العودة   جمهرة العلوم > قسم التفسير > جمهرة التفاسير > تفسير سورة البقرة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 9 ربيع الثاني 1434هـ/19-02-2013م, 05:35 PM
الصورة الرمزية إشراق المطيري
إشراق المطيري إشراق المطيري غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jun 2010
المشاركات: 885
افتراضي تفسير سورة البقرة [من الآية (101) إلى الآية (103) ]

تفسير سورة البقرة
[من الآية (101) إلى الآية (103) ]


{وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103) }


رد مع اقتباس
  #2  
قديم 17 ربيع الثاني 1434هـ/27-02-2013م, 09:06 PM
الصورة الرمزية إشراق المطيري
إشراق المطيري إشراق المطيري غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jun 2010
المشاركات: 885
افتراضي جمهرة تفاسير السلف

تفسير السلف

تفسير قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)}
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {ولمّا جاءهم رسولٌ من عند اللّه مصدّقٌ لما معهم نبذ فريقٌ من الّذين أوتوا الكتاب كتاب اللّه وراء ظهورهم كأنّهم لا يعلمون}.
يعني جلّ ثناؤه بقوله: {ولمّا جاءهم} ولما جاء أحبار اليهود وعلماؤها من بني إسرائيل. {رسولٌ} يعني بالرّسول محمّدًا صلّى اللّه عليه وسلّم.
- كما حدّثني موسى بن هارون، قال: حدّثنا عمرٌو، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ: في قوله: {ولمّا جاءهم رسولٌ} قال:
«لمّا جاءهم محمّدٌ صلّى اللّه عليه وسلّم».
وأمّا قوله: {مصدّقٌ لما معهم} فإنّه يعني به أنّ محمّدًا صلّى اللّه عليه وسلّم يصدّق التّوراة، والتّوراة تصدّقه في أنّه للّه نبيٌّ مبعوثٌ إلى خلقه.
وأمّا تأويل قوله: {ولمّا جاءهم رسولٌ من عند اللّه مصدّقٌ لما معهم} فإنّه للّذي هو مع اليهود، وهو التّوراة. فأخبر اللّه جلّ ثناؤه أنّ اليهود لمّا جاءهم رسول من اللّه بتصديق ما في أيديهم من التّوراة أنّ محمّدًا صلّى اللّه عليه وسلّم نبيّ اللّه. {نبذ فريقٌ} يعني بذلك أنّهم جحدوه ورفضوه بعد أن كانوا به مقرّين حسدًا منهم له وبغيًا عليه.
وقوله: {من الّذين أوتوا الكتاب} وهم علماء اليهود الّذين أعطاهم اللّه العلم بالتّوراة وما فيها، ويعني بقوله: {كتاب اللّه} التّوراة، وقوله: {وراء ظهورهم} جعلوه وراء ظهورهم؛ وهذا مثلٌ يقال لكلّ رافضٍ أمرًا كان منه على بالٍ: قد جعل فلانٌ هذا الأمر منه بظهرٍ وجعله وراء ظهره، يعني به: أعرض عنه وصدّ وانصرف.
- كما حدّثني موسى، قال: حدّثنا عمرٌو، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ: {ولمّا جاءهم رسولٌ من عند اللّه مصدّقٌ لما معهم نبذ فريقٌ من الّذين أوتوا الكتاب كتاب اللّه وراء ظهورهم} قال:
«لمّا جاءهم محمّدٌ صلّى اللّه عليه وسلّم عارضوه بالتّوراة فخاصموه بها، فاتّفقت التّوراة والقرآن، فنبذوا التّوراة وأخذوا بكتاب آصف وسحر هاروت وماروت؛ فذلك قول اللّه: {كأنّهم لا يعلمون}».
ومعنى قوله: {كأنّهم لا يعلمون} كأنّ هؤلاء الّذين نبذوا كتاب اللّه من علماء اليهود فنقضوا عهد اللّه بتركهم العمل بما واثقوا اللّه على أنفسهم العمل به مما فيه لا يعلمون ما في التّوراة من الأمر باتّباع محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم وتصديقه. وهذا من اللّه جلّ ثناؤه إخبارٌ عنهم أنّهم جحدوا الحقّ على علمٍ منهم به ومعرفةٍ، وأنّهم عاندوا أمر اللّه فخالفوا على علمٍ منهم بوجوبه عليهم.
- كما حدّثنا بشر بن معاذٍ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة:
«قوله: {نبذ فريقٌ من الّذين أوتوا الكتاب} يقول: نقض فريقٌ {من الّذين أوتوا الكتاب كتاب اللّه وراء ظهورهم كأنّهم لا يعلمون} أي أنّ القوم قد كانوا يعلمون، ولكنّهم أفسدوا علمهم وجحدوا وكتموا وكفروا به»). [جامع البيان: 2/ 311-312]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): ({ولمّا جاءهم رسولٌ من عند اللّه مصدّقٌ لما معهم نبذ فريقٌ من الّذين أوتوا الكتاب كتاب اللّه وراء ظهورهم كأنّهم لا يعلمون (101)}
قوله: {ولمّا جاءهم رسولٌ من عند اللّه مصدّقٌ لما معهم}
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا عمرو بن حمّادٍ، ثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ: {ولمّا جاءهم رسولٌ من عند اللّه مصدّقٌ لما معهم} قال:
«لمّا جاءهم محمّدٌ عارضوه بالتّوراة فخاصموه بها، فاتّفقت التّوراة والقرآن، فنبذوا التّوراة وأخذوا بكتاب آصف وسحر هاروت وماروت فلم يوافق القرآن، فذلك قول اللّه: {كأنّهم لا يعلمون}»). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 184]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {نبذ فريقٌ من الّذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم}
- حدّثنا الحسن بن محمّد بن الصّبّاح، ثنا شبابة، ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ: {نبذ فريقٌ من الّذين أوتوا الكتاب كتاب اللّه وراء ظهورهم كأنّهم لا يعلمون} ذكر يهود.
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا عمرو بن حمّادٍ، ثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ: {نبذ فريقٌ من الّذين أوتوا الكتاب كتاب اللّه وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون} قال:
«لما جاءهم محمد عارضوه بالتوراة فخاصموه بها فاتفقت التوراة والقرآن، فنبذوا وأخذوا بكتاب آصف وسحر هاروت وماروت».
- حدّثنا محمّد بن يحيى، أنبأ العبّاس بن الوليد، ثنا يزيد بن زريعٍ، ثنا سعيدٌ، عن قتادة:
«{نبذ فريقٌ من الّذين أوتوا الكتاب} يقول: نقضه فريق من الذين أوتو الكتاب {كتاب اللّه وراء ظهورهم}»). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 184-185]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {كأنّهم لا يعلمون}
- أخبرنا محمّد بن عبيد اللّه بن المنادي فيما كتب إليّ، ثنا يونس بن محمّدٍ المؤدّب، ثنا شيبان النّحويّ، عن قتادة: قوله: {كأنّهم لا يعلمون} قال:
«إنّ القوم كانوا يعلمون، ولكنّهم نبذوا علمهم وكتموه وجحدوا به»). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 185]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن جرير، عن السدي، في قوله: {ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم} الآية، قال:
«ولما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم عارضوه بالتوراة، فاتفقت التوراة والقرآن، فنبذوا التوراة وأخذوا بكتاب آصف وسحر هاروت وماروت، كأنهم لا يعلمون ما في التوراة من الأمر باتباع محمد صلى الله عليه وسلم وتصديقه»). [الدر المنثور: 1/ 498]

تفسير قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)}
قالَ عَبْدُ اللهِ بنُ وَهْبٍ المَصْرِيُّ (ت: 197 هـ): (وسمعت خلاد بن سليمان يقول: سمعت خالد بن أبي عمران وذكر هاروت وماروت أنهما يعلمان السحر.
فقال خالد: نحن ننزههما عن هذا، فقرأ بعض القوم: {وما أنزل على الملكين}، قال خالد: لم ينزل عليهما). [الجامع في علوم القرآن: 1/ 97]
قالَ عَبْدُ اللهِ بنُ وَهْبٍ المَصْرِيُّ (ت: 197 هـ): (وحدثني أنس بن عياض، عن بعض أصحابه، أن القاسم بن محمد سئل عن قول الله: {وما أنزل على الملكين}، فقيل له: أنزل أو لم ينزل،
«ما أبالي أي ذلك كان، إلا أني آمنت به»). [الجامع في علوم القرآن: 3/ 59]
قالَ عَبْدُ اللهِ بنُ وَهْبٍ المَصْرِيُّ (ت: 197 هـ): (وحدثني الليث بن سعد، عن يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمد، وسأله رجلٌ عن قول الله: {يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت}، فقال الرجل: يعلمان الناس ما أنزل عليهما أو يعلمان الناس ما لم ينزل عليهما؛ فقال القاسم:
«ما أبالي أيتهما كانت»). [الجامع في علوم القرآن: 3/ 59-60]
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (نا معمر، عن قتادة، قال:
«كتبت الشياطين كتبا فيها كفر وشرك ثم دفعت تلك الكتب تحت كرسي سليمان، فلما مات سليمان استخرج الناس تلك الكتب، فقالوا: هذا علم كتمناه سليمان، فقال الله: {واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت}».
- قال معمر: وقال قتادة والزهري، عن عبيد الله، قال:
«كانا ملكين من الملائكة فأهبطا ليحكما بين الناس، وذلك أن الملائكة سخروا من أحكام بني آدم، فتحاكمت إليهما امرأة فحابيا لها ثم ذهبا يصعدان فحيل بينهما وبين ذلك، وخير بين ذلك عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا».
- قال معمر: وقال قتادة:
«فكانا يعلمان الناس السحر، فأخذ عليهما أن لا تعلما أحدا حتى تقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر»). [تفسير عبد الرزاق: 1/ 53]
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (قال معمر: وقال الكلبي:
«لا يعلمان إلا الفرقة»، قال: «وأخذ عليهما أن لا يعلما أحدا حتى يتقدما إليه ويقولا له: إنما نحن فتنة فلا تكفر»). [تفسير عبد الرزاق: 1/ 53]
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (نا الثوري، عن موسى بن عقبة، عن سالم، عن ابن عمر، عن كعب، قال:
«ذكرت الملائكة أعمال بني آدم وما يأتون من الذنوب، فقيل لهم: اختاروا ملكين، فاختاروا هاروت وماروت»،
قال: «فقال لهما: إني أرسل رسلي إلى الناس وليس بيني وبينكما رسول، انزلا ولا تشركا بي شيئا ولا تزنيا ولا تسرقا»،
قال عبد الله بن عمر: قال كعب: «فما استكملا يومهما الذي أنزلا فيه حتى عملا ما حرم الله عليهما»). [تفسير عبد الرزاق: 1/ 53-54]
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (نا ابن التيمي، عن أبيه، عن أبي عثمان، عن ابن عباس:
«أن المرأة التي فتن بها الملكان مسخت فهي هذه الكوكب الحمراء»، يعني الزهرة). [تفسير عبد الرزاق: 1/ 54]
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (نا معمر، عن قتادة:
«{ما له في الآخرة من خلاق} أي: ليس له في الآخرة جنة عند الله»، قال معمر: وقال الحسن: «ليس له دين»). [تفسير عبد الرزاق: 1/ 54]
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (نا معمر، عن جعفر الجزري، عن يزيد بن الأصم، قال: سئل المختار الكذاب هل يرى هاروت وماروت اليوم أحد؟ قال: أما منذ انفلت بابل اليفاتها الآخرة فإن أحدا لم يرهما). [تفسير عبد الرزاق: 1/ 54]
قالَ سعيدُ بنُ منصورٍ بن شعبة الخراسانيُّ: (ت:227هـ): ([قوله تعالى: {واتّبعوا ما تتلو الشّياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكنّ الشّياطين كفروا يعلّمون النّاس السّحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلّمان من أحدٍ حتّى يقولا إنّما نحن فتنةٌ فلا تكفر فيتعلّمون منهما ما يفرّقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارّين به من أحدٍ إلّا بإذن الله}]
- نا سفيان، عن عمرٍو، عن عطاءٍ، قال: سألت ابن عبّاسٍ: كيف نقرأ: (واتَّبِعُوا)، أو: {اتَّبَعُوا}؟ قال:
«هما سواءٌ، اقرأ قراءتك الأولى».
- نا عتّاب بن بشير، قال: نا خصيف، في قوله عزّ وجلّ: {واتّبعوا ما تتلو الشّياطين}، قال: كان سليمان إذا نبتت الشّجرة قال: لأيّ داءٍ أنت؟ فتقول: لكذا وكذا، فلمّا نبتت شجرة الحرنوبة الشّامي، قال: لأيّ شيءٍ أنت؟ قالت: لمسجدك أخرّبه، قال: تخرّبينه؟ قالت: نعم، قال: بئس الشّجرة أنت! فلم يلبث أن توفّي، فجعل النّاس يقولون في مرضاهم: لو كان لنا مثل سليمان، فأخذوا الشّياطين، فأخذوا كتابًا، فجعلوه في مصلّى سليمان، فقالوا: نحن ندلّكم على ما كان سليمان يداوي به، فانطلقوا فاستخرجوا ذلك الكتاب، فإذا فيه سحرٌ ورقىً، فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {واتّبعوا ما تتلو الشّياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكنّ الشّياطين} هم الّذين {كفروا يعلّمون النّاس السّحر وما أنزل على الملكين}، وذكر أنّها في قراءة أبيّ: (وما يتلى على الملكين)، {ببابل هاروت وماروت وما يعلّمان من أحدٍ حتّى يقولا إنّما نحن فتنةٌ فلا تكفر} -سبع مرارٍ-، فإن أبى إلّا أن يكفر علّماه، فيخرج منه نارٌ -أو نورٌ- حتّى يسطع في السّماء، قال: المعرفة الّتي كان يعرف.
- نا عتّاب بن بشير، عن خصيف، قال: كنت مع مجاهدٍ، فمرّ بنا رجلٌ من قريشٍ، فقال له مجاهدٌ: حدّثنا ما سمعت من أبيك، قال:
«حدّثني أبي أنّ الملائكة حين جعلوا ينظرون إلى أعمال بني آدم وما يركبون من المعاصي الخبيثة -وليس يستر النّاس من الملائكة شيءٌ-، فجعل بعضهم يقول لبعضٍ: انظروا إلى بني آدم كيف يعملون كذا وكذا، ما أجرأهم على اللّه! يعيبونهم بذلك. فقال اللّه عزّ وجلّ لهم: قد سمعت الّذي تقولون في بني آدم، فاختاروا منكم ملكين أهبطهما إلى الأرض، وأجعل فيهما شهوة بني آدم. فاختاروا هاروت وماروت، فقالوا: يا ربّ، ليس فينا مثلهما، فأهبطا إلى الأرض، وجعل فيهما شهوة بني آدم، ومثّلت لهما الزّهرة في صورة امرأةٍ، فلمّا نظرا إليها، لم يتمالكا أن تناولا منها ما اللّه أعلم به، وأخذت الشّهوة بأسماعهما وأبصارهما، فلمّا أرادا أن يطيرا إلى السّماء، لم يستطيعا، فأتاهما ملكٌ، فقال: إنّكما قد فعلتما ما فعلتما، فاختارا عذاب الدّنيا، أو عذاب الآخرة، فقال أحدهما للآخر: ماذا ترى؟ قال: أرى أن أعذّب في الدّنيا ثمّ أعذّب أحبّ إليّ من أن أعذّب ساعةً واحدةً في الآخرة، فهما معلّقان منكّسان في السلاسل، وجعلا فتنة».
- نا شهاب بن خراش، عن العوّام بن حوشب، عن مجاهدٍ، قال: كنت مع ابن عمر -أحسبه قال: في سفرٍ- فقال لي:
«ارمق الكوكبة، فإذا طلعت أيقظني»، فلمّا طلعت أيقظته، فاستوى جالسًا، فجعل ينظر إليها ويسبّها سبًّا شديدًا، فقلت: يرحمك اللّه أبا عبد الرّحمن، نجمًا سامعًا مطيعًا، ما له يسبّ؟ فقال: «ها، إنّ هذه كانت بغيًّا في بني إسرائيل، فلقي الملكان منها ما لقيا».
- نا خالد بن عبد اللّه، عن حصين بن عبد الرّحمن، عن عمران بن حارثٍ السّلمي، عن ابن عبّاسٍ قال: أتاه رجلٌ فقال له:
«من أين أقبلت؟»، فقال: من العراق،
قال: «كيف تركت النّاس وراءك؟»،
قال: تركت النّاس يتحدّثون أنّ عليًّا سوف يخرج إليهم،
فقال: «لو شعرنا، ما زوّجنا نساءه، ولا قسمنا ميراثه، وسأحدّثك عن ذلك: إنّ الشّياطين كانت تسترق السّمع في السّماء، فإذا سمع (أحدهم) كلمة حقٍّ، كذب معها ألف كذبةٍ، فأشربتها قلوب النّاس، واتّخذوها دواوين، فاطّلع عليها سليمان، فدفنها تحت كرسيّه. فلمّا مات سليمان، قام شياطين بالطّريق، فقالت: ألا أدلّكم على كنز سليمان الممنّع الّذي لا كنز له مثله؟ فاستخرجوها، قالوا: سحرٌ، وإنّ بقيتها هذا يتحدّث به أهل العراق، وأنزل اللّه عذر سليمان فيما قالوا من السّحر: {واتّبعوا ما تتلو الشّياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان} إلى آخر الآية»). [سنن سعيد بن منصور: 2/ 575-595]
قالَ أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ النَّسَائِيُّ (ت: 303هـ): (قوله تعالى: {وما كفر سليمان}
- أخبرنا محمّد بن العلاء، حدّثنا أبو معاوية، حدّثنا الأعمش، عن المنهال بن عمرٍو، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ، قال:
«كان الّذي أصاب سليمان بن داود عليه السّلام في سبب امرأةٍ من أهله يقال لها: جرادة، وكانت أحبّ نسائه إليه، وكان إذا أراد أن يأتي نساءه أو يدخل الخلاء أعطاها الخاتم، فجاء أناسٌ من أهل الجرادة يخاصمون قومًا إلى سليمان بن داود عليه السّلام، فكان هوى سليمان أن يكون الحقّ لأهل الجرادة فيقضي لهم، فعوقب حين لم يكن هواه فيهم واحدًا، فجاء حين أراد الله أن يبتليه فأعطاها الخاتم ودخل الخلاء، ومثّل الشّيطان في صورة سليمان، قال: هاتي خاتمي، فأعطته خاتمه فلبسه، فلمّا لبسه دانت له الشّياطين والإنس والجنّ وكلّ شيءٍ، قال: فجاءها سليمان، قال: هاتي خاتمي، قالت: اخرج لست بسليمان، قال سليمان عليه السّلام: إنّ ذاك من أمر الله أبتلى به، فخرج فجعل إذا قال: أنا سليمان رجموه حتّى يدمون عقبه، فخرج يحمل على شاطئ البحر، ومكث هذا الشّيطان فيهم مقيمًا ينكح نساءه، ويقضي بينهم، فلمّا أراد الله عزّ وجلّ أن يردّ على سليمان ملكه انطلقت الشّياطين وكتبوا كتبًا فيها سحرٌ، وفيها كفرٌ، فدفنوها تحت كرسيّ سليمان عليه السّلام، ثمّ أثاروها وقالوا: هذا كان يفتن الجنّ والإنس، قال: فأكفر النّاس سليمان حتّى بعث الله محمّدًا صلّى الله عليه وسلّم، فأنزل الله عزّ وجلّ على محمّدٍ عليه السّلام {وما كفر سليمان ولكنّ الشّياطين كفروا} يقول الّذي صنعوا، فخرج سليمان يحمل على شاطئ البحر»،
قال: «ولمّا أنكر النّاس -لمّا أراد الله أن يردّ على سليمان ملكه- أنكروا، انطلقت الشّياطين جاءوا إلى نسائه فسألوهنّ فقلن: إنّه ليأتينا ونحن حيّضٌ، وما كان يأتينا قبل ذلك، فلمّا رأى الشّيطان أنّه حضر هلاكه هرب وأرسل به فألقاه في البحر، وفي الحديث: فتلقّاه سمكةٌ فأخذه، وخرج الشّيطان حتّى لحق بجزيرةٍ في البحر، وخرج سليمان عليه السّلام يحمل لرجلٍ سمكًا، قال: بكم تحمل؟ قال: بسمكةٍ من هذا السّمك، فحمل معه حتّى بلغ به أعطاه السّمكة الّتي في بطنها الخاتم، فلمّا أعطاه السّمكة شقّ بطنها يريد يشويها، فإذا الخاتم فلبسه، فأقبل إليه الإنس والشّياطين، فأرسل في طلب الشّيطان، فجعلوا لا يطيقونه، فقال: احتالوا له، فذهبوا فوجدوه نائمًا قد سكر، فبنوا عليه بيتًا من رصاصٍ، ثمّ جاءوا ليأخذوه، فوثب فجعل لا يثب في ناحيةٍ إلّا أماط الرّصاص معه، فأخذوه فجاءوا به إلى سليمان، فأمر بحنتٍ من رخامٍ، فنقر، ثمّ أدخله في جوفه ثمّ سدّه بالنّحاس، ثمّ أمر به فطرح في البحر».
- أخبرنا محمّد بن العلاء، عن أبي أسامة، حدّثنا الأعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ، قال:
«كان آصف كاتب سليمان بن داود عليه السّلام، وكان يعلم الاسم الأعظم، كان يكتب كلّ شيءٍ يأمره به سليمان عليه السّلام ويدفنه تحت كرسيّه، فلمّا مات سليمان أخرجته الشّياطين، فكتبوا بين كلّ سطرٍ من سحرٍ وكذبٍ وكفرٍ، فقالوا: هذا الّذي كان يعمل سليمان بها، فأكفره جهّال النّاس وسفهاؤهم وسبّوه، ووقف علماؤهم، فلم يزل جهّالهم يسبّونه حتّى أنزل الله جلّ وعزّ: {واتّبعوا ما تتلوا الشّياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكنّ الشّياطين كفروا}»). [السنن الكبرى للنسائي: 10/ 12-13]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {واتّبعوا ما تتلو الشّياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان}
يعني بقوله: {واتّبعوا ما تتلوا الشّياطين} الفريق من أحبار اليهود وعلمائها الّذين وصفهم اللّه جلّ ثناؤه بأنّهم نبذوا كتابه الّذي أنزله إلى موسى وراء ظهورهم، تجاهلاً منهم وكفرًا بما هم به عالمون، كأنّهم لا يعلمون. فأخبر عنهم أنّهم رفضوا كتابه الّذي يعلمون أنّه تنزّلٌ من عنده على نبيّه موسى صلّوات اللّه عليه، ونقضوا عهده الّذي أخذه عليهم في العمل بما فيه، وآثروا السّحر الّذي تلته الشّياطين في ملك سليمان بن داود فاتّبعوه؛ وذلك هو الخسار والضّلال المبين.
واختلف أهل التّأويل في الّذين عنوا بقوله: {واتّبعوا ما تتلوا الشّياطين على ملك سليمان}.

فقال بعضهم: عنى اللّه بذلك اليهود الّذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم؛ لأنّهم خاصموا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بالتّوراة، فوجدوا التّوراة للقرآن موافقةً، تأمره من اتّباع محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم وتصديقه بمثل الّذي يأمر به القرآن، فخاصموا بالكتب الّتي كان النّاس اكتتبوها من الكهنة على عهد سليمان. ذكر من قال ذلك:
- حدّثني موسى بن هارون، قال: حدّثنا عمرٌو، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ: {واتّبعوا ما تتلوا الشّياطين على ملك سليمان} قال:
«كانت الشّياطين تصعد إلى السّماء، فتقعد منها مقاعد للسّمع، فيستمعون من كلام الملائكة فيما يكون في الأرض من موتٍ أو غيثٍ أو أمرٍ، فيأتون الكهنة فيخبرونهم، فتحدّث الكهنة النّاس فيجدونه كما قالوا. حتّى إذا أمنتهم الكهنة كذبوا لهم، فأدخلوا فيه غيره فزادوا مع كلّ كلمةٍ سبعين كلمةً. فاكتتب النّاس ذلك الحديث في الكتب وفشا في بني إسرائيل أنّ الجنّ تعلم الغيب. فبعث سليمان في النّاس، فجمع تلك الكتب فجعلها في صندوقٍ، ثمّ دفنها تحت كرسيّه، ولم يكن أحدٌ من الشّياطين يستطيع أن يدنو من الكرسيّ إلاّ احترق، وقال: لا أسمع أحدًا يذكر أنّ الشّياطين تعلم الغيب إلاّ ضربت عنقه. فلمّا مات سليمان، وذهبت العلماء الّذين كانوا يعرفون أمر سليمان، وخلف بعد ذلك خلفٌ، تمثّل شّيطان في صورة إنسانٍ، ثمّ أتى نفرًا من بني إسرائيل، فقال لهم: هل أدلّكم على كنزٍ لا تأكلونه أبدًا؟ قالوا: نعم. قال: فاحفروا تحت الكرسيّ وذهب معهم فأراهم المكان. فقام ناحيةً، فقالوا له: فادن. قال: لا ولكنّي هاهنا في أيديكم، فإن لم تجدوه فاقتلوني. فحفروا فوجدوا تلك الكتب، فلمّا أخرجوها قال الشّيطان: إنّ سليمان إنّما كان يضبط الإنس والشّياطين والطّير بهذا السّحر. ثمّ طار فذهب. وفشا في النّاس أنّ سليمان كان ساحرًا واتّخذت بنو إسرائيل تلك الكتب. فلمّا جاءهم محمّدٌ صلّى اللّه عليه وسلّم خاصموه بها، فذلك حين يقول: {وما كفر سليمان ولكنّ الشّياطين كفروا يعلّمون النّاس السّحر}».
- حدّثت عن عمّار بن الحسن، قال: حدّثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرّبيع، في قوله: {واتّبعوا ما تتلوا الشّياطين على ملك سليمان} قال:
«إنّ اليهود سألوا محمّدًا صلّى اللّه عليه وسلّم زمانًا عن أمورٍ من التّوراة، لا يسألونه عن شيءٍ من ذلك إلاّ أنزل اللّه عليه ما سألوه عنه فيخصمهم. فلمّا رأوا ذلك قالوا: هذا أعلم بما أنزل إلينا منّا. وإنّهم سألوه عن السّحر وخاصموه به، فأنزل اللّه جلّ وعزّ: {واتّبعوا ما تتلوا الشّياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكنّ الشّياطين كفروا يعلّمون النّاس السّحر}. وإنّ الشّياطين عمدوا إلى كتابٍ فكتبوا فيه السّحر والكهانة وما شاء اللّه من ذلك، فدفنوه تحت مجلس سليمان، وكان سليمان لا يعلم الغيب، فلمّا فارق سليمان الدّنيا استخرجوا ذلك السّحر، وخدعوا به النّاس وقالوا: هذا علمٌ كان سليمان يكتمه ويحسد النّاس عليه. فأخبرهم النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم بهذا الحديث. فرجعوا من عنده، وقد حزوا وأدحض اللّه حجّتهم».
- وحدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قوله: {واتّبعوا ما تتلوا الشّياطين على ملك سليمان} قال:
«لمّا جاءهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم مصدّقًا لما معهم {نبذ فريقٌ من الّذين أوتوا الكتاب} الآية». قال: «اتّبعوا السّحر، وهم أهل الكتاب». فقرأ حتّى بلغ: {ولكنّ الشّياطين كفروا يعلّمون النّاس السّحر}.
وقال آخرون: بل عنى اللّه بذلك اليهود الّذين كانوا على عهد سليمان. ذكر من قال ذلك:
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ، قال: قال ابن جريجٍ:
«تلت الشّياطين السّحر على اليهود على ملك سليمان فاتّبعته اليهود على ملكه؛ يعني اتّبعوا السّحر على ملك سليمان».
- حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة، قال: حدّثني ابن إسحاق، قال:
«عمدت الشّياطين حين عرفت موت سليمان بن داود عليه السّلام، فكتبوا أصناف السّحر: من كان يحبّ أن يبلغ كذا وكذا، فليقل كذا وكذا. حتّى إذا صنفوا أصناف السّحر، جعلوه في كتابٍ. ثمّ ختموا عليه بخاتمٍ على نقش خاتم سليمان، وكتبوا في عنوانه: هذا ما كتب آصف بن برخيا الصّدّيق للملك سليمان بن داود من ذخائر كنوز العلم. ثمّ دفنوه تحت كرسيّه، فاستخرجته بعد ذلك بقايا بني إسرائيل حين أحدثوا ما أحدثوا، فلمّا عثروا عليه قالوا: والله ما كان سليمان بن داود إلاّ بهذا. فأفشوا السّحر في النّاس وتعلّموه وعلّموه، فليس في أحدٍ أكثر منه في يهود. فلمّا ذكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فيما نزل عليه من اللّه سليمان بن داود وعدّه فيمن عدّه من المرسلين، قال من كان بالمدينة من يهود: ألا تعجبون لمحمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم يزعم أنّ سليمان بن داود كان نبيًّا. واللّه ما كان إلاّ ساحرًا. فأنزل اللّه في ذلك من قولهم على محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم: {واتّبعوا ما تتلوا الشّياطين} الآيه».
- حدّثنا محمد بن سعد، قال: حدّثنا أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: {واتّبعوا ما تتلوا الشّياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكنّ الشّياطين كفروا} قال:
«كان حين ذهب ملك سليمان ارتدّ فئامٌ من الجنّ والإنس واتّبعوا الشّهوات. فلمّا رجّع الله إلى سليمان ملكه، أقام النّاس على الدّين كما كان. وإنّ سليمان ظهر على كتبهم فدفنها تحت كرسيّه. وتوفّي سليمان حدثان ذلك، فظهرت الجنّ والإنس على الكتب بعد وفاة سليمان، وقالوا: هذا كتابٌ من اللّه نزل على سليمان أخفاه منّا. فأخذوا به فجعلوه دينًا، فأنزل اللّه: {ولمّا جاءهم رسولٌ من عند اللّه مصدّقٌ لما معهم نبذ فريقٌ من الّذين أوتوا الكتاب كتاب اللّه وراء ظهورهم كأنّهم لا يعلمون واتّبعوا ما تتلوا الشّياطين} واتّبعوا الشّهوات التي كانت تتلوا الشّياطين وهي المعازف واللّعب وكلّ شيءٍ يصدّ عن ذكر اللّه».
والصّواب من القول في تأويل قوله: {واتّبعوا ما تتلوا الشّياطين على ملك سليمان} أنّ ذلك توبيخٌ من اللّه لأحبار اليهود الّذين أدركوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فجحدوا نبوّته وهم يعلمون أنّه للّه رسولٌ مرسلٌ، وتأنيبٌ منه لهم في رفضهم تنزيله، وهجرهم العمل به وهو في أيديهم يعلمونه ويعرفون أنّه كتاب اللّه، واتّباعهم واتّباع أوائلهم وأسلافهم ما تلته الشّياطين في عهد سليمان. وقد بيّنّا وجه جواز إضافة أفعال أسلافهم إليهم فيما مضى، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع.
وإنّما اخترنا هذا التّأويل لأنّ المتّبعة ما تلته الشّياطين في عهد سليمان وبعده إلى أن بعث اللّه نبيّه بالحقّ من السّحر لم تزل في اليهود، ولا دلالة في الآية أنّ اللّه تعالى أراد بقوله: {واتّبعوا} بعضًا منهم دون بعضٍ، إذ كان جائزًا فصيحًا في كلام العرب إضافة ما وصفنا من اتّباع أسلاف المخبر عنهم بقوله: {واتّبعوا ما تتلوا الشّياطين} إلى أخلافهم بعدهم. ولم يكن بخصوص ذلك عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أثرٌ منقولٌ، ولا حجّةٌ تدلّ عليه، فكان الواجب من القول في ذلك أن يقال: كلّ متّبعٍ ما تلته الشّياطين على عهد سليمان من اليهود داخلٌ في معنى الآية، على النّحو الّذي قلنا). [جامع البيان: 2/ 313-318]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {ما تتلوا الشّياطين}.
يعني جلّ ثناؤه بقوله: {ما تتلوا الشّياطين} الّذي تتلو. فتأويل الكلام إذًا: واتّبعوا الّذي تتلو الشّياطين.
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: {تتلوا}؛

فقال بعضهم: يعني بقوله: {تتلوا} تحدّث وتروي وتتكلّم به وتخبر، نحو تلاوة الرّجل للقرآن وهي قراءته. ووجّه قائلو هذا القول تأويلهم ذلك إلى أنّ الشّياطين هي الّتي علّمت النّاس السّحر وروته لهم. ذكر من قال ذلك:
- حدّثني المثنّى بن إبراهيم، قال: حدّثنا أبو حذيفة، قال: حدّثنا شبلٌ، عن عمرٍو، عن مجاهدٍ، في قول اللّه: {واتّبعوا ما تتلوا الشّياطين على ملك سليمان} قال:
«كانت الشّياطين تسمع الوحي، فما سمعوا من كلمةٍ زادوا فيها مائتين مثلها، فأرسل سليمان إلى ما كتبوا من ذلك. فلمّا توفّي سليمان وجدته الشّياطين فعلّمته النّاس؛ وهو السّحر».
- حدّثنا بشر بن معاذٍ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة: قوله: {واتّبعوا ما تتلوا الشّياطين على ملك سليمان} قال:
«من الكهانة والسّحر»، قال: «وذكر لنا -واللّه أعلم- أنّ الشّياطين ابتدعت كتابًا فيه سحرٌ وأمرٌ عظيمٌ، ثمّ أفشوه في النّاس وعلّموهم إيّاه».
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، قال: قال عطاءٌ: قوله: {واتّبعوا ما تتلوا الشّياطين} قال:
«نراه: ما تحدّث».
- حدّثني سلم بن جنادة السّوائيّ، قال: حدّثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ، قال:
«انطلقت الشّياطين في الأيّام الّتي ابتلي فيها سليمان، فكتبت فيها كتبًا فيها سحرٌ وكفرٌ، ثمّ دفنوها تحت كرسيّ سليمان، ثمّ أخرجوها فقرءوها على النّاس».
وقال آخرون: معنى قوله: {ما تتلوا} ما تتّبع وتأنمه وتعمل به. ذكر من قال ذلك:
- حدّثنا الحسن بن عمرٍو بن محمد العنقزيّ، قال: حدّثني أبي، عن أسباطٍ، عن السّدّيّ، عن أبي مالكٍ، عن ابن عبّاسٍ: {تتلوا} قال:
«تتبع».
- حدّثني نصر بن عبد الرّحمن الأزديّ، قال: حدّثنا يحيى بن إبراهيم، عن سفيان الثّوريّ، عن منصورٍ، عن أبي رزينٍ، مثله.
والصّواب من القول في ذلك أن يقال: إنّ اللّه عزّ وجلّ أخبر عن الّذين أخبر عنهم أنّهم اتّبعوا ما تتلو الشّياطين على عهد سليمان باتّباعهم ما تلته الشّياطين.

ولقول القائل: هو يتلو كذا في كلام العرب معنيان:
أحدهما: الاتّباع، كما يقال: تلوت فلانًا إذا مشيت خلفه وتبعت أثره، كما قال جلّ ثناؤه: {هنالك تتلو كلّ نفسٍ ما أسلفت} يعني بذلك تتبع.
والآخر: القراءة والدّراسة، كما تقول: فلانٌ يتلو القرآن، بمعنى أنّه يقرؤه ويدرسه، كما قال حسّان بن ثابتٍ:
نبيٌّ يرى ما لا يرى النّاس حوله ....... ويتلو كتاب اللّه في كلّ مشهد
ولم يخبرنا اللّه جلّ ثناؤه بأيّ معنيى التّلاوة كانت تلاوة الشّياطين الّذين تلوا ما تلوه من السّحر على عهد سليمان بخبرٍ يقطع العذر. وقد يجوز أن تكون الشّياطين تلت ذلك دراسةً وروايةً وعملاً به، فتكون كانت له متّبعه بالعمل، ودراسه بالرّواية، فاتّبعت اليهود منهاجها في ذلك وعملت به وروته). [جامع البيان: 2/ 318-321]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {على ملك سليمان}.
يعني بقوله جلّ ثناؤه: {على ملك سليمان} في ملك سليمان؛ وذلك أنّ العرب تضع في موضع على وعلى موضع في، من ذلك قول اللّه جلّ ثناؤه: {ولأصلّبنّكم في جذوع النّخل} يعني به: على جذوع النّخل، وكما قال: فعلت كذا في عهد كذا وعلى عهد كذا، بمعنى واحدٍ.
وبما قلنا فى ذلك كان ابن جريجٍ وابن إسحاق يقولان في تأويله.
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال، حدّثني حجّاجٌ، قال: قال ابن جريجٍ: {على ملك سليمان} يقول:
«في ملك سليمان».
- حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة، قال: قال ابن إسحاق في قوله: {على ملك سليمان}:
«أي: في ملك سليمان»). [جامع البيان: 2/ 321]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {وما كفر سليمان ولكنّ الشّياطين كفروا يعلّمون النّاس السّحر}.
إن قال لنا قائلٌ: وما هذا الكلام من قوله: {واتّبعوا ما تتلوا الشّياطين على ملك سليمان} ولا خبر مضى قبل عن أحدٍ أنّه أضاف الكفر إلى سليمان، بل إنّما ذكر اتّباع من اتّبع من اليهود ما تلته الشّياطين؟ فما وجه نفي الكفر عن سليمان بعقب الخبر عن اتّباع من اتّباع الشّياطين في العمل بالسّحر وروايته من اليهود؟
قيل: وجه ذلك أنّ الّذين أضاف اللّه جلّ ثناؤه إليهم اتّباع ما تلته الشّياطين على عهد سليمان من السّحر والكفر من اليهود، نسبوا ما أضافه اللّه تعالى ذكره إلى الشّياطين من ذلك إلى سليمان بن داود، وزعموا أنّ ذلك كان من عمله وروايته، وأنّه إنّما كان يستعبد من كان يستعبد من الإنس والجنّ والشّياطين وسائر خلق اللّه بالسّحر. فحسّنوا بذلك، من ركوبهم ما حرّم اللّه عليهم من السّحر، أنفسهم عند من كان جاهلاً بأمر اللّه ونهيه، وعند من كان لا علم له بما أنزل اللّه في ذلك من التّوراة، وتبرّأ، بإضافة ذلك إلى سليمان، من سليمان، وهو نبيّ اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم منهم، بشرٌ، وأنكروا أن يكون كان للّه رسولاً، وقالوا: بل كان ساحرًا. فبرّأ اللّه سليمان بن داود من السّحر والكفر عند من كان منهم ينسبه إلى السّحر والكفر لأسبابٍ ادّعوها عليه قد ذكرنا بعضها، وسنذكر باقي ما حضرنا ذكره منها. وأكذب الآخرين الّذين كانوا يعملون بالسّحر، متزينين عند أهل الجهل في عملهم ذلك بأنّ سليمان كان يعمله. فنفى اللّه عن سليمان عليه السّلام أن يكون كان ساحرًا أو كافرًا، وأعلمهم أنّهم إنّما اتّبعوا في عملهم السّحر ما تلته الشّياطين في عهد سليمان، دون ما كان سليمان يأمرهم به من طاعة اللّه واتّباع ما أمرهم به في كتابه الّذي أنزله على موسى صلوات اللّه عليه.
ذكر الدّلاله على صحّة ما قلنا من الأخبار والآثار
- حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا يعقوب القمّيّ، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبيرٍ، قال:
«كان سليمان يتتبّع ما في أيدي الشّياطين من السّحر، فيأخذه فيدفنه تحت كرسيّه في بيت خزائنه. فلم تقدر الشّياطين أن يصلوا إليه، فدنت إلى الإنس، فقالوا لهم: أتريدون العلم الّذي كان سليمان يسخّر به الشّياطين والرّياح وغير ذلك؟ قالوا: نعم. قالوا: فإنّه في بيت خزائنه وتحت كرسيّه. فاستثارته الإنس فاستخرجوه فعملوا به. فقال أهل الحجا: كان سليمان يعمل بهذا وهذا سحرٌ، فأنزل اللّه جلّ ثناؤه على لسان نبيّه محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم براءة سليمان، فقال: {واتّبعوا ما تتلوا الشّياطين على ملك سليمان} الآية، فأبرأ اللّه سليمان على لسان نبيّه صلّى اللّه عليه وسلّم».
- حدّثني أبو السّائبٍ السّوائيّ، قال: حدّثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ، قال:
«كان الّذي أصاب سليمان بن داود في سبب أناسٍ من أهل امرأةٍ يقال لها: جرادة، وكانت من أكرم نسائه عليه»،
قال: «فكان هوى سليمان أن يكون الحقّ لأهل الجرادة فيقضي لهم، فعوقب حين لم يكن هواه فيهم واحدًا».
قال: «وكان سليمان بن داود إذا أراد أن يدخل الخلاء أو يأتي شيئًا من نسائه أعطى الجرادة خاتمه. فلمّا أراد اللّه أن يبتلي سليمان بالّذي ابتلاه به، أعطى الجرادة ذات يومٍ خاتمه، فجاء الشّيطان في صورة سليمان فقال لها: هاتي خاتمي. فأخذه فلبسه، فلمّا لبسه دانت له الشّياطين والجنّ والإنس».
قال: «فجاءها سليمان فقال: هاتي خاتمي. فقالت: كذبت، لست بسليمان».
قال: «فعرف سليمان أنّه بلاءٌ ابتلي به».
قال: «فانطلقت الشّياطين فكتبت في تلك الأيّام كتبًا فيها سحرٌ وكفرٌ ثمّ دفنوها تحت كرسيّ سليمان، ثمّ أخرجوها فقرءوها على النّاس، وقالوا: إنّما كان سليمان يغلب النّاس بهذه الكتب».
قال: «فبرئ النّاس من سليمان وأكفروه، حتّى بعث اللّه محمّدًا صلّى اللّه عليه وسلّم؛ فأنزل جلّ ثناؤه: {واتّبعوا ما تتلوا الشّياطين على ملك سليمان}، يعني الّذي كتب الشّياطين من السّحر والكفر، {وما كفر سليمان ولكنّ الشّياطين كفروا}، فأنزل اللّه عذره».
- حدّثني محمّد بن عبد الأعلى الصّنعانيّ، قال: حدّثنا المعتمر بن سليمان، قال: سمعت عمران بن حديرٍ، عن أبي مجلزٍ، قال:
«أخذ سليمان من كلّ دابّةٍ عهدًا، فإذا أصيب رجلٌ فسئل بذلك العهد خلّي عنه، فزاد النّاس السّجع والسّحر، وقالوا: هذا كان يعمل به سليمان؛ فقال اللّه جلّ ثناؤه: {وما كفر سليمان ولكنّ الشّياطين كفروا يعلّمون النّاس السّحر}».
- حدّثنا أبن حميدٍ، قال: حدّثنا جريرٌ، عن حصين بن عبد الرّحمن، عن عمران وهو عمران بن الحارث، قال: بينا نحن عند ابن عبّاسٍ إذ جاءه رجلٌ، فقال له ابن عبّاسٍ:
«من أين جئت؟»، قال: من العراق، قال: «من أيّه؟»، قال: من الكوفة. قال: فما الخبر؟ قال: تركتهم يتحدّثون عليًّا خارج إليهم. ففزع ثم قال: «ما تقول لا أبا لك. لو شعرنا ما نكحنا نساءه ولا قسمنا ميراثه، أما إنّي أحدّثكم عن ذلك أنّه كانت الشّياطين يسترقون السّمع من السّماء فيأتي أحدهم بكلمة حقّ قد سمعها، فإذا جرب منه صدقٌ كذب معها سبعين كذبة، قال: فيشربها قلوب النّاس؛ فأطلع اللّه عليها سليمان فدفنها تحت كرسيّه. فلمّا توفّي سليمان بن داود قام شيطانٌ بالطّريق فقال: ألا أدلّكم على كنزه الممنّع الّذي لا كنز له مثله؟ تحت الكرسيّ. فأخرجوه، فقالوا: هذا سحرٌ. فتناسخها الأمم، حتّى بقاياها ما يتحدّث به أهل العراق. فأنزل اللّه عذر سليمان: {واتّبعوا ما تتلوا الشّياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكنّ الشّياطين كفروا يعلّمون النّاس السّحر}».
- حدّثنا بشر بن معاذٍ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، قال:
«ذكر لنا -واللّه أعلم- أنّ الشّياطين ابتدعت كتابًا فيه سحرٌ وأمرٌ عظيمٌ، ثمّ أفشوه في النّاس وعلموهم إيّاه. فلمّا سمع بذلك سليمان نبيّ اللّه تتبّع تلك الكتب، فأتى بها فدفنها تحت كرسيّه كراهية أن يتعلّمها النّاس. فلمّا قبض اللّه نبيّه سليمان عمدت الشّياطين فاستخرجوها من مكانها الّذي كانت فيه فعلّموها النّاس، فأخبروهم أنّ هذا علمٌ كان يكتمه سليمان ويستأثر به، فعذر اللّه سليمان وبرّأه من ذلك، فقال جلّ ثناؤه: {وما كفر سليمان ولكنّ الشّياطين كفروا}».
- حدّثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرّزّاق، قال: أخبرنا معمرٌ، عن قتادة، قال:
«كتبت الشّياطين كتبًا فيها سحر وشركٌ، ثمّ دفنت تلك الكتب تحت كرسيّ سليمان. فلمّا مات سليمان استخرج النّاس تلك الكتب، فقالوا: هذا علمٌ كتمناه سليمان. فقال اللّه جلّ وعزّ: {واتّبعوا ما تتلوا الشّياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكنّ الشّياطين كفروا يعلّمون النّاس السّحر}».
- حدّثنا القاسم قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثنا حجّاجٌ قال: عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ، قوله: {واتّبعوا ما تتلوا الشّياطين على ملك سليمان} الآية، قال:
«كانت الشّياطين تستمع الوحي من السّماء، فما سمعوا من كلمةٍ زادوا فيها مثلها. وإنّ سليمان أخذ ما كتبوا من ذلك فدفنه تحت كرسيّه؛ فلمّا توفّي وجدته الشّياطين فعلّمته النّاس».
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ، عن أبي بكرٍ، عن شهر بن حوشبٍ، قال:
«لمّا سلب سليمان ملكه كانت الشّياطين تكتب السّحر في غيبة سليمان، فكتبت: من أراد أن يأتي كذا وكذا فليستقبل الشّمس وليقل كذا وكذا، ومن أراد أن يفعل كذا وكذا فليستدبر الشّمس وليقل كذا وكذا. فكتبته وجعلت عنوانه: هذا ما كتب آصف بن برخيا للملك سليمان بن داود من ذخائر كنوز العلم ثمّ دفنته تحت كرسيّه. فلمّا مات سليمان قام إبليس خطيبًا، فقال: يا أيّها النّاس إنّ سليمان لم يكن نبيًّا، وإنّما كان ساحرًا، فالتمسوا سحره في متاعه وبيوته. ثمّ دلّهم على المكان الّذي دفن فيه، فقالوا: واللّه لقد كان سليمان ساحرًا، هذا سحره، بهذا تعبّدنا، وبهذا قهرنا. فقال المؤمنون: بل كان نبيًّا مؤمنًا، فلمّا بعث اللّه النّبيّ محمّدًا صلّى اللّه عليه وسلّم جعل يذكر الأنبياء حتّى ذكر داود وسليمان، فقالت اليهود: انظروا إلى محمّدٍ يخلط الحقّ بالباطل، يذكر سليمان مع الأنبياء، وإنّما كان ساحرًا يركب الرّيح. فأنزل اللّه عذر سليمان، فقال: {واتّبعوا ما تتلوا الشّياطين على ملك سليمان} الآية».
- حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة، قال: حدّثني ابن إسحاق:
«{وما كفر سليمان ولكنّ الشّياطين كفروا يعلّمون النّاس السّحر} وذلك أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فيما بلغني لمّا ذكر سليمان بن داود في المرسلين، قال بعض أحبار اليهود: ألا تعجبون من محمّدٍ يزعم أنّ ابن داود كان نبيًّا، واللّه ما كان إلاّ ساحرًا. فأنزل اللّه في ذلك من قولهم: {وما كفر سليمان ولكنّ الشّياطين كفروا} أي: باتّباعهم السّحر وعملهم به {وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت}».
فإذ كان الأمر في ذلك على ما وصفنا، وتأويل قوله: {واتّبعوا ما تتلوا الشّياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكنّ الشّياطين كفروا} ما ذكرنا؛ فبيّن أنّ في الكلام متروكًا ترك ذكره اكتفاءً بما ذكر منه، وأنّ معنى الكلام: {واتّبعوا ما تتلوا الشّياطين} من السّحر {على ملك سليمان} فتضيفه إلى سليمان {وما كفر سليمان} فيعمل بالسّحر {ولكنّ الشّياطين كفروا يعلّمون النّاس السّحر}.
وقد كان قتادة يتأوّل قوله: {وما كفر سليمان ولكنّ الشّياطين كفروا} على نحو ما ذكرنا.
- حدّثنا بشر بن معاذٍ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة:
«قوله: {وما كفر سليمان ولكنّ الشّياطين كفروا} يقول: ما كان عن مشورته، ولا عن رضًا منه؛ ولكنّه شيءٌ افتعلته الشّياطين دونه».
وقد دلّلنا فيما مضى على اختلاف المختلفين في معنى تتلو وتوجيه من وجّه ذلك إلى أنه بمعنى تلت، إذ كان الّذي قبله خبرًا ماضيًا وهو قوله: {واتّبعوا} وتوجيه الّذين وجّهوا ذلك إلى خلاف ذلك. وبيّنّا فيه وفي نظيره الصّواب من القول، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع.
وأمّا معنى قوله: {ما تتلوا} فإنّه بمعنى الّذي تتلو وهو السّحر.
- كما حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة، عن ابن إسحاق:
«{واتّبعوا ما تتلوا الشّياطين على ملك سليمان} أي: السّحر».
ولعلّ قائلاً أن يقول: أوما كان السّحر إلاّ أيّام سليمان؟
قيل له: بل قد كان ذلك قبل ذلك، وقد أخبر اللّه عن سحرة فرعون بما أخبر عنهم، وقد كانوا قبل سليمان، وأخبر عن قوم نوحٍ أنّهم قالوا لنوحٍ إنّه ساحرٌ.
فإن قال: فكيف أخبر عن اليهود أنّهم اتّبعوا ما تلته الشّياطين فى عهد سليمان دون الخبر عنهم أنهم اتبعوا ماتلته الشياطين من ذلك أيام نوح وأيام موسى؟
قيل: إنما أخبر الله بذلك -تعالى ذكره- عن اتباعهم ما تلته الشياطين على عهد سليمان؛ لأنّهم أضافوا ذلك إلى سليمان على ما قد قدّمنا البيان عنه، فأراد اللّه تعالى ذكره تبرئة سليمان ممّا نحلوه وأضافوا إليه ممّا كانوا وجدوه، إمّا في خزائنه وإمّا تحت كرسيّه، على ما جاءت به الآثار الّتي قد ذكرناها من ذلك. فخص الخبر عمّا كانت اليهود اتّبعته مما تلته الشّياطين أيّام مئذ دون غيره لذلك السّبب. وإن كان الشّياطين قد كانت تاليةً للسّحر والكفر قبل ذلك). [جامع البيان: 2/ 322-330]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت}.
قال أبو جعفرٍ: اختلف أهل التأويل في تأويل (ما) الّتي في قوله: {وما أنزل على الملكين}؛

فقال بعضهم: معناها الجحد وهي بمعنى (لم). ذكر من قال ذلك:
- حدّثني محمّد بن سعدٍ، قال: حدّثني أبي، قال: حدّثني عمّي، قال: حدّثني أبي، عن أبيه، عن ابن عبّاسٍ: «قوله: {وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت} فإنّه يقول: لم ينزل اللّه السّحر».
- حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثني حكّامٌ، عن أبي جعفرٍ، عن الرّبيع بن أنسٍ: {وما أنزل على الملكين} قال:
«ما أنزل اللّه عليهما السّحر».
فتأويل الآية على هذا المعنى الّذي ذكرناه عن ابن عبّاسٍ والرّبيع من توجيههما؛ معنى قوله: {وما أنزل على الملكين} أى: ولم ينزل على الملكين، واتّبعوا الّذي تتلو الشّياطين على ملك سليمان من السّحر، وما كفر سليمان ولا أنزل اللّه السّحر على الملكين {ولكنّ الشّياطين كفروا يعلّمون النّاس السّحر} ببابل هاروت وماروت، فيكون حينئذٍ قوله: {ببابل هاروت وماروت} من المؤخّر الّذي معناه التّقديم.
فإن قال لنا قائلٌ: وكيف وجه تقديم ذلك؟
قيل: وجه تقديمه أن يقال: واتّبعوا ما تتلو الشّياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان وما أنزل على الملكين، ولكنّ الشّياطين كفروا يعلّمون النّاس السّحر ببابل هاروت وماروت. فيكون معنيًّا بالملكين: جبريل وميكائيل؛ لأنّ سحرة اليهود فيما ذكر كانت تزعم أنّ اللّه أنزل السّحر على لسان جبريل وميكائيل إلى سليمان بن داود. فأكذبها اللّه بذلك وأخبر نبيّه محمّدًا صلّى اللّه عليه وسلّم أنّ جبريل وميكائيل لم ينزلا بسحرٍ قطّ، وبرّأ سليمان ممّا نحلوه من السّحر، فأخبرهم أنّ السّحر من عمل الشّياطين، وأنّها تعلّم النّاس ذلك ببابل، وأنّ الّذين يعلّمونهم ذلك رجلان اسم أحدهما هاروت واسم الآخر ماروت؛ فيكون هاروت وماروت على هذا التّأويل ترجمةً علن النّاس وردًّا عليهم.
وقال آخرون: تأويل (ما) الّتي في قوله: {وما أنزل على الملكين} الّذي. ذكر من قال ذلك:
- حدّثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرّزّاق، قال: قال معمرٌ: قال قتادة والزّهريّ، عن عبيد اللّه:
«{وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت} كانا ملكين من الملائكة فأهبطا ليحكما بين النّاس، وذلك أنّ الملائكة سخروا من حكام بني آدم»، قال: «فحاكمت إليهما امرأةٌ فحافا لها، ثمّ ذهبا يصعدان، فحيل بينهما وبين ذلك وخيّرا بين عذاب الدّنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدّنيا».
قال معمرٌ: قال قتادة: «فكانا يعلّمان النّاس السّحر، فأخذ عليهما أن لا يعلّما أحدًا حتّى يقولا: إنّما نحن فتنةٌ فلا تكفر».
- حدّثني موسى، قال: حدّثنا عمرٌو، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ:
«أمّا قوله: {وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت} فهذا سحرٌ آخر خاصموه به أيضًا؛ يقول: خاصموه بما أنزل على الملكين، وإنّ كلام الملائكة فيما بينهم إذا علمته الإنس فصنع وعمل به كان سحرًا».
- حدّثنا بشر بن معاذٍ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة:
«قوله: {يعلّمون النّاس السّحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت} فالسّحر سحران: سحرٌ تعلمه الشّياطين، وسحرٌ يعلمه هاروت وماروت».
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا عبد اللّه بن صالحٍ، قال: حدّثني معاوية بن صالحٍ، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: قوله: {وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت} قال:
«التّفريق بين المرء وزوجه».
- حدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ: {ولكنّ الشّياطين كفروا يعلّمون النّاس السّحر وما أنزل على الملكين} فقرأ حتّى بلغ: {فلا تكفر}، قال:
«الشّياطين والملكان يعلّمون النّاس السّحر».
فمعنى الآية على تأويل هذا القول الّذي ذكرنا عمّن ذكرناه عنه: واتّبعت اليهود الّذي تلت الشّياطين في ملك سليمان الّذي أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت.
وقال قائلوا هذه المقالة: إن الله أنزل السحر على هاروت وماروت ببابل وهما ملكان من ملائكة اللّه، سنذكر ما روي من الأخبار في شأنهما إن شاء اللّه تعالى.
وقالوا: إن قال لنا قائلٌ: وهل يجوز أن ينزّل اللّه السّحر، أم هل يجوز لملائكته أن تعلّمه النّاس؟
قلنا له: إنّ اللّه عزّ وجلّ قد أنزل الخير والشّرّ كلّه، وبيّن جميع ذلك لعباده، فأوحاه إلى رسله وأمرهم بتعليم خلقه وتعريفهم ما يحلّ لهم ممّا يحرم عليهم؛ وذلك كالزّنا والسّرق وسائر المعاصي الّتي عرّفهموها ونهاهم عن ركوبها، فالسّحر أحد تلك المعاني الّتي أخبرهم بها ونهاهم عن العمل بها.
وقالوا: ليس في العلم بالسّحر إثمٌ، كما لا إثم في العلم بصنعة الخمر ونحت الأصنام والطّنابير والملاعب، وإنّما الإثم في عمله وتسويته.
قالوا: وكذلك لا إثم في العلم بالسّحر، وإنّما الإثم في العمل به وأن يضرّ به من لا يحلّ ضرّه به.
قالوا: فليس في إنزال اللّه إيّاه على الملكين ولا في تعليم الملكين من علّماه من النّاس إثمٌ إذ كان تعليمهما من علّماه ذلك بإذن اللّه لهما بتعليمه بعد أن يخبراه بأنّهما فتنةٌ وينهاه عن السّحر والعمل به والكفر؛ وإنّما الإثم على من يتعلّمه منهما ويعمل به، إذ كان اللّه تعالى ذكره قد نهى عن تعلّمه والعمل به.
قالوا: ولو كان اللّه أباح لبني آدم أن يتعلّموا ذلك، لم يكن من تعلّمه حرجًا، كما لم يكونا حرجين لعلمهما به، إذ كان علمهما بذلك عن تنزيل اللّه إليهما.
وقال آخرون: معنى (ما) معنى الّذي، وهي عطفٌ على (ما) الأولى، غير أنّ الأولى في معنى السّحر، ومعنى الآخرة في معنى التّفريق بين المرء وزوجه.
فتأويل الآية على هذا القول: واتّبعوا السّحر الّذي تتلو الشّياطين في ملك سليمان، والتّفريق بين المرء وزوجه الّذي أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت. ذكر من قال ذلك:
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا أبو حذيفة، قال: حدّثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:
«{وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت} وهما يعلّمان ما يفرّقون به بين المرء وزوجه، وذلك قول اللّه، وقالوا كفر سليمان: وما كفر سليمان ولكنّ الشّياطين كفروا»، وكان يقول: «أمّا السّحر فإنّما يعلّمه الشّياطين، وأمّا الّذي يعلّم الملكان فالتّفريق بين المرء وزوجه، كما قال اللّه تعالى».
وقال آخرون: جائزٌ أن تكون (ما) بمعنى الّذي، وجائزٌ أن تكون (ما) بمعنى (لم). ذكر من قال ذلك:
- حدّثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: حدّثني اللّيث بن سعدٍ، عن يحيى بن سعيدٍ، عن القاسم بن محمّدٍ، وسأله رجلٌ عن قول اللّه: {يعلّمون النّاس السّحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت} فقال الرّجل: يعلّمان النّاس ما أنزل عليهما، أم يعلّمان النّاس ما لم ينزل عليهما؟ قال القاسم:
«ما أبالي أيّتهما كانت».
- حدّثني يونس بن عبد الأعلى، قال: حدّثنا أنس بن عياضٍ، عن بعض أصحابه، أنّ القاسم بن محمّدٍ سئل عن قول اللّه -تعالى ذكره-: {وما أنزل على الملكين} فقيل له: أنزل أو لم ينزل؟ فقال:
«لا أبالي أيّ ذلك كان، إلاّ أنّي آمنت به».
والصّواب من القول في ذلك عندي قول من وجّه (ما) الّتي في قوله: {وما أنزل على الملكين} إلى معنى الّذي دون معنى (ما) الّتي هي بمعنى الجحد.

وإنّما اخترت ذلك من أجل أنّ (ما) إن وجّهت إلى معنى الجحد، فنفي عن الملكين أن يكونا منزّلاً إليهما، لم يخل الاسمان اللّذان بعدهما أعني هاروت وماروت من أن يكونا بدلاً منهما وترجمةً عنهما، أو بدلاً من النّاس في قوله: {يعلّمون النّاس السّحر} وترجمةً عنهم.
فإن جعلاً بدلاً من الملكين وترجمةً عنهما بطل معنى قوله: {وما يعلّمان من أحدٍ حتّى يقولا إنّما نحن فتنةٌ فلا تكفر فيتعلّمون منهما ما يفرّقون به بين المرء وزوجه} لأنّهما إذا لم يكونا عالمين بما يفرّق به بين المرء وزوجه، فما الّذي يتعلّم منهما مما يفرّق بين المرء وزوجه؟
وبعد، فإنّ (ما) الّتي في قوله: {وما أنزل على الملكين} إن كانت بمعنى الجحد عطفًا على قوله: {وما كفر سليمان} فإنّ اللّه -جلّ ثناؤه- نفى بقوله: {وما كفر سليمان} عن سليمان أن يكون السّحر من عمله، أو من علمه أو تعليمه.
فإن كان الّذي نفى عن الملكين من ذلك نظير الّذي نفى عن سليمان منه، وهاروت وماروت هما الملكان، فمن المتعلّم منه إذًا ما يفرّق به بين المرء وزوجه؟ وعمّن الخبر الّذي أخبر عنه بقوله: {وما يعلّمان من أحدٍ حتّى يقولا إنّما نحن فتنةٌ فلا تكفر} إنّ خطأ هذا القول لواضحٌ بيّنٌ.
وإن كان قوله: {هاروت وماروت} ترجمةً من النّاس الّذين في قوله: {ولكنّ الشّياطين كفروا يعلّمون النّاس السّحر} فقد وجب أن تكون الشّياطين هي الّتي تعلّم هاروت وماروت السّحر، وأن تكون السّحرة إنّما تعلّمت السّحر من هاروت وماروت عن تعليم الشّياطين إيّاهما.

فإن يكن ذلك كذلك، فلن يخلو هاروت وماروت عند قائلى هذه المقالة من أحد أمرين:
إمّا أن يكونا ملكينٍ؛ فإن كانا عندهم ملكين فقد أوجبوا لهما من الكفر باللّه والمعصية له بنسبتهم إيّاهما إلى أنّهما يتعلّمان من الشّياطين السّحر والكفر ويعلّمانه النّاس، وإصرارهما على ذلك ومقامهما عليه أعظم ممّا ذكر عنهما أنّهما أتياه من المعصية الّتي استحقّا عليها العقاب، وفي خبر اللّه عزّ وجلّ عنهما أنّهما لا يعلّمان أحدًا ما يتعلّم منهما حتّى يقولا: {إنّما نحن فتنةٌ فلا تكفر} ما يغني عن الإكثار في الدّلالة على خطأ هذا القول،
أو أن يكونا كانا رجلين من بني آدم؛ فإن يكن ذلك كذلك فقد كان يجب أن يكون بهلاكهما قد ارتفع السّحر والعلم به والعمل من بني آدم؛ لأنّه إذا كان علم ذلك من قبلهما يؤخذ ومنهما يتعلّم، فالواجب أن يكون بهلاكهما وعدم وجودهما عدم السّبيل إلى الوصول إلى المعنى الّذي كان لا يوصل إليه إلاّ بهما؛ وفي وجود السّحر في كلّ زمانٍ ووقتٍ أبين الدّلالة على فساد هذا القول. أو يزعم قائلوا ذلك أنّهما رجلان من بني آدم، لم يعدما من الأرض منذ خلقت الأرض، ولا يعدمان ما وجد السّحر في النّاس. فيدّعي ما لا يخفى بطوله.
فإذ فسدت هذه الوجوه الّتي دلّلنا على فسادها، فبيّنٌ أنّ معنى: {ما} الّتي في قوله: {وما أنزل على الملكين} بمعنى الّذي، وأنّ هاروت وماروت مترجمٌ بهما عن الملكين؛ ولذلك فتحت أواخر أسمائهما، لأنّهما في موضع خفضٍ على الرّدّ على الملكين، ولكنّهما لمّا كانا لا يجرّيان فتحت أواخر أسمائهما.
فإن التبس على ذي غباءٍ ما قلنا، فقال: وكيف يجوز لملائكة اللّه أن تعلّم النّاس التّفريق بين المرء وزوجه؟ أم كيف يجوز أن يضاف إلى اللّه تبارك وتعالى إنزال ذلك على الملائكة؟
قيل له: إنّ اللّه -جلّ ثناؤه- عرّف عباده جميع ما أمرهم به وجميع ما نهاهم عنه، ثمّ أمرهم ونهاهم بعد العلم منهم بما يؤمرون به وينهون عنه. ولو كان الأمر على غير ذلك، لما كان للأمر والنّهي معنًى مفهومٌ؛

فالسّحر ممّا قد نهى عباده من بني آدم عنه، فغير منكرٍ أن يكون جلّ ثناؤه علّمه الملكين اللّذين سمّاهما في تنزيله وجعلهما فتنةً لعباده من بني آدم كما أخبر عنهما أنّهما يقولان لمن يتعلّم ذلك منهما: {إنّما نحن فتنةٌ فلا تكفر} ليختبر بهما عباده الّذين نهاهم عن التّفريق بين المرء وزوجه وعن السّحر، فيمحّص المؤمن بتركه التّعلّم منهما، ويخزي الكافر بتعلّمه السّحر والكفر منهما، ويكون الملكان في تعليمهما من علّما ذلك للّه مطيعين، إذ كانا عن إذن اللّه لهما بتعليم ذلك من علّماه يعلّمان. وقد عبد من دون اللّه جماعةٌ من أولياء اللّه، فلم يكن ذلك لهم ضائرًا إذ لم يكن ذلك بأمرهم إيّاهم به، بل عبد بعضهم والمعبود عنه ناهٍ، فكذلك الملكان غير ضائرهما سحر من سحر ممّن تعلّم ذلك منهما بعد نهيهما إيّاه عنه وعظتهما له بقولهما: {إنّما نحن فتنةٌ فلا تكفر} إذ كانا قد أدّيا ما أمر به بقيلهما ذلك.
- كما حدّثنا محمّد بن بشّارٍ، قال: حدّثنا يحيى بن سعيدٍ، عن عوفٍ، عن الحسن، في قوله: {وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت} إلى قوله: {فلا تكفر}، قال:
«قوله: {فلا تكفر} أخذ عليهما ذلك».
ذكر بعض الأخبار الّتي جاءت في شأن الملكين وأمرهما، ومن قال إنّ هاروت وماروت هما الملكان اللّذان ذكر اللّه جلّ ثناؤه في قوله: {وما أنزل على الملكين ببابل}.

- حدّثنا محمّد بن بشّارٍ، قال: حدّثنا معاذ بن هشامٍ، قال: حدّثني أبي، عن قتادة، قال: حدّثنا أبو شعبة العدويّ في جنازة يونس بن جبيرٍ أبي غلاّبٍ، عن ابن عبّاسٍ، قال: «إنّ اللّه أفرج السّماء لملائكته ينظرون إلى أعمال بني آدم، فلمّا أبصروهم يعملون الخطايا، قالوا: يا ربّ هؤلاء بنو آدم الّذي خلقته بيدك، وأسجدت له ملائكتك، وعلّمته أسماء كلّ شيءٍ، يعملون بالخطايا، قال: أما إنّكم لو كنتم مكانهم لعملتم مثل أعمالهم. قالوا: سبحانك ما كان ينبغي لنا»،
قال:«فأمروا أن يختاروا ملكين ليهبطا إلى الأرض».
قال: «فاختاروا هاروت وماروت، فأهبطا إلى الأرض، وأحلّ لهما ما فيها من شيءٍ غير أن لا يشركا باللّه شيئًا ولا يسرقا، ولا يزنيا، ولا يشربا الخمر، ولا يقتلا النّفس الّتي حرّم اللّه إلاّ بالحقّ».
قال: «فما اشهرّا حتّى عرض لهما امرأةٌ قد قسم لها نصف الحسن يقال لها: بيذخت، فلمّا أبصراها كشرا بها إربا، فقالت: لا إلاّ أن تشركا باللّه وتشربا الخمر وتقتلا النّفس وتسجدا لهذا الصّنم. فقالا: ما كنّا لنشرك باللّه شيئًا. فقال أحدهما للآخر: ارجع إليها. فقالت: لا إلاّ أن تشربا الخمر. فشربا حتّى ثملا، ودخل عليهما سائلٌ فقتلاه. فلمّا وقعا فيه من الشّرّ، أفرج اللّه السّماء لملائكته،
فقالوا: سبحانك كنت أنت أعلم
».
قال: «فأوحى اللّه إلى سليمان بن داود أن يخيّرهما بين عذاب الدّنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدّنيا، فكبّلا من أكعبهما إلى أعناقهما بمثل أعناق البخت وجعلا ببابل».
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا الحجّاج بن المنهال، قال: حدّثنا حماد عن عليّ بن زيدٍ، عن أبي عثمان النّهديّ، عن ابن مسعودٍ وابن عبّاسٍ أنّهما قالا:
«لمّا كثر بنو آدم وعصوا، دعت الملائكة عليهم والأرض والسّماء والجبال: ربّنا ألا تهلكهم؟ فأوحى اللّه إلى الملائكة: إنّي لو أنزلت الشّهوة والشّيطان من قلوبكم ونزلتم لفعلتم أيضًا».
قال: «فحدّثوا أنفسهم أن لو ابتلوا اعتصموا. فأوحى اللّه إليهم أن اختاروا ملكين من أفضلكم. فاختاروا هاروت وماروت، فأهبطا إلى الأرض وأنزلت الزّهرة إليهما في صورة امرأةٍ من أهل فارس، وكان أهل فارس يسمّونها بيذخت».
قال: «فوقعا بالخطيئة، فكانت الملائكة يستغفرون للّذين آمنوا: {ربّنا وسعت كلّ شيءٍ رحمةً وعلمًا فاغفر للّذين تابوا}، فلمّا وقعا بالخطيئة استغفروا لمن في الأرض: {ألا إنّ اللّه هو الغفور الرّحيم} فخيّرا بين عذاب الدّنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدّنيا».
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثني الحجّاج، قال: حدّثنا حمّادٌ، عن خالد الحذّاء، عن عمير بن سعيدٍ، قال: سمعت عليًّا يقول:
«كانت الزّهرة امرأةً جميلةً من أهل فارس، وإنّها خاصمت إلى الملكين هاروت وماروت فراوداها عن نفسها، فأبت إلاّ أن يعلّماها الكلام الّذي إذا تكلّم به يعرج به إلى السّماء. فعلّماها فتكلّمت فعرجت إلى السّماء فمسخت كوكبًا».
- حدّثنا محمّد بن بشّارٍ، ومحمّد بن المثنّى، قالا: حدّثنا مؤمّل بن إسماعيل، وحدّثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرّزّاق جميعًا، عن الثّوريّ، عن موسى بن عقبة، عن سالمٍ، عن ابن عمر، عن كعبٍ، قال:
«ذكرت الملائكة أعمال بني آدم وما يأتون من الذّنوب، فقيل لهم: اختاروا منكم اثنين».
وقال الحسن بن يحيى في حديثه:«اختاروا ملكين، فاختاروا هاروت وماروت، فقيل لهما: إنّي أرسل إلى بني آدم رسلاً، وليس بيني وبينكم رسولٌ، انزلا لا تشركا بي شيئًا، ولا تزنيا، ولا تشربا الخمر».
قال كعبٌ: «فواللّه ما أمسيا من يومهما الّذي أهبطا فيه إلى الأرض، حتّى استكملا جميع ما نهيا عنه».
وقال الحسن بن يحيى في حديثه: «فما استكملا يومهما الّذي أنزلا فيه حتّى عملا ما حرّم اللّه عليهما».
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا معلّى بن أسدٍ، قال: حدّثنا عبد العزيز بن المختار، عن موسى بن عقبة، قال: حدّثني سالم، أنّه سمع عبد اللّه يحدّث، عن كعب الأحبار أنّه حدّث:
«أنّ الملائكة أنكروا أعمال بني آدم وما يأتون في الأرض من المعاصي، فقال اللّه لهم: إنّكم لو كنتم مكانهم أتيتم ما يأتون من الذّنوب، فاختاروا منكم ملكين. فاختاروا هاروت وماروت اختيارا، فقال اللّه لهما: إنّي أرسل رسلي إلى النّاس، وليس بيني وبينكما رسولٌ، انزلا إلى الأرض، ولا تشركا بي شيئًا، ولا تزنيا».
فقال كعبٌ:«والّذي نفس كعبٍ بيده ما استكملا يومهما الّذي نزّلا فيه حتّى أتيا كل ما حرّم اللّه عليهما».
- حدّثني موسى بن هارون، قال: حدّثنا عمرٌو، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ:
«أنّه كان من أمر هاروت وماروت أنّهما طعنا على أهل الأرض في أحكامهم، فقيل لهما: إنّي أعطيت بنى آدم عشرًا من الشّهوات فبها يعصونني. قال هاروت وماروت: ربّنا لو أعطيتنا تلك الشّهوات ثمّ نزلنا لحكمنا بالعدل. فقال لهما: انزلا فقد أعطيتكما تلك الشّهوات العشر فاحكما بين النّاس. فنزلا ببابل دنباوند، فكانا يحكمان، حتّى إذا أمسيا عرجا، فإذا أصبحا هبطا. فلم يزالا كذلك حتّى أتتهما امرأةٌ تخاصم زوجها، فأعجبهما حسنها واسمها بالعربيّة الزّهرة، واسمها بالنّبطيّة بيذخت، واسمها بالفارسيّة أناهيذ، فقال أحدهما لصاحبه: إنّها لتعجبني. فقال الآخر: قد أردت أن أذكر لك ذلك فاستحييت منك. فقال الآخر: هل لك أن أذكرها لنفسها؟ قال: نعم، ولكن كيف لنا بعذاب اللّه؟ قال الآخر: إنّا نرجو رحمة اللّه. فلمّا جاءت تخاصم زوجها ذكرا لها نفسها، فقالت: لا، حتّى تقضيا لي على زوجي، فقضيا لها على زوجها. ثمّ واعدتهما خربةً من الخرب يأتيانها فيها، فأتياها لذلك، فلمّا أراد الّذي يواقعها، قالت: ما أنا بالّذي أفعل حتّى تخبراني بأيّ كلامٍ تصعدان إلى السّماء؟ وبأيّ كلامٍ تنزلان منها؟ فأخبراها فتكلّمت فصعدت. فأنساها اللّه ما تنزل به فبقيت مكانها، وجعلها اللّه كوكبًا،
فكان عبد اللّه بن عمر كلّما رآها لعنها، وقال: هذه الّتي فتنت هاروت وماروت، فلمّا كان اللّيل أرادا أن يصعدا فلم يطيقها فعرفا الهلكه، فخيّرا بين عذاب الدّنيا من عذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدّنيا، فعلّقا ببابل فجعلا يكلّمان النّاس كلامهما وهو السّحر».
- حدّثني المثنّى بن إبراهيم، قال: حدّثنا إسحاق، قال: حدّثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرّبيع، قال:
«لمّا وقع النّاس من بعد آدم فيما وقعوا فيه من المعاصي والكفر باللّه، قالت الملائكة في السّماء: أي ربّ، هذا العالم إنّما خلقتهم لعبادتك وطاعتك، وقد ركبوا الكفر، وقتل النّفس الحرام، وأكل المال الحرام، والسّرقة، والزّنا، وشرب الخمر. فجعلوا يدعون عليهم ولا يعذرونهم. فقيل لهم: إنّهم في غيبٍ، فلم يعذروهم، فقيل لهم: اختاروا منكم ملكين آمرهما بأمري وأنهاهما عن معصيتي. فاختاروا هاروت وماروت، فأهبطا إلى الأرض، وجعل لهما شهوات بني آدم، وأمرا أن يعبدا اللّه ولا يشركا به شيئًا، ونهيا عن قتل النّفس الحرام، وأكل المال الحرام، والسّرقة والزّنا وشرب الخمر. فلبثا على ذلك في الأرض زمانًا يحكمان بين النّاس بالحقّ، وذلك في زمان إدريس، وفي ذلك الزّمان امرأةٌ حسنها في سائر النّاس كحسن الزّهرة في سائر الكوكب. وإنّها أتت عليهما فخضعا لها بالقول، وأراداها على نفسها، وإنّها أبت إلاّ أن يكونا على أمرها ودينها، وإنّهما سألاها عن دينها الّذى هي عليه، فأخرجت لهما صنمًا وقالت: هذا أعبد. فقالا: لا حاجة لنا في عبادة هذا. فذهبا فصبرا ما شاء اللّه، ثمّ أتيا عليها فخضعا لها بالقول وأراداها على نفسها. فقالت: لا إلاّ أن تكونا على ما أنا عليه. فقالا: لا حاجة لنا في عبادة هذا. فلمّا رأت أنّهما قد أبيا أن يعبدا الصّنم، قالت لهما: اختارا إحدى الخلال الثّلاث: إمّا أن تعبدا الصّنم، أو تقتلا النّفس، أو تشربا هذه الخمر. فقالا: كلّ هذا لا ينبغي، وأهون الثّلاثة شرب الخمر. فسقتهما الخمر، حتّى إذا أخذت الخمر فيهما وقعا بها، فمرّ بهما إنسانٌ وهما في ذلك، فخشيا أن يفشي عليهما فقتلاه، فلمّا أن ذهب عنهما السّكر عرفا ما قد وقعا فيه من الخطيئة وأرادا أن يصعدا إلى السّماء فلم يستطيعا، فحيل بينهما وبين ذلك، وكشف الغطاء فيما بينهما وبين أهل السّماء. فنظرت الملائكة إلى ما قد وقعا فيه من الذّنب، فعجبوا كلّ العجب، وعرفوا أنّه من كان في غيبٍ فهو أقلّ خشيةً، فجعلوا بعد ذلك يستغفرون لمن في الأرض. وإنّهما لمّا وقعا فيما وقعا فيه من الخطيئة، قيل لهما: اختارا عذاب الدّنيا أو عذاب الآخرة. فقالا: أمّا عذاب الدّنيا فإنّه ينقطع ويذهب، وأمّا عذاب الآخرة فلا انقطاع له. فاختارا عذاب الدّنيا، فجعلا ببابل، فهما يعذّبان».
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثنا فرج بن فضالة، عن معاوية بن صالحٍ، عن نافعٍ، قال: سافرت مع ابن عمر، فلمّا كان من آخر اللّيل، قال: يا نافع انظر طلعت الحمراء. قلت: لا مرّتين أو ثلاثًا. ثمّ قلت: قد طلعت. قال: لا مرحبًا بها ولا أهلاً. قلت: سبحان اللّه نجمٌ مسخّرٌ سامعٌ مطيعٌ؟ قال: ما قلت لك إلاّ ما سمعت من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم؛ أو قال: قال لي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم:
«إنّ الملائكة قالت: يا ربّ كيف صبرك على بني آدم في الخطايا والذّنوب؟ قال: إنّي ابتليتهم وعافيتكم. قالوا: لو كنّا مكانهم ما عصيناك. قال: فاختاروا ملكين منكم». قال:«فلم يألوا أن يختاروا، فاختاروا هاروت وماروت».
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا أبو حذيفة، قال: حدّثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:
«وأمّا شأن هاروت وماروت، فإنّ الملائكة عجبت من ظلم بني آدم، وقد جاءتهم الرّسل والكتب والبيّنات، فقال لهم ربّهم: اختاروا منكم ملكين أنزلهما يحكمان في الأرض بين بني آدم. فاختاروا فلم يألوا هاروت وماروت، فقال لهما حين أنزلهما: عجبتما من بني آدم ومن ظلمهم ومعصيتهم، وإنّما تأتيهم الرّسل والكتب من وراء وراء، وأنتما ليس بيني وبينكما رسولٌ، فافعلا كذا وكذا، ودعا كذا وكذا. فأمرهما بأمرٍ ونهاهما، ثمّ نزلا على ذلك ليس أحدٌ للّه أطوع منهما، فحكما فعدلا، فكانا يحكمان النّهار بين بني آدم، فإذا أمسيا عرجا وكانا مع الملائكة، وينزلان حين يصبحان فيحكمان فيعدلان، حتّى أنزلت عليهما الزّهرة في أحسن صورة امرأةٍ تخاصم، فقضيا عليها. فلمّا قامت وجد كلّ واحدٍ منهما في نفسه، فقال أحدهما لصاحبه: وجدت مثل ما وجدت؟ قال: نعم، فبعثا إليها أن ائتينا نقض لك. فلمّا رجعت قالا لها وقضيا لها: ائتينا. فأتتهما، فكشفا لها عن عورتهما. وإنّما كانت شهوتهما في أنفسهما ولم يكونا كبني آدم في شهوة النّساء ولذّتها. فلمّا بلغا ذلك واستحلاّه وافتتنا، طارت الزّهرة فرجعت حيث كانت. فلمّا أمسيا عرجا فزجرا فلم يؤذن لهما ولم تحملهما أجنحتهما؛ فاستغاثا برجلٍ من بني آدم، فأتياه فقالا: ادع لنا ربّك. فقال: كيف يشفع أهل الأرض لأهل السّماء؟ قالا: سمعنا ربّك يذكرك بخيرٍ في السّماء. فوعدهما يومًا وعدا يدعو لهما. فدعا لهما فاستجيب له، فخيّرا بين عذاب الدّنيا وعذاب الآخرة. فنظر أحدهما إلى صاحبه فقالا: ألا تعلم أنّ أفواج عذاب اللّه في الآخرة كذا وكذا في الخلد ومع الدّنيا سبع مرّاتٍ مثلها. فأمرا أن ينزلا ببابل، فثمّ عذابهما وزعم أنّهما معلّقان في الحديد مطويّان يصفّقان بأجنحتهما».
قال أبو جعفرٍ: وحكي عن بعض القرّاء أنّه كان يقرأ: {وما أنزل على الملكين} يعني به رجلين من بني آدم.
وقد دلّلنا على خطأ القراءة بذلك من جهة الاستدلال؛ فأمّا من جهة النّقل فإجماع الحجّة على خطأ القراءة بها من الصّحابة والتّابعين وقرّاء الأمصار، وكفى بذلك شاهدًا على خطئها.
وأمّا قوله {ببابل} فإنّه اسم قريةٍ أو موضعٌ من مواضع الأرض. وقد اختلف أهل التّأويل فيها؛

فقال بعضهم: إنّها بابل دنباوند. حدّثني بذلك موسى، قال: حدّثنا عمرٌو، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ.
وقال بعضهم: بل ذلك بابل العراق. ذكر من قال ذلك:
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ، عن ابن أبي الزّناد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة في قصّةٍ ذكرتها عن امرأةٍ قدمت المدينة، فذكرت أنّها صارت في العراق ببابل، فأتت بها هاروت وماروت فتعلّمت منهما السّحر.
واختلف في معنى السّحر؛

فقال بعضهم: هو خدعٌ ومخاريق ومعانٍ يفعلها السّاحر، حتّى يخيّل إلى المسحور الشّيء أنّه بخلاف ما هو به، نظير الّذي يرى السّراب من بعيدٍ، فيخيّل إليه أنّه ماءٌ، ويرى الشّيء من بعيد فيه فيتبنه بخلاف ما هو به على حقيقته، وكراكب السّفينة السّائرة سيرًا حثيثًا يخيّل إليه أنّ ما عاين من الأشجار والجبال سائرٌ معه.
قالوا: فكذلك المسحور ذلك صفته، يحسب بعد الّذي وصل إليه من سحر السّاحر أنّ الّذي يراه أو يفعله بخلاف الّذي هو به على حقيقته.
- كالّذي حدّثني أحمد بن الوليد، وسفيان بن وكيعٍ، قالا: حدّثنا يحيى بن سعيدٍ، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة:
«أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم لمّا سحر كان يخيّل إليه أنّه يفعل الشّيء ولم يفعله».
- حدّثنا ابن وكيعٍ، قال: حدّثنا ابن نميرٍ، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت:
«سحر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يهوديٌّ من يهود بني زريقٍ يقال له: لبيد بن الأعصم، حتّى كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يخيّل إليه أنّه يفعل الشّيء وما يفعله».
- حدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهابٍ، قال: كان عروة بن الزّبير وسعيد بن المسيّب يحدّثان:
«أنّ يهود بني زريقٍ، عقدوا عقد سحرٍ لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فجعلوها في بئر حرمٍ حتّى كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ينكر بصره ودلّه اللّه على ما صنعوا، فأرسل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلى بئر حزمٍ الّتي فيها العقد فانتزعها، فكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: سحرتني يهود بني زريقٍ».
وأنكر قائل هذه المقالة أن يكون السّاحر يقدر بسحره على قلب شيءٍ عن حقيقته، أو استسخار شيءٍ من خلق اللّه إلاّ نظير الّذي يقدر عليه من ذلك سائر بني آدم، أو إنشاء شيءٍ من الأجسام سوى المخاريق والخدع المتخيّلة لأبصار النّاظرين بخلاف حقائقها الّتي وصفنا.
وقالوا: لو كان في وسع السّحرة إنشاء الأجسام وقلب الحقائق الأعيان عمّا هي به من الهيئات، لم يكن بين الباطل والحقّ فصلٌ، ولجاز أن تكون جميع المحسات ممّا سحرته السّحرة فقلبت أعيانها.
قالوا: وفي وصف اللّه جلّ وعزّ سحر سحرة فرعون بقوله: {فإذا حبالهم وعصيّهم يخيّل إليه من سحرهم أنّها تسعى}. وفي خبر عائشة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه كان إذ سحر يخيّل إليه أنّه يفعل الشّيء ولا يفعله، أوضح الدّلالة على بطول دعوى المدّعين: أنّ السّاحر ينشئ أعيان الأشياء بسحره، ويستسخر ما يتعذّر استسخاره على غيره من بني آدم، كالموات والجماد والحيوان، وصحّة ما قلنا.
وقال آخرون: قد يقدر السّاحر بسحره أن يحوّل الإنسان حمارًا، وأن يسحر الحيوان والجماد وينشيء أعيانًا وأجسامًا.
واعتلّوا في ذلك بما حدّثنا به الرّبيع بن سليمان، قال: حدّثنا ابن وهبٍ، قال: أخبرنا ابن أبي الزّناد، قال: حدّثني هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة زوج النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أنّها قالت:
«قدمت عليّ امرأةٌ من أهل دومة الجندل، جاءت تبتغي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بعد موته حداثة ذلك، تسأله عن شيءٍ دخلت فيه من أمر السّحر ولم تعمل به».
قالت عائشة لعروة:«يا ابن أختي، فرأيتها تبكي حين لم تجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فيشفيها، كانت تبكي حتّى إنّي لأرحمها، وتقول: إنّي لأخاف أن أكون قد هلكت، كان لي زوجٌ فغاب عنّي، فدخلت عليّ عجوزٌ فشكوت ذلك إليها، فقالت: إن فعلت ما آمرك به فأجعله يأتيك، فلمّا كان اللّيل جاءتني بكلبين أسودين، فركبت أحدهما وركبت الآخر، فلم يكن كشيءٍ حتّى وقفنا ببابل، فإذا برجلين معلّقين بأرجلهما، فقالا: ما جاء بك؟ فقلت: أتعلّم السّحر؟ فقالا: إنّما نحن فتنةٌ فلا تكفري وارجعي، فأبيت وقلت: لا، فقالا: اذهبي إلى ذلك التّنّور فبولي فيه. فذهبت ففزعت فلم أفعل، فرجعت إليهما، فقالا: أفعلت؟ قلت: نعم، فقالا: فهل رأيت شيئًا؟ قلت: لم أر شيئًا، فقالا لي: لم تفعلي، ارجعي إلى بلادك ولا تكفري. فأرببت وأبيت، فقالا: اذهبي إلى ذلك التّنّور فبولي فيه. فذهبت، فاقشعررت وخفت. ثمّ رجعت إليهما، فقلت: قد فعلت، فقالا: فما رأيت؟ فقلت: لم أر شيئًا، فقالا: كذبت لم تفعلي، ارجعي إلى بلادك ولا تكفري، فإنّك على رأس أمرك. فأربيت وأبيت، فقالا: اذهبي إلى ذلك التّنّور فبولي فيه. فذهبت إليه فبلت فيه، فرأيت فارسًا متقنّعًا بحديدٍ خرج منّه حتّى ذهب في السّماء وغاب عنّي حتّى ما أراه، فجئتهما فقلت: قد فعلت، فقالا: ما رأيت؟ فقلت: رأيت فارسًا متقنّعًا خرج منّه فذهب في السّماء حتّى ما أراه، فقالا: صدقت، ذلك إيمانك خرج منك اذهبي. فقلت للمرأة: واللّه ما أعلم شيئًا وما قالا لي شيئًا، فقالت: بلى، لن تريدي شيئًا إلاّ كان، خذي هذا القمح فابذري، فبذرت، فقلت: أطلعي، فأطلعت، وقلت: أحقلي، فأحقلت، ثمّ قلت: أفركي. فأفركت، ثمّ قلت: أيبسي، فأيبست، ثمّ قلت: أطحني. فأطحنت، ثمّ قلت: أخبزي، فأخبزت. فلمّا رأيت أنّي لا أريد شيئًا إلاّ كان سقط في يدي وندمت واللّه يا أمّ المؤمنين، واللّه ما فعلت شيئًا قطّ ولا أفعله أبدًا».
فقال أهل هذه المقالة بما وصفنا واعتلّوا بما ذكرنا، وقالوا: لولا أنّ السّاحر يقدر على فعل ما ادّعى أنّه يقدر على فعله ما قدر أن يفرّق بين المرء وزوجه،

قالوا: وقد أخبر اللّه -تعالى ذكره- عنهم أنّهم يتعلّمون من الملكين ما يفرّقون به بين المرء وزوجه، وذلك لو كان على غير الحقيقة، وكان على وجه التّخييل والحسبان، لم يكن تفريقًا على صحّةٍ، وقد أخبر اللّه تعالى ذكره عنهم أنّهم يفرّقون على صحّةٍ.
وقال آخرون: بل السّحر أخذٌ بالعين). [جامع البيان: 2/ 330-355]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {وما يعلّمان من أحدٍ حتّى يقولا إنّما نحن فتنةٌ فلا تكفر}.
وتأويل ذلك: وما يعلم الملكان أحدًا من النّاس الّذي أنزل عليهما من التّفريق بين المرء وزوجه حتّى يقولا له: إنّما نحن بلاءٌ وفتنةٌ لبني آدم فلا تكفر بربّك.
- كما حدّثني موسى، قال: حدّثنا عمرٌو، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ، قال:
«إذا أتاهما -يعني: هاروت وماروت- إنسانٌ يريد السّحر وعظاه وقالا له: لا تكفر إنّما نحن فتنةٌ. فإن أبى، قالا له: ائت هذا الرّماد فبل عليه. فإذا بال عليه خرج منه نورٌ يسطع حتّى يدخل السّماء، وذلك الإيمان وأقبل شيءٌ أسود كهيئة الدّخان حتّى يدخل في مسامعه وكلّ شيءٍ منه، فذلك غضب اللّه، فإذا أخبرهما بذلك علّماه السّحر. فذلك قول اللّه: {وما يعلّمان من أحدٍ حتّى يقولا إنّما نحن فتنةٌ فلا تكفر} الآية».
- حدّثنا بشر بن معاذٍ، قال: حدّثنا يزيد، عن سعيدٍ، عن قتادة، والحسن: {حتّى يقولا إنّما نحن فتنةٌ فلا تكفر} قال:
«أخذ عليهما أن لا يعلّما أحدًا حتّى يقولا: {إنّما نحن فتنةٌ فلا تكفر}».
- حدّثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرّزّاق، قال: أخبرنا معمرٌ، قال: قال قتادة:
«كانا يعلّمان النّاس السّحر، فأخذ عليهما أن لا يعلّما أحدًا حتّى يقولا: {إنّما نحن فتنةٌ فلا تكفر}».
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثنا أبو سفيان، عن معمرٍ، قال: قال غير قتادة:
«أخذ عليهما أن لا يعلّما أحدًا حتّى يتقدّما إليه فيقولا: {إنّما نحن فتنةٌ فلا تكفر}».
- حدّثنا ابن بشّارٍ، قال: حدّثنا يحيى بن سعيدٍ، عن عوفٍ، عن الحسن، قال:
«أخذ عليهما أن يقولا ذلك».
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، قال:
«أخذ الميثاق عليهما أن لا يعلّما أحدًا حتّى يقولا: {إنّما نحن فتنةٌ فلا تكفر}، لا يجترئ على السّحر إلاّ كافرٌ».
وأمّا الفتنة في هذا الموضع؛ فإنّ معناها الاختبار والابتلاء، من ذلك قول الشّاعر:
وقد فتن النّاس في دينهم ....... وخلّى ابن عفّان شرًّا طويلا
ومنه قوله: فتنت الذّهب في النّار، إذا امتحنتها لتعرف جودتها من رداءتها، أفتنها فتنةً وفتونًا.
- كما حدّثنا بشر بن معاذٍ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة:
«{إنّما نحن فتنةٌ} أي: بلاءٌ»). [جامع البيان: 2/ 355-357]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {فيتعلّمون منهما ما يفرّقون به بين المرء وزوجه}.
وقوله جلّ ثناؤه: {فيتعلّمون منهما} خبرٌ مبتدأٌ عن المتعلّمين من الملكين ما أنزل عليهما، وليس بجوابٍ لقوله: {وما يعلّمان من أحدٍ} بل هو خبرٌ مستأنفٌ؛ ولذلك رفع، فقيل: فيتعلّمون. فمعنى الكلام إذًا: وما يعلّمان من أحدٍ حتّى يقولا: إنّما نحن فتنةٌ. فيأبون قبول ذلك منهما فيتعلّمون منهما ما يفرّقون به بين المرء وزوجه.
وقد قيل: إنّ قوله: {فيتعلّمون} خبرٌ عن اليهود معطوفٌ على قوله: {ولكنّ الشّياطين كفروا يعلّمون النّاس السّحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت} {فيتعلّمون منهما ما يفرّقون به بين المرء وزوجه} وجعلوا ذلك من المؤخّر الّذي معناه التّقديم.
والّذي قلنا أشبه بتأويل الآية؛ لأنّ إلحاق ذلك بالّذي يليه من الكلام ما كان للتّأويل وجهٌ صحيحٌ أولى من إلحاقه بما قد حيل بينه وبينه من معترض الكلام.
والهاء والميم والألف من قوله: {منهما} من ذكر الملكين. ومعنى ذلك: فيتعلّم النّاس من الملكين الّذي يفرّقون به بين المرء وزوجه.
و(ما) الّتي مع يفرّقون بمعنى الّذي.

وقيل: إن معنى ذلك: السّحر الّذي يفرّقون به،
وقيل: هو معنًى غير السّحر.
وقد ذكرنا اختلافهم في ذلك فيما مضى قبل.
وأمّا المرء فإنّه بمعنى رجلٍ من أسماء بني آدم، والأنثى منه المرأة؛ يوحّد ويثنّى، ولا يجمع ثلاثته على صورته، يقال منه: هذا امرؤٌ صالحٌ، وهذان امرآن صالحان، ولا يقال: هؤلاء امرؤ صدقٍ، ولكن يقال: هؤلاء رجال صدقٍ، وقوم صدقٍ. وكذلك المرأة توحّد وتثنّى ولا تجمع على صورتها، يقال: هذه امرأةٌ وهاتان امرأتان، ولا يقال: هؤلاء امرآتٌ، ولكن هؤلاء نسوةٌ.
وأمّا الزّوج، فإنّ أهل الحجاز يقولون لامرأة الرّجل: هي زوجه، بمنزلة الزّوج الذّكر؛ ومن ذلك قول اللّه تعالى ذكره: {أمسك عليك زوجك}، وتميمٌ وكثيرٌ من قيسٍ وأهل نجدٍ يقولون: هي زوجته. قال الشّاعر:
فإنّ الّذي يمشي يحرّش زوجتي ....... كماشٍ إلى أسد الشّرى يستبيلها
فإن قال قائلٌ: وكيف يفرّق السّاحر بين المرء وزوجه؟
قيل: قد دلّلنا فيما مضى على أنّ معنى السّحر تخييل الشّيء إلى المرء بخلاف ما هو به في عينه وحقيقته بما فيه الكفاية لمن وفّق لفهمه.

فإذ كان ذلك صحيحًا بالّذي استشهدنا عليه، فتفريقه بين المرء وزوجه تخييله بسحره إلى كلّ واحدٍ منهما شخص الآخر على خلاف ما هو به في حقيقته من حسنٍ وجمالٍ حتّى يقبّحه عنده فينصرف بوجهه ويعرض عنه، حتّى يحدث الزّوج لامرأته فراقًا، فيكون السّاحر مفرّقًا بينهما بإحداثه السّبب الّذي كان عنه فرقة ما بينهما.
وقد دلّلنا في غير موضعٍ من كتابنا هذا على أنّ العرب تضيف الشّيء إلى مسبّبه من أجل تسبّيبه، وإن لم يكن باشر فعل ما حدث عن السّبب، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع؛ فكذلك تفريق السّاحر بسحره بين الزوجين.
وبنحو الّذي قلنا في ذلك قاله عددٌ من أهل التّأويل، ذكر من قال ذلك:
- حدّثنا بشر بن معاذٍ، قال: حدّثنا يزيد بن زريعٍ، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة:
«{فيتعلّمون منهما ما يفرّقون به بين المرء وزوجه} وتفريقهما أن يؤخذ كلّ واحدٍ منهما عن صاحبه، ويبغضّ كلّ واحدٍ منهما إلى صاحبه».
وأمّا الّذين نفوا أن يكون الملكان يعلّمان النّاس التّفريق بين المرء وزوجه، فإنّهم وجّهوا تأويل قوله: {فيتعلّمون منهما} إلى: فيتعلّمون مكان ما علّماهم ما يفرّقون به بين المرء وزوجه، كقول القائل: ليت لنا من كذا وكذا كذا. كما قال الشّاعر:
جمعت من الخيرات وطبًا وعلبةً ....... وصرًّا لأخلاف المزمّمة البزل
ومن كلّ أخلاق الكرام نميمةً ....... وسعيًا على الجار المجاور بالمحل
يريد بقوله: جمعت مكان خيرات الدّنيا هذه الأخلاق الرّديئة والأفعال الدّنيئة. ومنه قول الآخر:
صلدت صفاتك أن تلين حيودها ....... وورثت من سلف الكرام عقوقا
يعني ورثت مكان سلف الكرام عقوقًا من ولدك). [جامع البيان: 2/ 357-360]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {وما هم بضارّين به من أحدٍ إلاّ بإذن اللّه}.
يعني بقوله جلّ ثناؤه: {وما هم بضارّين به من أحدٍ إلاّ بإذن اللّه} وما المتعلّمون من الملكين هاروت وماروت ما يفرّقون به بين المرء وزوجه بضارّين بالّذي تعلّموه منهما من المعنى الّذي يفرّقون به بين المرء وزوجه من أحدٍ من النّاس، إلاّ من قد قضى اللّه عليه أنّ ذلك يضرّه؛ فأمّا من دفع اللّه عنه ضرّه وحفظه من مكروه السّحر والنّفث والرّقى، فإنّ ذلك غير ضارّه ولا نائله أذاه.
وللإذن في كلام العرب أوجهٍ:

منها: الأمر على غير وجه الإلزام، وغير جائزٍ أن يكون منه قوله: {وما هم بضارّين به من أحدٍ إلاّ بإذن اللّه} لأنّ اللّه جلّ ثناؤه قد حرّم التّفريق بين الرجل وحليلته بغير سحرٍ فكيف به على وجه السّحر على لسان الأمّة.
ومنها: التّخلية بين المأذون له والمخلّى بينه وبينه.
ومنها: العلم بالشّيء، يقال منه: قد أذنت بهذا الأمر، إذا علمت به، آذن به إذنًا؛ ومنه قول الحطيئة:
ألا يا هند إن جدّدت وصلاً ....... وإلاّ فأذنيني بانصرام
يعني: فأعلميني. ومنه قوله جلّ ثناؤه: {فأذنوا بحربٍ من اللّه} وهذا هو معنى الآية، كأنّه قال جلّ ثناؤه: {وما هم بضارّين} بالّذي تعلّموا من الملكين من أحدٍ إلاّ بعلم اللّه. يعني بالّذي سبق له في علم اللّه أنّه يضرّه.
- كما حدّثني المثنّى بن إبراهيم، قال: حدّثنا سويد بن نصرٍ، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن سفيان، في قوله: {وما هم بضارّين به من أحدٍ إلاّ بإذن اللّه} قال:
«بقضاء اللّه»). [جامع البيان: 2/ 361-362]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {ويتعلّمون ما يضرّهم ولا ينفعهم}.
يعني جلّ ثناؤه بقوله: {ويتعلّمون} أي النّاس الّذين يتعلّمون من الملكين، ما أنزل إليهما من المعنى الّذي يفرّقون به بين المرء وزوجه، يتعلّمون منهما السّحر الّذي يضرّهم في دينهم ولا ينفعهم في معادهم. فأمّا في العاجل في الدّنيا، فإنّهم قد كانوا يكسبون به ويصيبون به معاشًا). [جامع البيان: 2/ 362]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاقٍ}.
يعني بقوله جلّ ثناؤه: {ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاقٍ} الفريق الّذين أخبر عنهم أنهم لمّا جاءهم رسولٌ من عند اللّه مصدّقٌ لما معهم، نبذوا كتاب اللّه وراء ظهورهم كأنّهم لا يعلمون {واتّبعوا ما تتلوا الشّياطين على ملك سليمان} فقال جلّ ثناؤه: لقد علم النّابذون من يهود بني إسرائيل كتابي وراء ظهورهم تجاهلاً منهم، التّاركون العمل بما فيه، من اتّباعك يا محمّد واتّباع ما جئت به، بعد إنزالي إليك كتابي مصدّقًا لما معهم، وبعد إرسالك إليهم بالإقرار بما معهم وما في أيديهم، المؤثرون عليه اتّباع السّحر الّذي تلته الشّياطين على عهد سليمان، والّذي أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت لمن اشترى السّحر بكتابي الّذي أنزلته على رسولي فآثره عليه ما له في الآخرة من خلاقٍ.
- كما حدّثنا بشر بن معاذٍ، قال: حدّثنا يزيد بن زريعٍ، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة:
«{ولقد علموا لمن اشتراه} أى: لمن أستحبه {ما له في الآخرةٍ من خلاقٍ} يقول: قد علم ذلك أهل الكتاب في عهد اللّه إليهم أنّ السّاحر لا خلاق له عند اللّه يوم القيامة».
- حدّثنا موسى، قل: حدّثنا عمرٌو، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ:
«{ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاقٍ} يعني اليهود، يقول: لقد علمت اليهود أنّ من تعلّمه واختاره ما له في الآخرة من خلاقٍ».
- وحدّثني المثنّى، قال: حدّثنا أبو حذيفة، قال: حدّثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:
«{ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاقٍ} لمن اشترى ما يفرّق به بين المرء وزوجه».
- حدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ: {ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاقٍ} قال:
«قد علمت يهود أنّ في كتاب اللّه في التّوراة أنّ من اشترى السّحر وترك دين اللّه ما له في الآخرة من خلاقٍ، ومن لم يكن له خلاق فالنّار مثواه ومأواه».
وأمّا قوله: {لمن اشتراه} فإنّ من في موضع رفعٍ، وليس قوله: {ولقد علموا} بعاملٍ فيها؛ لأنّ قوله: {علموا} بمعنى اليمين؛ فلذلك كانت من في موضع رفعٍ، لأنّ الكلام بمعنى: واللّه لمن اشترى السّحر ما له في الآخرة من خلاقٍ.

ويكون قوله: {ولقد علموا} بمعنى اليمين أجيب بلام اليمين، فقيل: {لمن اشتراه} كما يقال: أقسم لمن قام خيرٌ ممّن قعد، وكما يقال: قد علمت لعمرٌو خيرٌ من أبيك. وأمّا (من) فهو حرف جزاءٍ.
وإنّما قيل: اشتراه ولم يقل: يشتره، لدخول لام القسم على (من)، ومن شأن العرب إذا أحدثت على حرف الجزاء لام القسم أن لا ينطقوا في الفعل معه إلاّ بـ فعل دون يفعل إلاّ قليلاً كراهية أن يحدثوا على الجزاء حادثًا؛ وهو مجزومٌ، كما قال اللّه جلّ ثناؤه: {لئن أخرجوا لا يخرجون معهم} وقد يجوز إظهار فعله بعده على يفعل مجزومًا، كما قال الشّاعر:
لئن تك قد ضاقت عليكم بيوتكم ....... ليعلم ربّي أنّ بيتي واسع
واختلف أهل التّأويل في تأويل قوله: {ما له في الآخرة من خلاقٍ}؛
فقال بعضهم: الخلاق في هذا الموضع: النّصيب. ذكر من قال ذلك:
- حدّثني المثنّى بن إبراهيم، قال: حدّثنا أبو حذيفة، قال: حدّثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ:
«{ما له في الآخرة من خلاقٍ} يقول: من نصيبٍ».
- حدّثني موسى بن هارون، قال: حدّثنا عمرٌو، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ:
«{ما له في الآخرة من خلاقٍ} من نصيبٍ».
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثني إسحاق، قال: حدّثنا وكيعٌ، قال سفيان: سمعنا في قوله: {ما له في الآخرة من خلاقٍ}:
«أنّه ما له في الآخرة من نصيبٍ».
وقال آخرون: الخلاق ههنا: الجّهة. ذكر من قال ذلك:
- حدّثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرّزّاق، قال أخبرنا معمرٌ، عن قتادة: {ما له في الآخرة من خلاقٍ} قال:
«ليس له في الآخرة جّهةٌ».
وقال آخرون: الخلاق: الدّين. ذكر من قال ذلك:
- حدّثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرّزّاق، قال: أخبرنا معمرٌ، قال: قال الحسن: {ما له في الآخرة من خلاقٍ} قال:
«ليس له دينٌ».
وقال آخرون: الخلاق ههنا: القوام. ذكر من قال ذلك:
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال، حدّثني حجّاجٌ، قال: قال ابن جريجٍ: قال ابن عبّاسٍ: {ما له في الآخرة من خلاقٍ} قال:
«قوامٌ».
وأولى هذه الأقوال بالصّواب قول من قال: معنى الخلاق في هذا الموضع: النّصيب؛ وذلك أنّ ذلك معناه في كلام العرب. ومنه قول النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم:
«ليؤيّدنّ اللّه هذا الدّين بأقوامٍ لا خلاق لهم»، يعني: لا نصيب لهم ولا حظّ في الإسلام والدّين. ومنه قول أميّة بن أبي الصّلت:
يدعون بالويل فيها لا خلاق لهم ....... إلاّ سرابيل من قطرٍ وأغلال
يعني بذلك: لا نصيب لهم ولا حظّ إلاّ السّرابيل والأغلال.
فكذلك قوله: {ما له في الآخرة من خلاقٍ} ما له في الدّار الآخرة حظٌّ من الجنّة من أجل أنّه لم يكن له إيمانٌ ولا دينٌ ولا عملٌ صالحٌ يجازى به في الجنّة ويثاب عليه، فيكون له حظٌّ ونصيبٌ من الجنّة.

وإنّما قال جلّ ثناؤه: {ما له في الآخرة من خلاقٍ} فوصفه بأنّه لا نصيب له في الآخرة، وهو يعني به لا نصيب له من جزاءٍ وثوابٍ وجنّةٍ دون نصيبه من النّار؛ إذ كان قد دلّ بذمّه جلّ ثناؤه أفعالهم الّتي نفى من أجلها أن يكون لهم في الآخرة نصيبٌ على مراده من الخير، وأنّه إنّما يعني بذلك أنّه لا نصيب لهم فيها من الخيرات، وأمّا من الشّرور فإنّ لهم منها فيها أنصباء وأنصباء). [جامع البيان: 2/ 362-367]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون}.
قد دلّلنا فيما مضى قبل على أنّ معنى شروا: باعوا؛ فمعنى الكلام إذًا: ولبئس ما باع به نفسه من تعلّم السّحر لو كان يعلم سوء عاقبته.
- كما حدّثني موسى، قال: حدّثنا عمرٌو، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ:
«{ولبئس ما شروا به أنفسهم} يقول: بئس ما باعوا به أنفسهم».
فإن قال لنا قائلٌ: وكيف قال جلّ ثناؤه: {ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون} وقد قال قبل: {ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاقٍ} فكيف يكونون عالمين بأنّ من تعلّم السّحر فلا خلاق له، وهم يجهلون أنّهم بئس ما شروا بالسّحر أنفسهم؟
قيل: معنى ذلك على غير الوجه الّذي توهّمته من أنّهم موصوفون بجهل ما هم موصوفون بالعلم به، ولكنّ ذلك من المؤخّر الّذي معناه التّقديم، وإنّما معنى الكلام: وما هم ضارّون به من أحدٍ إلاّ بإذن اللّه، ويتعلّمون ما يضرّهم ولا ينفعهم، ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون، ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاقٍ.

فقوله: {ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون} ذمٌّ من اللّه تعالى ذكره فعل المتعلّمين من الملكين التّفريق بين المرء وزوجه، وخبرٌ منه جلّ ثناؤه عنهم أنّهم بئس ما باعوا أنفسهم برضاهم بالسّحر عوضًا من دينهم الّذي به نجاة أنفسهم من الهلكة، جهلاً منهم بسوء عاقبة فعلهم وخسارة صفقة بيعهم، إذ كان قد يتعلّم ذلك منهما من لا يعرف اللّه ولا يعرف حلاله وحرامه وأمره ونهيه. ثمّ عاد إلى الفريق الّذين أخبر اللّه عنهم أنّهم نبذوا كتابه وراء ظهورهم كأنّهم لا يعلمون: واتّبعوا ما تتلو الشّياطين على ملك سليمان، وما أنزل على الملكين.
فأخبر عنهم أنّهم قد علموا أنّ من اشترى السّحر ما له في الآخرة من خلاقٍ، ووصفهم بأنّهم يركبون معاصي اللّه على علمٍ منهم بها، ويكفرون باللّه ورسله، ويؤثرون اتّباع الشّياطين، والعمل بما أحدثته من السّحر على العمل بكتابه ووحيه وتنزيله، عنادًا منهم له وبغيًا على رسله، وتعديًّا منهم لحدوده، على معرفةٍ منهم بما لمن فعل ذلك عند اللّه من العقاب والعذاب، فذلك تأويل ذلك.
وقد زعم بعض الزّاعمين أنّ قوله: {ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاقٍ} معني به الشّياطين، وأنّ قوله: {لو كانوا يعلمون} معني به النّاس.
وذلك قولٌ لقول جميع أهل التّأويل مخالفٌ؛ وذلك أنّهم مجمعون على أنّ قوله: {ولقد علموا لمن اشتراه} معنيٌّ به اليهود دون الشّياطين. ثمّ هو مع ذلك خلاف ما دلّ عليه التّنزيل، لأنّ الآيات قبل قوله: {ولقد علموا لمن اشتراه} وبعد قوله: {لو كانوا يعلمون} جاءت من اللّه بذمّ اليهود، وتوبيخهم على ضلالهم، وذهابهم عن وحي اللّه وآيات كتابه، مع علمهم بخطأ فعلهم. فقوله: {ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاقٍ} أحد تلك الأخبار عنهم.
وقال بعضهم: إنّ الّذين وصف اللّه جلّ ثناؤه بقوله: {ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون} فنفى عنهم العلم هم الّذين وصفهم اللّه بقوله: {ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاقٍ} وإنّما نفى عنهم جلّ ثناؤه العلم بقوله: {لو كانوا يعلمون} بعد وصفه إيّاهم بأنّهم قد علموا بقوله: {ولقد علموا} من أجل أنّهم لم يعملوا بما علموا، وإنّما العالم العامل بعلمه، وأمّا إذا خالف عمله علمه فهو في معاني الجهّال.

قالوا: وقد يقال للفاعل الفعل بخلاف ما ينبغي أن يفعل وإن كان بفعله عالمًا: لو علمت لأقصرت؛ كما قال كعب بن زهيرٍ المزنيّ، وهو يصف ذئبًا وغرابًا تبعاه لينالا من طعامه وزاده:
إذا حضراني قلت لو تعلما به ....... ألم تعلما أنّي من الزّاد مرمل
فأخبر أنّه قال لهما: لو تعلمانه، فنفى عنهما العلم. ثمّ استخبرهما فقال: ألم تعلما. قالوا: فكذلك قوله: {ولقد علموا لمن اشتراه} و{لو كانوا يعلمون}.
وهذا تأويلٌ وإن كان له مخرجٌ ووجهٌ فإنّه خلاف الظّاهر المفهوم بنفس الخطاب -أعني بقوله: {ولقد علموا} وقوله: {لو كانوا يعلمون}- وإنّما هو استخراجٌ. وتأويل القرآن على المفهوم الظّاهر الخطاب دون الخفيّ الباطن منه، حتّى تأتي دلالةٌ من الوجه الّذي يجب التّسليم له بمعنًى خلاف دليله الظّاهر المتعارف في أهل اللّسان الّذين بلسانهم نزل القرآن، أولى). [جامع البيان: 2/ 367-370]

قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): ({واتّبعوا ما تتلو الشّياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكنّ الشّياطين كفروا يعلّمون النّاس السّحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلّمان من أحدٍ حتّى يقولا إنّما نحن فتنةٌ فلا تكفر فيتعلّمون منهما ما يفرّقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارّين به من أحدٍ إلّا بإذن اللّه ويتعلّمون ما يضرّهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاقٍ ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون (102)}
قوله: {واتّبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان}
- حدّثنا أبو سعيدٍ الأشجّ، ثنا أبو أسامة، عن الأعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ، قال:
«قال آصف كاتب سليمان أخرجته الشّياطين فكتبوا من كلّ سطرين سحرًا وكفرًا، وقالوا: هذا الّذي كان سليمان يعمل بها». قال: «فأكفره جهّال النّاس وسبّوه، ووقف علماؤهم فلم يزل جهالهم يسبوه حتّى أنزل على محمّدٌ: {واتّبعوا ما تتلوا الشّياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكنّ الشّياطين كفروا}».
- حدّثنا عصام بن روّادٍ، ثنا آدم، ثنا المسعوديّ، عن زيادٍ مولى مصعبٍ، عن الحسن: {واتّبعوا ما تتلوا الشّياطين} قال:
«ثلث الشّعر، وثلث السّحر، وثلث الكهانة».
- أخبرنا محمّد بن سعد بن محمّد بن الحسن بن عطيّة العوفيّ فيما كتب إليّ، حدّثني أبي، ثنا عمّي الحسين، عن أبيه، عن جدّه، عن ابن عبّاسٍ:
«قوله: {واتّبعوا ما تتلوا الشّياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكنّ الشّياطين كفروا} وكان حين ذهب ملك سليمان ارتد فيام من الجنّ والإنس، واتّبعوا الشّهوات، فلمّا رجّع اللّه إلى سليمان ملكه وقام النّاس على الدّين كما كان، وإنّ سليمان ظهر على كتبهم فدفنها تحت كرسيّه، وتوفّي سليمان حدثان ذلك. فظهر الجنّ والإنس على الكتب بعد وفاة سليمان، وقالوا: هذا كتابٌ من اللّه نزل على سليمان أخفاه منّا، فأخذوه فجعلوه دينًا فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {ولمّا جاءهم رسولٌ من عند اللّه مصدّقٌ لما معهم نبذ فريقٌ من الّذين أوتوا الكتاب كتاب اللّه وراء ظهورهم كأنّهم لا يعلمون}، واتّبعوا الشهوات التي كانت الشياطين تتلو وهي المعازف واللّعب وكلّ شيءٍ يصدّ عن ذكر اللّه».
- حدّثنا عصام بن روّادٍ، ثنا آدم، عن أبي جعفرٍ، عن الرّبيع، عن أبي العالية، في قول اللّه: {واتّبعوا ما تتلوا الشّياطين} قال:
«إنّ اليهود سألوا النّبيّ -صلّى اللّه عليه وسلّم- عن السّحر وخاصموه به، فأنزل اللّه: {واتّبعوا ما تتلوا الشّياطين} إلى آخر الآية. وإنّ الشّياطين كتبوا السّحر والكهانة فدفنوه في مجلس سليمان، وكان سليمان لا يعلم الغيب، فلمّا مات سليمان استخرجوا ذلك السّحر وخدعوا النّاس به، وقالوا: هذا علمٌ كان سليمان يكتمه النّاس ويحسدهم عليه، فلمّا أخبرهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بهذه الآيات رجعوا وقد خزوا، ودحض اللّه حجّتهم».
- حدّثنا الحسن بن أحمد، ثنا إبراهيم بن عبد اللّه بن بشّارٍ الواسطيّ، حدّثني سرور بن المغيرة، عن عبّاد بن منصورٍ، عن الحسن:
«{واتّبعوا ما تتلوا الشّياطين على ملك سليمان} واتّبعته اليهود على ملكه، وكان السّحر قبل ذلك في الأرض ولم يزل بها، ولكنّه إنّما اتّبع على ملك سليمان».
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا عمرو بن حمّادٍ، ثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ: {واتّبعوا ما تتلوا الشّياطين على ملك سليمان} قال:
«كانت الشّياطين تصعد إلى السّماء فتقعد منها مقاعد للسّمع، فيسمعون كلام الملائكة فيما يكون في الأرض من موتٍ أو غيبٍ أو أمرٍ، فيأتون الكهنة فيخبرونهم، فتحدّث الكهنة النّاس فيجدونه كما قالوا، حتّى إذا أمّنتهم الكهنة كذبوا لهم فأدخلوا فيه غيره فزادوا مع كلّ كلمةٍ سبعين كلمةً، فاكتتب النّاس ذلك الحديث في الكتب، وفشا في بني إسرائيل أنّ الجنّ تعلم الغيب، فبعث سليمان في النّاس فجمع تلك الكتب فجعلها في صندوقٍ ثمّ دفنها تحت كرسيّه، ولم يكن أحد من الشياطين يستطيع أن يدنوا من الكرسيّ إلا احترق».
- حدّثنا محمّد بن العبّاس مولى بني هاشمٍ، ثنا عبد الرّحمن بن سلمة، ثنا سلمة بن إسحاق:
«{واتّبعوا ما تتلوا الشّياطين على ملك سليمان} أي: في ملك سليمان، يعني يهود الّذين قالوا ما قالوا»). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 185-186]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {وما كفر سليمان}
- حدّثنا عليّ بن حربٍ الموصليّ، ثنا القاسم بن يزيد، عن سفيان، عن حصينٍ، عن عمران السّلميّ -يعني ابن الحارث-، عن ابن عبّاسٍ، قال:
«لمّا مات سليمان بن داود قام شيطانٌ، فقال: أنا أدلّكم على كنزٍ ليس له مثله، قالوا: وأين هو؟ قال: تحت كرسيّه. قالوا: إنّ هذا لسحرٌ فتناسختها الأمم فاتّخذوها سحرًا، فأنزل اللّه عذر سليمان: {واتّبعوا ما تتلوا الشّياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان} فبقيّة تلك الأحاديث يتحدّث بها أهل العراق».
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا صفوان، ثنا الوليد، أخبرني سعيد بن بشيرٍ، عن قتادة، في قول الله: {وما كفر سليمان} قال:
«ما كان عن مشورته ولا أمره».
- حدّثنا محمّد بن العبّاس مولى بني هاشمٍ، ثنا عبد الرّحمن بن سلمة، ثنا سلمة، عن ابن إسحاق:
«{وما كفر سليمان} أي: ما علم بالسّحر، والسّحر كفرٌ لمن عمل به»). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 187]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله تعالى: {ولكنّ الشّياطين كفروا}
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا صفوان، ثنا الوليد، أخبرنا سعيد بن بشيرٍ، عن قتادة، في قول اللّه: {ولكنّ الشّياطين كفروا}:
«ولكنّه شيءٌ افتعلته الشّياطين، وذكر لنا أنّ الشّياطين ابتدعت كتبًا، وكتبت سحرًا وأمرًا عظيمًا في النّاس وعلّموهم إيّاه».
- حدّثنا الحسن بن أحمد، ثنا إبراهيم بن عبد اللّه بن بشّارٍ، حدّثني سرور بن المغيرة، عن عبّاد بن منصورٍ، عن الحسن: {ولكن الشّياطين كفروا} قال:
«اتّباع السّحر كفرٌ، وليس من دين سليمان السّحر. يقول: ولكنّ الشّياطين كفروا بتركهم دين سليمان، واتّباعهم ما تلت الشّياطين على ملكه».
- حدّثنا محمّد بن العبّاس مولى بني هاشمٍ، ثنا عبد الرّحمن بن سلمة، ثنا سلمة، عن ابن إسحاق:
«{ولكنّ الشّياطين كفروا} أي: هم الّذين صنعوا ما صنعوا»). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 187]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {يعلّمون النّاس السّحر}
- حدّثنا أبي، ثنا عثمان بن أبي شيبة، ثنا أبو معاوية، ثنا الأعمش، عن المنهال بن عمرٍو، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ:
«{يعلّمون النّاس السحر} يعني الصحف التي دفنوها»). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 187]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {وما أنزل على الملكين}
[الوجه الأول]
- حدّثنا أبي، ثنا أبو صالحٍ، حدّثني معاوية، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: {وما أنزل على الملكين} قال:
«التّفريق بين المرء وزوجه».
الوجه الثّاني:
- أخبرنا محمّد بن سعد بن عطيّة فيما كتب إليّ، حدّثني أبي، ثنا عمّي، حدّثني أبي، عن أبيه، عن ابن عبّاسٍ:
«قوله: {وما أنزل على الملكين} فإنّه يقول: لم ينزل اللّه السّحر».
- حدّثنا عصام بن روّادٍ، ثنا آدم، عن أبي جعفرٍ، عن الرّبيع بن أنسٍ، عن أبي العالية، قال: قال اللّه: {وما أنزل على الملكين} قال:
«لم ينزل عليهما السّحر، يقول: علما الإيمان والكفر. فالسّحر من الكفر. فهما ينهيان عنه أشدّ النّهي».
وروي عن خالد بن أبي عمران، والرّبيع بن أنسٍ نحو ذلك). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 188]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {على الملكين}
[الوجه الأول]
- حدّثت عن عبيد اللّه بن موسى، ثنا فضيل بن مرزوقٍ، عن عطيّة: {وما أنزل على الملكين} قال:
«ما أنزل على جبريل وميكائيل السّحر».
الوجه الثّاني:
- حدّثنا الفضل بن شاذان، ثنا محمّد بن عيسى، ثنا معلّى بن أسدٍ، ثنا بكر بن مصعبٍ، ثنا الحسن بن أبي جعفرٍ، أنّ عبد الرّحمن بن أبزى كان يقرؤها: (وما أنزل على الملكين داود وسليمان).
الوجه الثّالث:
- حدّثنا الفضل بن شاذان، ثنا محمّد بن عيسى، ثنا إبراهيم بن موسى، أنبأ أبو معاوية، عن ابن أبي خالدٍ، عن عمير بن سعيدٍ، عن عليٍّ، قال:
«هما ملكان من ملائكة السّماء»، يعني: {وما أنزل على الملكين}.
الوجه الرّابع:
- حدّثنا محمّد بن عمّارٍ، ثنا إبراهيم بن موسى، أنبأ أبي معاوية، عن شعيب بن كيسان، عن ثابتٍ، عن الضّحّاك، في قوله: {وما أنزل على الملكين} قال: كان الضّحّاك يقرؤها: (الملكين)، قال:
«هما علجان من أهل بابل»). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 188-189]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {ببابل}
- حدّثنا عليّ بن الحسين، ثنا أحمد بن صالحٍ، ثنا ابن وهبٍ، حدّثني ابن لهيعة ونحيى بن أزهر، عن عمّار بن سعدٍ المراديّ، عن أبي صالحٍ الغفاريّ، أنّ عليّ بن أبي طالبٍ قال:
«إنّ حبيبي -صلّى اللّه عليه وسلّم- نهاني أن أصلّي ببابل فإنّها ملعونةٌ»). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 189]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {هاروت وماروت}
- حدّثنا أبي، ثنا هشام بن عبيد اللّه، ثنا ابن المبارك، عن معروفٍ المكيّ، عمّن سمع أبا جعفر بن عليٍّ يقول:
«السّجلّ ملكٌ. وكان هاروت وماروت أعوانه».
- حدّثنا عصام بن روّادٍ، ثنا آدم، ثنا أبو جعفرٍ، ثنا الرّبيع بن أنسٍ، عن قيس بن عبّادٍ، عن ابن عبّاسٍ، قال:
«لمّا وقع النّاس من بعد آدم فيما وقعوا فيه من المعاصي والكفر باللّه، قالت الملائكة في السّماء: يا ربّ هذا العالم الّذي إنّما خلقتهم لعبادتك وطاعتك وقد وقعوا فيما وقعوا فيه، وارتكبوا الكفر وقتل الأنفس وأكل مال الحرام والزّنا والسّرقة وشرب الخمر، فجعلوا يدعون عليهم ولا يعذرونهم، فقيل: إنّهم في غيبٍ فلم يعذروهم،
فقيل لهم: اختاروا منكم من أفضلكم ملكين آمرهما وأنهاهما، فاختاروا هاروت وماروت فأهبطا إلى الأرض، وجعل لهم شهوات بني آدم وأمرهما اللّه أن يعبداه ولا يشركا به شيئًا، ونهيا عن قتل النّفس الحرام وأكل مال الحرام وعن الزّنا والسّرقة وشرب الخمر، فلبثا في الأرض زمانًا يحكمان بين النّاس بالحقّ، وذلك في زمان إدريس،
وفي ذلك الزّمان امرأةٌ حسنها في النّساء كحسن الزّهرة في سائر الكواكب، وإنّهما أتيا عليها فخضعا لها القول، وأراداها على نفسها فأبت إلا أن يكونا على أمرها وعلى دينها، فسألا عن دينها فأخرجت لهما صنما، فقالت: هذا أعبده، فالا: لا حاجة لنا في عبادة هذا، فذهبا فغبّرا ما شاء اللّه، ثمّ أتيا عليها فأراداها على نفسها، ففعلت مثل ذلك، فذهبا ثمّ أتيا عليها فأراداها على نفسها، فلمّا رأت أنّهما قد أبيا أن يعبدا الصّنم، قالت لهما: فاختارا أحد الخلال الثّلاث. إمّا أن تعبدا الصّنم، وإمّا أن تقتلا هذه النّفس، وإمّا أن تشربا هذا الخمر، فقالا: كلّ هذا لا ينبغي، وأهون هذا شرب الخمر، فشربا الخمر فأخذت فيهما، فواقعا المرأة فخشيا أن تخبر الإنسان عنهما فقتلاه،
فلمّا ذهب عنهما السّكر، وعلما ما وقعا به من الخطيئة أراد أن يصعدا إلى السّماء فلم يستطيعا وحيل بينهما وبين ذلك، وكشف الغطاء فيما بينهما وبين أهل السّماء، فنظرت الملائكة إلى ما وقعا فيه من الخطيئة فعجبوا كلّ العجب، وعرفوا أنّه كان في غيبٍ فهو أقلّ خشيةً فجعلوا بعد ذلك يستغفرون لمن في الأرض، فنزل في ذلك: {والملائكة يسبّحون بحمد ربّهم ويستغفرون لمن في الأرض}، فقيل لهما اختارا عذاب الدّنيا، أو عذاب الآخرة، فقالا: أمّا عذاب الآخرة فلا انقطاع له، وأمّا عذاب الدّنيا فإنّه ينقطع ويذهب فاختارا عذاب الدّنيا، فجعلا ببابل فهما يعذّبان».
- حدّثنا أحمد بن عصامٍ الأنصاريّ، ثنا مؤمّلٌ، ثنا سفيان الثّوريّ، ثنا موسى بن عقبة، عن سالمٍ، عن ابن عمر، عن كعبٍ، قال:
«ذكرت الملائكة أعمال بني آدم وما يأتون من الذّنوب، فقيل لهم: اختاروا منكم اثنين، فاختاروا هاروت وماروت، فقال لهما: اهبطا إلى الأرض، وإنّي لمرسلٌ إلى بني آدم رسلا، وليس بيني وبينكما رسولٌ، لا تشركا بي شيئًا، ولا تزنيان ولا تشربان الخمر».
قال كعبٌ: «فما أمسيا من يومهما الّذي أهبطا فيه إلى الأرض حتّى استكملا جميع ما حرّم عليهما».
- حدّثنا أبي، ثنا عبد اللّه بن جعفرٍ الرّقّيّ، ثنا عبيد اللّه -يعني ابن عمر-، عن زيد بن أبي أنيسة، عن المنهال بن عمرٍو ويونس بن خبّابٍ، عن مجاهدٍ، قال: كنت نازلا على عبد اللّه بن عمر في سفرٍ، فلمّا كان ذات ليلةٍ قال لغلامه:
«انظر طلعت الحمراء لا مرحبًا بها ولا أهلا ولا حيّاها اللّه هي صاحبة الملكين، قالت الملائكة: ربّ كيف تدع عصاة بني آدم وهم يسفكون الدّم الحرام، وينتهكون محارمك، ويفسدون في الأرض؟ قال: إنّي قد ابتليتهم فلعلّي إن ابتليتكم بمثل الّذي ابتليتهم به فعلتم كالذي يفعلون قالوا: لا. قال: فاختاروا من خياركم اثنين، فاختاروا هاروت وماروت فقال لهما: إنّي مهبطكما إلى الأرض وعاهدٌ إليكما أن لا تشركا ولا تزنيا، ولا تخونا. فأهبطا إلى الأرض، وألقى عليهما الشّبق،
وأهبطت لهما الزّهرة في أحسن صورة امرأةٍ فتعرّضت لهما فأراداها عن نفسهما، فقالت: إنّي على دينٍ لا يصلح لأحدٍ أن يأتيني إلا من كان على مثله. قالا: وما دينك؟ قالت: المجوسيّة. قالا: الشّرك هذا شيء لا نقربه. فمكثت عنهما ما شاء اللّه ثمّ تعرّضت لهما، فأراداها عن نفسهما، فقالت: ما شئتما غير أنّ لي زوجًا وأنا أكره أن يطّلع على هذا منّي فأفتضح فطن أقررتما لي بديني وشرطما لي أن تصعدا إلى السماء فعلت. فأقراها بدينها وأتياها فيما يريان ثمّ صعدا بها إلى السّماء، فلمّا انتهيا بها إلى السّماء اختطفت منهما وقطعت أجنحتها فوقعا خائفين نادمين يبكيان،
وفي الأرض نبي يدعوا بين الجمعتين، فإذا كان يوم الجمعة أجيب. فقالا: لو أتينا فلانًا فسألناه يطلب لنا التّوبة فأتياه، فقال: رحمكما اللّه كيف يطلب أهل الأرض لأهل السّماء؟! قالا: إنّا قد ابتلينا. قال: ائتياني في يوم الجمعة. فأتياه فقال: ما أجبت فيكما بشيءٍ إئتياني في الجمعة الثّانية. فأتياه فقال: اختارا فقد خيّرتما إن أحببتما معاقبة الدّنيا وعذاب الآخرة، وإن أحببتما فعذاب الدّنيا وأنتما يوم القيامة على حكم اللّه، فقال أحدهما: الدّنيا لم يمض منها إلا قليلٌ. وقال الآخر: ويحك إنّي قد أطعتك في الأمر الأوّل فأطعني الآن. إنّ عذابًا يفنى ليس كعذابٍ يبقى. وإنّنا يوم القيامة على حكم اللّه. فأخاف أن يعذّبنا، قال لا: إنّي لأرجو إن علم اللّه أنّا قد اخترنا عذاب الدّنيا مخافة عذاب الآخرة أن لا يجمعهما علينا».
قال: «فاختاروا عذاب الدّنيا، فجعلا في بكراتٍ من حديد في قليب مملوءة من نار عليهما سفلهما».
- حدّثنا أبي، ثنا مسلمٌ، ثنا القاسم بن الفضل الحدّانيّ، ثنا يزيد -يعني الفارسيّ-، عن ابن عبّاسٍ، قال:
«إنّ أهل السّماء الدّنيا أشرفوا على أهل الأرض فرأوهم يعملون بالمعاصي، فقالوا: يا ربّ، أهل الأرض يعملون بالمعاصي، فقال اللّه تعالى: أنتم معي، وهم غيّبٌ عنّي، فقيل لهم: اختاروا منكم ثلاثةً، فاختاروا منهم ثلاثةً على أن يهبطوا إلى الأرض على أن يحكموا بين أهل الأرض، وجعل فيهم شهوة الآدميّين، فأمروا أن لا يشربوا خمرًا ولا يقتلوا النّفس ولا يزنوا ولا يسجدوا لوثنٍ، فاستقال منهم واحدٌ فأقيل، فأهبط اثنان إلى الأرض فأتتهما امرأةٌ من أحسن النّاس يقال لها: مناهيد فهوياها جميعًا. ثمّ أتيا منزلها فاجتمعا عندها فأراداها، فقالت: لا حتى تشربا خمري، وتقتلا ابن جاري وتسجدا لوثني، فقالا: لا نسجد، ثمّ شربا الخمر ثمّ قتلا ثمّ سجدا، فأشرف أهل السّماء عليهما. وقالت لهما: أخبراني بالكلمة الّتي إذا قلتماها طرتما فأخبراها فطارت فمسخت جمرةً وهي هذه الزّهرة. وأمّا هما فأرسل إليهما سليمان بن داود فخيّرهما بين عذاب الدّنيا وعذاب الآخرة، فاختاروا عذاب الدّنيا فهما مناطان بين السّماء والأرض».
- حدّثنا الحسين بن الحسن، ثنا إبراهيم بن عبد اللّه الهرويّ، ثنا حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، قال: قال مجاهدٌ:
«شأن هاروت وماروت أن عجبت الملائكة من ذنوب بني آدم وقد جاءتهم الرّسل بالكتب، فقال لهم ربّهم: اختاروا منكم اثنين أنزلهما يحكمان في الأرض، فكانا هاروت وماروت، فحكما فعدلا، حتّى أنزلت عليهما الزّهرة في صورة أحسن امرأةٍ تخاصم، فقالا لها: ائتينا في البيت فكشفا عن عورتهما وافتتنا، فطارت الزّهرة فرجعت الزّهرة حيث كانت، فعرجا إلى السّماء فزجرا، فاستشفعا برجلٍ من بني آدم»). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 189-192]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {وما يعلّمان من أحدٍ}
- حدّثنا عصام بن روّادٍ العسقلانيّ، ثنا آدم، ثنا أبو جعفرٍ، ثنا الرّبيع بن أنسٍ، عن قيس بن عبّادٍ، عن ابن عبّاسٍ، في قوله: {وما يعلّمان من أحدٍ حتّى يقولا إنّما نحن فتنةٌ فلا تكفر}:
«وذلك أنّهما علما الخير والشّرّ والكفر والإيمان، فعرفا أنّ السّحر من الكفر».
- حدّثنا الحسن بن أحمد، ثنا إبراهيم بن عبد اللّه بن بشّارٍ، حدّثني سرور بن المغيرة، عن عبّاد بن منصورٍ، عن الحسن قوله: {وما يعلّمان من أحدٍ حتّى يقولا إنّما نحن فتنةٌ فلا تكفر} فقال: نعم، أنزل الملكين بالسّحر ليعلّموا النّاس البلاء الّذي أراد اللّه أن يبتلي به النّاس، فأخذ عليهما الميثاق أن لا يعلّمان أحدًا حتّى يقولا إنّما نحن فتنةٌ فلا تكفر. وهما يفعلان لا يعلّمان أحدًا حتّى يقولا: إنّما نحن فتنةٌ فلا تكفر). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 192]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {حتّى يقولا إنّما نحن فتنةٌ فلا تكفر}
- حدّثنا عصام بن روّادٍ، ثنا آدم، ثنا أبو جعفرٍ، عن قتادة، قال:
«كان أخذ عليهما أن لا يعلّما أحدًا حتّى يقولا: إنّما نحن فتنةٌ، أي: بلاءٌ ابتلينا به، فلا تكفر»). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 192]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {فيتعلّمون منهما}
- حدّثنا أبي، ثنا النّفيلي، ثنا يونس بن راشدٍ، عن خصيفٍ، عن مجاهدٍ وعكرمة، عن ابن عبّاسٍ، قال:
«الملكان يعلّمان النّاس الفرقة».
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا عمرو بن حمّادٍ بن طلحة، ثنا أسباط بن نصرٍ، عن السّدّيّ، قال:
«إنّ الملائكة فيما بينهم إذا علّمته الإنس فصنع وعمل به كان سحرًا»). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 193]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {ما يفرّقون به بين المرء وزوجه}
- حدّثنا عصام بن روّادٍ، ثنا آدم، ثنا أبو جعفرٍ، عن قتادة:
«{فيتعلّمون منهما ما يفرّقون به بين المرء وزوجه} وتفريقهم أن يمسكوا كلّ واحدٍ منهما عن صاحبه، ويبغّضوا كلّ واحدٍ منهما إلى صاحبه».
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا صفوان، ثنا الوليد، أخبرنا سعيد بن بشيرٍ، عن قتادة، في قول اللّه: {فيتعلّمون منهما ما يفرّقون به بين المرء وزوجه}:
«يؤخذان أحدهما عن صاحبه، ويعطفان واحدًا منهما إلى صاحبه»). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 193]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {وما هم بضارّين به من أحد إلا بإذن الله}
[الوجه الأول]
- حدّثنا الحسن بن محمّد بن الصّبّاح، ثنا سعيد بن سليمان، ثنا سلام بن مسكينٍ، قال: سمعت الحسن يقول في قوله: {وما هم بضارّين به من أحدٍ إلّا بإذن اللّه} قال:
«لا يضرّ هذا السّحر إلا من دخل فيه».
الوجه الثّاني:
- حدّثنا الحسن بن أحمد، ثنا إبراهيم بن عبد اللّه بن بشّارٍ، حدّثني سرور بن المغيرة، عن عبّاد بن منصورٍ، عن الحسن: قوله: {وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن اللّه} قال:
«نعم من شاء اللّه سلّطهم عليه، ومن لم يشأ اللّه لم يسلّط، ولا يستطيعون ضرّ أحدٍ إلا بإذن اللّه، كما قال اللّه تبارك وتعالى»). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 193]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {إلا بإذن اللّه}
- حدّثنا عليّ بن الحسين، ثنا محمّد بن عيسى، ثنا سلمة، عن ابن إسحاق:
«{وما هم بضارّين به من أحدٍ إلا بإذن اللّه} أي: بتخلية اللّه بينه وبين ما أراد».
- حدّثنا عبد المؤمن بن سعيد بن ناصحٍ الرّازيّ، ثنا حبّان بن موسى المروزيّ، ثنا عبد اللّه بن المبارك، ثنا سفيان، في قوله: {وما هم بضارّين به من أحدٍ إلا بإذن اللّه} قال:
«بقضاء اللّه»). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 193-194]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {ويتعلّمون ما يضرّهم ولا ينفعهم}
- حدّثنا عصام بن روّادٍ، ثنا آدم، ثنا أبو جعفرٍ، ثنا الرّبيع بن أنسٍ، عن قيس بن عبّادٍ، عن ابن عبّاسٍ، قال:
«إنّ هاروت وماروت أهبطا إلى الأرض فإذا أتاهما الآتي يريد السّحر نهياه أشدّ النّهي، فإذا أبى عليهما أمراه أن يأتي مكان كذا وكذا، فإذا أتاه عاين الشّيطان فعلّمه، فإذا تعلّمه خرج منه النّور فنظر إليه ساطعًا في السّماء، فيقول: يا حسرتاه يا ويله ماذا صنع».
- حدّثنا الرّبيع بن سليمان إملاءً، ثنا عبد اللّه بن وهبٍ، حدّثني ابن أبي الزّناد، حدّثني هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، أنّها قالت:
«قدمت عليّ امرأةٌ من أهل دومة الجندل تبتغي رسول اللّه -صلّى اللّه عليه وسلّم- بعد موته حداثة ذلك، تسأله عن شيءٍ دخلت فيه من أمر السّحر ولم تعمل به. قالت: وقفنا ببابل فإذا برجلين معلّقين بأرجلهما. فقالا: ما جاء بك؟ فقلت: أتعلّم السّحر. فقالا: إنّما نحن فتنةٌ فلا تكفري وارجعي فأبيت، وقلت: لا. قالا: فاذهبي إلى ذلك التّنّور فبولي فيه، فذهبت ففزعت ولم تفعل فرجعت إليهما. فقالا: أفعلت؟ فقلت: نعم. فقالا: هل رأيت شيئًا، قلت: لم أر شيئًا، فقالا: لم تفعلي ارجعي إلى بلدك ولا تكفري، فأربت وأبيت، فقالا: اذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه ثم ائت، فذهبت فاقشعرّ جلدي وخفت، ثمّ رجعت إليهما فقلت: قد فعلت. قالا: ما رأيت؟ فقلت: لم أر شيئًا، فقالا: كذبت لم تفعلي ارجعي إلى بلادك ولا تكفري فإنّك على رأس أمرك، فأربت وأبيت، وقالا: اذهبي إلى ذلك التّنّور فبولي فيه، فذهبت فبولت فيه، فرأيت فارسًا متقنّعًا بحديدٍ خرج منّي حتّى ذهب في السّماء، وغاب عنّي حتّى ما أراه، وجئتهما فقلت: قد فعلت. فقالا: ما رأيت؟ فقلت: رأيت فارسًا مقنّعًا خرج منّي فذهب في السّماء حتّى ما أراه. قالا: صدقت ذلك إيمانك خرج منك، اذهبي»). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 194]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {ولقد علموا}
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا صفوان، ثنا الوليد، أخبرنا سعيد بن بشيرٍ، عن قتادة، في قول اللّه: {ولقد علموا لمن اشتراه}:
«وقد علم أهل الكتاب فيما يقرءون من كتاب اللّه»،
قال أبو محمّدٍ: وروي عن الرّبيع بن أنسٍ نحو ذلك). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 195]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {لمن اشتراه}
- حدّثنا محمّد بن يحيى، أنبأ العبّاس بن الوليد، ثنا يزيد، ثنا سعيدٌ، عن قتادة:
«قوله: {ولقد علموا لمن اشتراه} أي: استحبّه».
- حدّثنا أبي، ثنا أبو حذيفة، ثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ:
«قوله: {ولقد علموا لمن اشتراه} اشترى ما يفرّق به بين المرء وزوجه»). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 195]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {ما له في الآخرة من خلاقٍ}
- حدّثنا عصام بن روّادٍ، ثنا آدم، ثنا أبو جعفرٍ، ثنا الرّبيع بن أنسٍ، عن قيس بن عبّادٍ، عن ابن عبّاسٍ: قوله: {ما له في الآخرة من خلاقٍ} قال:
«من نصيبٍ».
وروي عن مجاهدٍ، والسّدّيّ نحو ذلك.
- حدّثنا الحسن بن أبي الرّبيع، أنبأ عبد الرّزّاق، أنبأ معمرٌ، عن قتادة، في قوله: {ما له في الآخرة من خلاقٍ} قال:
«ليس له في الآخرة جهةٌ عند اللّه».
- قال معمرٌ: وقال الحسن:
«ليس له دينٌ».
- حدّثنا الحسن بن محمّد بن الصّبّاح، ثنا عبد الوهّاب، عن سعيدٍ، عن قتادة: {ما له في الآخرة من خلاقٍ} قال:
«وقد علم أهل الكتاب فيما عهد اللّه إليهم أنّ السّاحر لا خلاق له في الآخرة»). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 195]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون}
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا عمرو بن حمّاد بن طلحة، ثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ:
«{ولبئس ما شروا به أنفسهم} يعني: اليهود، يقول: بئس ما باعوا به أنفسهم»). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 195]
قال محمدُ بنُ عبدِ اللهِ الحاكمُ النَّيْسابوريُّ (ت: 405هـ): (أخبرنا أبو زكريّا العنبريّ، ثنا محمّد بن عبد السّلام، ثنا إسحاق بن إبراهيم، أنبأ جريرٌ، عن حصين بن عبد الرّحمن، عن عمران بن الحارث، قال: بينا نحن عند ابن عبّاسٍ إذ جاءه رجلٌ، فقال: «من أين جئت؟» قال: من العراق قال: «من أيّهم؟» قال: من الكوفة قال: «فما الخبر؟» قال: تركتهم وهم يتحدّثون أنّ عليًّا خارجٌ عليهم، فقال: «ما تقول لا أبا لك لو شعرنا ذلك ما أنكحنا نساءه، ولا قسمنا ميراثه»، ثمّ قال:«أنا سأحدّثك عن ذلك إنّ الشّياطين كانوا يسترقون السّمع، وكان أحدهم يجيء بكلمة حقٍّ قد سمعها النّاس، فيكذب معها سبعين كذبةً، فيشربها قلوب النّاس، فأطلع اللّه على ذلك سليمان بن داود فأخذها فدفنها تحت الكرسيّ، فلمّا مات سليمان قام شيطانٌ بالطّريق، فقال: ألا أدلّكم على كنز سليمان الّذي لا كنز لأحدٍ مثل كنزه الممتنع؟ قالوا: نعم فأخرجوه فإذا هو سحرٌ فتناسختها الأمم فبقاياها ممّا يتحدّث به أهل العراق، فأنزل اللّه عذر سليمان، فقال: {واتّبعوا ما تتلوا الشّياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكنّ الشّياطين كفروا} الآية»، هذا حديثٌ ............ ). [المستدرك: 2/ 291]
قال محمدُ بنُ عبدِ اللهِ الحاكمُ النَّيْسابوريُّ (ت: 405هـ): (محمّد بن عقبة الشّيبانيّ بالكوفة، نا إبراهيم بن إسحاق الزّهريّ، نا يعلى بن عبيدٍ، نا إسماعيل بن أبي خالدٍ، عن عمير بن سعيدٍ النّخعيّ، قال: سمعت عليًّا رضي اللّه عنه، يخبر القوم:
«أنّ هذه الزّهرة تسمّيها العرب الزّهرة، وتسمّيها العجم أناهيد، وكان الملكان يحكمان بين النّاس، فأتتهما، فأرادها كلّ واحدٍ منهما عن غير علم صاحبه، فقال أحدهما لصاحبه: يا أخي إنّ في نفسي بعض الأمر، أريد أن أذكره لك. قال: اذكره يا أخي لعلّ الّذي في نفسي، مثل الّذي في نفسك، فاتّفقا على أمرٍ في ذلك، فقالت لهما المرأة: ألا تخبراني بما تصعدان إلى السّماء، وبما تهبطان إلى الأرض. فقالا: باسم اللّه الأعظم به نهبط، وبه نصعد، فقالت: ما أنا بمؤاتيتكما الّذي تريدان حتّى تعلّمانيه. فقال أحدهما لصاحبه: علّمها إيّاه. فقال: كيف لنا بشدّة عذاب اللّه؟ قال الآخر: إنّا نرجو سعة رحمة اللّه، فعلّمه إيّاها، فتكلّمت به، فطارت إلى السّماء، ففزع ملكٌ في السّماء لصعودها، فطأطأ رأسه، فلم يجلس بعد، ومسخها اللّه فكانت كوكبًا»). [المستدرك: 2/ 291]
قال محمدُ بنُ عبدِ اللهِ الحاكمُ النَّيْسابوريُّ (ت: 405هـ): (فحدّثنا أبو عبد اللّه محمّد بن يعقوب الحافظ، ثنا إبراهيم بن عبد اللّه التّميميّ، أنبأ يزيد بن هارون، أنبأ سليمان التّيميّ، عن أبي عثمان، عن ابن عبّاسٍ رضي اللّه عنهما، قال: «كانت الزّهرة امرأةً في قومها يقال لها بيدحة»، قال الحاكم: «الإسنادان صحيحان على شرط الشّيخين، والغرض في إخراج الحديثين ذكر هاروت، وماروت وما سبق من قضاء اللّه فيهما، وللزّهرة» ). [المستدرك: 2/ 292]
قال أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل البوصيري (ت: 840هـ) : (وقال أبو بكر بن أبي شيبة: ثنا يحيى بن أبي بكيرٍ، عن زهير بن محمّدٍ، عن موسى بن جبيرٍ، عن نافعٍ مولى عبد اللّه بن عمر، عن عبد اللّه بن عمر- رضي اللّه عنهما- أنّه سمع النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم يقول:
«أنّ آدم لمّا أهبطه اللّه إلى الأرض قالت الملائكة: أي ربّ، أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك؟ قال: إنّي أعلم ما لا تعلمون. قالوا: ربّنا نحن أطوع لك من بني آدم».
قال:
«فقال للملائكة: فهلمّوا ملكين من الملائكة حتّى يهبطا إلى الأرض فننظر كيف يعملون. قالوا: ربّنا هاروت وماروت».
قال:
«فاهبطا إلى الأرض. فتمثّلت لهما الزّهرة امرأة من أحسن البشر فجاءاها فسألاها نفسها، فقالت: لا واللّه حتّى تكلّما بهذه الكلمة من الإشراك. قالا: لا واللّه لا نشرك باللّه أبدًا. فذهبت عنهما ثمّ رجعت بصبيٍّ تحمله فسألاها نفسها، فقالت: لا واللّه حتّى تقتلا هذا الصّبيّ. فقالا: لا واللّه لا نقتله أبدًا. فذهبت ثمّ رجعت بقدحٍ من خمرٍ تحمله فسألاها نفسها فقالت: لا واللّه حتّى تشربا هذا الخمر. فشربا فسكرا فوقعا عليها وقتلا الصّبيّ، فلمّا أفاقا قالت المرأة: واللّه ما تركتما شيئًا أبيتما عليّ إلّا وقد فعلتماه حين سكرتما. فخيّرا عند ذلك عذاب الآخرة أو الدّنيا فاختارا عذاب الدّنيا».
- رواه عبد بن حميدٍ: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ... فذكره.
ورواه الحاكم وصححه، وسيأتي بطرقه في كتاب صفة النار في باب من اختار عذاب الدنيا على عذاب الآخرة.
- ورواه ابن حبّان في صحيحه: ثنا الحسن بن سفيان، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ... فذكره). [إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة: 6/ 177-178]
قال أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل البوصيري (ت: 840هـ) : (قال إسحاق: وأبنا جرير عن، إسماعيل بن أبي خالدٍ، عن عمير بن سعيدٍ: سمعت عليًّا- رضي اللّه عنه- يخبر القوم:
«أنّ هذه الزّهرة تسمّيها العرب: الزّهرة، وتسميها العجم: أناهيد، فكان الملكان يحكمان بين النّاس فأتتهما، كلّ واحدٍ منهما عن غير علم صاحبه، فقال أحدهما لصاحبه: إنّ في نفسي بعض الأمر، أريد أن أذكره لك. قال: اذكره يا أخي، لعلّ الّذي في نفسي مثل الّذي في نفسك. فاتّفقا على أمرٍ في ذلك، فقالت لهما: حتّى تخبراني بما تصعدان به إلى السّماء وبما تهبطان به إلى الأرض قالا: بسم اللّه الأعظم نهبط وبه نصعد. فقالت: ما أنا بمؤاتيتكما الذي تريدان حتى تعلمانيه. فقال أحدهما لصاحبه: علّمها إيّاه. فقال: كيف لنا بشدّة عذاب اللّه؟! فقال الأخر: إنّا لنرجوا سعة رحمة الله. فعلمها إياه، فتكلمت به فطارت إلى السّماء ففزع ملكٌ لصعودها فطأطأ رأسه فلم يجلس بعد، ومسخها اللّه فكانت كوكبًا في السّماء»). [إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة: 6/ 179]
قال أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل البوصيري (ت: 840هـ) : (قال إسحاق: وثنا عيسى بن يونس، عن إسرائيل، عن جابرٍ، عن أبي الطّفيل، عن عليّ بن أبي طالبٍ -رضي اللّه عنه- عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال:
«لعن اللّه سهيلًا كان عشارًا باليمن فمسخ، ولعن اللّه الزّهرة فإنّها فتنت الملكين».
قلت: جابر هو الجعفيّ ضعيفٌ). [إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة: 6/ 180]
قال أحمدُ بنُ عَلَيِّ بنِ حجرٍ العَسْقَلانيُّ (ت: 852هـ) : (أخبرنا جريرٌ، عن إسماعيل ابن أبي خالدٍ، عن عمير بن سعيدٍ، قال: (سمعت) عليًّا رضي الله عنه، يخبر القوم:
«أنّ هذه الزّهرة تسمّيها العرب الزّهرة، وتسمّيها العجم (أناهيد)، فكان الملكان يحكمان بين النّاس، فأتتهما كلّ واحدٍ منهما عن غير علم صاحبه، فقال أحدهما لصاحبه: يا أخي إنّ في نفسي بعض الأمر، أريد أن أذكره لك، قال: اذكره يا أخي، لعلّ الّذي في نفسي مثل الّذي في نفسك، فاتّفقا على أمرٍ في ذلك، فقالت لهما: لا حتّى تخبراني بما تصعدان به إلى السّماء، وما تهبطان به إلى الأرض، قالا: بسم اللّه الأعظم نهبط، وبه نصعد، فقالت: ما أنا بمواتيتكما الّذي تريدان حتّى تعلّمانيه، فقال أحدهما لصاحبه: علّمها إيّاه، قال: كيف لنا بشدّة عذاب اللّه، فقال الآخر: إنّا نرجو سعة رحمة اللّه (عز وجل)، (فعلماها) إيّاه، فتكلّمت به، فطارت إلى السّماء، ففزع ملكٌ لصعودها، فطأطأ رأسه، فلم (يجلس) بعد، ومسخها اللّه تعالى، فكانت كوكبًا»). [المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية: 14/ 451-452]
قال أحمدُ بنُ عَلَيِّ بنِ حجرٍ العَسْقَلانيُّ (ت: 852هـ) : (أخبرنا عيسى بن يونس عن إسرائيل، عن جابرٍ، عن أبي الطّفيل، عن عليّ ابن أبي طالبٍ رضي الله عنه، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال:
«لعن اللّه سهيلًا، كان عشّارًا باليمن، فمسخ، ولعن اللّه الزّهرة، فإنّها فتنت الملكين»). [المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية: 14/ 458]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (قوله تعالى: {واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون}.
- أخرج سفيان بن عينية وسعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم والحاكم وصحه، عن ابن عباس، قال:
«إن الشياطين كانوا يسترقون السمع من السماء، فإذا سمع أحدهم بكلمة حق كذب عليها ألف كذبة، فاشربتها قلوب الناس واتخذوها دواوين، فاطلع الله على ذلك سليمان بن داود، فأخذها فقذفها تحت الكرسي، فلما مات سليمان قام شيطان بالطريق فقال: ألا أدلكم على كنز سليمان الذي لا كنز لأحد مثل كنزه الممنع، قالوا: نعم، فأخرجوه فإذا هو سحر فتناسخها الأمم، وأنزل الله عذر سليمان فيما قالوا من السحر فقال: {واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان} الآية».
- وأخرج النسائي، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، قال:
«كان آصف كاتب سليمان، وكان يعلم الاسم الأعظم، وكان يكتب كل شيء بأمر سليمان ويدفنه تحت كرسيه، فلما مات سليمان أخرجته الشياطين فكتبوا بين كل سطرين سحرا وكفرا، وقالوا: هذا الذي كان سليمان يعمل به، فاكفره جهال الناس وسبوه ووقف علماؤهم، فلم يزل جهالهم يسبونه حتى أنزل الله على محمد: {واتبعوا ما تتلوا الشياطين}».
- وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس، قال:
«لما ذهب ملك سليمان ارتد فئام من الجن والإنس واتبعوا الشهوات، فلما رجع إلى سليمان ملكه وقام الناس على الدين ظهر على كتبهم فدفنها تحت كرسيه وتوفي حدثان ذلك، فظهر الجن والإنس على الكتب بعد وفاة سليمان، وقالوا: هذا كتاب من الله نزل على سليمان أخفاه عنا، فأخذوه فجعلوه دينا، فأنزل الله: {واتبعوا ما تتلوا الشياطين} أي: الشهوات التي كانت الشياطين تتلو، وهي المعازف واللعب وكل شيء يصد عن ذكر الله».
- وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس، قال:
«كان سليمان إذا أراد أن يدخل الخلاء أو يأتي شيئا من شأنه أعطى الجرادة -وهي امرأته- خاتمه، فلما أراد الله أن يبتلي سليمان بالذي ابتلاه به أعطى الجرادة ذلك اليوم خاتمه فجاء الشيطان في صورة سليمان فقال لها: هاتي خاتمي، فأخذه فلبسه فلما لبسه دانت له الشياطين والجن والإنس فجاءها سليمان فقال: هاتي خاتمي، فقالت: كذبت لست سليمان، فعرف أنه بلاء ابتلي به، فانطلقت الشياطين فكتبت في تلك الأيام كتبا فيها سحر وكفر، ثم دفنوها تحت كرسي سليمان، ثم أخرجوها فقرؤوها على الناس، وقالوا: إنما كان سليمان يغلب الناس بهذه الكتب، فبرىء الناس من سليمان وأكفروه، حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه: {وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا}».
- وأخرج ابن جرير، عن شهر بن حوشب، قال: قال اليهود:
«انظروا إلى محمد يخلط الحق بالباطل، يذكر سليمان مع الأنبياء، إنما كان ساحرا يركب الريح، فأنزل الله: {واتبعوا ما تتلوا الشياطين} الآية».
- وأخرج ابن جرير، وابن ابي حاتم، عن أبي العالية، قال:
«إن اليهود سألوا النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- زمانا عن أمور من التوراة، لا يسألونه عن شيء من ذلك إلا أنزل الله عليه ما سألوا عنه فيخصمهم، فلما رأوا ذلك قالوا: هذا أعلم بما أنزل علينا منا، وأنهم سألوه عن السحر وخاصموه به فأنزل الله: {واتبعوا ما تتلوا الشياطين} الآية، وأن الشياطين عمدوا إلى كتاب فكتبوا فيه السحر والكهانة وما شاء الله من ذلك، فدفنوه تحت مجلس سليمان، وكان سليمان لا يعلم الغيب، فلما فارق سليمان الدنيا استخرجوا ذلك السحر وخدعوا به الناس، وقالوا: هذا علم كان سليمان يكتمه ويحسد الناس عليه، فأخبرهم النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- بهذا الحديث فرجعوا من عنده وقد حزنوا وأدحض الله حجتهم».
- وأخرج سعيد بن منصور، عن خصيف، قال:
«كان لسليمان إذا نبتت الشجرة قال: لأي داء أنت؟ فتقول: لكذا وكذا، فلما نبتت الشجرة الخرنوبة، قال: لأي شيء أنت؟ قالت: لمسجدك أخربه، فلم يلبث أن توفي، فكتب الشياطين كتابا فجعلومه في مصلى سليمان، فقالوا: نحن ندلكم على ما كان سليمان يداوي به، فانطلقوا فاستخرجوا ذلك الكتاب فغذا فيه سحر ورقى، فأنزل الله: {واتبعوا ما تتلوا الشياطين}، إلى قوله: {وما أنزل على الملكين}»، وذكر أنها في قراءة أبي: (وما يتلى على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر) سبع مرار، فإن أبى إلا أن يكفر علماه، فيخرج منه نور حتى يسطع في السماء، قال: «المعرفة التي كان يعرف».
- وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن أبي مجلز، قال:
«أخذ سليمان من كل دابة عهدا، فإذا أصيب رجل فيسأل بذلك العهد خلي عنه، فرأى الناس بذلك السجع والسحر، وقالوا: هذا كان يعمل به سليمان، فقال الله: {وما كفر سليمان} الآية».
- وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس، في قوله: {وما تتلو} قال:
«ما تتبع».
- وأخرج ابن جرير، عن عطاء، في قوله: {ما تتلوا الشياطين} قال:
«يراد ما تحدث».
- وأخرج ابن جرير، عن ابن جريج، في قوله: {على ملك سليمان} يقول:
«في ملك سليمان».
- وأخرج ابن جرير، عن قتادة، في قوله: {وما كفر سليمان} يقول:
«ما كان عن مشورته ولا رضا منه، ولكنه شيء افتعلته الشياطين دونه، {يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين} فالسحر سحران سحر تعلمه الشياطين، وسحر يعلمه هاروت وماروت».
- وأخرج ابن جرير، عن السدي، في قوله: {وما أنزل على الملكين} قال:
«هذا سحر خاصموه به، فإن كلام الملائكة فيما بينهم إذا علمته الإنس فصنع وعمل به كان سحرا».
- وأخرج ابن جرير، عن مجاهد، قال:
«أما السحر فإنما يعلمه الشياطين، وأما الذي يعلمه الملكان فالتفريق بين المرء وزوجه».
- وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {وما أنزل على الملكين} قال: «التفرقة بين المرء وزوجه».
- وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {وما أنزل على الملكين} قال:
«لم ينزل الله السحر».
- وأخرج ابن أبي حاتم، عن علي في الآية قال:
«هما ملكان من ملائكة السماء».
- وأخرج ابن مردويه من وجه آخر، عنه، مرفوعا.
- وأخرج ابن أبي حاتم، عن عبد الرحمن بن أبزى، أنه كان يقرؤها (وما أنزل على الملكين داود وسليمان).
- وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك، أنه قرأ {وما أنزل على الملكين} وقال:
«هما علجان من أهل بابل».
- وأخرج البخاري في تاريخه، وابن المنذر، عن ابن عباس:
«{وما أنزل على الملكين} يعني جبريل وميكائيل، {ببابل هاروت وماروت} يعلمان الناس السحر».
- وأخرج ابن أبي حاتم، عن عطية، {وما أنزل على الملكين} قال:
«ما أنزل على جبريل وميكائيل السحر»). [الدر المنثور: 1/ 498-505]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) :
(وأمّا قوله تعالى: {ببابل}.
- أخرج أبو داود، وابن أبي حاتم والبيهقي في "سننه"، عن علي، قال:
«إن حبيبي -صلى الله عليه وسلم- نهاني أن أصلي بأرض بابل فإنها ملعونه».
- وأخرج الدينوري في المجالسة، وابن عساكر، من طريق نعيم بن سالم -وهو متهم-، عن أنس بن مالك، قال:
«لما حشر الله الخلائق إلى بابل، بعث إليهم ريحا شرقية وغربية وقبلية وبحرية، فجمعتهم إلى بابل، فاجتمعوا يومئذ ينظرون لما حشروا له، إذ نادى مناد: من جعل المغرب عن يمينه والمشرق عن يساره واقتصد إلى البيت الحرام بوجهه فله كلام أهل السماء، فقام يعرب بن قحطان فقيل له: يا يعرب بن قحطان بن هود، أنت هو، فكان أول من تكلم بالعربية، فلم يزل المنادي ينادي: من فعل كذا وكذا فله كذا وكذا، حتى افترقوا على اثنين وسبعين لسانا، وانقطع الصوت وتبلبلت الألسن، فسميت بابل، وكان اللسان يومئذ بابليا، وهبطت ملائكة الخير والشر، وملائكة الحياء والإيمان، وملائكة الصحة والشفاء، وملائكة الغنى وملائكة الشرف وملائكة المروءة، وملائكة الجفاء وملائكة الجهل وملائكة السيف وملائكة البأس، حتى انتهوا إلى العراق، فقال بعضهم لبعض: افترقوا، فقال ملك الإيمان: أنا أسكن المدينة ومكة، فقال ملك الحياء: أنا أسكن معك، وقال ملك الشفاء: أسكن البادية، فقال ملك الصحة: وأنا معك، وقال ملك الجفاء: وأنا أسكن المغرب، فقال ملك الجهل: وأنا معك، وقال ملك السيف: أنا أسكن الشام، فقال ملك البأس: وأنا معك، وقال ملك الغنى: أنا أقيم ههنا، فقال ملك المروءة: أنا معك، فقال ملك الشرف: وأنا معكما، فاجتمع ملك الغنى والمروءة والشرف بالعراق».
- وأخرج ابن عساكر بسند فيه مجاهيل، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
«إن الله عز وجل خلق أربعة أشياء وأردفها أربعة اشياء، خلق الجدب وأردفه الزهد وأسكنه الحجاز، وخلق العفة وأردفها الغفلة وأسكنها اليمن، وخلق الرزق وأردفه الطاعون وأسكنه الشام، وخلق الفجور وأردفه الدرهم وأسكنه العراق».
- وأخرج ابن عساكر، عن سليمان بن يسار، قال: كتب عمر بن الخطاب إلى كعب الأحبار أن اختر لي المنازل، فكتب إليه:
«يا أمير المؤمنين أنه بلغنا أن الأشياء اجتمعت فقال السخاء: أريد اليمن، فقال حسن الخلق: أنا معك، وقال الجفاء: أريد الحجاز، فقال الفقر: أنا معك، قال البأس: أريد الشام، فقال السيف: أنا معك، وقال العلم: أريد العراق، فقال العقل: أنا معك، وقال الغنى: أريد مصر، فقال الذل: أنا معك، فاختر لنفسك يا أمير المؤمنين»، فلما ورد الكتاب على عمر قال:«العراق إذن، فالعراق إذن».
- وأخرج ابن عساكر، عن حكيم بن جابر، قال:
«أخبرت أن الإسلام قال: أنا لاحق بأرض الشام، قال الموت: وأنا معك، قال الملك: وأنا لاحق بأرض العراق، قال القتل: وأنا معك، قال الجوع: وأنا لاحق بأرض العرب، قالت الصحة: وأنا معك».
- وأخرج ابن عساكر، عن دغفل، قال:
«قال المال: أنا أسكن العراق، فقال الغدر: أنا أسكن معك، وقالت الطاعة: أنا أسكن الشام، فقال الجفاء: أنا أسكن معك، وقالت المروءة: أنا أسكن الحجاز، فقال: وأنا أسكن معك»). [الدر المنثور: 1/ 505-507]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأما قوله تعالى: {هاروت وماروت} قد تقدم حديث ابن عمر في قصة آدم وبقيت آثار أخر.
- أخرج سعيد، وابن جرير، والخطيب في تاريخه، عن نافع، قال: سافرت مع ابن عمر، فلما كان من آخر الليل، قال: يا نافع انظر هل طلعت الحمراء، قلت: لا مرتين أو ثلاثا، ثم قلت: قد طلعت، قال: لا مرحبا بها ولا أهلا، قلت: سبحان الله، نجم مسخر سامع مطيع، قال: ما قلت لك إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:
«إن الملائكة قالت: يا رب كيف صبرك على بني آدم في الخطايا والذنوب، قال: إني ابتليتهم وعافيتكم، قالوا: لو كنا مكانهم ما عصيناك، قال: فاختاروا ملكين منكم، فلم يألوا جهدا أن يختاروا فاختاروا هاروت وماروت، فنزلا فالقى الله عليهم الشبق»،
قلت: وما الشبق؟
قال:
«الشهوة، فجاءت امرأة يقال لها: الزهرة فوقعت في قلوبهما، فجعل كل واحد منهما يخفي عن صاحبه ما في نفسه، ثم قال أحدهما للآخر: هل وقع في نفسك ما وقع في قلبي؟ قال: نعم، فطلباها لأنفسهما فقالت: لا أمكنكما حتى تعلماني الاسم الذي تعرجان به إلى السماء وتهبطان به، فأبيا، ثم سألاها أيضا فأبت، ففعلا، فلما استطيرت طمسها الله كوكبا، وقطع أجنحتهما، ثم سألا التوبة من ربهما فخيرهما، فقال: إن شئتما رددتكما إلى ما كنتما عليه فإذا كان يوم القيامة عذبتكما، وإن شئتما عذبتكما في الدنيا فإذا كان يوم القيامة رددتكما إلى ما كنتما عليه، فقال أحدهما لصاحبه: إن عذاب الدنيا ينقطع ويزول، فاختارا عذاب الدنيا على عذاب الآخرة، فأوحى الله إليهما أن ائتيا بابل، فانطلقا إلى بابل، فخسف بهما فهما منكوسان بين السماء والأرض معذبان إلى يوم القيامة».
- وأخرج سعيد بن منصور، عن مجاهد، قال: كنت مع ابن عمر في سفر، فقال لي: ارمق الكوكب فإذا طلعت أيقظني، فلما طلعت أيقظته فاستوى جالسا فجعل ينظر إليها ويسبها سبا شديدا، فقلت: يرحمك الله أبا عبد الرحمن، نجم ساطع مطيع ما له تسبه، فقال:
«أما إن هذه كانت بغيا في بني إسرائيل فلقي الملكان منها ما لقيا».
- وأخرج البيهقي في شعب الإيمان، من طريق موسى بن جبير، عن موسى بن عقبة، عن سالم، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
«أشرفت الملائكة على الدنيا فرأت بني آدم يعصون، فقالت: يا رب ما أجهل هؤلاء! ما أقل معرفة هؤلاء بعظمتك! فقال الله: لو كنتم في مسالخهم لعصيتموني، قالوا: كيف يكون هذا ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك، قال: فاختاروا منكم ملكين، فاختاروا هاروت وماروت، ثم أهبطا إلى الأرض وركبت فيهما شهوات مثل بني آدم، ومثلت لهما امرأة فما عصما حتى واقعا المعصية، فقال الله: اختارا عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة، فنظر أحدهما إلى صاحبه قال: ما تقول فاختر، قال: أقول أن عذاب الدنيا ينقطع وأن عذاب الآخرة لا ينقطع، فاختارا عذاب الدنيا، فهما اللذان ذكر الله في كتابه: {وما أنزل على الملكين} الآية».
- وأخرج إسحاق بن راهويه، وعبد بن حميد، وابن أبي الدنيا في العقوبات، وابن جرير وأبو الشيخ في العظمة، والحاكم وصححه، عن علي بن أبي طالب، قال:
«إن هذه الزهرة تسميها العرب الزهرة والعجم أناهيذ، وكان الملكان يحكمان بين الناس فأتتهما، فأرادها كل واحد عن غير علم صاحبه، فقال أحدهما: يا أخي إن في نفسي بعض الأمر أريد أن أذكره لك، قال: اذكره لعل الذي في نفسي مثل الذي في نفسك، فاتفقا على أمر في ذلك، فقالت المرأة: ألا تخبراني بما تصعدان به إلى السماء وبما تهبطان به إلى الأرض، فقالا: باسم الله الأعظم، قالت: ما أنا بمؤاتيتكما حتى تعلمانيه، فقال أحدهما لصاحبه: علمها إياه، فقال: كيف لنا بشدة عذاب الله، قال الآخر: إنا نرجو سعة رحمة الله، فعلمها إياه فتكلمت به فطارت إلى السماء، ففزع ملك في السماء لصعودها، فطأطأ رأسه فلم يجلس بعد، ومسخها الله كوكبا».
- وأخرج ابن راهويه، وابن مردويه، عن علي بن أبي طالب، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
«لعن الله الزهرة فإنها هي التي فتنت الملكين هاروت وماروت».
- وأخرج عبد بن حميد، والحاكم وصححه، عن أبي العباس، قال:
«كانت الزهرة امرأة في قومها يقال لها في قومها: بيذخت».
- وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد ،عن ابن عباس، قال:
«إن المرأة التي فتن بها الملكان مسخت فهي هذه الكوكبة الحمراء»، يعني الزهرة.
- وأخرج موحد بن عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن أبي الدنيا في كتاب العقوبات، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في شعب الإيمان، من طريق الثوري، عن موسى بن عقبة، عن سالم، عن ابن عمر، عن كعب، قال:
«ذكرت الملائكة أعمال بني آدم وما يأتون من الذنوب، فقيل: لو كنتم مكانهم لأتيتم مثل الذي يأتون، فاختاروا منكم اثنين، فاختاروا هاروت وماروت، فقيل لهما: أني أرسل إلى بني آدم رسلا فليس بيني وبينكما رسول، أنزلكما لا تشركا بي شيئا ولا تزنيا ولا تشربا الخمر»،
قال كعب:
«فوالله ما أمسيا من يومهما الذي أهبطا فيه حتى استكملا جميع ما نهيا عنه».
- وأخرج الحاكم وصححه، من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عمر، أنه كان يقول:
«أطلعت الحمراء بعد»، فإذا رآها قال: «لا مرحبا»، ثم قال:«إن ملكين من الملائكة هاروت وماروت سألا الله أن يهبطا إلى الأرض، فأهبطا إلى الأرض فكانا يقضيان بين الناس، فإذا أمسيا تكلما بكلمات فعرجا بها إلى السماء، فقيض الله لهما امرأة من أحسن الناس، وألقيت عليهما الشهوة فجعلا يؤخرانها، وألقيت في نفسيهما فلم يزالا يفعلان حتى وعدتهما ميعادا، فأتتهما للميعاد فقالت: كلماني الكلمة التي تعرجان بها، فعلماها الكلمة فتكلمت بها فعرجت إلى السماء فمسخت فجعلت كما ترون، فلما أمسيا تكلما بالكلمة فلم يعرجا، فبعث إليهما إن شئتما فعذاب الآخرة وإن شئتما فعذاب الدنيا إلى أن تقوم الساعة، فقال أحدهما لصاحبه: بل نختار عذاب الدنيا ألف ألف ضعف، فهما يعذبان إلى يوم القيامة».
- وأخرج إسحاق بن راهويه، وعبد بن حميد، وابن أبي الدنيا في العقوبات، وابن جرير وأبو الشيخ في العظمة، والحاكم وصححه، عن علي بن أبي طالب، قال:
«إن هذه الزهرة تسميها العرب الزهرة والعجم أناهيد، وكان الملكان يحكمات بين الناس، فأتتهما فأرادها كل واحد منهما عن غير علم صاحبه، فقال أحدهما: يا أخي إن في نفسي بعض الأمر أريد أن أذكره لك، قال: اذكره لعل الذي في نفسي مثل الذي في نفسك، فاتفقا على أمر في ذلك، فقالت لهما المرأة: ألا تخبراني بما تصعدان به إلى السماء وبما تهبطان به إلى الأرض، فقالا: باسم الله الأعظم، قالت: ما أنا بمؤاتيتكما حتى تعلمانيه، فقال أحدهما لصاحبه: علمها إياه، فقال: كيف لنا بشدة عذاب الله، قال الآخر: إنا نرجو سعة رحمة الله، فعلمها إياه فتكلمت به فطارت إلى السماء، ففزع ملك في السماء لصعودها فطأطأ رأسه فلم يجلس بع، ومسحها الله فكانت كوكبا».
- وأخرج ابن رهويه، وابن مردويه، عن علي بن أبي طالب، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
«لعن الله الزهرة فإنها هي التي فتنت الملكين هاروت وماروت».
- وأخرج عبد بن حميد، والحاكم وصححه، عن ابن عباس، قال:
«كانت الزهرة امرأة يقال لها في قومها: بيذخت» ..
- وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، عن ابن عباس، قال:
«إن المرأة التي فتن بها الملكان مسخت فهي هذه الكواكب الحمراء» . يعني الزهرة ..
- وأخرج ابن أبي حاتم، عن مجاهد، قال: كنت نازلا عند عبد الله بن عمر في سفر، فلما كان ذات ليلة قال لغلامه:
«انظر طلعت الحمراء، لا مرحبا بها ولا أهلا ولا حياها الله، هي صاحبة الملكين، قالت الملائكة: كيف تدع عصاة بني آدم وهم يسفكون الدم الحرام وينتهكون محارمك ويفسدون في الأرض، قال: إني قد ابتليتهم فلعل أن أبتليكم بمثل الذي ابتليتهم به فعلتم كالذي يفعلون، قالوا: لا، قال: فاختاروا من خياركم اثنين، فاختاروا هاروت وماروت، فقال لهما: إني مهبطكما إلى الأرض ومعاهد إليكما أن لا تشركا ولا تزنيا ولا تخونا، فأهبطا إلى الأرض وألقى عليهما الشبق، وأهبطت لهما الزهرة في أحسن صورة امرأة، فتعرضت لهما فأراداها عن نفسها، فقالت: إني على دين لا يصلح لأحد أن يأتيني إلا من كان على مثله، قالا: وما دينك؟ قالت: المجوسية، قالا: أنشرك هذا شيء لا نقر به، فمكثت عنهما ما شاء الله، ثم تعرضت لهما فأراداها عن نفسها، فقالت: ما شئتما غير أن لي زوجا وأنا أكره أن يطلع على هذا مني فافتضح، وإن أقررتما لي بديني وشرطتما أن تصعدا بي إلى السماء فعلت، فأقرا لها بدينها وأتياها فيما يريان ثم صعدا بها إلى السماء، فلما انتهيا إلى السماء اختطفت منهما وقطعت أجنحتهما فوقعا خائفين نادمين يبكيان، وفي الأرض نبي يدعو بين الجمعتين فإذا كان يوم الجمعة أجيب، فقالا: لو أتينا فلانا فسألناه يطلب لنا التوبة، فأتياه فقال: رحمكما الله كيف تطلب أهل الأرض لأهل السماء، قالا: إما ابتلينا، قال: ائتياني يوم الجمعة، فأتياه فقال: ما أجبت فيكما بشيء، ائتياني في الجمعة الثانية، فأتياه فقال: اختارا فقد خيرتما إن أحببتما معافاة الدنيا وعذاب الآخرة، وإن أحببتما فعذاب الدنيا وأنتما يوم القيامة على حكم الله، فقال أحدهما: الدنيا لم يمض منها إلا القليل، وقال الآخر: ويحك، إني قد أطعتك في الأول فأطعني الآن، وأن عذابا يفنى ليس كعذاب يبقى، قال: إننا يوم القيامة على حكم الله فأخاف أن يعذبنا، قال: لا إني أرجو أن علم الله أنا قد اخترنا عذاب الدنيا مخافة عذاب الآخرة لا يجمعهما الله علينا»،
قال:
«فاختارا عذاب الدنيا، فجعلا في بكرات من حديد في قليب مملوءة من نار أعاليهما أسافلهما»،
قال ابن كثير: إسناده يد، وهو أثبت وأصح إسنادا من رواية معاوية بن صالح، عن نافع.
- وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، والبيهقي في شعب الإيمان، عن ابن عباس، قال:
«لما وقع الناس من بني آدم فيما وقعوا فيه من المعاصي والكفر بالله، قالت الملائكة في السماء: رب هذا العالم الذي إنما خلقتهم لعبادتك وطاعتك، وقد وقعوا فيما وقعوا فيه، وركبوا الكفر وقتل النفس وأكل مال الحرام والزنا والسرقة وشرب الخمر، فجعلوا يدعون عليهم ولا يعذرنهم، فقيل: إنهم في غيب فلم يعذروهم، فقيل لهم: اختاروا منكم من أفضلكم ملكي آمرهما وأنهاهما، فاختاروا هاروت وماروت، فأهبطا إلى الأرض وجعل لهما شهوات بني آدم، وأمرهما أن يعبداه ولا يشركا به شيئا، ونهاهما عن قتل النفس الحرام وأكل مال الحرام وعن الزنا وشرب الخمر، فلبثا في الأرض زمانا يحكمان بين الناس بالحق وذلك في زمان إدريس، وفي ذلك الزمان امرأة حسنها في النساء كحسن الزهرة في سائر الكواكب، وأنهما أتيا عليها فخضعا لها في القول وأراداها عن نفسها، فأبت إلا أن يكونا على أمرها ودينها، فسألاها عن دينها، فأخرجت لهما صنما فقالت: هذا أعبده، فقالا: لا حاجة لنا في عبادة هذا، فذهبا فغبرا ما شاء الله، ثم أتيا عليها فأراداها عن نفسها ففعلت مثل ذلك، فذهبا ثم أتيا فأراداها عن نفسها، فلما رأت أنهما أبيا أن يعبدا الصنم قال لهما: اختارا أحد الخلال الثلاث، إما أن تعبدا هذا الصنم أو أن تقتلا هذا النفس ووإما أن تشربا هذا الخمر، فقالا: كل هذا لا ينبغي وأهون الثلاثة شرب الخمر، فأخذت منهما فواقعا المرأة فخشيا أن يخبر الإنسان عنهما فقتلاه، فلما ذهب عنهما السكر وعلما ما وقعا فيه من الخطيئة أراد أن يصعد إلى السماء فلم يستطيعا وحيل بينهما وبين ذلك وكشف الغطاء فيما بينهما وبين أهل السماء، فنظرت الملائكة إلى ما وقعا فيه فعجبوا كل العجب وعرفوا أنه من كان في غيب فهو أقل خشية، فجعلوا بعد ذلك يستغفرون لمن في الأرض فنزل في ذلك: {والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض} [الشورى: 5]، فقيل لهما: اختارا عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة، فقالا: أما عذاب الدنيا فإنه ينقطع ويذهب، وأما عذاب الآخرة فلا انقطاع له، فاختارا عذاب الدنيا، فجعلا ببابل فهما يعذبان».
- وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس، قال:
«إن أهل سماء الدنيا أشرفوا على أهل الأرض فرأوهم يعملون بالمعاصي، فقالوا: يا رب أهل الأرض يعملون بالمعاصي، فقال الله: أنتم معي وهم غيب عني، فقيل لهم: اختاروا منكم ثلاثة، فاختاروا منهم ثلاثة على أن يهبطوا إلى الأرض يحكمون بين أهل الأرض، وجعل فيهم شهوة الآدميين، فأمروا أن لا يشربوا خمرا ولا يقتلون نفسا ولا يزنوا ولا يسجدوا لوثن، فاستقال منهم واحد فأقيل، فأهبط اثنان إلى الأرض فأتتهما امرأة من أحسن الناس يقال لها: أناهيلة، فهوياها جميعا ثم أتيا منزلها فاجتمعا عندها فأراداها، فقالت لهما: لا حتى تشربا خمري وتقتلا ابن جاري وتسجدوا لوثني، فقالا: لا نسجد، ثم شربا من الخمر، ثم قتلا، ثم سجدا، فأشرف أهل السماء عليهما، وقالت لهما: أخبراني بالكلمة التي إذا قلتماها طرتما، فأخبراها فطارت فمسخت جمرة وهي هذه الزهرة، وأما هما فأرسل إليهما سليمان بن داود فخيرهما بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا ،فهما مناطان بين السماء والأرض».
- وأخرج ابن جرير، من طريق أبي عثمان النهدي، عن ابن مسعود وابن عباس، قالا:
«لما كثر بنو آدم وعصوا، دعت الملائكة عليهم والأرض والجبال: ربنا لا تمهلهم، فأوحى الله إلى الملائكة: أني أزلت الشهوة والشيطان من قلوبكم ولو تركتكم لفعلتم أيضا، قال: فحدثوا أنفسهم أن لو ابتلوا لعصموا، فأوحى الله إليهم: أن اختاروا ملكين من أفضلكم، فاختاروا هاروت وماروت، فأهبطا إلى الأرض وأنزلت الزهرة إليهما في صورة امرأة من أهل فارس يمونها بيدخت»،
قال:
«فواقعاها بالخطيئة، فكانت الملائكة يستغفرون للذين آمنوا، فلما وقعا بالخطيئة استغفروا لمن في الأرض، فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا».
- وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، من طريق الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، في هذه الآية:
«كانا ملكين من الملائكة فأهبطا ليحكما بين الناس، وذلك أن الملائكة سخروا من حكام بني آدم، فحاكمت إليهما امرأة فخافا لها ثم ذهبا يصعدان فحيل بينهما وبين ذلك، وخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا».
- وأخرج سعيد بن منصور، عن خصيف، قال: كنت مع مجاهد، فمر بنا رجل من قريش، فقال له مجاهد: حدثنا ما سمعت من أبيك، قال: حدثني أبي:
«أن الملائكة حين جعلوا ينظرون إلى أعمال بني آدم وما يركبون من المعاصي الخبيثة، وليس يستر الناس من الملائكة شيء، فجعل بعضهم يقول لبعض: انظروا إلى بني آدم كيف يعملون كذا وكذا، ما أجرأهم على الله، يعيبونهم بذلك، فقال الله لهم: لقد سمعت الذي تقولون في بني آدم، فاختاروا منكم ملكين أهبطهما إلى الأرض وأجعل فيهما شهوة بني آدم، فاختاروا هاروت وماروت، فقالوا: يا رب ليس فينا مثلهما، فأهبطا إلى الأرض وجعلت فيهما شهوة بني آدم ومثلت لهما الزهرة في صورة امرأة، فلما نظرا إليها لم يتمالكا أن تناولا ما الله أعلم به، وأخذت الشهوة بأسماعهما وأبصارهما، فلما أرادا أن يطيرا إلى السماء لم يستطيعا، فأتاهما ملك فقال: إنكما قد فعلتما ما فعلتما فاختارا عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة، فقال أحدهما للآخر: ماذا ترى؟ قال: أرى أن أعذب في الدنيا ثم أعذب، أحب إلي من أن أعذب ساعة واحدة في الآخرة، فهما معلقان منكسان في السلاسل وجعلا فتنة».
- وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس، قال:
«إن الله أفرج السماء إلى ملائكته ينظرون إلى أعمال بني آدم، فلما أبصروهم يعملون بالخطايا، قالوا: يا رب هؤلاء بنو آدم الذي خلقت بيدك وأسجدت له ملائكتك وعلمته أسماء كل شيء يعملون بالخطايا، قال: أما أنكم لو كنتم مكانهم لعملتم مثل أعمالهم، قالوا: سبحانك ما كان ينبغي لنا، فأمروا أن يختاروا من يهبط إلى الأرض، فاختاروا هاروت وماروت وأهبطا إلى الأرض، وأحل لهما ما فيها من شيء غير أنهما لا يشركا بالله شيئا ولا يسرقا ولا يزنيا ولا يشربا الخمر ولا يقتلا النفس التي حرم الله إلا بالحق، فعرض لهما امرأة قد قسم لها نصف الحسن يقال لها: بيذخت، فلما أبصراها أراداها قالت: لا، إلا أن تشركا بالله وتشربا الخمر وتقتلا النفس وتسجدا لهذا الصنم، فقالا: ما كنا نشرك بالله شيئا، فقال أحدهما للآخر: أرجع إليها، فقالت: لا، إلا أن تشربا الخمر، فشربا حتى ثملا ودخل عليهما سائل فقتلاه، فلما وقعا فيما وقعا فيه أفرج الله السماء لملائكته، فقالوا: سبحانك، أنت أعلم، فأوحى الله إلى سليمان بن داود أن يخيرهما بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا، فكبلا من أكعبهما إلى أعناقهما بمثل أعناق البخت وجعلا ببابل».
- وأخرج ابن أبي الدنيا في ذم الدنيا، والبيهقي في شعب الإيمان، عن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
«احذروا الدنيا فإنها أسحر من هاروت وماروت».
- وأخرج الخطيب في رواية مالك، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
«قال أخي عيسى: معاشر الحواريين احذروا الدنيا لا تسحركم، لهي والله أشد سحرا من هاروت وماروت، واعلموا أن الدنيا مدبرة والآخرة مقبلة، وإن لكل واحدة منهما بنين، فكونوا من أبناء الآخرة دون بني الدنيا، فاليوم عمل ولا حساب وغدا الحساب ولا عمل».
- وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول، عن عبد الله بن بسر المازني، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
«اتقوا الدنيا فو الذي نفسي بيده إنها لأسحر من هاروت وماروت».
- وأخرج ابن جرير، عن الربيع، قال:
«لما وقع الناس من بني آدم فيما وقعوا فيه من المعاصي والكفر بالله، قالت الملائكة في السماء: أي رب هذا العالم إنما خلقتهم لعبادتك وطاعتك، وقد ركبوا الكفر وقتل النفس الحرام وأكل المال الحرام والسرقة والزنا وشرب الخمر، فجعلوا يدعون عليهم ولا يعذرونهم، فقيل لهم: إنهم في غيب، فلم يعذروهم، فقيل لهم: اختاروا منكم ملكين آمرهما بأمري وأنهاهما عن معصيتي، فاختاروا هاروت وماروت، فأهبطا إلى الأرض وجعل بهما شهوات بني إسرائيل، وأمرا أن يعبدا الله ولا يشركا به شيئا، ونهيا عن قتل النفس الحرام وأكل المال الحرام والسرقة والزنا وشرب الخمر، فلبثا على ذلك في الأرض زمانا يحكمان بين الناس بالحق وذلك في زمان إدريس، وفي ذلك الزمان امرأة حسنها في سائر الناس كحسن الزهرة في سائر الكواكب، وأنها أبت عليهما فخضعا لها بالقول وأراداها على نفسها وأنها أبت إلا أن يكونا على أمرها ودينها، وأنهما سألاها عن دينها الذي هي عليه فأخرجت لهما صنما فقالت: هذا أعبده، فقالا: لا حاجة لنا في عبادة هذا، فذهبا فصبرا ما شاء الله، ثم أتيا عليها فخضعا لها ما شاء الله بالقول وأراداها على نفسها، فقالت: لا إلا أن تكونا على ما أنا عليه، فقالا: لا حاجة لنا في عبادة هذا، فلما رأت أنهما قد أبيا أن يعبدا الصنم قالت لهما: اختارا أحدى الخلال الثلاث؛ إما أن تعبدا الصنم أو تقتلا النفس أو تشربا الخمر، فقالا: كل هذا لا ينبغي وأهون الثلاثه شرب الخمر، وسقتهما الخمر حتى إذا أخذت الخمرة فيهما وقعا بها، فمر إنسان وهما في ذلك فخشيا أن يفشي عليهما فقتلاه، فلما أن ذهب عنهما السكر عرفا ما قد وقعا فيه من الخطيئه، وأرادا أن يصعدا إلى السماء فلم يستطيعا وكشف الغطاء فيما بينهما وبين أهل السماء، فنظرت الملائكة إلى ما قد وقعا فيه من الذنوب وعرفوا أنه من كان في غيب فهو أقل خشية، فجعلوا بعد ذلك يستغفرون لمن في الأرض، فلما وقعا فيما وقعا فيه من الخطيئة قيل لهما: اختارا عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة، فقالا: أما عذاب الدنيا فينقطع ويذهب، وأما عذاب الآخرة فلا انقطاع له، فاختارا عذاب الآخرة فجعلا ببابل فهما يعذبان».
- وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس، قال:
«إن هاروت وماروت أهبطا إلى الأرض، فإذا أتاهما الآتي يريد السحر نهياه أشد النهي، وقالا له: إنما نحن فتنة فلا تكفر، وذلك أنهما علما الخير والشر والكفر والإيمان، فعرفا أن السحر من الكفر فإذا ابى عليهما أمراه أن يأتي مكان كذا وكذا، فإذا أتاه عاين الشيطان فعلمه، فإن تعلمه خرج منه النور فينظر إليه ساطعا في السماء».
- وأخرج ابن جرير، وابن ابي حاتم، والحاكم وصححه، والبيهقي في "سننه"، عن عائشة أنا قالت:
«قدمت على امرأة من أهل دومة الجندل، تبتغي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد موته حداثة ذلك، تسأله عن شيء دخلت فيه من أمر السحر ولم تعمل به، قالت: كان لي زوج غاب عني فدخلت على عجوز فشكوت إليها، فقالت: إن فعلت ما آمرك فأجعله يأتيك، فلما كان الليل جاءتني بكلبين أسودين فركبت أحدهما وركبت الآخر فلم يكن كشيء، حتى وقفنا ببابل فإذا أنا برجلين معلقين بأرجلهما فقالا: ما جاء بك؟ فقلت: أتعلم السحر، فقالا: إنما نحن فتنة فلا تكفري وارجعي، فأبيت وقلت: لا، قالا: فاذهبي إلى ذلك التنور فبولي به ثم ائتي، فذهبت فاقشعر جلدي وخفت، ثم رجعت إليهما فقلت: قد فعلت، فقالا: ما رأيت؟ فقلت: لم أر شيئا، فقالا: كذبت لم تفعلي، ارجعي إلى بلادك ولا تكفري فإنك على رأس أمرك، فأبيت، فقالا: اذهبي إلى ذلك التنور فبولي به، وذهبت فبلت فيه، فرأيت فارسا مقنعا بحديد خرج مني حتى ذهب في السماء وغاب عني حتى ما أراه، وجئتهما فقلت: قد فعلت، فقالا: فما رأيت؟ فقلت: رأيت فارسا مقنعا خرج مني فذهب في السماء حتى ما أراه، قالا: صدقت ذلك إيمانك خرج منك اذهبي، فقلت للمرأة: والله ما أعلم شيئا ولا قالا لي شيئا، فقالت: لا لم تريدي شيئا إلا كان، خذي هذا القمح فابذري فبذرت، وقلت اطلعي فاطلعت، قلت احقلي فاحقلت، ثم قلت افركي فأفركت، ثم قلت ايبسي فأيبست، ثم قلت اطحني فأطحنت، ثم قلت اخبزي فأخبزت، فلما رأيت أني لا أريد شيئا إلا كان، سقط في يدي وندمت، والله يا أم المؤمنين ما فعلت شيئا ولا أفعله أبدا، فسألت أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهم يومئذ متوافرون، فما دروا ما يقولون لها وكلهم خاف أن يفتيها بما لا يعلمه، إلا أنه قد قال لها ابن عباس أو بعض من كان عنده: لو كان أبواك حيين أو أحدهما لكانا يكفيانك».
- وأخرج ابن المنذر من طريق الأوزاعي، عن هارون بن رباب، قال: دخلت على عبد الملك بن مروان، وعنده رجل قد ثنيت له وسادة وهو متكىء عليها، فقالوا: هذا قد لقي هاروت وماروت، فقلت: هذا، قالوا: نعم، فقلت: حدثنا رحمك الله، فأنشأ يحدث فلم يتمالك من الدموع، فقال: كنت غلاما حدثا ولم أدرك أبي، وكانت أمي تعطيني من المال حاجتي فأنفقه وأفسده وأبذره ولا تسألني أمي عنه، فلما طال ذلك وكبرت أحببت أن أعلم من أين لأمي هذه الأموال، فقلت لها يوما: من أين لك هذه الأموال؟ فقالت: يا بني كل وتنعم ولا تسأل فهو خير لك، فأححت عليها، فقالت: إن أباك كان ساحرا، فلم أزل اسألها وألح فأدخلتني بيتا فيه أموال كثيرة، فقالت: يا بني هذا كله لك، فكل وتنعم ولا تسأل عنه، فقلت: لا بد من أن أعلم من أين هذا، قال: فقالت: يا بني كل وتنعم ولا تسأل فهو خير لك، قال: فألححت عليها، فقالت: إن أباك كان ساحرا وجمع هذه الأموال من السحر، قال: فأكلت ما أكلت، ومضى ما مضى ثم تفكرت، قلت: يوشك أن يذهب هذا المال ويفنى فينبغي أن أتعلم السحر فأجمع كما جمع أبي، فقلت لأمي: من كان خاصة أبي وصديقه من أهل الأرض؟ قالت: فلان، لرجل في مكان ما، فتجهزت فأتيته فسلمت عليه فقال: من الرجل؟ قلت: فلان بن فلان صديقك، قال: نعم مرحبا، ما جاء بك؟ فقد ترك أبوك من المال ما لا يحتاج إلى أحد، قال: فقلت: جئت لأتعلم السحر، قال: يا بني لا تريده لا خير فيه، قلت: لابد من أن أتعلمه، قال: فناشدني وألح علي أن لا أطلبه ولا أريده، فقلت: لا بد من أن أتعلمه، قال: أما إذا أبيت فاذهب فإذا كان يوم كذا وكذا فوافن ههنا، قال: ففعلت فوافيته، قال: فأخذ يناشدني أيضا وينهاني، ويقول: لا تريد السحر لا خير فيه، فأبيت عليه فلما رآني قد أبيت، قال: فإني أدخلك موضعا فإياك أن تذكر الله فيه، قال: فأدخلني في سرب تحت الأرض، قال: فجعلت أدخل ثلثمائة وكذا مرقاة ولا أنكر من ضوء النهار شيئا، قال: فلما بلغت أسفله إذا أنا بهاروت وماروت معلقان بالسلاسل في الهواء، قال: فإذا أعينهما كالترسة ورؤوسهما، ذكر شيئا لا أحفظه، ولهما أجنحة فلما نظرت إليهما قلت: لا إله إلا الله، قال: فضربا بأجنحتهما ضربا شديدا وصاحا صياحا شديدا ساعة ثم سكتا، ثم قلت أيضا: لا إله إلا الله، ففعلا مثل ذلك، ثم قلت الثالثة، ففعلا مثل ذلك أيضا، ثم سكتا وسكت، فنظرا إلي فقالا لي: آدمي، فقلت: نعم، قال: قلت: ما بالكما حين ذكرت الله فعلتما ما فعلتما، قالا: إن ذلك اسم لم نسمعه من حين خرجنا من تحت العرش. قالا: من أمة من؟ قلت: من أمة محمد، قالا: أو قد بعث؟ قلت: نعم، قالا: اجتمع الناس على رجل واحد أو هم مختلفون؟ قلت: قد اجتمعوا على رجل واحد، قال: فساءهما ذلك، فقالا: كيف ذات بينهم؟ قلت: سيىء، فسرهما ذلك، فقالا: هل بلغ البنيان بحيرة الطبرية؟ قلت: لا، فساءهما ذلك فسكتا، فقلت لهما: ما بالكما حين أخبرتكما باجتماع الناس على رجل واحد ساءكما ذلك؟ فقالا: إن الساعة لم تقرب ما دام الناس على رجل واحد، قلت: فما بالكما سركما حين أخبرتكما بفساد ذات البين؟ قالا: لأنا رجونا اقتراب الساعة، قال: قلت: فما بالكما ساءكما أن البنيان لم يبلغ بحيرة الطبرية؟ قالا: لأن الساعة لا تقوم أبدا حتى يبلغ البنيان بحيرة الطبرية، قال: قلت لهما: أوصياني، قالا: إن قدرت أن لا تنام فافعل فإن الأمر جد.
- وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن مجاهد، قال:
«وأما شأن هاروت وماروت فإن الملائكة عجبت من ظلم بني آدم وقد جاءتهم الرسل والبينات، فقال لهم ربهم: اختاروا منكم ملكين أنزلهما في الأرض بين بني آدم، فاختاروا فلم يألوا بهاروت وماروت، فقال لهما حين أنزلهما: أعجبتما من بني آدم ومن ظلمهم ومعصيتهم وإنما تأتيهم الرسل والكتب من وراء وراء، وأنتما ليس بيني وبينكما رسول، فافعلا كذا وكذا ودعا كذا وكذا، فأمرهما بأمر ونهاهما، ثم نزلا على ذلك ليس أحد لله أطوع منهما، فحكما فعدلا فكانا يحكمان النهار بين بني آدم، فإذا أمسيا عرجا وكانا مع الملائكة، وينزلان حين يصبحان فيحكمان فيعدلان، حتى أنزلت عليهما الزهرة في أحسن صورة امرأة تخاصم فقضيا عليها، فلما قامت وجد كل واحد منهما في نفسه، فقال أحدهما لصاحبه: وجدت مثل ما وجدت، قال: نعم، فبعثا إليها أن ائتينا نقض لك، فلما رجعت قضيا لها وقالا لها: ائتينا، فأتتهما فكشفا لها عن عورتها، وإنما كانت شهوتهما في أنفسهما ولم يكونا كبني آدم في شهوة النساء ولذتها، فلما بلغا ذلك واستحلاه وافتتنا، طارت الزهرة فرجعت حيث كانت، فلما أمسيا عرجا فزجرا فلم يؤذن لهما ولم تحملهما أجنحتهما، فاستغاثا برجل من بني آدم فأتياه، فقالا: ادع لنا ربك، فقال: كيف يشفع أهل الأرض لأهل السماء؟ قالا: سمعنا ربك يذكرك بخير في السماء، فوعدهما يوما وعدا يدعو لهما، فدعا لهما فاستجيب له، فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فنظر أحدهما إلى صاحبه، فقالا: نعلم أن أفواج عذاب الله في االآخرة كذا وكذا في الخلد، نعم ومع الدنيا سبع مرات مثلها، فأمرا أن ينزلا ببابل فثم عذابهما»، وزعم أنهما معلقان في الحديد مطويان يصطفقان بأجنحتهما.
- وأخرج الزبير بن البكار في الموفقيات، وابن مردويه والديلمي، عن علي، أن النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- سئل عن المسوخ، فقال:
«هم ثلاثة عشر؛ الفيل والدب والخنزير والقرد والجريث والضب والوطواط والعقرب والدعموص والعنكبوت والأرنب وسهيل والزهرة»،
فقيل: يا رسول الله وما سبب مسخهن؟
فقال:
«أما الفيل فكان رجلا جبارا لوطيا لا يدع رطبا ولا يابسا، وأما الدب فكان مؤنثا يدعو الناس إلى نفسه، وأما الخنزير فكان من النصارى الذين سألوا المائدة فلما نزلت كفروا، وأما القردة فيهود اعتدوا في السبت، وأما الجريث فكان ديوثا الرجال إلى حليلته، وأما الضب فكان أعرابيا يسرق الحاج بمحجنه، وأما الوطواط فكان رجلا يسرق الثمار من رؤوس النخل، وأما العقرب فكان رجلا لا يسلم أحد من لسانه، وأما الدعموص فكان نماما يفرق بين الأحبة، وأما العنكبوت فامرأة سحرت زوجها، وأما الأرنب فامرأة كانت لا تطهر من حيض، وأما سهيل فكان عشارا باليمن، وأما الزهرة فكانت بنتا لبعض ملوك بني إسرائيل افتتن بها هاروت وماروت».
- وأخرج الطبراني في الأوسط بسند ضعيف، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: جاء جبريل إلى النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- في حين غير حينه الذي كان يأتيه فيه، فقام إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال:
«يا جبريل مالي أراك متغير اللون؟»، فقال: ما جئتك حتى أمر الله بمفاتيح النار،
فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
«يا جبريل صف لي النار وانعت لي جهنم»،
فقال جبريل: إن الله تبارك وتعالى أمر بجهنم فأوقد عليها ألف عام حتى ابيضت، ثم امر فأوقد عليها ألف عام حتى احمرت، ثم أمر فأوقد عليها ألف عام حتى اسودت، فهي سوداء مظلمة لا يضيء شررها ولا يطفأ لهبها، والذي بعثك بالحق لو أن ثقب إبرة فتح من جهنم لمات من في الأرض كلهم جميعا من حره، والذي بعثك بالحق لو أن ثوبا من ثياب الكفار علق بين السماء والأرض لمات من في الأرض جميعا من حره، والذي بعثك بالحق لو أن خازنا من خزنة جهنم برز إلى أهل الدنيا فنظروا إليه لمات من في الأرض كلهم من قبح وجهه ومن نتن ريحه، والذي بعثك بالحق لو أن حلقة من حلق سلسلة أهل النار التي نعت الله في كتابه وضعت على جبال الدنيا لأرفضت وما تقارت حتى تنتهي إلى الأرض السفلى،
فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
«حسبي يا جبريل»، فنظر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى جبريل وهو يبكي، فال: «تبكي يا جبريل وأنت من الله بالمكان الذي أنت فيه؟»،
فقال: وما لي لا أبكي، أنا أحق بالبكاء لعلي أكون في علم الله على غير الحال التي أنا عليها، وما أدري لعلي ابتلى بما ابتلي به إبليس فقد كان من الملائكة، وما أدري لعلي ابتلى بما ابتلي به هاروت وماروت، فبكى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبكى جبريل، فما زالا يبكيان حتى نوديا أن يا جبريل ويا محمد إن الله قد أمنكما أن تعصياه). [الدر المنثور: 1/ 507-534]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأمّا قوله تعالى: {وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة}.
- أخرج ابن جرير، عن الحسين وقتادة، قالا:
«كانا يعلمان السحر، فأخذ عليهما أن لا يعلما أحد حتى يقولا: إنما نحن فتنة فلا تكفر».
- وأخرج ابن جرير، عن قتادة، في قوله: {إنما نحن فتنة} قال:
«بلاء»). [الدر المنثور: 1/ 534]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأمّا قوله تعالى: {فلا تكفر}.
- أخرج البزار والحاكم وصححه، عن عبد الله بن مسعود، قال:
«من أتى كاهنا أو ساحرا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد».
- وأخرج البزار، عن عمران بن حصين، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
«ليس منا من تطير أو تطير له، أو تكهن أو تكهن له، أو سحر أو سحر له، ومن عقد عقدة ومن أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد».
- وأخرج عبد الرزاق، عن صفوان بن سليم، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
«من تعلم شيئا من السحر قليلا أو كثيرا كان آخر عهده من الله»). [الدر المنثور: 1/ 534-535]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأمّا قوله تعالى: {فيتعلمون منهما} الآية.
- أخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة، في قوله: {فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه} قال:
«يؤخرون أحدهما عن صاحبه، ويبغضون أحدهما إلى صاحبه».
- وأخرج ابن جرير، عن سفيان، في قوله: {إلا بإذن الله} قال:
«بقضاء الله».
- وأخرج عبد بن حميد، عن قتادة، في قوله: {ولقد علموا} قال:
«لقد علم أهل الكتاب فيما يقرؤون من كتاب الله وفيما عهد لهم أن الساحر لا خلاق له عند الله يوم القيامة».
- وأخرج مسلم، عن جابر بن عبد الله، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:
«إن الشيطان يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه في الناس، فأقربهم عنده منزلة أعظمهم عنده فتنة، فيقول: ما زلت بفلان حتى تركته وهو يقول: كذا وكذا، فيقول إبليس: لا والله ما صنعت شيئا، ويجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين أهله، فيقربه ويدنيه ويلتزمه ويقول: نعم أنت».
- وأخرج أبو الفرج الأصبهاني في الأغاني، عن عمرو بن دينار، قال: قال الحسن بن علي بن أبي طالب لذريح أبي قيس:
«أحل لك إن فرقت بين نفسي وبيني وأما سمعت عمر بن الخطاب يقول: ما أبالي أفرقت بين الرجل وامرأته أو مشيت إليهما بالسيف».
- وأخرج ابن ماجة، عن أبي رهم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«من أفضل الشفاعة أن يشفع بين اثنين في النكاح».
- وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس، في قوله: {ما له في الآخرة من خلاق} قال:
«قوام».
- وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس، في قوله: {ما له في الآخرة من خلاق} قال:
«من نصيب».
- وأخرج الطستي في مسائله، عن ابن عباس، أن نافع بن الأزرق قال له: أخبرني عن قوله عز وجل: {ما له في الآخرة من خلاق} قال:
«من نصيب»، قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: «نعم، أما سمعت أمية بن أبي الصلت وهو يقول: يدعون بالويل فيها لا خلاق لهم إلا سرابيل من قطر وأغلال».
- وأخرج ابن جرير، عن مجاهد، {ما له في الآخرة من خلاق} قال:
«من نصيب».
- وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، عن الحسن، {ما له في الآخرة من خلاق} قال:
«ليس له دين»). [الدر المنثور: 1/ 535-537]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأمّا قوله تعالى: {ولبئس ما شروا} الآية.
- أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن السدي، في قوله: {ولبئس ما شروا} قال:
«باعوا»). [الدر المنثور: 1/ 537-538]

تفسير قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103)}
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (نا معمر، عن قتادة، في قوله: {لمثوبة من عند الله} قال:
«ثواب من عند الله»). [تفسير عبد الرزاق: 1/ 54]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {ولو أنّهم آمنوا واتّقوا لمثوبةٌ من عند اللّه خيرٌ لو كانوا يعلمون}.
يعني -جلّ ثناؤه- بقوله: {ولو أنّهم آمنوا واتّقوا} لو أنّ الّذين يتعلّمون من الملكين ما يفرّقون به بين المرء وزوجه آمنوا، فصدّقوا اللّه ورسوله وما جاءهم به من عند ربّهم، واتّقوا ربّهم فخافوه فخافوا عقابه، فأطاعوه بأداء فرائضه وتجنّب معاصيه؛ لكان جزاء اللّه إيّاهم وثوابه لهم على إيمانهم به وتقواهم إيّاه خيرًا لهم من السّحر وما اكتسبوا به لو كانوا يعلمون أنّ ثواب اللّه إيّاهم على ذلك خيرٌ لهم من السّحر وممّا اكتسبوا به. وإنّما نفى بقوله: {لو كانوا يعلمون} العلم عنهم أن يكونوا عالمين بمبلغ ثواب اللّه وقدر جزائه على طاعته.
والمثوبة في كلام العرب مصدرٌ من قول القائل: أثبتك إثابةً وثوابًا ومثوبةً، فأصل ذلك من ثاب إليك الشّيء بمعنى رجع، ثمّ يقال: أثبته إليك: أي أرجعته إليك ورددته. فكأن معنى إثابة الرّجل الرّجل على الهديّة وغيرها: إرجاعه إليه منها بدلاً، وردّه عليه منها عوضًا. ثمّ جعل كلّ معوّضٍ غيره من عمله أو هديّته أو يدٍ له سلفت منه إليه مثيبًا له. ومنه ثواب اللّه عزّ وجلّ عباده على أعمالهم، بمعنى إعطائه إيّاهم العوض والجزاء عليه، حتّى يرجع إليهم بدلٌ من عملهم الّذي عملوا له.
وقد زعم بعض نحويّي أهل البصرة أنّ قوله: {ولو أنّهم آمنوا واتّقوا لمثوبةٌ من عند اللّه خيرٌ} ممّا اكتفى بدلالة الكلام على معناه عن ذكر جوابه، وأنّ معناه: ولو أنّهم آمنوا واتّقوا لأثيبوا؛ ولكنّه استغنى بدلالة الخبر عن المثوبة عن قوله: لأثيبوا.
وكان بعض نحويّي الكوفه ينكر ذلك، ويرى أنّ جوّاب قوله: {ولو أنّهم آمنوا واتّقوا لمثوبةٌ} وأنّ لو إنّما أجيبت بالمثوبة، وإن كانت أجوبتها بالماضي من الفعل لتقارب معناه من معنى لئن في أنّهما جزاءان، فإنّهما جوابان للإيمان، فأدخل جواب كلّ واحدةٍ منهما على صاحبتها، فأجيبت لو بجواب لئن، ولئن بجواب لو؛ لذلك وإنّ اختلفت أجوبتهما فكانت لو من حكمها وحظّها أن تجاب بالماضي من الفعل، وكانت لئن من حكمها وحظّها أن تجاب بالمستقبل من الفعل لما وصفنا من تقاربهما، فكان يتأوّل معنى قوله: {ولو أنّهم آمنوا واتّقوا} ولئن آمنوا واتّقوا لمثوبةٌ من عند اللّه خيرٌ.
وبما قلنا في تأويل المثوبة قال أهل التّأويل. ذكر من قال ذلك:
- حدّثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرّزّاق، قال: أخبرنا معمرٌ، عن قتادة: في قوله: {لمثوبةٌ من عند اللّه} يقول:
«ثوابٌ من عند اللّه».
- حدّثني موسى، قال: حدّثنا عمرٌو، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ:
«{ولو أنّهم آمنوا واتّقوا لمثوبةٌ من عند اللّه} أمّا المثوبة، فهو الثّواب».
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا إسحاق، قال: حدّثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرّبيع: {ولو أنّهم آمنوا واتّقوا لمثوبةٌ من عند اللّه خيرٌ} يقول:
«لثوابٌ من عند اللّه»). [جامع البيان: 2/ 370-373]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): ({ولو أنّهم آمنوا واتّقوا لمثوبةٌ من عند اللّه خيرٌ لو كانوا يعلمون (103)}
قوله: {ولو أنّهم آمنوا واتّقوا}
- حدّثنا محمّد بن يحيى، أنبأ العبّاس، ثنا يزيد، ثنا سعيدٌ، عن قتادة، قوله: {ولو أنّهم آمنوا واتّقوا} قال:
«آمنوا بما أنزل»). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 195]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {واتقوا}
- وبه، عن قتادة، قوله: {واتّقوا} قال:
«اتّقوا ما حرّم اللّه»). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 196]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {لمثوبةٌ من عند اللّه خيرٌ لو كانوا يعلمون}
- حدّثنا عصام بن روّادٍ، ثنا آدم، عن أبي جعفرٍ، عن الرّبيع، عن أبي العالية، في قوله: {لمثوبة من عند الله}:
«أي: لثوابٌ من عند اللّه خيرٌ».
وروي عن الحسن وقتادة، والسّدّيّ والرّبيع بن أنسٍ نحو ذلك). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 196]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {لو كانوا يعلمون}
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا منجاب بن الحارث، أنبأ بشر بن عمارة، عن أبي روقٍ، عن الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ، قال:
«كلّ شيءٍ في القرآن (لو) فإنّه لا يكون أبدًا»). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 196]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (قوله تعالى: {ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون}.
- أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، قال:
«كل شيء في القرآن (لو) فإنه لا يكون أبدا».
- وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، عن قتادة، في قوله: {لمثوبة} قال:
«ثواب»). [الدر المنثور: 1/ 538]


رد مع اقتباس
  #3  
قديم 26 ربيع الثاني 1434هـ/8-03-2013م, 09:23 PM
الصورة الرمزية إشراق المطيري
إشراق المطيري إشراق المطيري غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jun 2010
المشاركات: 885
افتراضي

التفسير اللغوي

تفسير قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)}
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({نبذ فريقٌ} أي: بعض؛ "نبذه": تركه،
وقال أبو الأسود الدّؤليّ: قال أبو عبيدة: أخذ من الدألان، واختار الدّؤلى:
نظرت إلى عنوانه فنبذته ....... كنبذك نعلاً أخلقت من نعالكا
). [مجاز القرآن: 1/ 48]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {ولمّا جاءهم رسول من عند اللّه مصدّق لما معهم نبذ فريق من الّذين أوتوا الكتاب كتاب اللّه وراء ظهورهم كأنّهم لا يعلمون} يعني به: النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الذي جاء به مصدّق التوراة والإنجيل،
{ولمّا} يقع بها الشيء لوقوع غيره {مصدّق} رفع صفة لرسول؛ لأنهما نكرتان.
ولو نصب كان جائزاً؛ لأن {رسول} قد وصف بقوله {من عند اللّه}, فلذلك صار النصب يحسن،
وموضع "ما" في {مصدّق لما معهم} جر بلام الإضافة، و "مع" صلة لها، والناصب لـ"مع" الاستقرار, المعنى: لما استقر معهم.
وقوله عزّ وجلّ: {نبذ فريق من الّذين أوتوا الكتاب كتاب اللّه وراء ظهورهم}
{الّذين أوتوا الكتاب} يعني به: اليهود، و"الكتاب" هنا: التوراة, و{كتاب اللّه وراء ظهورهم} فيه قولان:
جائز أن يكون: القرآن,
وجائز أن يكون: التوراة؛ لأن الذين كفروا بالنبي قد نبذوا التوراة.
وقوله عزّ وجلّ: {كأنّهم لا يعلمون} أعلم أنهم علماء بكتابهم، وأنهم رفضوه على علم به، وعداوة للنبي صلّى اللّه عليه وسلم, وأعلم أنّهم نبذوا كتاب اللّه). [معاني القرآن: 1/ 182]

تفسير قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {واتّبعوا ما تتلوا الشّياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان...}
كما تقول (في ملك سليمان)، تصلح "في" و"على" في مثل هذا الموضع؛ تقول: أتيته في عهد سليمان, وعلى عهده سواء). [معاني القرآن: 1/ 63]
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {وما أنزل على الملكين...}
- يقرءون "الملكين" من الملائكة, وكان ابن عباس يقول: "الملكين" من الملوك). [معاني القرآن: 1/ 64]
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {فيتعلّمون منهما ما يفرّقون به...}
أما السّحر فمن عمل الشياطين، فيتعلمون من الملكين كلاماً إذا قيل أخّذ به الرجل عن امرأته, ثم قال: ومن قول الملكين إذا تعلّم منهما ذلك: لا تكفر,
{إنّما نحن فتنةٌ فلا تكفر، فيتعلّمون} ليست بجواب لقوله: {وما يعلّمان}, إنما هي مردودة على قوله: {يعلّمون النّاس السّحر}, {فيتعلّمون ما يضرهم ولا ينفعهم}؛ فهذا وجه, ويكون {فيتعلّمون} متصلة بقوله: {إنّما نحن فتنةٌ} فيأبون, فيتعلّمون ما يضرّهم، وكأنه أجود الوجهين في العربية, والله أعلم). [معاني القرآن: 1/ 64]
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {ولقد علموا لمن اشتراه...}
{من} في موضع رفع وهي جزاء؛ لأن العرب إذا أحدثت على الجزاء هذه اللام, صيّروا فعله على جهة "فعل", ولا يكادون يجعلونه على "يفعل" كراهة أن يحدث على الجزاء حادث وهو مجزوم؛ ألا ترى أنهم يقولون: سل عمّا شئت، وتقول: لا آتيك ما عشت، ولا يقولون ما تعش؛ لأن "ما" في تأويل جزاءٍ وقد وقع ما قبلها عليها، فصرفوا الفعل إلى "فعل"؛ لأن الجزم لا يستبين في "فعل"، فصيّروا حدوث اللام -وإن كانت لا تعرّب شيئا- كالذي يعرّب، ثم صيّروا جواب الجزاء بما تلقى به اليمين -يريد تستقبل به- إمّا بلامٍ، وإما بـ"لا" وإما بـ"إنّ" وإمّا بـ"ما" فتقول في "ما": لئن أتيتني ما ذلك لك بضائع،
وفي "إنّ": لئن أتيتني إنّ ذلك لمشكور لك -قال الفراء: لا يكتب "لئن" إلا بالياء ليفرق بينها وبين "لأن"-،
وفي "لا": "لئن أخرجوا لا يخرجون معهم",
وفي اللام: {ولئن نصروهم ليولّنّ الأدبار},
وإنما صيّروا جواب الجزاء كجواب اليمين؛ لأن اللام التي دخلت في قوله: {ولقد علموا لمن اشتراه}, وفي قوله: {لما آتيتكم من كتابٍ وحكمةٍ}, وفي قوله: {لئن أخرجوا} إنما هي لام اليمين؛ كان موضعها في آخر الكلام، فلمّا صارت في أوله صارت كاليمين، فلقيت بما يلقى به اليمين، وإن أظهرت الفعل بعدها على "يفعل" جاز ذلك, وجزمته؛ فقلت: لئن تقم لا يقم إليك، وقال الشاعر:
لئن تك قد ضاقت عليكم بيوتكم ....... ليعلم ربّي أنّ بيتي واسع
وأنشدني بعض بني عقيل:
لئن كان ما حدّثته اليوم صادقاً ....... أصم في نهار القيظ للشّمس باديا
وأركب حماراً بين سرجٍ وفروةٍ ....... وأعر من الخاتام صغرى شماليا
فألقى جواب اليمين من الفعل، وكان الوجه في الكلام أن يقول: لئن كان كذا لآتينك، وتوهم إلغاء اللام، كما قال الآخر:
فلا يدعني قومي صريحاً لحرّةٍ ....... لئن كنت مقتولاً ويسلم عامر
فاللام في "لئن" ملغاة، ولكنها كثرت في الكلام حتى صارت بمنزلة "إن"، ألا ترى أن الشاعر قد قال:
فلئن قومٌ أصابوا غرّةً ....... وأصبنا من زمانٍ رققا
للقد كانوا لدى أزماننا ....... لصنيعين لبأسٍ وتقى
فأدخل على "لقد" لاماً أخرى لكثرة ما تلزم العرب اللام في "لقد" حتى صارت كأنها منها, وأنشدني بعض بنى أسد:
لددتهم النّصيحة كلّ لدٍّ ....... فمجّوا النّصح ثم ثنوا فقاءوا
فلا واللّه لا يلفى لما بي ....... ولا للما بهم أبداً دواء
ومثله قول الشاعر:
كما ما امرؤٌ في معشرٍ غير رهطه ....... ضعيف الكلام شخصه متضائل
قال: "كما" ثم زاد معها "ما" أخرى لكثرة "كما" في الكلام فصارت كأنها منها. وقال الأعشى:
لئن منيت بنا عن غبّ معركةٍ ....... لا تلفنا من دماء القوم ننتفل
فجزم "لا تلفنا" , والوجه الرفع، كما قال الله: {لئن أخرجوا لا يخرجون معهم}, ولكنه لمّا جاء بعد حرفٍ ينوي به الجزم صيّر جزما جوابا للمجزوم, وهو في معنى رفع, وأنشدني القاسم بن معنٍ, عن العرب:
حلفت له إن تدلج اللّيل لا يزل ....... أمامك بيتٌ من بيوتي سائر
والمعنى: حلفت له لا يزال أمامك بيتٌ، فلما جاء بعد المجزوم صيّر جواباً للجزم, ومثله في العربية: آتيك كي إن تحدثني بحديث أسمعه منك، فلما جاء بعد المجزوم جزم). [معاني القرآن: 1/ 65-69]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({في الآخرة من خلاقٍ}: من نصيب خير). [مجاز القرآن: 1/ 48]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({واتّبعوا ما تتلوا الشّياطين} أي: تَتَبَّع, و{تتلُو}: تحكى وتكلم به، كما تقول: يتلو كتاب الله, أي: يقرؤه). [مجاز القرآن: 1/ 48]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({ولبئس ما شروا به} أي: باعوا به أنفسهم، وقال ابن مفرّغ الحميريّ:
وشريت برداً ليتني ....... من بعد بردٍ كنت هامه
أي: بعته). [مجاز القرآن: 1/ 48]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({واتّبعوا ما تتلوا الشّياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكنّ الشّياطين كفروا يعلّمون النّاس السّحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلّمان من أحدٍ حتّى يقولا إنّما نحن فتنةٌ فلا تكفر فيتعلّمون منهما ما يفرّقون به بين المرء وزوجه وما هم بضآرّين به من أحدٍ إلاّ بإذن اللّه ويتعلّمون ما يضرّهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاقٍ ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون}
قوله: {وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت} معطوفان على {الملكين}، أو بدل منهما، ولكنهما أعجميان فلا ينصرفان, وموضعهما جر, و{بابل} لم ينصرف لتأنيثه، وذلك أن اسم كل مؤنث على حرفين أو ثلاثة أحرف أوسطها ساكن, فهو ينصرف، وما كان سوى ذلك من المؤنث فهو لا ينصرف ما دام اسماً للمؤنث.
وقال: {حتّى يقولا إنّما نحن فتنةٌ فلا تكفر فيتعلّمون منهما}, فليس قوله: {فيتعلّمون} جواباً لقوله: {فلا تكفر}، إنما هو مبتدأ ثم عطف عليه فقال: {ويتعلّمون ما يضرّهم ولا ينفعهم}, وقال: {يفرّقون به بين المرء وزوجه}؛ لأنّ كلّ واحدٍ منهما زوج، فالمرأة زوج, والرجل زوج, قال: {وخلق منها زوجها}, وقال: {من كلٍّ زوجين اثنين}, وقد يقال أيضاً "هما زوجٌ" للاثنين، كما تقول: "هما سواءٌ", و"هما سيّان", و"الزوج" أيضاً: النمط يطرح على الهودج, قال الشاعر:
من كلّ محفوفٍ يظلّ غصيّة ....... زوجٌ عليه كلّةٌ وقرامها
وقد قالوا: "الزوجة", قال الشاعر:
زوجة أشمط مرهوبٍ بوادره ....... قد صار في رأسه التخويص والنزع
وقال: {ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاقٍ}, فهذه لام الابتداء تدخل بعد العلم, وما أشبهه, ويبتدأ بعدها، تقول: "لقد علمت لزيدٌ خيرٌ منك" , قال: {لّمن تبعك منهم لأملأنّ جهنّم}, وقال: {ليوسف وأخوه أحبّ إلى أبينا منّا}.
وقال: {ولقد علموا لمن اشتراه}, ثم قال: {لو كانوا يعلمون} يعني: بالأولين الشياطين؛ لأنهم قد علموا {ولّو كانوا يعلمون} يعني: الإنس, وكان في قوله: {لمثوبةٌ} دليل على "أثيبوا", فاستغني به عن الجواب). [معاني القرآن: 1/ 108-109]
قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : (أبو جعفر وشيبة ونافع {ولكن الشياطين كفروا} يثقل.
الأعمش {ولكن الشياطين} يخفف.
الحسن {وما أنزل على الملكين} بفتح اللام.
قراءة أخرى سمعناها "الملكين" الواحد ملك، بكسر اللام). [معاني القرآن لقطرب: 255]
قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : (وأما قوله {على ملك سليمان} فكان ابن عباس يقول: في ملك سليمان.
قال أبو علي: وسمعنا العرب من تميم تقول: دعاني على منزلة لا أحبها؛ أي إلى منزلة لا أحبها؛ قال وسمعناهم يقولون: كان هذا على حياة فلان؛ أي في حياته، وجئت إلى الليل؛ أي عند الليل. قال أبو علي: وهذا كثير سنذكره إن شاء الله فيما نستقبل في موضعه.
[معاني القرآن لقطرب: 327]
وقوله عز وجل {بين المرء وزوجه} فبعض العرب يقول: هذا امرؤ سوء مضاف، ورأيت امرأة سوء، ومررت بامرئ سوء، فيتبع الراء الهمزة؛ وقيس تفتح الراء في كل وجه فيقولون: هذا امرأ سوء، ومررت بامرإ سوء؛ فإذا دخلت الألف واللام فبعض العرب يقول: هذا المرء فينصب الميم في كل وجه؛ وبعضهم يقول: هذا المرء، ورأيت المرأ فاعلم، ومررت بالمرء فاعلم، فيتبع؛ وبعضهم يضم الميم في كل وجه فيقول: هذا مرء ومررت بمرء، ورأيت مرءًا.
وقال الراجز:
دع ذا ولكن رب مرء دقراز = مقصر يجهل حق الجار
ففتح.
فإذا دخلت هاء التأنيث قلت: هذه امرأة والامرأة: على امرئ، وهذه المرأة؛ يدخلها على مرء يا هذا، وهذه المرة، فيمن ترك الهمز، مثل: الكمة والحمة؛ وقد قالوا: هذه المراة فأبدلوا من الهمزة الألف؛ وكان أبو عمرو يقرأ "امرأت عمران"، ساكنة الألف مهموزة، وهذا شاذ قليل غير مستحسن). [معاني القرآن لقطرب: 328]
قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : (وأما قوله عز وجل {فلا تكفر فيتعلمون} فرفع وهو نهي، لم يجعله جوابًا للجزاء، وكذلك {أن يقول له كن فيكون} فرفع، وهو كقولك: ايتني فأعطيك، في أنه أمر مثله.
وقوله {ولا يؤذن لهم فيعتذرون} و{لا يقضى عليهم فيموتوا} فنصب.
وقوله {لا تقتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب} فنصب بالفاء، وسنخبر عن علة الانتصاب.
وقوله {ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا} فنصب أو جزم، وسنخبر عنها إن شاء الله.
القول في الجواب بالفاء أنه يكون مع خمسة أشياء:
[معاني القرآن لقطرب: 424]
مع الأمر، والنهي، والاستفهام، والنفي، والتمني.
فالنهي {لا تقتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب} ولا تأتني فأضربك.
والأمر: ايتني فأحسن إليك؛ وقوله {كن فيكون} فيمن نصب.
والاستفهام قوله {من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه} وقوله أيضًا {لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن} {وأكون}، وسنخبر عن جزم {وأكن} مع انتصاب {فأصدق} آخر الباب إن شاء الله.
وأما النفي فقول الله عز وجل {لا يقضى عليهم فيموتوا} وما تأتيني فتقول جميلا.
وأما التمني فكقولك: ألا دابة فأركبها، ألا شراب فأشربه.
وهذا كله منصوب بإضمار "أن"؛ كأنه قال: لا تفتروا فأن يسحتكم؛ ولا يقضي عليهم فأن يموتوا؛ لما كان آخره ليس مردودًا على أوله في المعنى أضمروا "أن"؛ ليكون اسما يرد على معنى اسم مثله؛ لأنه أراد: ايتني أو أعطني، فكأنه قال: لتكن منك عطية أو إتيان فأن أعطيك؛ أي فالعطية مني.
الا ترى أنه إذا قال: ايتني فهو خير لك؛ أنه قد جعل "هو" الإتيان الذي أضمره، فالمعنى: فالإتيان خير لك؛ ولا يجوز أن تكون الفاء هي الناصبة نفسها؛ لأنها حرف عطف، فجاز كالواو، ولو كانت هي الناصبة على ما يقول قوم، لكانت مثل: أن وكي، اللتين تنصبان الفعل، فجاز أن تدخل عليها حروف العطف، كما تدخل على أن وكي وشبههما، فتقول: وأن أعطيك، وكي أعطيك؛ فكان يجوز - لو كانت الفاء هي العاملة - أن تقول: وفأضربك، فتدخل الواو، أو: وثم فأضربك؛ وهذا فاسد، يدل على أن الفاء هاهنا حرف عطف، وليست بعاملة شيئًا.
وإن رفعت هذا كله - الذي نصبناه - على الابتداء؛ فلا بأس به؛ وذلك {من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه} أي فهو يضاعفه تبتدئه؛ وعلى هذا {ولا يؤذن لهم فيعتذرون} عطفه بالفاء على {يؤذن} كأنه قال: ولا يعتذرون؛ ولو رفعه على الابتداء كان ضعيفًا، ليس بالسهل في المعنى لو قال: لا يؤذن لهم فهم يعتذرون؛ لأنهم
[معاني القرآن لقطرب: 425]
لم يؤذن لهم فيكون منهم الاعتذار؛ وليس هذا مثل {فيضاعفه}؛ لأنه فهو يضاعفه، فلهذا حسن.
وكذلك قوله {كن فيكون} إذا رفع، وإنما تبتدئه، كأنه قال: إنما أمرنا ذلك فيكون يا هذا؛ أي فهو يكون؛ والنصب على الفاء لا بأس به، وإنما كثر الرفع، لأن المعنى فيه هذا الابتداء الذي وصفته.
وأما قوله {فلا تكفر فيتعلمون منهما} فليس بحسن فيه النصب؛ لأن المعنى: فهم يتعلمون على كل حال؛ ولم يجعل كفرهم سببًا لتعليمهم، ولكنه انقطع على كل حال؛ وإنما يكون نصبًا إذا كان الأول سببًا للفعل الآخر، نحو قولك: ايتني فأعطيك، والعطية سببها الإتيان، وبه وجبت.
وقال الفرزدق فيما نصب من النفي:
وما قام منا قائم في ندينا = فينطق، إلا بالتي هي أعرف
وقال كثير في الاستفهام:
ألم تسأل فيخبرك الرسوم = على فرناج والطلل القديم
وأما الرفع الذي أجزناه فقوله:
ألم تسأل الربع لاقواء فينطق = وهل تخبرنك اليوم بيداء سملق
فرفع، كأنه قال: فهو ينطق؛ وهذا مثل من قرأ {فيضاعفه}؛ والنصب أحسن في كل ما ذكرنا من الخمسة.
[معاني القرآن لقطرب: 426]
فإن كنت مخبرًا فالرفع؛ وذلك: كان زيد يأتيني فأحسن إليه، وكنت أمر به فيكرمني؛ لأن معنى الكلامين معنى واحد، فرجع الآخر إلى الأول فعطف عليه؛ وقد جاء بعض هذا منصوبًا، وهو مرغوب عنه؛ سمعنا العرب تقول: آتي الخصاف فيخصف نعلي؛ وهذا شاذ قليل؛ ومثله في الواجب قول الشاعر:
ثمت لا تجزونني عند ذاكم = ولكن سيجزيني المليك فيعقبا
نصب.
وأنشد بعضهم للأعشى:
لقد كان في حول ثواء ثويته = تقضي لبانات ويسأم سائم
نصب.
وأما قوله عز وجل {ودوا لو تدهن فيدهنون} فرفع، كأنه قال فهم يدهنون ولو نصب كان وجهًا: تدهن فيدهنوا، ولكنها على خلاف الكتاب؛ وإنما جاز لأن أوله تمني، ألا ترى أنك تقول: وددت لو فعل فأحسن إليه، وليته قام فأعطيه.
وقال الله عز وجل {لو أن لي كرة فأكون من المحسنين}، قال: وأنشدنا يونس بن حبيب:
اذهبي قولي لهذا = لو تلبثت قليلاً
يغفل الحي ومن = حولي ولا تعص فتيلا
فجاء بلو.
وأما قوله عز وجل {ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة} فرفع وأوله استفهام؛ فإنما المعنى فيه: أنه نبه في قوله {ألم تر}؛ أي انظر واعلم؛ ثم أخبر عن قصة المطر وما يصنع فقال: ومن قصته فتصبح الأرض مخضرة.
وشبيه به بيت النابغة:
[معاني القرآن لقطرب: 427]
فلا زال قبر بين تبنا وجاسم = عليه من السومي جود ووابل
فينبت حوذانا وعوفا منورا = سأتبعه من خير ما قال قائل
كأنه قال: فهو ينبت حوذانا، ابتدأه وجعله قصة على حيالها؛ والنصب جائز؛ لأن أوله "لا" التي ينفي بها.
[قال أبو الحسن: يبنا بالياء بفلسطين، وتبنا بالتاء عند جاسم من دمشق].
وأما قوله عز وجل {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء} فإنما انتصاب هذا على معنى واحد؛ وهو إضمار "أن" فيه ولا يكون منصوبًا بـ"أن" هذه التي في لفظك؛ لأنه لو قال: ما كان لبشر أن يكلمه الله أو أن يرسل وفأن يوحي انتقض المعنى، ولكن المعنى: إلا وحيًا أو يرسل رسولا فأن يوحي بإذنه؛ فيرد "أن" وأن يرسل على الوحي، لأنه اسم مثله، كأنه قال: إلا وحيا أو إرسالاً؛ فبهذا يصح المعنى.
وأما قوله عز وجل {فأصدق وأكن} فمن قرأ بها {وأكون} هي القياس والأحسن، وكره قوم مخالفة الكتاب في ذلك؛ فمن قال: {وأكن} فإنما رده على موضع {فأصدق} وكأنه لم يذكر الفاء؛ لأنه إذا لم يذكرها جزم على الجزاء فقال: أصدق؛ لأن أوله استفهام؛ فقال: أصدق وأكن؛ فهذا وجه جزمه.
[معاني القرآن لقطرب: 428]
وقال الشاعر:
أيا صرفت فإنني لك كاشح = وعلى انتقاصك في الحياة وأزدد
جزم الآخر.
وقال الشاعر:
معاوى إننا بشر فأسجح = فلسنا بالجبال ولا الحديدا
فرد الحديد - بنصبه إياه - على ليس، وترك العطف على الباء، ولم يجرر؛ كأنه لم يذكر الباء، كما قلنا في الفاء من الآية.
قال آخر:
دعني فأذهب جانبا = وحدي وأكفك جانبي
فجزم "وأكفك" على موضع "فأذهب" على مثل جزم الآية.
وقال الآخر أنشدناه بعضهم:
فلولا صدقت القوم يوم لقيتهم = فتطعن فيهم أو يكن لك ذاكرا.
فجزم "أو يكن لك" على موضع "فتطعن".
وقال أيضًا:
إذا أنفد الباكي عليك فإنني = سيبكيك مني دمع عين ممانح
ويبكيك أطراف الأسنة والقنا = إذا زعزعت والشيظمون الشرامح
ثم زعم يونس بعد ذلك: أنه سمعه رفعًا؛ والجزم فيه مثل: {فأصدق وأكن}.
وقال الأحوص أيضًا مثله:
[معاني القرآن لقطرب: 429]
فأبلوني بليتكم لعلي = أصالحكم وأستدرج نويا
فجزم مثل جزم الآية.
وأما قوله عز وجل {واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا} فيجوز أن يكون على الفاء منصوبًا؛ لأن أوله أمر؛ ويجوز على الدعاء عليهم: "فلا آمنوا"، فيكون في موضع جزم؛ لأن الجزم والنصب في فعل الاثنين والجميع سواء، ومن هذا الدعاء قوله:
فلا ذقت مما تأكل الطير طيبا = ولا ترو إلا من شراب مرنق
والمعنى: ولا رويت؛ دعا عليه.
وزعم يونس أن معنى هذا البيت:
إذا نحن فارقنا يزيد ورهطه = فلا يبق مال تقتنيه ولا أهل
يريد: فلا بقي مال ولا أهل.
وكذلك الواو و"أو" تنصب بما فيهما أيضًا، كقول الله عز وجل {ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم} فانتصابه على: ليقطع طرفًا أو ليتوب عليهم.
وكذلك {يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين} فيمن نصب؛ ومن رفع فعلى العطف على {نرد} وعلى الابتداء.
وكذلك قوله {ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين} إذا نصب، فكأنه: وأن يعلم الصابرين؛ ومن قرأه: "ويعلم الصابرين" فجزم على العطف.
وقوله {ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون} فكل هذا على إضمار "أن"؛ وإن صيرت {تكتموا} جزمًا على النهي - كأنه قال: ولا تكتموا - فحسن.
وكذلك في الكلام: لا تأكل السمك وتشرب اللبن؛ فالمعنى: لا تجمع بينهما إذا نصب، ولم يرد: لا تأكل السمك ولا تشرب اللبن؛ فيكون ناهيًا له عنهما جميعًا؛ وهذا معنى الجزم.
[معاني القرآن لقطرب: 430]
ومما جاء من هذا منتصبًا بأن مضمرةً، قول امرئ القيس:
فقلت له لا تبك عينك إنما = نحاول ملكًا أو نموت فنعذرا
كأنه قال: إلا أن نموت أو أن نعذر.
ومثله:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله = عار عليك إذا فعلت عظيم
المعنى: لا تجمع بين هذين الفعلين.
ومثله:
ولولا رجال من رزام أعزة = وآل سبيع أو أسوءك علقما
مثل: {أو يتوب عليهم} .
كأنه قال: ولولا مساءتك.
وأما العطف على أوله في قوله {وتكتمون الحق}، يريد: ولا تكتموا الحق؛ فبيت امرئ القيس:
فقلت له صوب ولا تجهدنه = فيذرك من أخرى القطاة فتزلق
فجزم "فيذرك" على النهي.
ومثله:
ولا تشتم المولى وتبلغ أذاته = فإنك إن تفعل تسفه وتجهل
يريد: ولا تبلغ أذاته.
فهذه حال الفاء وأخواته.
وأما قوله عز وجل {ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون} فإنه ابتدأ؛ كأنه قال: أو هم يسلمون، على مثل قول الأعشى:
[معاني القرآن لقطرب: 431]
إن تركبوا فركوب الخيل عادتنا = أو تنزلون فإنا معشر نزل
كأنه قال: أو أنتم تنزلون؛ ولو نصب على ما ذكرنا بإضمار "أن" فقال: أو تسلموا، أو تنزلوا لأصاب؛ إلا أنها في الآية مخالفة للكتاب، فلا يقرأ بها.
وأما قوله عز وجل {ولقد علموا لمن اشتراه ما له} فهذه لام التوكيد على: علموا للذي اشتراه؛ وكذلك {لمن تبعك منهم لأملأن جهنم} فاللام الثانية كـ "لام" اليمين، كقولك: لمن أتاك والله لأضربنه؛ وكذلك {يدعو لمن ضره أقرب من نفعه لبئس المولى} هي الخبر لأن {أقرب} من صلة "من"، وهذا كقولك: لزيد لبئس الرجل، وحكي عن بعضهم: لتذهبن، بكسر اللام، وذلك شاذ قليل.
وقال الشاعر مثل ذلك:
إذا هو آلى حلفة قلت مثلها = لتغني عني ذا إنائك أجمعا
يريد: لتغنين.
وكذلك قوله {لأقسم بيوم القيامة} فيمن قرأها مقصورة؛ فهذا قولهم سمعناه منهم: لأريد ذلك، يريد: أريد ذاك؛ ولأحلف بالله، يريد: أحلف بالله، مثل {لأقسم} يريد: أقسم؛ فكأنها للتأكيد.
وقال الشاعر مثل ذلك:
لعمري لئن ضاقت علي بلادكم = ليعلم ربي أن بيتي واسع
كأنه قال: ليعلمن ربي.
وكذلك اللام التي في قوله {وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين} {وإن نظنك لمن الكاذبين}، و{إن كادت لتبدي به}؛ ومثله في الكلام: إن كان زيد لظريفًا، وإن كنت لعاقلاً؛ فالمعنىك أنه عاقل؛ وإنما توجب فتدخل اللام؛ لئلا
[معاني القرآن لقطرب: 432]
تلتبس "إن" هذه الموجبة بـ"إن" التي للنفي في معنى "ما"؛ لأن هذه التي في معنى "ما" لا تدخلها اللام؛ لأنها للنفي، واللام موجبة؛ ففرقوا بينهما بإلزام اللام لها؛ وهذه التي في معنى "ما" قول الله عز وجل {إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء}، {وإن أدري لعله فتنة لكم}؛ أي ما ندري لعله فتنة، وما نقول إلا اعتراك.
وأما لام الإضافة فمكسورة في الاسم المظهر في قولك {لله ما في السماوات} ولزيد مال؛ فإذا أضمرت الاسم انفتحت فقلت: لك، وله؛ أو ناديت فقلت: يال بكر، يال تميم؛ وذلك لأن أصلها الفتح، فلما أضمروا أو نادوا ردوها إلى أصلها.
وإذا أظهروا الاسم كسروها؛ لئلا تلتبس بالمفتوحة التي تكون للتأكيد؛ لأن المؤكدة قد تقع في المظهر، كقول الله عز وجل {والله يشهد إن المنافقين لكاذبون} و{إن الله لغفور رحيم}، ولزيد خير من عمرو، فإذا أضمروا قالوا: لك وله، ولم تدخل لام التوكيد هاهنا؛ لأن الكاف والهاء موضعهما جر أو نصب، لا يكونان في موضع رفع.
وكذلك إذا قال: يال تميم، فتحتها؛ لأن لام التأكيد قد أمنها هاهنا؛ لأنها لا تقع في النداء، وإنما تقع في الخبر إذا قال: لزيد أفضل من عمرو؛ فلما أمنوا الالتباس ردوها إلى أصلها.
وأما اللام التي في معنى كي في الفعل، كقول الله عز وجل {ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين}؛ كأنه قال: لأن تكون من المؤمنين وكذلك {وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال} و{ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه} .
وقد حكي عن رجل من بلعنبر: ما كنت لأضربك، ففتح اللام، وذلك شاذ رديء.
وكذلك لام الأمر مكسورة كقول الله عز وجل {وليعفوا وليصفحوا}، {فليمدد بسبب إلى السماء} وقد أنشد بعضهم.
وأدناها وما فيها دني = ليرقد ثم يرقد أن يضارا
ففتح أيضًا لام الأمر؛ وهذا شاذ.
[معاني القرآن لقطرب: 433]
فهذه حال اللامات في القرآن.
وفتح لام الأمر لغة سليم وعكل وضبة؛ وكذلك لام الأمر تقول: ليذهب، ليقل). [معاني القرآن لقطرب: 434]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({من خلاق}: من نصيب خير.
{شروا به أنفسهم}: باعوا به أنفسهم). [غريب القرآن وتفسيره: 77-78]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({واتّبعوا ما تتلوا الشّياطين على ملك سليمان} أي: ما ترويه الشياطين على ملك سليمان, والتلاوة والرواية شيء واحد, وكانت الشياطين دفنت سحراً تحت كرسيّه، وقالت للناس بعد وفاته: إنما هلك بالسحر, يقول: فاليهود تتبع السحر, وتعمل به.
{إنّما نحن فتنةٌ} أي: اختبار وابتلاء, و"الخلاق": الحظّ من الخير ومنه قول النبي صلّى اللّه عليه وسلم: «ليؤيّدن اللّه هذا الدين بقوم لا خلاق لهم» أي: لا حظّ لهم في الخير.
{شروا به أنفسهم} أي: باعوها, يقال: شريت الشيء, وأنت تريد اشتريته وبعته, وهو حرف من حروف الأضداد). [تفسير غريب القرآن: 59-60]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {واتّبعوا ما تتلو الشّياطين على ملك سليمان}: ما كانت تتلوه، والذي كانت الشياطين تلته في ملك سليمان كتاب من السحر, فلبهت اليهود وكذبهم, ادعوا أن هذا السحر أخذوه عن سليمان, وأنه اسم الله الأعظم، يتكسّبون بذلك، فأعلم اللّه عزّ وجلّ أنهم رفضوا كتابه, واتبعوا السحر،
ومعنى {على ملك سليمان}: على عهد ملك سليمان عليهم, فبرأ اللّه عزّ وجلّ سليمان من السحر، وأظهر محمداً صلى الله عليه وسلم على كذبهم.
وقال: {وما كفر سليمان} لأن اللّه جعل الإتيان من سليمان بالسحر كفراً, فبرّأه منه، وأعلم أن الشياطين كفروا, فقال: {ولكنّ الشّياطين كفروا يعلّمون النّاس السّحر}، فمن شدد {لكنّ} نصب الشياطين، ومن خفف رفع فقال: (وَلَكِنِ الشياطينُ كفروا), وقد قرئ بهما جميعاً.
وقوله عزّ وجلّ: {يعلّمون النّاس السّحر وما أنزل على الملكين} وقد قرئ (على المِلَكَيْنِ)، و{المَلَكَيْنِ} أثبت في الرواية والتفسير جميعاً,
المعنى: يعلمون الناس السحر, ويعلمون ما أنزل على الملكين، فموضع {ما} نصب، نسق على {السحر}،
وجائز أن يكون: واتبعوا ما تَتْلُو الشياطين, واتبعوا ما أنزل على الملكين، فتكون (ما) الثانية عطفاً على الأولى.
وقوله: {وما يعلّمان من أحد حتّى يقولا إنّما نحن فتنة فلا تكفر} فيه غير قول:
أحدها -وهو أثبتها-: أن الملكين كانا يعلمان الناس السحر, و"علمت"، و"أعلمت" جميعاً في اللغة بمعنى واحد, كانا يعلمان نبأ السحر, ويأمران باجتنابه, وفي ذلك حكمة؛ لأن سائلاً لو سأل: ما الزنا وما القذف؟ لوجب أن يوقف, ويعلّم أنه حرام، فكذلك مجاز إعلام الملكين الناس, وأمرهما باجتنابه بعد الإعلام يدل على ما وصفنا، فهذا مستقيم بين، ولا يكون على هذا التأويل: تعلم السحر كفراً, إنما يكون العمل به كفرا، كما أن من عرف الزنا لم يأثم بأنه عرفه، وإنما يأثم بالعمل به.
وفيه قول آخر جائز: أن يكون اللّه عزّ وجلّ امتحن بالملكين الناس في ذلك الوقت، وجعل المحنة في الكفر والإيمان أن يقبل القابل تعلم السحر، فيكون بتعلّمه كافراً, وبترك تعلمه مؤمناً؛ لأن السحر قد كان كثر, وكان في كل أمة، والدليل على ذلك: أن فرعون فزع في أمر موسى صلى الله عليه وسلم إلى السحر, فقال: {ائتوني بكل ساحر عليم}, وهذا ممكن أن يمتحن اللّه به كما امتحن بالنهر في قوله: {إنّ اللّه مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس منّي ومن لم يطعمه فإنه منّي إلّا من اغترف غرفة بيده}.
وقد قيل: إن السحر ما أنزل على الملكين، ولا أمرا به, ولا أتى به سليمان عليه السلام, فقال قوم: {وما كفر سليمان ولكنّ الشّياطين كفروا يعلّمون النّاس السّحر وما أنزل على الملكين}, فيكون "ما" جحدا، ويكون "هاروت" و"ماروت" من صفة الشياطين، على تأويل هؤلاء، كان التأويل عندهم -على مذهب هؤلاء-: كان الشياطين هاروت وماروت، ويكون معنى قولهما -على مذهب هؤلاء-: {إنّما نحن فتنة فلا تكفر} كقول الغاوي والخليع: أنا في ضلال فلا ترد ما أنا فيه.
فهذه ثلاثة أوجه، والوجهان الأولان أشبه بالتأويل, وأشبه بالحق عند كثير من أهل اللغة، والقول الثالث له وجه، إلا أن الحديث وما جاء في قصّة الملكين أشبه وأولى أن يؤخذ به.
وإنما نذكر -مع الإعراب- المعنى والتفسير؛ لأن كتاب اللّه ينبغي أن يتبين؛ ألا ترى أن اللّه يقول: {أفلا يتدبّرون القرآن}, فحضضنا على التدبر والنظر، ولكن لا ينبغي لأحد أن يتكلم إلا على مذهب اللغة، أو ما يوافق نقلة أهل العلم، واللّه أعلم بحقيقة تفسير هذه الآية, إن النحويين قد ترك كثير منهم الكلام فيها لصعوبتها، وتكلم جماعة منهم, وإنما تكلمنا على مذاهبهم.
وقال بعض أهل اللغة: إن الذي أنزل على الملكين كلام ليس بسحر إلا إنّه يفرق به بين المرء وزوجه, فهو من باب السحر في التحريم, وهذا يحتاج من الشرح إلى مثل ما يحتاج إليه السحر.
وقوله عزّ وجلّ: {فيتعلّمون منهما} ليس {يتعلّمون} بجواب لقوله {فلا تكفر}, وقد قال أصحاب النحو في هذا قولين:
قال بعضهم: إن قوله {يتعلمون} عطف على قوله: {يعلّمون}, وهذا خطأ، لأن قوله {منهما} دليل ههنا على أن التعلم من الملكين خاصة,
وقيل: {فيتعلّمون} عطف على ما يوجبه معنى الكلام، المعنى: {إنما نحن فتنة فلا تكفر} فلا تتعلم, ولا تعمل بالسحر، فيأبون, فيتعلمون، وهذا قول حسن.
والأجود في هذا: أن يكون عطفاً على {يعلمان}, {فيتعلمون}, واستغنى عن ذكر {يعلمان} بما في الكلام من الدليل عليه.
وقوله عزّ وجلّ: {وما هم بضارّين به من أحد إلّا بإذن الله}؛ "الإذن" هنا لا يكون الأمر من الله عزّ وجلّ، {إنّ اللّه لا يأمر بالفحشاء}, ولكن المعنى: إلا بعلم الله.
وقوله عزّ وجلّ: {ويتعلّمون ما يضرّهم ولا ينفعهم} المعنى: أنّه يضرهم في الآخرة, وإن تعجلوا به في الدنيا نفعاً.
وقوله عزّ وجلّ: {ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق}؛ "الخلاق": النصيب الوافر من الخير، ويعني بذلك: الذين يعلمون السحر؛ لأنهم كانوا من علماء اليهود.
وقوله عزّ وجلّ: {ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون} فيه قولان:
قالوا: {لو كانوا يعلمون} يعني به: الذين يعلمون السحر, والذين علموا أن العالم به لا خلاق له: هم المعلمون.
قال أبو إسحاق: والأجود عندي أن يكون {لو كانوا يعلمون} راجعاً إلى هؤلاء الذين قد علموا أنه لا خلاق لهم في الآخرة, أي: لمن علّم السحر, ولكن قيل: {لو كانوا يعلمون} وأي: لو كان علمهم ينفعهم, لسمّوا عالمين، ولكنّ علمهم نبذوه وراء ظهورهم، فقيل لهم: {لو كانوا يعلمون} أي: ليس يوفون العلم حقه؛ لأنّ العالم إذا ترك العمل بعلمه , قيل له: لست بعالم, ودخول اللام في لقد على جهة القسم والتوكيد.
وقال النحويون في {لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق} قولين:
جعل بعضهم "من" بمعنى الشرط، وجعل الجواب: {ما له في الآخرة من خلاق}، وهذا ليس بموضع شرط ولا جزاء، ولكن المعنى: ولقد علموا الذي اشتراه ما له في الآخرة من خلاق, كما تقول: واللّه لقد علمت للذي جاءك ما له من عقل.
فأمّا دخول اللام في الجزاء في غير هذا الموضع, وفيمن جعل هذا موضع شرط وجزاء مثل قوله: {ولئن جئتهم بآية ليقولنّ الّذين كفروا}, ونحو {ولئن أتيت الّذين أوتوا الكتاب بكلّ آية ما تبعوا قبلتك}, فاللام الثانية هي لام القسم في الحقيقة؛ لأنك إنما تحلف على فعلك لا على فعل غيرك في قولك: والله لئن جئتني لأكرمنك، فزعم بعض النحويين أن اللام لما دخلت في أول الكلام أشبهت القسم, فأجيبت بجوابه, وهذا خطأ؛ لأن جواب القسم ليس يشبه القسم، ولكن اللام الأولى دخلت إعلاماً أنّ الجملة بكمالها معقودة للقسم؛ لأن الجزاء وإن كان للقسم عليه , فقد صار للشرط فيه حظ، فلذلك دخلت اللام). [معاني القرآن: 1/ 182-187]
قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت:345 هـ): (والفتنة: الاختبار، والفتنة: المنحة، والفتنة: المال، والفتنة: الأولاد، والفتنة -أيضًا-: الكفر، والفتنة: اختلاف الناس بالآراء، والفتنة: المحبة، والفتنة: الإحراق بالنار، والفتنة: إدخال الذهب أو الفضة إلى النار لينقيا من الخبث، والفتنة: المنع، والفتنة: الصد، يقال: فتنه عن كذا، أي: صده عنه). [ياقوتة الصراط: 177-178]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({واتبعوا ما تتلو الشياطين} أي: ما تروي، يعني: اليهود, والتلاوة: الرواية، والذين رووا أنهم قالوا بالسحر؛ لأن الشياطين دفنت تحت كرسي سليمان سحراً, فلما مات؛ قالت الشياطين: بهذا هلك، فاتبعته اليهود, وعملت به.
{إنما نحن فتنة} أي: ابتلاء واختبار , و"الخلاق": الحظ من الخير). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 32]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({مَا تَتْلُو}: ما تروى, {فِتْنَةٌ}: اختبار, {مِنْ خَلاَقٍ}: نصيب). [العمدة في غريب القرآن: 80-81]

تفسير قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103)}
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({لمثوبةٌ}: من الثواب). [مجاز القرآن: 1/ 49]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({ولو أنّهم آمنوا واتّقوا لمثوبةٌ مّن عند اللّه خيرٌ لّو كانوا يعلمون}
قال: {ولو أنّهم آمنوا واتّقوا لمثوبةٌ مّن عند اللّه خيرٌ}, فليس لقوله: {ولو أنّهم آمنوا واتّقوا} جواب في اللفظ, ولكنه في المعنى يريد: لأثيبوا, فقوله: {لمثوبةٌ} يدل على "لأثيبوا", فاستغني به عن الجواب, وقوله: {لمثوبةٌ} هذه اللام للابتداء كما فسرت لك). [معاني القرآن: 1/ 109]
قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : (قراءة ابن عباس رحمه الله "لمثوبة".
الحسن وأبو عمرو {لمثوبة} يسكنان الواو.
وقراءة أخرى "لمثوبة".
[معاني القرآن لقطرب: 255]
وقالوا في لغة أيضًا: لمثوبة بضم الواو، وهي من الثواب مفعلة، من أثاب يثيب). [معاني القرآن لقطرب: 256]
قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : (وأما قوله عز وجل {لمثوبة} فقالوا: أثوبه الله مثوبة، فأظهروا الواو من أثابه؛ وقال الله عز وجل {فأثابكم غما بغم} فجعل الغم ثوابًا، نحو {هل ثوب الكفار} و{فبشرهم بعذاب أليم} ). [معاني القرآن لقطرب: 328]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({لمثوبة}: من الثواب). [غريب القرآن وتفسيره: 78]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({المثوبة}: الثواب, والثواب والأجر: هما الجزاء على العمل). [تفسير غريب القرآن: 60]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {ولو أنّهم آمنوا واتّقوا لمثوبة من عند اللّه خير لو كانوا يعلمون}
"مثوبة" في موضع جواب "لو" لأنها تنبئ عن قولك: "لأثيبوا", ومعنى الكلام: أن ثواب اللّه خير لهم من كسبهم بالكفر والسحر.
وقوله عزّ وجلّ: {لو كانوا يعلمون} أي: لو كانوا يعملون بعلمهم، ويعلمون حقيقة ما فيه الفضل). [معاني القرآن: 1/ 187]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ("الَمَثُوبَةٌ": الثواب). [العمدة في غريب القرآن: 81]


رد مع اقتباس
  #4  
قديم 1 جمادى الآخرة 1434هـ/11-04-2013م, 09:21 PM
الصورة الرمزية إشراق المطيري
إشراق المطيري إشراق المطيري غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jun 2010
المشاركات: 885
افتراضي

التفسير اللغوي المجموع
[ما استخلص من كتب علماء اللغة مما له صلة بهذا الدرس]

تفسير قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)}

تفسير قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)}
قَالَ سِيبَوَيْهِ عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ بْنِ قُنْبُرٍ (ت: 180هـ): (هذا باب ما لا يعمل فيه ما قبله من الفعل الذي يتعدى إلى المفعول ولا غيره لأنه كلامٌ قد عمل بعضه في بعض فلا يكون إلاّ مبتدأ لا يعمل فيه شيء قبله لأنّ ألف الاستفهام تمنعه من ذلك.
وهو قولك: قد علمت أعبد الله ثمّ أم زيدٌ، وقد عرفت أبو من زيدٌ، وقد عرفت أيّهم أبوه، وأما ترى أي برقٍ هاهنا. فهذا في موضع مفعول كما أنّك إذا قلت: عبد الله هل رأيته فهذا الكلام في موضع المبنىّ على المبتدأ الذي يعمل فيه فيرفعه.
ومثل ذلك: ليت شعري أعبد الله ثمّ أم زيدٌ، وليت شعري هل رأيته، فهذا في موضع خبر ليت. فإنّما أدخلت هذه الأشياء على قولك: أزيدٌ ثمّ أم عمرو وأيّهم أبوك لما احتجت إليه من المعاني. وسنذكر ذلك في باب التسوية.
ومثل ذلك قوله عزّ وجلّ: {لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا} وقوله تعالى: {فلينظر أيها أزكى طعاما}.
ومن ذلك :قد علمت لعبد الله خيرٌ منك. فهذه اللام تمنع العمل كما تمنع ألف الاستفهام لأنّها إنّما هي لام الابتداء، وإنما أدخلت عليه علمت لتؤكد وتجعله يقيناً قد علمته ولا تحيل على علم غيرك. كما أنّك إذا قلت: قد علمت أزيدٌ ثمّ أم عمروٌ أردت أن تخبر أنّك قد علمت أيّهما ثمّ وأردت أن تسوى علم المخاطب فيهما كما استوى علمك في المسألة حين قلت أزيدٌ ثمّ أم عمرٌو. ومثل ذلك قوله عزّ وجلّ: {ولقد علموا لمن اشتراه ماله في الآخرة من خلاقٍ}.
ولو لم تستفهم ولم تدخل لام الابتداء لأعملت علمت كما تعمل عرفت ورأيت وذلك قولك: قد علمت زيداً خيرا منك، كما قال تعالى جدّه: {ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت}، وكما قال جلّ ثناؤه: {لا تعلمونهم الله يعلمهم}، كقولك: لا تعرفونهم الله يعرفهم. وقال سبحانه: {والله يعلم المفسد من المصلح}). [الكتاب: 1/ 235-237] (م)
قَالَ سِيبَوَيْهِ عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ بْنِ قُنْبُرٍ (ت: 180هـ): (واعلم أن الفاء لا تضمر فيها أن في الواجب ولا يكون في هذا الباب إلا الرفع وسنبين لم ذلك، وذلك قوله: إنه عندنا فيحدثنا وسوف آتيه فأحدثه ليس إلا إن شئت رفعته على أن تشرك بينه وبين الأول، وإن شئت كان منقطعاً لأنك قد أوجبت أن تفعل فلا يكون فيه إلا الرفع وقال عز وجل: {فلا تكفر فيتعلمون}، فارتفعت لأنه لم يخبر عن الملكين أنهما قالا لا تكفر فيتعلمون ليجعلا كفره سبباً لتعليم غيره ولكنه على كفروا فيتعلمون.
ومثله: {كن فيكون} كأنه قال: إنما أمرنا ذاك فيكون). [الكتاب: 3/ 38-39]
قَالَ سِيبَوَيْهِ عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ بْنِ قُنْبُرٍ (ت: 180هـ): (وهذه اللام تصرف إن إلى الابتداء كما تصرف عبد الله إلى الابتداء إذا قلت: قد علمت لعبد الله خيرٌ منك، فعبد الله هنا بمنزلة إن في أنه يصرف إلى الابتداء.
ولو قلت: قد علمت أنه لخير منك، لقلت: قد علمت لزيداً خيراً منك، ورأيت لعبد الله هو الكريم، فهذه اللام لا تكون مع أن ولا عبد الله إلا وهما مبتدءان.
ونظير ذلك قوله عز وجل: {ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق} فهو ههنا مبتدأ.
ونظير إن مكسورةً إذا لحقتها اللام قوله تعالى: {ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون} وقال أيضاً: {هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد} فإنكم ههنا بمنزلة أيهم إذا قلت: ينبئهم أيهم أفضل.
وقال الخليل مثله: (إن الله يعلم ما تدعون من دونه من شيءٍ) فما ههنا بمنزلة أيهم، ويعلم معلقة). [الكتاب: 3/ 148]
قال محمد بن المستنير البصري (قطرب) (ت:206هـ): (ويكون أيضا: يَفْعَلُ لما وقع ولما لم يقع. مثل قوله:
ولـقـد أمــر عـلـى اللئـيـم يسبـنـي ....... فمضيت عنه وقلت: لا يعنيني
كأنه قال: ولقد مررت، أنه قال: فمضيت عنه. وقال الآخر:
وإنـــــي لآتـيــكــم تـشــكــر مـــــا مـــضـــى ....... من الأمر واستيجاب ما كان في غد
أي: ما يكون في غد.
وقال الله عز وجل: {واتبعوا ما تتلو الشياطين} أي: ما تلت). [الأضداد: 116-117]
قال أبو زيد سعيد بن أوس الأنصاري (ت:215هـ): (وقال نهشل بن حري:
...
فــــــا أيـــهـــذا الـمــؤتــلــي إن نــهــشـــلا ....... عصوا قبل ما آليت ملك بني نضر
قال الرياشي: مَلْكَ يعني المَلِكَ. والمُلْكُ: السُّلطان). [النوادر في اللغة: 448] (م)
قالَ المبرِّدُ محمَّدُ بنُ يزيدَ الثُّمَالِيُّ (ت: 285هـ): (وأما قول الله عز وجل: {ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرةً} فهذا هو الوجه؛ لأنه ليس بجواب؛ لأن المعنى في قوله: {ألم تر} إنما هو: انتبه وانظر. أنزل الله من السماء ماء فكان كذا وكذا.
وليس كقولك: ألم تأت زيداً فيكرمك؛ لأن الإكرام يقع بالإتيان. وليس اخضرار الأرض واقعاً من أجل رؤيتك.
وكذلك قوله عز وجل: {وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنةٌ فلا تكفر فيتعلمون} لأنه لم يجعل سبب تعليمهم قوله لا تكفر؛ كما تقول: لا تأتني فأضربك؛ لأنه يقول: إنك إن أتيتني ضربتك. وقوله: فلا تكفر حكاية عنهم، وقوله: {فيتعلمون} ليس متصلاً به. ولو كان كذلك كان لا تكفر فتتعلم يا فتى، ولكن هو محمول على قوله: {يعلمون الناس السحر} فيتعلمون منهم. لا يصح المعنى إلا على هذا أو على القطع أي: منهم يتعلمون). [المقتضب: 2/ 19] (م)
قالَ المبرِّدُ محمَّدُ بنُ يزيدَ الثُّمَالِيُّ (ت: 285هـ): (ألا ترى أنه لا يدخل على الاستفهام من الأفعال إلا ما يجوز أن يلغى؛ لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله. وهذه الأفعال هي التي يجوز ألا تعمل خاصةً، وهي ما كان من العلم والشك فعلى هذا: {لنعلم أي الحزبين}، {ولقد علموا لمن اشتراه}؛ لأن هذه اللام تفصل ما بعدها مما قبلها. فتقول: علمت لزيدٌ خير منك). [المقتضب: 3/ 297] (م)
قالَ محمَّدُ بنُ القاسمِ بنِ بَشَّارٍ الأَنْبَارِيُّ: (ت: 328 هـ): (ويشرى: يباع. قال الله عز وجل: {لبئس ما شروا به أنفسهم}، أي: باعوا. وقال يزيد بن مفرغ الحميري:
وشــريـــت بـــــردًا لـيـتــنــي .......من قبل بردٍ كنت هامه
أي: بعته). [شرح المفضليات: 721]

تفسير قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103)}


رد مع اقتباس
  #5  
قديم 28 جمادى الأولى 1435هـ/29-03-2014م, 05:46 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن الثالث الهجري


.....

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 28 جمادى الأولى 1435هـ/29-03-2014م, 05:46 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن الرابع الهجري


.....

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 28 جمادى الأولى 1435هـ/29-03-2014م, 05:46 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن الخامس الهجري


.....

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 28 جمادى الأولى 1435هـ/29-03-2014م, 05:46 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن السادس الهجري

تفسير قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {ولمّا جاءهم رسولٌ من عند اللّه}، يعني به محمد صلى الله عليه وسلم، و(ما معهم) هو التوراة، و(مصدّقٌ) نعت لـ(رسولٌ)، وقرأ ابن أبي عبلة «مصدقا» بالنصب، و(لمّا) يجب بها الشيء لوجوب غيره، وهي ظرف زمان، وجوابها (نبذ) الذي يجيء، والكتاب الذي أوتوه: التوراة، وكتاب اللّه مفعول بـ(نبذ)،
- والمراد: القرآن، لأن التكذيب به نبذ،
- وقيل: المراد: التوراة، لأن مخالفتها والكفر بما أخذ عليهم فيها نبذ،
و(وراء ظهورهم) مثل لأن ما يجعل ظهريا فقد زال النظر إليه جملة، والعرب تقول: جعل هذا الأمر وراء ظهره ودبر أذنه، وقال الفرزدق:
تميم بن مرّ لا تكوننّ حاجتي ....... بظهر فلا يعيى عليّ جوابها
و(كأنّهم لا يعلمون) تشبيه بمن لا يعلم، إذ فعلوا فعل الجاهل، فيجيء من اللفظ أنهم كفروا على علم). [المحرر الوجيز: 1/ 297]

تفسير قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {واتّبعوا ما تتلوا الشّياطين} الآية، يعني اليهود،
قال ابن زيد والسدي: «المراد من كان في عهد سليمان»،
وقال ابن عباس: «المراد من كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم»،
وقيل: الجميع،
و(تتلوا) قال عطاء:«معناه: تقرأ من التلاوة»،
وقال ابن عباس:«تتلو: تتبع»، كما تقول: جاء القوم يتلو بعضهم بعضا،
وتتلو بمعنى تلت، فالمستقبل وضع موضع الماضي، وقال الكوفيون: المعنى ما كانت تتلو،
وقرأ الحسن والضحاك: «الشياطون» بالواو.
وقوله: {على ملك سليمان} أي: على عهد ملك سليمان،
وقيل: المعنى في ملك سليمان بمعنى في قصصه وصفاته وأخباره،
وقال الطبري: اتّبعوا بمعنى فضلوا، وعلى ملك سليمان أي: على شرعه ونبوته وحاله،
والذي تلته الشياطين:
- قيل: إنهم كانوا يلقون إلى الكهنة الكلمة من الحق معها المائة من الباطل حتى صار ذلك علمهم، فجمعه سليمان ودفنه تحت كرسيه، فلما مات؛ قالت الشياطين: إن ذلك كان علم سليمان،
- وقيل: بل كان الذي تلته الشياطين سحرا وتعليما فجمعه سليمان عليه السلام كما تقدم،
- وقيل: إن سليمان -عليه السلام- كان يملي على كاتبه آصف بن برخيا علمه ويختزنه، فلما مات أخرجته الجن وكتبت بين كل سطرين سطرا من سحر ثم نسبت ذلك إلى سليمان،
- وقيل: إن آصف تواطأ مع الشياطين على أن يكتبوا سحرا وينسبوه إلى سليمان بعد موته،
- وقيل: إن الجن كتبت ذلك بعد موت سليمان واختلقته ونسبته إليه،
- وقيل: إن الجن والإنس حين زال ملك سليمان عنه اتخذ بعضهم السحر والكهانة علما، فلما رجع سليمان إلى ملكه تتبع كتبهم في الآفاق ودفنها، فلما مات؛ قال شيطان لبني إسرائيل: هل أدلكم على كنز سليمان الذي به سخرت له الجن والريح، هو هذا السحر، فاستخرجته بنو إسرائيل وانبث فيهم، ونسبوا سليمان إلى السحر وكفروا في ذلك حتى برأه الله على لسان محمد صلى الله عليه وسلم،
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ذكر سليمان في الأنبياء، قال بعض اليهود: انظروا إلى محمد يذكر سليمان في الأنبياء وما كان إلا ساحرا.
وقوله تعالى: {وما كفر سليمان} تبرئة من الله تعالى لسليمان، ولم يتقدم في الآيات أن أحدا نسبه إلى الكفر، ولكنها آية نزلت في السبت المتقدم أن اليهود نسبته إلى السحر،
والسحر والعمل به كفر، ويقتل الساحر عند مالك رضي الله عنه كفرا، ولا يستتاب كالزنديق، وقال الشافعي: يسأل عن سحره فإن كان كفرا استتيب منه فإن تاب وإلا قتل، وقال مالك فيمن يعقد الرجال عن النساء: يعاقب ولا يقتل،
واختلف في ساحر أهل الذمة فقيل: يقتل، وقال مالك: لا يقتل إلا إن قتل بسحره ويضمن ما جنى، ويقتل إن جاء منه بما لم يعاهد عليه،
وقرأ نافع وعاصم وابن كثير وأبو عمرو بتشديد النون من «لكنّ» ونصب الشياطين، وقرأ حمزة والكسائي وابن عامر بتخفيف النون ورفع «الشياطين»،
قال بعض الكوفيين: التشديد أحب إليّ إذا دخلت عليها الواو لأن المخففة بمنزلة بل، وبل لا تدخل عليها الواو،
وقال أبو علي: ليس دخول الواو عليها معنى يوجب التشديد، وهي مثقلة ومخففة بمعنى واحد إلا أنها لا تعمل إذا خففت،
وكفر الشياطين إما بتعليمهم السحر، وإما بعلمهم به، وإما بتكفيرهم سليمان به، وكل ذلك كان،
والناس المعلمون أتباع الشياطين من بني إسرائيل،
والسّحر مفعول ثان بـ(يعلّمون)، وموضع (يعلّمون) نصب على الحال، أو رفع على خبر ثان.
وقوله تعالى: {وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت} (ما) عطف على (السّحر) فهي مفعولة، وهذا على القول بأن الله تعالى أنزل السحر على الملكين فتنة للناس ليكفر من اتبعه ويؤمن من تركه،
- أو على قول مجاهد وغيره: «إن الله تعالى أنزل على الملكين الشيء الذي يفرق به بين المرء وزوجه دون السحر»،
- أو على القول إنه تعالى أنزل السحر عليهما ليعلم على جهة التحذير منه والنهي عنه.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والتعليم على هذا القول إنما هو تعريف يسير بمبادئه،
وقيل: إن (ما) عطف على (ما) في قوله: {ما تتلوا}،
وقيل: (ما) نافية، رد على قوله: {وما كفر سليمان}، وذلك أن اليهود قالوا: إن الله أنزل جبريل وميكائل بالسحر فنفى الله ذلك،
وقرأ ابن عباس والحسن والضحاك وابن أبزى «الملكين» بكسر اللام،
وقال ابن أبزى: «هما داود وسليمان»، وعلى هذا القول أيضا فـ(ما) نافية،
وقال الحسن: «هما علجان كانا ببابل ملكين»، فـ(ما) على هذا القول غير نافية،
وقرأها كذلك أبو الأسود الدؤلي، وقال: هما هاروت وماروت، فهذا كقول الحسن.
و«بابل» لا ينصرف للتأنيث والتعريف، وهي قطر من الأرض، واختلف أين هي؟
- فقال قوم: هي بالعراق وما والاه،
- وقال ابن مسعود لأهل الكوفة: «أنتم بين الحيرة وبابل»،
- وقال قتادة: «هي من نصيبين إلى رأس العين»،
- وقال قوم: هي بالمغرب. قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا ضعيف،
- وقال قوم: هي جبل دماوند،
وهاروت وماروت بدل من الملكين على قول من قال: هما ملكان،
ومن قرأ «ملكين» بكسر اللام وجعلهما داود وسليمان أو جعل الملكين جبريل وميكائل، جعل هاروت وماروت بدلا من الشّياطين في قوله: {ولكنّ الشّياطين}، وقال: هما شيطانان،
ويجيء (يعلّمون) إما على أن الاثنين جمع، وإما على تقدير أتباع لهذين الشيطانين اللذين هما الرأس،
ومن قال كانا علجين قال: هاروت وماروت بدل من قوله: {الملكين}،
وقيل: هما بدل من النّاس في قوله: {يعلّمون النّاس}،
وقرأ الزهري هاروت وماروت بالرفع، ووجهه البدل من الشّياطين في قوله: {تتلوا الشّياطين}، أو من الشّياطين الثاني على قراءة من خفف «لكن» ورفع، أو على خبر ابتداء مضمر تقديره: هما هاروت وماروت.
وروى من قال إنهما ملكان أن الملائكة مقتت حكام بني إسرائيل وزعمت أنها لو كانت بمثابتهم من البعد عن الله لأطاعت حق الطاعة، فقال الله لهم: اختاروا ملكين يحكمان بين الناس، فاختاروا هاروت وماروت، فكانا يحكمان، فاختصمت إليهما امرأة ففتنا بها فراوداها، فأبت حتى يشربا الخمر ويقتلا، ففعلا، وسألتهما عن الاسم الذي يصعدان به إلى السماء فعلماها إياه، فتكلمت به فعرجت، فمسخت كوكبا فهي الزهرة، وكان ابن عمر يلعنها.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا كله ضعيف وبعيد على ابن عمر رضي الله عنهما،
وروي أن الزهرة نزلت إليهما في صورة امرأة من فارس فجرى لهما ما ذكر، فأطلع الله عز وجل الملائكة على ما كان من هاروت وماروت، فتعجبوا، وبقيا في الأرض لأنهما خيّرا بين عذاب الآخرة وعذاب الدنيا فاختارا عذاب الدنيا، فهما في سرب من الأرض معلقين يصفقان بأجنحتهما، وروت طائفة أنهما يعلمان السحر في موضعهما ذلك، وأخذ عليهما أن لا يعلما أحدا حتى يقولا له: إنّما نحن فتنةٌ فلا تكفر.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا القصص يزيد في بعض الروايات وينقص في بعض، ولا يقطع منه بشيء، فلذلك اختصرته.
قوله عز وجل: {وما يعلّمان من أحدٍ حتّى يقولا إنّما نحن فتنةٌ فلا تكفر فيتعلّمون منهما ما يفرّقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارّين به من أحدٍ إلاّ بإذن اللّه ويتعلّمون ما يضرّهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاقٍ ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون (102) ولو أنّهم آمنوا واتّقوا لمثوبةٌ من عند اللّه خيرٌ لو كانوا يعلمون (103) يا أيّها الّذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذابٌ أليمٌ (104)}
- ذكر ابن الأعرابي في الياقوتة أن (يعلّمان) بمعنى: يعلمان ويشعران كما قال كعب بن زهير:
تعلّم رسول الله أنّك مدركي ....... وأنّ وعيدا منك كالأخذ باليد
وحمل هذه الآية على أن الملكين إنما نزلا يعلمان الناس بالسحر وينهيان عنه،
- وقال الجمهور: بل التعليم على عرفه،
و«لا تكفر»:
- قالت فرقة: بتعلم السحر،
- وقالت فرقة: باستعماله،
وحكى المهدوي أن قولهما: (إنّما نحن فتنةٌ فلا تكفر) استهزاء، لأنهما إنما يقولانه لمن قد تحققا ضلاله،
و(من) في قوله: {من أحدٍ} زائدة بعد النفي.
وقوله تعالى: {فيتعلّمون}
- قال سيبويه: التقدير فهم يتعلمون،
- وقيل: هو معطوف على قوله: {يعلّمون النّاس}، ومنعه الزجاج،
- وقيل: هو معطوف على موضع و(ما يعلّمان)، لأن قوله: {وما يعلّمان} وإن دخلت عليه (ما) النافية فمضمنه الإيجاب في التعليم،
- وقيل: التقدير: فيأتون فيتعلمون، واختاره الزجاج،
والضمير في (يعلّمان) هو لهاروت وماروت الملكين أو الملكين العلجين على ما تقدم،
والضمير في (منهما):
- قيل: هو عائد عليهما،
- وقيل: على السّحر وعلى الذي أنزل على الملكين،
و(يفرّقون):
- معناه: فرقة العصمة،
- وقيل: معناه: يؤخّذون الرجل عن المرأة حتى لا يقدر على وطئها فهي أيضا فرقة.
وقرأ الحسن والزهري وقتادة «المرء» براء مكسورة خفيفة، وروي عن الزهري تشديد الراء، وقرأ ابن أبي إسحاق «المرء» بضم الميم وهمزة وهي لغة هذيل، وقرأ الأشهب العقيلي «المرء» بكسر الميم وهمزة، ورويت عن الحسن، وقرأ جمهور الناس «المرء» بفتح الميم وهمزة،
والزوج هنا امرأة الرجل، وكل واحد منهما زوج الآخر، ويقال للمرأة زوجة، قال الفرزدق:
وإن الذي يسعى ليفسد زوجتي ....... كساع إلى أسد الشرى يستبيلها
وقرأ الجمهور «بضارين به»، وقرأ الأعمش «بضاري به من أحد» فقيل: حذفت النون تخفيفا، وقيل: حذفت للإضافة إلى أحدٍ وحيل بين المضاف والمضاف إليه بالمجرور،
و(بإذن اللّه) معناه: بعلمه وتمكينه، و(يضرّهم) معناه: في الآخرة و(لا ينفعهم) فيها أيضا، وإن نفع في الدنيا بالمكاسب فالمراعى إنما هو أمر الآخرة،
والضمير في (علموا) عائد على بني إسرائيل حسب الضمائر المتقدمة،
- وقيل: على الشّياطين،
- وقيل: على الملكين وهما جمع،
وقال: (اشتراه) لأنهم كانوا يعطون الأجرة على أن يعلموا، والخلاق: النصيب والحظ، وهو هنا بمعنى: الجاه والقدر، واللام في قوله: {لمن} المتقدمة للقسم المؤذنة بأن الكلام قسم لا شرط، وتقدم القول في «بئسما»،
وشروا معناه: باعوا، وقد تقدم مثله،
والضمير في (يعلّمون) عائد على بني إسرائيل باتفاق،
ومن قال إن الضمير في (علموا) عائد عليهم خرج هذا الثاني على المجاز، أي: لما عملوا عمل من لا يعلم كانوا كأنهم لا يعلمون،
ومن قال إن الضمير في (علموا) عائد على الشّياطين أو على الملكين قال: إن أولئك علموا أن لا خلاق لمن اشتراه وهؤلاء لم يعلموا فهو على الحقيقة،
وقال مكي: الضمير في (علموا) لعلماء أهل الكتاب، وفي قوله: {لو كانوا يعلمون} للمتعلمين منهم). [المحرر الوجيز: 1/ 297-305]

تفسير قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103)}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {ولو أنّهم آمنوا} موضع «أن» رفع، المعنى: لو وقع إيمانهم، ويعني الذين اشتروا السحر،
و(لو) تقتضي جوابا، فقالت فرقة: جوابها (لمثوبةٌ)، لأنها مصدر يقع للمضي والاستقبال، وجواب (لو) لا يكون إلا ماضيا أو بمعناه،
وقال الأخفش: لا جواب لـ(لو) في هذه الآية مظهرا ولكنه مقدر، أي: لو آمنوا لأثيبوا.
وقرأ قتادة وأبو السمال وابن بريدة «لمثوبة» بسكون الثاء وفتح الواو، وهو مصدر أيضا كمشورة ومشورة، و(مثوبة) رفع بالابتداء و(خيرٌ) خبره والجملة خبر إن،
والمثوبة عند جمهور الناس بمعنى: الثواب والأجر، وهذا هو الصحيح،
وقال قوم: معناه لرجعة إلى الله، من ثاب يثوب إذا رجع،
واللام فيها لام القسم لأن لام الابتداء مستغنى عنها، وهذه لا غنى عنها،
وقوله تعالى: {لو كانوا يعلمون} يحتمل نفي العلم عنهم، ويحتمل أن يراد: لو كانوا يعلمون علما ينفع). [المحرر الوجيز: 1/ 305-306]


رد مع اقتباس
  #9  
قديم 28 جمادى الأولى 1435هـ/29-03-2014م, 05:46 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن السابع الهجري


.....

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 28 جمادى الأولى 1435هـ/29-03-2014م, 05:47 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن الثامن الهجري

تفسير قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)}
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({ولمّا جاءهم رسولٌ من عند اللّه مصدّقٌ لما معهم نبذ فريقٌ من الّذين أوتوا الكتاب كتاب اللّه وراء ظهورهم كأنّهم لا يعلمون} أي: اطّرح طائفةٌ منهم كتاب اللّه الذي بأيديهم، ممّا فيه البشارة بمحمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم وراء ظهورهم، أي: تركوها، كأنّهم لا يعلمون ما فيها، وأقبلوا على تعلّم السّحر واتّباعه.
ولهذا أرادوا كيدًا برسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وسحروه في مشط ومشاقة وجفّ طلعة ذكر، تحت راعوثة بئر ذي أروان. وكان الذي تولّى ذلك منهم رجلٌ يقال له: لبيد بن الأعصم -لعنه اللّه- فأطلع اللّه على ذلك رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم، وشفاه منه وأنقذه، كما ثبت ذلك مبسوطًا في الصّحيحين عن عائشة أمّ المؤمنين -رضي اللّه عنها- كما سيأتي بيانه.
قال السّدّيّ: {ولمّا جاءهم رسولٌ من عند اللّه مصدّقٌ لما معهم} قال:
«لمّا جاءهم محمّدٌ صلّى اللّه عليه وسلّم عارضوه بالتّوراة فخاصموه بها، فاتّفقت التّوراة والقرآن، فنبذوا التّوراة وأخذوا بكتاب آصف وسحر هاروت وماروت، فلم يوافق القرآن، فذلك قوله: {كأنّهم لا يعلمون}».
وقال قتادة في قوله: {كأنّهم لا يعلمون} قال:«إنّ القوم كانوا يعلمون، ولكنّهم نبذوا علمهم، وكتموه وجحدوا به»). [تفسير ابن كثير: 1/ 345]

تفسير قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103)}

قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقال العوفيّ في تفسيره، عن ابن عبّاسٍ في قوله تعالى: {واتّبعوا ما تتلو الشّياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكنّ الشّياطين كفروا}: «وكان حين ذهب ملك سليمان ارتدّ فئامٌ من الجنّ والإنس واتّبعوا الشّهوات، فلمّا رجع الله إلى سليمان ملكه، وقام النّاس على الدّين كما كان أوان سليمان، ظهر على كتبهم فدفنها تحت كرسيّه، وتوفّي سليمان -عليه السّلام- حدثان ذلك، فظهر الإنس والجنّ على الكتب بعد وفاة سليمان، وقالوا: هذا كتابٌ من اللّه نزل على سليمان وأخفاه عنّا فأخذوا به فجعلوه دينًا. فأنزل اللّه: {ولمّا جاءهم رسولٌ من عند اللّه مصدّقٌ لما معهم نبذ فريقٌ من الّذين أوتوا الكتاب كتاب اللّه وراء ظهورهم كأنّهم لا يعلمون} واتّبعوا الشّهوات، [أي]: التي كانت [تتلو الشّياطين] وهي المعازف واللّعب وكلّ شيءٍ يصدّ عن ذكر اللّه».
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبو سعيدٍ الأشجّ، حدّثنا أبو أسامة، عن الأعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عباس، قال: «كان آصف كاتب سليمان، وكان يعلم الاسم "الأعظم"، وكان يكتب كلّ شيءٍ بأمر سليمان ويدفنه تحت كرسيّه، فلمّا مات سليمان أخرجه الشّياطين، فكتبوا بين كلّ سطرين سحرًا وكفرًا، وقالوا: هذا الذي كان سليمان يعمل بها».
قال:
«فأكفره جهّال النّاس وسبّوه، ووقف علماؤهم فلم يزل جهّالهم يسبّونه، حتّى أنزل اللّه على محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم: {واتّبعوا ما تتلو الشّياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكنّ الشّياطين كفروا}».
وقال ابن جريرٍ: حدّثني أبو السّائب سلم بن جنادة السّوائيّ، حدّثنا أبو معاوية، حدّثنا عن الأعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ، قال: «كان سليمان -عليه السّلام- إذا أراد أن يدخل الخلاء، أو يأتي شيئًا من نسائه، أعطى الجرادة -وهي امرأةٌ-خاتمه. فلمّا أراد اللّه أن يبتلي سليمان -عليه السّلام- بالذي ابتلاه به، أعطى الجرادة ذات يومٍ خاتمه، فجاء الشّيطان في صورة سليمان فقال لها: هاتي خاتمي. فأخذه فلبسه. فلمّا لبسه دانت له الشّياطين والجنّ والإنس».
قال:
«فجاءها سليمان، فقال: هاتي خاتمي فقالت: كذّبت، لست سليمان».
قال:
«فعرف سليمان أنّه بلاءٌ ابتلي به».
قال:
«فانطلقت الشّياطين فكتبت في تلك الأيّام كتبًا فيها سحرٌ وكفرٌ. ثمّ دفنوها تحت كرسيّ سليمان، ثمّ أخرجوها وقرؤوها على النّاس، وقالوا: إنّما كان سليمان يغلب النّاس بهذه الكتب».
قال:
«فبرئ النّاس من سليمان -عليه السّلام- وأكفروه حتّى بعث اللّه محمّدًا صلّى اللّه عليه وسلّم وأنزل عليه: {وما كفر سليمان ولكنّ الشّياطين كفروا}».
ثمّ قال ابن جريرٍ: حدّثنا ابن حميدٍ، حدّثنا جريرٌ، عن حصين بن عبد الرّحمن، عن عمران -وهو ابن الحارث-، قال: بينا نحن عند ابن عبّاسٍ -رضي اللّه عنهما- إذ جاء رجلٌ فقال له: «من أين جئت؟»، قال: من العراق. قال: «من أيّه؟»، قال: من الكوفة. قال: «فما الخبر؟»، قال: تركتهم يتحدّثون أنّ عليًّا خارجٌ إليهم. ففزع ثمّ قال: «ما تقول؟ لا أبًا لك! لو شعرنا ما نكحنا نساءه، ولا قسمنا ميراثه، أما إنّي سأحدّثكم عن ذلك: إنّه كانت الشّياطين يسترقون السّمع من السّماء، فيجيء أحدهم بكلمة حقٍّ قد سمعها، فإذا جرّب منه صدقٌ كذب معها سبعين كذبة»،
قال:
«فتشربها قلوب النّاس. فأطلع اللّه عليها سليمان -عليه السّلام- فدفنها تحت كرسيّه. فلمّا توفّي سليمان -عليه السّلام- قام شيطان الطّريق، فقال: أفلا أدلّكم على كنزه الممنّع الذي لا كنز له مثله؟ تحت الكرسيّ. فأخرجوه، فقالوا هذا سحره فتناسخا الأمم -حتّى بقاياها ما يتحدّث به أهل العراق- وأنزل اللّه عزّ وجلّ: {واتّبعوا ما تتلو الشّياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكنّ الشّياطين كفروا}».
ورواه الحاكم في مستدركه، عن أبي زكريّا العنبري، عن محمّد بن عبد السّلام، عن إسحاق بن إبراهيم، عن جريرٍ، به.
وقال السّدّيّ في قوله تعالى: {واتّبعوا ما تتلو الشّياطين على ملك سليمان}: «أي: على عهد سليمان».
قال:
«كانت الشّياطين تصعد إلى السّماء، فتقعد منها مقاعد للسّمع، فيستمعون من كلام الملائكة ممّا يكون في الأرض من موتٍ أو غيبٍ أو أمرٍ، فيأتون الكهنة فيخبرونهم. فتحدّث الكهنة الناس فيجدونه كما قالوا. حتّى إذا أمنتهم الكهنة كذبوا لهم. وأدخلوا فيه غيره، فزادوا مع كلّ كلمةٍ سبعين كلمةً، فاكتتب الناس ذلك الحديث في الكتب، وفشا في بني إسرائيل أنّ الجنّ تعلم الغيب. فبعث سليمان في النّاس فجمع تلك الكتب فجعلها في صندوقٍ. ثمّ دفنها تحت كرسيّه. ولم يكن أحدٌ من الشّياطين يستطيع أن يدنو من الكرسيّ إلّا احترق. وقال: لا أسمع أحدًا يذكر أنّ الشّياطين يعلمون الغيب إلّا ضربت عنقه. فلمّا مات سليمان، عليه السّلام، وذهبت العلماء الّذين كانوا يعرفون أمر سليمان، وخلف من بعد ذلك خلف تمثّل شيطانٌ في صورة إنسانٍ، ثمّ أتى نفرًا من بني إسرائيل، فقال لهم: هل أدلّكم على كنزٍ لا تأكلونه أبدًا؟ قالوا: نعم. قال: فاحفروا تحت الكرسيّ. وذهب معهم وأراهم المكان، وقام ناحيةً، فقالوا له: فادن. قال: لا ولكنّني هاهنا في أيديكم، فإن لم تجدوه فاقتلوني. فحفروا فوجدوا تلك الكتب. فلمّا أخرجوها قال الشّيطان: إنّ سليمان إنّما كان يضبط الإنس والشّياطين والطّير بهذا السّحر. ثمّ طار وذهب. وفشا في الناس أن سليمان كان ساحرًا. واتّخذت بنو إسرائيل تلك الكتب، فلمّا جاء محمّدٌ صلّى اللّه عليه وسلّم خاصموه بها ؛ فذلك حين يقول اللّه تعالى:{وما كفر سليمان ولكنّ الشّياطين كفروا}».
وقال الرّبيع بن أنسٍ: «إنّ اليهود سألوا محمّدًا صلّى اللّه عليه وسلّم زمانًا عن أمورٍ من التّوراة، لا يسألونه عن شيءٍ من ذلك إلّا أنزل اللّه تعالى عليه ما سألوه عنه، فيخصمهم، فلمّا رأوا ذلك قالوا: هذا أعلم بما أنزل اللّه إلينا منّا. وإنّهم سألوه عن السّحر وخاصموه به، فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {واتّبعوا ما تتلو الشّياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكنّ الشّياطين كفروا يعلّمون النّاس السّحر} وإنّ الشّياطين عمدوا إلى كتابٍ فكتبوا فيه السّحر والكهانة وما شاء اللّه من ذلك، فدفنوه تحت مجلس سليمان، وكان [سليمان] عليه السّلام، لا يعلم الغيب. فلمّا فارق سليمان الدّنيا استخرجوا ذلك السّحر وخدعوا النّاس، وقالوا: هذا علمٌ كان سليمان يكتمه ويحسد النّاس عليه. فأخبرهم النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم بهذا الحديث فرجعوا من عنده وقد حزنوا، وأدحض اللّه حجّتهم».
وقال مجاهدٌ في قوله: {واتّبعوا ما تتلو الشّياطين على ملك سليمان} قال: «كانت الشّياطين تستمع الوحي فما سمعوا من كلمةٍ [إلّا] زادوا فيها مائتين مثلها. فأرسل سليمان -عليه السّلام- إلى ما كتبوا من ذلك. فلمّا توفّي سليمان وجدته الشّياطين فعلّمته النّاس [به] وهو السّحر».
وقال سعيد بن جبيرٍ: «كان سليمان -عليه السّلام- يتتبّع ما في أيدي الشّياطين من السّحر فيأخذه منهم، فيدفنه تحت كرسيّه في بيت خزانته، فلم يقدر الشّياطين أن يصلوا إليه، فدبّت إلى الإنس، فقالوا لهم: أتدرون ما العلم الذي كان سليمان يسخّر به الشّياطين والرّياح وغير ذلك؟ قالوا: نعم. قالوا: فإنّه في بيت خزانته وتحت كرسيّه. فاستثار به الإنس واستخرجوه فعملوا بها. فقال أهل الحجا: كان سليمان يعمل بهذا وهذا سحرٌ. فأنزل اللّه تعالى على [لسان] نبيّه محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم براءة سليمان عليه السّلام، فقال: {واتّبعوا ما تتلو الشّياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكنّ الشّياطين كفروا}».
وقال محمّد بن إسحاق بن يسارٍ: «عمدت الشّياطين حين عرفت موت سليمان بن داود -عليه السّلام- فكتبوا أصناف السّحر: "من كان يحبّ أن يبلغ كذا وكذا فليقل كذا وكذا". حتّى إذا صنّفوا أصناف السّحر جعلوه في كتابٍ. ثمّ ختموا بخاتمٍ على نقش خاتم سليمان، وكتبوا في عنوانه: "هذا ما كتب آصف بن برخيا الصّديق للملك سليمان بن داود -عليهما السّلام- من ذخائر كنوز العلم". ثمّ دفنوه تحت كرسيّه واستخرجته بعد ذلك بقايا بني إسرائيل حتّى أحدثوا ما أحدثوا. فلمّا عثروا عليه قالوا: واللّه ما كان سليمان بن داود إلّا بهذا. فأفشوا السّحر في النّاس [وتعلّموه وعلّموه]. وليس هو في أحدٍ أكثر منه في اليهود لعنهم اللّه. فلمّا ذكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فيما نزل عليه من اللّه، سليمان بن داود، وعدّه فيمن عدّه من المرسلين، قال من كان بالمدينة من يهود: ألا تعجبون من محمّدٍ! يزعم أنّ ابن داود كان نبيًّا، واللّه ما كان إلّا ساحرًا. وأنزل اللّه [في] ذلك من قولهم: {واتّبعوا ما تتلو الشّياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكنّ الشّياطين كفروا} الآية».
وقال ابن جريرٍ: حدّثنا القاسم، حدّثنا حسينٌ، حدّثنا الحجّاج عن أبي بكرٍ، عن شهر بن حوشب، قال: «لمّا سلب سليمان -عليه السّلام- ملكه، كانت الشّياطين تكتب السّحر في غيبة سليمان. فكتبت: "من أراد أن يأتي كذا وكذا فليستقبل الشّمس، وليقل كذا وكذا ومن أراد أن يفعل كذا وكذا فليستدبر الشّمس وليقل كذا وكذا". فكتبته وجعلت عنوانه: "هذا ما كتب آصف بن برخيا للملك سليمان [بن داود] من ذخائر كنوز العلم". ثمّ دفنته تحت كرسيّه. فلمّا مات سليمان -عليه السّلام- قام إبليس -لعنه اللّه- خطيبًا، [ثمّ] قال: يا أيّها النّاس، إنّ سليمان لم يكن نبيًّا، إنّما كان ساحرًا، فالتمسوا سحره في متاعه وبيوته. ثمّ دلّهم على المكان الذي دفن فيه. فقالوا: واللّه لقد كان سليمان ساحرًا! هذا سحره، بهذا تعبدنا، وبهذا قهرنا. وقال المؤمنون: بل كان نبيًّا مؤمنًا. فلمّا بعث اللّه النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم جعل يذكر الأنبياء حتّى ذكر داود وسليمان. فقالت اليهود [لعنهم اللّه] انظروا إلى محمّدٍ يخلط الحقّ بالباطل. يذكر سليمان مع الأنبياء. إنّما كان ساحرًا يركب الرّيح، فأنزل اللّه تعالى: {واتّبعوا ما تتلو الشّياطين على ملك سليمان} الآية».
وقال ابن جريرٍ: حدّثنا محمّد بن عبد الأعلى الصّنعانيّ، قال: حدّثنا المعتمر بن سليمان، قال: سمعت عمران بن حدير، عن أبي مجلز، قال:«أخذ سليمان -عليه السّلام- من كلّ دابّةٍ عهدًا، فإذا أصيب رجلٌ فسأل بذلك العهد، خلّى عنه. فزاد النّاس السّجع والسحر، وقالوا: هذا يعمل به سليمان. فقال اللّه تعالى: {وما كفر سليمان ولكنّ الشّياطين كفروا يعلّمون النّاس السّحر}».
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا عصام بن روّاد، حدّثنا آدم، حدّثنا المسعوديّ، عن زيادٍ مولى ابن مصعبٍ، عن الحسن: {واتّبعوا ما تتلو الشّياطين} قال:«ثلث الشّعر، وثلث السّحر، وثلث الكهانة».
وقال: حدّثنا الحسن بن أحمد، حدّثنا إبراهيم بن عبد اللّه بن بشّارٍ الواسطيّ، حدّثني سرور بن المغيرة، عن عبّاد بن منصورٍ، عن الحسن: «{واتّبعوا ما تتلو الشّياطين على ملك سليمان} واتّبعته اليهود على ملكه. وكان السّحر قبل ذلك في الأرض لم يزل بها، ولكنّه إنّما اتّبع على ملك سليمان».
فهذه نبذةٌ من أقوال أئمّة السّلف في هذا المقام، ولا يخفى ملخّص القصّة والجمع بين أطرافها، وأنّه لا تعارض بين السّياقات على اللّبيب الفهم، واللّه الهادي.
وقوله تعالى: {واتّبعوا ما تتلو الشّياطين على ملك سليمان} أي: واتّبعت اليهود -الّذين أوتوا الكتاب بعد إعراضهم عن كتاب اللّه الذي بأيديهم ومخالفتهم الرّسول محمّدًا صلّى اللّه عليه وسلّم- ما تتلوه الشّياطين، أي: ما ترويه وتخبر به وتحدثه الشّياطين على ملك سليمان. وعدّاه بعلى؛ لأنّه تضمّن تتلو: تكذب. وقال ابن جريرٍ: "على" هاهنا بمعنى "في"، أي: تتلو في ملك سليمان. ونقله عن ابن جريج، وابن إسحاق.

قلت: والتّضمّن أحسن وأولى، واللّه أعلم.
وقول الحسن البصريّ، رحمه اللّه: «قد كان السّحر قبل زمان سليمان بن داود» صحيحٌ لا شكّ فيه؛ لأنّ السّحرة كانوا في زمان موسى -عليه السّلام- وسليمان بن داود بعده، كما قال تعالى: {ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبيٍّ لهم ابعث لنا ملكًا نقاتل في سبيل اللّه} الآية [البقرة: 246]، ثمّ ذكر القصّة بعدها، وفيها: {وقتل داود جالوت وآتاه اللّه الملك والحكمة} [البقرة: 251]. وقال قوم صالحٍ -وهم قبل إبراهيم الخليل عليه السّلام- لنبيّهم صالحٍ: {إنّما أنت من المسحّرين} [الشّعراء: 153] أي: [من] المسحورين على المشهور.
وقوله تعالى: {وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلّمان من أحدٍ حتّى يقولا إنّما نحن فتنةٌ فلا تكفر فيتعلّمون منهما ما يفرّقون به بين المرء وزوجه} اختلف النّاس في هذا المقام،
فذهب بعضهم إلى أنّ "ما" نافيةٌ، أعني التي في قوله: {وما أنزل على الملكين} قال القرطبيّ: "ما" نافيةٌ ومعطوفةٌ على قوله: {وما كفر سليمان}، ثمّ قال: {ولكنّ الشّياطين كفروا يعلّمون النّاس السّحر وما أنزل} أي: السّحر {على الملكين} وذلك أنّ اليهود -لعنهم اللّه- كانوا يزعمون أنّه نزل به جبريل وميكائيل فأكذبهم اللّه في ذلك وجعل قوله: {هاروت وماروت} بدلًا من: {الشّياطين}، قال: وصحّ ذلك، إمّا لأنّ الجمع قد يطلق على الاثنين كما في قوله: {فإن كان له إخوةٌ} [النّساء: 11] أو يكون لهما أتباعٌ، أو ذكرا من بينهم لتمرّدهما، فتقدير الكلام عنده: تعلّمون النّاس السّحر ببابل، هاروت وماروت. ثمّ قال: وهذا أولى ما حملت عليه الآية وأصحّ ولا يلتفت إلى ما سواه.

وروى ابن جريرٍ بإسناده من طريق العوفيّ، عن ابن عبّاسٍ، في قوله: {وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت} يقول: «لم ينزل اللّه السّحر». وبإسناده، عن الرّبيع بن أنسٍ، في قوله: {وما أنزل على الملكين} قال: «ما أنزل اللّه عليهما السّحر».
قال ابن جريرٍ: فتأويل الآية على هذا: واتّبعوا ما تتلو الشّياطين على ملك سليمان من السّحر، وما كفر سليمان، ولا أنزل اللّه السّحر على الملكين، ولكنّ الشّياطين كفروا يعلّمون النّاس السّحر ببابل، هاروت وماروت. فيكون قوله: {ببابل هاروت [وماروت]} من المؤخّر الذي معناه المقدّم.
قال: فإن قال لنا قائلٌ: وكيف وجه تقديم ذلك؟
قيل: وجه تقديمه أن يقال: {واتّبعوا ما تتلو الشّياطين على ملك سليمان} -"من السّحر"- {وما كفر سليمان} وما أنزل اللّه "السّحر" على الملكين، {ولكنّ الشّياطين كفروا يعلّمون النّاس السّحر} ببابل وهاروت وماروت فيكون معنيًّا بالملكين: جبريل وميكائيل، عليهما السّلام؛ لأنّ سحرة اليهود فيما ذكر كانت تزعم أنّ اللّه أنزل السّحر على لسان جبريل وميكائيل إلى سليمان بن داود، فأكذبهم اللّه بذلك، وأخبر نبيّه محمّدًا صلّى اللّه عليه وسلّم أنّ جبريل وميكائيل لم ينزلا بسحرٍ، وبرّأ سليمان، عليه السّلام، ممّا نحلوه من السّحر، وأخبرهم أنّ السّحر من عمل الشّياطين، وأنّها تعلّم النّاس ذلك ببابل، وأنّ الّذين يعلّمونهم ذلك رجلان، اسم أحدهما هاروت، واسم الآخر ماروت، فيكون هاروت وماروت على هذا التّأويل ترجمةً عن النّاس، وردًّا عليهم.

هذا لفظه بحروفه.
وقد قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثت عن عبيد اللّه بن موسى، أخبرنا فضيل بن مرزوقٍ، عن عطيّة: {وما أنزل على الملكين} قال: «ما أنزل اللّه على جبريل وميكائيل السّحر».
حدّثنا الفضل بن شاذان، حدّثنا محمّد بن عيسى، حدّثنا يعلى -يعني ابن أسدٍ-، حدّثنا بكرٌ -يعني ابن مصعبٍ-، حدّثنا الحسن بن أبي جعفرٍ: أنّ عبد الرّحمن بن أبزى كان يقرؤها: "وما أنزل على الملكين داود وسليمان".
وقال أبو العالية: «لم ينزل عليهما السّحر، يقول: علما الإيمان والكفر، فالسّحر من الكفر، فهما ينهيان عنه أشدّ النّهي». رواه ابن أبي حاتمٍ.
ثمّ شرع ابن جريرٍ في ردّ هذا القول، وأنّ "ما" بمعنى الذي، وأطال القول في ذلك، وادّعى أنّ هاروت وماروت ملكان أنزلهما اللّه إلى الأرض، وأذن لهما في تعليم السّحر اختبارًا لعباده وامتحانًا، بعد أن بيّن لعباده أنّ ذلك ممّا ينهى عنه على ألسنة الرّسل، وادّعى أنّ هاروت وماروت مطيعان في تعليم ذلك؛ لأنّهما امتثلا ما أمرا به.
وهذا الذي سلكه غريبٌ جدًا! وأغرب منه قول من زعم أنّ هاروت وماروت قبيلان من الجنّ [كما زعمه ابن حزمٍ] !
وروى ابن أبي حاتمٍ بإسناده، عن الضّحّاك بن مزاحمٍ: أنّه كان يقرؤها: {وما أنزل على الملكين} ويقول: «هما علجان من أهل بابل».
ووجّه أصحاب هذا القول الإنزال بمعنى الخلق، لا بمعنى الإيحاء، في قوله: {وما أنزل على الملكين} كما قال تعالى: {وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواجٍ} [الزّمر: 6]، {وأنزلنا الحديد فيه بأسٌ شديدٌ} [الحديد: 25]، {وينزل لكم من السّماء رزقًا} [غافر: 13]. وفي الحديث: «ما أنزل اللّه داءً إلّا أنزل له دواءً». وكما يقال: أنزل اللّه الخير والشّرّ.
[وحكى القرطبيّ عن ابن عبّاسٍ وابن أبزى والضحاك والحسن البصري: أنهم قرؤوا: "وما أنزل على الملكين" بكسر اللّام. قال ابن أبزى: «وهما داود وسليمان». قال القرطبيّ: فعلى هذا تكون "ما" نافيةً أيضًا].
وذهب آخرون إلى الوقف على قوله: {يعلّمون النّاس السّحر} [و "ما" نافيةٌ] قال ابن جريرٍ: حدّثني يونس، أخبرنا ابن وهبٍ، أخبرنا اللّيث، عن يحيى بن سعيدٍ، عن القاسم بن محمّدٍ، وسأله رجلٌ عن قول اللّه تعالى: {يعلّمون النّاس السّحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت} قال الرّجل: يعلّمان النّاس السّحر، ما أنزل عليهما أو يعلّمان النّاس ما لم ينزّل عليهما؟ فقال القاسم: «ما أبالي أيّتهما كانت».
ثمّ روي عن يونس، عن أنس بن عياضٍ، عن بعض أصحابه: أنّ القاسم قال في هذه القصّة: «لا أبالي أيّ ذلك كان، إنّي آمنت به».
وذهب كثيرٌ من السّلف إلى أنّهما كانا ملكين من السّماء، وأنّهما أنزلا إلى الأرض، فكان من أمرهما ما كان. وقد ورد في ذلك حديثٌ مرفوعٌ رواه الإمام أحمد في مسنده كما سنورده إن شاء اللّه تعالى. وعلى هذا فيكون الجمع بين هذا وبين ما ثبت من الدّلائل على عصمة الملائكة أنّ هذين سبق في علم اللّه لهما هذا، فيكون تخصيصًا لهما، فلا تعارض حينئذٍ، كما سبق في علمه من أمر إبليس ما سبق، وفي قولٍ: إنّه كان من الملائكة، لقوله تعالى: {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى} [طه: 116]، إلى غير ذلك من الآيات الدّالّة على ذلك. مع أنّ شأن هاروت وماروت -على ما ذكر- أخفّ ممّا وقع من إبليس لعنه اللّه.
[وقد حكاه القرطبيّ عن عليٍّ، وابن مسعودٍ، وابن عبّاسٍ، وابن عمر، وكعب الأحبار، والسّدّيّ، والكلبيّ].
ذكر الحديث الوارد في ذلك -إن صحّ سنده ورفعه- وبيان الكلام عليه:
قال الإمام أحمد بن حنبلٍ، رحمه اللّه، في مسنده: حدّثنا يحيى بن [أبي] بكيرٍ، حدّثنا زهير بن محمّدٍ، عن موسى بن جبيرٍ، عن نافعٍ، عن عبد اللّه بن عمر: أنّه سمع نبيّ اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول:«إنّ آدم -عليه السّلام- لمّا أهبطه اللّه إلى الأرض قالت الملائكة: أي ربّ {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك قال إنّي أعلم ما لا تعلمون} [البقرة: 30]، قالوا: ربّنا، نحن أطوع لك من بني آدم. قال اللّه تعالى للملائكة: هلموا ملكين من الملائكة حتّى نهبطهما إلى الأرض، فننظر كيف يعملان؟ قالوا: بربّنا، هاروت وماروت. فأهبطا إلى الأرض ومثلت لهما الزّهرة امرأةً من أحسن البشر، فجاءتهما، فسألاها نفسها. فقالت: لا واللّه حتّى تتكلّما بهذه الكلمة من الإشراك. فقالا: واللّه لا نشرك باللّه شيئًا أبدًا. فذهبت عنهما ثمّ رجعت بصبيٍّ تحمله، فسألاها نفسها. فقالت: لا واللّه حتّى تقتلا هذا الصّبيّ. فقالا: لا واللّه لا نقتله أبدًا. ثمّ ذهبت فرجعت بقدح خمر تحمله، فسألاها نفسها. فقالت: لا واللّه حتّى تشربا هذا الخمر. فشربا فسكرا، فوقعا عليها، وقتلا الصّبيّ. فلمّا أفاقا قالت المرأة: واللّه ما تركتما شيئًا أبيتماه عليّ إلّا قد فعلتماه حين سكرتما. فخيرا بين عذاب الدّنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدّنيا».
وهكذا رواه أبو حاتم بن حبّان في صحيحه، عن الحسن عن سفيان، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن يحيى بن بكيرٍ، به.
وهذا حديثٌ غريبٌ من هذا الوجه، ورجاله كلّهم ثقاتٌ من رجال الصّحيحين، إلّا موسى بن جبيرٍ هذا، وهو الأنصاريّ السّلميّ مولاهم المدينيّ الحذّاء، روى عن ابن عبّاسٍ وأبي أمامة بن سهل بن حنيفٍ، ونافعٍ، وعبد اللّه بن كعب بن مالكٍ. وروى عنه ابنه عبد السّلام، وبكر بن مضر، وزهير بن محمّدٍ، وسعيد بن سلمة، وعبد اللّه بن لهيعة، وعمرو بن الحارث، ويحيى بن أيّوب. وروى له أبو داود، وابن ماجه، وذكره ابن أبي حاتمٍ في كتاب الجرح والتّعديل، ولم يحك فيه شيئًا من هذا ولا هذا، فهو مستور الحال وقد تفرّد به عن نافعٍ مولى ابن عمر، عن ابن عمر عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم. وروي له متابعٌ من وجهٍ آخر عن نافعٍ، كما قال ابن مردويه: حدّثنا دعلج بن أحمد، حدّثنا هشام [بن عليّ بن هشامٍ] حدّثنا عبد اللّه بن رجاءٍ، حدّثنا سعيد بن سلمة، حدّثنا موسى بن سرجس، عن نافعٍ، عن ابن عمر: سمع النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم يقول. فذكره بطوله.
وقال أبو جعفر بن جريرٍ: حدّثنا القاسم، حدّثنا الحسين -وهو سنيد بن داود صاحب التّفسير- حدّثنا الفرج بن فضالة، عن معاوية بن صالحٍ، عن نافعٍ، قال: سافرت مع ابن عمر، فلمّا كان من آخر اللّيل قال: يا نافع، انظر، طلعت الحمراء؟ قلت: لا -مرّتين أو ثلاثًا- ثمّ قلت: قد طلعت. قال: لا مرحبًا بها ولا أهلًا. قلت: سبحان اللّه! نجمٌ مسخّرٌ سامعٌ مطيعٌ. قال: ما قلت لك إلّا ما سمعت من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم -أو قال: قال لي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم-: «إن الملائكة قالت: يا ربّ، كيف صبرك على بني آدم في الخطايا والذّنوب؟ قال: إنّي ابتليتهم وعافيتكم. قالوا: لو كنّا مكانهم ما عصيناك. قال: فاختاروا ملكين منكم».
قال:
«فلم يألوا جهدًا أن يختاروا، فاختاروا هاروت وماروت».
وهذان -أيضًا- غريبان جدًّا. وأقرب ما في هذا أنّه من رواية عبد اللّه بن عمر، عن كعب الأحبار، لا عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، كما قال عبد الرّزّاق في تفسيره، عن الثّوريّ، عن موسى بن عقبة، عن سالمٍ، عن ابن عمر، عن كعبٍ، قال: «ذكرت الملائكة أعمال بني آدم، وما يأتون من الذّنوب، فقيل لهم: اختاروا منكم اثنين، فاختاروا هاروت وماروت. فقال لهما: إنّي أرسل إلى بني آدم رسلًا وليس بيني وبينكم رسولٌ، انزلا لا تشركا بي شيئًا ولا تزنيا ولا تشربا الخمر». قال كعبٌ: «فواللّه ما أمسيا من يومهما الذي أهبطا فيه حتّى استكملا جميع ما نهيا عنه».
ورواه ابن جريرٍ من طريقين، عن عبد الرّزّاق، به.
ورواه ابن أبي حاتمٍ، عن أحمد بن عصامٍ، عن مؤمّل، عن سفيان الثّوريّ، به.
ورواه ابن جريرٍ أيضًا: حدّثني المثنّى، حدّثنا المعلى -وهو ابن أسدٍ- حدّثنا عبد العزيز بن المختار، عن موسى بن عقبة، حدّثني سالمٌ أنّه سمع عبد اللّه يحدّث، عن كعب الأحبار، فذكره.
فهذا أصحّ وأثبت إلى عبد اللّه بن عمر من الإسنادين المتقدّمين، وسالمٌ أثبت في أبيه من مولاه نافعٍ. فدار الحديث ورجع إلى نقل كعب الأحبار، عن كتب بني إسرائيل، واللّه أعلم.
ذكر الآثار الواردة في ذلك عن الصّحابة والتّابعين رضي اللّه عنهم أجمعين:
قال ابن جريرٍ: حدّثني المثنّى، حدّثنا الحجّاج حدّثنا حمّادٌ، عن خالدٍ الحذّاء، عن عمير بن سعيدٍ، قال: سمعت عليًّا -رضي اللّه عنه- يقول: «كانت الزّهرة امرأةً جميلةً من أهل فارس، وإنّها خاصمت إلى الملكين هاروت وماروت، فراوداها عن نفسها، فأبت عليهما إلّا أن يعلّماها الكلام الذي إذا تكلّم [المتكلّم] به يعرج به إلى السّماء. فعلّماها فتكلّمت به فعرجت إلى السّماء. فمسخت كوكبًا!».
وهذا الإسناد [جيّدٌ و] رجاله ثقاتٌ، وهو غريبٌ جدًّا.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا الفضل بن شاذان، حدّثنا محمّد بن عيسى، حدّثنا إبراهيم بن موسى، حدّثنا أبو معاوية، عن [ابن أبي] خالدٍ، عن عمير بن سعيدٍ، عن عليٍّ قال: «هما ملكان من ملائكة السّماء». يعني: {وما أنزل على الملكين}.
ورواه الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره بسنده، عن مغيثٍ، عن مولاه جعفر بن محمّدٍ، عن أبيه، عن جدّه، عن عليٍّ -مرفوعًا. وهذا لا يثبت من هذا الوجه.
ثمّ رواه من طريقين آخرين، عن جابرٍ، عن أبي الطّفيل، عن عليٍّ، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «لعن اللّه الزّهرة، فإنّها هي التي فتنت الملكين هاروت وماروت». وهذا أيضًا لا يصحّ وهو منكرٌ جدًّا. واللّه أعلم.
وقال ابن جريرٍ: حدّثني المثنّى بن إبراهيم، حدّثنا الحجّاج بن منهال، حدّثنا حمّادٌ، عن عليّ بن زيدٍ، عن أبي عثمان النّهديّ، عن ابن مسعودٍ وابن عبّاسٍ أنّهما قالا جميعًا: «لمّا كثر بنو آدم وعصوا، دعت الملائكة عليهم والأرض والجبال ربّنا لا تهلكهم فأوحى اللّه إلى الملائكة: إنّي أزلت الشّهوة والشّيطان من قلوبكم، ولو نزلتم لفعلتم أيضًا».
قال:
«فحدّثوا أنفسهم أن لو ابتلوا اعتصموا، فأوحى اللّه إليهم أن اختاروا ملكين من أفضلكم. فاختاروا هاروت وماروت. فأهبطا إلى الأرض، وأنزلت الزّهرة إليهما في صورة امرأةٍ من أهل فارس يسمّونها بيذخت».
قال:
«فوقعا بالخطيّة. فكانت الملائكة يستغفرون للّذين آمنوا: {ربّنا وسعت كلّ شيءٍ رحمةً وعلمًا} [غافر: 7] فلمّا وقعا بالخطيئة استغفروا لمن في الأرض ألا إنّ اللّه هو الغفور الرّحيم. فخيّرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختاروا عذاب الدّنيا».
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا عبد اللّه بن جعفرٍ الرّقّيّ، أخبرنا عبيد اللّه -يعني ابن عمرٍو- عن زيد بن أبي أنيسة، عن المنهال بن عمرٍو ويونس بن خبّابٍ، عن مجاهدٍ، قال: كنت نازلًا على عبد اللّه بن عمر في سفرٍ، فلمّا كان ذات ليلةٍ قال لغلامه: «انظر، هل طلعت الحمراء، لا مرحبًا بها ولا أهلًا ولا حيّاها اللّه هي صاحبة الملكين. قالت الملائكة: يا ربّ، كيف تدع عصاة بني آدم وهم يسفكون الدّم الحرام وينتهكون محارمك ويفسدون في الأرض! قال: إنّي ابتليتهم، فعلّ إن ابتليتكم بمثل الذي ابتليتهم به فعلتم كالذي يفعلون. قالوا: لا. قال: فاختاروا من خياركم اثنين. فاختاروا هاروت وماروت. فقال لهما: إنّي مهبطكما إلى الأرض، وعاهدٌ إليكما ألّا تشركا ولا تزنيا ولا تخونا. فأهبطا إلى الأرض وألقي عليهما الشّبق، وأهبطت لهما الزّهرة في أحسن صورة امرأةٍ، فتعرّضت لهما، فراوداها عن نفسها. فقالت: إنّي على دينٍ لا يصحّ لأحدٍ أن يأتيني إلّا من كان على مثله. قالا: وما دينك؟ قالت: المجوسيّة. قالا: الشّرك! هذا شيءٌ لا نقرّ به. فمكثت عنهما ما شاء اللّه. ثمّ تعرّضت لهما فأراداها عن نفسها. فقالت: ما شئتما، غير أنّ لي زوجًا، وأنا أكره أن يطّلع على هذا منّي فأفتضح، فإن أقررتما لي بديني، وشرطتما لي أن تصعدا بي إلى السّماء فعلت. فأقرّا لها بدينها وأتياها فيما يريان، ثمّ صعدا بها إلى السّماء. فلمّا انتهيا بها إلى السّماء اختطفت منهما، وقطعت أجنحتهما فوقعا خائفين نادمين يبكيان، وفي الأرض نبيٌّ يدعو بين الجمعتين، فإذا كان يوم الجمعة أجيب. فقالا: لو أتينا فلانًا فسألناه فطلب لنا التّوبة فأتياه، فقال: رحمكما اللّه كيف يطلب التّوبة أهل الأرض لأهل السّماء! قالا: إنّا قد ابتلينا. قال: ائتياني يوم الجمعة. فأتياه، فقال: ما أجبت فيكما بشيءٍ، ائتياني في الجمعة الثّانية. فأتياه، فقال: اختارا، فقد خيّرتما، إن أحببتما معافاة الدّنيا وعذاب الآخرة، وإن أحببتما فعذاب الدّنيا وأنتما يوم القيامة على حكم اللّه. فقال أحدهما: إنّ الدّنيا لم يمض منها إلّا القليل. وقال الآخر: ويحك؟ إنّي قد أطعتك في الأمر الأوّل فأطعني الآن، إنّ عذابًا يفنى ليس كعذابٍ يبقى. وإنّنا يوم القيامة على حكم اللّه، فأخاف أن يعذّبنا. قال: لا إنّي أرجو إن علم اللّه أنّا قد اخترنا عذاب الدّنيا مخافة عذاب الآخرة لا يجمعهما علينا».
قال:
«فاختارا عذاب الدّنيا، فجعلا في بكراتٍ من حديدٍ في قليب مملوءة من نار، عاليهما سافلهما».
وهذا إسنادٌ جيّدٌ إلى عبد اللّه بن عمر. وقد تقدّم في رواية ابن جريرٍ من حديث معاوية بن صالحٍ، عن نافعٍ، عنه رفعه. وهذا أثبت وأصحّ إسنادًا. ثمّ هو -واللّه أعلم- من رواية ابن عمر عن كعبٍ، كما تقدّم بيانه من رواية سالمٍ عن أبيه. وقوله: «إنّ الزّهرة نزلت في صورة امرأةٍ حسناء»، وكذا في المرويّ عن عليٍّ، فيه غرابةٌ جدًّا.
وأقرب ما ورد في ذلك ما قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا عصام بن روّادٍ، حدّثنا آدم، حدّثنا أبو جعفرٍ، حدّثنا الرّبيع بن أنسٍ، عن قيس بن عبّادٍ، عن ابن عبّاسٍ، رضي اللّه عنهما قال: «لمّا وقع النّاس من بعد آدم -عليه السّلام- فيما وقعوا فيه من المعاصي والكفر باللّه، قالت الملائكة في السّماء: يا ربّ، هذا العالم الذي إنّما خلقتهم لعبادتك وطاعتك، قد وقعوا فيما وقعوا فيه وركبوا الكفر وقتل النّفس وأكل المال الحرام، والزّنا والسّرقة وشرب الخمر. فجعلوا يدعون عليهم، ولا يعذرونهم، فقيل: إنّهم في غيب. فلم يعذروهم. فقيل لهم: اختاروا منكم من أفضلكم ملكين، آمرهما وأنهاهما. فاختاروا هاروت وماروت. فأهبطا إلى الأرض، وجعل لهما شهوات بني آدم، وأمرهما اللّه أن يعبداه ولا يشركا به شيئًا، ونهيا عن قتل النّفس الحرام وأكل المال الحرام، وعن الزّنا والسّرقة وشرب الخمر. فلبثا في الأرض زمانًا يحكمان بين النّاس بالحقّ وذلك في زمان إدريس عليه السّلام. وفي ذلك الزّمان امرأةٌ حسنها في النّساء كحسن الزّهرة في سائر الكواكب، وأنّهما أتيا عليها فخضعا لها في القول وأراداها على نفسها فأبت إلّا أن يكونا على أمرها وعلى دينها، فسألاها عن دينها، فأخرجت لهما صنمًا فقالت: هذا أعبده. فقالا: لا حاجة لنا في عبادة هذا. فذهبا فغبرا ما شاء اللّه. ثمّ أتيا عليها فأراداها على نفسها، ففعلت مثل ذلك. فذهبا، ثمّ أتيا عليها فراوداها على نفسها، فلمّا رأت أنّهما قد أبيا أن يعبدا الصّنم قالت لهما: اختارا إحدى الخلال الثّلاث: إمّا أن تعبدا هذا الصّنم، وإمّا أن تقتلا هذه النّفس، وإمّا أن تشربا هذا الخمر. فقالا: كلّ هذا لا ينبغي، وأهون هذا شرب الخمر. فشربا الخمر فأخذت فيهما فواقعا المرأة، فخشيا أن يخبر الإنسان عنهما فقتلاه فلمّا ذهب عنهما السّكر وعلما ما وقعا فيه من الخطيئة أرادا أن يصعدا إلى السّماء، فلم يستطيعا، وحيل بينهما وبين ذلك، وكشف الغطاء فيما بينهما وبين أهل السّماء، فنظرت الملائكة إلى ما وقعا فيه، فعجبوا كلّ العجب، وعرفوا أنّه من كان في غيبٍ فهو أقلّ خشيةً، فجعلوا بعد ذلك يستغفرون لمن في الأرض، فنزل في ذلك: {والملائكة يسبّحون بحمد ربّهم ويستغفرون لمن في الأرض} [الشّورى: 5] فقيل لهما: اختارا عذاب الدّنيا أو عذاب الآخرة فقالا أمّا عذاب الدنيا فإنه ينقطع ويذهب، وأمّا عذاب الآخرة فلا انقطاع له. فاختارا عذاب الدّنيا، فجعلا ببابل، فهما يعذّبان».
وقد رواه الحاكم في مستدركه مطوّلًا عن أبي زكريّا العنبريّ، عن محمّد بن عبد السلام، عن إسحاق بن راهويه، عن حكّام بن سلمٍ الرّازيّ، وكان ثقةً، عن أبي جعفرٍ الرّازيّ، به. ثمّ قال: صحيح الإسناد، ولم يخرّجاه. فهذا أقرب ما روي في شأنٍ الزّهرة، واللّه أعلم.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا مسلمٌ، حدّثنا القاسم بن الفضل الحدّاني حدّثنا يزيد -يعني الفارسيّ-، عن ابن عبّاسٍ [قال:]«أنّ أهل سماء الدّنيا أشرفوا على أهل الأرض فرأوهم يعملون المعاصي، فقالوا: يا ربّ أهل الأرض كانوا يعملون بالمعاصي! فقال اللّه: أنتم معي، وهم غيّب عنّي. فقيل لهم: اختاروا منكم ثلاثةً، فاختاروا منهم ثلاثةً على أن يهبطوا إلى الأرض، على أن يحكموا بين أهل الأرض، وجعل فيهم شهوة الآدميّين، فأمروا ألّا يشربوا خمرًا ولا يقتلوا نفسًا، ولا يزنوا، ولا يسجدوا لوثنٍ. فاستقال منهم واحدٌ، فأقيل. فأهبط اثنان إلى الأرض، فأتتهما امرأةٌ من أحسن النّاس يقال لها: مناهية. فهوياها جميعًا، ثمّ أتيا منزلها فاجتمعا عندها، فأراداها فقالت لهما: لا حتّى تشربا خمري، وتقتلا ابن جاري، وتسجدا لوثني. فقالا: لا نسجد. ثمّ شربا من الخمر، ثمّ قتلا ثمّ سجدا. فأشرف أهل السّماء عليهما. فقالت لهما: أخبراني بالكلمة التي إذا قلتماها طرتما. فأخبراها فطارت فمسخت جمرةً. وهي هذه الزهرة. وأمّا هما فأرسل إليهما سليمان بن داود فخيّرهما بين عذاب الدّنيا وعذاب الآخرة. فاختارا عذاب الدّنيا. فهما مناطان بين السّماء والأرض».
وهذا السّياق فيه زياداتٌ كثيرةٌ وإغرابٌ ونكارةٌ، واللّه أعلم بالصّواب.
وقال عبد الرّزّاق: قال معمر: قال قتادة والزّهريّ، عن عبيد اللّه بن عبد اللّه: «{وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت} كانا ملكين من الملائكة، فأهبطا ليحكما بين النّاس. وذلك أنّ الملائكة سخروا من حكّام بني آدم، فحاكمت إليهما امرأةٌ، فحافا لها. ثمّ ذهبا يصعدان فحيل بينهما وبين ذلك، ثمّ خيّرا بين عذاب الدّنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدّنيا». وقال معمر: قال قتادة: «فكانا يعلّمان النّاس السّحر، فأخذ عليهما ألّا يعلّما أحدًا حتّى يقولا {إنّما نحن فتنةٌ فلا تكفر}».
وقال أسباطٌ، عن السّدّيّ أنّه قال: «كان من أمر هاروت وماروت أنّهما طعنا على أهل الأرض في أحكامهم، فقيل لهما: إنّي أعطيت بني آدم عشرًا من الشّهوات، فبها يعصونني. قال هاروت وماروت: ربّنا، لو أعطيتنا تلك الشّهوات ثمّ نزلنا لحكمنا بالعدل. فقال لهما: انزلا فقد أعطيتكما تلك الشّهوات العشر، فاحكما بين النّاس. فنزلا ببابل دنباوند، فكانا يحكمان، حتّى إذا أمسيا عرجا، فإذا أصبحا هبطا، فلم يزالا كذلك حتّى أتتهما امرأةٌ تخاصم زوجها، فأعجبهما حسنها -واسمها بالعربيّة "الزّهرة"، وبالنّبطيّة "بيذخت" وبالفارسيّة "أناهيد"- فقال أحدهما لصاحبه: إنّها لتعجبني. قال الآخر: قد أردت أن أذكر لك فاستحييت منك. فقال الآخر: هل لك أن أذكرها لنفسها؟ قال: نعم ولكن كيف لنا بعذاب اللّه؟ قال الآخر: إنّا لنرجو رحمة اللّه. فلمّا جاءت تخاصم زوجها ذكرا إليها نفسها، فقالت: لا حتّى تقضيا لي على زوجي. فقضيا لها على زوجها، ثمّ واعدتهما خربة من الخرب يأتيانها فيها، فأتياها لذلك. فلمّا أراد الذي يواقعها قالت: ما أنا بالذي أفعل حتّى تخبراني بأيّ كلامٍ تصعدان إلى السّماء، وبأيّ كلامٍ تنزلان منها؟ فأخبراها، فتكلّمت فصعدت، فأنساها اللّه ما تنزل به، فبقيت مكانها، وجعلها اللّه كوكبًا.
فكان عبد اللّه بن عمر كلّما رآها لعنها، فقال: هذه التي فتنت هاروت وماروت، فلمّا كان اللّيل أرادا أن يصعدا فلم يطيقا، فعرفا الهلكة فخيّرا بين عذاب الدّنيا وعذاب الآخرة. فاختارا عذاب الدّنيا، فعلّقا ببابل، وجعلا يكلّمان النّاس كلامهما وهو السّحر
».
وقال ابن أبي نجيح عن مجاهدٍ: «أمّا شأن هاروت وماروت، فإنّ الملائكة عجبت من ظلم بني آدم، وقد جاءتهم الرّسل والكتب والبيّنات، فقال لهم ربّهم تعالى: اختاروا منكم ملكين أنزلهما يحكمان في الأرض بين بني آدم فاختاروا فلم يألوا [إلّا] هاروت وماروت، فقال لهما حين أنزلهما: أعجبتما من بني آدم من ظلمهم ومن معصيتهم، وإنّما تأتيهم الرّسل والكتب [والبيّنات] من وراء وراء، وأنتما ليس بيني وبينكما رسولٌ، فافعلا كذا وكذا، ودعا كذا وكذا، فأمرهما بأمرٍ ونهاهما، ثمّ نزلا على ذلك ليس أحدٌ أطوع للّه منهما، فحكما فعدلا. فكانا يحكمان في النّهار بين بني آدم، فإذا أمسيا عرجا فكانا مع الملائكة، وينزلان حين يصبحان فيحكمان فيعدلان، حتّى أنزلت عليهما الزّهرة في أحسن صورة امرأةٍ تخاصم، فقضيا عليها. فلمّا قامت وجد كلّ واحدٍ منهما في نفسه، فقال أحدهما لصاحبه: وجدت مثل الذي وجدت؟ قال: نعم. فبعثا إليها أن ائتيانا نقض لك. فلمّا رجعت قالا وقضيا لها، فأتتهما فتكشّفا لها عن عورتيهما، وإنّما كانت شهوتهما في أنفسهما، ولم يكونا كبني آدم في شهوة النّساء ولذّتها. فلمّا بلغا ذلك واستحلّا افتتنا، فطارت الزّهرة فرجعت حيث كانت. فلمّا أمسيا عرجا فزجرا فلم يؤذن لهما، ولم تحملهما أجنحتهما. فاستغاثا برجلٍ من بني آدم فأتياه، فقالا: ادع لنا ربّك. فقال: كيف يشفع أهل الأرض لأهل السّماء؟ قالا: سمعنا ربّك يذكرك بخيرٍ في السّماء. فوعدهما يومًا، وغدا يدعو لهما، فدعا لهما، فاستجيب له، فخيّرا بين عذاب الدّنيا وعذاب الآخرة، فنظر أحدهما إلى صاحبه، فقال: ألا تعلم أنّ أفواج عذاب اللّه في الآخرة كذا وكذا في الخلد، وفي الدّنيا تسع مرّاتٍ مثلها؟ فأمرا أن ينزلا ببابل، فثمّ عذابهما. وزعم أنّهما معلّقان في الحديد مطويّان، يصفّقان بأجنحتهما».
وقد روى في قصّة هاروت وماروت عن جماعةٍ من التّابعين، كمجاهدٍ والسّدّيّ والحسن [البصريّ] وقتادة وأبي العالية والزّهريّ والرّبيع بن أنسٍ ومقاتل بن حيّان وغيرهم، وقصّها خلقٌ من المفسّرين من المتقدّمين والمتأخّرين، وحاصلها راجعٌ في تفصيلها إلى أخبار بني إسرائيل، إذ ليس فيها حديثٌ مرفوعٌ صحيحٌ متّصل الإسناد إلى الصّادق المصدوق المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، وظاهر سياق القرآن إجمال القصّة من غير بسطٍ ولا إطنابٍ فيها، فنحن نؤمن بما ورد في القرآن على ما أراده اللّه تعالى، واللّه أعلم بحقيقة الحال.
وقد ورد في ذلك أثرٌ غريبٌ وسياقٌ عجيبٌ في ذلك أحببنا أن ننبّه عليه، قال: الإمام أبو جعفر بن جريرٍ، رحمه اللّه: حدّثنا الرّبيع بن سليمان، أخبرنا ابن وهبٍ، أخبرني ابن أبي الزّناد، حدّثني هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة زوج النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم [رضي اللّه عنها وعن أبيها] أنّها قالت: «قدمت امرأةٌ عليّ من أهل دومة الجندل، جاءت تبتغي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بعد موته حداثة ذلك، تسأله عن شيءٍ دخلت فيه من أمر السّحر، ولم تعمل به».
قالت عائشة -رضي اللّه عنها- لعروة:
«يا ابن أختي، فرأيتها تبكي حين لم تجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فيشفيها كانت تبكي حتّى إنّي لأرحمها، وتقول: إنّي أخاف أن أكون قد هلكت. كان لي زوجٌ فغاب عنّي، فدخلت على عجوزٍ فشكوت ذلك إليها، فقالت: إن فعلت ما آمرك به فأجعله يأتيك. فلمّا كان اللّيل جاءتني بكلبين أسودين، فركبت أحدهما وركبت الآخر، فلم يكن كشيءٍ حتّى وقفنا ببابل، وإذا برجلين معلّقين بأرجلهما. فقالا: ما جاء بك؟ فقلت: أتعلّم السّحر. فقالا: إنّما نحن فتنةٌ فلا تكفري، فارجعي. فأبيت وقلت: لا. قالا: فاذهبي إلى ذلك التّنّور، فبولي فيه. فذهبت ففزعت ولم أفعل، فرجعت إليهما، فقالا: أفعلت؟ فقلت: نعم. فقالا: هل رأيت شيئًا؟ فقلت: لم أر شيئًا. فقالا: لم تفعلي، ارجعي إلى بلادك ولا تكفري [فإنك على رأس أمري]. فأرببت وأبيت. فقالا: اذهبي إلى ذلك التّنّور فبولي فيه. فذهبت فاقشعررت [وخفت] ثمّ رجعت إليهما فقلت: قد فعلت. فقالا: فما رأيت؟ فقلت: لم أر شيئًا. فقالا: كذبت، لم تفعلي، ارجعي إلى بلادك ولا تكفري ؛ فإنّك على رأس أمرك. فأرببت وأبيت. فقالا: اذهبي إلى ذلك التّنّور، فبولي فيه. فذهبت إليه فبلت فيه، فرأيت فارسًا مقنّعًا بحديدٍ خرج منّي، فذهب في السّماء وغاب [عنّي] حتّى ما أراه، فجئتهما فقلت: قد فعلت. فقالا: فما رأيت؟ قلت: رأيت فارسًا مقنّعًا خرج منّي فذهب في السّماء، حتّى ما أراه. فقالا: صدقت، ذلك إيمانك خرج منك، اذهبي. فقلت للمرأة: واللّه ما أعلم شيئًا وما قالا لي شيئًا. فقالت: بلى، لم تريدي شيئًا إلّا كان، خذي هذا القمح فابذري، فبذرت، وقلت: أطلعي فأطلعت وقلت: أحقلي فأحقلت ثمّ قلت: أفركي فأفركت. ثمّ قلت: أيبسي فأيبست. ثمّ قلت: أطحني فأطحنت. ثمّ قلت: أخبزي فأخبزت. فلمّا رأيت أنّي لا أريد شيئًا إلّا كان، سقط في يدي وندمت -واللّه- يا أمّ المؤمنين واللّه ما فعلت شيئًا قطّ ولا أفعله أبدًا».
ورواه ابن أبي حاتمٍ عن الرّبيع بن سليمان، به مطوّلًا كما تقدّم. وزاد بعد قولها: «ولا أفعله أبدًا»: «فسألت أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حداثة وفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، وهم يومئذٍ متوافرون، فما دروا ما يقولون لها، وكلّهم هاب وخاف أن يفتيها بما لا يعلمه، إلّا أنّه قد قال لها ابن عبّاسٍ -أو بعض من كان عنده-: لو كان أبواك حيّين أو أحدهما [لكان يكفيانك]».
قال هشامٌ: فلو جاءتنا أفتيناها بالضّمان [قال]: قال ابن أبي الزّناد: وكان هشامٌ يقول: إنّهم كانوا أهل الورع والخشية من اللّه. ثمّ يقول هشامٌ: لو جاءتنا مثلها اليوم لوجدت نوكى أهل حمقٍ وتكلّفٍ بغير علمٍ.
فهذا إسنادٌ جيّدٌ إلى عائشة، رضي اللّه عنها.
وقد استدلّ بهذا الأثر من ذهب إلى أنّ السّاحر له تمكّنٌ في قلب الأعيان؛ لأنّ هذه المرأة بذرت واستغلّت في الحال.
وقال آخرون: بل ليس له قدرةٌ إلّا على التّخييل، كما قال [اللّه] تعالى: {سحروا أعين النّاس واسترهبوهم وجاءوا بسحرٍ عظيمٍ} [الأعراف: 116]، وقال تعالى: {يخيّل إليه من سحرهم أنّها تسعى} [طه: 66].
واستدلّ به على أنّ بابل المذكورة في القرآن هي بابل العراق، لا بابل دنباوند كما قاله السّدّيّ وغيره. ثمّ الدّليل على أنّها بابل العراق ما قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا عليّ بن الحسين، حدّثنا أحمد بن صالحٍ، حدّثني ابن وهبٍ، حدّثني ابن لهيعة ويحيى بن أزهر، عن عمّار بن سعدٍ المراديّ، عن أبي صالحٍ الغفاريّ أنّ عليّ بن أبي طالبٍ، رضي اللّه عنه [مرّ ببابل وهو يسير، فجاء المؤذّن يؤذنه بصلاة العصر، فلمّا برز منها أمر المؤذّن فأقام الصّلاة، فلمّا فرغ] قال:
«إنّ حبيبي صلّى اللّه عليه وسلّم نهاني أن أصلّي [بأرض المقبرة، ونهاني أن أصلّي] ببابل فإنّها ملعونةٌ».
وقال أبو داود: حدّثنا سليمان بن داود، حدّثنا ابن وهبٍ، حدّثني ابن لهيعة ويحيى بن أزهر، عن عمّار بن سعدٍ المراديّ، عن أبي صالحٍ الغفاريّ: أنّ عليًّا مرّ ببابل، وهو يسير، فجاءه المؤذّن يؤذّنه بصلاة العصر، فلمّا برز منها أمر المؤذّن فأقام الصّلاة فلمّا فرغ قال: «إنّ حبيبي صلّى اللّه عليه وسلّم نهاني أن أصلّي في المقبرة، ونهاني أن أصلّي بأرض بابل، فإنّها ملعونةٌ».
حدّثنا أحمد بن صالحٍ: حدّثنا ابن وهبٍ، أخبرني يحيى بن أزهر وابن لهيعة، عن الحجّاج بن شدّادٍ، عن أبي صالحٍ الغفاريّ، عن عليٍّ، بمعنى حديث سليمان بن داود، قال: فلمّا "خرج" مكان "برز".
وهذا الحديث حسنٌ عند الإمام أبي داود، لأنّه رواه وسكت عنه ؛ ففيه من الفقه كراهية الصّلاة بأرض بابل، كما تكره بديار ثمود الّذين نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن الدّخول إلى منازلهم، إلّا أن يكونوا باكين.
قال أصحاب الهيئة: وبعد ما بين بابل، وهي من إقليم العراق، عن البحر المحيط الغربيّ، ويقال له: أوقيانوس سبعون درجةً، ويسمّون هذا طولًا وأمّا عرضها وهو بعد ما بينها وبين وسط الأرض من ناحية الجنوب، وهو المسامت لخطّ الاستواء، اثنان وثلاثون درجةً، واللّه أعلم.
وقوله تعالى: {وما يعلّمان من أحدٍ حتّى يقولا إنّما نحن فتنةٌ فلا تكفر} قال أبو جعفرٍ الرّازيّ، عن الرّبيع بن أنسٍ، عن قيس بن عبّادٍ، عن ابن عبّاسٍ، قال: «فإذا أتاهما الآتي يريد السّحر نهياه أشدّ النّهي، وقالا له: إنّما نحن فتنةٌ فلا تكفر، وذلك أنّهما علما الخير والشّرّ والكفر والإيمان، فعرفا أنّ السّحر من الكفر».
[قال:]
«فإذا أبى عليهما أمراه أن يأتي مكان كذا وكذا، فإذا أتاه عاين الشّيطان فعلمه، فإذا تعلّم خرج منه النّور، فنظر إليه ساطعًا في السماء، فيقول: يا حسرتاه! يا ويله! ماذا أصنع؟».
وعن الحسن البصريّ أنّه قال في تفسير هذه الآية: «نعم، أنزل الملكان بالسّحر، ليعلّما النّاس البلاء الذي أراد اللّه أن يبتلي به النّاس، فأخذ عليهما الميثاق أن لا يعلّما أحدًا حتّى يقولا: {إنّما نحن فتنةٌ فلا تكفر}» رواه ابن أبي حاتمٍ،
وقال قتادة:
«كان أخذ عليهما ألّا يعلّما أحدًا حتّى يقولا {إنّما نحن فتنةٌ فلا تكفر} أي: بلاءٌ ابتلينا به {فلا تكفر}».
وقال [قتادة و] السّدّيّ: «إذا أتاهما إنسانٌ يريد السّحر، وعظاه، وقالا له: لا تكفر، إنّما نحن فتنةٌ. فإذا أبى قالا له: ائت هذا الرّماد، فبل عليه. فإذا بال عليه خرج منه نورٌ فسطع حتّى يدخل السّماء، وذلك الإيمان. وأقبل شيءٌ أسود كهيئة الدّخان حتّى يدخل في مسامعه وكلّ شيءٍ [منه]. وذلك غضب اللّه. فإذا أخبرهما بذلك علّماه السّحر، فذلك قول اللّه تعالى: {وما يعلّمان من أحدٍ حتّى يقولا إنّما نحن فتنةٌ فلا تكفر} الآية».
وقال سنيد، عن حجّاجٍ، عن ابن جريجٍ في هذه الآية: «لا يجترئ على السّحر إلّا كافرٌ».
وأمّا الفتنة فهي المحنة والاختبار، ومنه قول الشّاعر:
وقد فتن النّاس في دينهم ....... وخلّى ابن عفّان شرًّا طويلا
وكذلك قوله تعالى إخبارًا عن موسى، عليه السّلام، حيث قال: {إن هي إلا فتنتك} أي: ابتلاؤك واختبارك وامتحانك {تضلّ بها من تشاء وتهدي من تشاء} [الأعراف: 155].
وقد استدلّ بعضهم بهذه الآية على تكفير من تعلّم السّحر، ويستشهد له بالحديث الذي رواه الحافظ أبو بكرٍ البزّار: حدّثنا محمّد بن المثنّى، حدّثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن همامٍ، عن عبد اللّه، قال: «من أتى كاهنًا أو ساحرًا فصدّقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم».
وهذا إسنادٌ جيّدٌ وله شواهد أخر.
وقوله تعالى: {فيتعلّمون منهما ما يفرّقون به بين المرء وزوجه} أي: فيتعلّم النّاس من هاروت وماروت من علم السّحر ما يتصرّفون به فيما يتصرّفون فيه من الأفاعيل المذمومة، ما إنّهم ليفرّقون به بين الزّوجين مع ما بينهما من الخلطة والائتلاف. وهذا من صنيع الشّياطين، كما رواه مسلمٌ في صحيحه، من حديث الأعمش، عن أبي سفيان طلحة بن نافعٍ، عن جابر بن عبد اللّه، رضي اللّه عنه عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، قال: «إن الشّيطان ليضع عرشه على الماء، ثمّ يبعث سراياه في النّاس، فأقربهم عنده منزلةً أعظمهم عنده فتنةً، يجيء أحدهم فيقول: ما زلت بفلانٍ حتّى تركته وهو يقول كذا وكذا. فيقول إبليس: لا واللّه ما صنعت شيئًا. ويجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتّى فرّقت بينه وبين أهله»، قال: «فيقرّبه ويدنيه ويلتزمه، ويقول: نعم أنت».
وسبب التّفرّق بين الزّوجين بالسّحر: ما يخيّل إلى الرّجل أو المرأة من الآخر من سوء منظرٍ، أو خلقٍ أو نحو ذلك أو عقد أو بغضه، أو نحو ذلك من الأسباب المقتضية للفرقة.
والمرء عبارةٌ عن الرّجل، وتأنيثه امرأةٌ، ويثنّى كلٌّ منهما ولا يجمعان، واللّه أعلم.
وقوله تعالى: {وما هم بضارّين به من أحدٍ إلا بإذن اللّه} قال سفيان الثّوريّ: «إلّا بقضاء اللّه».
وقال محمّد بن إسحاق:
«إلّا بتخلية اللّه بينه وبين ما أراد».
وقال الحسن البصريّ: {وما هم بضارّين به من أحدٍ إلا بإذن اللّه} قال:
«نعم، من شاء اللّه سلّطهم عليه، ومن لم يشأ اللّه لم يسلّط، ولا يستطيعون ضرّ أحدٍ إلّا بإذن اللّه، كما قال اللّه تعالى»، وفي روايةٍ عن الحسن أنّه قال:«لا يضرّ هذا السّحر إلّا من دخل فيه».
وقوله تعالى: {ويتعلّمون ما يضرّهم ولا ينفعهم} أي: يضرّهم في دينهم، وليس له نفعٌ يوازي ضرره.
{ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاقٍ} أي: ولقد علم اليهود الّذين استبدلوا بالسّحر عن متابعة الرّسول صلّى اللّه عليه وسلّم لمن فعل فعلهم ذلك، أنّه ما له في الآخرة من خلاقٍ.
قال ابن عبّاسٍ ومجاهدٌ والسّدّيّ: «من نصيبٍ».
وقال عبد الرّزّاق، عن معمر، عن قتادة:
«ما له في الآخرة من جهةٍ عند اللّه»، وقال: وقال الحسن: «ليس له دينٌ».
وقال سعدٌ عن قتادة: {ما له في الآخرة من خلاقٍ} قال: «ولقد علم أهل الكتاب فيما عهد اللّه إليهم أنّ السّاحر لا خلاق له في الآخرة».
وقوله تعالى: {ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون* ولو أنّهم آمنوا واتّقوا لمثوبةٌ من عند اللّه خيرٌ لو كانوا يعلمون} يقول تعالى: {ولبئس} البديل ما استبدلوا به من السّحر عوضًا عن الإيمان، ومتابعة الرّسل لو كان لهم علمٌ بما وعظوا به {ولو أنّهم آمنوا واتّقوا لمثوبةٌ من عند اللّه خيرٌ} أي: ولو أنّهم آمنوا باللّه ورسله واتّقوا المحارم، لكان مثوبة اللّه على ذلك خيرًا لهم ممّا استخاروا لأنفسهم ورضوا به، كما قال تعالى: {وقال الّذين أوتوا العلم ويلكم ثواب اللّه خيرٌ لمن آمن وعمل صالحًا ولا يلقّاها إلا الصّابرون} [القصص: 80].
وقد استدلّ بقوله: {ولو أنّهم آمنوا واتّقوا} من ذهب إلى تكفير السّاحر، كما هو روايةٌ عن الإمام أحمد بن حنبلٍ وطائفةٍ من السّلف. وقيل: بل لا يكفر، ولكن حده ضرب عنقه، لما رواه الشّافعيّ وأحمد بن حنبلٍ، رحمهما اللّه: أخبرنا سفيان، عن عمرو بن دينارٍ، أنّه سمع بجالة بن عبدة يقول: كتب [أمير المؤمنين] عمر بن الخطّاب، رضي اللّه عنه، أن اقتلوا كلّ ساحرٍ وساحرةٍ. قال: فقتلنا ثلاث سواحر. وقد أخرجه البخاريّ في صحيحه أيضًا. وهكذا صحّ أنّ حفصة أمّ المؤمنين سحرتها جاريةٌ لها، فأمرت بها فقتلت. قال أحمد بن حنبلٍ: صحّ من أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم [أذنوا] في قتل السّاحر.
وروى التّرمذيّ من حديث إسماعيل بن مسلمٍ، عن الحسن، عن جندبٍ الأزديّ أنّه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «حدّ السّاحر ضربه بالسّيف».
ثمّ قال: لا نعرفه مرفوعًا إلّا من هذا الوجه. وإسماعيل بن مسلمٍ يضعّف في الحديث، والصّحيح: عن الحسن عن جندب موقوفًا.
قلت: قد رواه الطّبرانيّ من وجهٍ آخر، عن الحسن، عن جندبٍ، مرفوعًا. واللّه أعلم.
وقد روي من طرقٍ متعدّدةٍ أنّ الوليد بن عقبة كان عنده ساحرٌ يلعب بين يديه، فكان يضرب رأس الرّجل ثمّ يصيح به فيردّ إليه رأسه، فقال النّاس: سبحان اللّه! يحيي الموتى! ورآه رجلٌ من صالحي المهاجرين، فلمّا كان الغد جاء مشتملًا على سيفه، وذهب يلعب لعبه ذلك، فاخترط الرّجل سيفه فضرب عنق السّاحر، وقال: إن كان صادقا فليحي نفسه. وتلا قوله تعالى: {أفتأتون السّحر وأنتم تبصرون} [الأنبياء: 3]، فغضب الوليد إذ لم يستأذنه في ذلك فسجنه ثمّ أطلقه، واللّه أعلم.
وقال أبو بكرٍ الخلّال: أخبرنا عبد اللّه بن أحمد بن حنبلٍ، حدّثني أبي، حدّثنا يحيى بن سعيدٍ، حدّثني أبو إسحاق، عن حارثة قال: كان عند بعض الأمراء رجلٌ يلعب فجاء جندب مشتملا على سيفه فقتله، فقال: أراه كان ساحرًا، وحمل الشّافعيّ -رحمه اللّه- قصّة عمر وحفصة على سحر يكون شركًا. واللّه أعلم.
فصلٌ
حكى أبو عبد اللّه الرّازيّ في تفسيره عن المعتزلة أنّهم أنكروا وجود السّحر،
قال: وربّما كفّروا من اعتقد وجوده.
قال: وأمّا أهل السّنّة فقد جوّزوا أن يقدر السّاحر أن يطير في الهواء، ويقلب الإنسان حمارًا، والحمار إنسانًا، إلّا أنّهم قالوا: إنّ اللّه يخلق الأشياء عندما يقول السّاحر تلك الرّقى و [تلك] الكلمات المعيّنة، فأمّا أن يكون المؤثّر في ذلك هو الفلك والنّجوم فلا خلافًا للفلاسفة والمنجّمين الصّابئة، ثمّ استدلّ على وقوع السّحر وأنّه بخلق اللّه تعالى، بقوله تعالى: {وما هم بضارّين به من أحدٍ إلا بإذن اللّه} ومن الأخبار بأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم سحر، وأنّ السّحر عمل فيه، وبقصّة تلك المرأة مع عائشة، رضي اللّه عنها، وما ذكرت تلك المرأة من إتيانها بابل وتعلّمها السّحر،
قال: وبما يذكر في هذا الباب من الحكايات الكثيرة،
ثمّ قال بعد هذا:
المسألة الخامسة في أنّ العلم بالسّحر ليس بقبيحٍ ولا محظورٍ: اتّفق المحقّقون على ذلك؛ لأنّ العلم لذاته شريفٌ وأيضًا لعموم قوله تعالى: {قل هل يستوي الّذين يعلمون والّذين لا يعلمون} [الزّمر: 9]؛ ولأنّ السّحر لو لم يكن يعلّم لما أمكن الفرق بينه وبين المعجزة، والعلم بكون المعجز معجزًا واجبٌ، وما يتوقّف الواجب عليه فهو واجبٌ؛ فهذا يقتضي أن يكون تحصيل العلم بالسّحر واجبًا، وما يكون واجبًا فكيف يكون حرامًا وقبيحًا؟!
هذا لفظه بحروفه في هذه المسألة، وهذا الكلام فيه نظرٌ من وجوهٍ:
أحدها: قوله: "العلم بالسّحر ليس بقبيحٍ". إن عنى به ليس بقبيحٍ عقلًا فمخالفوه من المعتزلة يمنعون هذا وإن عنى أنّه ليس بقبيحٍ شرعًا، ففي هذه الآية الكريمة تبشيعٌ لتعلّم السّحر، وفي الصّحيح:
«من أتى عرّافًا أو كاهنًا، فقد كفر بما أنزل على محمّدٍ». وفي السّنن: «من عقد عقدةً ونفث فيها فقد سحر». وقوله: ولا محظور اتّفق المحقّقون على ذلك". كيف لا يكون محظورًا مع ما ذكرناه من الآية والحديث؟! واتّفاق المحقّقين يقتضي أن يكون قد نصّ على هذه المسألة أئمّة العلماء أو أكثرهم، وأين نصوصهم على ذلك؟ ثمّ إدخاله [علم] السّحر في عموم قوله: {قل هل يستوي الّذين يعلمون والّذين لا يعلمون} فيه نظرٌ؛ لأنّ هذه الآية إنّما دلّت على مدح العالمين بالعلم الشرعي، ولم قلت إنّ هذا منه؟ ثمّ ترقيه إلى وجوب تعلّمه بأنّه لا يحصل العلم بالمعجز إلّا به، ضعيفٌ بل فاسدٌ؛ لأنّ معظم معجزات رسولنا، عليه الصّلاة والسّلام هي القرآن العظيم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيلٌ من حكيمٍ حميدٍ. ثمّ إنّ العلم بأنّه معجزٌ لا يتوقّف على علم السّحر أصلًا ثمّ من المعلوم بالضّرورة أنّ الصّحابة والتّابعين وأئمّة المسلمين وعامّتهم، كانوا يعلمون المعجز، ويفرّقون بينه وبين غيره، ولم يكونوا يعلمون السّحر ولا تعلّموه ولا علّموه، واللّه أعلم.
ثمّ قد ذكر أبو عبد اللّه الرّازيّ أنّ أنواع السّحر ثمانيةً:
الأوّل: سحر الكلدانيين والكشدانيين، الّذين كانوا يعبدون الكواكب السّبعة المتحيّرة، وهي السّيّارة، وكانوا يعتقدون أنّها مدبّرة العالم وأنّها تأتي بالخير والشّرّ، وهم الّذين بعث إليهم إبراهيم الخليل صلّى اللّه عليه وسلّم مبطلًا لمقالتهم ورادًّا لمذهبهم وقد استقصى في "كتاب السّرّ المكتوم، في مخاطبة الشّمس والنّجوم" المنسوب إليه فيما ذكره القاضي ابن خلّكان وغيره ويقال: إنّه تاب منه. وقيل إنّه صنّفه على وجه إظهار الفضيلة لا على سبيل الاعتقاد. وهذا هو المظنون به، إلّا أنّه ذكر فيه طرائقهم في مخاطبة كلّ من هذه الكواكب السّبعة، وكيفيّة ما يفعلون وما يلبسونه، وما يتنسّكون به.
قال: والنّوع الثّاني: سحر أصحاب الأوهام والنّفوس القويّة، ثمّ استدلّ على أنّ الوهم له تأثيرٌ، بأنّ الإنسان يمكنه أن يمشي على الجسر الموضوع على وجه الأرض، ولا يمكنه المشي عليه إذا كان ممدودًا على نهرٍ أو نحوه. قال: وكما أجمعت الأطبّاء على نهي المرعوف عن النّظر إلى الأشياء الحمر، والمصروع إلى الأشياء القويّة اللّمعان أو الدّوران، وما ذاك إلّا لأنّ النّفوس خلقت مطيعة للأوهام.
قال: وقد اتّفق العقلاء على أنّ الإصابة بالعين حقٌّ.
وله أن يستدلّ على ذلك بما ثبت في الصّحيح أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، قال: «العين حقّ، ولو كان شيءٌ سابق القدر لسبقته العين».
قال: فإذا عرفت هذا، فنقول: النّفس التي تفعل هذه الأفاعيل قد تكون قويّةً جدًّا، فتستغني في هذه الأفاعيل عن الاستعانة بالآلات والأدوات، وقد تكون ضعيفةً فتحتاج إلى الاستعانة بهذه الآلات. وتحقيقه أنّ النّفس إذا كانت مستعليةً على البدن شديدة الانجذاب إلى عالم السّماوات، صارت كأنّها روح من الأرواح السّماويّة، فكانت قويّةً على التّأثير في موادّ هذا العالم. وإذا كانت ضعيفةً شديدة التّعلّق بهذه الذّات البدنيّة، فحينئذٍ لا يكون لها تصرّفٌ البتّة إلّا في هذا البدن. ثمّ أرشد إلى مداواة هذا الدّاء بتقليل الغذاء، والانقطاع عن النّاس والرّياء.
قلت: وهذا الذي يشير إليه هو التّصرّف بالحال، وهو على قسمين:
تارةً تكون حالًا صحيحةً شرعيّةً يتصرّف بها فيما أمر اللّه ورسوله صلّى اللّه عليه وسلّم، ويترك ما نهى اللّه عنه ورسوله، وهذه الأحوال مواهب من اللّه تعالى وكراماتٌ للصّالحين من هذه الأمّة، ولا يسمّى هذا سحرًا في الشّرع.
وتارةً تكون الحال فاسدةً لا يمتثل صاحبها ما أمر اللّه ورسوله صلّى اللّه عليه وسلّم ولا يتصرّف بها في ذلك. فهذه حال الأشقياء المخالفين للشّريعة، ولا يدلّ إعطاء اللّه إيّاهم هذه الأحوال على محبّته لهم، كما أنّ الدجّال -لعنه اللّه- له من الخوارق العادات ما دلّت عليه الأحاديث الكثيرة، مع أنّه مذمومٌ شرعًا لعنه اللّه. وكذلك من شابهه من مخالفي الشّريعة المحمّديّة، على صاحبها أفضل الصّلاة والسّلام. وبسط هذا يطول جدًّا، وليس هذا موضعه.

قال: النّوع الثّالث من السّحر: الاستعانة بالأرواح الأرضيّة، وهم الجنّ، خلافًا للفلاسفة والمعتزلة: وهم على قسمين: مؤمنون، وكفّارٌ، وهم الشياطين. قال: واتّصال النّفوس النّاطقة بها أسهل من اتّصالها بالأرواح السّماويّة، لما بينهما من المناسبة والقرب، ثمّ إنّ أصحاب الصّنعة وأرباب التّجربة شاهدوا أنّ الاتّصال بهذه الأرواح الأرضيّة يحصل بأعمالٍ سهلةٍ قليلةٍ من الرّقى والدّخل والتّجريد. وهذا النّوع هو المسمّى بالعزائم وعمل التّسخير.
النّوع الرّابع من السّحر: التّخيّلات، والأخذ بالعيون والشّعبذة، ومبناه [على] أنّ البصر قد يخطئ ويشتغل بالشّيء المعيّن دون غيره، ألا ترى أنّ المشعبذ الحاذق يظهر عمل شيءٍ يذهل أذهان النّاظرين به، ويأخذ عيونهم إليه، حتّى إذا استفرغهم الشّغل بذلك الشّيء بالتّحديق ونحوه، عمل شيئًا آخر عملا بسرعةٍ شديدةٍ، وحينئذٍ يظهر لهم شيءٌ آخر غير ما انتظروه. فيتعجّبون منه جدًّا، ولو أنّه سكت ولم يتكلّم بما يصرف الخواطر إلى ضدّ ما يريد أن يعمله، ولم تتحرّك النّفوس والأوهام إلى غير ما يريد إخراجه، لفطن النّاظرون لكلّ ما يفعله.
قال: وكلّما كانت الأحوال تفيد حسن البصر نوعًا من أنواع الخلل أشدّ، كان العمل أحسن، مثل أن يجلس المشعبذ في موضعٍ مضيءٍ جدًّا، أو مظلمٍ، فلا تقف القوّة النّاظرة على أحوالها بكلالها والحالة هذه.
قلت: وقد قال بعض المفسّرين: إنّ سحر السّحرة بين يدي فرعون إنّما كان من باب الشّعبذة، ولهذا قال تعالى: {فلمّا ألقوا سحروا أعين النّاس واسترهبوهم وجاءوا بسحرٍ عظيمٍ} [الأعراف: 116] وقال تعالى: {يخيّل إليه من سحرهم أنّها تسعى} [طه: 66] قالوا: ولم تكن تسعى في نفس الأمر. واللّه أعلم.
النّوع الخامس من السّحر: الأعمال العجيبة التي تظهر من تركيب الآلات المركّبة من النّسب الهندسيّة، كفارسٍ على فرسٍ في يده بوقٌ، كلّما مضت ساعةٌ من النّهار ضرب بالبوق، من غير أن يمسّه أحدٌ. ومنها الصّور التي تصوّرها الروم والهند، حتّى لا يفرّق النّاظر بينها وبين الإنسان، حتّى يصوّرونها ضاحكةً وباكيةً.
إلى أن قال: فهذه الوجوه من لطيف أمور المخاييل. قال: وكان سحر سحرة فرعون من هذا القبيل.
قلت: يعني ما قاله بعض المفسّرين: أنّهم عمدوا إلى تلك الحبال والعصيّ، فحشوها زئبقًا فصارت تتلوّى بسبب ما فيها من ذلك الزّئبق، فيخيّل إلى الرّائي أنّها تسعى باختيارها.
قال الرّازيّ: ومن هذا الباب تركيب صندوق السّاعات، ويندرج في هذا الباب علم جرّ الأثقال بالآلات الخفيفة.
قال: وهذا في الحقيقة لا ينبغي أن يعدّ من باب السّحر؛ لأنّ لها أسبابًا معلومةً يقينيّةً من اطّلع عليها قدر عليها.
قلت: ومن هذا القبيل حيل النّصارى على عامّتهم، بما يرونهم إيّاه من الأنوار، كقضيّة قمامة الكنيسة التي لهم ببلد المقدس، وما يحتالون به من إدخال النّار خفيةً إلى الكنيسة، وإشعال ذلك القنديل بصنعةٍ لطيفةٍ تروج على العوامّ [منهم] وأمّا الخواصّ فهم يعترفون بذلك، ولكن يتأوّلون أنّهم يجمعون شمل أصحابهم على دينهم، فيرون ذلك سائغًا لهم. وفيه شبهٌ للجهلة الأغبياء من متعبّدي الكرّامية الّذين يرون جواز وضع الأحاديث في التّرغيب والتّرهيب، فيدخلون في عداد من قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فيهم: «من كذب عليّ متعمّدًا فليتبوّأ مقعده من النّار». وقوله: «حدّثوا عنّي ولا تكذبوا عليّ فإنّه من يكذب عليّ يلج النّار».
ثمّ ذكر ههنا حكايةً عن بعض الرّهبان، وهو أنّه سمع صوت طائرٍ حزين الصّوت ضعيف الحركة، فإذا سمعته الطّيور ترقّ له فتذهب فتلقي في وكره من ثمر الزّيتون، ليتبلّغ به، فعمد هذا الراهب إلى صنعة طائرٍ على شكله، وتوصّل إلى أن جعله أجوف، فإذا دخلته الرّيح يسمع له صوتٌ كصوت ذلك الطّائر، وانقطع في صومعةٍ ابتناها، وزعم أنّها على قبر بعض صالحيهم، وعلّق ذلك الطّائر في مكانٍ منها، فإذا كان زمان الزّيتون فتح بابًا من ناحيةٍ، فتدخل الرّيح إلى داخل هذه الصّورة، فيسمع صوتها كذلك الطّائر في شكله أيضًا، فتأتي الطّيور فتحمل من الزّيتون شيئًا كثيرًا فلا ترى النّصارى إلّا ذلك الزّيتون في هذه الصّومعة، ولا يدرون ما سببه؟ ففتنهم بذلك، وأوهم أنّ هذا من كرامات صاحب هذا القبر، عليهم لعائن اللّه المتتابعة إلى يوم القيامة.
قال الرّازيّ: النّوع السّادس من السّحر: الاستعانة بخواصّ الأدوية يعني في الأطعمة والدّهانات. قال: واعلم أن لا سبيل إلى إنكار الخواصّ، فإنّ أثر المغناطيس مشاهدٌ.
قلت: يدخل في هذا القبيل كثيرٌ ممّن يدّعي الفقر ويتخيّل على جهلة النّاس بهذه الخواصّ، مدّعيًا أنّها أحوالٌ له من مخالطة النّيران ومسك الحيّات إلى غير ذلك من المحالات.
قال: النّوع السّابع من السّحر: تعليق القلب، وهو أن يدّعي الساحر أنّه عرف الاسم الأعظم، وأنّ الجنّ يطيعونه وينقادون له في أكثر الأمور، فإذا اتّفق أن يكون ذلك السّامع لذلك ضعيف العقل قليل التّمييز اعتقد أنّه حقٌّ، وتعلّق قلبه بذلك وحصل في نفسه نوعٌ من الرّهب والمخافة، فإذا حصل الخوف ضعفت القوى الحسّاسة فحينئذٍ يتمكّن السّاحر أن يفعل ما يشاء.
قلت: هذا النّمط يقال له التّنبلة، وإنّما يروج على الضّعفاء العقول من بني آدم. وفي علم الفراسة ما يرشد إلى معرفة كامل العقل من ناقصه، فإذا كان المتنبل حاذقًا في علم الفراسة عرف من ينقاد له من النّاس من غيره.
قال: النّوع الثّامن من السّحر: السّعي بالنّميمة والتّضريب من وجوهٍ خفيفة لطيفة، وذلك شائع في الناس.
قلت: النّميمة على قسمين، تارةً تكون على وجه التّحريش [بين النّاس] وتفريق قلوب المؤمنين، فهذا حرامٌ متّفقٌ عليه. فأمّا إذا كانت على وجه الإصلاح [بين النّاس] وائتلاف كلمة المسلمين، كما جاء في الحديث:«ليس بالكذّاب من ينمّ خيرًا» أو يكون على وجه التّخذيل والتّفريق بين جموع الكفرة فهذا أمرٌ مطلوبٌ، كما جاء في الحديث: «الحرب خدعةٌ». وكما فعل نعيم بن مسعودٍ في تفريقه بين كلمة الأحزاب وبين قريظة، وجاء إلى هؤلاء فنمى إليهم عن هؤلاء كلامًا، ونقل من هؤلاء إلى أولئك شيئًا آخر، ثمّ لأم بين ذلك، فتناكرت النّفوس وافترقت. وإنّما يحذو على مثل هذا الذّكاء والبصيرة النّافذة. واللّه المستعان.
ثمّ قال الرّازيّ: فهذه جملة الكلام في أقسام السّحر وشرح أنواعه وأصنافه.
قلت: وإنّما أدخل كثيرًا من هذه الأنواع المذكورة في فنّ السّحر، للطافة مداركها؛ لأنّ السّحر في اللّغة: عبارةٌ عمّا لطف وخفي سببه. ولهذا جاء في الحديث: «إنّ من البيان لسحرًا». وسمّي السّحور لكونه يقع خفيًّا آخر اللّيل والسّحر: الرّئة، وهي محلّ الغذاء، وسمّيت بذلك لخفائها ولطف مجاريها إلى أجزاء البدن وغضونه، كما قال أبو جهلٍ يوم بدرٍ لعتبة: انتفخ سحرك أي: انتفخت رئته من الخوف. وقالت عائشة، رضي اللّه عنها:«توفّي رسول صلّى اللّه عليه وسلّم بين سحري ونحري». وقال: {سحروا أعين النّاس} أي: أخفوا عنهم عملهم، واللّه أعلم.
[فصلٌ]
وقد ذكر الوزير أبو المظفّر يحيى بن هبيرة بن محمّد بن هبيرة في كتابه: "الإشراف على مذاهب الأشراف" بابًا في السّحر، فقال: أجمعوا على أنّ السّحر له حقيقةٌ إلّا أبا حنيفة، فإنّه قال: لا حقيقة له عنده. واختلفوا فيمن يتعلّم السّحر ويستعمله، فقال أبو حنيفة ومالكٌ وأحمد: يكفر بذلك. ومن أصحاب أبي حنيفة من قال: إن تعلّمه ليتّقيه أو ليجتنبه فلا يكفر، ومن تعلّمه معتقدًا جوازه أو أنّه ينفعه كفر. وكذا من اعتقد أنّ الشّياطين تفعل له ما يشاء فهو كافرٌ. وقال الشّافعيّ، رحمه اللّه: إذا تعلّم السّحر قلنا له: صف لنا سحرك. فإن وصف ما يوجب الكفر مثل ما اعتقده أهل بابل من التّقرّب إلى الكواكب السّبعة، وأنّها تفعل ما يلتمس منها، فهو كافرٌ. وإن كان لا يوجب الكفر فإن اعتقد إباحته فهو كافرٌ.
قال ابن هبيرة: وهل يقتل بمجرّد فعله واستعماله؟ فقال مالكٌ وأحمد: نعم. وقال الشّافعيّ وأبو حنيفة: لا. فأمّا إن قتل بسحره إنسانًا فإنّه يقتل عند مالكٍ والشّافعيّ وأحمد. وقال أبو حنيفة: لا يقتل حتّى يتكرّر منه ذلك أو يقرّ بذلك في حقّ شخصٍ معيّنٍ. وإذا قتل فإنّه يقتل حدًّا عندهم إلّا الشّافعيّ، فإنّه قال: يقتل -والحالة هذه-قصاصًا.
قال: وهل إذا تاب السّاحر تقبل توبته؟ فقال مالكٌ، وأبو حنيفة وأحمد في المشهور عنهما: لا تقبل. وقال الشّافعيّ وأحمد في الرّواية الأخرى: تقبل. وأمّا ساحر أهل الكتاب فعند أبي حنيفة أنّه يقتل، كما يقتل السّاحر المسلم. وقال مالكٌ والشّافعيّ وأحمد: لا يقتل. يعني لقصة لبيد بن أعصم.
واختلفوا في المسلمة السّاحرة، فعند أبي حنيفة لا تقتل، ولكن تحبس. وقال الثّلاثة: حكمها حكم الرّجل، واللّه أعلم.
وقال أبو بكرٍ الخلّال: أخبرنا أبو بكرٍ المروزيّ، قال: قرأ على أبي عبد اللّه -يعني أحمد بن حنبلٍ- عمر بن هارون، حدّثنا يونس، عن الزّهريّ، قال: يقتل ساحر المسلمين ولا يقتل ساحر المشركين؛ لأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم سحرته امرأةٌ من اليهود فلم يقتلها.
وقد نقل القرطبيّ عن مالكٍ، رحمه اللّه، أنّه قال في الذّمّيّ إذا سحر يقتل إن قتل سحره، وحكى ابن خويز منداد عن مالكٍ روايتين في الذّمّيّ إذا سحر:
إحداهما: أنّه يستتاب فإن أسلم وإلّا قتل،
والثّانية: أنّه يقتل وإن أسلم،
وأمّا السّاحر المسلم فإن تضمّن سحره كفرًا كفر عند الأئمّة الأربعة وغيرهم لقوله تعالى: {وما يعلّمان من أحدٍ حتّى يقولا إنّما نحن فتنةٌ فلا تكفر}. لكن قال مالكٌ: إذا ظهر عليه لم تقبل توبته لأنّه كالزّنديق، فإن تاب قبل أن يظهر عليه وجاءنا تائبًا قبلناه ولم نقتله، فإن قتل سحره قتل. قال الشّافعيّ: فإن قال: لم أتعمّد القتل فهو مخطئٌ تجب عليه الدّية.

مسألةٌ: وهل يسأل السّاحر حلّ سحره؟ فأجاز سعيد بن المسيّب فيما نقله عنه البخاريّ، وقال عامرٌ الشّعبيّ: لا بأس بالنّشرة، وكره ذلك الحسن البصريّ، وفي الصّحيح عن عائشة: أنّها قالت: يا رسول اللّه، هلّا تنشّرت، فقال: «أمّا اللّه فقد شفاني، وخشيت أن أفتح على النّاس شرًّا». وحكى القرطبيّ عن وهبٍ: أنّه قال: يؤخذ سبع ورقاتٍ من سدرٍ فتدقّ بين حجرين ثمّ تضرب بالماء ويقرأ عليها آية الكرسيّ ويشرب منها المسحور ثلاث حسواتٍ ثمّ يغتسل بباقيه فإنّه يذهب ما به، وهو جيّدٌ للرّجل الذي يؤخذ عن امرأته.
قلت: أنفع ما يستعمل لإذهاب السّحر ما أنزل اللّه على رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم في إذهاب ذلك وهما المعوّذتان، وفي الحديث: «لم يتعوّذ المتعوّذون بمثلهما» وكذلك قراءة آية الكرسيّ فإنّها مطّردةٌ للشّيطان. وقال أبو عبد اللّه القرطبيّ: وعندنا أنّ السّحر حقٌّ، وله حقيقةٌ يخلق اللّه عنده ما يشاء خلافًا للمعتزلة وأبي إسحاق الإسفرايني من الشّافعيّة حيث قالوا: إنّه تمويهٌ وتخيّلٌ. قال: ومن السّحر ما يكون بخفّة اليد كالشّعوذة والشّعوذيّ البريد؛ لخفّة سيره. قال ابن فارسٍ: هذه الكلمة من كلام أهل البادية. قال القرطبيّ: ومنه ما يكون كلامًا يحفظ ورقًى من أسماء اللّه تعالى، وقد يكون من عهود الشّياطين ويكون أدويةً وأدخنةً وغير ذلك. قال: وقوله، عليه السّلام: «إنّ من البيان لسحرًا» يحتمل أن يكون مدحًا كما تقوّله طائفةٌ، ويحتمل أن يكون ذمًّا للبلاغة. قال: وهذا الأصحّ. قال: لأنّها تصوّب الباطل حين يوهم السّامع أنّه حقٌّ كما قال: «فلعل بعضكم أن يكون ألحن لحجته من بعضٍ» فاقتضى له، الحديث). [تفسير ابن كثير: 1/ 346-373]


رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
إبحث في الموضوع:

البحث المتقدم
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 04:13 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
جميع الحقوق محفوظة