّم اللّه صورته عليها». قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «فأقول يا ربّ، من وقع في النّار من أمّتي. فيقول: أخرجوا من عرفتم، فيخرج أولئك حتّى لا يبقى منهم أحدٌ. ثمّ يأذن اللّه في الشّفاعة فلا يبقى نبيٌّ ولا شهيدٌ إلّا شفع، فيقول اللّه: أخرجوا من وجدتم في قلبه زنة الدّينار إيمانًا. فيخرج أولئك حتّى لا يبقى منهم أحدٌ، ثمّ يشفّع اللّه فيقول: أخرجوا من [وجدتم] في قلبه إيمانًا ثلثي دينارٍ. ثمّ يقول: ثلث دينارٍ. ثمّ يقول: ربع دينارٍ. ثمّ يقول: قيراطًا. ثمّ يقول: حبّةً من خردلٍ. فيخرج أولئك حتّى لا يبقى منهم أحدٌ، وحتّى لا يبقى في النّار من عمل للّه خيرًا قطّ، ولا يبقى أحدٌ له شفاعةٌ إلّا شفع، حتّى إنّ إبليس ليتطاول ممّا يرى من رحمة اللّه رجاء أن يشفع له، ثمّ يقول: بقيت وأنا أرحم الرّاحمين. فيدخل يده في جهنّم فيخرج منها ما لا يحصيه غيره، كأنّهم حمم، فيلقون على نهرٍ يقال له: نهر الحيوان، فينبتون كما تنبت الحبّة في حميل السّيل ما يلقى الشّمس منها أخيضر، وما يلي الظّلّ منها أصيفر، فينبتون كنبات الطّراثيث، حتّى يكونوا أمثال الذّرّ، مكتوبٌ في رقابهم: "الجهنّميّون عتقاء الرّحمن"، يعرفهم أهل الجنّة بذلك الكتاب، ما عملوا خيرًا للّه قطّ، فيمكثون في الجنّة ما شاء اللّه، وذلك الكتاب في رقابهم، ثمّ يقولون: ربّنا امح عنّا هذا الكتاب، فيمحوه اللّه، عزّ وجلّ، عنهم».
هذا حديثٌ [مشهورٌ] وهو غريبٌ جدًّا، ولبعضه شواهد في الأحاديث المتفرّقة وفي بعض ألفاظه نكارةٌ. تفرّد به إسماعيل بن رافعٍ قاصّ أهل المدينة، وقد اختلف فيه، فمنهم من وثّقه، ومنهم من ضعّفه، ونصّ على نكارة حديثه غير واحدٍ من الأئمّة، كأحمد بن حنبلٍ، وأبي حاتمٍ الرّازيّ، وعمرو بن عليٍّ الفلاس، ومنهم من قال فيه: هو متروكٌ. وقال ابن عديٍّ: أحاديثه كلّها فيها نظرٌ إلّا أنّه يكتب حديثه في جملة الضّعفاء.
قلت: وقد اختلف عليه في إسناد هذا الحديث على وجوهٍ كثيرةٍ، قد أفردتها في جزءٍ على حدةٍ. وأمّا سياقه، فغريبٌ جدًّا، ويقال: إنّه جمعه من أحاديث كثيرةٍ، وجعله سياقًا واحدًا، فأنكر عليه بسبب ذلك. وسمعت شيخنا الحافظ أبا الحجّاج المزّيّ يقول: إنّه رأى للوليد بن مسلمٍ مصنّفًا قد جمع فيه كلّ الشّواهد لبعض مفردات هذا الحديث، فاللّه أعلم). [تفسير القرآن العظيم: 3/ 281-288]


رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
إبحث في الموضوع:

البحث المتقدم
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 11:29 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
جميع الحقوق محفوظة