العودة   جمهرة العلوم > جمهرة علوم الاعتقاد > كتاب الأسماء والصفات

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 14 رمضان 1438هـ/8-06-2017م, 09:59 AM
جمهرة علوم العقيدة جمهرة علوم العقيدة غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: May 2017
المشاركات: 1,193
افتراضي

بيانِ دلالةِ أسماءِ اللهِ الحسنى وصفاتِهِ العُلَى وكمالِهِ المُقَدَّسِ على معْنَى شهادةِ: أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ وأنَّ محمَّداً رسولُ اللهِ

قال ابن القيم محمد بن أبي بكر الزرعي الدمشقي (ت:751هـ) كما في المرتبع الأسنى
: (البابُ الثاني عشرَ:
في بيانِ دلالةِ أسماءِ اللهِ الحسنى وصفاتِهِ العُلَى وكمالِهِ المُقَدَّسِ على معْنَى شهادةِ: أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ وأنَّ محمَّداً رسولُ اللهِ.

(اعْلَمْ أنَّ اللهَ سُبحانَهُ في الحقيقةِ هوَ الدَّالُّ على نفسِهِ بآياتِهِ. فهوَ الدليلُ لعبادِهِ في الحقيقةِ بما نصَبَهُ لهم من الدلالاتِ والآياتِ. وقدْ أوْدَعَ في الفِطَرِ التي لمْ تتنَجَّسْ بالتعطيلِ والجحودِ: أنَّهُ سُبحانَهُ الكاملُ في أسمائِهِ وصفاتِهِ، وأنَّهُ الموصوفُ بكلِّ كمالٍ، المُنَـزَّهُ عنْ كلِّ عيبٍ ونقصٍ. فالكمالُ كلُّهُ، والجمالُ والجلالُ والبهاءُ، والعزةُ والعظمةُ والكبرياءُ كلُّهُ منْ لوازمِ ذاتِهِ. يستحيلُ أنْ يكونَ على غيرِ ذلكَ. فالحياةُ كلُّها لهُ، والعلمُ كلُّهُ لهُ، والقدرةُ كلُّها لهُ. والسمعُ والبصرُ والإرادةُ والمشيئةُ والرحمةُ والغِنَى والجُودُ والإحسانُ والبرُّ كلُّهُ خالصٌ(1) لهُ قائمٌ بهِ.
وما خَفِيَ على الخلقِ منْ كمالِهِ أعظمُ وأعظمُ ممَّا عرفُوهُ منهُ، بلْ لا نِسْبَةَ لما عرَفُوهُ منْ ذلكَ إلى ما لمْ يعْرِفُوهُ.
ومنْ كمالِهِ المُقَدَّسِ: اطِّلاَعُهُ على كلِّ شيءٍ، وشهادَتُهُ عليهِ، بحيثُ لا يَغِيبُ عنهُ وَجْهٌ منْ وُجُوهِ تفاصيلِهِ، ولا ذرَّةٌ منْ ذرَّاتِهِ باطناً وظاهراً.
ومَنْ هذا شَأْنُهُ: كيفَ يَلِيقُ بالعبادِ أنْ يُشركوا بهِ، وأنْ يعبدُوا معهُ غيرَهُ؟ وأنْ يجعَلُوا معَهُ إلهاً آخرَ؟ وكيفَ يليقُ بكمالِهِ أنْ يُقِرَّ مَنْ يكْذِبُ عليهِ أعظمَ الكذبِ، ويُخْبِرُ عنهُ بخلافِ ما الأمرُ عليهِ. ثمَّ ينصُرُهُ على ذلكَ ويُؤَيِّدُهُ، ويُعْلِي كَلِمَتَهُ، ويرفعُ شأنَهُ، ويُجيبُ دعوتَهُ، ويُهْلِكُ عدوَّهُ، ويُظْهِرُ على يدَيْهِ من الآياتِ والبراهينِ والأدِلَّةِ ما تَعْجِزُ عنْ مثلِهِ قُوَى البشرِ، وهوَ - معَ ذلكَ - كاذبٌ عليهِ مُفْتَرٍ، ساعٍ في الأرضِ بالفسادِ؟! (2)
ومعلومٌ أنَّ شهادَتَهُ سُبحانَهُ على كلِّ شيءٍ، وقدرَتَهُ على كلِّ شيءٍ، وحكمتَهُ وعزَّتَهُ وكمالَهُ المُقَدَّسَ يأْبَى ذلكَ كلَّ الإباءِ. ومَنْ ظَنَّ ذلكَ بهِ، وجوَّزَهُ عليهِ فهوَ منْ أبعدِ الخلقِ منْ معرفَتِهِ. وإنْ عَرَفَ منهُ بعضَ صفاتِهِ كصفةِ القدرةِ وصفةِ المشيئةِ.
والقرآنُ مملوءٌ مِنْ هذهِ الطريقِ، وهيَ طريقُ الخاصَّةِ، بلْ خاصَّةُ الخاصَّةِ هم الذينَ يستدِلُّونَ باللهِ على أفعالِهِ. وما يليقُ بهِ أنْ يفعلَهُ وما لا يفعلُهُ.
وإذا تدبَّرْتَ القرآنَ رأيتَهُ يُنَادِي على ذلكَ فيُبْدِيهِ ويُعِيدُهُ لمَنْ لهُ فَهْمٌ وقلبٌ واعٍ عن اللهِ. قالَ اللهُ تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47)} [الحاقَّة: 44-47]، أفلا تَرَاهُ كيفَ أخبرَ سُبحانَهُ أنَّ كمالَهُ وحكمتَهُ وقدرتَهُ تَأْبَى أنْ يُقِرَّ مَنْ تَقَوَّلَ عليهِ بعضَ الأقاويلِ؟ بلْ لا بدَّ أنْ يجعلَهُ عبرةً لعبادِهِ، كما جَرَتْ بذلكَ سُنَّتُهُ في المُتَقَوِّلينَ عليهِ.
وقالَ تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} [الشورى: 24]. ها هنا انتهى جوابُ الشرطِ، ثمَّ أخبرَ خبراً جازماً غيرَ مُعَلَّقٍ أنَّهُ: {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ}.
وقالَ تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 91]، فأخبرَ أنَّ مَنْ نفى عنهُ الإرسالَ والكلامَ لمْ يَقْدِرْهُ حقَّ قدْرِهِ. ولا عرَفَهُ كما ينبغي، ولا عَظَّمَهُ كما يَسْتَحِقُّ. فكيفَ مَنْ ظنَّ أنَّهُ ينْصُرُ الكاذبَ المُفْتَرِيَ عليهِ ويؤيِّدُهُ، ويُظْهِرُ على يدَيْهِ الآياتِ والأدلَّةَ؟!
وهذا في القرآنِ كثيرٌ جدًّا؛ يستَدِلُّ بكمالِهِ المُقَدَّسِ، وأوصافِهِ وجلالِهِ على صدقِ رُسُلِهِ، وعلى وعدِهِ ووعيدِهِ، ويدعو عبادَهُ إلى ذلكَ، كما يستدلُّ بأسمائِهِ على صِدْقِ رُسُلِهِ، وعلى وعدِهِ ووعيدِهِ، ويدعو عبادَهُ إلى ذلكَ كما يستدلُّ بأسمائِهِ وصفاتِهِ على وحدانيَّتِهِ، وعلى بُطْلانِ الشركِ كما في قولِهِ: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23)} [الحشر: 22-23]. وأضعافُ أضعافِ ذلكَ في القرآنِ.
ويستدلُّ سُبحانَهُ بأسمائِهِ وصفاتِهِ على بُطْلانِ ما نُسِبَ إليهِ من الأحكامِ والشرائعِ الباطلةِ، وأنَّ كمالَهُ المُقَدَّسَ يمنعُ منْ شرْعِها كقولِهِ: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آَبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28)} [الأعراف: 28]، وقولِهِ عَقِيبَ ما نهى عنهُ وحرَّمَهُ من الشركِ والظلمِ والفواحشِ والقولِ عليهِ بلا علمٍ: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38)}[الإسراء: 38]، فأعْلَمَكَ أنَّ ما كانَ سيِّئَةً في نفسِهِ فهوَ يكرهُهُ. وكمالُهُ يَأْبَى أنْ يجعَلَهُ شرعاً لهُ وديناً. فهوَ سُبحانَهُ يَدُلُّ عبادَهُ بأسمائِهِ وصفاتِهِ على ما يفعَلُهُ ويأمرُ بهِ، وما يُحِبُّهُ ويُبغِضُهُ، ويُثِيبُ عليهِ ويُعاقِبُ عليهِ.
(([فَـ]يستدلُّ [العبدُ المُوفَّقُ] بصفاتِ اللهِ تعالى وكمالِهِ على ما يفعَلُهُ، لحُسْنِ اعتبارِهِ وصحَّةِ نظرِهِ، وهوَ اعتبارُ الخواصِّ واستدلالُهُم. فإنَّهُمْ يستدلُّونَ بأسماءِ اللهِ وصفاتِهِ وأفعالِهِ، وأنَّهُ يفعلُ كذا ولا يفعلُ كذا. فَيَفْعَلُ ما هوَ مُوجَبُ حكمتِهِ وعلْمِهِ وغناهُ وحَمْدِهِ، ولا يفعلُ ما يُناقضُ ذلكَ. وقدْ ذكرَ سُبحانَهُ [ذلكَ] في كتابِهِ. فقال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فُصِّلَتْ: 53]، ثمَّ قالَ: {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)} [فُصِّلَتْ: 53]، فمخلوقاتُهُ دالَّةٌ على ذاتِهِ وأسمائِهِ وصفاتِهِ. وأسماؤُهُ وصفاتُهُ دالَّةٌ على ما يفعَلُهُ ويأمرُ بهِ، وما لا يفعلُهُ ولا يأمرُ بهِ.
مثالُ ذلكَ: أنَّ اسمَهُ ((الحميدَ)) سُبحانَهُ يدلُّ على أنَّهُ لا يأمرُ بالفحشاءِ والمنكرِ. واسمَهُ ((الحكيمَ)) يدلُّ على أنَّهُ لا يخلقُ شيئاً عبثاً. واسمَهُ ((الغنيَّ)) يدلُّ على أنَّهُ لمْ يتَّخِذْ صاحبةً ولا ولداً. واسمَهُ ((المَلِكَ)) يدلُّ على ما يستلزمُ حقيقةَ ملكِهِ: منْ قدْرَتِهِ، وتدبيرِهِ، وعطائِهِ ومنعِهِ، وثوابِهِ وعقابِهِ، وبثِّ رسُلِهِ في أقطارِ مملكَتِهِ، وإعلامِ عبيدِهِ بمراسيمِهِ وعهودِهِ إليهمْ، واستوائِهِ على سريرِ مملكتِهِ الذي هوَ عرشُهُ المجيدُ. فمتى قامَ بالعبدِ تعظيمُ الحقِّ جلَّ جلالُهُ، وحَسُنَ النظرُ في الشواهدِ والتبصُّرُ والاعتبارُ بها، صَارَت الصِّفَاتُ والنعوتُ مشهودةً لقلبِهِ قِبْلةً لهُ)) ([3]).
ولكنَّ هذهِ الطريقَ لا يَصِلُ إليها إلاَّ خاصَّةُ الخاصَّةِ. فلذلكَ كانتْ طريقةَ الجمهورِ الدلالاتُ بالآياتِ المشاهدةِ؛ فإنَّها أوسعُ وأسهلُ تناوُلاً، واللهُ سُبحانَهُ يُفَضِّلُ بعضَ خلْقِهِ على بعضٍ، ويرفعُ درجاتٍ مَنْ يشاءُ وهوَ العليمُ الحكيمُ.
فالقرآنُ العظيمُ قد اجتمعَ فيهِ ما لمْ يجتمعْ في غيرِهِ؛ فإنَّهُ هوَ الدعوةُ والحُجَّةُ، وهوَ الدليلُ والمدلولُ عليهِ، وهوَ الشاهدُ والمشهودُ لهُ، وهوَ الحُكْمُ والدليلُ، وهوَ الدعوى والبيِّنَةُ، قالَ اللهُ تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ} [هود:17] أيْ: مِنْ ربِّهِ. وهوَ القرآنُ. وقالَ تعالى لمَنْ طلبَ آيَةً تدلُّ على صدقِ رسولِهِ: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52)} [العنكبوت: 51-52] فأخبرَ سُبحانَهُ أنَّ الكتابَ الذي أنزلَهُ على رسولِهِ يكـفي عنْ كلِّ آيَةٍ، ففيهِ الحُجَّةُ والدلالةُ على أنَّهُ من اللهِ، وأنَّ اللهَ سُبحانَهُ أرسلَ بهِ رسولَهُ، وفيهِ بيانُ ما يُوجِبُ لمَن اتَّبَعَهُ السعادةَ، ويُنْجِيهِ من العذابِ. ثمَّ قالَ: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [العنكبوت: 52]، فإذا كانَ اللهُ سُبحانَهُ عالماً بجميعِ الأشياءِ؛ كانتْ شهادَتُهُ أصدقَ شهادةٍ وأعدَلَها؛ فإنَّها شهادةٌ بعِلْمٍ تامٍّ محيطٍ بالمشهودِ بهِ. فيكونُ الشاهدُ بهِ أعدلَ الشُّهَدَاءِ وأصدَقَهُم.
وهوَ سُبحانَهُ يذكرُ عِلْمَهُ عندَ شهادتِهِ، وقدرتَهُ وملكَهُ عندَ مُجازاتِهِ، وحكمتَهُ عندَ خلقِهِ وأمرِهِ، ورحمتَهُ عندَ ذكرِ إرسالِ رسولِهِ، وحلمَهُ عندَ ذكرِ ذنوبِ عبادِهِ ومعاصِيهم،
وسمعَهُ عندَ ذكرِ دعائِهم ومسألتِهم، وعزَّتَهُ وعلمَهُ عندَ قضائِهِ وقدرِهِ.
فتأمَّلْ ورودَ أسمائِهِ الحسنى في كتابِهِ، وارتباطَها بالخلقِ والأمرِ، والثوابِ والعقابِ.

[فصلٌ]:
ومنْ هذا قولُهُ تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)} [الرعد: 43]، فاستشهدَ على رسالتِهِ بشهادةِ اللهِ لهُ.
ولا بدَّ أنْ تُعْلَمَ هذهِ الشهادةُ، وتقومَ بها الحُجَّةُ على المكذِّبينَ لهُ، وكذلكَ قولُهُ: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [الأنعام: 19] وكذلكَ قولُهُ: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166)} [النساء: 166] وكذلكَ قولُـهُ: {يس (1) وَالْقُرْآَنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3)} [يس: 1-3] وقولُهُ: {تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)} [البقرة: 252] وقولُهُ: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} [المنافقونَ: 1] وقولُهُ: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح: 29]. فهذا كلُّهُ شهادةٌ منهُ لرسولِهِ قدْ أظهرَها وبيَّنَها، وبيَّنَ صحَّتَها غايَةَ البيانِ بحيثُ قطعَ العذرَ بينَهُ وبينَ عبادِهِ وأقامَ الحُجَّةَ عليهم، فكوْنُهُ سُبحانَهُ شاهداً لرسُولِهِ معلومٌ بسائرِ أنواعِ الأدِلَّةِ: عَقْلِيِّها ونَقْليِّها وفِطْرِيِّها وضَرُورِيِّها ونظرِيِّها.
ومَنْ نظرَ في ذلكَ وتأمَّلَهُ عَلِمَ أنَّ اللهَ سُبحانَهُ شَهِدَ لرسولِهِ أصدقَ الشهادةِ وأعدلَها وأظهرَها، وصدَّقَهُ بسائرِ أنواعِ التصديقِ:
- بقولِهِ الذي أقامَ البراهينَ على صدقِهِ فيهِ.
- وبفِعْلِهِ وإقرارِهِ.
- وبما فطرَ عليهِ عبادَهُ من الإقرارِ بكمالِهِ وتنـزيهِهِ عن القبائحِ وعمَّا لا يليقُ بهِ.
وفي كلِّ وقتٍ يُحْدِثُ من الآياتِ الدالَّةِ على صدقِ رسولِهِ ما يُقيمُ بهِ الحُجَّةَ، ويُزيلُ بهِ العذرَ، ويحكُمُ لهُ ولأتباعِهِ بما وعدَهُم بهِ من العزِّ والنجاةِ والظَّفَرِ والتأييدِ.
ويحكُمُ على أعدائِهِ ومكذِّبيهِ بما توَعَّدَهم بهِ من الخزيِ والنَّكالِ والعقوباتِ المُعجَّلَةِ الدالَّةِ على تحقيقِ العقوباتِ المُؤَجَّلَةِ {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28)} [الفتح: 28]، فيُظْهِرُهُ ظهورَيْنِ:
- ظهوراً بالحُجَّةِ والبيانِ والدلالةِ.
- وظهوراً بالنصرِ والظَّفَرِ والغلبةِ والتأييدِ حتَّى يُظْهِرَهُ على مُخالفيهِ ويكونَ منصوراً.
وقولُهُ: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ} [النساء: 166]، فما فيهِ من الخبرِ عنْ علمِ اللهِ الذي لا يعلمُهُ غيرُهُ منْ أعظمِ الشهادةِ بأنَّهُ هوَ الذي أنزلَهُ. كما قالَ في الآيَةِ الأخرى {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14)} [هود: 13-14]، وليسَ المرادُ مجرَّدَ الإخبارِ بأنَّهُ أنزلَهُ، وهوَ معلومٌ لهُ، كما يعلمُ سائرَ الأشياءِ. فإنَّ كُلَّ شيءٍ معلومٌ لهُ منْ حقٍّ وباطلٍ وإنَّما المعنى: أنزلَهُ مشتملاً على علمِهِ. فنـزولُهُ مشتملاً على علمِهِ: هوَ آيَةُ كونِهِ منْ عندِهِ، وأنَّهُ حقٌّ وصدقٌ.
ونظيرُ هذا قولُهُ: {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الفرقان: 6]، ذكرَ ذلكَ سُبحانَهُ تكذيباً وردًّا على مَنْ قالَ: {افْتَرَاهُ} [الفرقان: 4]) ([4])
).[المرتبع الأسنى: ؟؟]


(1) في الأصلِ: خاصٌّ، ولعلَّ الصَّوابَ ما أَثْبَتُّهُ.
(2) وقد جَرَتْ لابنِ القَيِّمِ –رَحِمَهُ اللهُ تَعالَى- مُنَاظَرَةٌ معَ بَعْضِ عُلَمَاءِ أهلِ الكتابِ أَثْبَتَ فِيهَا نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ مُسْتَدِلاًّ بأسماءِ اللهِ الحُسْنَى وصِفاتِهِ العُلَى، فأَفْحَمَهُ حتى لم يَحِرْ جَوابًا، وها أنا أَسُوقُهَا لك كما ذَكَرَها في كتابِهِ القَيِّمِ الصَّوَاعِقِ المُرْسَلَةِ (1/327 - 329) حيثُ قالَ -رَحِمَهُ اللهُ-: (وقَرِيبٌ من هذهِ المَنَاظِرِ ما جَرَى لي مع بعضِ عُلَمَاءِ أَهْلِ الكتابِ، فإنَّهُ جَمَعَنِي وإياهُ مجلسُ خَلوةٍ، أَفضَى بينَنا الكلامُ إلى أن جَرَى ذِكرُ مَسَبَّةِ النَّصارَى لربِّ العالمينَ، مَسَبَّةً ما سَبَّهُ إياها أحدٌ مِنَ البَشَرِ، فقُلْتُ له: وأنتم بإِنكارِكُمْ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ (صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ) قد سَبَبْتُمُ الرَّبَّ تَعالَى أَعظَمَ مَسَبَّةٍ. قال: وكيفَ ذلك؟ قُلتُ: لأنَّكُم تَزْعُمونَ أن مُحمدًا مَلِكٌ ظالمٌ ليس برسولٍ صَادِقٍ، وأنه خَرَجَ يَستَعْرِضُ الناسَ بسيفِهِ فيَسْتَبِيحُ أَموالَهُمْ ونِساءَهُمْ وذَرَارِيَّهُم، ولا يَقْتَصِرُ على ذلك حتى يَكْذِبَ على اللهِ، ويقولَ: اللهُ أَمَرَني بهذا وأباحَهُ لي، ولم يَأْمُرْهُ اللهُ ولا أباحَ له ذلكَ، ويقولَ: أُوحِيَ إليَّ ولم يُوحَ إليه شيءٌ. ويَنْسَخُ شَرَائِعَ الأنبياءِ مِن عِندِه، ويُبطِلُ منها ما يشاءُ، ويُبقِي منها ما يشاءُ، ويَنْسِبُ ذلك كُلَّهُ إلى اللهِ، ويَقْتُلُ أولياءَهُ وأتباعَ رُسُلِهِ ويَسْتَرِقُّ نِساءَهُم وذُرِّيَّاتِهِمْ: فإما أن يكونَ اللهُ سُبحانَهُ رَائِيًا لذلك كُلِّهِ عَالمًا به مُطَّلِعًا عليه أو لا؟
فإن قُلْتُم: إن ذلك بغيرِ عِلمِهِ واطِّلاعِهِ نَسَبْتُمُوهُ إلى الجَهْلِ والغَباوَةِ، وذلك من أَقْبَحِ السَّبِّ، وإن كان عالمًا به رائيًا له مُشاهِدًا لِمَا يَفْعَلُه ؛ فإمَّا أن يَقْدِرَ على الأخذِ على يدِهِ ومَنعِه من ذلك أو لا.
فإن قُلتُمْ: إنه غيرُ قادرٍ على مَنْعِهِ والأخذِ على يدِهِ، نَسَبْتُمُوهُ إلى العجزِ والضَّعْفِ.
وإن قُلتُم: بل هو قادرٌ على مَنْعِهِ ولم يَفْعَلْ نَسَبْتُمُوهُ إلى السَّفَهِ والظُّلْمِ والجَوْرِ.
هذا هو مِنْ حِينِ ظَهرَ إلى أن تَوَفَّاهُ رَبُّهُ يُجِيبُ دَعَوَاتِهِ، ويَقْضِي حَاجاتِه، ولا يَسْأَلُه حاجةً إلا قَضاهَا له، ولا يَدْعُوهُ بدَعْوَةٍ إلا أجابَها له، ولا يَقومُ له عدوٌّ إلا ظَفَرَ به، ولا تقومُ له رايةٌ إلا نَصرَها، ولا لواءٌ إلا رَفَعَه، ولا مَن يُناوِئُه ويُعادِيهِ إلا بَتَرَه ووَضَعَه، فكانَ أمرُه مِن حِينِ ظَهَرَ إلى أن تُوفِّيَ يَزْدَادُ على الأيامِ والليالِي ظُهورًا وعُلُوًّا ورِفْعَةً، وأمرُ مُخالِفيهِ لا يَزْدادُ إلا سُفُولاً واضْمِحْلالاً، ومَحَبَّتُهُ في قُلوبِ الخَلْقِ تَزِيدُ على مَمَرِّ الأوقاتِ، ورَبُّهُ تَعالَى يُؤَيِّدُهُ بأَنْواعِ التَّأْييدِ، ويَرْفَعُ ذِكْرَهُ غَايةَ الرَّفْعِ.
هذا وهو عِنْدَكُمْ مِن أَعْظَمِ أَعْدَائِهِ، وأَشَدِّهِم ضررًا على الناسِ!! فأيُّ قَدحٍ في ربِّ العالمينَ، وأيُّ مَسبَّةٍ له، وأيُّ طَعْنٍ فيه أَعْظَمُ من ذلك؟!!.
فأخذَ الكلامُ منه مَأخذًا ظَهَرَ عليه، وقال: حاشَ للهِ، أن نَقُولَ فيه هذه المقالةَ، بل هو نَبِيٌّ صادقٌ، كلُّ مَنِ اتَّبَعَهُ فهو سعيدٌ، وكلُّ مُنصفٍ منا يُقِرُّ بذلك، ويَقُولُ: أَتباعُهُ سُعداءُ في الدارَينِ، قلتُ له: فما يَمْنَعُكَ مِنَ الظَّفَرِ بهذهِ (السعادةِ)؟ فقالَ: وأَتْبَاعُ كُلِّ نَبِيٍّ مِنَ الأنبياءِ كذلك، فأتباعُ مُوسَى أيضًا سُعَداءُ.
قلتُ له: فإذا أقررتَ أنه نبيٌّ صادقٌ فقد كَفَّرَ مَن لم يَتْبَعْهُ واستباحَ دَمَهُ ومَالَهُ وحَكَمَ له بالنارِ، فإنْ صَدَّقْتَهُ في هذا وَجَبَ عليكَ اتِّبَاعُهُ، وإن كَذَّبْتَهُ فيه لم يَكُنْ نَبِيًّا، فكيفَ يكونُ أَتباعُهُ سُعَداءُ؟! فلم يَحِرْ جَوابًا!! وقالَ: حَدِّثْنَا في غيرِ هَذَا).
([3]) مدارجُ السَّالكينَ (3/333-334).
([4]) مَدَارِجُ السَّالِكينَ (3/433 -437)، وقد أطالَ –رَحِمَهُ اللهُ - في تفسيرِ قولِهِ تعالَى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} الآيةَ، وأَحْسَنَ فيه أيَّمَا إِحسانٍ، فرَاجِعْهُ إن شِئْتَ.


رد مع اقتباس
  #2  
قديم 14 رمضان 1438هـ/8-06-2017م, 10:01 AM
جمهرة علوم العقيدة جمهرة علوم العقيدة غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: May 2017
المشاركات: 1,193
افتراضي

بيانِ أنَّ أسماءَ اللهِ الحسنى وصفاتِهِ العُلَى تقتضي تَنْـزِيهَهُ سُبحانَهُ وتعالى عن الشرورِ والنقائِصِ والعُيُوبِ

قال ابن القيم محمد بن أبي بكر الزرعي الدمشقي (ت:751هـ) كما في المرتبع الأسنى: (البابُ الثالثَ عشرَ: في بيانِ أنَّ أسماءَ اللهِ الحسنى وصفاتِهِ العُلَى تقتضي تَنْـزِيهَهُ سُبحانَهُ وتعالى عن الشرورِ والنقائِصِ والعُيُوبِ.
(الربُّ [سُبحانَهُ و] تعالى أسماؤُهُ كلُّها حسنى ليسَ فيها اسمُ سَوءٍ، وأوصافُهُ كلُّها كمالٌ ليسَ فيها صفةُ نقصٍ، وأفعالُهُ كلُّها حكمةٌ ليسَ فيها فعلٌ خالٍ عن الحكمةِ والمصلحةِ، ولهُ المثلُ الأعلى في السماواتِ والأرضِ وهوَ العزيزُ الحكيمُ، موصوفٌ بصفاتِ الكمالِ، مذكورٌ بنعوتِ الجلالِ، مُنَـزَّهٌ عن الشبيهِ والمثالِ، ومُنَـزَّهٌ عمَّا يُضَادُّ صفاتِ كمالِهِ:
- فمُنَزَّهٌ عن الموتِ المُضادِّ للحياةِ.
- وعن السِّنَةِ والنومِ والسهوِ والغفلةِ المضادِّ للقيُّوميَّةِ.
- وموصوفٌ بالعلمِ مُنَـزَّهٌ عنْ أضدادِهِ كُلِّها من النسيانِ والذهولِ وعزوبِ شيءٍ عنْ علمِهِ.
- موصوفٌ بالقدرةِ التامَّةِ , مُنَـزَّهٌ عنْ ضدِّها من العجزِ واللُّغُوبِ والإعياءِ.
- موصوفٌ بالعَدْلِ , مُنَـزَّهٌ عن الظلمِ.
- موصوفٌ بالحكمةِ , مُنَـزَّهٌ عن العبثِ والسَّفَهِ.
- موصوفٌ بالسمعِ والبصرِ , مُنَـزَّهٌ عنْ أضدَادِهِما من الصَّمَمِ والبَكَمِ.
- موصوفٌ بالعُلُوِّ والفوقيَّةِ , مُنَـزَّهٌ عنْ ضدِّ ذلكَ.
- موصوفٌ بالغِنَى التامِّ , مُنَـزَّهٌ عمَّا يُضادُّهُ بوجهٍ من الوجوهِ، ومُستحقٌّ للحمدِ
كلِّهِ؛ فيستحيلُ أنْ يكونَ غيرَ محمودٍ كما يستحيلُ أنْ يكونَ غيرَ قادرٍ ولا خالقٍ ولا حيٍّ، ولـهُ الحمدُ كلُّهُ، واجبٌ لهُ لذاتِهِ فلا يكونُ إلاَّ محمُوداً كما لا يكونُ إلاَّ إلهاً وربًّا وقادراً) ([1])
([فهوَ] سُبحانَهُ كاملٌ في أسمائِهِ وصفاتِهِ، فلَهُ الكمالُ المطلقُ منْ جميعِ الوجوهِ.
الذي لا نَقْصَ فيهِ بوجهٍ ما) ([2]).
[و] (كلُّ ما يُنَـزَّهُ سُبحانَهُ عنهُ من العيوبِ والنقائصِ فهوَ داخلٌ فيما نَـزَّهَ نفسَهُ عنهُ وفيما يُسَبَّحُ بهِ ويُقَدَّسُ ويُحمَدُ ويُمَجَّدُ، وداخلٌ في معاني أسمائِهِ الحسنى، وبذلكَ كانتْ حُسْنَى؛ أيْ: أحسنَ منْ غيرِها، فهيَ أفعلُ تفضيلٍ مُعَرَّفَةٌ باللامِ؛ أيْ: لا أحسنَ منها بوجهٍ من الوجوهِ. بلْ لها الحسنُ الكاملُ التامُّ المطلقُ، وأسماؤُهُ الحسنى وآياتُهُ البيِّناتُ متضمِّنَةٌ لذلكَ ناطقةٌ بهِ صريحةٌ فيهِ وإنْ ألحدَ المُلحدونَ وزاغَ عنها الزائغونَ. ) ([3])
(فسُبْحَانَ اللهِ ربِّ العالمينَ تنـزيهاً لربوبيَّتِهِ وإلهيَّتِهِ وعظمَتِهِ وجلالِهِ عمَّا لا يليقُ بهِ منْ كلِّ ما نَسَبَهُ إليهِ الجاهلونَ الظالمونَ.
فـَـ ((سبحانَ اللهِ)) كلمةٌ يُحَاشَى اللهُ بها عنْ كلِّ ما يُخالفُ كمالَهُ منْ سُوءٍ ونقصٍ وعيبٍ، فهوَ المُنَـزَّهُ التنـزيهَ التامَّ، منْ كلِّ وجهٍ وبكلِّ اعتبارٍ، عنْ كلِّ نقصٍ مُتَوَهَّمٍ)([4]) (فلا يدخلُ السوءُ في أسمائِهِ، ولا النقصُ والعيبُ في صفاتِهِ، ولا العبثُ ولا الجَوْرُ في أفعالِهِ، بلْ هوَ مُنَـزَّهٌ في ذاتِهِ وأوصافِهِ وأفعالِهِ وأسمائِهِ عمَّا يُضَادُّ كمالَهُ بوجهٍ من الوجوهِ). ([5])
([بلْ إنَّ] النقصَ منتفٍ عن اللهِ عزَّ وجلَّ عقلاً كما هوَ منتفٍ عنهُ سمعاً. والعقلُ والنقلُ يُوجبُ اتِّصافَهُ بصفاتِ الكمالِ. والنقصُ هوَ ما يُضَادُّ صفاتِ الكمالِ) ([6]).

[فصْلٌ]:
( فإذا عرفَ هذا... [فقولُهُ تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2)} [الفلق: 1-2]... ((مَا)) ها هنا موصولةٌ ليسَ إلا، والشرُّ مُسْنَدٌ في الآيَةِ إلى المخلوقِ المفعولِ لا إلى خلقِ الربِّ تعالى الذي هوَ فعلُهُ وتكوينُهُ؛ فإنَّهُ لا شرَّ فيهِ بوَجْهٍ ما؛ فإنَّ الشرَّ لا يدْخُلُ في شيءٍ منْ صفاتِهِ ولا في أفعالِهِ كما لا يلْحَقُ ذاتَهُ تباركَ وتعالى؛ فإنَّ ذاتَهُ لها الكمالُ المطلقُ الذي لا نقصَ فيهِ بوجهٍ من الوجوهِ، وأوصافُهُ كذلكَ لها الكمالُ المطلقُ والجلالُ التامُّ ولا عيبَ فيها ولا نقصَ بوجهٍ ما، وكذلكَ أفعالُهُ كلُّها خيراتٌ محضةٌ لا شرَّ فيها أصلاً، ولوْ فعلَ الشرَّ سُبحانَهُ لاشْتُقَّ لهُ منهُ اسمٌ ولمْ تكُنْ أسماؤُهُ كلُّها حُسنى، ولعادَ إليهِ منهُ حكمٌ تعالى وتقدَّسَ عنْ ذلكَ.
وما يفعلُهُ من العَدْلِ بعبادِهِ وعقوبةِ مَنْ يَسْتَحِقُّ العقوبةَ منهم هوَ خيرٌ محضٌ؛ إذْ هوَ محضُ العَدْلِ والحكمةِ، وإنَّما يكونُ شرًّا بالنسبةِ إليهم، فالشرُّ وقعَ في تَعَلُّقِهِ بهم وقيامِهِ بهم لا في فعلِهِ القائمِ بهِ تعالى. ونحنُ لا نُنْكِرُ أنَّ الشرَّ يكونُ في مفعولاتِهِ المنفصلةِ؛ فإنَّهُ خالقُ الخيرِ والشرِّ، ولكنْ هنا أمرانِ ينبغي أنْ يكُونَا منكَ على بالٍ:
- أحدُهما: أنَّ ما هوَ شرٌّ أوْ متضمِّنٌ للشرِّ فإنَّهُ لا يكونُ إلاَّ مفعولاً مُنْفَصِلاً , لا يكونُ وصفاً لهُ ولا فعلاً منْ أفعالِهِ.
- الثاني: أنَّ كونَهُ شرًّا هوَ أمرٌ نسبيٌّ إضافيٌّ، فهوَ خيرٌ منْ جهةِ تَعَلُّقِ فعلِ الربِّ وتكوينِهِ بهِ، وشرٌّ منْ جهةِ نسبَتِهِ إلى مَنْ هوَ شَرٌّ في حقِّهِ. فلَهُ وجهانِ هوَ منْ أحدِهما خيرٌ، وهوَ الوجهُ الذي نُسِبَ منهُ إلى الخالقِ سُبحانَهُ وتعالى خلقاً وتكويناً، ومشيئَتُهُ لما فيهِ من الحكمةِ البالغةِ التي استأثرَ بعلْمِها وأطْلَعَ مَنْ شاءَ منْ خلقِهِ على ما شاءَ منها، وأكثرُ الناسِ تَضِيقُ عقولُهم عنْ مبادئِ معرِفَتِها فضلاً عنْ حقيقَتِها. فيكفيهم الإيمانُ المُجْمَلُ بأنَّ اللهَ سُبحانَهُ هوَ الغنيُّ الحميدُ، وفاعلُ الشرِّ لا يفعلُهُ لحاجَتِهِ المنافيَةِ لغِنَاهُ، أوْ لنقصِهِ وعيبِهِ المنافي لحمدِهِ، فيستحيلُ صدورُ الشرِّ من الغنيِّ الحميدِ فعلاً وإنْ كانَ هوَ الخالقَ للخيرِ والشرِّ.
فقدْ عرَفْتَ أنَّ كونَهُ شرًّا , هوَ أمرٌ إضافيٌّ وهوَ في نفسِهِ خيرٌ منْ جهةِ نِسْبَتِهِ إلى خالقِهِ ومُبدعِهِ.
فلا تغْفُلْ عنْ هذا الموضعِ؛ فإنَّهُ يفتحُ لكَ باباً عظيماً منْ معرفةِ الربِّ ومحبَّتِهِ، ويُزِيلُ عنكَ شُبُهَاتٍ حَارَتْ فيها عقولُ أكثرِ الفضلاءِ، وقدْ بسَطْتُ هذا في كتابِ التحفةِ المكِّيَّةِ، وكتابِ الفتحِ القدسيِّ وغيرِهما، وإذا أُشْكِلَ عليكَ هذا فأنا أُوَضِّحُهُ لكَ بأمثلةٍ:
- أحدُها: أنَّ السارقَ إذا قُطِعَتْ يدُهُ فقَطْعُها شرٌّ بالنسبةِ إليهِ وخيرٌ محضٌ بالنسبةِ إلى عمومِ الناسِ؛ لما فيهِ منْ حفظِ أموالِهم ودفعِ الضررِ عنهم، وخيرٌ بالنسبةِ إلى مُتَوَلِّي القطعِ أمراً وحكماً لما في ذلكَ من الإحسانِ إلى عبيدِهِ عموماً بإِتْلافِ هذا العضوِ المؤذي لهم المُضِرِّ بهم، فهوَ محمودٌ على حُكْمِهِ بذلكَ وأمرِهِ بهِ، مشكورٌ عليهِ، يَسْتَحِقُّ عليهِ الحمدَ منْ عبادِهِ والثناءَ عليهِ والمحبَّةَ.
- وكذلكَ الحكمُ بقتلِ مَنْ يصُولُ عليهم في دمائِهم وحُرُماتِهِم وجلدِ مَنْ يصولُ عليهم في أعراضِهم، فإذا كانَ هذا عقوبةَ مَنْ يصولُ عليهم في دُنياهم، فكيفَ عقوبةُ مَنْ يصولُ على أدْيَانِهم ويَحُولُ بينَهم وبينَ الهُدَى الذي بعثَ اللهُ بهِ رسلَهُ وجعلَ سعادةَ العبادِ في معاشِهم ومعادِهم مَنُوطَةً بهِ. أفليسَ في عقوبةِ هذا الصائلِ خيرٌ محضٌ وحكمةٌ وعَدْلٌ وإحسانٌ إلى العبيدِ؟! وهيَ شرٌّ بالنسبةِ إلى الصائلِ الباغي.
فالشرُّ ما * قامَ بهِ منْ ذلكَ العقوبةِ، وأمَّا ما نُسِبَ إلى الربِّ منها من المشيئةِ والإرادةِ والفعلِ فهوَ عينُ الخيرِ والحكمةِ.
فلا يغْلُظْ حجابُكَ عنْ فهمِ هذا النبأِ العظيمِ والسرِّ الذي يُطْلِعُكَ على مسألةِ القدرِ ويفتحُ لكَ الطريقَ إلى اللهِ ومعرفةِ حِكْمَتِهِ ورحمتِهِ وإحسانِهِ إلى خلقِهِ وأنَّهُ سُبحانَهُ كما أنَّهُ البرُّ الرحيمُ الودودُ المحسنُ فهوَ الحكيمُ الملكُ العَدْلُ، فلا تُنَاقِضُ حكمتُهُ رحمتَهُ، وكلاهُما مُقْتَضَى عزَّتِهِ وحكمتِهِ وهوَ العزيزُ الحكيمُ، فلا يليقُ بحكمَتِهِ أنْ يضَعَ رِضَاهُ ورحمتَهُ موضعَ العقوبةِ والغضبِ، ولا يضعَ غضبَهُ وعقوبتَهُ موضعَ رضاهُ ورحمتِهِ، ولا يلْتَفِتُ إلى قولِ مَنْ
غلُظَ حجابُهُ عن اللهِ:أنَّ الأمرَيْنِ بالنسبةِ إليهِ على حدٍّ سواءٍ، ولا فَرْقَ أصلاً وإنَّما هوَ محضُ المشيئةِ بلا سببٍ ولا حكمةٍ.
وتأمَّل القـرآنَ منْ أوَّلِهِ إلى آخرِهِ كـيـفَ تجدُهُ كفيلاً بالردِّ على هذهِ المـقالةِ, وإنكارِها أشدَّ الإنكارِ وتنْـزِيهِ نفسِهِ عنها كقولِهِ تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)} [القلم: 35-36]، وقولِهِ: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)} [الجاثيَة: 21] وقولِهِ: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)} [ص: 28]، فأنكرَ سُبحانَهُ على مَنْ ظنَّ هذا الظنَّ، ونـزَّهَ نفسَهُ عنهُ فدلَّ على أنَّهُ مُسْتَقِرٌّ في الفِطَرِ والعقولِ السليمةِ أنَّ هذا لا يكونُ ولا يليقُ بحكمتِهِ وعزَّتِهِ وإلهيَّتِهِ, لا إلهَ إلاَّ هوَ تعالى عمَّا يقولُ الجاهلونَ علُوًّا كبيراً.
وقدْ فطرَ اللهُ عقولَ عبادِهِ على استقباحِ وضعِ العقوبةِ والانتقامِ في موضعِ الرحمةِ والإحسانِ، ومكافأةِ الصنعِ الجميلِ بمثلِهِ وزيادةٍ.
فإذا وضعَ العقوبةَ موضعَ ذلكَ استنْكَرَتْهُ فِطَرُهُم وعقولُهم أشدَّ الاستنكارِ، واستهْجَنَتْهُ أعظمَ الاستهجانِ.
وكذلكَ وضعُ الإحسانِ والرحمةِ والإكرامِ في موضعِ العقوبةِ والانتقامِ، كما إذا جاءَ إلى مَنْ يُسِيءُ إلى العالمِ بأنواعِ الإساءةِ في كلِّ شيءٍ منْ أموالِهم وحرِيمِهم ودِمَائِهِم فأكرَمَهُ غايَةَ الإكرامِ ورفَعَهُ وكَرَّمَهُ، فإنَّ الفِطَرَ والعقولَ تَأْبَى استحسانَ هذا وتَشْهَدُ على سَفَهِ مَنْ فعَلَهُ، هذهِ فطرةُ اللهِ التي فطرَ الناسَ عليها، فما للعقولِ والفِطَرِ لا تشْهَدُ حكمتَهُ البالغةَ وعزَّتَهُ وعَدْلَهُ في وضعِ عقوبتِهِ في أَوْلَى المحالِّ بها وأحَقِّها بالعقوبةِ، وأنَّها لوْ أُولِيَت النِّعَمَ لمْ تَحْسُنْ بها ولمْ تَلِقْ، وَلَظَهَرَتْ مُنَاقِضَةَ الحكمةِ كما قالَ الشاعرُ:

نعمةُ اللهِ لا تُعَابُ ولكِنْ رُبَّما اسْتُقْبِحَتْ على أقوامِ

فهكذا نِعَمُ اللهِ لا تليقُ ولا تحسُنُ ولا تجمُلُ بأعدائِهِ الصادِّينَ عنْ سبيلِهِ، الساعينَ في خلافِ مرْضَاتِهِ، الذينَ يَرْضَوْنَ إذا غَضِبَ، ويغْضَبُونَ إذا رَضِيَ، ويُعَطِّلُونَ ما حكمَ بهِ، ويسْعَوْنَ في أنْ تكونَ الدعوةُ لغيْرِهِ والحُكْمُ لغَيْرِهِ والطاعةُ لغَيْرِهِ، فهُمْ مُضَادُّونَ في كلِّ ما يُرِيدُ، يُحِبُّونَ ما يُبْغِضُهُ ويدْعُونَ إليهِ، ويُبْغِضُونَ ما يُحِبُّهُ ويَنْفِرُونَ عنهُ، ويُوَالُونَ أعداءَهُ وأبغضَ الخلقِ إليهِ، ويُظاهرُونَهُم عليهِ وعلى رسولِهِ كما قالَ تعالى: {وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55)} [الفرقان: 55]، وقالَ: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} [الكهف:50]،فتأمَّلْ ما تحتَ هذا الخطابِ الذي يسْلُبُ الأرواحَ حلاوةً وعتاباً، وجلالةً وتهديداً، كيفَ صدَّرَهُ بإخبارِنا أنَّهُ أَمَرَ إبليسَ بالسجودِ لأَبِينا فأَبَى ذلكَ ,فطَرَدَهُ ولعَنَهُ وعادَاهُ منْ أجْلِ إبائِهِ عن السجودِ لأَبِينا، ثمَّ أنتمْ تُوَالُونَهُ منْ دُونِي وقدْ لعَنْتُهُ وطرَدْتُهُ إذْ لمْ يسْجُدْ لأبيكم، وجعَلْتُهُ عدوًّا لكم ولأبيكم فوَالَيْتُمُوهُ وتركْتُمُونِي، أفليسَ هذا منْ أعظمِ الغَبْنِ وأشدِّ الحسرةِ عليكُم؟ ويومَ القيامةِ يقولُ تعالى: ألَيْسَ عَدْلاً منِّي أنْ أُوَلِّيَ كلَّ رجلٍ منكم ما كانَ يتوَلَّى في دارِ الدُّنيا؟
فلَيَعْلَمَنَّ أولياءُ الشيطانِ كيفَ حالُهم يومَ القيامةِ إذا ذهَبُوا معَ أوليائِهِم وبَقِيَ أولياءُ الرحمنِ لمْ يذْهَبُوا معَ أحدٍ، فيتجَلَّى لهم ويقولُ: ألا تذهبونَ حيثُ ذهبَ الناسُ؟ فيقولونَ: فَارَقَنا الناسُ أحوجَ ما كُنَّا إليهم وإنَّما ننتَظِرُ ربَّنا الذي كُنَّا نتوَلاَّهُ ونعبدُهُ، فيقولُ: هلْ بينَكُم وبينَهُ علامةٌ تعرفونَهُ بها؟ فيقولونَ: نَعَمْ، إنَّهُ لا مثلَ لهُ. فيتجَلَّى لهم ويكْشِفُ عنْ ساقٍ، فيَخِرُّونَ لهُ سُجَّداً. فَيَا قُرَّةَ عيونِ أوليائِهِ بتلكَ الموالاةِ، ويا فَرَحَهُمْ إذا ذهبَ الناسُ معَ أوليائِهِم، وبَقُوا معَ مَوْلاهُم الحقِّ. فسيعْلَمُ المشركونَ بهِ الصادُّونَ عنْ سبيلِهِ أنَّهُم ما كانُوا أولياءَهُ، إنْ أولياؤُهُ إلاَّ المُتَّقُونَ، ولكنَّ أكثرَهُم لا يعلمونَ.
ولا تَسْتَطِلْ هذا البساطَ فما أحوجَ القلوبَ إلى معرفتِهِ وتعقُّلِهِ ونُـزولِها منهُ منازِلَها في الدنيا لتَنْـزِلَ في جِوارِ ربِّها في الآخرةِ معَ الذينَ أنعمَ اللهُ عليهم من النبيِّينَ والصِّدِّيقينَ والشهداءِ والصالحينَ، وحَسُنَ أولئكَ رفيقاً.
* * *
إذا عرفَ هذا عرفَ معنى قولِهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ في الحديثِ الصحيحِ: ((لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ)) ([7])، وأنَّ معناهُ أجلُّ وأعظمُ منْ قولِ مَنْ قالَ: والشرُّ لا يُتَقَرَّبُ بِهِ إليكَ، وقولِ مَنْ قالَ: والشرُّ لا يصْعَدُ إليكَ. وأنَّ هذا الذي قالُوهُ وإنْ تضمَّنَ تنـزيهَهُ عنْ صعودِ الشرِّ إليهِ والتقَرُّبِ بهِ إليهِ فلا يتضمَّنُ تنـزيهَهُ في ذاتِهِ وصفاتِهِ وأفعالِهِ عن الشرِّ، بخلافِ لفظِ المعصومِ الصادقِ المُصَدَّقِ؛ فإنَّهُ يتضمَّنُ تنـزيهَهُ في ذاتِهِ تباركَ وتعالى عنْ نسبةِ الشرِّ إليهِ بوجهٍ ما، لا في صفاتِهِ ولا في أفعالِهِ ولا في أسمائِهِ وإنْ دخلَ في مخلوقاتِهِ، كقولِهِ: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2)} [الفلق: 1-2].
وتأمَّلْ طريقةَ القرآنِ في إضافةِ الشرِّ تارةً إلى سَبَبِهِ ومَنْ قامَ بهِ كقولِهِ: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)} [البقرة: 254]، وقولِهِ: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5)} [الصف: 5]، وقولِهِ: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا} [النساء: 160]، وقولِهِ: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ} [الأنعام: 146] وقولِـهِ: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76)} [الزخرف: 76]. وهوَ في القرآنِ أكثرُ منْ أنْ يُذْكَرَ ها هنا عُشْرُ مِعْشارِهِ، وإنَّما المقصودُ التمثيلُ.
وتارَةً يَحْذِفُ فاعلَهُ كقولِهِ تعالى حكايَةً عنْ مُؤْمِني الجنِّ: {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10)} [الجن: 10]، فحذَفُوا فاعلَ الشرِّ ومُرِيدَهُ وصرَّحُوا بمُريدِ الرَّشَدِ. ونظيرُهُ في الفاتحةِ: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)} [الفاتحة: 7]، فذكرَ النعمةَ مضافةً إليهِ سُبحانَهُ، والضلالَ منسوباً إلى مَنْ قامَ بهِ، والغضبَ محذوفاً فاعلُهُ. ومثلُهُ قولُ الخَضِرِ في السفينةِ: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف: 79]، وفي الغُلاميْنِ: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [الكهف: 82]. ومثلُهُ قولُهُ: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} [الحجرات: 7]، فنسبَ هذا التَّزْيِينَ المحبوبَ إليهِ، وقالَ: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ} [آل عمرانَ: 14]، فحذفَ الفاعلَ المُـزَيِّنَ. ومثلُهُ قولُ الخليلِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)} [الشعراء: 78-82]، فنسبَ إلى ربِّهِ كلَّ كمالٍ منْ هذهِ الأفعالِ، ونسبَ إلى نفسِهِ النقصَ منها، وهوَ المرضُ والخطيئةُ.
وهذا كثيرٌ في القرآنِ ذكَرْنَا منهُ أمثلةً كثيرةً في كتابِ الفوائدِ المكِّيَّةِ وبيَّنَّا هناكَ السرَّ في مَجِيءِ {الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} [البقرة: 121]، وَ{الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [البقرة: 144]، والفرقُ بينَ الموضعَيْنِ، وأنَّهُ حيثُ ذكرَ الفاعلَ كانَ مَنْ آتَاهُ الكتابَ واقعاً في سياقِ المدحِ، وحيثُ حذَفَهُ كانَ مَنْ أُوتِيَهُ واقعاً في سياقِ الذمِّ أوْ مُنْقَسِماً، وذلكَ منْ أسرارِ القرآنِ. ومثلُهُ: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر: 32]، وقالَ: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14)} [الشورى: 14]، وقولُهُ: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى} [الأعراف: 169]
وبالجملةِ فالَّذِي يُضافُ إلى اللهِ تعالى كُلُّهُ خيرٌ وحكمةٌ ومصلحةٌ وعَدْلٌ , والشرُّ ليسَ إليهِ) ([8])؛ (فإنَّ فِعْلَهُ سُبحانَهُ كُلَّهُ خيرٌ. وتعالى أنْ يفعلَ شرًّا بوجهٍ من الوجوهِ، فالشرُّ ليسَ إليهِ، والخيرُ هوَ الذي إليهِ، ولا يفعلُ إلاَّ خيراً، ولوْ شاءَ لفعلَ غيرَ ذلكَ، لكِنَّهُ تعالى تَنَـزَّهَ عنْ فعلِ ما لا ينبغي وإرادتِهِ ومشيئتِهِ، كما هوَ مُنَزَّهٌ عن الوصفِ بهِ والتسميَةِ بهِ) ([9]).

[فصلٌ]:
(قالَ اللهُ تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)} [آل عمرانَ: 26].
فصَدَّرَ الآيَةَ سُبحانَهُ بتفرُّدِهِ بالملكِ كُلِّهِ، وأنَّهُ هوَ سُبحانَهُ الذي يُؤْتِيهِ مَنْ يشاءُ لا غيرُهُ.
فالأوَّلُ: تفرُّدُهُ بالملكِ.
والثاني: تفرُّدُهُ بالتصرُّفِ فيهِ، وأنَّهُ سُبحانَهُ هوَ الذي يُعِزُّ مَنْ يشاءُ بما يشاءُ منْ أنواعِ العزِّ، ويُذِلُّ مَنْ يشاءُ بسَلْبِ ذلكَ العزِّ عنهُ، وأنَّ الخيرَ كُلَّهُ بيدَيْهِ لـيسَ لأحـدٍ معَهُ منهُ شيءٌ.
ثمَّ ختَمَها بقولِهِ: {إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)}، فتناوَلَت الآيَةُ ملكَهُ وحدَهُ، وتصرُّفَهُ، وعمومَ قدرتِهِ، وتضمَّنَتْ أنَّ هذهِ التصرُّفاتِ كلَّها بيدِهِ، وأنَّها كلَّها خيرٌ، فسَلْبُهُ الملكَ عمَّنْ يشاءُ وإذلالُهُ مَنْ يشاءُ خيرٌ، وإنْ كانَ شرًّا بالنسبةِ إلى المسلوبِ الذليلِ، فإنَّ هذا التصرُّفَ دائرٌ بينَ العَدْلِ والفضلِ والحكمةِ والمصلحةِ لا يخْرُجُ عنْ ذلكَ. وهذا كلُّهُ خيرٌ يُحْمَدُ عليهِ الربُّ ويُثْنَى عليهِ بهِ كما يُحْمَدُ ويُثْنَى عليهِ بتنـزيهِهِ عن الشرِّ، وأنَّهُ ليسَ إليهِ، كما ثبتَ في صحيحِ مسلمٍ أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ كانَ يُثْنِي على رَبِّهِ بذلكَ في دعاءِ الاستفتاحِ في قولِهِ: ((لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ، أَنَا بِكَ وَإِلَيْكَ، تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ)). (([فـَ]الخيرُ كلُّهُ من اللهِ... و[هوَ] موجَبُ أسمائِهِ وصفاتِهِ... والشرُّ لا يُضافُ إلى اللهِ إرادةً ولا محبَّةً ولا فعلاً ولا وصفاً ولا اسماً.
فإنَّهُ لا يريدُ إلاَّ الخيرَ، ولا يُحِبُّ إلاَّ الخيرَ، ولا يفعلُ الشرَّ ولا يُوصَفُ بهِ , ولا يُسَمَّى باسمِهِ))([10]). فتباركَ وتعالى عنْ نسبةِ الشرِّ إليهِ، بلْ كلُّ ما نُسِبَ إليهِ فهوَ خيرٌ، والشرُّ إنَّما صارَ شرًّا لانقطاعِ نسبتِهِ وإضافتِهِ إليهِ؛ فلوْ أُضِيفَ إليهِ لمْ يكُنْ شرًّا كما [سبقَ] بيانُهُ.
وهوَ سُبحانَهُ خالقُ الخيرِ والشرِّ؛ فالشرُّ في بعضِ مخلوقاتِهِ , لا في خلقِهِ وفِعْلِهِ. وَخَلْقُهُ وفِعْلُهُ وقضاؤُهُ وقَدَرُهُ خيرٌ كلُّهُ.
((فإنَّ الربَّ سُبحانَهُ لا يفعلُ سُوءاً قطُّ، كما لا يُوصَفُ بهِ ولا يُسَمَّى باسْمِهِ، بلْ فِعْلُهُ كلُّهُ حسَنٌ وخيرٌ وحكمةٌ، كما قالَ تعالى: {بِيَدِكَ الْخَيْرُ}، وقالَ أعرفُ الخلقِ بهِ: ((وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ)) )) ([11]).
ولهذا تَنَـزَّهَ سُبحانَهُ عن الظلمِ الذي حقيقَتُهُ وضعُ الشيءِ في غيرِ موضعِهِ كما تقدَّمَ؛ فلا يَضَعُ الأشياءَ إلاَّ في مواضِعِها اللائقةِ بها، وذلكَ خيرٌ كلُّهُ، والشرُّ وضعُ الشيءِ في غيرِ محلِّهِ؛ فإذا وُضِعَ في محلِّهِ لمْ يكُنْ شرًّا.
فَعُلِمَ أنَّ الشرَّ ليسَ إليهِ، وأسماؤُهُ الحسنى تشهدُ بذلكَ، فإنَّ منها القُدُّوسَ السلامَ العزيزَ الجبَّارَ المُتكبِّرَ.
فالقُدُّوسُ: المُنَزَّهُ منْ كلِّ شرٍّ ونقصٍ وعيبٍ، كما قالَ أهلُ التفسيرِ: هوَ الطاهرُ منْ كلِّ عيبٍ، المُنَـزَّهُ عمَّا لا يليقُ بِهِ…
وكذلكَ السَّلامُ: فإنَّهُ الذي سَلِمَ من العيوبِ والنقائصِ. ووصْفُهُ بالسلامِ أبلغُ في ذلكَ منْ وصْفِهِ بالسالمِ. ومنْ مُوجَباتِ وصْفِهِ بذلكَ سلامةُ خلقِهِ منْ ظلمِهِ لهم. فسَلِمَ سُبحانَهُ منْ إرادةِ الظلمِ والشرِّ، ومن التسميَةِ بهِ، ومنْ فعلِهِ، ومنْ نسبتِهِ إليهِ. فهوَ السلامُ منْ صفاتِ النقصِ وأفعالِ النقصِ وأسماءِ النقصِ، المُسَلِّمُ لخلْقِهِ من الظلمِ...
وكذلكَ الكبيرُ منْ أسمائِهِ والمُتكبِّرُ، قالَ قتادةُ وغيرُهُ: هوَ الذي تكبَّرَ عن السوءِ. وقالَ أيضاً: الذي تكَبَّرَ عن السيِّئاتِ. وقالَ مُقاتلٌ: المُتَعاظِمُ عنْ كلِّ سوءٍ. وقالَ أبو إسحاقَ: الذي يَكْبُرُ عنْ ظلمِ عبادِهِ.
وكذلكَ اسمُهُ ((العزيزُ)) الذي لهُ العِزَّةُ التامَّةُ. ومنْ تمامِ عزَّتِهِ براءَتُهُ منْ كلِّ سوءٍ وشرٍّ وعيبٍ؛ فإنَّ ذلكَ ينافي العِزَّةَ التامَّةَ.
وكذلكَ اسمُهُ ((العَلِيُّ)) الذي عَلا عنْ كلِّ عيبٍ وسوءٍ ونقصٍ. ومنْ كمالِ علُوِّهِ أنْ لا يكونَ فوقَهُ شيءٌ، بلْ يكونَ فوقَ كلِّ شيءٍ.
وكذلكَ اسمُهُ ((الحميدُ))، وهوَ الذي لهُ الحمدُ كلُّهُ. فكمالُ حمْدِهِ يُوجِبُ أنْ لا يُنْسَبَ إليهِ شرٌّ ولا سوءٌ ولا نقصٌ، لا في أسمائِهِ ولا في أفعالِهِ ولا في صفاتِهِ.
فأسماؤُهُ الحسنى تمْنَعُ نسبةَ الشرِّ والسوءِ والظلمِ إليهِ، معَ أنَّهُ سُبحانَهُ الخالقُ لكلِّ شيءٍ؛ فهوَ الخالقُ للعبادِ وأفعالِهم وحركاتِهم وأقوالِهم. والعبدُ إذا فعلَ القبيحَ المنهيَّ عنهُ كانَ قدْ فعلَ الشرَّ والسوءَ، والربُّ سُبحانَهُ هوَ الذي جعلَهُ فاعلاً لذلكَ.
فهوَ سُبحانَهُ بهذا الجعلِ قدْ وضعَ الشيءَ موضعَهُ لما لهُ في ذلكَ من الحكمةِ البالغةِ التي يُحمدُ عليها. فهوَ خيرٌ وحكمةٌ ومصلحةٌ، وإنْ كانَ وقوعُهُ من العبدِ عيباً ونقصاً وشرًّا.
وهذا أمرٌ معقولٌ في الشاهدِ، فإنَّ الصانعَ الخبيرَ إذا أخذَ الخشبةَ العوجاءَ والحجرَ المكسورَ واللَّبِنةَ الناقصةَ فوضعَ ذلكَ في موضعٍ يليقُ بهِ ويُناسبُهُ كانَ ذلكَ منهُ عَدْلاً وصواباً يُمدحُ بهِ، وإنْ كانَ في المحلِّ عَوَجٌ ونقصٌ وعيبٌ يُذَمُّ بهِ المحلُّ.
ومَنْ وضَعَ الخبائثَ في موضِعِها ومحَلِّها اللائقِ بها كانَ ذلكَ منهُ حكمةً وعَدْلاً وصواباً. وإنَّما السَّفَهُ والظلمُ أنْ يضَعَها في غيرِ موضِعِها. فمَنْ وضعَ العِمامةَ على الرأسِ، والنعلَ في الرجلِ، والكُحلَ في العينِ، والزُّبالةَ في الكُناسةِ، فقدْ وضعَ الشيءَ موضِعَهُ، ولمْ يظْلِم النعلَ والزُّبالةَ؛ إذْ هذا محلُّها.
ومِنْ أسمائِهِ سُبحانَهُ العَدْلُ والحكيمُ الذي لا يضعُ الشيءَ إلاَّ في موضعِهِ. فهوَ المحسنُ الجَوَادُ الحكيمُ العَدْلُ في كلِّ ما خلقَهُ، وفي كلِّ ما وضَعَهُ في محلِّهِ وهيَّأَهُ لَهُ) ([12]).

[فصْلٌ]:
([وهوَ] - سُبحانَهُ - عَدْلٌ... غيرُ ظالمٍ لعبْدِهِ، بلْ لا يخرجُ... عنْ مُوجَبِ العَدْلِ والإحسانِ؛ فإنَّ الظلمَ سببُهُ حاجةُ الظالمِ، أوْ جهلُهُ، أوْ سفَهُهُ، فيستحيلُ صدورُهُ ممَّنْ هوَ بكلِّ شيءٍ عليمٌ، ومَنْ هوَ غنيٌّ عنْ كلِّ شيءٍ، وكلُّ شيءٍ فقيرٌ إليهِ، ومَنْ هوَ أحكمُ الحاكمينَ، فلا تخْرُجُ ذَرَّةٌ منْ مقْدُورَاتِهِ عنْ حكمَتِهِ وحمْدِهِ، كما لمْ تخْرُجْ عنْ قُدرتِهِ ومشيئَتِهِ، فحكمَتُهُ نافذةٌ حيثُ نفَذَتْ مشيئتُهُ وقدرتُهُ، ولهذا قالَ نبيُّ اللهِ هودٌ صلَّى اللهُ على نبيِّنا وعليهِ وسلَّمَ، وقدْ خوَّفَهُ قومُهُ بآلهَتِهم: {إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)} [هود: 54-56]؛ أيْ: معَ كونِهِ سُبحانَهُ آخِذاً بنواصي خلْقِهِ وتصرِيفِهم كما يشاءُ، فهوَ على صراطٍ مستقيمٍ لا يتصرَّفُ فيهم إلاَّ بالعَدْلِ والحكمةِ والإحسانِ والرحمةِ) ([13]).
(وهوَ سُبحانَهُ أحقُّ مَنْ كانَ على صراطٍ مستقيمٍ؛ فإنَّ أقوالَهُ كلَّها صدقٌ ورَشَدٌ وهُدًى وعَدْلٌ وحكمةٌ، {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام: 115]. وأفعالَهُ كلَّها مصالحُ وحكمٌ ورحمةٌ وعَدْلٌ وخيرٌ. فالشرُّ لا يدخلُ في أفعالِ مَنْ هوَ على الصراطِ المستقيمِ أوْ أقوالِهِ، وإنَّما يدخلُ في أفعالِ مَنْ خرجَ عنهُ وفي أقوالِهِ.
وفي دُعَائِهِ عليهِ الصلاةُ والسلامُ: ((لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ كُـلُّهُ بِيَدَيْكَ، وَالشَّـرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ))، ولا يُلْتَفَتُ إلى تفسيرِ مَنْ فسَّرَهُ بقولِهِ: والشرُّ لا يُتَقَرَّبُ بهِ إليكَ، أوْ لا يَصْعَدُ إليكَ؛ فإنَّ المعنى أَجَلُّ منْ ذلكَ وأكبرُ وأعظمُ قدراً؛ فإنَّ مَنْ أسماؤُهُ كلُّها حُسنى، وأوصافُهُ كلُّها كمالٌ، وأفعالُهُ كلُّها كمالٌ وأقوالُهُ كلُّها صدقٌ وعَدْلٌ، يستحيلُ دخولُ الشرِّ في أسمائِهِ أوْ أوصافِهِ أوْ أفعالِهِ أوْ أقوالِهِ.
فطابِقْ بينَ هذا المعنى وبينَ قوْلِهِ: {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)} [هود: 56]، وتأمَّلْ كيفَ ذكرَ هذا عَقِيبَ قولِهِ: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ} [هود: 56]؛ أيْ: هوَ ربِّي، فلا يُسْلِمُنِي ولا يُضَيِّعُنِي، وهوَ ربُّكُم، فلا يُسَلِّطُكم عَلَيَّ ولا يُمَكِّنُكُم منِّي؛ فإنَّ نواصيَكُم بيدِهِ، ولا تفعلونَ شيئاً بدُونِ مشيئتِهِ؛ فإنَّ ناصيَةَ كلِّ دابَّةٍ بيدِهِ، لا يمكِنُها أنْ تتحرَّكَ إلاَّ بإذْنِهِ، فهوَ المُتصرِّفُ فيها، ومعَ هذا، فهوَ في تصرُّفِهِ فيها وتحريكِهِ لها ونفوذِ قضائِهِ وقدرِهِ فيها: على صراطٍ مستقيمٍ، لا يفعلُ ما يفعلُ منْ ذلكَ إلاَّ بحكمةٍ وعَدْلٍ ومصلحةٍ، ولوْ سَلَّطَكم عَلَيَّ فلَهُ من الحكمةِ في ذلكَ ما لهُ الحمدُ عليهِ؛ لأنَّهُ تسليطُ مَنْ هوَ على صراطٍ مستقيمٍ، لا يظلمُ ولا يفعلُ شيئاً عبثاً بغيرِ حكمةٍ.
فهكذا تكونُ المعرفةُ باللهِ، لا معرفةُ القدريَّةِ المجوسيَّةِ، والقدريَّةِ الجبْريَّةِ، نُفاةِ الحِكَمِ والمصالحِ والتعليلِ. واللهُ الموفِّقُ سُبحانَهُ) ([14]).

[فصْلٌ]:
[وممَّا ينبغي أنْ يُعْلَمَ] (أنَّهُ يمتنعُ إطلاقُ إرادةِ الشرِّ عليهِ وفعلِهِ، نفياً وإثباتاً لما في إطلاقِ لفظِ الإرادةِ والفعلِ منْ إيهامِ المعنى الباطلِ، ونفيِ المعنى الصحيحِ؛ فإنَّ الإرادةَ تُطْلَقُ بمعنى المشيئةِ وبمعنى المحبَّةِ والرضا:
- فالأوَّلُ: كقولِهِ: {إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود: 34]، وقولِهِ: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ} [الأنعام: 125]، وقولِهِ: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً} [الإسراء: 16].
- والثانِي: كقولِهِ: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 27]، وقولِهِ: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}[البقرة: 185].
فالإرادةُ بالمعنى الأوَّلِ تستلزمُ وقوعَ المرادِ، ولا تستلزمُ محبَّتَهُ والرضا بهِ.
وبالمعنى الثاني لا تستلزمُ وقوعَ المرادِ وتستلزمُ محبَّتَهُ؛ فإنَّها لا تنقسمُ، بلْ كلُّ ما أرادَهُ منْ أفعالِهِ فهوَ محبوبٌ مرضيٌّ لهُ. ففرقٌ بينَ إرادةِ أفعالِهِ وإرادةِ مفعولاتِهِ.
فإنَّ أفعالَهُ خيرٌ كلُّها، وعَدْلٌ ومصلحةٌ وحكمةٌ لا شرَّ فيها بوجهٍ من الوجوهِ. وأمَّا مفعولاتُهُ فهيَ موردُ الانقسامِ.
وهذا إنَّما يتحقَّقُ على قولِ أهلِ السُّنَّةِ: إنَّ الفعلَ غيرُ المفعولِ، والخلقَ غيرُ المخلوقِ، كما هوَ الموافقُ للعقولِ والفِطَرِ، واللُّغَةِ، ودلالةِ القرآنِ، والحديثِ، وإجماعِ أهلِ السُّنَّةِ، كما حَكَاهُ البغويُّ في شرحِ السُّنَّةِ عنهم.
وعلى هذا فها هنا إرادتانِ ومُرَادَانِ:
- إرادةُ: أنْ يفعلَ، ومُرَادُها: فعلُهُ القائمُ بهِ.
- وإرادةُ: أنْ يفعلَ عبدُهُ، ومرادُها: مفعولُهُ المنفصلُ عنهُ.
ولَيْسَا بمُتلازميْنِ؛ فقدْ يُريدُ منْ عبدِهِ أنْ يفعلَ، ولا يُريدُ منْ نفْسِهِ إعانتَهُ على الفعلِ وتوفيقَهُ لهُ وصرفَ موانِعِهِ عنهُ.
كما أرادَ منْ إبليسَ أنْ يسجدَ لآدمَ ولمْ يُرِدْ منْ نفسِهِ أنْ يُعينَهُ على السجودِ ويُوفِّقَهُ لهُ ويُثَبِّتَ قلْبَهُ عليهِ ويصْرِفَهُ إليهِ. ولوْ أرادَ ذلكَ منهُ لسجدَ لهُ لا محالةَ.
وقولُهُ: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16)} [البروج: 16] إخبارٌ عنْ إرادَتِهِ لفعلِهِ، لا لأفعالِ عبيدِهِ. وهذا الفعلُ والإرادةُ لا ينقسمُ إلى خيرٍ وشرٍّ كما تقدَّمَ.
وعلى هذا فإذا قيلَ: هوَ مُرِيدٌ للشَّرِّ، أَوْهَمَ أنَّهُ مُحِبٌّ لهُ راضٍ بهِ، وإذا قيلَ: إنَّهُ لمْ يُرِدْهُ؛ أَوْهَمَ أنَّهُ لمْ يخْلُقْهُ ولا كوَّنَهُ، وكِلاهُما باطلٌ.
ولذلكَ إذا قيلَ: إنَّ الشرَّ فعلُهُ، أوْ إنَّهُ يفعلُ الشرَّ، أوْهَمَ أنَّ الشرَّ فعلُهُ القائمُ بهِ، وهذا مُحالٌ. وإذا قيلَ: لمْ يفْعَلْهُ أوْ ليسَ بفعلٍ لهُ، أوْهَمَ أنَّهُ لمْ يخْلُقْهُ ولمْ يُكَوِّنْهُ، وهذا مُحالٌ. فانظرْ ما في إطلاقِ هذهِ الألفاظِ في النفيِ والإثباتِ من الحقِّ والباطلِ الذي يتبَيَّنُ بالاستقصاءِ والتفصيلِ.
وإنَّ الصوابَ في هذا البابِ ما دلَّ عليهِ القرآنُ والسُّنَّةُ منْ أنَّ الشرَّ لا يُضافُ إلى الربِّ تعالى لا وصفاً ولا فعلاً، ولا يتسَمَّى باسمِهِ بوجهٍ من الوجوهِ، وإنَّما يدخلُ في مفعولاتِهِ بطريقِ العمومِ، كقولِهِ تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2)} [الفلق: 1-2] فَـ ((مَا)) ها هنا موصولةٌ أوْ مصدرِيَّةٌ، والمصدرُ بمعنى المفعولِ؛ أيْ: منْ شرِّ الذي خلقَهُ، أوْ منْ شرِّ مخلوقِهِ. وقدْ يُحذفُ فاعلُهُ كقولِهِ حكايَةً عنْ مُؤمِنِي الجنِّ: {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10)} [الجن: 10].
وقدْ يُسْنَدُ إلى محلِّهِ القائمِ بهِ كقولِ إبراهيمَ الخليلِ: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80)} [الشعراء: 78-80]، وقولِ الخَضِرِ: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف: 79]، وقال في بُلوغِ الغُلامَيْنِ: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا} [الكهف: 82].
وقدْ جمعَ الأنواعَ الثلاثةَ في الفاتحةِ في قولِهِ: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)} [الفاتحة: 7].
واللهُ تعالى إنَّما نَسَبَ إلى نفسِهِ الخيرَ دونَ الشرِّ فقالَ تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)}[آل عمرانَ: 26].
وأخطأَ مَنْ قالَ: المعنى بيدِكَ الخيرُ والشرُّ، لثلاثةِ أوجهٍ:
أحدُها: أنَّهُ ليسَ في اللفظِ ما يدُلُّ على إرادةِ هذا المحذوفِ. بلْ تركَ ذكرَهُ قصداً أوْ بياناً أنَّهُ ليسَ بمرادٍ.
الثاني: أنَّ الذي بيَدِ اللهِ تعالى نوعانِ؛ فضلٌ وعَدْلٌ، كما في الحديثِ الصحيحِ عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ((يَمِينُ اللهِ مَلأَى لا يَغِيضُهَا نَفَقَةٌ، سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ الْخَلْقَ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَمِينِهِ، وَبِيَدِهِ الأُخْرَى الْقِسْطُ يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ)) ([15]).
فالفضلُ لإحدَى اليدَيْنِ والعَدْلُ للأُخْرَى، وكلاهُما خيرٌ لا شرَّ فيهِ بوجهٍ.
الثالثُ: أنَّ قولَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ((لَبَّيْكَ وسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ ))، كالتفسيرِ للآيَةِ. ففرقٌ بينَ الخيرِ والشرِّ، وجَعْلِ أحدِهما في يدَي الربِّ سُبحانَهُ، وقطْعِ إضافةِ الآخرِ إليهِ معَ إثباتِ عمومِ خلقِهِ لكلِّ شيءٍ)([16])
).[المرتبع الأسنى: ؟؟]


([1]) طريقُ الهِجرتَينِ (119).
([2]) رَوْضَةُ المُحِبِّينَ (81).
([3]) الصَّواعِقُ المُرْسَلَةُ (1443).
([4]) شِفَاءُ العَلِيلِ (2/81).
([5]) إِعْلامُ المُوَقِّعِينَ (3/186).
([6]) شِفَاءُ العَلِيلِ (2/129).
([7]) سَبَقَ تَخْرِيجُهُ ص 141.
([8]) بَدَائِعُ الفَوائدِ (2/210-215).
([9]) شِفَاءُ العَلِيلِ (1/345).
([10]) شِفَاءُ العَلِيلِ (2/36-37).
([11]) شِفَاءُ العَلِيلِ (2/42).
([12]) شِفَاءُ العَلِيلِ (2/63-67).
وقالَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعالَى- في طريقِ الهجرتينِ (97): (وإنَّما يَتَبَيَّنُ هذا ببيانِ وجودِ الحكمةِ في كلِّ ما خلقَهُ اللهُ وأمرَ به، وبيانِ أنه كلُّه خيرٌ مِن جهةِ إضافتِهِ إليه سبحانَهُ، وأنه من تلك الإضافةِ خيرٌ وحكمةٌ، وأنَّ جهةَ الشرِّ منه من جهةِ إضافتِهِ إلى العبدِ كما قالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ في دعاءِ الاستفتاحِ: ((لَبَّيْكَ وسَعْدَيْكَ ، والخيرُ في يَدَيْكَ والشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ)) فهذا النفيُ يَقْتَضِي امتناعَ إضافةِ الشرِّ إليه تعالى بوجهٍ، فلا يُضافُ إلى ذاتِه ولا صفاتِهِ ولا أسمائِه ولا أفعالِه ، فإنَّ ذَاتَهُ تعالى مُنزَّهَةٌ عن كلِّ شرٍّ، وصفاتِهِ كذلك ، إذ كُلُّهَا صِفاتُ كَمالٍ ونُعوتُ جلالٍ لا نَقْصَ فيها بوجهٍ من الوجوهِ، وأسماؤُه كُلُّها حُسْنَى ليس فيها اسمُ ذمٍّ ولا عيبٍ، وأفعالُه كُلُّها حكمةٌ ورَحمةٌ ومَصلحةٌ وإحسانٌ وعدلٌ لا تَخْرُجُ عن ذلك البتةَ، وهو المحمودُ على ذلك كلِّهِ، فيستحيلُ إضافةُ الشرِّ إليه).
([13]) زادُ المَعادِ (4/207).
([14]) مَدارِجُ السَّالكِينَ (1/44-45).
([15]) سَبَقَ تَخْرِيجُه ص 52.
([16]) شِفَاءُ العَلِيلِ ( 2/260-262).
وقال -رَحِمَهُ اللهُ تَعالَى- في القصيدةِ النُّونِيَّةِ (135-137) في مَعْرِضِ بيانِ أدلةِ عُلوِّ اللهِ تعالَى على مخلوقاتِهِ:

هَذَا وثَامِنُ عَشْرِهَا تَنْزِيهُهُ = سُبْحَانَهُ عَنْ مُوجِبِ النُّقْصَانِ
وَعَنِ الْعُيُوبِ وَمُوجَبِ التَّمْثِيلِ وَالتَّـ = شْبِيهِ جَلَّ اللهُ ذُو السُّلطانِ
وَلِذَاكَ نَزَّهَ نَفْسَهُ سُبْحَانَهُ = عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ شَرِيكٌ ثَانِ
أَوْ أَنْ يَكُونَ لَهُ ظَهِيرٌ فِي الْوَرَى = سُبْحَانَهُ عَنْ إِفْكِ ذِي بُهْتَانِ
أَوْ أَنْ يُوَالِيَ خَلْقَهُ سُبْحَانَهُ = مِنْ حَاجَةٍ أَوْ ذِلَّةٍ وَهَوَانِ
أَوْ أَنْ يَكُونَ لَدَيْهِ أَصْلاً شَافِعٌ = إِلاَّ بِإِذْنِ الْوَاحِدِ المَنَّانِ
وَكَذَاكَ نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْ وَالِدٍ = وَكَذَاكَ عَنْ وَلَدٍ هُمَا نَسَبَانِ
وَكَذَاكَ نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْ زَوْجَةٍ = وَكَذَاكَ عَنْ كَفِّ يَكُونُ مُدانِي
وَلَقَدْ أَتَى التَّنْزِيهُ عَمَّا لَمْ يَقُلْ = كَيْ لا يَدُورَ بِخَاطِرِ الإِنْسَانِ
فَانْظُرْ إِلَى التَّنْزِيهِ عَنْ طُعْمٍ وَلَمْ = يُنْسَبْ إِلَيْهِ قَطُّ مِنْ إِنْسَانِ
وَكَذَلِكَ التَّنْزِيهُ عَنْ مَوْتٍ وَعَنْ = نَوْمٍ وَعَنْ سِنَةٍ وَعَنْ غَشَيَانِ
وَكَذَلِكَ التَّنْزِيهُ عَنْ نِسيَانِهِ = وَالرَّبُّ لَمْ يُنْسَبْ إِلَى نِسْيَانِ
وَكَذَلِكَ التَّنْزِيهُ عَنْ ظُلْمٍ وَفِي الْـ = أَفْعَالِ عَنْ عَبَثٍ وَعَنْ بُطْلانِ
وَكَذَلِكَ التَّنْزِيهُ عَنْ تَعَبٍ وَعَنْ = عَجْزٍ يُنافِي قُدْرَةَ الرَّحْمَنِ
وَلَقَدْ حَكَى الرَّحْمَنُ قَوْلاً قَالَهُ = فِنْحَاصُ ذُو الْبُهْتَانِ وَالْكُفْرَانِ
إِنَّ الإِلَهَ هُوَ الْفَقِيرُ وَنَحْنُ أَصْـ = حَابُ الْغِنَى ذُو الوَجْدِ وَالإِمْكَانِ
وَلِذَاكَ أَضْحَى رَبُّنَا مُسْتَقْرِضًا = أَمْوَالَنَا سُبْحَانَ ذِي الإِحْسَانِ
وَحَكَى مَقَالَةَ قَائِلٍ مِنْ قَوْمِهِ = أَنَّ الْعُزَيْرَ ابْنٌ مِنَ الرَّحْمَنِ
هَذَا وَمَا الْقَوْلانِ قَطُّ مَقَالَةٌ = مَنْصُورَةٌ فِي مَوْضِعٍ وزَمَانِ
لَكِنْ مَقَالَةُ كَوْنِهِ فَوْقَ الْوَرَى = وَالْعَرْشِ وَهْوَ مُبَايِنُ الأَكْوَانِ
قَدْ طَبَّقَتْ شَرْقَ الْبِلادِ وَغَرْبَهَا = وَغَدَتْ مُقَرَّرَةً لِذِي الأَذْهَانِ
فَلأَيِّ شَيْءٍ لَمْ يُنَزِّهْ نَفْسَهُ = سُبْحَانَهُ فِي مُحْكَمِ الْقُرْآنِ
عَنْ ذِي الْمَقَالَةِ مَعْ تَفَاقُمِ أَمْرِهَا = وَظُهُورِهَا فِي سَائِرِ الأَدْيَانِ
بَلْ دَائِمًا يُبْدِي لَنَا إِثْبَاتَهَا = وَيُعِيدُهُ بِأَدِلَّةِ التِّبْيَانِ


رد مع اقتباس
  #3  
قديم 14 رمضان 1438هـ/8-06-2017م, 10:02 AM
جمهرة علوم العقيدة جمهرة علوم العقيدة غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: May 2017
المشاركات: 1,193
افتراضي

بيانِ بعضِ ما يقْتَضِيهِ العِلْمُ بأسماءِ اللهِ الحسنى وصفاتِهِ العُلَى منْ أنواعِ العبوديَّةِ للهِ تعالَى

قال ابن القيم محمد بن أبي بكر الزرعي الدمشقي (ت:751هـ) كما في المرتبع الأسنى: (البابُ السادسَ عشرَ: في بيانِ بعضِ ما يقْتَضِيهِ العِلْمُ بأسماءِ اللهِ الحسنى وصفاتِهِ العُلَى منْ أنواعِ العبوديَّةِ للهِ تعالَى.
(الأسماءُ الحسنى والصِّفَاتُ العُلَى مقتضيَةٌ لآثارِها من العبودِيَّةِ والأمرِ اقتضاءَها لآثارِها من الخلقِ والتكوينِ، فلكلِّ صفةٍ عبوديَّةٌ خاصَّةٌ هيَ منْ مُوجَباتِها ومُقْتَضَيَاتِها - أعْنِي منْ مُوجَباتِ العلمِ بها والتحقُّقِ بمعرفتِها - وهذا مُطَّرِدٌ في جميعِ أنواعِ العبوديَّةِ التي على القلبِ والجوارحِ.
فعلمُ العبدِ بتفرُّدِ الربِّ تعالى بالضرِّ والنفعِ والعطاءِ والمنعِ والخلقِ والرزقِ والإحياءِ والإماتةِ يُثْمِرُ لهُ عبوديَّةَ التوكُّلِ عليهِ باطناً، ولوازمَ التوكُّلِ وثمراتِهِ ظاهراً.
وعلمُهُ بسمْعِهِ تعالى وبصرِهِ وعلمِهِ، وأنَّهُ لا يخْفَى عليهِ مثقالُ ذرَّةٍ في السَّماوَاتِ والأرضِ، وأنَّهُ يعلمُ السرَّ وأَخْفَى، ويعلمُ خائنةَ الأعْيُنِ وما تُخْفِي الصدورُ يُثْمِرُ لهُ حفظَ لسانِهِ وجوارحِهِ وخَطَراتِ قلبِهِ عنْ كلِّ ما لا يُرْضِي اللهَ، وأنْ يجعلَ تَعَلُّقَ هذهِ الأعضاءِ بما يُحِبُّهُ اللهُ ويرضاهُ فيُثمرُ لهُ ذلكَ الحياءُ اجتنابَ المُحَرَّماتِ والقبائحِ.
ومعرفتُهُ بغِناهُ وجُودِهِ وكرمِهِ وبِرِّهِ وإحسانِهِ ورحمتِهِ تُوجِبُ لهُ سَعَةَ الرجاءِ، ويُثمرُ لهُ ذلكَ منْ أنواعِ العبوديَّةِ الظاهرةِ والباطنةِ بحسَبِ معرفتِهِ وعلمِهِ.
وكذلكَ معرفتُهُ بجلالِ اللهِ وعظمتِهِ وعِزَّتِهِ تُثمِرُ لهُ الخضوعَ والاستكانةَ والمحبَّةَ، وتُثمرُ لهُ تلكَ الأحوالُ الباطنةُ أنواعاً من العبوديَّةِ الظاهرةِ هيَ مُوجَباتُها.
وكذلكَ علمُهُ بكمالِهِ وجمالِهِ وصفاتِهِ العُلَى يُوجبُ لهُ محبَّةً خاصَّةً بمنـزلةِ أنواعِ العبوديَّةِ، فرجَعَت العبوديَّةُ كلُّها إلى مُقْتَضَى الأسماءِ والصِّفَاتِ، وارتَبَطَتْ بها ارتباطَ الخلقِ بها.
فخلْقُهُ سُبحانَهُ وأمرُهُ هوَ مُوجَبُ أسمائِهِ وصفاتِهِ في العالمِ وآثارُها ومُقْتَضَاها؛ لأنَّهُ لا يتزَيَّنُ منْ عبادِهِ بطاعَتِهِم، ولا تَشِينهُ معصيتُهم.
وتأمَّلْ قولَهُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ في الحديثِ الصحيحِ الذي يَرْوِيهِ عنْ ربِّهِ تباركَ وتعالى: ((يَا عِبَادِي، إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي))، ذكرَ هذا عَقِبَ قولِـهِ: ((يَا عِبَادِي، إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً؛ فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ)) ([1]). فتضمَّنَ ذلكَ أنَّ ما يفعلُهُ تعالى بهم في غُفرانِ زَلاَّتِهم وإجابةِ دعوَاتِهم وتفريجِ كُرُباتِهم ليسَ لجلبِ منفعةٍ منهم، ولا لدفعِ مضرَّةٍ يتوقَّعُها منهم؛ كما هوَ عادةُ المخلوقِ الذي ينفعُ غيرَهُ لِيُكَافِئَهُ بنفعٍ مثلِهِ، أوْ ليدفعَ عنهُ ضرراً، فالربُّ تعالى لمْ يُحْسِنْ إلى عبادِهِ ليُكافِئُوهُ، ولا ليَدْفَعُوا عنهُ ضرراً، فقالَ: ((لَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي))؛ إنِّي لستُ إذا هدَيْتُ مُستهدِيَكُم، وأطْعَمْتُ مُسْتَطْعِمَكم، وَكَسَوْتُ مُستكسِيَكُم، وأرْوَيْتُ مُستسقِيَكُم، وكَفَيْتُ مُسْتَكْفِيَكُم، وغفَرْتُ لمُسْتَغْفِرِكُم: بالَّذي أطلبُ منكم أنْ تنفعوني، أوْ تدفعوا عنِّي ضرراً، فإنَّكُم لنْ تبْلُغُوا ذلكَ وأنا الغنيُّ الحميدُ؛ كيفَ والخلقُ عاجزونَ عمَّا يقْدِرُونَ عليهِ من الأفعالِ إلاَّ بإقدارِهِ وتيسيرِهِ وخلقِهِ، فكيفَ بما لا يقْدِرُونَ عليهِ، فكيفَ يبْلُغُونَ نفعَ الغنيِّ الصمدِ الذي يمتنعُ في حقِّهِ أنْ يستجْلِبَ منْ غيرِهِ نفعاً أوْ يستدفعَ منهُ ضرراً؟! بلْ ذلكَ مستحيلٌ في حقِّهِ.
ثُمَّ ذكرَ بعدَ هذا قولَهُ: ((يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئاً، وَلَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئاً))؛ فبيَّنَ سُبحانَهُ أنَّ ما أمرَهُم بهِ من الطاعاتِ، وما نهاهُم عنهُ من السيِّئاتِ لا يتضمَّنُ استجلابَ نفعِهِم، ولا استدفاعَ ضرَرِهم؛ كأمرِ السيِّدِ عبدَهُ، والوالدِ ولدَهُ، والإمامِ رعيَّتَهُ، بما ينفعُ الآمِرَ والمأمورَ، ونهْيِهِم عمَّا يضرُّ الناهيَ والمنهيَّ، فبيَّنَ تعالى أنَّهُ المُنَـزَّهُ عنْ لُحُوقِ نفعِهم وضرِّهِم بهِ في إحسانِهِ إليهم بما يفعلُهُ بهم، وبما يأمُرُهُم بهِ.
ولهذا لمَّا ذكرَ الأصليْنِ بعدَ هذا، وأنَّ تقوَاهُم وفجورَهُم الذي هوَ طاعتُهم ومعصيتُهم لا يَزيدُ في مُلْكِهِ شيئاً ولا يَنْقُصُهُ، وأنَّ نِسْبَةَ ما يسألونهُ كلُّهم إيَّاهُ فيُعطيهم إلى ما عندَهُ كلا نِسْبَةٍ، فتضمَّنَ ذلكَ أنَّهُ لمْ يأمُرْهم ولمْ يُحْسِنْ إليهم بإجابةِ الدعواتِ، وغفرانِ الزَّلاَّتِ، وتفريجِ الكُرُباتِ لاستجلابِ منفعةٍ، ولا لاستدفاعِ مضرَّةٍ، وأنَّهُم لوْ أطاعُوهُ كلُّهُم لمْ يزيدُوا في ملكِهِ شيئاً، ولوْ عصَوْهُ كلُّهم لمْ ينْقُصُوا منْ ملكِهِ شيئاً، وأنَّهُ الغنيُّ الحميدُ.
ومَنْ كانَ هكذا فإنَّهُ لا يتزيَّنُ بطاعةِ عبادِهِ، ولا تَشِينُهُ معاصيهم، ولكنْ لهُ من الحِكَمِ البوالغِ في تكليفِ عبادِهِ وأمرِهم ونهْيِهِم ما يقْتَضِيهِ مُلْكُهُ التامُّ، وحمدُهُ وحكمتُهُ، ولوْ لمْ يكُنْ في ذلكَ إلاَّ أنَّهُ يستوجبُ منْ عبادِهِ شكرَ نعَمِهِ التي لا تُحْصَى، بحسَبِ قُوَاهُم وطاقَتِهم، لا بحسَبِ ما ينبغي لهُ؛ فإنَّهُ أعظمُ وأجلُّ منْ أنْ يقْدِرَ خلقُهُ عليهِ، ولكنَّهُ سُبحانَهُ يَرْضَى منْ عبادِهِ بما تَسْمَحُ بهِ طبائِعُهم وقُوَاهُم، فلا شيءَ أحسنُ في العقولِ والفِطَرِ منْ شُكْرِ المُنعِمِ، ولا أنفعُ للعبدِ منهُ.
فهذانِ مسلكانِ... في حسنِ التكليفِ والأمرِ والنهيِ:
- أحدُهما: يتعلَّقُ بذاتِهِ وصفاتِهِ، وأنَّهُ أهلٌ لذلكَ، وأنَّ جمالَهُ تعالى وكمالَهُ وأسماءَهُ وصفاتِهِ تقتضي منْ عبادِهِ غايَةَ الحبِّ والذلِّ والطاعةِ لهُ.
- والثاني: مُتَعَلِّقٌ بإحسانِهِ وإنعامِهِ، ولا سِيَّمَا معَ غناهُ عنْ عبادِهِ، وأنَّهُ إنَّما يُحْسِنُ إليهم رحمةً منهُ وجُوداً وكرماً، لا لمُعَاوَضَةٍ، ولا لاستجلابِ منفعةٍ، ولا لدفعِ مضرَّةٍ، وأيُّ المسلكَيْنِ سلَكَهُ العبدُ أوقَفَهُ على محبَّتِهِ وبذلِ الجهدِ في مرضاتِهِ)([2]) .

[فصلٌ]:
(و... العبدُ إذا فتحَ اللهُ لقلْبِهِ شهودَ أوَّلِيَّتِهِ سُبحانَهُ حيثُ كانَ ولا شيءَ غيرُهُ، وهوَ الإلهُ الحقُّ الكاملُ في أسمائِهِ وصفاتِهِ، الغنيُّ بذاتِهِ عمَّا سِوَاهُ، الحميدُ المجيدُ بذاتِهِ قبلَ أنْ يخلُقَ مَنْ يَحْمَدُهُ ويعبدُهُ ويمجِّدُهُ، فهوَ معبودٌ محمودٌ حيٌّ قيُّومٌ لهُ الملكُ ولهُ الحمدُ في الأزلِ والأبدِ، لمْ يزَلْ ولا يزالُ موصوفاً بصفاتِ الجلالِ، منعوتاً بنعوتِ الكمالِ، وكلُّ شيءٍ سواهُ فإنَّما كانَ بهِ، وهوَ تعالى بنفسِهِ ليسَ بغيرِهِ، فهوَ القيُّومُ الذي قِيَامُ كلِّ شيءٍ بهِ، ولا حاجةَ بهِ في قيُّوميَّتِهِ إلى غيرِهِ بوجهٍ من الوجوهِ.
فإذا شهِدَ العبدُ سَبْقَهُ تعالى بالأوَّلِيَّةِ ودوامِ وُجُودِهِ الحقِّ، وغابَ بهذا عمَّا سِوَاهُ من المُحْدَثَاتِ... [ا]ستغْنَى العبدُ بهذا المشهدِ العظيمِ وَ... تغذَّى بها عنْ فاقَاتِهِ وحاجاتِهِ. فاضْمَحَلَّ ما دُونَ الحقِّ تعالى في شهودِ العبدِ كما هوَ مُضْمَحِلٌّ في نفسِهِ، وشَهِدَ العبدُ حينئذٍ أنَّ كلَّ شيءٍ ما سِوَى اللهِ باطلٌ، وأنَّ الحقَّ المبينَ هوَ اللهُ وحدَهُ ((فهوَ الأوَّلُ الذي ليسَ قبلَهُ شيءٌ. قالَ بعضُهم: ما رَأَيْتُ شيئاً إلاَّ وقدْ رأَيْتُ([3]) اللهَ قبلَهُ.
[فيَـ]شْهَدُ القلبُ سَبْقَهُ للأسبابِ، وأنَّها كانتْ في حيِّزِ العدمِ. وهوَ الذي كسَاها حُلَّةَ الوجودِ، فهيَ معدومةٌ بالذاتِ، فقيرةٌ إليهِ بالذاتِ، وهوَ الموجودُ بذاتِهِ والغنيُّ بذاتِهِ لا بغيرِهِ. فليسَ الغِنَى في الحقيقةِ إلاَّ بهِ، كما أنَّهُ ليسَ في الحقيقةِ إلاَّ لهُ. فالغِنَى بغيرِهِ عينُ الفقرِ؛ فإنَّهُ غنًى بمعدومٍ فقيرٍ. وفقيرٌ كيفَ يستغني بفقيرٍ مثلِهِ؟!)). ([4])
وليسَ هذا مختصًّا بشهودِ أوَّلِيَّتِهِ تعالى فقطْ، بلْ جميعُ ما يبدُو للقلوبِ منْ صفاتِ الربِّ جلَّ جلالُهُ يستغني العبدُ بها بقدْرِ حظِّهِ وقَسْمِهِ منْ معرفتِها وقيامِهِ بعبوديَّتِها.
فمَنْ شهِدَ مشهدَ علوِّ اللهِ على خلقِهِ وفوقيَّتِهِ لعبادِهِ واستوائِهِ على عرشِهِ كما أخبرَ بهِ أعرفُ الخلقِ وأعلمُهم بهِ الصادقُ المصدوقُ، وتعبَّدَ بمُقْتَضَى هذهِ الصفةِ بحيثُ يصيرُ لقلبِهِ صمدٌ يعْرُجُ القلبُ إليهِ مُناجياً لهُ مُطْرِقاً واقفاً بينَ يدَيْهِ وقوفَ العبدِ الذليلِ بينَ يدي الملكِ العزيزِ، فيشعرُ بأنَّ كَلِمَهُ وعمَلَهُ صاعدٌ إليهِ معروضٌ عليهِ معَ أوْفَى خاصَّتِهِ وأوليائِهِ، فيستحي أنْ يصعدَ إليهِ مِنْ كَلِمِهِ ما يُخْزِيهِ ويفضَحُهُ هناكَ.
ويشهدُ نـزولَ الأمرِ والمراسيمِ الإلهيَّةِ إلى أقطارِ العوالمِ كلَّ وقتٍ بأنواعِ التدبيرِ والتصرُّفِ من الإماتةِ والإحياءِ، والتوليَةِ والعزلِ، والخفضِ والرفعِ، والعطاءِ والمنعِ، وكشفِ البلاءِ وإرسالِهِ، وتقَلُّبِ الدُّوَلِ ومداوَلَةِ الأيَّامِ بينَ الناسِ، إلى غيرِ ذلكَ من التصرُّفِ في المملكةِ التي لا يتصرَّفُ فيها سواهُ، فمراسِمُهُ نافذةٌ كما يشاءُ {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5)} [السجدة: 5]، فمَنْ أعطى هذا المشهدَ حقَّهُ معرفةً وعبوديَّةً استغنى بهِ.
وكذلكَ مَنْ شهِدَ مشهدَ العلمِ المحيطِ الذي لا يعزُبُ عنهُ مثقالُ ذرَّةٍ في الأرضِ ولا في السماواتِ، ولا في قرارِ البحارِ، ولا تحتَ أطباقِ الجبالِ، بلْ أحاطَ بذلكَ كُلِّهِ علماً تفصيليًّا، ثُمَّ تعبَّدَ بمُقْتَضَى هذا الشهودِ منْ حواسِّهِ؛ خواطِرِهِ وإرادَتِهِ وجميعِ أحوالِهِ وعزَماتِهِ وجوارحِهِ عَلِمَ بأنَّ حركاتِهِ الظاهرةَ والباطنةَ، وخواطِرَهُ وإرادَتَهُ، وجميعَ أحوالِهِ ظاهرةٌ مكشوفةٌ لدَيْهِ , علانيَةٌ لهُ , باديَةٌ لا يخفى عليهِ منها شيءٌ.
وكذلكَ إذا أشعرَ القلبُ صفةَ سمعِهِ تباركَ وتعالى لأصواتِ عبادِهِ على اختلافِها وجهرِها وخفائِها، وسواءٌ عندَهُ مَنْ أسَرَّ القولَ ومَنْ جهرَ بهِ، لا يشْغَلُهُ جهرُ مَنْ جهرَ عنْ سمعِهِ لصوتِ مَنْ أسرَّ، ولا يشغَلُهُ سمعٌ عنْ سمعٍ، ولا تُغْلِطُهُ الأصواتُ على كثرَتِها واختلافِها واجتماعِها، بلْ هيَ عندَهُ كلُّها كصوتٍ واحدٍ، كما أنَّ خلقَ الخلقِ جميعِهم وبعْثَهُم عندَهُ بمنـزلةِ نفسٍ واحدةٍ.
وكذلكَ إذا شَهِدَ معنى اسمِهِ البصيرِ جلَّ جلالُهُ الذي يرى دبيبَ النملةِ السوداءِ على الصخرةِ الصمَّاءِ في حِنْدِسِ الظلماءِ، ويرى تفاصيلَ خلقِ الذرَّةِ الصغيرةِ ومُخَّها وعُروقَها ولحمَها وحركتَها، ويرى مدَّ البعوضةِ جناحَها في ظلمةِ الليلِ، وأعطى هذا المشهدَ حقَّهُ من العبوديَّةِ بحَرْسِ حركاتِها وسَكَنَاتِها، وتيَقَّنَ أنَّها بمرْأَى منهُ تباركَ وتعالى ومشاهدةٍ لا يغيبُ عنهُ منها شيءٌ.
وكذلكَ إذا شهِدَ مشهدَ القيُّوميَّةِ الجامعَ لصفاتِ الأفعالِ وأنَّهُ قائمٌ على كلِّ شيءٍ , وقائمٌ على كلِّ نفسٍ بما كسبَتْ، وأنَّهُ تعالى هوَ القائمُ بنفسِهِ المُقِيمُ لغيْرِهِ، القائمُ علَيْهِ بتدبيرِهِ وربوبيَّتِهِ وقهرِهِ وإيصالِ جزاءِ المحسِنِ إليهِ وجزاءِ المُسِيءِ إليهِ، وأنَّهُ بكمالِ قيُّوميَّتِهِ لا ينامُ ولا ينبغي لهُ أنْ ينامَ، يَخْفِضُ القسطَ ويرفعُهُ، يُرْفَعُ إليهِ عملُ الليلِ قبلَ النهارِ، وعملُ النهارِ قبلَ الليلِ، لا تأخذُهُ سِنَةٌ ولا نومٌ، ولا يَضِلُّ ولا ينْسَى.
وهذا المشهدُ منْ أرفعِ مشاهدِ العارفينَ، وهوَ مشهدُ الربوبيَّةِ، وأعلى منهُ مشهدُ الإلهيَّةِ الذي هوَ مشهدُ الرسلِ وأتباعِهم الحُنَفاءِ، وهوَ شهادةُ أنْ لا إلهَ إلاَّ هوَ، وأنَّ إلهيَّةَ ما سِوَاهُ باطلٌ ومُحالٌ، كما أنَّ ربوبيَّةَ ما سواهُ كذلكَ، فلا أحدَ سواهُ يَسْتَحِقُّ أنْ يُؤَلَّهَ ويُعْبَدَ، ويُصَلَّى لهُ ويُسْجَدَ، ويَسْتَحِقُّ نهايَةَ الحبِّ معَ نهايَةِ الذلِّ لكمالِ أسمائِهِ وصفاتِهِ وأفعالِهِ، فهوَ المطاعُ وحدَهُ على الحقيقةِ، والمألوهُ وحدَهُ، ولهُ الحُكْمُ وحدَهُ.
فكلُّ عبوديَّةٍ لغيرِهِ باطلةٌ وعَناءٌ وضلالٌ، وكلُّ محبَّةٍ لغيرِهِ عذابٌ لصاحبِها، وكلُّ غنًى لغيرِهِ فقرٌ وفاقةٌ، وكلُّ عِزٍّ بغيرِهِ ذلٌّ وصَغارٌ، وكلُّ تكثُّرٍ بغيرِهِ قلَّةٌ وذلَّةٌ، فكما استحالَ أنْ يكونَ للخلقِ ربٌّ غيرُهُ، فكذلكَ استحالَ أنْ يكونَ لهم إلهٌ غيرُهُ، فهوَ الذي انتهتْ إليهِ الرَّغَبَاتُ، وتوجَّهَتْ نحوَهُ الطَّلَبَاتُ، ويستحيلُ أنْ يكونَ معهُ إلهٌ آخرُ؛ فإنَّ الإلهَ على الحقيقةِ هوَ الغنيُّ الصمدُ الكاملُ في أسمائِهِ وصفاتِهِ، الذي حاجةُ كلِّ أحدٍ إليهِ ولا حاجةَ بهِ إلى أحدٍ، وقيامُ كلِّ شيءٍ بهِ وليسَ قيامُهُ بغَيْرِهِ، ومن المُحالِ أنْ يحْصُلَ في الوجودِ اثنانِ كذلكَ، ولوْ كانَ في الوجودِ إلهَانِ لفسدَ نظامُهُ أعظمَ فسادٍ، واخْتَلَّ أعظمَ اختلالٍ، كما أنَّهُ يستحيلُ أنْ يكونَ لهُ فاعلانِ متساويانِ، كلٌّ منهما مُسْتَقِلٌّ بالفعلِ؛ فإنَّ استقلالَهُما يُنافي استقلالَهما، واستقلالَ أحدِهما يمنعُ ربوبيَّةَ الآخرِ. فتوحيدُ الربوبيَّةِ أعظمُ دليلٍ على توحيدِ الإلهيَّةِ؛ ولذلكَ وقعَ الاحتجاجُ بهِ في القرآنِ أكثرَ ممَّا وقعَ بغيرِهِ؛ لصِحَّةِ دلالَتِهِ وظهورِها وقبولِ العقولِ والفِطَرِ لها، ولاعترافِ أهلِ الأرضِ بتوحيدِ الربوبيَّةِ، وكذلكَ كانَ عُبَّادُ الأصنامِ يُقِرُّونَ بهِ، ويُنكرونَ توحيدَ الإلهيَّةِ ويقولونَ: {أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص: 5] معَ اعترافِهم بأنَّ اللهَ وحدَهُ هوَ الخالقُ لهم وللسماواتِ والأرضِ وما بينَهُما، وأنَّهُ المنفردُ بملكِ ذلكَ كُلِّهِ، فأرسلَ اللهُ تعالى الرسلَ يُذَكِّرُ بما في فِطَرِهم الإقرارُ بهِ منْ توحيدِهِ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، وأنَّهُم لوْ رجَعُوا إلى فِطَرِهِم وعقولِهم لدَلَّتْهُم على امتناعِ إلهٍ آخرَ معهُ واستحالَتِهِ وبُطْلانِهِ.
فمشهدُ الألوهيَّةِ هوَ مشهدُ الحُنَفَاءِ، وهوَ مشهدٌ جامعٌ للأسماءِ والصِّفَاتِ، ولذلكَ كانَ الاسمُ الدالُّ على هذا المعنى هوَ اسمَ الله جلَّ جلالُهُ؛ فإنَّ هذا الاسمَ هوَ الجامعُ، ولهذا تُضافُ الأسماءُ الحسنى كلُّها إليهِ فيُقالُ: الرحمنُ الرحيمُ العزيزُ الغفَّارُ القهَّارُ منْ أسماءِ اللهِ، ولا يُقَالُ: اللهُ منْ أسماءِ الرحمنِ.
قالَ اللهُ تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الأعراف: 180]، فهذا المشهدُ تجتمعُ فيهِ المشاهدُ كلُّها، وكلُّ مشهدٍ سواهُ فإنَّما هوَ مشهدٌ لصفةٍ منْ صفاتِهِ، فمَن اتَّسعَ قلبُهُ لمشهدِ الإلهيَّةِ وقامَ بحقِّهِ من التعَبُّدِ الذي هوَ كمالُ الحبِّ بكمالِ الذلِّ والتعظيمِ، والقيامُ بوظائفِ العبوديَّةِ، فقدْ تمَّ لهُ غناهُ بالإلهِ الحقِّ، وصارَ مِنْ أغنى العبادِ، ولسانُ حالِ مِثْلِ هذا يقولُ:

غَنِيتُ بلا مالٍ عن الناسِ كلِّهِم وإنَّ الغِنَى العالِي عن الشيءِ لا بِهِ

فيا لَهُ منْ غنًى ما أعظمَ خطرَهُ وأجلَّ قَدْرَهُ، تضاءَلَتْ دُونَهُ الممَالِكُ فما دُونَها، فصارتْ بالنسبةِ إليهِ كالظلِّ من الحاملِ لهُ، والطَّيْفِ المُوافِي في المنامِ الذي يأتي بهِ حديثُ النفسِ ويطْرُدُهُ الانتباهُ من النومِ) ([5]).

[فصلٌ]:
(فشهودُ [العبدِ] توحيدَ الربِّ تعالى وانفرادَهُ بالخلقِ ونفوذَ مشيئَتِهِ وجَرَيانَ قضائِهِ وقَدَرِهِ يفتحُ لهُ بابَ الاستعاذةِ ودوامِ الالتجاءِ إليهِ والافتقارِ إليهِ، وذلكَ يُدْنِيهِ منْ عَتَبةِ العبوديَّةِ ويطرَحُهُ بالبابِ فقيراً عاجزاً مسكيناً لا يملكُ لنفْسِهِ ضرًّا ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً.
وشهودُهُ أمرَهُ تعالى، ونهْيَهُ، وثوابَهُ، وعقابَهُ، يُوجِبُ لهُ الجِدَّ والتَّشْمِيرَ، وبذلَ الوُسْعِ، والقيامَ بالأمرِ، والرجوعَ على نفْسِهِ باللَّوْمِ، والاعترافَ بالتقصيرِ.
فيكونُ سيْرُهُ بينَ شهودِ العِزَّةِ والحكمةِ والقدرةِ الكاملةِ والعلمِ السابقِ وبينَ شهودِهِ التقصيرَ والإساءةَ منهُ وتطلُّبَ عيوبِ نفسِهِ وأعمالِها.
فهذا هوَ العبدُ الموَفَّقُ المُعانُ الملطوفُ بهِ المصنوعُ لهُ الذي أُقيمَ في مُقَامِ العبوديَّةِ، وضُمِنَ لهُ التوفيقُ.
وهذا هوَ مشهدُ الرسلِ صلواتُ اللهِ وسلامُهُ عليهم فهوَ مشهدُ أبيهِم آدمَ إذْ يقولُ: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)} [الأعراف: 23]، ومشهدُ أوَّلِ الرسلِ نوحٍ إذْ يقولُ: {رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47)} [هود: 47]، ومشهدُ إمامِ الحُنَفَاءِ وشيخِ الأنبياءِ إبراهيمَ صلواتُ اللهِ وسلامُهُ عليهم أجمعينَ إذْ يقولُ: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83)} [الشعراء: 78-83] وقالَ في دُعائِهِ: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35)} [إبراهيم: 35]، فعَلِمَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أنَّ الذي يحولُ بينَ العبدِ وبينَ الشركِ وعبادةِ الأصنامِ هوَ اللهُ لا ربَّ غيرُهُ، فسأَلَهُ أنْ يُجَنِّبَهُ وبَنِيهِ عبادةَ الأصنامِ.
وهذا هوَ مشهدُ موسى إذْ يقولُ في خطابِهِ لربِّهِ: {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155)} [الأعراف: 155]؛ أيْ: إنْ ذلكَ إلاَّ امتحانُكَ واختبارُكَ، كما يُقَالُ: فَتَنْتُ الذهبَ إذا امتحَنْتَهُ واختبَرْتَهُ، وليسَ من الفتنةِ التي هيَ الفعلُ المسيءُ كما في قولِهِ تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [البروج: 10] وكما في قولِهِ تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: 193]، فإنَّ تلكَ فتنةُ المخلوقِ؛ فإنَّ موسى أعلمُ باللهِ تعالى أنْ يُضِيفَ إليهِ هذهِ الفتنةَ، وإنَّما هيَ كالفتنةِ في قولِهِ: {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} [طه: 40]؛ أي: ابتليْنَاكَ واختبرْنَاكَ وصرَّفْنَاكَ في الأحوالِ التي قَصَّها اللهُ سُبحانَهُ علينا منْ لَدُنْ ولادَتِهِ إلى وقتِ خطابِهِ لهُ وإنـزالِهِ عليهِ كتابَهُ.
والمقصودُ أنَّ موسى صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ شهدَ توحيدَ الربِّ وانفرادَهُ بالخلقِ والحكمِ، وفعلَ السفهاءِ ومُباشرَتَهُم الشركَ، فتضرَّعَ إليهِ بعِزَّتِهِ وسُلطانِهِ وأضافَ الذنبَ إلى فاعلِهِ وجانِيهِ، ومِنْ هذا قولُهُ: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} [القصص: 16]، قالَ تعالى: {فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16)} [القصص: 16].
وهذا مشهدُ ذِي النُّونِ إذْ يقولُ: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)} [الأنبياء: 87]، فوحَّدَ رَبَّهُ تعالى ونـزَّهَهُ عنْ كلِّ عيبٍ وأضافَ الظلمَ إلى نفسِهِ.
وهذا مشهدُ صاحبِ سَيِّدِ الاستغفارِ إذْ يقولُ في دُعائِهِ: ((اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ بِذَنْبِي، فَاغْفِرْ لِي؛ إِنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلاَّ أَنْتَ)) ([6])، فأقرَّ بتوحيدِ الربوبيَّةِ المتضمِّنِ لانفرادِهِ سُبحانَهُ بالخلقِ وعمومِ المشيئةِ ونفوذِها، وتوحيدِ الإلهيَّةِ المتضمِّنِ لمحبَّتِهِ وعبادتِهِ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، والاعترافِ بالعبوديَّةِ المُتضمِّنِ للافتقارِ منْ جميعِ الوجوهِ إليهِ سُبحانَهُ. ثُمَّ قالَ: ((وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ))، فتضمَّنَ ذلكَ التزامَ شرعِهِ وأمْرِهِ ودينِهِ، وهوَ عهدُهُ الذي عَهِدَ إلى عبادِهِ، وتصديقُ وعْدِهِ وهوَ جزَاؤُهُ وثوَابُهُ، فتضمَّنَ التزامَ الأمرِ والتصديقَ بالموعودِ وهوَ الإيمانُ والاحتسابُ، ثُمَّ لمَّا علِمَ أنَّ العبدَ لا يُوَفِّي هذا المقامَ حقَّهُ الذي يصلحُ لهُ تعالى علَّقَ ذلكَ باستطاعَتِهِ وقدرتِهِ التي لا يتعدَّاها، فقالَ: ((مَا اسْتَطَعْتُ))؛ أيْ: ألتزمُ ذلكَ بحَسَبِ استطاعَتِي وقدرَتِي.
ثُمَّ شَهِدَ المشهدَيْنِ المذكورَيْنِ وهما مشهدُ القدرةِ والقوَّةِ، ومشهدُ التقصيرِ منْ نفسِهِ؛ فقالَ: ((أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ)) فهذهِ الكلمةُ تضمَّنَت المشهدَيْنِ معاً، ثُمَّ أضافَ النِّعمَ كلَّها إلى وليِّها وأهلِها والمبتدئِ بها، والذنبَ إلى نفسِهِ وعملِهِ، فقالَ: ((أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ وَأَبُوءُ بِذَنْبِي))، فأنتَ المحمودُ والمشكورُ الذي لهُ الثناءُ كلُّهُ والإحسانُ كلُّهُ، ومنهُ النعمُ كلُّها، فلكَ الحمدُ كلُّهُ ولكَ الثناءُ كلُّهُ ولكَ الفضلُ كلُّهُ، وأنا المذنبُ المسيءُ المعترفُ بذنْبِهِ المقرُّ بخطَئِهِ، كما قالَ بعضُ العارفينَ: العارفُ يسيرُ بينَ مُشاهدةِ المِنَّةِ من اللهِ، ومُطالعةِ عيبِ النفسِ والعملِ:
- فشهودُ المِنَّةِ يُوجبُ لهُ المحبَّةَ لربِّهِ سُبحانَهُ وحمدَهُ والثناءَ عليهِ.
- ومُطالعةُ عيبِ النفسِ والعملِ يُوجبُ استغفارَهُ ودوامَ توبَتِهِ وتضرُّعَهُ واستكانَتَهُ لربِّهِ سُبحانَهُ.
ثُمَّ لمَّا قامَ هذا بقلبِ الداعي وتوسَّلَ إليهِ بهذهِ الوسائلِ قالَ: ((فَاغْفِرْ لِي؛ فَإِنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ)) ) ([7]).

[فصلٌ]:
وجماعُ الأمرِ في ذلكَ إنَّما هوَ بتكميلِ عُبُوديَّتِهِ للهِ عزَّ وجلَّ في الظاهرِ والباطنِ، فتكونُ حركاتُ نفسِهِ وجسمِهِ كلُّها في محبوباتِ اللهِ، فكمالُ عبوديَّةِ العبدِ مُوَافَقَتُهُ لربِّهِ في محبَّتِهِ ما أحبَّهُ وبذْلُ الجهدِ في فعلِهِ، ومُوافقَتُهُ في كراهةِ ما كَرِهَهُ وبذْلُ الجهدِ في ترْكِهِ، وهذا إنَّما يكونُ للنفسِ المطمئنَّةِ لا للأمَّارةِ ولا للَّوَّامةِ، فهذا كمالٌ منْ جهةِ الإرادةِ والعملِ. وأمَّا منْ جهةِ العلمِ والمعرفةِ: فأنْ تكونَ بصيرَتُهُ مُنْفَتِحَةً في معرفةِ الأسماءِ والصِّفَاتِ والأفعالِ، لهُ شهودٌ خاصٌّ فيها مُطَابِقٌ لما جاءَ بهِ الرسولُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ لا مخالفٌ لهُ، فإنَّهُ بحسَبِ مخالفتِهِ لهُ في ذلكَ يقعُ الانحرافُ ويكونُ معَ ذلكَ قائماً بأحكامِ العبوديَّةِ الخاصَّةِ التي تقتضِيها كلُّ صفةٍ بخُصوصِها.
وهذا سلوكُ الأكياسِ الذينَ همْ خُلاصةُ العالمِ، والسالكونَ على هذا الدَّرْبِ أفرادٌ من العالمِ، طَرِيقٌ سهلٌ قريبٌ مُوصِلٌ، طريقٌ آمِنٌ، أكثرُ السالكينَ في غفلةٍ عنهُ.
لكنْ يستدعي رسوخاً في العلمِ ومعرفةً تامَّةً بهِ، وإقداماً على ردِّ الباطلِ المخالفِ لهُ ولوْ قالَهُ مَنْ قالَهُ. وليسَ عندَ أكثرِ الناسِ سِوَى رُسُومٍ تلَقَّوْهَا عنْ قومٍ مُعَظَّمِينَ عندَهُم، ثُمَّ لإحسانِ ظنِّهِم بهم قدْ وقَفُوا عندَ أقوالِهم ولمْ يتجاوَزُوها إلى غيرِها، فصارَتْ حِجَاباً لهم , وأيُّ حجابٍ.
فمَنْ فتحَ اللهُ بصيرةَ قلبِهِ وإيمانِهِ حتَّى خرَقَها وجاوَزَها إلى مُقتضى الوحيِ والفطرةِ والعقلِ فقدْ أُوتِيَ خيراً كثيراً، ولا يُخَافُ عليهِ إلاَّ منْ ضعفِ همَّتِهِ، فإذا انْضَافَ إلى ذلكَ الفتحِ هِمَّةٌ عاليَةٌ فذاكَ السابقُ حقًّا، واحدُ الناسِ بزمانِهِ، لا يُلْحَقُ شَأْوُهُ ولا يُشَقُّ غُبَارُهُ.
فشتَّانَ ما بينَ مَنْ يتلقَّى أحوالَهُ ووارِدَاتِهِ عن الأسماءِ والصِّفَاتِ، وبينَ مَنْ يتلقَّاها عن الأوضاعِ الاصطلاحِيَّةِ والرسومِ أوْ عنْ مجرَّدِ ذَوْقِهِ ووَجْدِهِ، إذا استحسنَ شيئاً قالَ: هذا هوَ الحقُّ.
فالسيرُ إلى اللهِ منْ طريقِ الأسماءِ والصِّفَاتِ شأنُهُ عَجَبٌ، وفتْحُهُ عجبٌ، صاحِبُهُ قدْ سبَقَتْ لهُ السعادةُ وهوَ مُسْتَلْقٍ على فراشِهِ غيرُ تَعِبٍ ولا مكدودٍ ولا مُشَتَّتٍ عنْ وطنِهِ ولا مشرَّدٍ عنْ سكنِهِ {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النمل: 88].
وليسَ العجبُ منْ سائرٍ في ليلِهِ ونهارِهِ وهوَ في الثرى لمْ يَبْرَحْ منْ مكانِهِ، وإنَّما العجبُ منْ ساكنٍ لا يُرَى عليهِ أثرُ السفرِ وقدْ قطعَ المراحلَ والمفاوزَ.
- فسائرٌ قدْ ركِبَتْهُ نفسُهُ فهوَ حامِلُها سائرٌ بها مَلْبُوكٌ، يُعاقبُها وتُعَاقِبُهُ، ويَجُرُّها وتهرُبُ منهُ، ويخطُو بها خطوةً إلى أمامِهِ فتجذِبُهُ خطوتَيْنِ إلى ورائِهِ، فهوَ معَها في جَهدٍ وهيَ معهُ كذلكَ.
- وسائرٌ قدْ رَكِبَ نفسَهُ وملكَ عِنانَها فهوَ يسُوقُها كيفَ شاءَ وأينَ شاءَ لا تلْتَوِي عليهِ ولا تنجذبُ ولا تهرُبُ منهُ، بلْ هيَ معهُ كالأسيرِ الضعيفِ في يدِ مالكِهِ وآسرِهِ، وكالدابَّةِ الرِّيضةِ المُنْقَادةِ في يدِ سائِسِها وراكِبِها، فهيَ منقادةٌ معهُ حيثُ قادَها، فإذا رامَ التقدُّمَ جَمَزَتْ بهِ وأسْرَعَتْ، فإذا أرْسَلَهَا سَارَتْ بهِ وجَرَتْ في الحَلْبةِ إلى الغايَةِ , ولا يرُدُّها شيءٌ.
فتسيرُ بهِ وهوَ ساكنٌ على ظهرِها، ليسَ كالذي نـزلَ عنها فهوَ يجرُّها بلِجامِهِ، ويَشْحَطُها ولا تنشَحِطُ، فشتَّانَ ما بينَ المسافرَيْنِ. فتأمَّلْ هذا المَثَلَ؛ فإنَّهُ مطابقٌ لحالِ السائِرَيْنِ … واللهُ يختصُّ برحمَتِهِ مَنْ يشاءُ) ([8]).

[فصلٌ]:
(وها هنا سِرٌّ بديعٌ وهوَ: أنَّ مَنْ تعلَّقَ بصفةٍ منْ صفاتِ الربِّ تعالى أدْخَلَتْهُ تلكَ الصفةُ عليهِ وأوصَلَتْهُ إليهِ...
والربُّ تعالى يحبُّ أسماءَهُ وصفاتِهِ، ويحبُّ مُقتضى صفاتِهِ وظهورَ آثارِها في العبدِ؛ فإنَّهُ جميلٌ يحبُّ الجمالَ،... كريمٌ يحبُّ أهلَ الكرمِ، عليمٌ يحبُّ أهلَ العلمِ، وِتْرٌ يحبُّ أهلَ الوترِ، قويٌّ والمؤمنُ القويُّ أحبُّ إليهِ من المؤمنِ الضعيفِ، صبورٌ يحبُّ الصابرينَ، شكورٌ يحبُّ الشاكرينَ) ([9]).
(وهوَ سُبحانَهُ وتعالى رحيمٌ يحبُّ الرحماءَ، وإنَّما يرحمُ منْ عبادِهِ الرحماءَ، وهوَ سِتِّيرٌ يحبُّ منْ يسْتُرُ على عبادِهِ، وعَفُوٌّ يحبُّ مَنْ يعْفُو عنهم، وغفورٌ يحبُّ مَنْ يغفرُ لهم، ولطيفٌ يحبُّ اللطيفَ منْ عبادِهِ، ويَبْغَضُ الفظَّ الغليظَ القاسيَ الجَعْظَرِيَّ الجَوَّاظَ، ورفيقٌ يحبُّ الرفقَ، وحليمٌ يحبُّ الحِلْمَ، وبَرٌّ يحبُّ البِرَّ وأهلَهُ، وعَدْلٌ يحبُّ العَدْلَ، وقابلُ المعاذيرِ يحبُّ مَنْ يقبلُ معاذِيرَ عبادِهِ([10])
ويُجَازِي عبدَهُ بحسَبِ هذهِ الصِّفَاتِ فيهِ وُجُوداً وعدماً، فمَنْ عَفَا عَفَا عنهُ، ومَنْ غفرَ غفرَ لهُ، ومَنْ سامحَ سامَحَهُ، ومَنْ حَاقَقَ حَاقَقَهُ، ومَنْ رَفَقَ بعبادِهِ رَفَقَ بهِ، ومَنْ رَحِمَ خلْقَهُ رَحِمَهُ، ومَنْ أحسنَ إليهم أحسنَ إليهِ، ومَنْ جادَ عليهم جَادَ عليهِ، ومَنْ نفعَهُم نفَعَهُ، ومَنْ ستَرَهُم ستَرَهُ، ومَنْ صفَحَ عنهم صفَحَ عنهُ، ومَنْ تتَبَّعَ عَوْرَتَهُم تتَبَّعَ عورَتَهُ، ومَنْ هتَكَهُم هتَكَهُ وفضَحَهُ، ومَنْ منَعَهُم خيْرَهُ منَعَهُ خيْرَهُ، ومَنْ شاقَّ شاقَّ اللهُ تعالى بهِ، ومَنْ مكرَ مكرَ بهِ، ومَنْ خادعَ خادَعَهُ، ومَنْ عاملَ خلْقَهُ بصفةٍ عامَلَهُ اللهُ تعالى بتلكَ الصفةِ بعينِها في الدنيا والآخرةِ.
فاللهُ تعالى لعبدِهِ على حسَبِ ما يكونُ العبدُ لخلقِهِ، ولهذا جاءَ في الحديثِ: ((مَنْ سَتَرَ مُسْلِماً سَتَرَهُ اللهُ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَمَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، [و] مَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللهُ تَعَالَى حِسَابَهُ)) ([11]). وَ((مَنْ أَقَالَ نَادِماً أَقَالَ اللهُ تَعَالَى عَثْرَتَهُ)) ([12])، وَ ((مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِراً أَوْ وَضَعَ عَنْهُ أَظَلَّهُ اللهُ تَعَالَى فِي ظِلِّ عَرْشِهِ)) ([13])؛ لأنَّهُ لمَّا جعَلَهُ في ظلِّ الإنظارِ والصبرِ، ونجَّاهُ منْ حرِّ المُطالبةِ، وحرارةِ تكلُّفِ الأداءِ معَ عُسْرَتِهِ وعجزِهِ، نَجَّاهُ اللهُ تعالى منْ حرِّ الشمسِ يومَ القيامةِ إلى ظلِّ العرشِ.
وكذلكَ الحديثُ الذي في الترمذيِّ وغيرِهِ، عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أنَّهُ قالَ في خُطبتِهِ يوماً: ((يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلِ الإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ، لا تُؤْذُوا الْمُسْلِمِينَ، وَلا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ؛ فَإِنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ تَتَبَّعَ اللهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ تَتَبَّعَ اللهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ بَيْتِهِ)) ([14]).
فكما تَدِينُ تُدَانُ، وكنْ كيفَ شئتَ؛ فإنَّ اللهَ تعالى لكَ كما تكونُ أنتَ لهُ ولعبادِهِ.
ولمَّا أظهرَ المنافقونَ الإسلامَ وأسرُّوا الكفرَ أظهرَ اللهُ تعالى لهم يومَ القيامةِ نوراً على الصراطِ، وأظهرَ لهم أنَّهُم يَجُوزُونَ الصراطَ، وأسَرَّ لهم أنْ يُطْفِئَ نُورَهُم وأنْ يُحَالَ بينَهم وبينَ الصراطِ منْ جِنْسِ أعمالِهم.
وكذلكَ مَنْ يُظْهِرُ للخلقِ خلافَ ما يعلَمُهُ اللهُ فيهِ؛ فإنَّ اللهَ تعالى يُظْهِرُ لهُ في الدنيا والآخرةِ أسبابَ الفلاحِ والنجاحِ والفوزِ، ويُبْطِنُ لهُ خلافَها.
وفي الحديثِ: ((مَنْ رَاءَى رَاءَى اللهُ بِهِ، وَمَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللهُ بِهِ)) ([15]) ([16]) *
).[المرتبع الأسنى: ؟؟]


([1]) رَوَاهُ مُسْلِمٌ في كتابِ البرِّ والصلةِ والآدابِ / بابُ تحريمِ الظلمِ، من حديثِ أبي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْه.
([2]) مِفْتاحُ دارِ السعادةِ (2/510-513).
([3]) (رَأَى) هنا هي (رأى) العِلْمِيَّةُ المُتعدِّيَةُ إلى مفعولَينِ، قال الشاعِرُ:
رَأَيْتُ اللهَ أَكْبَرَ كُلِّ شَيْءٍ = مُحاوَلَةً وَأَكْثَرَهُمْ جُنودَا
([4]) مَدارِجُ السَّالكِينَ (2/422).
([5]) طَرِيقُ الهِجرتَيَنِ (42-45).
([6]) رَوَاهُ الإمامُ أَحْمَدُ (16662)، والبُخَارِيُّ في كتابِ الدَّعوَاتِ / بابُ أفضلِ الاستغفارِ (6306)، والتِّرْمِذِيُّ في كتابِ الدَّعَواتِ / بابُ (15)، الحديثُ رقْمُ (3393)، والنَّسَائِيُّ في كتابِ الاستعاذةِ من شرِّ ما صَنَعَ (553) من حديثِ شدادِ بنِ أَوسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْه.
([7]) طَرِيقُ الهِجرتَيَنِ (169-171).
([8]) طَرِيقُ الهِجرتَيَنِ (220-222).
([9]) عِدَّةُ الصابرينَ (56).
وقال -رَحِمَهُ اللهُ- في كتابِهِ الدَّاءِ والدَّواءِ (129-130): (فالغَيورُ قَد وَافَقَ رَبَّهُ سُبْحانَهُ في صِفةٍ مِن صِفاتِهِ، ومَنْ وَافَقَ اللهَ في صفةٍ من صفاتِه قادَتْهُ تلكَ الصفةُ إِلَيْهِ بزِمامِهَا، وأَدْخَلَتْهُ على ربِّه، وأَدْنَتْهُ منه، وقَرَّبَتْهُ مِنْ رَحمتِهِ، وصَيَّرَتْهُ مَحبوبًا له، فإنه سُبحانَهُ رحيمٌ يُحِبُّ الرُّحماءَ، كَرِيمٌ يُحِبُّ الكُرماءَ، عَلِيمٌ يُحِبُّ العُلماءَ، قَوِيٌّ يُحِبُّ المؤمنَ القويَّ، وهو أَحَبُّ إليه من المؤمنِ الضَّعِيفِ، حَيِيٌّ يُحِبُّ أَهْلَ الحَياءِ، جَمِيلٌ يُحِبُّ أَهْلَ الجَمالِ، وِتْرٌ يُحِبُّ أَهْلَ الوِتْرِ).
([10]) وقالَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعالَى- في كتابِهِ عدةِ الصابرينَ (56): (وإذا كانَ سُبحانَهُ يُحِبُّ المُتَّصِفينَ بآثارِ صِفاتِهِ فهُو مَعَهُم بحَسَبِ نَصيبِهِم من هذا الاتصافِ، فهذه المَعِيَّةُ الخاصَّةُ عبَّرَ عنها بقولِهِ: (كُنتُ لَهُ سَمْعًا وبَصَرًا ويَدًا ومُؤَيِّدًا).
([11]) جزءٌ من حديثٍ رَوَاهُ الإمامُ أَحْمَدُ (7379)، ومسلمٌ في كتابِ الذكرِ والدعاءِ / بابُ فضـلِ الاجتماعِ على تلاوةِ القـرآنِ (6793)، وابْنُ مَاجَهْ في المُقدِّمةِ / بابُ فضلِ العلماءِ والحثِّ على الطَّلَبِ (225) مِن حديثِ الأعمشِ، عن أبي صالحٍ، عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْه، إلا أن تَرْتِيبَ الخِلالِ مُخْتَلِفٌ.
([12]) رواه أبو داودَ في كتابِ البُيوعِ / بابٌ في فضلِ الإقالةِ (3456)، وابْنُ مَاجَهْ في كتابِ التِّجاراتِ / بابُ الإقالةِ (2199) بلفظٍ مُقارِبٍ.
قال البُوصِيرِيُّ: هذا إسنادٌ صحيحٌ على شرطِ مُسلمٍ.
([13]) رَوَاهُ الإمامُ أَحْمَدُ (8494)، والتِّرْمِذِيُّ في كتابِ البُيوعِ/ بابُ ما جاءَ في إنظارِ المُعسِرِ والرِّفْقِ به (1306) من حديثِ أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْه.
وهو عند مُسلمٍ من حديثِ أبي اليَسَرِ رَضِيَ اللهُ عَنْه من دُونِ ذِكرِ العَـرشِ، كتابُ الزهـدِ / بابُ حديثِ جَـابرٍ الطويلِ (7437).
([14]) رَوَاهُ الإمامُ أَحْمَدُ (19277)، والتِّرْمِذِيُّ في كتابِ البرِّ والصلةِ / بابُ ما جاءَ في تعظيمِ المؤمنِ (2032)، وأبو داودَ في كتابِ الأدبِ /بابٌ في الغِيبَةِ (4870) من حديثِ أبي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْه.
([15]) رواه مسلمٌ كتابُ الزهدِ / بابُ مَنْ أَشْرَكَ في عَمَلِهِ غَيْرَ اللهِ (7401) من حديثِ ابنِ عباسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهما.
([16]) الوابلُ الصَّيِّبُ (68-69).
* مُلحَقٌ: وقالَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعالَى- في مَدارجِ السالكينَ (2/64ـ66): (فصلٌ: ومِن منازلِ (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ: مَنْزِلَةُ المُرَاقَبَةِ) قال تعالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكِمْ فَاحْذَرُوهُ} وقالَ تعالَى: {وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا} وقال تعالَى {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ} وقالَ تعالَى: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرَى} وقال تعالَى: {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} وقال تعالَى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدورِ}، إلى غيرِ ذلك من الآياتِ وفي حديثِ جِبرِيلَ عليه السلامُ: أنه سألَ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ عن الإحسانِ؟ فقال له: ((أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ)).
المراقبةُ دَوامُ عِلمِ العَبْدِ، وتَيَقُّنُهُ باطلاعِ الحقِّ سُبحانَهُ وتَعالَى على ظَاهِرِه وباطِنه، فَاسْتِدَامَتُهُ لهذا العلمِ واليَقِينِ: هي (المُراقَبَةُ) وهي ثَمْرَةُ عِلْمِهِ بأنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ رَقِيبٌ عَليهِ، ناظرٌ إليه، سَامِعٌ لقولِهِ: وهو مُطَّلِعٌ على عَمَلِهِ كُلَّ وَقْتٍ وكُلَّ لحظةٍ وكُلَّ نَفَسٍ وكُلَّ طَرْفَةِ عَينٍ، والغافلُ عن هذا بمَعْزِلٍ عن حالِ أهلِ البداياتِ، فكيف بحالِ المُريدينَ؟ فكيفَ بحالِ العارفينَ؟
وقال الجَرِيرِيُّ: مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بَيْنَهُ وبينَ اللهِ تَعالَى التَّقْوَى والمُراقَبَةُ: لم يَصِلْ إلى الكشفِ والمشاهدةِ. وقيلَ: مَنْ رَاقَبَ اللهَ في خواطِرِه، عَصَمَهُ في حرَكاتِ جوارِحِه، وقيلَ لبعضِهِم: مَتَى يَهُشُّ الرَّاعي غَنَمَهُ بعَصاهُ عَنْ مَراتِعِ الهَلَكَةِ؟ فقالَ: إذا عَلِمَ أنَّ عليه رَقِيبًا.
وقالَ الجُنَيْدُ: مَنْ تَحَقَّقَ في المراقبةِ خَافَ على فواتِ لَحظةٍ مِن رَبِّهِ لا غَيْرُ، وقال ذو النُّونِ: علامةُ المراقبةِ إِيثارُ ما أَنْزَلَ اللهُ، وتعظيمُ ما عَظَّمَ اللهُ، وتصغيرُ ما صَغَّرَ اللهُ، وقيلَ: الرجاءُ يُحَرِّكُ إلى الطاعةِ، والخوفُ يُبْعِدُ عن المعاصِي، والمُراقَبَةُ تُؤَدِّيكَ إلى طريقِ الحقائقِ.
وقيلَ: المُراقَبَةُ مراعاةُ القلبِ لمُلاحَظَةِ الحَقِّ معَ كُلِّ خَطْرَةٍ وخُطْوَةٍ، وقالَ الجَرِيرِيُّ: أَمْرُنَا هذا مَبْنِيٌّ على فَصلَينِ: أن تُلْزِمَ نَفْسَكَ المُراقَبةَ للهِ، وأن يكونَ العِلْمُ على ظاهِرِكَ قَائمًا، وقال إبراهيمُ الخَوَّاصُ: المُراقبةُ خُلوصُ السِّرِّ والعلانِيَةِ للهِ عَزَّ وجل. وقيلَ: أَفْضَلُ ما يُلْزِمُ الإنسانُ نَفْسَهُ في هذه الطريقِ: المُحاسَبَةُ والمُراقَبَةُ، وسياسةُ عَمَلِهِ بالعِلمِ، وقال أبو حَفْصٍ لأبي عُثْمَانَ النَّيْسَابُورِيِّ: إذا جَلَسْتَ للناسِ فكُنْ وَاعِظًا لقَلْبِكَ ونَفْسِكَ، ولا يَغُرَّنَّكَ اجتماعُهُم عليكَ، فإنهم يُراقِبُونَ ظَاهِرَكَ، واللهُ يُرَاقِبُ بَاطِنَك.
وأربابُ الطريقِ مُجْمِعُونَ على أن مُراقَبةَ اللهِ تعَالَى في الخواطِرِ: سَبَبٌ لحِفْظِهَا في حَرَكاتِ الظواهرِ: فمَنْ رَاقَبَ اللهَ في سِرِّهِ، حَفِظَهُ اللهُ في حَرَكَاتِهِ في سِرِّه وعَلانِيَتِهِ.
والمراقبةُ: هي التعبُّدُ باسمِه (الرقيبِ) الحَفِيظِ، العليمِ، السَّمِيعِ، البَصِيرِ، فمَنْ عَقَلَ هذه الأسماءَ، وتَعَبَّدَ بمُقْتَضاهَا: حَصَلَتْ لَهُ المُراقَبَةُ. واللهُ أَعْلَمُ).


رد مع اقتباس
  #4  
قديم 14 رمضان 1438هـ/8-06-2017م, 10:04 AM
جمهرة علوم العقيدة جمهرة علوم العقيدة غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: May 2017
المشاركات: 1,193
افتراضي

بيانِ بعضِ ما تَضَمَّنَتْهُ فَرِيضةُ الصلاةِ مِنْ لَطَائِفِ التَّعَبُّدِ للهِ تَعَالى بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وصفاتِهِ الْعُلَى

قال ابن القيم محمد بن أبي بكر الزرعي الدمشقي (ت:751هـ) كما في المرتبع الأسنى: (البابُ السابعَ عشرَ: في بيانِ بعضِ ما تَضَمَّنَتْهُ فَرِيضةُ الصلاةِ مِنْ لَطَائِفِ التَّعَبُّدِ للهِ تَعَالى بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وصفاتِهِ الْعُلَى.
(لا رَيْبَ أَنَّ الصلاةَ قُرَّةُ عُيونِ المحبِّينَ، ولَذَّةُ أرواحِ الْمُوَحِّدِينَ، ومَحَكُّ أحوالِ الصادقينَ، ومِيزانُ أحوالِ السالكينَ، ورحمتُهُ الْمُهداةُ إلى عَبِيدِهِ هَدَاهُم إليها وعَرَّفَهُم بِهَا؛ رحمةً بهم وإكراماً لهم لِيَنَالُوا بها شَرَفَ كَرامتِهِ، والفوزَ بقُرْبِهِ، لا حاجةً منهُ إليهم، بلْ... مَنًّا وفضلاً منهُ عليهمْ، وتَعَبَّدَ بها القلبَ والجوارحَ جميعاً، وجَعَلَ حَظَّ القلبِ منها أَكْمَلَ الْحَظَّيْنِ وأَعْظَمَهما، وهوَ إقبالُهُ على ربِّهِ سُبحانَهُ وفَرَحُهُ وتَلذُّذهُ بقُرْبِهِ، وتَنعُّمُهُ بِحُبِّهِ، وابتهاجُهُ بالقيامِ بينَ يَديهِ، وانصرافُهُ حالَ القيامِ بالعُبوديَّةِ عن الالتفاتِ إلى غيرِ مَعبودِهِ، وتَكميلُ حُقوقِ عُبوديَّتِهِ حتَّى تَقَعَ على الوَجْهِ الذي يَرضاهُ.
ولَمَّا امْتَحَنَ سُبحانَهُ عَبْدَهُ بالشهواتِ وأسبابِها مِنْ داخلٍ فيهِ وخارجٍ عنهُ اقْتَضَتْ تَمامُ رَحمتِهِ بهِ وإحسانُهُ إليهِ أنْ هيَّأَ لهُ مَأْدُبَةً قدْ جَمَعَتْ مِنْ جميعِ الألوانِ والتُّحَفِ والْخِلَعِ والعطايا، ودَعاهُ إليهِ كُلَّ يومٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، وجَعَلَ كلَّ لونٍ مِنْ ألوانِ تلكَ الْمَأْدُبَةِ لَذَّةً ومَنفعةً ومَصلحةً لهذا العَبْدِ الذي قدْ دَعاهُ إلى الْمَأْدُبَةِ ليستْ في اللونِ الآخَرِ لتَكْمُلَ لَذَّةُ عَبْدِهِ في كلِّ لونٍ مِنْ ألوانِ العُبُوديَّةِ، ويُكْرِمَهُ بكلِّ صِنْفٍ مِنْ أصنافِ الكرامةِ، ويكونَ كلُّ فِعْلٍ مِنْ أفعالِ تلكَ العُبوديَّةِ مُكَفِّراً لِمَذمومٍ كانَ يَكْرَهُهُ بإزائِهِ، وليُثِيبَهُ عليهِ نوراً خاصًّا وقُوَّةً في قلبِهِ وجَوارِحِهِ وثواباً خاصًّا يومَ لِقَائِهِ.
فيَصْدُرُ الْمَدْعُوُّ مِنْ هذهِ الْمَأْدُبَةِ وقدْ أَشْبَعَهُ وأَرواهُ، وخَلَعَ عليهِ بخِلَعِ القَبُولِ وأَغناهُ؛ لأنَّ القلبَ كانَ قَبْلُ قدْ نالَهُ مِن القَحْطِ والْجَدْبِ والجوعِ والظَّمَأِ والعُرْيِ والسَّقَمِ ما نَالَهُ، فأَصْدَرَهُ مِنْ عندِهِ وقدْ أَغناهُ عن الطعامِ والشرابِ واللِّباسِ والتُّحَفِ ما يُغْنِيهِ.
ولَمَّا كانت الجُدوب مُتتابعةً، وقَحْطُ النفوسِ مُتوالياً، جَدَّدَ لهُ الدعوةَ إلى هذهِ الْمَأْدُبَةِ وقتاً بعدَ وقتٍ رَحمةً منهُ بهِ، فلا يَزالُ مُسْتَسْقِياً مَنْ بِيَدِهِ غَيثُ القلوبِ وسَقْيُها، مُسْتَمْطِراً سَحائبَ رَحمتِهِ؛ لِئَلاَّ يَيْبَسَ ما أَنْبَتَتْهُ لهُ تلكَ مِنْ كَلأِ الإيمانِ وعُشْبِهِ وثِمارِهِ، ولئلا تَنْقَطِعَ مادَّةُ النباتِ.
والقلبُ في استسقاءٍ واستمطارٍ، هكذا دائماً يَشْكُو إلى ربِّهِ جَدْبَهُ وقَحْطَهُ وضَرورتَهُ إلى سُقْيَا رَحمتِهِ، وغَيْثِ بِرِّهِ فهذا دَأْبُ العبدِ أيَّامَ حياتِهِ.
فإنَّ الغفلةَ التي تَنْـزلُ بالقلبِ هيَ القَحْطُ والجدْبُ، فما دامَ في ذِكْرِ اللهِ والإقبالِ عليهِ فغَيْثُ الرحمةِ واقعٌ عليهِ كالمطَرِ المتدارِكِ، فإذا غَفَلَ نالَهُ مِن القحْطِ بِحَسَبِ غَفْلَتِهِ قِلَّةً وكَثْرَةً، فإذا تَمَكَّنَت الغَفلةُ واستَحْكَمَت صارتْ أَرْضُهُ مَيِّتَةً، وسَنَتُهُ جَرْدَاءَ يَابسةً، وحريقُ الشهواتِ فيها مِنْ كلِّ جانبٍ كالسمايمِ.
وإذا تدارَكَ عليهِ غيثُ الرحمةِ اهتزَّتْ أَرْضُهُ وربَتْ وأَنْبَتَتْ مِنْ كلِّ زَوْجٍ بَهيجٍ، فإذا نَالَهُ القَحْطُ والجدْبُ كانَ بِمَنْـزِلَةِ شَجرةٍ رُطُوبَتُها ولِينُها وثِمَارُها مِن الماءِ، فإذا مُنِعَتْ مِن الماءِ يَبِسَتْ عُروقُها وذَبَلَتْ أغصانُها، وحُبِسَتْ ثِمَارُها، ورُبَّمَا يَبِسَت الأغصانُ والشجرةُ، فإذا مَدَدْتَ منها غُصْناً إلى نفسِكَ لم يَمْتَدَّ ولم يَنْقَدْ لكَ وانْكَسَرَ، فحينئذٍ تَقتَضِي حِكمةُ قَيِّمِ البستانِ قَطْعَ تلكَ الشجرةِ وجَعْلَها وَقُوداً للنارِ، فكذلكَ القلبُ، إِنَّمَا يَيْبَسُ إذا خَلا مِنْ توحيدِ اللهِ وحُبِّهِ ومَعرفتِهِ وذِكْرِهِ ودُعائِهِ فتُصيبُهُ حَرارةُ النفسِ ونارُ الشهواتِ فتَمتنعُ أغصانُ الجوارحِ مِن الامتدادِ إذا مَدَدْتَهَا والانقيادِ إذا قُدْتَهَا، فلا تَصْلُحُ بعدُ هيَ والشجرةُ إلاَّ للنارِ. {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22)} [الزمر: 22].
فإذا كانَ القلبُ ممطوراً بِمَطَرِ الرحمةِ كانت الأغصانُ ليِّنَةً مُنقادةً رَطْبةً، فإذا مَدَدْتَهَا إلى أَمْرِ اللهِ انقادَتْ مَعَكَ، وأَقْبَلَتْ سريعةً لَيِّنَةً وَادِعةً، فجَنَيْتَ منها مِنْ ثمارِ العُبوديَّةِ ما يَحْمِلُهُ كلُّ غُصْنٍ مِنْ تلكَ الأغصانِ، ومادَّتُها مِنْ رُطوبةِ القلبِ وَرِيِّهِ، فالمادَّةُ تَعملُ عَمَلَها في القلبِ والجوارحِ، وإذا يَبِسَ القلبُ تَعَطَّلَت الأغصانُ مِنْ أعمالِ الْبِرِّ؛ لأنَّ مادَّةَ القلبِ وحياتَهُ قد انْقَطَعَتْ منهُ فَلَمْ تَنْتَشِرْ في الجوارحِ، فتَحْمِلُ كلُّ جارحةٍ ثَمَرَها مِن العُبُودِيَّةِ، وللهِ في كلِّ جارحةٍ مِنْ جوارحِ العبدِ عُبودِيَّةٌ تَخُصُّها، وطاعةٌ مَطلوبةٌ منها، خُلِقَتْ لأجْلِها وهُيِّئَتْ لها.
والناسُ بعدَ ذلكَ ثلاثةُ أقسامٍ:
- أحدُها: مَن استَعْمَلَ تلكَ الجوارحَ فيما خُلِقَتْ لهُ وأُرِيدَ منها. فهذا هوَ الذي تاجَرَ اللهَ بأربحِ التجارةِ، وباعَ نفسَهُ للهِ بأربحِ البيعِ. والصلاةُ وُضِعَتْ لاستعمالِ الجوارحِ، جميعِها في العُبوديَّةِ تَبَعاً لقيامِ القلبِ بها.
- الثاني: مَن استَعْمَلَهَا فيما لم تُخْلَقْ لهُ، ولم [يُخْلَقْ](1) لها، فهذا هوَ الذي خابَ سَعْيُهُ وخَسِرَتْ تِجارتُهُ، وفَاتَهُ رِضَى ربِّهِ عنهُ، وجزيلُ ثوابِهِ، وحَصَلَ على سَخَطِهِ وأليمِ عِقابِهِ.
- الثالثُ: مَنْ عَطَّلَ جَوارِحَهُ وأَماتَهَا بالبَطالةِ، فهذا أيضاً خاسرٌ أعظمَ خَسارةٍ؛ فإنَّ العبدَ خُلِقَ للعبادةِ والطاعةِ لا للبَطالةِ، وأَبْغَضُ الخلْقِ إلى اللهِ البطَّالُ الذي لا في شُغْلِ الدنيا ولا في سَعْيِ الآخرةِ، فهذا كَلٌّ على الدنيا والدِّينِ.
* * *
فالأول: كرجُلٍ أَقْطَعَ أرضاً واسعةً وأُعِينَ بآلاتِ الْحَرْثِ والبِذَارِ، وأُعْطِي ما يَكفِيهَا لسَقْيِها فحَرَثَها وهَيَّأَهَا للزراعةِ وبَذَرَ فيها مِنْ أنواعِ الغِلالِ، وغَرَسَ فيها مِنْ أنواعِ الثمارِ والفواكِهِ المختلِفةِ الأنواعِ، ثُمَّ لم يُهْمِلْهَا بلْ أقامَ عليها الحرَسَ وحَفِظَهَا مِن الْمُفْسِدِينَ، وجَعَلَ يَتَعَاهَدُها كلَّ يومٍ فيُصْلِحُ ما فَسَدَ منها، ويَغْرِسُ عِوَضَ ما يَبِسَ، ويَنْفِي دَغَلَها، ويَقْطَعُ شَوْكَها، ويَستعينُ بِمُغِلِّها على عِمَارَتِها.
والثاني: بِمَنْـزِلَةِ رَجُلٍ أَخَذَ تلكَ الأرضَ فجَعَلَها مَأْوًى للسِّباعِ والهوامِّ ومُطَّرَحاً للجِيَفِ والأَنْتَانِ، وجَعَلَها مَعْقِلاً يَأْوِي إليهِ كلُّ مُفْسِدٍ ومُؤذٍ ولِصٍّ، وأَخَذَ ما أُعِينَ بهِ على بِذَارِها وصَلاحِها فصَرَفَهُ مَعونةً ومَعيشةً لِمَنْ فيها مِنْ أهلِ الشرِّ والفسادِ.
والثالثُ: بمنـزلة رجل عطَّلها وأَهْمَلَها وأَرْسَلَ ذلكَ الماءَ ضَائعاً في القِفَارِ والصَّحارِي، فقَعَدَ مَذموماً مَحْسوراً. فهذا مِثالُ أهلِ الغفلةِ.
والذي قَبْلَهُ مِثالُ أهلِ الخِيانةِ والجِنايَةِ.
والأوَّلُ مِثالُ أهلِ اليَقظةِ والاستعدادِ لِمَا خُلِقُوا لهُ.
فالأول: إذا تَحَرَّكَ أوْ سَكَنَ أوْ قامَ أوْ قَعَدَ أوْ أَكَلَ أوْ شَرِبَ أوْ نامَ أوْ لَبِسَ أوْ نَطَقَ أوْ سَكَتَ كانَ ذلكَ كلُّهُ لهُ لا عليهِ، وكان في ذِكْرٍ وطاعةٍ وقُربةٍ ومَزيدٍ.
والثاني: إذا فَعَلَ ذلكَ كانَ عليهِ لا لهُ، وكان في طَرْدٍ وإبعادٍ وخُسرانٍ.
والثالثُ: إذا فَعَلَ ذلكَ كانَ في غَفْلَةٍ وبَطالةٍ وتفريطٍ.
* * *
فالأوَّلُ: يَتقلَّبُ فيما يَتقلَّبُ فيهِ بِحُكْمِ الطاقةِ والقُرْبَةِ.
والثاني: يَتَقَلَّبُ في ذلكَ بِحُكْمِ الخيانةِ والتعَدِّي فإنَّ اللهَ لم يُمَلِّكْهُ ما مَلَّكَهُ ليَستعينَ بهِ على مُخالفَتِهِ، فهوَ جانٍ مُتَعَدٍّ خائنٌ للهِ في نِعَمِهِ، معاقَبٌ على التَّنَعُّمِ بها في غيرِ طاعتِهِ.
والثالثُ: يَتَقَلَّبُ في ذلكَ ويَتناوَلُهُ بِحُكْمِ الغفلةِ وبَهجةِ النفسِ وطبيعتِها، لم يَبْتَغِ بذلكَ رِضوانَ اللهِ والتقَرُّبَ إليهِ، فهذا خُسرانٌ بَيِّنٌ إذ عطَّلَ أوقاتَ عُمُرِهِ التي لا قِيمةَ لها عنْ أَفضلِ الأرباحِ والتجاراتِ.
* * *
فدَعَا اللهُ سُبحانَهُ الموَحِّدينَ إلى هذهِ الصلواتِ الخمسِ رَحمةً منهُ عليهم *، وهيَّأَ لهم فيها أنواعَ العِبادةِ ليَنالَ العبدُ مِنْ كلِّ قولٍ وفِعْلٍ وحَركةٍ وسكونٍ حَظَّهُ مِنْ عَطاياهُ.
وكان سِرُّ الصلاةِ ولُبُّها إقبالَ القلبِ فيها على اللهِ وحضورَهُ بكُلِّيَّتِهِ بينَ يدَيْهِ، فإذا لم يُقْبِلْ عليهِ واشتَغَلَ بغيرِهِ وَلَهَا بحديثِ النفسِ، كانَ بِمَنْـزِلَةِ وافدٍ وَفَدَ إلى بابِ الملِكِ مُعْتَذِراً مِنْ خَطئِهِ وزَلَـلِهِ مُسْتَمْطِراً لِسَحَايِبِ جُودِهِ ورَحمتِهِ مُسْتَطْعِماً لهُ ما يَقوتُ قَلْبَهُ، ليَقْوَى على القيامِ في خِدمتِهِ، فلَمَّا وَصَلَ إلى البابِ ولم يَبْقَ إلاَّ مُناجاةُ الملِكِ، الْتَفَتَ عن الملِكِ وزاغَ عنهُ يَمِيناً أوْ وَلاَّهُ ظَهْرَهُ، واشتَغَلَ عنهُ بَأَمْقَتِ شيءٍ إلى الملِكِ وأَقَلِّهِ عندَهُ قَدْراً، فآثَرَهُ عليهِ وصَيَّرَهُ قِبْلَةَ قَلْبِهِ، ومَحَلَّ تَوَجُّهِهِ، ومَوْضِعَ سِرِّهِ، وبَعَثَ غِلْمَانَهُ وخَدَمَهُ ليَقِفُوا في طاعةِ الْمَلِكِ، ويَعْتَذِروا عنهُ ويَنُوبُوا عنهُ في الْخِدْمَةِ، والملِكُ شاهدٌ ذلكَ ويرى حالَهُ، ومعَ هذا فَكَرَمُ الملِكِ وجُودُهُ وسَعَةُ بِرِّهِ وإحسانُهُ يَأْبَى أن يَنصرِفَ عنهُ الْخَدَمُ والأتباعُ، فيُصِيبَها مِنْ رَحْمَتِهِ وإحسانِهِ. لكن فَرْقٌ بينَ قِسمةِ الغنائمِ على أهلِ السُّهمانِ مِن الغانمينَ وبينَ الرَّضْخِ لِمَنْ لا سَهْمَ لهُ {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19)} [الأحقاف: 19].
واللهُ سبحانَهُ خَلَقَ هذا النوعَ الإنسانيَّ لنَفْسِهِ واخْتَصَّهُ، وخَلَقَ لهُ كلَّ شيءٍ كما في الأَثَرِ الإلهيِّ: ((ابْنَ آدَمَ خَلَقْتُكَ لِنَفْسِي وَخَلَقْتُ كُلَّ شَيْءٍ لَكَ فَبِحَقِّي عَلَيْكَ لا تَشْتَغِلْ بِمَا خَلَقْتُهُ لَكَ عَمَّا خَلَقْتُكَ لَهُ)). وفي أَثَرٍ آخَرَ: ((خَلَقْتُكَ لِنَفْسِي، فَلا تَلْعَبْ وَتَكَفَّلْتُ بِرِزْقِكَ فَلا تَتْعَبْ، ابْنَ آدَمَ اطْلُبْنِي تَجِدْنِي، وَإِنْ وَجَدْتَنِي وَجَدْتَ كُلَّ شَيْءٍ، وَإِنْ فُتُّكَ فَاتَكَ كُلُّ شَيْءٍ وَأَنَا خَيْرٌ لَكَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ)) ([2])
وجَعَلَ الصلاةَ سَبباً مُوَصِّلاً لهُ إلى قُرْبِهِ ومُناجاتِهِ ومَحَبَّتِهِ والأُنْسِ بهِ، وما بينَ صَلاتَيْنِ تَحْدُثُ لهُ الغَفلةُ والْجَفْوَةُ والإِعراضُ والزَّلاتُ والْخَطايا، فيُبْعِدُهُ ذلكَ عنْ رَبِّهِ، ويُنَحِّيهِ عنْ قُرْبِهِ، ويَصيرُ كأنَّهُ أَجْنَبِيٌّ عن العُبوديَّةِ ليسَ مِنْ جُملةِ العَبيدِ، ورُبَّمَا أَلْقَى بِيَدِهِ إلى أَسْرِ الْعَدُوِّ فَأَسَرَهُ وغَلَّهُ وقَيَّدَهُ وسَجَنَهُ في سِجْنِ نَفْسِهِ وهَواهِ، فحَظُّهُ ضِيقُ الصدْرِ ومُعالجةُ الهمومِ والغمومِ والأحزانِ والحسَراتِ، ولا يَدْرِي السببَ في ذلكَ.
فاقْتَضَتْ رَحمةُ رَبِّهِ الرحيمِ بهِ أن جَعَلَ لهُ مِنْ عُبوديَّتِهِ عُبوديَّةً جامعةً مُخْتَلِفةَ الأجزاءِ والحالاتِ، بِحَسَبِ اختلافِ الأحداثِ التي جاءتْ مِن العَبْدِ، وبِحَسَبِ شِدَّةِ حاجتِهِ إلى نصيبِهِ مِنْ كلِّ خيرٍ مِنْ أجزاءِ تلكَ العُبودِيَّةِ.
فبِالوُضوءِ يَتطهَّرُ مِن الأوساخِ ويُقْدِمُ على ربِّهِ مُتَطَهِّراً، والوُضوءُ لهُ ظاهرٌ وباطنٌ، وظاهرُهُ طهارةُ البَدَنِ وأعضاءِ العِبادةِ، وباطنُهُ وسِرُّهُ طَهارةُ القلبِ مِنْ أوساخِهِ وأَدرانِهِ بالتوبةِ، ولهذا يَقْرِنُ سبحانَهُ بينَ التوبةِ والطهارةِ في قولِهِ:{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)} [البقرة: 222]، وشَرَعَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ للمُتَطَهِّرِ بعدَ فَراغِهِ مِن الوُضوءِ أنْ يَتشهَّدَ، ثُمَّ يقولَ: ((اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ التَّوَّابِينَ وَاجْعَلْنِي مِنَ الْمُتَطَهِّرِينَ)). فَكَمَّلَ لَهُ مَرَاتِبَ الطَّهَارَةِ بَاطِناً وَظَاهِراً.
فإنَّهُ بالشهادةِ يَتَطَهَّرُ مِن الشرْكِ، وبالتوبةِ يَتطهَّرُ مِن الذنوبِ، وبالماءِ يَتطهَّرُ مِن الأوساخِ الظاهرةِ؛ فشَرَعَ أكملَ مَراتِبِ الطهارةِ قَبْلَ الدخولِ على اللهِ والوقوفِ بينَ يديهِ، فلَمَّا طَهُرَ ظاهراً وباطناً أَذِنَ لهُ بالدخولِ عليهِ بالقيامِ بينَ يديهِ إذ يَخْلُصُ مِن الإِبَاقِ بمجيئِهِ إلى دارِهِ ومَحَلِّ عُبوديَّتِهِ.
ولهذا كانَ الْمَجيءُ إلى المسجدِ مِنْ تَمامِ عُبوديَّةِ الصلاةِ الواجبةِ عندَ قَوْمٍ، والمستحبَّةِ عندَ آخرينَ، والعبدُ كانَ في حالِ غَفلتِهِ كالآبِقِ عنْ رَبِّهِ وقدْ عَطَّلَ جَوارِحَهُ وقَلْبَهُ عن الْخِدْمَةِ التي خُلِقَ لها، فإذا جاءَ إليهِ فقدْ رَجَعَ مِنْ إباقِهِ، فإذا وَقَفَ بينَ يديهِ مَوْقِفَ العُبوديَّةِ والتذَلُّلِ والانكسارِ فقد استَدْعَى عَطْفَ سَيِّدِهِ عليهِ وإقبالَهُ عليهِ بعدَ الإعراضِ.
وأُمِرَ بأن يَسْتَقْبِلَ القِبلةَ بَيتَهُ الحرامَ بوَجهِهِ، ويَستقبِلَ اللهَ عزَّ وجَلَّ بقَلْبِهِ ليَنْسَلِخَ مِمَّا كانَ فيهِ مِن التَّوَلِّي والإعراضِ، ثُمَّ قامَ بينَ يديهِ مَقامَ الذليلِ الخاضعِ الْمِسكينِ المستَعْطِفِ لسَيِّدِهِ وأَلْقَى بيديهِ مُسْلِماً مُسْتَسْلِماً نَاكِسَ الرأسِ خاشعَ القلبِ مُطْرِقَ الطَّرْفِ، لا يَلتفتُ قلبُهُ عنهُ ولا طَرْفُهُ يَمْنَةً ولا يَسْرَةً، بلْ قدْ تَوَجَّهَ بقلبِهِ كُلِّهِ إليهِ وأَقْبَلَ بكُلِّيَّتِهِ عليهِ.
ثُمَّ كَبَّرَهُ بالتعظيمِ والإجلالِ ووَاطَأَ قَلْبُهُ في التكبيرِ لسانَهُ، فكان اللهُ أكبَرَ في قَلْبِهِ مِنْ كلِّ شيءٍ، وصدَّقَ هذا التكبيرَ بأنَّهُ لم يكنْ في قلبِهِ شيءٌ أكبرَ مِن اللهِ يَشغلُهُ عنهُ، فإذا اشْتَغَلَ عن اللهِ بغيرِهِ وكان ما اشْتَغَلَ بهِ أهمَّ ما عِنْدَهُ...(3) كانَ تكبيرُهُ بلسانِهِ دونَ قلبِهِ، فالتكبيرُ يُخْرِجُهُ مِنْ لُبْسِ رِداءِ التَّكَبُّرِ المنافِي للعُبودِيَّةِ، ويَمْنَعُهُ مِن التفاتِ قَلْبِهِ إلى غيرِ اللهِ.
إذا كانَ اللهُ عندَهُ وفي قلبِهِ أكبرَ مِنْ كلِّ شيءٍ مَنَعَهُ حقُّ قولِهِ: ((اللهُ أكبرُ)) والقيامُ بعبودِيَّةِ التكبيرِ عنْ هاتيْنِ الآفَتَيْنِ، اللَّتَيْنِ هُمَا مِنْ أَعظمِ الحُجُبِ بينَهُ وبينَ اللهِ.
فإذا قالَ: ((سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ)) وأَثْنَى على اللهِ بما هوَ أَهْلُهُ، فقدْ خَرَجَ عن الغَفلةِ التي هيَ حِجابٌ أيضاً بينَهُ وبينَ اللهِ.
وأَتَى بالتحِيَّةِ والثناءِ الذي يُخاطَبُ بهِ الملِكُ عندَ الدخولِ عليهِ تَعظيماً لهُ وتَمجيداً ومُقَدِّمَةً بينَ يَدَيْ حاجتهِ، فكانَ في هذا الثناءِ مِنْ أَدَبِ العُبوديَّةِ ما يَسْتَجْلِبُ بهِ إقبالَهُ عليهِ ورِضاهُ عنهُ وإسعافَهُ بحوائجِهِ.
((وهاهنا عَجيبةٌ: يَحْصُلُ لِمَنْ تَفَقَّهَ قَلْبُهُ في معاني القرآنِ عجائبُ الأسماءِ والصفاتِ، وخَالَطَ بشاشةُ الإيمانِ بها قَلْبَهُ يَرَى لكلِّ اسمٍ وصِفةٍ مَوْضِعاً مِنْ صلاتِهِ ومَحَلاًّ منها، فإنَّهُ إذا انْتَصَبَ قائماً بينَ يَدَيِ الربِّ تَبارَكَ وتعالى، شاهَدَ بقلبِهِ قَيُّومِيَّتَهُ، وإذا قالَ: ((اللهُ أكبرُ))، شاهَدَ كبرياءَهُ. وإذا قالَ: ((سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، وَتَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ وَلا إِلَهَ غَيْرُكَ)) شاهَدَ بقلبِهِ ربًّا مُنَـزَّهاً عنْ كلِّ عَيْبٍ، سالِماً مِنْ كلِّ نَقْصٍ، مَحموداً بكلِّ حَمْدٍ، فحَمْدُهُ يَتَضَمَّنُ وَصْفَهُ بكلِّ كمالٍ، وذلكَ يَستلزِمُ بَراءتَهُ مِنْ كلِّ نَقْصٍ تَبارَكَ اسمُهُ، فلا يُذْكَرُ على قليلٍ إلاَّ كَثَّرَهُ، ولا على خيرٍ إلاَّ أَنماهُ وبارَكَ فيهِ، ولا على آفةٍ إلاَّ أذهَبَها، ولا على شيطانٍ إلاَّ رَدَّهُ خاسِئاً داحراً.
وكمالُ الاسمِ مِنْ كمالِ مُسمَّاهُ، فإذا كانَ هذا شأنَ اسمِهِ الذي لا يَضُرُّ معه شيءٌ في الأرضِ ولا في السماءِ، فشَأْنُ الْمُسَمَّى أَعْلَى وأَجَلُّ.
و((تعالى جَدُّهُ)) أي: ارْتَفَعَتْ عَظَمَتُهُ، وجَلَّتْ فوقَ كلِّ عَظمةٍ، وعلا شأنُهُ على كلِّ شأنٍ، وقَهَرَ سلطانُهُ على كلِّ سُلطانٍ، فتعالى جَدُّهُ أن يكونَ معه شَريكٌ في مُلْكِهِ ورُبوبيَّتِهِ، أوْ في إلهيَّتِهِ أوْ في أَفعالِهِ أوْ في صفاتِهِ، كما قالَ مؤمنُ الْجِنِّ: {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3)} [الجن: 3]؛ فَكَمْ في هذهِ الكلماتِ مِنْ تَجَلٍّ لحقائقِ الأسماءِ والصفاتِ على قَلْبِ العارفِ بها، وغيرِ الْمُعَطِّلِ لَحَقائقِهَا)) ([4])
فإذا شَرَعَ في القراءةِ قَدَّمَ أمامَها الاستعاذةَ باللهِ مِن الشيطانِ، فإنَّهُ أَحْرَصُ ما يكونُ على العبدِ في مِثلِ هذا الْمَقامِ الذي هوَ أَشرفُ مَقاماتِهِ وأَنْفَعُها لهُ في دُنياهُ وآخرتِهِ، فهوَ أَحرصُ شيءٍ على صَرْفِهِ عنهُ واقتطاعِهِ دونَهُ بالبَدَنِ والقلْبِ، فإنْ عَجَزَ عن اقتطاعِهِ وتَعطيلِهِ عنهُ بالبَدَنِ اقْتَطَعَ قلبَهُ وعطَّلَهُ عن القيامِ بينَ يَدَيِ الربِّ تعالى، فأَمَرَ العبدَ بالاستعاذةِ باللهِ منهُ ليَسْلَمَ لهُ مقامُهُ بينَ يَدَيْ رَبِّهِ، ولِيَحْيَا قلبُهُ ويَستنيرَ بما يَتَدَبَّرُهُ ويَتَفَهَّمُهُ مِنْ كلامِ سَيِّدِهِ الذي هوَ سَببُ حَياتِهِ ونَعيمِهِ وفَلاحِهِ، فالشيطانُ أَحْرَصُ على اقتطاعِ قَلْبِهِ عنْ مَقصودِ التلاوةِ.
ولمَّا عَلِمَ سُبحانَهُ جِدَّ العَدُوِّ وتَفَرُّغَهُ للعَبْدِ، وعَجْزَ العبدِ عنهُ، أَمَرَهُ بأنْ يَستعيذَ بهِ سبحانَهُ ويَلْتَجِئَ إليهِ في صَرْفِهِ عنهُ، فيُكْفَى بالاستعاذةِ مُؤْنَةَ مُحاربتِهِ ومُقاومتِهِ، فكأنَّهُ قيلَ لهُ: لا طاقةَ لكَ بهذا العدُوِّ فاستَعِذْ بي واستَجِرْ بي أَكْفِكَهُ، وأَمْنَعْكَ منهُ. وقالَ لي شيخُ الإسلامِ - قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ - يوماً: “ إِذَا هَاشَ عَلَيْكَ كَلْبُ الْغَنَمِ فَلا تَشْتَغِلْ بِمُحَارَبَتِهِ وَمُدَافَعَتِهِ، وَعَلَيْكَ بِالرَّاعِي فَاسْتَغِثْ بِهِ فَهُوَ يَصْرِفُ عَنْكَ الكَلْبَ “.
(([فـ]إذا قالَ: ((أَعُوذُ بِاللهِ مِن الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)) فقدْ آوَى إلى رُكْنِهِ الشديدِ، واعْتَصَمَ بِحَوْلِهِ وقُوَّتِهِ مِنْ عَدوِّهِ الذي يُريدُ أن يَقْطَعَهُ عنْ رَبِّهِ، ويُباعِدَهُ عنْ قُرْبِهِ، ليكونَ أَسوأَ حالاً))([5]).
فإذا استعاذَ باللهِ مِن الشيطانِ بَعُدَ منهُ، فأَفْضَى القلبُ إلى معاني القرآنِ، ووَقَعَ في رياضِهِ الْمُونِقَةِ، وشاهَدَ عجائبَهُ التي تُبْهِرُ العُقولَ، واستخْرَجَ مِنْ كُنوزِهِ وذَخائرِهِ ما لا عينٌ رَأَتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ.
وكان الحائلُ بينَهُ وبينَ ذلكَ النفْسَ والشيطانَ، والنفْسُ مُنْفَعِلَةٌ للشيطانِ سامعةٌ منهُ فإذا بَعُدَ عنها وطُرِدَ لَمَّ بها المَلكُ وثبَّتَها وذَكَّرها بما فيهِ سعادتُها ونجاتُها.
فإذا أَخَذَ في قراءةِ القرآنِ فقدْ قامَ في مَقامِ مُخاطبةِ رَبِّهِ ومُناجاتِهِ، فلْيَحْذَرْ كلَّ الحذَرِ مِن التعَرُّضِ لِمَقْتِهِ وسَخَطِهِ أن يُناجِيَهُ ويُخاطبَهُ وهوَ مُعْرِضٌ عنهُ، مُلْتَفِتٌ إلى غيرِهِ، فإنَّهُ يَستدعِي بذلكَ مَقْتَهُ ويكونُ بِمَنـزِلَةِ رَجُلٍ قَرَّبَهُ مَلِكٌ مِنْ مُلوكِ الدنيا فأَقامَهُ بينَ يَدَيْهِ، فجَعَلَ يُخاطبُهُ الملِكُ وقدْ وَلاَّهُ قَفاهُ أو الْتَفَتَ عنهُ بوَجْهِهِ يَمْنَةً ويَسْرَةً، فما الظنُّ بِمَقْتِ الملِكِ لهذا، فما الظنُّ بالملِكِ الحقِّ المبينِ الذي هوَ رَبُّ العالمينَ وقَيُّومُ السماواتِ والأرضِ.
ولْيَقِفْ عندَ كلِّ آيَةٍ مِن الفاتحةِ يَنتظِرُ جوابَ رَبِّهِ لهُ وكأنَّهُ سَمِعَهُ يقولُ: ((حَمِدَني عَبْدِي)) ([6]) حينَ يقولُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)} [الفاتحة: 2]، فإذا قالَ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3)} [الفاتحة: 3] وَقَفَ لحظةً يَنتظِرُ قولَهُ: ((أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي))، فإذا قالَ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)} [الفاتحة: 4] انتظرَ قولَهُ: ((مَجَّدَنِي عَبْدِي))، فإذا قالَ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} [الفاتحة: 5] انتظرَ قولَهُ: ((هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي))، فإذا قالَ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ} إلى آخرِها [الفاتحة: 6-7] انتظرَ قولَهُ: ((هَؤُلاءِ لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ)).
((فيا لَذَّةَ قلبِهِ وقُرَّةَ عينِهِ وسُرورَ نفسِهِ بقولِ ربِّهِ: عَبْدِي [ستَّ] مرَّاتٍ، فواللهِ لولا ما على القلوبِ مِنْ دُخَانِ الشهواتِ وغَيْمِ النفوسِ لاستُطيرَتْ فرحاً وسروراً بقولِ رَبِّها وفاطرِها ومَعبودِها: ((حَمِدَنِي عَبْدِي، وَأَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، وَمَجَّدَنِي عَبْدِي)) ([7]).
ومَنْ ذاقَ طَعْمَ الصلاةِ عَلِمَ أنَّهُ لا يَقومُ غيرُ التكبيرِ والفاتحةِ مَقَامَهُما، كما لا يَقومُ غيرُ القيامِ والركوعِ والسجودِ مَقامَهَا، فلكلِّ عُبودِيَّةٍ مِنْ عُبودِيَّةِ الصلاةِ سِرٌّ وتأثيرٌ وعُبودِيَّةٌ لا تَحْصُلُ مِنْ غيرِها، ثُمَّ لكلِّ آيَةٍ مِنْ آياتِ الفاتحةِ عُبوديَّةٌ وذَوْقٌ ووَجْدٌ يَخُصُّهَا.
فعندَ قولِهِ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)} [الفاتحة: 2] تَجِدُ تحتَ هذهِ الكلمةِ إثباتَ كلِّ كمالٍ للربِّ تعالى فِعْلاً ووَصْفاً واسماً، وتَنزيهَهُ عنْ كلِّ سوءٍ وعَيْبٍ فِعْلاً ووَصْفاً واسماً، فهوَ مَحمودٌ في أفعالِهِ وأوصافِهِ وأسمائِهِ، مُنَزَّهٌ عن العُيوبِ والنقائصِ في أفعالِهِ وأوصافِهِ وأسمائِهِ، فأفعالُهُ كلُّها حِكمةٌ ورَحمةٌ ومَصلحةٌ وعَدْلٌ لا تَخْرُجُ عنْ ذلكَ، وأوصافُهُ كلُّها أوصافُ كمالٍ ونُعوتُ جلالٍ، وأسماؤُهُ كلُّها حُسْنَى، وحَمْدُهُ قدْ مَلأَ الدنيا والآخِرةَ والسَّمَاواتِ والأرضَ وما بينَهما وما فيهما، فالكونُ كلُّهُ ناطقٌ بِحَمْدِهِ، والخلْقُ والأمرُ صادرٌ عنْ حَمْدِهِ وقائمٌ بِحَمْدِهِ، ووُجِدَ بِحَمْدِهِ.
فحَمْدُهُ هوَ سببُ وُجودِ كلِّ موجودٍ، وهوَ غايَةُ كلِّ موجودٍ، وكلُّ موجودٍ شاهدٌ بحمدِهِ، وإرسالُهُ رسولَهُ بحَمْدِهِ، وإنـزالُهُ كُتُبَهُ بِحَمْدِهِ، والجَنَّةُ عُمِّرَتْ بأهلِها بِحَمْدِهِ، والنارُ عُمِّرَتْ بأهلِها بِحَمْدِهِ، وما أُطيعَ إلاَّ بحمدِهِ وما عُصِيَ إلاَّ بحمدِهِ، ولا تَسقُطُ وَرقةٌ إلاَّ بحمدِهِ، ولا يَتحرَّكُ في الكونِ ذَرَّةٌ إلاَّ بحمدِهِ، وهوَ المحمودُ لذاتِهِ، وإن لم يَحْمَدْهُ العِبادُ، كما أنَّهُ هوَ الواحدُ الأَحَدُ ولوْ لمْ يُوحِّدْهُ العِبادُ، والإلهُ الحقُّ وإنْ لمْ يُؤَلِّهُوهُ، وهوَ سبحانَهُ الذي حَمِدَ نفسَهُ على لسانِ القائلِ: "الْحَمْدُ للهِ رَبِّ العالمينَ"، كما قالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ((إنَّ اللهَ تعالى قالَ على لسانِ نَبِيِّهِ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ)) ([8])، فهوَ الحامدُ لنفسِهِ في الحقيقةِ على لسانِ عبدِهِ، فإنَّهُ الذي أَجْرَى الحمدَ على لسانِهِ وقلبِهِ، وإجراؤُهُ بِحَمْدِهِ، فلهُ الحمدُ كلُّهُ، ولهُ الملْكُ كلُّهُ، وبيدِهِ الخيرُ كلُّهُ، وإليهِ يَرْجِعُ الأمرُ كلُّهُ، فهذه المعرِفَةُ مِنْ عُبُودِيَّةِ الحمْدِ.
ومِنْ عُبوديَّتِهِ أيضاً أن يَعلمَ أنَّ حَمْدَهُ لرَبِّهِ سبحانَهُ نِعْمةٌ مِنه عليهِ، يَسْتَحِقُّ عليها الحمدَ، فإذا حَمِدَهُ على هذهِ النعمةِ استوْجَبَ عليهِ حَمْداً آخرَ على نِعمةِ حَمْدِهِ. وهَلُمَّ جَرًّا.
فالعبدُ ولو اسْتَنْفَدَ أنفاسَهُ كلَّها في حَمْدِهِ على نِعمةٍ مِنْ نِعَمِهِ كانَ ما يَجِبُ لهُ مِن الحمدِ ويَسْتَحِقُّهُ فوقَ ذلكَ وأضعافَهُ، ولا يُحْصِي أحدٌ الْبَتَّةَ ثناءً عليهِ بِمَحامِدِهِ.
ومِنْ عُبوديَّةِ [الحمدِ] ([9]) شهودُ العبدِ لعَجْزِهِ عن الحمدِ، وأنَّ ما قامَ بهِ منهُ فالربُّ سبحانَهُ هوَ المحمودُ عليهِ إذ هوَ مُجْرِيهِ على لسانِهِ وقلبِهِ.
ومِنْ عُبوديَّتِهِ تَسليطُ الحمدِ على تفاصيلِ أحوالِ العبدِ كلِّها ظاهرةً وباطنةً على ما يُحِبُّ العبدُ وما يَكْرَهُهُ، فهوَ سبحانَهُ المحمودُ على ذلكَ كلِّهِ في الحقيقةِ، وإن غابَ [ذلك] عنْ شهودِ العبدِ.
(([ثُمَّ يشاهدُ] قلبُهُ مِنْ ذكْرِ اسمِ ((اللهِ)) تبارَكَ وتَعَالى إلهاً مَعبوداً موجوداً مَخُوفاً، لا يَسْتَحِقُّ العبادةَ غيرُهُ، ولا تَنبغِي إلاَّ لهُ، وقدْ عَنَتْ لهُ الوُجوهُ، وخَضَعَتْ لهُ الموجوداتُ، وخَشَعَت لهُ الأصواتُ: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44] و: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26)} [الروم: 26] وكذلكَ خَلَقَ السَّمَاواتِ والأرضَ وما بينَهما، وخَلَـق الـجـنَّ والإنـسَ والطـيرَ والـوحـْشَ والجنةَ والنارَ، وكذلكَ أَرْسَلَ الرُّسُلَ، وأَنْزَلَ الكُتبَ، وشَرَّعَ الشرائعَ، وأَلْزَمَ العِبادَ الأمرَ والنهيَ.
وشاهَدَ مِنْ ذِكْرِ اسمِهِ: ((رَبِّ الْعَالَمِينَ)) قَيُّوماً قامَ بنفسِهِ، وقامَ بهِ كلُّ شيءٍ، فهوَ قائمٌ على كلِّ نفسٍ بِخَيْرِها وشَرِّها، قد اسْتَوَى على عَرْشِهِ، وتَفَرَّدَ بتدبيرِ مُلْكِهِ، فالتدبيرُ كُلُّهُ بِيَدَيْهِ، ومَصيرُ الأمورِ كلِّها إليهِ، فمَنْ أُشِيمَ التدبيراتِ نازلةً مِنْ عندِهِ على أَيْدِي ملائكتِهِ بالعطاءِ والْمَنْعِ، والخفْضِ والرفْعِ، والإحياءِ والإماتةِ، والتوليَةِ والعزْلِ، والقَبْضِ والبَسْطِ، وكَشْفِ الكروبِ، وإغاثةِ الملهوفينَ، وإجابةِ الْمُضْطَرِّينَ: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29)} [الرحمن: 29] لا مانعَ لِمَا أَعْطَى، ولا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعَ، ولا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، ولا رَادَّ لأَمْرِهِ، ولا مُبَدِّلَ لكلماتِهِ، تَعْرُجُ الملائكةُ والرُّوحُ إليهِ، وتُعْرَضُ الأعمالُ أوَّلَ النهارِ وآخِرَهُ عليهِ،فيُقَدِّرُ المقاديرَ،ويُوَقِّتُ المواقيتَ،ثُمَّ يَسوقُ المقاديرَ إلى مَواقيتِها قائماً بتدبيرِ ذلكَ كلِّهِ وحِفْظِهِ ومَصالِحِهِ)) ([10]).
ثُمَّ لقولِهِ: {رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)} [الفاتحة: 2] مِن العُبوديَّةِ شُهودُ تَفَرُّدِهِ سُبحانَهُ بالربوبيَّةِ وأنَّهُ كما أنَّهُ رَبُّ العالمينَ وخالقُهم ورازِقُهم ومُدَبِّرُ أمورِهم ومُوجِدُهم ومُفْنِيهِم، فهوَ وَحْدَهُ إلهُهُم ومَعبودُهم ومَلْجَؤُهُم ومَفْزَعُهم عندَ النوائبِ. فلا ربَّ غيرُهُ، ولا إلهَ سِوَاهُ.
((ثم يَشْهَدُ عندَ ذِكْرِ اسمِ ((الرحمنِ)) جَلَّ جلالُهُ ربًّا مُحْسِناً إلى خَلْقِهِ بأنواعِ الإحسانِ، مُتَحَبِّباً إليهم بصُنُوفِ النِّعَمِ، وَسِعَ كلَّ شيءٍ رَحمةً وعِلْماً، وأَوْسَعَ كلَّ مخلوقٍ نِعمةً وفَضْلاً، فوَسِعَتْ رحمتُهُ كلَّ شيءٍ، ووَسِعَتْ نِعمتُهُ كلَّ حيٍّ، فبَلَغَتْ رَحمتُهُ حيثُ بَلَغَ عِلْمُهُ، فاسْتَوَى على عَرْشِهِ برَحْمَتِهِ، وخَلَقَ خَلْقَهُ برحمتِهِ؛ وأَنْزَلَ كُتبَهُ برَحمتِهِ، وأَرْسَلَ رسلَهُ برَحمتِهِ، وشَرَعَ شرائعَهُ برحمتِهِ، وخَلَقَ الجنةَ برحمتِهِ، والنارَ أيضاً برحمتِهِ، فإنَّها سَوْطُهُ الذي يَسوقُ بهِ عِبادَهُ المؤمنينَ إلى جنَّتِهِ، ويُطَهِّرُ بها أَدْرَانَ الموَحِّدِينَ مِنْ أهلِ مَعصيتِهِ، وسِجنُهُ الذي يَسْجُنُ فيهِ أعداءَهُ مِنْ خَليقتِهِ، فتَأَمَّلْ ما في أَمْرِهِ ونهيِهِ ووَصاياهُ ومَواعظِهِ مِن الرحمةِ البالغةِ، والنِّعمةِ السابغةِ، وما في حَشْوِها مِن الرحمةِ والنعمةِ، فالرحمةُ هيَ السببُ المتَّصِلُ منهُ بعبادِهِ، كما أنَّ العبوديَّةَ هيَ السببُ الْمُتَّصِلُ منهم بهِ، فمنهم إليهِ العُبوديَّةُ، ومنهُ إليهم الرحمةُ.
ومِنْ أَخَصِّ مَشاهدِ هذا الاسمِ شهودُ الْمُصَلِّي نَصيبَهُ مِن الرحمةِ الذي أقامَ بها بينَ يَدَيْ ربِّهِ، وأَهَّلَهُ لعبودِيَّتِهِ ومُناجاتِهِ، وأعطاهُ ومَنَعَ غيرَهُ، وأَقْبَلَ بقَلبِهِ وأَعْرَضَ بقلبِ غيرِهِ، وذلكَ مِنْ رحمتِهِ بهِ)) ([11]).
[فـ]لقولـِهِ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3)} [الفاتحة: 3] عبودِيَّةٌ تَخُصُّها وهيَ شُهودُ عُمومِ رحمتِهِ وسَعَتِها لكلِّ شيءٍ وأَخْذُ كلِّ موجودٍ بنَصيبِهِ منها، ولا سِيَّمَا الرحمةُ الخاصَّةُ التي أقامَتْ عبدَهُ بينَ يَدَيْهِ في خِدمتِهِ يُناجيهِ بكَلامِهِ ويَتَملَّقُهُ ويَسْتَرْحِمُهُ ويَسألُهُ هِدايتَهُ ورحمتَهُ وإتمامَ نِعمتِهِ عليهِ، فهذا مِنْ رَحمتِهِ بعَبدِهِ، فرَحمتُهُ وَسِعَتْ كلَّ شيءٍ كما أنَّ حَمْدَهُ وَسِعَ كلَّ شيءٍ.
ثُمَّ يُعْطِي قولَهُ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)} ([12]) [الفاتحة: 4] عبودِيَّتَها، ويتَأَمَّلُ تَضَمُّنَها لإثباتِ الْمَعادِ،وتَفَرُّدَ الربِّ فيهِ بالحُكْمِ بينَ خَلْقِهِ، وأنَّهُ يومٌ يَدِينُ فيهِ العِباد بأعمالِهم في الخيرِ والشرِّ،وذلكَ مِنْ تفاصيلِ حَمْدِهِ ومُوجَبِهِ،ولَمَّا كانَ قولُهُ:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)} [الفاتحة: 2] إخباراً عنْ حمْدِهِ تعالى قالَ اللهُ: ((حَمِدَنِي عَبْدِي))، ولَمَّا كانَ قولُهُ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3)} [الفاتحة: 3] إعادةً وتكريراً لأوصافِ كمالِهِ قالَ: ((أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي))، فإنَّ الثناءَ إِنَّمَا يكونُ بتَكرارِ المحامِدِ وتَعدادِ أوصافِ المحمودِ، ولَمَّا وَصَفَهُ سبحانَهُ بتَفَرُّدِهِ بِمُلْكِ يومِ الدِّينِ وهوَ الْمُلْكُ الحقُّ المتضَمِّنُ لظهورِ عَدْلِهِ وكِبريائِهِ وعَظمتِهِ ووَحدانيَّتِهِ وصِدْقِ رُسُلِهِ، سَمَّى هذا الثناءَ مَجْداً، فقالَ: ((مَجَّدَنِي عَبْدِي))، فإنَّ التمجيدَ هوَ الثناءُ بصِفاتِ العَظَمَةِ والجلالِ.
((فإذا قالَ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)} [الفاتحة: 4] فهنا شَهِدَ المجدَ الذي لا يَليقُ بسِوَى الْمَلِكِ الحقِّ الْمُبِينِ، فيَشْهَدُ مَلِكاً قاهراً، قدْ دَانَتْ لهُ الخليقةُ، وعَنَتْ لهُ الوُجوهُ، وذلَّت لعظمتِهِ الجبابرةُ، وخَضَعَ لعِزَّتِهِ كلُّ عزيزٍ؛ فيَشْهَدُ بقلبِهِ مَلِكاً على عَرْشِ السماءِ مُهَيْمِناً، لعزَّتِهِ تَعْنُو الوُجوهُ وتَسْجُدُ. وإذا لم تُعَطَّلْ حقيقةُ صفةِ المُلْكِ أَطْلَعَتْهُ على شُهودِ حقائقِ الأسماءِ والصفاتِ التي تَعطيلُها تعطيلٌ لمُلْكِهِ وجحدٌ لهُ، فإنَّ المَلِكَ الحقَّ التامَّ المُلْكِ: لا يكونُ إلاَّ حيًّا قَيُّوماً سَميعاً بصيراً مُدَبِّراً قادراً مُتَكَلِّماً آمِراً ناهياً، مُسْتَوِياً على سَريرِ مَمْلَكَتِهِ، يُرْسِلُ إلى أَقاصِي مَمْلَكَتِهِ بأوامِرِهِ، فيَرْضَى على مَنْ يَسْتَحِقُّ الرِّضَى ويُثيبُهُ ويُكْرِمُهُ ويُدْنِيهِ، ويَغْضَبُ على مَنْ يَسْتَحِقُّ الغضَبَ ويُعاقِبُهُ ويُهينُهُ ويُقْصِيهِ، فيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ، ويَرحمُ مَنْ يَشاءُ، ويُعْطِي مَنْ يَشاءُ، ويُقَرِّبُ مَنْ يَشاءُ، ويُقْصِي مَنْ يَشاءُ، لهُ دارُ عذابٍ وهيَ النارُ، ولَهُ دارُ سعادةٍ عظيمةٍ وهيَ الجنَّةُ، فمَنْ أَبْطَلَ شيئاً مِنْ ذلكَ أوْ جَحَدَهُ وأَنْكَرَ حقيقتَهُ فقدْ قَدَحَ في مُلْكِهِ سبحانَهُ وتعالى، ونَفَى عنهُ كمالَهُ وتَمَامَهُ، وكذلكَ مَنْ أَنْكَرَ عُمومَ قَضائِهِ وقَدَرِهِ، فقدْ أَنْكَرَ عمومَ مُلْكِهِ وكَمالِهِ، فيَشْهَدُ الْمُصَلِّي مَجْدَ الربِّ تعالى في قولِهِ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)} [الفاتحة: 4])). ([13])
فإذا قالَ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} [الفاتحة: 5] انتظرَ جوابَ ربِّهِ لهُ: ((هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ))، وتَأَمَّلَ عُبوديَّةَ هاتينِ الكلمتينِ وحقوقَهما ومَيَّزَ الكلمةَ التي للهِ والكلمةَ التي للعبدِ، وفَقِهَ سِرَّ كَوْنِ إحداهما للهِ والأخرى للعبدِ، وميَّز بينَ التوحيدِ الذي تَقتضيهِ كلمةُ ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ)) والتوحيدِ الذي تَقتضيهِ كلمةُ ((إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ))، وفَقِهَ سِرَّ كونِ هاتينِ الكلمتينِ في وَسَطِ السورةِ بينَ نَوْعَيِ الثناءِ قَبْلَهُما والدعاءِ بعدَهما، وفَقِهَ تقديمَ ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ)) على ((إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)) ، وتقديمَ المعمولِ على الفعلِ معَ [أنَّ] الإتيانَ بهِ مؤخَّراً أَوْجَزُ وأَخْصَرُ، وسِرَّ إعادةِ الضميرِ مَرَّةً بعدَ مَرَّةٍ، وعَلِمَ ما تَدْفَعُ كلَّ واحدةٍ مِن الكلمتينِ مِن الآفةِ الْمُنافيَةِ للعُبوديَّةِ، وكيفَ تُدْخِلُهُ الكلمتانِ في صريحِ العُبوديَّةِ، وعَلِمَ كيفَ يَدورُ القرآنُ مِنْ أوَّلِهِ إلى آخِرِهِ على هاتينِ الكلمتينِ، بلْ كيفَ يدورُ عليهما الخلْقُ والأمرُ والثوابُ والعقابُ والدنيا والآخرةُ، وكيفَ تَضَمَّنَتَا لأجَلِّ الغاياتِ وأكملِ الوسائلِ، وكيفَ جِيءَ بهما بِضميرِ الخطابِ والحضورِ دونَ ضَميرِ الغائبِ، وهذا مَوضعٌ يَستدعِي كتاباً كبيراً، ولولا الخروجُ عما نحن بصَدَدِهِ لأَوْضَحْناهُ وبَسَطْنا القولَ فيهِ، فمَنْ أرادَ الوقوفَ عليهِ فقدْ ذَكرناهُ في كتابِ: مَراحلُ السائرينَ بينَ مَنازلِ إِيَّاكَ نَعبدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ([14])، وفي كتابِ: الرسالةُ المصرِيَّةُ. ([15])
ثُمَّ تأمَّلَ ضرورَتَهُ وفاقَتَهُ إلى قولِهِ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)} [الفاتحة: 6] الذي مَضمونُهُ مَعرِفَةُ الحقِّ، وقَصْدُهُ وإرادتُهُ، والعملُ بهِ والثباتُ عليهِ، والدعوةُ إليهِ، والصبرُ على أَذَى الْمَدْعُوِّ، فباستكمالِ هذهِ المراتِبِ الخمْسِ تُستكمَلُ الهدايَةُ، وما نَقَصَ منها نَقَصَ مِنْ هدايتِهِ.
ولَمَّا كانَ العبدُ مُفْتَقِراً إلى هذهِ الهدايَةِ في ظاهرِهِ وباطنِهِ في جميعِ ما يَأتيهِ ويَذَرُهُ مِنْ أمورٍ قدْ فَعَلَها على غيرِ الهدايَةِ عِلْماً وعَمَلاً وإرادةً فهوَ مُحتاجٌ إلى التوبةِ منها - وتوبتُهُ منها هيَ الهدايَةُ -.
- وأمورٍ قدْ هُدِيَ إلى أصلِها دونَ تفصيلِها فهوَ مُحتاجٌ إلى هدايَةِ تفاصيلِها.
- وأمورٍ قدْ هُدِيَ إليها مِنْ وجهٍ دونَ وجهٍ فهوَ مُحتاجٌ إلى تَمامِ الهدايَةِ فيها لِتَتِمَّ لهُ الهدايَةُ ويُزادَ هدًى إلى هُداهُ.
- وأمورٍ يَحتاجُ فيها إلى أن يَحْصُلَ لهُ مِن الهدايَةِ في مُستقبلِها مِثلُ ما حَصَلَ لهُ في ماضِيهَا.
- وأمورٍ يَعتقِدُ فيها بخِلافِ ما هيَ عليهِ فهوَ مُحتاجٌ إلى هدايَةٍ تَنْسَخُ مِنْ قلبِهِ ذلكَ الاعتقادَ وتُثَبِّتُ فيهِ ضِدَّهُ.
- وأمورٍ مِن الهدايَةِ هوَ قادرٌ عليها، ولكن لم يُخْلَقْ لهُ إرادةُ فِعْلِهَا فهوَ محتاجٌ في تَمامِ الهدايَةِ إلى خَلْقِ إرادةٍ يَفْعَلُها بها.
- وأمورٍ منها هوَ غيرُ قادرٍ على فِعْلِها معَ كونِهِ مُرِيداً، فهوَ محتاجٌ في هدايتِهِ إلى إقدارِهِ عليها.
- وأمورٍ منها هوَ غيرُ قادرٍ عليها ولا مُريدٍ لها فهوَ محتاجٌ إلى خَلْقِ القُدرةِ والإرادةِ
لهُ لِتَتِمَّ لهُ الهدايَةُ.
- وأمورٍ هوَ قائمٌ بها على وجهِ الهدايَةِ اعتقاداً وإرادةً وعَمَلاً فهوَ محتاجٌ إلى الثباتِ عليها واستدامتِها.
كانت حاجتُهُ إلى سؤالِ الهدايَةِ أعظمَ الحاجاتِ وَفَاقَتُهُ إليها أَشَدَّ الفاقاتِ فَرَضَ عليهِ الرَّبُّ الرحيمُ هذا السؤالَ كلَّ يومٍ وليلةٍ في أَفضلِ أحوالِهِ وهيَ الصلواتُ الخمْسُ مرَّاتٍ مُتَعَدِّدَةً لشِدَّةِ ضَرورتِهِ وفَاقتِهِ إلى هذا المطلوبِ.
ثُمَّ بَيَّنَ أنَّ سبيلَ أهلِ هذهِ الهدايَةِ مغايِرٌ لسبيلِ أهلِ الغضبِ وأهلِ الضلالِ، فانقسَمَ الخلْقُ إذنْ ثلاثةَ أقسامٍ بالنسبةِ إلى هذهِ الهدايَةِ:
- مُنْعَمٌ عليهِ بحصولِها، واستمرارُ حَظِّهِ من النِّعَمِ بحسَبِ حظِّهِ مِنْ تفاصيلِها وأقسامِها.
- وضالٌّ لم يُعْطَ هذهِ الهدايَةَ ولم يوَفَّقْ لها.
- ومغضوبٌ عليهِ عَرَفَها ولم يُوَفَّقْ للعملِ بموجِبِها.
فالأوَّلُ: المنعَمُ عليهِ قامَ بالهُدَى ودِينِ الحقِّ علماً وعملاً.
والضالُّ: مُنْسَلِخٌ عنهُ عِلْماً وعملاً.
والمغضوبُ عليهِ: عارفٌ بهِ عِلْماً، مُنْسَلِخٌ منهُ عَمَلاً، واللهُ الموَفِّقُ للصوابِ… ([16])
((فلَمَّا فَرَغَ مِنْ هذا الثناءِ والدعاءِ والتوحيدِ، شَرَعَ لهُ أن يَطْبَعَ على ذلكَ بطابَعٍ مِن التأمينِ يَكونُ كالخاتَمِ لهُ وافَقَ فيهِ ملائكةَ السماءِ، وهذا التأمينُ مِنْ زِينةِ الصلاةِ كرَفْعِ اليدَيْنِ الذي هوَ زِينةُ الصلاةِ، واتِّبَاعٌ للسُّنَّةِ، وتعظيمُ أمْرِ اللهِ، وعُبوديَّةُ اليدينِ، وشِعارُ الانتقالِ مِنْ رُكْنٍ إلى رُكْنٍ))([17]).
... فشَرَعَ لهُ التأمينَ عندَ هذا الدُّعاءِ تفاؤلاً بإجابتِهِ وحصولِهِ، وطابَعاً عليهِ وتحقيقاً لهُ، ولهذا اشْتَدَّ حَسَدُ اليهودِ للمسلمينَ عليهِ حينَ سَمِعُوهُم يَجْهَرُونَ بهِ في صلاتِهم.
((ثم يَأْخُذُ في مُناجاةِ ربِّهِ بكلامِهِ واستماعِهِ مِن الإمامِ بالإنصاتِ وحضورِ القلبِ وشهودِهِ، وأَفضلُ أذكارِ الصلاةِ ذِكْرُ القِيامِ، وأَحسنُ هَيئةِ الْمُصَلِّي هيئةُ القيامِ، فخُصَّتْ بالحمدِ والثناءِ والمجْدِ وتلاوةِ كلامِ الربِّ جَلَّ جلالُهُ، ولهذا نُهِيَ عنْ قراءةِ القرآنِ في الركوعِ والسجودِ؛ لأنهما حالتا ذُلٍّ وخُضوعٍ وتَطَامُنٍ وانخفاضٍ، ولهذا شُرِعَ فيهما مِن الذِّكرِ ما يُنَاسِبُ هيئتَهمَا، فشُرِعَ للراكعِ أن يَذْكُرَ عظمةَ ربِّهِ في حالِ انخفاضِهِ هوَ وتَطامُنِهِ وخضوعِهِ، وأنَّهُ سُبحانَهُ يُوصَفُ بوَصْفِ عظمتِهِ عمَّا يُضادُّ كِبرياءَهُ وجَلالَهُ وعَظمتَه)) ([18]).
ثُمَّ شَرَعَ لهم رفْعَ اليدينِ عندَ الركوعِ تَعظيماً لأمرِ اللهِ وزِينةً للصلاةِ وعُبوديَّةً خاصَّةً لليدينِ كعُبوديَّةِ باقِي الجوارحِ، واتِّبَاعاً لسُنَّةِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ فهوَ حِلْيَةُ الصلاةِ وزينتُها، وتعظيمٌ لشعائرِها.
ثُمَّ شُرِعَ لهُ التكبيرُ الذي هوَ في انتقالاتِ الصلاةِ مِنْ رُكنٍ إلى رُكنٍ كالتلبيَةِ في انتقالاتِ الحاجِّ مِنْ مَشْعَرٍ إلى مَشْعَرٍ، فهوَ شِعارُ الصلاةِ كما أنَّ التلبيَةَ شِعارُ الحجِّ ليَعْلَمَ العبدُ أنَّ سِرَّ الصلاةِ هوَ تعظيمُ الربِّ تعالى وتكبيرُهُ بعبادتِهِ وَحْدَهُ.
ثُمَّ شُرِعَ لهُ بأن يَخضعَ للمعبودِ سبحانَهُ بالركوعِ خُضوعاً لعظمتِهِ واستكانةً لهيبتِهِ وتَذَلُّلاً لعِزَّتِهِ، فثَنَى العبدُ لهُ صُلْبَهُ ووَضَعَ لهُ قامتَهُ ونَكَّسَ لهُ رأسَهُ وحَنَى لهُ ظهرَهُ معظِّماً لهُ ناطِقاً بتسبيحِهِ المقترِنِ بتعظيمِهِ، فاجْتَمَعَ لهُ خضوعُ القلبِ، وخضوعُ الجوارحِ، وخُضوعُ القولِ على أَتَمِّ الأحوالِ، وجَمَعَ لهُ في هذا الذكْرِ بينَ الخضوعِ والتعظيمِ لربِّهِ، والتنـزيهِ لهُ عنْ خضوعِ العبيدِ، وأنَّ الخضوعَ وَصْفُ العبدِ، والعظمةَ وَصْفُ الربِّ.
((فأَفْضَلُ ما يقولُ الراكعُ على الإطلاقِ ((سُبْحَانَ رَبِّيَ العظيمِ)) فإنَّ اللهَ سبحانَهُ أَمَرَ العِبادَ بذلكَ، وعَيَّنَ المُبَلِّغُ عنهُ السَّفِيرُ بينَهُ وبينَ عبادِهِ هذا المَحَلَّ لهذا الذكْرِ لمَّا نَـزَلَتْ: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)} [الواقعة: 74] قالَ: ((اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ)) ([19]). وأَبْطَلَ كثيرٌ مِنْ أهلِ العلْمِ صلاةَ مَنْ تَرَكَها عَمْداً، وأَوْجَبَ سُجودَ السهوِ على مَنْ سَهَا عنها، وهذا مَذهبُ الإمامِ أحمدَ ومَنْ وافَقَهُ مِنْ أئِمَّةِ الحديثِ والسنَّةِ. والأمرُ بذلكَ لا يَقْصُرُ عن الأمرِ بالصلاةِ عليهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ في التشَهُّدِ الأخيرِ، ووُجوبُهُ لا يَقْصُرُ عنْ وُجوبِ مُباشَرَةِ المصلَّى بالجبهةِ واليدَيْنِ.
وبالجملةِ: فَسِرُّ الركوعِ تعظيمُ الربِّ جلَّ جلالُهُ بالقلبِ والقالبِ والقولِ، ولهذا قالَ النبيُّ - صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: ((أَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ)) ([20]) )). ([21])
وتمامُ عُبوديَّةِ الركوعِ أن يَتصاغَرَ العبدُ ويَتضاءَلَ بحيث يَمْحُو تَصَاغُرُهُ كلَّ تَعظيمٍ منهُ لنفسِهِ، ويُثْبِتُ مكانَهُ تعظيمَهُ لربِّهِ، وكلَّما اسْتَوْلَى على قلبِهِ تعظيمُ الرَّبِّ ازدادَ تصاغُرُهُ هوَ عندَ نفسِهِ.
فالركوعُ للقلبِ بالذاتِ والقصْدِ، وللجوارحِ بالتَّبَعِ والتَّكْمِلَةِ.
((ثم يَرفعُ رأسَهُ عائداً إلى أكملِ حديثِهِ، وجَعَلَ شِعارَ هذا الرُّكْنِ حَمْدَ اللهِ والثناءَ عليهِ وتمجيدَهُ([22]) )) ([23]) [فـ]يـحمدُ ربَّهُ ويُثْنِي عليهِ بآلائِهِ عندَ اعتدالِهِ وانتصابِهِ ورُجوعِهِ إلى أَحسنِ هَيأتِهِ مُنتصِبَ القامةِ مُعْتَدِلَها، فيَحْمَدُ ربَّهُ ويُثْنِي عليهِ بأنْ وَفَّقَهُ لذلكَ الخضوعِ ثُمَّ نقَلَهُ منهُ إلى مَقامِ الاعتدالِ والاستواءِ بينَ يَدَيْهِ واقِفاً في خِدمتِهِ كما كانَ في حالِ القِراءةِ.
ولذلكَ الاعتدالِ ذَوْقٌ خاصٌّ وحالٌ يَحْصُلُ للقلبِ سِوَى ذَوْقِ الركوعِ وحالِهِ، وهوَ رُكنٌ مقصودٌ لذاتِهِ كرُكنِ الركوعِ والسجودِ سَواءً، ولهذا كانَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يُطِيلُهُ كما يُطيلُ الركوعَ والسجودَ ويُكْثِرُ فيهِ مِن الثناءِ والحمْدِ والتمجيدِ كما ذَكرناهُ في هَدْيِهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ([24])، وكان في قِيامِ الليلِ يُكْثِرُ فيهِ مِنْ قولِ: ((لِرَبِّيَ الحمْدُ، لِرَبِّيَ الحمْدُ)) ([25]) يُكَرِّرُها.
((فافْتَتَحَ هذا الشِّعَارَ بقولِ الْمُصَلِّي: ((سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ)) أيْ: سَمِعَ سَمْعَ قبولٍ وإجابةٍ، ثُمَّ شَفَعَ بقولِهِ: ((رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، مِلْءَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، وَمِلْءَ مَا بَيْنَهُمَا، وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ، أَهْلُ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ، أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ، وَكُلُّنَا لَكَ عَبْدٌ، لا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ / *)) ([26])
ولا يُهْمَلُ أمْرُ هذهِ الواوِ في قولِهِ: ((رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ)) فإنَّهُ قدْ نُدِبَ الأمرُ بها في (الصحيحينِ) وهيَ تَجعلُ الكلامَ في تقديرِ جُملتينِ قائمتينِ بأنفُسِهما، فإنَّ قولَهُ: ((رَبَّنَا)) مُتَضَمِّنٌ في المعنى: أنتَ الربُّ والملِكُ القيُّومُ الذي بيَدَيْهِ أَزِمَّةُ الأمورِ وإليهِ مَرْجِعُها، فعَطَفَ على هذا المعنى المفهومِ مِنْ قولِهِ: ((رَبَّنَا)) قولَهُ: ((وَلَكَ الْحَمْدُ)) فتَضَمَّن ذلكَ معنى قولِ المُوَحِّدِ: ((لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ)).
ثُمَّ أَخْبَرَ عنْ شأنِ هذا الحمْدِ وعَظمتِهِ قَدْراً وصِفَةً، فقالَ: ((مِلْءَ السَّمَاوَاتِ وَمِلْءَ الأَرْضِ، وَمِلْءَ مَا بَيْنَهُمَا، وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ)) أيْ: قَدْرَ مِلْءِ العالَمِ العُلْوِيِّ والسُّفْلِيِّ والفضاءِ الذي بينَهما، فهذا الحمْدُ قدْ مَلأَ الخلْقَ الموجودَ، وهوَ يَملأُ ما يَخلُقُهُ الربُّ تبارَكَ وتعالى بعدَ ذلكَ وما يَشاؤُهُ، فحَمْدُهُ قدْ مَلأَ كلَّ مَوجودٍ، ومَلأَ ما سيُوجَدُ، فهذا أَحْسَنُ التقديرينِ.
وقيلَ: ما شِئتَ مِنْ شيءٍ وَراءَ العالَمِ. فيكونُ قولُهُ: ((بعدُ)) للزمانِ على الأَوَّلِ، والمكانِ على الثاني، ثُمَّ أَتْبَعَ ذلكَ بقولِهِ: ((أَهْلُ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ)). فعادَ الأمرُ بعدَ الركعةِ إلى ما افْتَتَحَ بهِ الصلاةَ قبلَ الركعةِ مِن الحمْدِ والثناءِ والْمَجْدِ، ثُمَّ أَتْبَعَ ذلكَ بقولِهِ: ((أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ)) تَقريراً لِحَمدِهِ وتَمْجيدِهِ والثناءِ عليهِ، وأنَّ ذلكَ أحَقُّ ما نَطَقَ بهِ العَبْدُ، ثُمَّ أَتْبَعَ ذلكَ بالاعترافِ بالعُبوديَّةِ، وأنَّ ذلكَ حُكْمٌ عامٌّ لجميعِ العَبيدِ، ثُمَّ عَقَّبَ ذلكَ بقولِهِ: ((لا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، ولا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، ولا يَنفعُ ذا الْجَدِّ مِنكَ الْجَدُّ)) وكانَ يقولُ ذلكَ بعدَ انقضاءِ الصلاةِ أيضاً، فيقولُهُ في هذَيْنِ الْمَوضعينِ اعترافاً بتوحيدِهِ، وأنَّ النِّعَمَ كلَّها منهُ، وهذا يَتضمَّنُ أُموراً:
- أحدُها: أنَّهُ المنفرِدُ بالعَطاءِ والْمَنْعِ.
- الثاني: أنَّهُ إذا أَعْطَى لم يُطِقْ أحدٌ مَنْعَ مَنْ أَعطاهُ، وإذا مَنَعَ لم يُطِقْ أحدٌ إِعطاءَ مَنْ مَنَعَهُ.
- الثالثُ: أنَّهُ لا يَنفعُ عندَهُ ولا يُخَلِّصُ مِنْ عذابِهِ ولا يُدْنِي مِنْ كرامتِهِ جُدُودُ بني آدمَ وحظوظُهم من المُلْكِ والرئاسةِ والغِنَى وطِيبِ العَيشِ وغيرِ ذلكَ، إِنَّمَا يَنفعُهمْ عندَهُ التقرُّبُ إليهِ بطاعتِهِ وإيثارُ مَرضاتِهِ.
ثُمَّ ختَمَ ذلكَ بقولِهِ: ((اللَّهُمَّ اغْسِلْنِي مِنْ خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ)) ([27])، كما افتتحَ بهِ الركعةَ في أَوَّلِ الاستفتاحِ كما كانَ يَختِمُ الصلاةَ بالاستغفارِ، وكان الاستغفارُ في أَوَّلِ الصلاةِ ووَسَطِها وآخِرِها، فاشتمَلَ هذا الركْنُ على أَفضلِ الأذكارِ وأَنفعِ الدعاءِ: مِنْ حَمْدِهِ وتمجيدِهِ والثناءِ عليهِ والاعترافِ لهُ بالعُبوديَّةِ والتوحيدِ والتَّنَصُّلِ إليهِ مِن الذنوبِ والخطايا. فهوَ ذِكْرٌ مقصودٌ في رُكْنٍ مَقصودٍ ليسَ بدونِ الركوعِ والسجودِ))([28]).
ثُمَّ شَرَع لهُ أن يُكَبِّرَ ويَخِرَّ ساجداً، ويُعْطِيَ في سجودِهِ كلَّ عُضْوٍ مِنْ أعضائِهِ حَظَّهُ مِن العُبوديَّةِ، فيَضَعَ نَاصيتَهُ بالأرضِ بينَ يَدَيْ رَبِّهِ مُسْنَدَةً راغماً لهُ أنفُهُ، خاضعاً لهُ قلبُهُ، ويَضَعَ أَشرفَ ما فيهِ - وهوَ وَجهُهُ - بالأرضِ ، ولا سِيَّمَا على الترابِ مُعَفِّراً لهُ بينَ يَدَيْ سَيِّدِهِ راغماً لهُ أنفُهُ، خاضعاً لهُ قلبُهُ وجوارحُهُ، مُتَذَلِّلاً لعَظَمَتِهِ، خاضعاً لعِزَّتِهِ، مُستكيناً بينَ يَديهِ، أَذَلَّ شيءٍ وأكسرَهُ لربِّهِ تعالى، مُسَبِّحاً لهُ بعُلُوِّهِ في أَعظمِ سُفولِهِ، قدْ صارتْ أَعاليهِ مَلْوِيَّةً لأسافلِهِ ذُلاًّ وخُضوعاً وانْكِسَاراً، وقدْ طابَقَ قلبُهُ حالَ جِسمِهِ، فسَجَدَ القلبُ كما سَجَدَ الوجهُ، وقدْ سَجَدَ معه أنفُهُ ويَداهُ ورُكبتاهُ ورِجلاهُ.
وشَرَعَ لهُ أن يُقِلَّ فَخِذَيْهِ عنْ ساقَيْهِ، وبطنَهُ عنْ فَخِذَيْهِ، وعَضُدَيْهِ عنْ جَنْبَيْهِ، ليَأْخُذَ كلُّ جزءٍ منهُ حظَّهُ مِن الخضوعِ ولا يُحَمِّلَ بعضَهُ بعضاً، فأَحْرَى بهِ في هذهِ الحالِ أن يكونَ أَقْرَبَ إلى ربِّهِ منهُ في غيرِها مِن الأحوالِ، كما قالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: ((أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ)) ([29]).
ولما كانَ سجودُ القلبِ خُضوعُهُ التامُّ لربِّهِ أَمْكَنَهُ استدامةُ هذا السجودِ إلى يومِ لِقائِهِ، كما قِيلَ لبعضِ السلَفِ: هلْ يَسجدُ القلبُ؟ قالَ: ((إِي وَاللهِ، سَجدةً لا يَرْفَعُ رأسَهُ منها حتَّى يَلْقَى اللهَ)) ([30]).
* * *
ولَمَّا بُنِيَت الصلاةُ على خَمْسٍ: القراءةِ والقيامِ والركوعِ والسجودِ والذكرِ سُمِّيَتْ باسمِ كلِّ واحدٍ مِنْ هذهِ الْخَمْسِ:
- فسُمِّيَتْ قِيَاماً كقولِهِ تعالى: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2)} [المزمل: 2] وقولِهِ: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)}[البقرة: 238].
- وقراءةً كقولِهِ: {وَقُرْآَنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآَنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78)} [الإسراء: 78].
- وركوعاً كقولِهِ تعالى: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)} [البقرة: 43] وقولِهِ:
- {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48)} [المرسلات: 48].
- وسجوداً كقولِهِ: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98)} [الحجر: 98] وقولِهِ: {كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)} [العلق: 19].
- وذِكْراً كقولِهِ: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] وقولِهِ: {لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [المنافقون: 9].
وأَشرَفُ أفعالِها السجودُ، وأَشرفُ أذكارِها القراءةُ، وأَوَّلُ سورةٍ أُنْزِلَتْ على النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ افْتُتِحَتْ بالقراءةِ وخُتِمَتْ بالسجودِ. ووُضِعَت الركعةُ على ذلكَ، أوَّلُها قراءةٌ وآخرُها سجودٌ.
ثُمَّ شَرَعَ لهُ أن يَرفعَ رأسَهُ ويَعتدلَ جالساً، ولَمَّا كانَ هذا الاعتدالُ مَحفوفاً بسُجودينِ: سُجودٍ قبلَهُ وسجودٍ بعدَهُ، فيَنتقلُ مِن السجودِ إليهِ، ثُمَّ مِنهُ إلى السجودِ كانَ لهُ شأنٌ، فكانَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يُطيلُهُ بقَدْرِ السجودِ، يَتضرَّعُ فيهِ إلى رَبِّهِ، ويَستغفرُهُ ويَسألُهُ رحمتَهُ وهِدايتَهُ ورِزْقَهُ وعافيتَهُ، ولهُ ذوقٌ خاصٌّ وحالٌ للقلبِ غيرُ ذَوقِ السجودِ وحالِهِ، فالعبدُ في هذا القعودِ قدْ تَمَثَّلَ جاثياً بينَ يَدَيْ ربِّهِ مُلْقِياً نفسَهُ بينَ يَديهِ، مُعْتَذِراً إليهِ مِمَّا جَنَاهُ، راغباً إليهِ أن يَغفرَ لهُ ويَرحمَهُ، مُسْتَعْدِياً على نفسِهِ الأمَّارةِ بالسوءِ.
وكان النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّم يُكرِّرُ الاستغفارَ في هذهِ القَعْدَةِ، ويُكْثِرُ رَغبتَهُ إلى اللهِ فيها.
فمَثِّلْ نفسَكَ بِمَنْـزِلَةِ غريمٍ عليهِ حقُّ اللهِ، وأنتَ كفيلٌ بهِ، والغريمُ مُمَاطِلٌ مخادِعٌ، وأنتَ مطلوبٌ بالكفالةِ، والغريمُ مطلوبٌ بالحقِّ، لتَتَخَلَّصَ مِن المطالَبَةِ.
والقلبُ شَريكُ النفْسِ في الخيرِ والشرِّ، والثوابِ والعِقابِ، والحمْدِ والذَّمِّ.
والنفْسُ مِنْ شأنِها الإباقُ، والخروجُ مِنْ رِقِّ العُبوديَّةِ، وتَضييعُ حقوقِ اللهِ التي قِبَلَها، والقلبُ شَريكُها إن قَوِيَ سلطانُها، وأَسيرُها، وهيَ شَريكةٌ، وأَسيرةٌ إن قَوِيَ سُلطانُهُ.
فشُرِعَ للعبدِ إذا رَفَعَ رأسَهُ مِن السجودِ أن يَجْثُوَ بينَ يَدَيِ اللهِ مُسْتَعْدِياً على نفسِهِ، مُعْتَذِراً إلى ربِّهِ مِمَّا كانَ منها، راغباً إليهِ أن يَرْحَمَهُ ويَغفرَ لهُ ويَهديَهُ ويَرزقَهُ ويُعافيَهُ ، وهذهِ الخمْسُ هيَ جُمَّاعُ خيرِ الدنيا والآخرةِ؛ فإنَّ العبدَ مُحتاجٌ ، بلْ مُضْطَرٌّ إلى تحصيلِ مَصالحِهِ في الدنيا وفي الآخرةِ، ودَفْعِ الْمَضارِّ عنهُ في الدنيا والآخرةِ، وقدْ تَضَمَّنَها هذا الدعاءُ فإنَّ الرزقَ يَجْلُبُ لهُ مَصالحَ دُنياهُ، والعافيَةَ تَدْفَعُ مَضَارَّها، والهدايَةَ تَجْلُبُ لهُ مَصالحَ أُخْرَاهُ، والمغفرةَ تَدْفَعُ عنهُ مَضَارَّها، والرحمةَ تَجْمَعُ ذلكَ كُلَّهُ.
وشُرِعَ لهُ أنْ يعودَ ساجداً كما كانَ، ولا يُكتفَى منهُ بسجدةٍ واحدةٍ في الركعةِ كما اكْتُفِيَ منهُ بركوعٍ واحدٍ، لفَضْلِ السجودِ وشَرَفِهِ ومَوْقِعِهِ مِن اللهِ، حتَّى إنَّهُ أَقْرَبُ ما يكونُ إلى عَبْدِهِ وهوَ ساجدٌ، وهوَ أَدْخَلُ في العُبوديَّةِ وأَعْرَقُ فيها مِنْ غيرِهِ، ولهذا جُعِلَ خاتمةُ الركعةِ وما قبلَهُ كالْمُقَدِّمةِ بينَ يَديهِ، فمَحَلُّهُ مِن الصلاةِ مَحَلُّ طوافِ الزيارةِ، وما قَبْلَهُ مِن التعريفِ وتوابعِهِ مُقدِّماتٌ بينَ يديهِ، وكما أنَّهُ أَقربُ ما يكونُ العبدُ مِنْ رَبِّهِ وهوَ ساجدٌ فكذلكَ أَقْرَبُ ما يكونُ منهُ في الْمَناسِكِ وهوَ طائفٌ، ولهذا قالَ بعضُ الصحابةِ لِمَنْ كَلَّمَهُ في طَوَافِهِ بِأَمْرٍ مِن الدُّنْيا: “ أَتَقُولُ هَذَا وَنَحْنُ نَتراءَى اللهَ في طَوافِنَا “. ولهذا - واللهُ أَعلمُ- جُعِلَ الركوعُ قبلَ السجودِ تَدريجيًّا وانتقالاً مِن الشيءِ إلى ما هوَ أَعْلَى منهُ.
وشُرِعَ لهُ تكريرُ هذهِ الأفعالِ والأقوالِ إذْ هيَ غِذاءُ القلبِ والرُّوحِ التي لا قِوامَ لهما إلاَّ بها، فكانَ تكريرُها بمنـزِلةِ تَكريرِ الأكلِ حتَّى يَشْبَعَ، والشُّرْبِ حتَّى يَرْوَى، فلوْ تَناوَلَ الجائعُ لُقمةً واحدةً وأَقْلَعَ عن الطعامِ، ماذا كانت تُغْنِي عنهُ.
ولهذا قالَ بعضُ السلَفِ: (مَثَلُ الذي يُصَلِّي ولا يَطْمَئِنُّ في صلاتِهِ كمَثَلِ الجائعِ إذا قُدِّمَ إليهِ طعامٌ فتَناوَلَ منهُ لُقمةً أوْ لُقْمَتَيْنِ ماذا تُغْنِي عنهُ؟!!).
(([فـ]هوَ كجائعٍ قُدِّمَ إليهِ طعامٌ لذيذٌ جِدًّا، فأَكَلَ منهُ لُقمةً أوْ لُقمتينِ، فماذا يُغنيانِ عنهُ؟ ولكنْ لوْ أَحَسَّ بجُوعِهِ لَمَا قامَ مِن الطعامِ حتَّى يَشبعَ منهُ وهوَ يَقْدِرُ على ذلكَ. لكنَّ القلْبَ شَبعانُ مِنْ شَيْءٍ آخَرَ)) ([31]).
هذا وفي إعادةِ كلِّ قولٍ أوْ فِعْلٍ مِن العُبُودِيَّةِ والقُرْبِ، وتنـزيلِ الثانيَةِ مَنـزلةَ الشكْرِ على الأُولَى، وحُصولِ مَزيدٍ منها، ومَعرفةٍ وإقبالٍ، وقوَّةِ قلبٍ، وانشراحِ صَدْرٍ، وزَوالِ دَرَنٍ ووَسَخٍ عن القلبِ بِمَنْـزِلَةِ غَسْلِ الثوبِ مَرَّةً بعدَ مَرَّةٍ.
فهذه حِكمةُ اللهِ التي بَهَرَت العقولَ في خَلْقِهِ وأَمْرِهِ ودَلَّتْ على كمالِ رَحمتِهِ ولُطْفِهِ.
فلَمَّا قَضَى صَلاتَهُ وأَكْمَلَها ولم يَبْقَ إلاَّ الانصرافُ منها شُرِعَ لهُ الجلوسُ بينَ يَدَيْ رَبِّهِ مُثْنِياً عليهِ بأَفضلِ التحِيَّاتِ التي لا تَصْلُحُ إلاَّ لهُ، ولا تَليقُ بغَيرِهِ.
ولَمَّا كانَ عادةُ الملوكِ أن يُحَيَّوْا بأنواعِ التَّحِيَّاتِ مِن الأفعالِ والأقوالِ الْمُتَضَمِّنَةِ للخضوعِ والثناءِ وطلَبِ البقاءِ ودوامِ الْمُلْكِ، فمِنهم مَنْ يُحَيَّى بالسجودِ، ومِنهم مَنْ يُحَيَّى بالثناءِ عليهِ، ومنهم مَنْ يُحَيَّى بطَلَبِ البقاءِ والدوامِ لهُ، ومنهم مَنْ يُجْمَعُ لهُ ذلكَ كُلُّهُ.
فكانَ الْمَلِكُ الحقُّ سبحانَهُ أَوْلَى بالتَّحِيَّاتِ كلِّها مِنْ جميعِ خَلْقِهِ، وهيَ لهُ بالحقيقةِ، ولهذا فُسِّرَت التَّحِيَّاتُ بالْمُلْكِ، وفُسِّرَتْ بالبقاءِ والدوامِ. وحقيقتُها ما ذَكَرْتُهُ وهيَ تَحِيَّاتُ الْمُلْكِ، فالْمَلِكُ الحقُّ الْمُبينُ أَوْلَى بها.
فكلُّ تَحِيَّةٍ يُحَيَّا بها مَلِكٌ مِنْ سُجودٍ أوْ ثَناءٍ أوْ بَقاءٍ ودَوامٍ فهيَ للهِ عزَّ وجَلَّ، ولهذا أَتَى بها مَجموعةً مُعَرَّفَةً باللامِ - أداةِ العمومِ - وهيَ جَمْعُ تَحِيَّةٍ، وهيَ تَفعيلةٌ مِن الحياةِ، وأَصْلُها تَحْيِيَةٌ بوَزنِ تَكْرِمَةٍ ثُمَّ أُدْغِمَ أَحَدُ الْمِثْلَينِ في الآخَرِ فصَارَتْ تَحِيَّةً، وإذا كانَ أَصْلُها مِن الحياةِ، والمطلوبُ لِمَنْ يُحَيَّا بها دَوامُ الحياةِ، وكانوا يَقولونَ لِمُلُوكِهِم: لكَ الحياةُ الباقيَةُ ولكَ الحياةُ الدائمةُ، وبعضُهم يقولُ: عشرةَ آلافِ سنةٍ، واشْتُقَّ منها: أَدامَ اللهُ أَيَّامَكَ، وأطالَ اللهُ بقاءَكَ، ونحوَ ذلكَ مِمَّا يُرادُ بهِ دوامٌ لِحياةِ الْمَلِكِ. وذلكَ لا يَنبغِي إلاَّ لِلْحَيِّ الذي لا يموتُ ولِلْمَلِكِ الذي كلُّ مُلْكٍ زائلٌ غيرَ مُلْكِهِ.
ثُمَّ عَطَفَ عليها الصلواتِ بلَفْظِ الجمْعِ والتعريفِ ليَشمَلَ كلَّ ما أُطْلِقَ عليهِ لفظُ الصلاةِ خُصوصاً وعُموماً، فكلُّها للهِ لا تَنْبَغِي إلاَّ لهُ فالتَّحِيَّاتُ لهُ مُلْكاً، والصلواتُ لهُ عُبُودِيَّةً واستحقاقاً، فالتَّحِيَّاتُ لا تكونُ إلاَّ لهُ، والصلواتُ لا تَنبغِي إلاَّ لهُ.
ثُمَّ عَطَفَ عليها الطَّيِّبَاتِ كذلكَ، وهذا يَتناوَلُ أَمْرَيْنِ: الوصْفَ والْمُلْكَ.
فأَمَّا الوَصْفُ فإنَّهُ سُبحانَهُ طَيِّبٌ، وكلامُهُ طَيِّبٌ، وفِعْلُهُ كلُّهُ طَيِّبٌ، ولا يَصْدُرُ منهُ إلاَّ الطَّيِّبُ، ولا يُضافُ إليهِ إلاَّ الطَّيِّبُ، ولا يَصْعَدُ إليهِ إلاَّ الطَّيِّبُ، فالطَّيِّبَاتُ لهُ وَصْفاً وفِعْلاً وقَولاً ونِسبةً، وكلُّ طَيِّبٍ مُضافٌ إليهِ، وكلُّ مُضافٍ إليهِ طَيِّبٌ، فلهُ الكلماتُ الطَّيِّبَاتُ والأفعالُ الطَّيِّبَاتُ، وكلُّ مُضافٍ إليهِ - كبَيْتِهِ وعَبْدِهِ ورُوحِهِ وناقتِهِ وجَنَّتِهِ - فهيَ طَيِّبَاتٌ.
وأيضاً فمعاني الكلماتِ الطَّيِّبَاتِ للهِ وَحْدَهُ؛ فإنَّ الكلماتِ الطَّيِّبَاتِ تَتَضَمَّنُ تَسبيحَهُ وتَحميدَهُ وتكبيرَهُ وتَمجيدَهُ والثناءَ عليهِ بآلائِهِ وأَوصافِهِ، فهذه الكلماتُ الطَّيِّبَاتُ التي يُثْنَى عليهِ بها ومعانيها لهُ وَحْدَهُ لا يَشْرَكُهُ فيها غيرُهُ، كسُبحانَكَ اللَّهُمَّ وبِحمدِكَ وتَبارَكَ اسمُكَ وتعالى جَدُّكَ ولا إلهَ غَيْرُكَ، ونحوَ سُبحانَ اللهِ والحمدُ للهِ ولا إلهَ إلاَّ اللهُ واللهُ أكبرُ، ونحوَ سُبحانَ اللهِ وبِحمدِهِ سُبحانَ اللهِ العظيمِ.
فكُلُّ طَيِّبٍ فَلَهُ وعندَهُ ومنهُ وإليهِ، وهوَ طَيِّبٌ لا يَقبلُ إلاَّ طَيِّباً، وهوَ إلهُ الطَّيبينَ، وجِيرانُهُ في دارِ كَرامتِهِ هم الطَّيِّبُونَ.
فتَأَمَّلْ أَطيبَ الكلماتِ بعدَ القرآنِ كيفَ لا تَنبغِي إلاَّ للهِ، وهيَ: سُبحانَ اللهِ، والحمدُ للهِ، ولا إلهَ إلاَّ اللهُ، واللهُ أكبرُ، ولا حولَ ولا قُوَّةَ إلاَّ باللهِ.
فإنَّ (سُبحانَ اللهِ) تَتضمَّنُ تَنـزيهَهُ عنْ كُلِّ نَقْصٍ وعَيبٍ وسُوءٍ، وعنْ خصائصِ المخلوقينَ وشَبَهِهِمْ.
و (الحمدُ للهِ) تَتَضَمَّنُ إثباتَ كلِّ كمالٍ لهُ قولاً وفِعلاً ووَصْفاً على أَتَمِّ الوُجوهِ وأَكْمَلِها أَزَلاً وأبداً.
و (لا إلهَ إلاَّ اللهُ) تَتَضَمَّنُ انفرادَهُ بالإلهيَّةِ، وأنَّ كلَّ مَعبودٍ سِواهُ فبَاطلٌ، وأنَّهُ وَحدَهُ الإلهُ الحقُّ، وأنَّهُ مَنْ تأَلَّهَ غيرَهُ فهوَ بِمَنـزِلةِ مَن اتَّخَذَ بَيتاً مِنْ بيوتِ العنكبوتِ يَأْوِي إليهِ ويَسْكُنُهُ.
و (اللهُ أَكبرُ) تَتَضَمَّنُ أنَّهُ أَكبرُ مِنْ كلِّ شيءٍ وأَجَلُّ، وأَعظمُ وأَعَزُّ، وأَقْوَى وأَقْدَرُ، وأَعْلَمُ وأَحكمُ؛ فهذه الكلماتُ الطَّيِّبَاتُ لا تَصْلُحُ هيَ ومَعانيها إلاَّ للهِ وَحْدَهُ.
ثُمَّ شُرِعَ لهُ أن يُسَلِّمَ على عِبادِ اللهِ الذينَ اصْطَفَى بعدَ تَقَدُّمِ الحمدِ والثناءِ عليهِ بما هوَ أهلُهُ، فطَابَقَ ذلكَ قولَهُ: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل: 59] وكأنَّهُ امتثالٌ لهُ، وأيضاً فإنَّ هذا تَحِيَّةُ المخلوقِ، فشُرِعَتْ بعدَ تَحِيَّةِ الخالقِ، وقَدَّمَ في هذهِ التحيَّةِ أَوْلَى الْخَلْقِ بها وهوَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ الذي نَالَتْ أمَّتُهُ على يَدِهِ كلَّ خيرٍ. وعلى نفسِهِ بَعْدَهُ، وعلى سائرِ عِبادِ اللهِ الصالحينَ، وأخصُّهمْ بهذه التحيَّةِ الأنبياءُ، ثُمَّ أصحابُ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، معَ عُمومِها لكلِّ عبدٍ للهِ صالحٍ في الأرضِ والسماءِ ([32]).
ثُمَّ شُرِعَ لهُ بعدَ ذِكْرِ هذهِ التحيَّةِ والتسليمِ على مَنْ يَسْتَحِقُّ التسليمَ خُصوصاً وعُموماً أن يَشهدَ شَهادةَ الحقِّ التي بُنِيَتْ عليها الصلاةُ، وهيَ حَقٌّ مِنْ حُقوقِها ولا تَنفعُهُ إلاَّ بقَرينتِها وهيَ شَهادةٌ لرسولِ اللهِ بالرسالةِ، وخُتِمَتْ بها الصلاةُ كما قالَ عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ: (فإذا قلتَ ذلكَ فقدْ قَضيتَ صَلاتَكَ، فإنْ شئتَ أن تقومَ فقُمْ، وإن شِئتَ أن تَقعُدَ فاقْعُدْ) ([33]) وهذا إمَّا أن يُحْمَلَ على قَضاءِ الصلاةِ حَقيقةً كما يقولُهُ الكُوفيُّونَ، أوْ على مُقارَبَةِ انقضائِها ومُشارَفَتِهِ كما يقولُهُ أهلُ الحجازِ وغيرُهم، وعلى التقديرينِ فجُعِلَتْ شَهادةُ الحقِّ خاتمةَ الصلاةِ كما شُرِعَ أن تكونَ خاتِمَةَ الحياةِ، فمَنْ كانَ آخِرُ كلامِهِ لا إلهَ إلاَّ اللهُ دَخَلَ الجنةَ. وكذلكَ شُرِعَ للمُتَوَضِّئِ أن يَخْتِمَ وُضوءَهُ بالشهادتينِ.
ثُمَّ لَمَّا قَضَى صلاتَهُ، أُذِنَ لهُ أن يَسألَ حاجتَهُ، وشُرِعَ لهُ أن يَتَوَسَّلَ قَبْلَهَا بالصلاةِ على النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فإنَّها مِنْ أَعظمِ الوسائلِ بينَ يَدَيِ الدعاءِ كما في السُّنَنِ، عنْ فَضالةَ بنِ عُبيدٍ، أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ قالَ: ((إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِحَمْدِ اللهِ، وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، وَلْيُصَلِّ عَلَى رَسُولِهِ، ثُمَّ لِيَسَلْ حَاجَتَهُ)) ([34]).
فجاءت التحيَّاتُ على ذلكَ، أوَّلُها حَمْدُ اللهِ والثناءُ عليهِ، ثُمَّ الصلاةُ على رسولِهِ، ثُمَّ الدعاءُ آخِرَ الصلاةِ، وأَذِنَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ للمُصَلِّي بعدَ الصلاةِ عليهِ أن يَتخَيَّرَ مِن الدعاءِ أَعْجَبَهُ إليهِ، ونَظيرُ هذا ما شُرِعَ لِمَنْ سَمِعَ المؤَذِّنَ أن يقولَ كما يقولُ، وأن يقولَ: (رَضِيتُ باللهِ رَبًّا وبالإسلامِ دِيناً وبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ رَسُولاً، وأن يَسألَ اللهَ لرسولِهِ الوَسيلةَ، والفضيلةَ وأن يَبعثَهُ المقامَ المحمودَ ثُمَّ يُصَلِّيَ عليهِ)، ثُمَّ يَسألَ حاجتَهُ. فهذه خَمْسُ سُنَنٍ في إجابةِ المؤَذِّنِ لا يَنبغِي الغَفلةُ عنها.
((فكأنَّ الْمُصَلِّيَ تَوَسَّلَ إلى اللهِ – سُبحانَهُ – بعُبوديَّتِهِ، ثُمَّ بالثناءِ عليهِ والشهادةِ لهُ بالوحدانيَّةِ ولرسولِهِ بالرسالةِ، ثُمَّ الصلاةِ على رسولِهِ، ثُمَّ قيلَ لهُ: تَخيَّرْ مِن الدعاءِ أَحَبَّهُ إليكَ فذاكَ الحَقُّ الذي عَليكَ، وهذا الحَقُّ الذي لكَ)) ([35]).
((ثم خُتِمَت [الصلاةُ] بالتسليمِ، وجُعِلَ تَحليلاً لها يَخْرُجُ بهِ الْمُصَلِّي منها، كما يَخْرُجُ بتحليلِ الْحَجِّ منهُ، وجُعِلَ هذا التحليلُ دُعاءَ الإمامِ لِمَنْ وَراءَهُ بالسلامةِ التي هيَ أصلُ الخيرِ وأساسُهُ، فشُرِعَ لِمَنْ وَراءَهُ أن يَتَحَلَّلَ بِمِثْلِ ما تَحَلَّلَ بهِ الإمامُ، وفي ذلكَ دُعاءٌ لهُ وللمُصَلِّينَ معه بالسلامِ، ثُمَّ شُرِعَ ذلكَ لكلِّ مُصَلٍّ وإن كانَ مُنْفَرِداً.
فلا أَحْسَنَ مِنْ هذا التحليلِ للصلاةِ، كما أنَّهُ لا أَحسنَ مِنْ كونِ التكبيرِ تَحريماً لها؛ فتحريمُها تَكبيرُ الربِّ تعالى الجامعُ لإثباتِ كلِّ كَمالٍ لهُ، وتَنـزيهُهُ عنْ كلِّ نَقْصٍ وعَيْبٍ، وإفرادُهُ وتخصيصُهُ بذلكَ وتعظيمُهُ وإجلالُهُ؛ فالتكبيرُ يَتضمَّنُ تفاصيلَ أفعالِ الصلاةِ وأقوالِها وهيئاتِها؛ فالصلاةُ مِنْ أَوَّلِها إلى آخِرِها تَفصيلٌ لِمَضْمُونِ: ((اللهُ أَكبر)).
وأيُّ تحريمٍ أَحْسَنُ مِنْ هذا التحريمِ المتضَمِّنِ للإخلاصِ والتوحيدِ؟!! وهذا التحليلُ الْمُتَضَمِّنُ الإحسانَ إلى إخوانِهِ المؤمنينَ؟!!؛ فافْتُتِحَت بالإخلاصِ، وخُتِمَتْ بالإحسانِ)) ([36])

[فصلٌ]:
وسِرُّ الصلاةِ ورُوحُها ولُبُّها هوَ إقبالُ العبدِ على اللهِ بكُلِّيَّتِهِ، فكما أنَّهُ لا يَنبغِي لهُ أن يَصْرِفَ وَجهَهُ عنْ قِبْلَةِ اللهِ يَميناً وشِمَالاً، فكذلكَ لا يَنبغِي لهُ أن يَصْرِفَ قَلْبَهُ عنْ رَبِّهِ إلى غيرِهِ.
فالكعبةُ التي هيَ بيتُ اللهِ قِبلةُ وَجهِهِ وبَدَنِهِ، وربُّ البيتِ تَبارَكَ وتعالى هوَ قِبلةُ قَلْبِهِ ورُوحِهِ، وعلى حَسَبِ إِقبالِ العَبْدِ على اللهِ في صلاتِهِ يكونُ إقبالُ اللهِ عليهِ، وإذا أَعْرَضَ أَعْرَضَ اللهُ عنهُ.
وللإقبالِ في الصلاةِ ثلاثُ مَنازِلَ: -
- إقبالٌ على قَلْبِهِ فيَحفظُهُ مِن الوَساوِسِ والْخَطَراتِ الْمُبْطِلَةِ لثوابِ صَلاتِهِ، أو الْمُنْقِصَةِ لهُ.
- وإقبالٌ على اللهِ بِمُراقبتِهِ حتَّى كأنَّهُ يَراهُ.
- وإقبالٌ على معاني كلامِهِ وتفاصيلِ عُبودِيَّةِ الصلاةِ ليُعْطِيَهَا حَقَّهَا.
فباستكمالِ هذهِ الْمَراتبِ الثلاثِ تكونُ إقامةُ الصلاةِ حقًّا، ويكونُ إقبالُ اللهِ على عبدِهِ بِحَسَبِ ذلكَ.
- فإذا انتَصَبَ العبدُ قائماً بينَ يديهِ فإقبالُهُ على قَيُّومِيَّتِهِ وعَظمتِهِ.
- وإذا كَبَّرَ فإقبالُهُ على كِبريائِهِ.
- فإذا سَبَّحَهُ وأَثْنَى عليهِ فإقبالُهُ على سُبُحَاتِ وَجهِهِ وتَنـزيهٌ عمَّا لا يَليقُ بهِ، والثناءُ عليهِ بأوصافِ جمالِهِ.
- فإذا استعاذَ بهِ فإقبالُهُ على رُكنِهِ الشديدِ وانتصارُهُ لعبدِهِ ومَنْعُهُ لهُ وحِفْظُهُ مِنْ عَدُوِّهِ، فإذا تَلا كلامَهُ فإقبالُهُ على مَعرفتِهِ مِنْ كلامِهِ، حتَّى كأنَّهُ يَراهُ ويُشاهِدُهُ في كلامِهِ فهوَ كما قالَ بعضُ السلَفِ: (لَقَد تَجَلَّى اللهُ لعِبادِهِ في كَلامِهِ).
فهوَ في هذهِ الحالِ مُقْبِلٌ على ذاتِهِ وصِفاتِهِ وأفعالِهِ وأحكامِهِ وأسمائِهِ.
- فإذا رَكَعَ فإقبالُهُ على عَظمتِهِ وجلالِهِ وعِزِّهِ، ولهذا شُرِعَ لهُ أن يقولَ: سُبحانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ.
- فإذا رَفَعَ رأسَهُ مِن الركوعِ فإقبالُهُ على حَمْدِهِ والثناءِ عليهِ وتَمجيدِهِ وعبوديَّتِهِ لهُ وتَفرُّدِهِ بالعطاءِ والمنْعِ. فإذا سَجَدَ فإقبالُهُ على قُرْبِهِ والدُّنُوِّ منهُ، والخضوعِ لهُ والتذَلُّلِ بينَ يَديهِ، والانكسارِ والتملُّقِ.
- فإذا رَفَعَ رأسَهُ وجَثَا على رُكبتِهِ فإقبالُهُ على غِناهُ وجُودِهِ وكَرَمِهِ، وشِدَّةِ حاجتِهِ إليهِ، وتَضَرُّعِهِ بينَ يديهِ، والانكسارِ أن يَغفرَ لهُ ويَرحمَهُ ويُعافِيَهُ ويَهدِيَهُ ويَرزُقَهُ.
- فإذا جَلَسَ في التشَهُّدِ فلهُ حالٌ آخَرُ وإقبالٌ آخَرُ شِبْهُ حالِ الحاجِّ في طوافِ الوَداعِ، وقد اسْتَشْعَرَ قَلبُهُ الانصرافَ مِنْ بينِ يَدَيْ رَبِّهِ، ومُوافاةَ العلائقِ والشواغلِ التي قَطَعَها الوقوفُ بينَ يَديهِ، وقدْ ذاقَ تَأَلُّمَ قلبِهِ وعذابَهُ بها، وباشَرَ روحَ القُرْبِ ونَعيمَ الإقبالِ على اللهِ وعاقبتَهُ، وانقطاعَها عنهُ مُدَّةَ الصلاةِ ، ثُمَّ اسْتَشْعَرَ قَلْبُهُ عَوْدَها إليهِ بخروجِهِ مِنْ حِمَى الصلاةِ، فهوَ يَحمِلُ هَمَّ انقضاءِ الصلاةِ وفَراغِها، ويقولُ: لَيْتَهَا اتَّصَلَتْ بيومِ اللقاءِ، ويَعلَمُ أنَّهُ يَنْصَرِفُ مِنْ مُناجاةِ مَنْ كُلُّ السعادةِ في مُناجاتِهِ، إلى مُناجاةِ مَن الأَذَى والهمُّ والغمُّ والنكَدُ في مُناجاتِهِ، ولا يَشعُرُ بهذا وما هذا إلاَّ قَلْبٌ حَيٌّ مَعمورٌ بذِكْرِ اللهِ ومَحَبَّتِهِ والأُنْسِ بهِ.
* * *
ولَمَّا كانَ العبدُ بينَ أمرينِ مِنْ رَبِّهِ عَزَّ وجَلَّ: -
- أحدُهما: حَكَمٌ عليهِ في أحوالِهِ كلِّها ظاهراً وباطناً، واقتضاؤُهُ منهُ القيامَ بعُبوديَّةِ حُكْمِهِ، فإنَّ لكلِّ حُكْمٍ عُبوديَّةً تَخُصُّهُ، أَعْنِي الْحُكْمَ الكونيَّ القَدَرِيَّ.
- والثاني: فِعلٌ يَفعلُهُ العبدُ عُبودِيَّةً لرَبِّهِ، وهوَ مُوجَبُ حُكْمِهِ الدينيِّ الأَمْرِيِّ.
وكِلا الأمرين يُوجِبَان تَسليمَ النفْسِ إليهِ تعالى.
ولهذا اشْتُقَّ لهُ اسمُ الإسلامِ مِن التسليمِ، فإنَّهُ لَمَّا أَسْلَمَ نفسَهُ لحُكْمِ رَبِّهِ الدِّينِيِّ الأَمْرِيِّ، ولِحُكْمِهِ الكونيِّ القَدَرِيِّ بقِيامِهِ بعُبوديَّتِهِ فيهِ لا باسترسالِهِ معه اسْتَحَقَّ اسمَ الإسلامِ، فقيلَ لهُ: مُسلمٌ.
ولَمَّا اطْمَأَنَّ قلبُهُ بذِكْرِهِ وكلامِهِ ومَحَبَّتِهِ وعُبوديَّتِهِ، سَكَنَ إليهِ وقَرَّتْ عينُهُ بهِ فَنالَ الأمانَ بإيمانِهِ، وكان قِيامُهُ بهذينِ الأمرينِ أَمْراً ضَروريًّا لهُ لا حياةَ لهُ ولا فَلاحَ ولا سَعادةَ إلاَّ بهما، ولَمَّا كانَ ما بُلِيَ بهِ مِن النفْسِ الأمَّارةِ، والهوى الْمُقْتَضِي، أو الطِّباعِ الْمُطالِبةِ، والشيطانِ الْمُغْوِي، يَقتضِي منهُ إضاعةَ حَظِّهِ مِنْ ذلكَ أوْ نُقصانَهُ اقْتَضَتْ رَحمةُ العزيزِ الرحيمِ أن شَرَعَ لهُ الصلاةَ مُخْلِفَةً عليهِ ما ضاعَ منهُ، رادَّةً عليهِ ما ذَهَبَ، مُجَدِّدَةً لهُ ما أَخْلَقَ مِنْ إيمانِهِ، وجُعِلَتْ صُورتُها على صورةِ أفعالِهِ خُشوعاً وخُضوعاً وانقياداً وتَسليماً، وأَعْطَى كلَّ جارحةٍ مِن الجوارحِ حَظَّها مِن العُبوديَّةِ، وجَعَلَ ثَمَرَتَها ورُوحَها إقبالَهُ على رَبِّهِ فيها بكُلِّيَّتِهِ، وجَعَلَ ثوابَها وجَزاءَها القُرْبَ منهُ ونَيْلَ كَرامتِهِ في الدنيا والآخرةِ، وجَعَل مَنْـزِلَتَها ومَحَلَّها الدخولَ على اللهِ تَبارَكَ وتعالى والتزَيُّنَ للعَرْضِ عليهِ تَذكيراً بالعرْضِ الأكبرِ عليهِ يومَ اللقاءِ.
وكما أنَّ الصومَ ثَمرتُهُ تَطهيرُ النفْسِ، وثمرةُ الزكاةِ تطهيرُ المالِ، وثمرةُ الحَجِّ وُجوبُ المغفرةِ، وثَمرةُ الجهادِ تَسليمُ النفْسِ التي اشتراها سُبحانَهُ مِن العِبادِ، وجَعَلَ الجنَّةَ ثَمَنَها، فالصلاةُ ثَمَرَتُها الإقبالُ على اللهِ، وإقبالُ اللهِ سُبحانَهُ على العَبْدِ، وفي الإقبالِ جَميعُ ما ذُكِرَ مِنْ ثَمراتِ الأعمالِ؛ ولذلكَ لم يَقُل النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: جُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي في الصومِ ولا في الْحَجِّ والعُمرةِ. وإِنَّمَا قالَ: ((وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلاةِ)) ([37]) وتَأَمَّلْ قولَهُ: ((وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلاةِ)) ولم يَقُلْ بالصلاةِ، إعلاماً بأنَّ عينَهُ إِنَّمَا تَقِرُّ بدخولِهِ فيها، كما تَقِرُّ عينُ الْمُحِبِّ بِمُلابَسَتِهِ لِمَحبوبِهِ، وتَقِرُّ عينُ الخائفِ بدُخولِهِ في مَحَلِّ أَمْنِهِ، فقُرَّةُ العينِ بالدخولِ في الشيءِ أَكْمَلُ وأَتَمُّ مِنْ قُرَّةِ العينِ بهِ قَبلَ الدخولِ، ولَمَّا جاءَ إلى راحةِ القلبِ مِنْ تَعَبِهِ ونَصَبِهِ قالَ: ((يَا بِلالُ أَرِحْنَا بِالصَّلاةِ)) ([38])؛ أيْ: أَقِمْهَا لنَستريحَ بها مِنْ مُقاساةِ الشواغلِ، كما يَستريحُ التَّعبانُ إذا وَصَلَ إلى مَنـزِلِهِ وقَرَّ فيهِ وسَكَنَ.
وتَأَمَّلْ كيفَ قالَ: أَرِحْنَا بها، ولم يَقُلْ: أَرِحْنَا منها، كما يقولُهُ المتكلِّفُ بها الذي يَفعلُها تَكَلُّفاً وغُرْماً، فهوَ لَمَّا امْتَلأَ قلبُهُ بغيرِها وجاءتْ قاطعةً عنْ أَشغالِهِ ومَحبوباتِهِ، وعَلِمَ أنَّهُ لا بُدَّ لهُ منها فهوَ قائلٌ بلسانِ حالِهِ وقالِهِ: نُصَلِّي ونَستريحُ مِن الصلاةِ لا بها.
فهذا لونٌ وذاكَ لونٌ آخَرُ، فالفرْقُ بينَ مَنْ كانت الصلاةُ لِجَوارِحِهِ قَيْداً أوْ لقَلْبِهِ سِجْناً، ولنفسِهِ عائقاً، وبينَ مَنْ كانت الصلاةُ لقَلْبِهِ نَعيماً، ولعينِهِ قُرَّةً ولجوارِحِهِ راحةً، ولنفسِهِ بُستاناً ولَذَّةً.
فالأَوَّلُ الصلاةُ سجنٌ لنفسِهِ وتَقييدٌ لها عن التورُّطِ في مَساقطِ الهَلَكاتِ، وقدْ يَنالونَ بها التكفيرَ والثوابَ ويَنالُهم مِن الرحمةِ بِحَسَبِ عُبوديَّتِهِم للهِ فيها.
والقِسمُ الآخرُ الصلاةُ بُستانُ قُلوبِهم، وقُرَّةُ عيونِهم، ولَذَّةُ نفوسِهم، ورياضُ جوارحِهم فهم فيها يَتَقَلَّبونَ في النَّعيمِ، فصلاةُ هؤلاءِ تُوجِبُ لهم القُرْبَ والْمَنـزِلَةَ مِن اللهِ، ويُشاركونَ الأَوَّلِينَ في ثوابِهم ويَخْتَصُّونَ بأعلاهُ والمنـزلةِ والقُربةِ، وهيَ قَدْرٌ زائدٌ على مُجَرَّدِ الثوابِ، ولهذا يَعِدُ الملوكُ مَنْ أَرضاهُمْ بالأَجْرِ والتقريبِ كما قالَ السَّحَرَةُ لفِرعونَ: {إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114)} [الأعراف: 113-114].
فالأوَّلُ عبدٌ قدْ دَخَلَ الدارَ ، والسِّتْرُ حاجبٌ بينَهُ وبينَ ربِّ الدارِ فهوَ مِنْ وراءِ الستْرِ فلذلكَ لم تَقَرَّ عينُهُ؛ لأنَّهُ في حُجُبِ الشهواتِ وغُيومِ الْهَوَى، ودُخانِ النفْسِ، وبُخارِ الأَمَانِيِّ، فالقلبُ عليلٌ، والنفسُ مُكِبَّةٌ على ما تَهواهُ، طالبةٌ لِحَظِّها العاجلِ.
والآخرُ، قدْ دَخَلَ دارَ الْمَلِكِ ورَفَعَ الستْرَ بينَهُ وبينَهُ، فقَرَّتْ عينُهُ واطمأَنَّتْ نفسُهُ، وخَشَعَ قلبُهُ وجوارحُهُ، وعَبَدَ اللهَ كأنَّهُ يَراهُ، وتَجَلَّى لهُ في كلامِهِ.
فهذه إشارةٌ ما ونُبْذَة يَسيرةٌ جِدًّا في ذَوقِ الصلاةِ) ([39])
).[المرتبع الأسنى: ؟؟]


(1) في الأصلِ (يُطْلِقُ): وهو تَصحيفٌ ظاهرٌ، وقد أشارَ إليه مُحَقِّقُ الكتابِ -أَثابَهُ اللهُ-.
(2) ذكرَهُ ابنُ كثيرٍ في تَفسيرِه (4/239) مَعْزُوًّا لبعضِ الكُتبِ الإلهيَّةِ، وذَكَرَهُ المُناوِيُّ في فَيْضِ القَدِيرِ (2/305) غيرَ مَعْزُوٍّ.
(3) في الأصلِ: (أَهَمَّ مَا عِنْدَهُ مِنَ اللهِ) والعبارةُ هكذا غيرُ مستقيمةٍ، ولعلَّ فيها سقطًا أو إدراجًا، وبما أَثْبَتْنَاه يَسْتَقِيمُ الكلامُ.
([4]) كتابُ الصلاةِ (171-172).
([5]) كتابُ الصلاةِ (172).
([6]) إشارةٌ إلى حديثِ أبي هُرَيْرةَ الذي رواهُ الإمامُ مَالِكٌ في المُوَطَّأِ في كتابِ الصلاةِ /بابُ القراءةِ خَلْفَ الإمامِ، ومن طريقِهِ الإمامُ أحمدُ (9616)، والإمامُ مسلمٌ في كتابِ الصلاةِ / بابُ وُجوبِ قراءةِ الفاتحةِ (876)، ورواهُ التِّرْمِذِيُّ في كتابِ تَفسيرِ القرآنِ /بابُ ومِنْ سُورَةِ فَاتِحَةِ الكتابِ (2953)، والنَّسَائِيُّ في كتابِ الصلاةِ /بابُ تَرْكِ قِراءةِ "بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرحيمِ" (908)، وأبو داودَ في كتابِ الصلاةِ / بابُ مَن تَرَكَ القراءةَ في صلاتِهِ بفَاتِحَةِ الكتابِ (821)، وابْنُ مَاجَهْ في كتابِ الأدبِ / بابُ ثوابِ القرآنِ (3784).
([7]) كتابُ الصلاةِ (172).
([8]) رَوَاهُ مُسلِمٌ في كتابِ الصلاةِ / بابُ التشهُّدِ في الصلاةِ (902)، والنَّسَائِيُّ في كتابِ التطبيقِ / بـابُ قَوْلِهِ: (رَبَّنَا وَلَكَ الحَمْدُ) (1063)، مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
([9]) في الأصلِ (العَبْد) ولعلَّ الصوابَ ما أثبتناهُ.
([10]) كتابُ الصلاةِ (173).
([11]) كتابُ الصلاةِ (173-174).
([12]) وهذه قِراءَةُ نافعٍ وابنِ عامرٍ وابنِ كَثِيرٍ من السَّبْعَةِ.
([13]) كتابُ الصلاةِ (174).
([14]) انظُرْ مَدارِجَ السَّالِكِينَ (1/31- 141).
(15) وقال -رَحِمَهُ اللهُ- في كتابِ الصلاةِ: (فإذا قالَ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ففِيهَا سِرُّ الخَلْقِ والأَمْرِ، والدنيا والآخِرَةِ، وهي مُتَضَمِّنَةٌ لأجلِ الغاياتِ وأَفْضَلِ الوَسائلِ، فأَجَلُّ الغاياتِ عُبودِيَّتُهُ، وأفضلُ الوَسائلِ إِعانَتُهُ، فلا مَعْبُودَ يَسْتَحِقُّ العِبادَةَ إلا هو، ولا مُعِينَ على عبادتِهِ غيرُهُ، فعبادَتُهُ أعلَى الغاياتِ، وإعانَتُهُ أَجَلُّ الوَسائِلِ، وقد أَنْزَلَ اللهُ -سُبحانَهُ وتَعالَى- مِائَةَ كتابٍ وأَرْبَعَةَ كُتُبٍ، جَمَعَ مَعانِيَها فِي أَربعَةٍ، وهي التوراةُ والإنجيلُ والقرآنُ والزَّبُورُ، وجمَعَ مَعانِيَها فِي القرآنِ، وجمعَ مَعانِيَهُ في المُفصَّلِ، وجَمَعَ مَعانِيَهُ في الفاتحةِ، وجمعَ مَعانِيَهَا في: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.
وقد اشتمَلَتْ هذه الكَلِمَةُ على نَوْعَيِ التوحيدِ، وهما توحيدُ الرُّبُوبِيَّةِ، وتوحيدُ الإلهيةِ، وتضمَّنَتِ التعبُّدَ باسمِ "الربِّ" واسمِ "اللهِ"، فهو يُعْبَدُ بأُلُوهِيَّتِهِ، ويُستَعانُ برُبُوبِيَّتِهِ، ويَهْدِي إلى الصراطِ المُستقيمِ برَحْمَتِهِ، فكانَ أَوَّلُ السورةِ ذِكْرَ اسمِهِ: "اللهِ" و"الربِّ" و"الرحمنِ"، تطابُقًا لأجلِ المَطالبِ مِن عِبادَتِهِ وإعانتِهِ وهدايَتِهِ، وهو المُنفَرِدُ بإعطاءِ ذلك كُلِّهِ، لا يُعِينُ على عبادَتِهِ سِوَاهُ، ولا يَهْدِي سِوَاهُ).
([16]) وقالَ -رَحِمَهُ اللهُ- في كتابِ الصلاةِ: (ثم يُشهِدُ الدَّاعِي بقولِه: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} شِدَّةَ فَاقَتِهِ وضَرُورَتِهِ إلى هذهِ المسألةِ التي ليس هو إلى شيءٍ أَشَدَّ فاقةً وحَاجةً منه إليها البتةَ، فإنه محتاجٌ إليه في كلِّ نَفَسٍ وطَرْفَةِ عَيْنٍ، وهذا المطلوبُ من هذا الدعاءِ لا يَتِمُّ إلا بالهدايةِ إلى الطريقِ المُوصِلِ إليه سبحانَهُ، والهدايةِ فيهِ، وهي هِدايَةُ التفصيلِ، وخَلْقِ القُدرَةِ على الفِعلِ وإِرادَتِه وتَكْوِينِهِ وتَوْفيقِهِ لإيقاعِهِ له على الوجهِ المَرْضِيِّ المَحْبُوبِ للربِّ سبحانَهُ وتعالى، وحِفظِه عليه مِن مُفسِداتِهِ حَالَ فِعلِهِ وبَعْدَ فِعْلِهِ.
ولمَّا كانَ العبدُ مُفتقِرًا في كلٍّ إلى هذه الهدايةِ في جميعِ ما يأتيهِ ويَذَرُهُ من أمورٍ قدْ أَتاهَا على غيرِ الهدايةِ، فهو يَحتاجُ إلى التوبةِ منها، وأمورٍ هُدِيَ إلى أَصْلِهَا دُونَ تَفْصِيلِها، أو هُدِيَ إليها من وَجهٍ دُونَ وَجْهٍ، فهو يَحْتَاجُ إلى إِتمامِ الهِدَايَةِ فيها ليَزْدَادَ هُدًى، وأمورٍ: هو يحتاجُ إلى أن يَحْصُلَ له من الهدايةِ فيها بالمستقبَلِ مثلَ ما حَصَلَ له في الماضِي، وأمورٍ: هو خالٍ عن اعتقادٍ فيها فهو يحتاجُ إلى الهدايةِ فيها، وأمورٍ: لم يَفْعَلْها فهو يحتاجُ إلى فِعلِها على وجهِ الهدايةِ، وأمورٍ: قد هُدِيَ إلى الاعتقادِ الحقِّ والعملِ الصوابِ فيها، فهو محتاجٌ إلى الثباتِ عليها، إلى غيرِ ذلك من أنواعِ الهداياتِ فَرَضَ اللهُ -سُبْحَانَهُ- عليه أن يَسْأَلَهُ هذه الهدايةَ في أَفْضَلِ أَحْوَالِهِ مَرَّاتٍ مُتعددةً في اليومِ والليلةِ.
ثم بَيَّنَ أنَّ أهلَ هذه الهدايةِ همُ المُخْتَصُّونَ بنِعْمَتِهِ دُونَ "المغضوبِ عَلَيْهِم" وهمُ الذين عَرَفُوا الحَقَّ، ولم يَتْبَعُوهُ، ودونَ "الضَّالِّينَ" وهم الذين عَبَدُوا اللهَ بغَيْرِ عِلِمٍ، فالطَّائِفَتَانِ اشتَرَكَتا في القولِ في خَلْقِهِ وأَمْرِه وأَسْمائِه وصِفاتِه بغَيرِ عِلمٍ، فَسَبِيلُ المُنْعَمِ عَلَيْهِ مُغَايِرَةٌ لسبيلِ أَهْلِ الباطلِ كُلِّها عِلمًا وعَملاً). هذا وللإمامِ ابنِ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ تَعالَى تفسيرٌ مُطَوَّلٌ لقولِه تَعالَى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} الآيةَ، في بدائعِ الفوائدِ (2/ 9-41) ذكر فيه عِشْرِينَ مَسألةً وأَجْوِبَتَهَا.
([17]) كتابُ الصلاةِ (176).
([18]) كتابُ الصلاةِ (176).
([19]) رَوَاهُ الإمامُ أَحْمَدُ (16961)، وأبو داودَ في كتابِ الصلاةِ / بابٌ في الدعاءِ في الركوعِ والسجودِ (875)، وابْنُ مَاجَهْ في كتابِ إقامةِ الصلاةِ / بابُ التسبيحِ في الركوعِ والسجودِ (887) من حديثِ عُقْبَةَ بنِ عَامرٍ رَضِيَ اللهُ عنه.
([20]) سَبَقَ تَخْرِيجُه ص 130.
([21]) كتابُ الصلاةِ (176).
([22]) جاءتِ العِبارَةُ في الأصلِ هَكذا: (وجَعَلَ شِعارَ هذَا الرُّكْنِ حَمْدًا للهِ والثَّنَاءَ عَلَيْهِ وتَحْمِيدَهُ) وهي عبارةٌ مُضْطَرِبَةٌ، ولعلَّ صَوَابَها كما صَحَّحْنَاهُ. واللهُ تَعالَى أَعْلَمُ.
([23]) كتابُ الصلاةِ (177).
([24]) انظُرْ زَادَ المَعادِ في هَدْيِ خَيْرِ العِبادِ (1/ 220).
([25]) رَوَاهُ الإمامُ أَحْمَدُ (22866)، والنَّسَائِيُّ في كتابِ الصَّلاةِ / بابُ ما يَقُولُ في قِيامِهِ ذلكَ (1068)، وأبو داودَ في كتابِ الصلاةِ /بابُ ما يقولُ الرجُلُ في رُكوعِهِ وسُجودِهِ (874)، والتِّرْمِذِيُّ في الشمائِلِ/ بابُ ما جاءَ في عبادةِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ (260) من حديثِ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللهُ عنه.
([26]) رَوَاهُ الإمامُ أَحْمَدُ (11418)، ورَواهُ مُسلِمٌ في كتابِ الصلاةِ / بابُ ما يَقُولُ إذا رَفَعَ رَأْسَهُ (1071)، وأبو داودَ في كتابِ الصلاةِ / بابُ ما يَقولُ إذا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكـوعِ (847)، والنَّسَائِيُّ في كتابِ التطبيقِ / بابُ ما يقـولُ في قيـامِهِ ذَلِكَ (1067).
([27]) رَوَاهُ الإمامُ أَحْمَدُ (7124)، والتِّرْمِذِيُّ في كتابِ الأذانِ/ بابُ ما يقولُ بعدَ التكبيرِ (744)، ومسلِمٌ في كتابِ المساجدِ / بابُ ما يقولُ بينَ تَكبيرةِ الإحرامِ والقراءةِ، وأبو داودَ في كتابِ الصلاةِ / بابُ السَّكْتةِ عندَ الافتتاحِ (776)، والنَّسَائِيُّ في كتابِ الصلاةِ / بابُ الدُّعاءِ بينَ التكبيرِ والقراءةِ (893)، ومَواضعَ أُخَرَ مِن طُرُقٍ عن عِمارةَ بنِ القَعقاعِ، عن أبي زُرعةَ، عن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه.
([28]) كتابُ الصلاةِ (177-178).
([29]) رَوَاهُ الإمامُ أَحْمَدُ (9165) ومسلمٌ في كتابِ الصلاةِ / بابُ ما يقالُ في الركوعِ والسجودِ (1083) وأبو داودَ في كتابِ الصلاةِ / بابُ الدعاءِ في الركوعِ والسجودِ (870) والنَّسَائِيُّ في كتابِ التطبيقِ / بابُ أَقْرَبِ ما يَكُونُ العبدُ مِنَ اللهِ عَزَّ وجلَّ (1136) من حديثِ أبي هُرَيرةَ رضيَ اللهُ عنه.
([30]) وانظُر كتابَ الصلاةِ (178- 181).
([31]) مَدارِجُ السَّالكِينَ (2/ 370).
([32]) وقال -رَحِمَهُ اللهُ- في كتابِ الصلاةِ (183): (وَلَمَّا كانَ السلامُ من أنواعِ التحيةِ، وكانَ المسلمُ داعيًا لِمَنْ يُجِيبُه، وكانَ اللهُ -سبحانَهُ- هو الذي يَطْلُبُ منه السلامَ لِعِبادِهِ الذينَ اختَصَّهُمْ بعُبُودِيَّتِه، وارْتَضاهُمْ لِنَفْسِه، وشَرَعَ أَنْ يَبْدَأَ بِأَكْرَمِهِمْ عَلَيْهِ، وأَحَبِّهِمْ إِلَيْهِ، وأَقْرَبِهِمْ مِنه مَنْزِلَةً في هذه التحيةِ بالشَّهَادَتَيْنِ اللَّتَيْنِ هُمَا مِفْتَاحُ الإسلامِ، فشَرَعَ أن يَكُونَ خَاتِمَةَ الصَّلاةِ.
فدخلَ فيها بالتكبيرِ والحمدِ والثناءِ والتمجيدِ وتوحيدِ الربوبيةِ والإلهيةِ، وخَتمَها بشهادةِ أن لا إلهَ إلا اللهُ، وأنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه. وشُرِعَتْ هذه التحيةُ في وسَطِ الصلاةِ... إذا زادَتْ على ركعتَينِ، تشبيهًا لها بجِلسَةِ الفصلِ بينَ السجدتينِ، وفيها مع الفصلِ راحةٌ للمصلِّي لاستقبالِهِ الركعتينِ الآخِرَتَينِ بنشاطٍ وقوةٍ بخلافِ ما إذا وَالَى بينَ الرَّكَعاتِ، ولهذا كانَ الأفضلُ في النفلِ مَثْنَى مَثْنَى، وإن تَطَوَّعَ بأَرْبَعٍ جَلَسَ في وَسَطِهِنَّ).
([33]) كلامُ ابنِ مسعودٍ رضيَ اللهُ عنه رَوَاهُ الإمامُ أَحْمَدُ (3996)، وأبو داودَ في كتابِ الصلاةِ / بابُ التشهُّدِ (966)، وقد اختُلِفَ في رَفعِهِ إلى النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ، وأصلُ الحديثِ في الصحيحينِ وغيرِهما بدونِ هذه الزيادةِ.
([34]) رَوَاهُ الإمامُ أَحْمَدُ (23419)، والتِّرْمِذِيُّ في كتابِ الدَّعواتِ / بابُ (65)، الحديثُ رقْمُ (3477)، وأبو داودَ في كتابِ الصلاةِ/ بابُ الدعاءِ (1478) بلفظٍ مُقارِبٍ، كُلُّهُم مِن حديثِ حُمَيْدِ بنِ هَانئٍ، عن عمرِو بنِ مالكٍ الْجَنْبِيِّ، عن فَضَالَةَ بنِ عُبَيْدٍ رضِيَ اللهُ عنه.
([35]) كتابُ الصلاةِ (184).
([36]) كتابُ الصلاةِ (185).
([37]) رَوَاهُ الإمامُ أَحْمَدُ (11884، 11885، 12644، 13623) ، والنَّسَائِيُّ في كتابِ عِشْرةِ النساءِ / بابُ حُبِّ النساءِ (3949) من طريقينِ عن ثابتٍ، عن أنسٍ رَضِيَ اللهُ عنه.
([38]) رَوَاهُ الإمامُ أَحْمَدُ (22643)، وأبو داودَ في كتابِ الأدَبِ / بابٌ في صلاةِ العَتَمَةِ (4974) من طريقِ سالمِ بنِ أبي الجَعْدِ، عن عبدِ اللهِ بنِ مُحمدِّ ابنِ الحَنَفِيَّةِ، عن رجلٍ من الأنصارِ سَمِعَ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ.
([39]) الكلامُ على مسألةِ السماعِ (190-217).


رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 05:48 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
جميع الحقوق محفوظة