العودة   جمهرة العلوم > قسم التفسير > جمهرة التفاسير > تفسير سورة الإسراء

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 27 جمادى الأولى 1434هـ/7-04-2013م, 05:21 PM
أم سهيلة أم سهيلة غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Mar 2013
المشاركات: 2,672
افتراضي تفسير سورة الإسراء [ من الآية (4) إلى الآية (8) ]

{ وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7) عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8) }


رد مع اقتباس
  #2  
قديم 27 جمادى الأولى 1434هـ/7-04-2013م, 05:24 PM
أم سهيلة أم سهيلة غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Mar 2013
المشاركات: 2,672
افتراضي تفسير السلف

تفسير السلف

تفسير قوله تعالى: (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) )
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (عن معمر عن قتادة في قوله تعالى لتفسدن في الأرض مرتين قال أما المرة الأولى فسلط الله عليهم جالوت حين بعث طالوت ومعه داود فقتله داود ثم ردت الكرة لبني إسرائيل ثم جاء وعد الآخرة من المرتين ليسؤوا وجوهكم قال ليقبحوا وجوهكم وليتبروا ما علوا تتبيرا قال ليدمروا ما علوا تدميرا قال هو بخت نصر قال وبعث عليهم في المرة الآخرة ثم قال عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا فعادوا فبعث الله عليهم محمدا فهم يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون). [تفسير عبد الرزاق: 1/373]
قال محمدُ بنُ إسماعيلَ بن إبراهيم البخاريُّ (ت: 256هـ) : ({وقضينا إلى بني إسرائيل} [الإسراء: 4] : «أخبرناهم أنّهم سيفسدون، والقضاء على وجوهٍ»). [صحيح البخاري: 6/83]
- قال أحمدُ بنُ عَلَيِّ بنِ حجرٍ العَسْقَلانيُّ (ت: 852هـ): ( (قوله وقضينا إلى بني إسرائيل)
أخبرناهم إنّهم سيفسدون والقضاء على وجوه قضى ربك أمر ومنه الحكم إنّ ربّك يقضي بينهم ومنه الخلق فقضاهن سبع سماوات خلقهنّ قال أبو عبيدة في قوله وقضينا إلى بني إسرائيل أي أخبرناهم وفي قوله وقضى ربك أي أمر وفي قوله إنّ ربّك يقضي بينهم أي يحكم وفي قوله فقضاهنّ سبع سماواتٍ أي خلقهنّ وقد بيّن أبو عبيدة بعض الوجوه الّتي يرد بها لفظ القضاء وأغفل كثيرًا منها واستوعبها إسماعيل بن أحمد النّيسابوريّ في كتاب الوجوه والنّظائر فقال لفظة قضى في الكتاب العزيز جاءت على خمسة عشر وجها الفراغ فإذا قضيتم مناسككم والأمر إذا قضى أمرا والأجل فمنهم من قضى نحبه والفصل لقضى الأمر بيني وبينكم والمضي ليقضي الله أمرا كان مفعولا والهلاك لقضى إليهم أجلهم والوجوب لما قضى الأمر والإبرام في نفس يعقوب قضاها والإعلام وقضينا إلى بني إسرائيل والوصيّة وقضى ربك أن لا تعبدوا إلّا إيّاه والموت فوكزه موسى فقضى عليه والنّزول فلمّا قضينا عليه الموت والخلق فقضاهن سبع سماوات والفعل
- كلا لما يقض ما أمره يعني حقًّا لم يفعل والعهد إذ قضينا إلى موسى الأمر وذكر غيره القدر المكتوب في اللّوح المحفوظ كقوله وكان أمرا مقضيا والفعل فاقض ما أنت قاض والوجوب إذ قضى الأمر أي وجب لهم العذاب والوفاء كفائت العبادة والكفاية وإن يقضي عن أحد من بعدك انتهى وبعض هذه الأوجه متداخلٌ وأغفل أنّه يرد بمعنى الانتهاء فلمّا قضى زيد منها وطرأ وبمعنى الإتمام ثمّ قضى أجلًا وأجلٌ مسمًّى عنده وبمعنى كتب إذا قضى أمرا وبمعنى الأداء وهو ما ذكر بمعنى الفراغ ومنه قضى دينه وتفسير قضى ربّك أن لا تعبدوا بمعنى وصّى منقولٌ من مصحف أبيّ بن كعبٍ أخرجه الطّبريّ وأخرجه أيضًا من طريق قتادة قال هي في مصحف بن مسعودٍ ووصّى ومن طريق مجاهدٍ في قوله وقضى قال وأوصى ومن طريق الضّحّاك أنّه قرأ ووصّى وقال ألصقت الواو بالصّاد فصارت قافًا فقرئت وقضى كذا قال واستنكروه منه وأمّا تفسيره بالأمر كما قال أبو عبيدة فوصله الطّبريّ من طريق عليّ بن أبي طلحة عن بن عبّاسٍ ومن طريق الحسن وقتادة مثله وروى بن أبي حاتمٍ من طريق ضمرة عن الثّوريّ قال معناه أمر ولو قضى لمضى يعني لو حكم وقال الأزهريّ القضاء مرجعه إلى انقطاع الشّيء وتمامه ويمكن ردّ ما ورد من ذلك كلّه إليه وقال الأزهريّ أيضًا كلّ ما أحكم عمله أو ختم أو أكمل أو وجب أو ألهم أو أنفذ أو مضى فقد قضى وقال في قوله تعالى وقضينا إلى بني إسرائيل أي أعلمناهم علمًا قاطعًا انتهى والقضاء يتعدّى بنفسه وإنّما تعدّى بالحرف في قوله تعالى وقضينا إلى بني إسرائيل لتضمّنه معنى أوحينا). [فتح الباري: 8/389-390]
- قال محمودُ بنُ أحمدَ بنِ موسى العَيْنِيُّ (ت: 855هـ) : ({وقضينا إلى بني إسرائيل} (الإسراء: 4) أخبرناهم أنّهم سيفسدون والقضاء على وجوهٍ {وقضى ربّك} أمر ربّك ومنه الحكم {إنّ ربّك يقضي بينهم} ومنه الخلق {فقضاهنّ سبع سماواتٍ}
أشار به إلى قوله تعالى: {وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض} الآية، وفسّر قوله: (وقضينا إلى بني إسرائيل) بقوله: (أخبرناهم) ، وكذا فسره أبو عبيدة، ويقال: معناه أعلمناهم إعلاماً قاطعا. قوله: (والقضاء على وجوه) ، أشار بهذا إلى أن لفظ القضاء يأتي لمعان كثيرة، وذكر منها ثلاثة: الأول: أن القضاء بمعنى الأمر كما في قوله تعالى: {وقضى ربك} (الإسراء: 23) أي أمر. الثّاني: أنه بمعنى الحكم في قوله تعالى: {إن ربك يقضي بينهم} (النّمل: 79، يونس: 93) أي يحكم. الثّالث: أنه بمعنى الخلق، كما في قوله: {فقضاهن سبع سموات} (فصلت: 12) أي: خلقهنّ، وفي بعض النّسخ بعد سبع سموات خلقهنّ.
وذكر بعضهم فيه معاني جملتها ثمانية عشر وجها، منها الثّلاثة الّتي ذكرت، والرّابع: الفراغ كما في قوله تعالى: {فإذا قضيتم مناسككم} (البقرة: 200) أي: إذا فرغتم منها. والخامس: الكتابة كما في قوله: {فإذا قضى أمرا} (غافر: 86) أي: كتب. والسّادس: الأجل كما في قوله تعالى: {فمنهم من قضى نحبه} (الأحزاب: 23) ، والسّابع: الفصل، كما في قوله: {لقضي الأمر بيني وبينكم} (الأنعام: 58) . والثّامن: المضيّ، كما في قوله: {ليقضي الله أمرا كان مفعولا} (الأنفال: 42 و 44) . والتّاسع: الهلاك، كما في قوله: {لقضي إليهم أجلهم} (يونس: 11) . والعاشر: الوجوب، كما في قوله تعالى: {لما قضي الأمر} (إبراهيم: 22) . والحادي عشر: الإبرام، كما في قوله تعالى: {إلاّ حاجة في نفس يعقوب قضاها} (يوسف: 68) . والثّاني عشر: الوصيّة كما في قوله: {وقضى ربك أن لا تعبدوا إلّا إيّاه} (الإسراء: 23) . والثّالث عشر: الموت كما في قوله تعالى: {فوكزه موسى فقضى عليه} (القصص: 15) . والرّابع عشر: النّزول، كما في قوله تعالى: {فلمّا قضينا عليه الموت} (سبإ: 15) . والخامس عشر: الفعل كما في قوله تعالى: {كلا لما يقض ما أمره} (عبس: 23) يعني: حقًا لم يفعل ما أمره. والسّادس عشر: العهد كما في قوله تعالى: {إذ قضينا إلى موسى الأمر} (القصص: 44) . والسّابع عشر: الدّفع كما في قولهم. قضى دينه، أي: دفع ما لغريمه عليه بالأداء. والثّامن عشر: الختم والإتمام، كما في قوله تعالى: {ثمّ قضى أجلًا} (الأنعام: 2) . وقال الأزهري: قضى في اللّغة على وجوه مرجعها إلى انقطاع الشّيء وتمامه). [عمدة القاري: 19/19-20]
- قال أحمدُ بنُ محمدِ بن أبي بكرٍ القَسْطَلاَّنيُّ (ت: 923هـ) : (باب
{وقضينا إلى بني إسرائيل} [الإسراء: 4] أخبرناهم أنّهم سيفسدون والقضاء على وجوهٍ. وقضى ربّك أمر ربّك، ومنه الحكم إنّ ربّك يقضي بينهم. ومنه الخلق فقضاهنّ سبع سمواتٍ. نفيرًا: من ينفر معه، ميسورًا: ليّنًا. وليتبّروا. يدمّروا ما علوا، حصيرًا: محبسًا: محصرًا، حقّ: وجب، ميسورًا: ليّنًا، خطأً إثمًا وهو اسمٌ من خطئت والخطأ مفتوحٌ مصدره من الإثم خطئت بمعنى أخطأت. تخرق: تقطع، وإذ هم نجوى مصدرٌ من ناجيت فوصفهم بها والمعنى يتناجون. رفاتًا: حطامًا، واستفزز: استخفّ بخيلك الفرسان، والرّجل الرّجّالة واحدها راجلٌ مثل صاحبٍ وصحبٍ وتاجرٍ: وتجرٍ: حاصبًا: الرّيح العاصف. والحاصب أيضًا: ما ترمي به الرّيح ومنه حصب جهنّم يرمى به في جهنّم وهو حصبها، ويقال: حصب في الأرض ذهب، والحصب مشتقٌّ من الحصباء والحجارة. تارةً: مرّةً وجماعته تيرةٌ وتاراتٌ. لأحتنكنّ: لأستأصلنّهم يقال: احتنك فلانٌ ما عند فلانٍ من علمٍ استقصاه. طائره: حظّه، قال ابن عبّاسٍ: كلّ سلطانٍ في القرآن فهو حجّةٌ. وليٌّ من الذّلّ. لم يخالف أحدًا.
({وقضينا إلى بني إسرائيل}) [الإسراء: 4]. قال أبو عبيدة أي (أخبرناهم أنهم سيفسدون) والمرتين في الآية أولاهما قتل زكريا وحبس أرمياء حين أنذرهم سخط الله والآخرة قتل يحيى بن زكريا وقصد قتل عيسى ابن مريم (والقضاء) يأتي (على وجوه) كثيرة). [إرشاد الساري: 7/199]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدنّ في الأرض مرّتين ولتعلنّ علوًّا كبيرًا (4) فإذا جاء وعد أولهما بعثنا عليكم عبادًا لنا أولي بأسٍ شديدٍ فجاسوا خلال الدّيار وكان وعدًا مفعولاً}.
وقد بيّنّا فيما مضى قبل أنّ معنى القضاء: الفراغ من الشّيء، ثمّ يستعمل في كلّ مفروغٍ منه.
فتأويل الكلام في هذا الموضع: وفرغ ربّك إلى بني إسرائيل فيما أنزل من كتابه على موسى صلوات اللّه وسلامه عليه بإعلامه إيّاهم، وإخباره لهم {لتفسدنّ في الأرض مرّتين} يقول: لتعصنّ اللّه يا معشر بني إسرائيل ولتخالفنّ أمره في بلاده مرّتين {ولتعلنّ علوًّا كبيرًا} يقول: ولتستكبرنّ على اللّه باجترائكم عليه استكبارًا شديدًا.
وبنحو الّذي قلنا في ذلك، قال أهل التّأويل
ذكر من قال ذلك
- حدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ، في قول اللّه: {وقضينا إلى بني إسرائيل} قال: أعلمناهم
- حدّثني عليّ بن داود، قال: حدّثنا أبو صالحٍ، قال: حدّثني معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عبّاسٍ، في قوله: {وقضينا إلى بني إسرائيل} يقول: أعلمناهم.
وقال آخرون: معنى ذلك: وقضينا على بني إسرائيل في أمّ الكتاب وسابق علمه
ذكر من قال ذلك
- حدّثني محمّد بن سعدٍ، قال: حدّثني أبي، قال: حدّثني عمّي، قال: حدّثني أبي، عن أبيه، عن ابن عبّاسٍ، {وقضينا إلى بني إسرائيل} قال: هو قضاءٌ قضي عليهم.
- حدّثنا بشرٌ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، قوله: {وقضينا إلى بني إسرائيل} قضاءً قضاه على القوم كما تسمعون.
وقال آخرون: معنى ذلك: أخبرنا
ذكر من قال ذلك
- حدّثنا محمّد بن عمرٍو، قال: حدّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدّثنا عيسى، وحدّثني الحارث، قال: حدّثنا الحسن، قال: حدّثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، في قوله: {وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب} قال: أخبرنا بني إسرائيل.
وكلّ هذه الأقوال تعود معانيها إلى ما قلت في معنى قوله: {وقضينا} وإن كان الّذي اخترنا من التّأويل فيه أشبه بالصّواب لإجماع القرّاء على قراءة قوله {لتفسدنّ} بالتّاء دون الياء، ولو كان معنى الكلام: وقضينا عليهم في الكتاب، لكانت القراءة بالياء أولى منها بالتّاء، ولكن معناه لمّا كان أعلمناهم وأخبرناهم، وقلنا لهم، كانت التّاء أشبه وأولى للمخاطبة.
وكان فساد بني إسرائيل في الأرض المرّة الأولى ما؛
- حدّثني به، موسى هارون، قال: حدّثنا عمرو بن حمّادٍ، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ، في خبرٍ ذكره عن أبي صالحٍ، وعن أبي مالكٍ، عن ابن عبّاسٍ، وعن مرّة، عن عبد اللّه، أنّ اللّه، عهد إلى بني إسرائيل في التّوراة {لتفسدنّ في الأرض مرّتين} فكان أوّل الفسّادين: قتل زكريّا، فبعث اللّه عليهم ملك النّبط، وكان يدعى صنحابين فبعث الجنود، وكان أساورته من أهل فارس، فهم أولو بأسٍ شديدٍ، فتحصنت بنو إسرائيل، وخرج فيهم بختنصّر يتيمًا مسكينًا، إنّما خرج يستطعم، وتلطّف حتّى دخل المدينة فأتى مجالسهم، فسمعهم يقولون: لو يعلم عدوّنا ما قذف في قلوبنا من الرّعب بذنوبنا ما أرادوا قتالنا، فخرج بختنصّر حين سمع ذلك منهم، واشتدّ القيام على الجيش، فرجعوا، وذلك قول اللّه: {فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادًا لنا أولي بأسٍ شديدٍ فجاسوا خلال الدّيار وكان وعدًا مفعولاً} ثمّ إنّ بني إسرائيل تجهّزوا، فغزوا النّبط، فأصابوا منهم واستنقذوا ما في أيديهم، فذلك قول اللّه {ثمّ رددنا لكم الكرّة عليهم وأمددناكم بأموالٍ وبنين وجعلناكم أكثر نفيرًا} يقول: عددًا
- حدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ: كان إفسادهم الّذي يفسدون في الأرض مرّتين: قتل زكريّا ويحيى بن زكريّا، سلّط اللّه عليهم سابور ذا الأكتاف ملكًا من ملوك فارس، من قبل زكريّا، وسلّط عليهم بختنصّر من قبل يحيى
- حدّثنا عصام بن روّاد بن الجرّاح، قال: حدّثنا أبي، قال، حدّثنا سفيان بن سعيد الثّوريّ، قال: حدّثنا منصور بن المعتمر، عن ربعيّ بن حراشٍ، قال: سمعت حذيفة بن اليمان، يقول: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: " إنّ بني إسرائيل لمّا اعتدوا في السبت وعلوا، وقتلوا الأنبياء، بعث اللّه عليهم ملك فارس بختنصّر وكان اللّه ملّكه سبع مائة سنةٍ، فسار إليهم حتّى دخل بيت المقدس فحاصرها وفتحها، وقتل على دم زكريّا سبعين ألفًا، ثمّ سبى أهلها وبني الأنبياء، وسلب حليّ بيت المقدس، واستخرج منها سبعين ألفًا ومائة ألف عجلةٍ من حليٍّ حتّى أورده بابل " قال حذيفة: فقيل: يا رسول اللّه لقد كان بيت المقدس عظيمًا عند اللّه؟ قال: " أجل بناه سليمان بن داود من ذهبٍ ودرٍّ وياقوتٍ وزبرجدٍ، وكان بلاطه بلاطةً من ذهبٍ وبلاطةً من فضّةٍ، وعمده ذهبًا، أعطاه اللّه ذلك، وسخّر له الشّياطين يأتونه بهذه الأشياء في طرفة عينٍ، فسار بختنصّر بهذه الأشياء حتّى نزل بها بابل، فأقام بنو إسرائيل في يديه مائة سنةٍ تعذّبهم المجوس وأبناء المجوس، فيهم الأنبياء وأبناء الأنبياء، ثمّ إنّ اللّه رحمهم، فأوحى إلى ملكٍ من ملوك فارس يقال له كورس، وكان مؤمنًا، أن سر إلى بقايا بني إسرائيل حتّى تستنقذهم، فسار كورس ببني إسرائيل وحليّ بيت المقدس حتّى ردّه إليه، فأقام بنو إسرائيل مطيعين للّه مائة سنةٍ، ثمّ إنّهم عادوا في المعاصي، فسلّط اللّه عليهم أبطنانحوس، فغزا بأبناء من غزا مع بختنصّر، فغزا بني إسرائيل حتّى أتاهم بيت المقدس، فسبى أهلها، وأحرق بيت المقدس، وقال لهم: يا بني إسرائيل إن عدتم في المعاصي عدنا عليكم بالسّباء، فعادوا في المعاصي، فسيّر اللّه عليهم السّباء الثّالث ملك روميّة، يقال له قاقس بن إسبايوس، فغزاهم في البرّ والبحر، فسباهم وسير حليّ بيت المقدس، وأحرق بيت المقدس بالنّيران " فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: " هذا من صنعة حليّ بيت المقدس، ويردّه المهديّ إلى بيت المقدس، وهو ألف سفينةٍ وسبع مائة سفينةٍ، يرسى بها على يافا حتّى تنقل إلى بيت المقدس، وبها يجمع اللّه الأوّلين والآخرين "
- حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة، قال: حدّثني ابن إسحاق، قال: كان ممّا أنزل اللّه على موسى في خبره عن بني إسرائيل، وفي إحداثهم ما هم فاعلون بعده، فقال: {وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدنّ في الأرض مرّتين ولتعلنّ علوًّا كبيرًا}.. إلى قوله: {وجعلنا جهنّم للكافرين حصيرًا} فكانت بنو إسرائيل، وفيهم الأحداث والذّنوب، وكان اللّه في ذلك متجاوزًا عنهم، متعطّفًا عليهم محسنًا إليهم، فكان ممّا أنزل بهم في ذنوبهم ما كان قدم إليهم في الخبر على لسان موسى ممّا أنزل بهم في ذنوبهم. فكان أوّل ما أنزل بهم من تلك الوقائع أنّ ملكًا منهم كان يدعى صديقة، وكان اللّه إذا ملّك الملك عليهم، بعث نبيًّا يسدّده ويرشده، ويكون فيما بينه وبين اللّه، ويحدّث إليه في أمرهم، لا ينزل عليهم الكتب، إنّما يؤمرون باتّباع التّوراة والأحكام الّتي فيها، وينهونهم عن المعصية، ويدعونهم إلى ما تركوا من الطّاعة، فلمّا ملك ذلك الملك، بعث اللّه معه شعياء بن أمصيا، وذلك قبل مبعث زكريّا ويحيى وعيسى وشعياء الّذي بشّر بعيسى ومحمّدٍ، فملك ذلك الملك بني إسرائيل وبيت المقدس زمانًا، فلمّا انقضى ملكه عظمت فيهم الأحداث، وشعيا معه، بعث اللّه عليهم سنحاريب ملك بابل، ومعه ستّ مائة ألف رايةٍ، فأقبل سائرًا حتّى نزل نحو بيت المقدس، والملك مريضٌ في ساقه قرحةٌ، فجاء النّبيّ شعياء، فقال له: يا ملك بني إسرائيل إنّ سنحاريب ملك بابل، قد نزل بك هو وجنوده ستّ مائة ألف رايةٍ، وقد هابهم النّاس وفرقوا منهم، فكبر ذلك على الملك، فقال: يا نبيّ اللّه هل أتاك وحيٌ من اللّه فيما حدث فتخبرنا به كيف يفعل اللّه بنا وبسنحاريب وجنوده؟ فقال له النّبيّ عليه السّلام: لم يأتني وحيٌ أحدّث إليّ في شأنك. فبينا هم على ذلك، أوحى اللّه إلى شعيا النّبيّ: أن ائت ملك بني إسرائيل، فمره أن يوصي وصيّته، ويستخلف على ملكه من شاء من أهل بيته. فأتى النّبيّ شعياء ملك بني إسرائيل صديقة، فقال له: إنّ ربّك قد أوحى إليّ أن آمرك أن توصي وصيّتك، وتستخلف من شئت على ملكك من أهل بيتك، فإنّك ميّتٌ، فلمّا قال ذلك شعيا لصديقة، أقبل على القبلة، فصلّى وسبّح ودعا وبكى، فقال وهو يبكي ويتضرّع إلى اللّه بقلبٍ مخلصٍ وتوكّلٍ وصبرٍ وظنٍّ صادقٍ. اللّهمّ ربّ الأرباب، وإله الآلهة، قدّوس المتقدّسين، يا رحمن يا رحيم، المترحّم الرّءوف الّذي لا تأخذه سنةٌ ولا نومٌ، اذكرني بعملي وفعلي وحسن قضائي على بني إسرائيل وذلك كلّه كان منك، فأنت أعلم به من نفسي، سرّي وعلانيتي لك، وإنّ الرّحمن استجاب له، وكان عبدًا صالحًا، فأوحى اللّه إلى شعياء أن يخبر صديقة الملك أنّ ربّه قد استجاب له وقبل منه ورحمه، وقد رأى بكاءه، وقد أخّر أجله خمس عشرة سنةً، وأنجاه من عدوّه سنحاريب ملك بابل وجنوده، فأتى شعيا النّبيّ إلى ذلك الملك فأخبره بذلك، فلمّا قال له ذلك ذهب عنه الوجع، وانقطع عنه الشّرّ والحزن، وخرّ ساجدًا وقال: يا إلهي وآله آبائي، لك سجدت وسبّحت وكرّمت وعظّمت، أنت الّذي تعطي الملك من تشاء، وتنزعه ممّن تشاء، وتعزّ من تشاء، وتذلّ من تشاء، عالم الغيب والشّهادة، أنت الأوّل والآخر، والظّاهر والباطن، وأنت ترحم وتستجيب دعوة المضطرّين، أنت الّذي أحببت دعوتي ورحمت تضرّعي، فلمّا رفع رأسه، أوحى اللّه إلى شعياء أن قل للملك صديقة فيأمر عبدًا من عبيده بالتّينة، فيأتيه بماء التّين فيجعله على قرحته فيشفى، ويصبح وقد برأ، ففعل ذلك فشفي. وقال الملك لشعيا النّبيّ: سل ربّك أن يجعل لنا علمًا بما هو صانعٌ بعدوّنا هذا. قال: فقال اللّه لشعيا النّبيّ: قل له: إنّي قد كفيتك عدوّك، وأنجيتك منه، وإنّهم سيصبحون موتى كلّهم إلاّ سنحاريب وخمسةً من كتّابه، فلمّا أصبحوا جاءهم صارخٌ ينبّئهم، فصرخ على باب المدينة: يا ملك بني إسرائيل، إنّ اللّه قد كفاك عدوّك، فاخرج، فإنّ سنحاريب ومن معه قد هلكوا، فلمّا خرج الملك التمس سنحاريب، فلم يوجد في الموتى، فبعث الملك في طلبه، فأدركه الطّلب في مغارةٍ وخمسةً من كتّابه، أحدهم بختنصّر، فجعلوهم في الجوامع، ثمّ أتوا بهم ملك بني إسرائيل، فلمّا رآهم خرّ ساجدًا من حين طلعت الشّمس حتّى كانت العصر، ثمّ قال لسنحاريب: كيف ترى فعل ربّنا بكم؟ ألم يقتلكم بحوله وقوّته، ونحن وأنتم غافلون؟ فقال سنحاريب له: قد أتاني خبر ربّكم، ونصره إيّاكم، ورحمته الّتي رحمكم بها قبل أن أخرج من بلادي، فلم أطع مرشدًا، ولم يلقني في الشّقوة إلاّ قلّة عقلي، ولو سمعت أو عقلت ما غزوتكم، ولكنّ الشّقوة غلبت عليّ وعلى من معي، فقال ملك بني إسرائيل: الحمد للّه ربّ العزّة الّذي كفاناكم بما شاء، إنّ ربّنا لم يبقك ومن معك لكرامةٍ بك عليه، ولكنّه إنّما أبقاك ومن معك لمّا هو شرٌّ لك، لتزدادوا شقوةً في الدّنيا، وعذابًا في الآخرة، ولتخبروا من وراءكم بما لقيتم من فعل ربّنا، ولتنذر من بعدكم، ولولا ذلك ما أبقاكم، فلدمك ودم من معك أهون على اللّه من دم قرادٍ لو قتلته. ثمّ إنّ ملك بني إسرائيل أمر أمير حرسه، فقذف في رقابهم الجوامع، وطاف بهم سبعين يومًا حول بيت المقدس إيليا، وكان يرزقهم في كلّ يومٍ خبزتين من شعيرٍ لكلّ رجلٍ منهمٍ، فقال سنحاريب لملك بني إسرائيل: القتل خير ما يفعل بنا، فافعل ما أمرت، فأمر بهم الملك إلى سجن القتل، فأوحى اللّه إلى شعياء النّبيّ أن قل لملك بني إسرائيل يرسل سنحاريب ومن معه لينذروا من وراءهم، وليكرمهم ويحملهم حتّى يبلغوا بلادهم، فبلّغ النّبيّ شعيا الملك ذلك، ففعل، فخرج سنحاريب ومن معه حتّى قدموا بابل، فلمّا قدموا جمع النّاس فأخبرهم كيف فعل اللّه بجنوده، فقال له كهّانه وسحرته: يا ملك بابل قد كنّا نقصّ عليك خبر ربّهم وخبر نبيّهم، ووحي اللّه إلى نبيّهم، فلم تطعنا، وهي أمّةٌ لا يستطيعها أحدٌ مع ربّهم، فكان أمر سنحاريب ممّا خوّفوا، ثمّ كفاهم اللّه إياه تذكرةً وعبرةً، ثمّ لبث سنحاريب بعد ذلك سبع سنين، ثمّ مات.
- حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: لمّا مات سنحاريب استخلف بختنصّر ابن ابنه على ما كان عليه جدّه يعمل بعمله، ويقضي بقضائه، فلبث سبع عشرة سنةً، ثمّ قبض اللّه ملك بني إسرائيل صديقة، فمرج أمر بني إسرائيل وتنافسوا الملك، حتّى قتل بعضهم بعضًا عليه، ونبيّهم شعيا معهم لا يذعنون إليه، ولا يقبلون منه، فلمّا فعلوا ذلك، قال اللّه فيما بلغنا لشعيا: قم في قومك أوح على لسانك، فلمّا قام النّبيّ أنطق اللّه لسانه بالوحي فقال: يا سماء استمعي، ويا أرض أنصتي، فإنّ اللّه يريد أن يقصّ شأن بني إسرائيل الّذين ربّاهم بنعمته، واصطفاهم لنفسه، وخصّهم بكرامته، وفضّلهم على عباده، وفضّلهم بالكرامة، وهم كالغنم الضّائعة الّتي لا راعي لها، فآوى شاردتها، وجمع ضالّتها، وجبر كسيرها، وداوى مريضها، وأسمن مهزولها، وحفظ سمينها، فلمّا فعل ذلك بطرت، فتناطحت كباشها فقتل بعضها بعضًا، حتّى لم يبق منها عظمٌ صحيحٌ يجبر إليه آخر كسيرٌ، فويلٌ لهذه الأمّة الخاطئة، وويلٌ لهؤلاء القوم الخاطئين الّذين لا يدرون أني جاءهم الحين، إنّ البعير مما يذكر وطنه فينتابه، وإنّ الحمار مما يذكر الآريّ الّذي شبع عليه فيراجعه، وإنّ الثّور مما يذكر المرج الّذي سمن فيه فينتابه، وإنّ هؤلاء القوم لا يدرون من حيث جاءهم الحين، وهم أولو الألباب والعقول، ليسوا ببقرٍ ولا حميرٍ، وإنّي ضاربٌ لهم مثلاً فليسمعوه: قل لهم: كيف ترون في أرضٍ كانت خواء زمانًا، خربةً مواتًا لا عمران فيها، وكان لها ربٌّ حكيمٌ قويّ، فأقبل عليها بالعمارة، وكره أن تخرّب أرضه وهو قويّ، أو يقال ضيّع وهو حكيمٌ، فأحاط عليها جدارًا، وشيّد فيها قصرًا، وأنبط فيها نهرًا، وصفّ فيها غراسًا من الزّيتون والرّمّان والنّخيل والأعناب، وألوان الثّمار كلّها، وولّى ذلك واستحفظه قيّمًا ذا رأي وهمّةٍ، حفيظًا قويًّا أمينًا، وتأنّى طلعها وانتظرها، فلمّا أطلعت جاء طلعها خرّوبًا، قالوا: بئست الأرض هذه، نرى أن يهدم جدرانها وقصرها، ويدفن نهرها، ويقبض قيّمها، ويحرق غراسها حتّى تصير كما كانت أوّل مرّةٍ، خربةً مواتًا لا عمران فيها. قال اللّه لهم: فإنّ الجدار ذمّتي، وإنّ القصر شريعتي، وإنّ النّهر كتابي، وإنّ القيّم نبيّي، وإنّ الغراس هم، وإنّ الخرّوب الّذي أطلع الغراس أعمالهم الخبيثة، وإنّي قد قضيت عليهم قضاءهم على أنفسهم، وإنّه مثلٌ ضربه اللّه لهم يتقرّبون إليّ بذبح البقر والغنم، وليس ينالني اللّحم ولا آكله، ويدعون أن يتقرّبوا بالتّقوى والكفّ عن ذبح الأنفس الّتي حرّمتها، فأيديهم مخضوبةٌ منها، وثيابهم متزمّلةٌ بدمائها، يشيّدون لي البيوت مساجد، ويطهّرون أجوافها، وينجّسون قلوبهم وأجسامهم ويدنّسونها، ويزوّقون لي البيوت والمساجد ويزيّنونها، ويخربون عقولهم وأحلامهم ويفسدونها، فأيّ حاجةٍ لي إلى تشييد البيوت ولست أسكنها، وأيّ حاجةٍ إلى تزويق المساجد ولست أدخلها، إنّما أمرت برفعها لأذكر فيها وأسبّح فيها، ولتكون معلّمًا لمن أراد أن يصلّي فيها، يقولون: لو كان اللّه يقدر على أن يجمع ألفتنا لجمعها، ولو كان اللّه يقدر على أن يفقّه قلوبنا لأفقهها، فاعمد إلى عودين يابسين، ثمّ ائت بهما ناديهما في أجمع ما يكونون، فقل للعودين: إنّ اللّه يأمركما أن تكونا عودًا واحدًا، فلمّا قال لهما ذلك، اختلطا فصارا واحدًا، فقال اللّه: قل لهم: إنّي قدرت على ألفة العيدان اليابسة وعلى أن أولّف بينها، فكيف لا أقدر على أن أجمع ألفتهم إن شئت، أم كيف لا أقدر على أن أفقّه قلوبهم، وأنا الّذي صوّرتها، يقولون: صمنا فلم يرفع صيامنا، وصلّينا فلم تنوّر صلاتنا، وتصدّقنا فلم تزك صدقاتنا، ودعونا بمثل حنين الحمّام، وبكينا بمثل عواء الذّئب، في كلّ ذلك لا نسمع، ولا يستجاب لنا، قال اللّه: فسلهم ما الّذي يمنعني أن أستجيب لهم، ألست أسمع السّامعين، وأبصر النّاظرين، وأقرب المجيبين، وأرحم الرّاحمين؟ ألأنّ ذات يدي قلّت كيف ويداي مبسوطتان بالخير، أنفق كيف أشاء، ومفاتيح الخزائن عندي لا يفتحها ولا يغلقها غيري ألا وإنّ رحمتي وسعت كلّ شيءٍ، إنّما يتراحم المتراحمون بفضلها، أو لأنّ البخل يعتريني أولست أكرم الأكرمين والفتّاح بالخيرات، أجود من أعطى، وأكرم من سئل لو أنّ هؤلاء القوم نظروا لأنفسهم بالحكمة الّتي نوّرت في قلوبهم فنبذوها، واشتروا بها الدّنيا، إذن لأبصروا من حيث أتوا، وإذن لأيقنوا أنّ أنفسهم هي أعدى العداة لهم، فكيف أرفع صيامهم وهم يلبسونه بقول الزّور، ويتقوّون عليه بطعمة الحرام؟ وكيف أنوّر صلاتهم، وقلوبهم صاغيةٌ إلى من يحاربني ويحادّني، وينتهك محارمي؟ أم كيف تزكو عندي صدقاتهم وهم يتصدّقون بأموال غيرهم؟ وإنّما أوجر عليها أهلها المغصوبين، أم كيف أستجيب لهم دعاءهم وإنّما هو قولٌ بألسنتهم والفعل من ذلك بعيدٌ؟ وإنّما أستجيب للوداع اللّيّن، وإنّما أسمع من قول المستضعف المسكين، وإنّ من علامة رضاي رضا المساكين، فلو رحموا المساكين، وقرّبوا الضّعفاء، وأنصفوا المظلوم، ونصروا المغصوب، وعدلوا للغائب، وأدّوا إلى الأرملة واليتيم والمسكين، وكلّ ذي حقٍّ حقّه، ثمّ كان ينبغي أن أكلّم البشر إذن لكلّمتهم، وإذن لكنت نور أبصارهم، وسمع آذانهم، ومعقول قلوبهم، وإذن لدعّمت أركانهم، فكنت قوّة أيديهم وأرجلهم، وإذن لثبّتّ ألسنتهم وعقولهم. يقولون لمّا سمعوا كلامي، وبلّغتهم رسالاتي بأنّها أقاويل منقولةٌ، وأحاديث متوارثةٌ، وتآليف ممّا تؤلّف السّحرة والكهنة، وزعموا أنّهم لو شاءوا أن يأتوا بحديثٍ مثله فعلوا، وأن يطّلعوا على الغيب بما توحي إليهم الشّياطين اطّلعوا، وكلّهم يستخفي بالّذي يقول ويسّر، وهم يعلمون أنّي أعلم غيب السّماوات والأرض، وأعلم ما يبدون وما يكتمون، وإنّي قد قضيت يوم خلقت السّماوات والأرض قضاءً أثبته على نفسي، وجعلت دونه أجلاً مؤجّلاً، لا بدّ أنّه واقعٌ، فإن صدقوا بما ينتحلون من علم الغيب، فليخبروك متى أنفذه، أو في أيّ زمانٍ يكون، وإن كانوا يقدرون على أن يأتوا بما يشاءون، فليأتوا بمثل القدرة الّتي بها أمضي، فإنّي مظهره على الدّين كلّه ولو كره المشركون، وإن كانوا يقدرون على أن يقولوا ما يشاءون فليؤلّفوا مثل الحكمة الّتي أدبر بها أمر ذلك القضاء إن كانوا صادقين، فإنّي قد قضيت يوم خلقت السّماوات والأرض أن أجعل النّبوّة في الأجراء، وإن أحوّل الملك في الرّعاء، والعزّ في الأذلاّء، والقوّة في الضّعفاء، والغنى في الفقراء، والثّروة في الأقلاّء، والمدائن في الفلوات، والآجام في المفاوز، والبرديّ في الغيطان، والعلم في الجهلة، والحكم في الأمّيّين، فسلهم متى هذا، ومن القائم بهذا، وعلى يد من أسببه، ومن أعوان هذه الأمر وأنصاره إن كانوا يعلمون، فإنّي باعثٌ لذلك نبيًّا أمّيًّا، ليس أعمى من عميانٍ، ضالًّا من ضالّين، وليس بفظٍّ ولا غليظٍ، ولا صخّابٍ في الأسواق، ولا متزيّنٍ بالفحش، ولا قوّالٍ للخنا، أسدّده لكلّ جميلٍ، أهب له كلّ خلقٍ كريمٍ، أجعل السّكينة لباسه، والبرّ شعاره، والتّقوى ضميره، والحكمة معقولهً، والصّدق والوفاء طبيعته، والعفو والعرف خلقه، والعدل والمعروف سيرته، والحقّ شريعته، والهدى إمامه، والإسلام ملّته، وأحمد اسمه، أهدي به بعد الضّلالة، وأعلّم به بعد الجهالة، وأرفع به بعد الخمالة، وأشهّر به بعد النّكرة، وأكثّر به بعد القلّة، وأغني به بعد العيلة، وأجمع به بعد الفرقة، وأؤلّف به قلوبًا مختلفةً، وأهواءً مشتّتةً، وأممًا متفرّقةً، وأجعل أمّته خير أمّةٍ أخرجت للنّاس، تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، توحيدًا لي، وإيمانًا وإخلاصًا بي، يصلّون لي قيامًا وقعودًا، وركوعًا وسجودًا، يقاتلون في سبيلي صفوفًا وزحوفًا، ويخرجون من ديارهم وأموالهم ابتغاء رضواني، ألهمهم التّكبير والتّوحيد، والتّسبيح والحمد والمدحة والتّمجيد لي في مساجدهم ومجالسهم ومضاجعهم ومتقلّبهم ومثواهم، يكبّرون ويهلّلون، ويقدّسون على رءوس الأسواق، ويطهّرون لي الوجوه والأطراف، ويعقدون الثّياب في الأنصاف، قربانهم دماؤهم، وأناجيلهم في صدورهم، رهبانٌ باللّيل، ليوثٌ بالنّهار، ذلك فضلي أوتيه من أشاء، وأنا ذو الفضل العظيم. فلمّا فرغ نبيّهم شعياء إليهم من مقالته عدوا عليه فيما بلغني ليقتلوه، فهرب منهم، فلقيته شجرةٌ، فانفلقت فدخل فيها، وأدركه الشّيطان فأخذ بهدبةٍ من ثوبه فأراهم إيّاها، فوضعوا المنشار في وسطها فنشروها حتّى قطعوها، وقطعوه في وسطها.
قال أبو جعفرٍ: فعلى القول الّذي ذكرنا عن ابن عبّاسٍ من رواية السّدّيّ وقول ابن زيدٍ، كان إفساد بني إسرائيل في الأرض المرّة الأولى قتلهم زكريّا نبيّ اللّه، مع ما كان سلف منهم قبل ذلك وبعده، إلى أن بعث اللّه عليهم من أحلّ على يده بهم نقمته من معاصي اللّه، وعتوّهم على ربّهم. وأمّا على قول ابن إسحاق الّذي روينا عنه، فكان إفسادهم المرّة الأولى ما وصف مع قتلهم شعيا بن أمصيا نبيّ اللّه.
- وذكر ابن إسحاق أنّ بعض أهل العلم أخبره أنّ زكريّا مات موتًا ولم يقتل، وأنّ المقتول إنّما هو شعيا، وإنّ بختنصّر هو الّذي سلّط على بني إسرائيل في المرّة الأولى بعد قتلهم شعيا.
- حدّثنا بذلك ابن حميدٍ، عن سلمة عنه.
وأمّا إفسادهم في الأرض المرّة الآخرة، فلا اختلاف بين أهل العلم أنّه كان قتلهم يحيى بن زكريّا.
وقد اختلفوا في الّذي سلّطه اللّه عليهم منتقمًا به منهم عند ذلك، وأنا ذاكرٌ اختلافهم في ذلك إن شاء اللّه
وأمّا قوله: {ولتعلنّ علوًّا كبيرًا} فقد ذكرنا قول من قال: يعني به: استكبارهم على اللّه بالجراءة عليه، وخلافهم أمره.
وكان مجاهدٌ يقول في ذلك ما:
- حدّثني محمّد بن عمرٍو، قال: حدّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدّثنا عيسى، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، {ولتعلنّ علوًّا كبيرًا} قال: ولتعلنّ النّاس علوًّا كبيرًا.
- حدّثنا الحارث، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، مثله). [جامع البيان: 14/454-469]
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ الحَسَنِ الهَمَذَانِيُّ (ت: 352هـ): (نا إبراهيمنا آدم نا ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله وقضينا إلى بني إسرائيل إلى قوله بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد وهم جند جاؤوهم من فارس يتحسسون أخبارهم ويسمعون حديثهم ومعهم بخت نصر فوعى حديثهم من بين أصحابه ثم رجعت فارس ولم يكثر قتال ونصرت عليهم بنو إسرائيل فهذا وعد الأولى فإذا جاء وعد الآخرة بعث ملك فارس ببابل جيشا وأمر عليهم بختنصر فدمروهم فهذا وعد الآخرة). [تفسير مجاهد: 357-358]
قال محمدُ بنُ عبدِ اللهِ الحاكمُ النَّيْسابوريُّ (ت: 405هـ): (الأعمش عن عبد الملك بن ميسرة، عن طاوسٍ، قال: كنت عند ابن عبّاسٍ رضي اللّه عنهما، ومعنا رجلٌ من القدريّة، فقلت: إنّ أناسًا يقولون: لا قدر. قال: أوفي القوم أحدٌ منهم؟ قلت: لو كان ما كنت تصنع به؟ قال: " لو كان فيهم أحدٌ منهم، لأخذت برأسه، ثمّ قرأت عليه آية كذا وكذا {وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب، لتفسدنّ في الأرض مرّتين ولتعلنّ علوًّا كبيرًا} [الإسراء: 4] "). [المستدرك: 2/392]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {وقضينا إلى بني إسرائيل} قال: أعلمناهم). [الدر المنثور: 9/251]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {وقضينا إلى بني إسرائيل} قال: أخبرناهم). [الدر المنثور: 9/251]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {وقضينا إلى بني إسرائيل} قال: قضينا عليهم). [الدر المنثور: 9/251]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين} قال: هذا تفسير الذي قبله). [الدر المنثور: 9/251]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن المنذر والحاكم، عن طاووس قال: كنت عند ابن عباس رضي الله عنهما ومعنا رجل من القدرية فقلت أن أناسا يقولون لا قدر، قال: أوفي القوم أحد منهم قلت: لو كان ما كنت تصنع به قال: لو كان فيهم أحد منهم لأخذت برأسه، ثم قرأت عليه {وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا} ). [الدر المنثور: 9/251]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: إن الله عهد إلى بني إسرائيل في التوراة {لتفسدن في الأرض مرتين}، فكان أول الفساد: قتل زكريا عليه السلام فبعث الله عليهم ملك النبط فبعث الجنود وكانت أساورته ألف فارس فهم أولو بأس فتحصنت بنو إسرائيل وخرج فيهم بختنصر يتيما مسكينا إنما خرج يستطعم وتلطف حتى دخل المدينة فأتى مجالسهم وهم يقولون: لو يعلم عدونا ما قذف في قلوبنا من الرعب بذنوبنا ما أرادوا قتالنا فخرج بختنصر حين سمع ذلك منهم وأشد القيام على الجيش فرجعوا وذلك قول الله: {فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد} الآية، ثم إن بني إسرائيل تجهزوا فغزوا النبط فأصابوا منهم فاستنقذوا ما في أيديهم فذلك قوله: {ثم رددنا لكم الكرة عليهم} الآية). [الدر المنثور: 9/251-252]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن عساكر في تاريخه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قوله: {لتفسدن في الأرض مرتين} قال: الأولى قتل زكريا عليه الصلاة والسلام والأخرى قتل يحيى عليه السلام). [الدر المنثور: 9/252]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن أبي حاتم عن عطية العوفي رضي الله عنه في قوله: {لتفسدن في الأرض مرتين} قال: أفسدوا في المرة الأولى فبعث الله عليهم جالوت فقتلهم وأفسدوا المرة الثانية فقتلوا يحيى بن زكريا عليهما السلام فبعث الله عليهم بختنصر). [الدر المنثور: 9/252-253]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بعث الله عليهم في الأولى جالوت فجاس خلال ديارهم وضرب عليهم الخراج والذل فسألوا الله أن يبعث إليهم ملكا يقاتلون في سبيل الله فبعث الله طالوت فقتل جالوت فنصر بنو إسرائيل وقتل جالوت بيدي داود عليه السلام ورجع إلى بني إسرائيل ملكهم فلما أفسدوا: بعث الله عليهم في المرة الآخرة بختنصر فخرب المساجد وتبر {ما علوا تتبيرا} قال الله: بعد الأولى والآخرة (عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا) قال: فعادوا فسلط الله عليهم المؤمنين). [الدر المنثور: 9/253]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن أبي حاتم من طريق أبي هاشم العبدي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ملك ما بين المشرق والمغرب أربعة: مؤمنان وكافران أما الكافران فالفرخان [ و] بختنصر، فأنشأ أبو هاشم يحدث قال: كان رجل من أهل الشام صالحا فقرأ هذه الآية {وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب} إلى قوله: {علوا كبيرا}، قال: يا رب أما الأولى فقد فاتتني فأرني الآخرة، فأتى وهو قاعد في مصلاه قد خفق برأسه فقيل: الذي سألت عنه ببابل واسمه بختنصر، فعرف الرجل أنه قد استجيب له فاحتمل جرابا من دنانير فأقبل حتى انتهى إلى بابل فدخل على الفرخان فقال: إني قد جئت بمال فأقسمه بين المساكين، فأمر به فأنزل فجمعوهم له ثم جعل يعطيهم ويسألهم عن أسمائهم حتى إذا فرغ ممن بحضرته قيل له: فإنه قد بقيت منهم بقايا في الرساتيق فجعل يبعث فتاه حتى إذا كان الليل رجع إليه فأقرأه رجلا رجلا فأتى على ذكر بختنصر فقال: قف، كيف قلت قال: بختنصر، قال: وما بختنصر هذا قال: هو أشدهم فاقة وهو مقعد يأتي عليه السفارون فيلقي أحدهم إليه الكسرة ويأخذ بأنفه، قال: فإني مسلم به لا بد، قال الآخر: فإنما هو في خيمة له يحدث فيها حتى أذهب فأقلبها وأغسله، قال: دونك هذه الدنانير، فأقبل إليه بالدنانير فأعطاه إياها، ثم رجع إلى صاحبه فجاء معه فدخل الخيمة فقال: ما اسمك قال: بختنصر، قال: من سماك بختنصر قال: من عسى أن يسميني إلا أمي قال: فهل لك أحد قال: لا والله إني لههنا أخاف بالليل أن تأكلني الذئاب، قال: فأي الناس أشد بلاء قال: أنا، قال: أفرأيت إن ملكت يوما من دهر أتجعل لي أن لا تعصيني قال أي سيدي لا يضرك أن لا تهزأ بي، قال: أرأيت إن ملكت مرة أتجعل لي أن لا تعصيني قال: أما هذه فلا أجعلها لك ولكن سوف أكرمك كرامة لا أكرمها أحدا، قال دونك هذه الدنانير ثم انطلق فلحق بأرضه فقام الآخر فاستوى على رجليه ثم انطلق فاشترى حمارا وأرسانا ثم جعل يستعرض تلك الأعاجم فيجزها فيبيعه ثم قال: إلى متى هذا الشقاء فعمد فباع ذلك الحمار وتلك الأرسان واكتسى كسوة ثم أتى باب الملك فجعل يشير عليهم بالرأي وترتفع منزلته حتى انتهوا إلى بواب الفرخان الذي يليه فقال له الفرخان: قد ذكر لي رجل عندك فما هو قال: ما رأيت مثله قط قال: ائتني به فكلمه فأعجب به، قال: إن بيت المقدس وتلك البلاد قد استعصوا علينا وإنا باعثون عليهم بعثا وإني باعث إلى البلاد من يختبرها فنظر حينئذ إلى رجال من أهل الأرب والمكيدة فبعثهم جواسيس فلما فصلوا إذا بختنصر قد أتى بخرجيه على بغلة قال: أين تريد قال: معهم قال: أفلا آذنتني فابعثك عليهم قال: لا حتى إذا وقعوا بالأرض قال: تفرقوا، وسأل بختنصر عن أفضل أهل البلد فدل عليه فألقى خرجيه في داره، قال لصاحب المنزل: ألا تخبرني عن أهل بلادك قال: على الخبير سقطت هم قوم فيهم كتاب فلا يقيمونه وأنبياء فلا يطيعونهم وهم متفرقون، قال بختنصر كالمتعجب منه: كتاب لا يقيمونه وأنبياء لا يطيعونهم وهم متفرقون فكتبهن في ورقة وألقى في خرجيه وقال: ارتحلوا، فاقبلوا حتى قدموا على الفرخان فجعل يسأل كل رجل منهم فجعل الرجل يقول: أتينا بلاد كذا ولها حصن كذا ولها نهر كذا قال: يا بختنصر ما تقول قال: قدمنا أرضا على قوم لهم كتاب لا يقيمونه وأنبياء لا يطيعونهم وهم متفرقون، فأمر حينئذ فندب الناس وبعث إليهم سبعين ألفا وأمر عليهم بختنصر فساروا حتى إذا علوا في الأرض أدركهم البريد أن الفرخان قد مات ولم يستخلف أحدا، قال للناس: مكانكم، ثم أقبل على البريد حتى قدم على الناس وقال: كيف صنعتم قالوا: كرهنا أن نقطع أمرا دونك، قال: إن الناس قد بايعوني، فبايعوه ثم استخلف عليهم وكتب بينهم كتابا ثم انطلق بهم سريعا حتى قدم على أصحابه فأراهم الكتاب فبايعوه وقالوا: ما بنا رغبة عنك، فساروا فلما سمع أهل بيت المقدس تفرقوا وطاروا تحت كل كوكب فشعث ما هناك أي أفسد وقتل من قتل وخرب بيت المقدس واستبى أبناء الأنبياء فيهم دانيال، فسمع به صاحب الدنانير فأتاه فقال: هل تعرفني قال: نعم، فأدنى مجلسه ولم يشفعه في شيء حتى إذا نزل بابل لا ترد له راية، فكان كذلك ما شاء الله ثم إنه رأى رؤيا فأفظعته فأصبح قد نسيها، قال: علي بالسحرة والكهنة، قال: أخبروني عن رؤيا رأيتها الليلة والله لتخبرني بها أو لأقتلنكم، قالوا: ما هي قال: قد نسيتها قالوا: ما عندنا من هذا علم إلا أن ترسل إلى أبناء الأنبياء، فأرسل إلى أبناء الأنبياء، قال: أخبروني عن رؤيا رأيتها الليلة والله لتخبروني بها أو لأقتلنكم، قالوا: ما هي قال: قد نسيتها، قالوا غيب ولا يعلم الغيب إلا الله تعالى، قال والله لتخبرني بها أو لأضربن أعناقكم، قالوا: فدعنا حتى نتوضأ ونصلي وندعو الله تعالى، قال: فافعلوا، فانطلقوا فأحسنوا الوضوء فأتوا صعيدا طيبا فدعوا الله فأخبروا بها ثم رجعوا إليه فقالوا: رأيت كأن رأسك من ذهب وصدرك من فخار ووسطك من نحاس ورجليك من حديد، قال: نعم، قال: أخبروني بعبارتها أو لأقتلنكم، قالوا: فدعنا ندعو ربنا، قال اذهبوا فدعوا ربهم فاستجاب لهم فرجعوا إليه قالوا: رأيت كأن رأسك من ذهب ملكك هذا يذهب عند رأس الحول من هذه الليلة، قال: ثم مه قالوا: ثم يكون بعدك ملك يفخر على الناس ثم يكون ملك يخشى الناس شدته ثم يكون ملك لا يقله شيء إنما هو مثل الحديد يعني الإسلام، فأمر بحصن فبني له بينه وبين السماء ثم جعل ينطقه بمقاعد الرجال والأحراس وقال لهم: إنما هي هذه الليلة لا يجوز عليكم أحد وإن قال أنا بختنصر إلا قتلتموه مكانه كائنا من كان من الناس، فقعد كل أناس في مكانهم الذي وكلوا به، واهتاج بطنه من الليل فكره أن يرى مقعده هناك، وضرب على أسمخة القوم فاستثقلوا نوما فأتى عليهم وهم نيام ثم أتى عليهم فاستيقظ بعضهم فقال: من هذا قال: بختنصر، قال: هذا الذي حفي إلينا فيه الليلة، فضربه فقتله فأصبح الخبيث قتيلا.
وأخرج ابن جرير نحوه أخصر منه عن سعيد بن جبير رضي الله عنه وعن السدي وعن وهب بن منبه). [الدر المنثور: 9/253-259]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن جرير عن سعيد بن المسيب قال: ظهر بختنصر على الشام فخرب بيت المقدس وقتلهم ثم أتى دمشق فوجد بها دما يغلي على كباء فسألهم ما هذا الدم قالوا: أدركنا آبائنا على هذا وكلما ظهر عليهم البكاء ظهر فقتل على ذلك الدم سبعين ألفا من المسلمين وغيرهم فسكن). [الدر المنثور: 9/259-260]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن عساكر عن الحسن رضي الله عنه: أن بختنصر لما قتل بني إسرائيل وهدم بيت المقدس وسار بسبايا بني إسرائيل إلى أرض بابل فسامهم سوء العذاب أراد أن يتناول السماء فطلب حيلة يصعد بها فسلط الله عليه بعوضة فدخلت منخره فوقفت في دماغه فلم تزل تأكل دماغه وهو يضرب رأسه بالحجر حتى مات). [الدر المنثور: 9/260]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن جرير عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن بني إسرائيل لما اعتدوا في السبت وعلوا وقتلوا الأنبياء عليهم السلام بعث الله عليهم ملك فارس بختنصر وكان الله ملكه سبعمائة سنة فسار إليهم حتى دخل بيت المقدس فحاصرها وفتحها وقتل على دم زكريا عليه السلام سبعين ألفا ثم سبى أهلها وبني الأنبياء وسلب حلى بيت المقدس واستخرج منها سبعين ألفا ومائة ألف عجلة من حلى حتى أورده بابل قال حذيفة رضي الله عنه: فقلت: يا رسول الله لقد كان بيت المقدس عظيما عند الله قال: أجل فبناه سليمان بن داود عليه السلام من ذهباودر وياقوت وزبرجد وكان بلاطة ذهبا وبلاطة فضة وعمده ذهبا أعطاه الله ذلك وسخر له الشياطين يأتونه بهذه الأشياء في طرفة عين فسار بختنصر بهذه الأشياء حتى نزل بها بابل فأقام بنو إسرائيل مائة سنة يعذبهم المجوس وأبناء المجوس فيهم الأنبياء وأبناء الأنبياء ثم إن الله رحمهم فأوحى إلى ملك من ملوك فارس يقال له كورس - وكان مؤمنا -: أن سر إلى بقايا بني إسرائيل حتى تستنقذهم فسار كورس ببني إسرائيل ودخل بيت المقدس حتى رده إليه فأقام بنو إسرائيل مطيعين لله مائة سنة ثم إنهم عادوا في المعاصي فسلط عليهم ابطنانحوس فغزا ثانيا بمن غزا مع بختنصر فغزا بني إسرائيل حتى أتاهم بيت المقدس فسبى أهلها وأحرق بيت المقدس، وقال لهم: يا بني إسرائيل إن عدتم في المعاصي عدنا عليكم في السباء فعادوا في المعاصي فسير الله علبهم السباء الثالث: ملك رومية يقال له فاقس بن اسبايوس فغزاهم في البر والبحر فسباهم وسير حلى بيت المقدس وأحرق بيت المقدس بالنيران فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فهذا من صفة حلى بيت المقدس ويرده المهدي إلى بيت المقدس وهو ألف سفينة وسبعمائة سفينة يرسى بها على يافا حتى تنتقل إلى بيت المقدس وبها يجتمع إليه الأولون والآخرون). [الدر المنثور: 9/260-262]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن جرير عن ابن زيد قال: كان إفسادهم الذي يفسدون في الأرض مرتين: قتل زكريا عليه السلام ويحيى بن زكريا فسلط عليهم سابور ذا الأكتاف ملكا من ملوك فارس من قبل زكريا وسلط عليهم بختنصر من قبل يحيى). [الدر المنثور: 9/262]

تفسير قوله تعالى: (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) )
قال محمدُ بنُ إسماعيلَ بن إبراهيم البخاريُّ (ت: 256هـ) : ({فجاسوا} [الإسراء: 5] : " تيمّموا). [صحيح البخاري: 6/84]
- قال أحمدُ بنُ عَلَيِّ بنِ حجرٍ العَسْقَلانيُّ (ت: 852هـ): (قوله فجاسوا تيمموا أخرجه بن أبي حاتمٍ من طريق عليّ بن أبي طلحة عن بن عبّاس في قوله فجاسوا خلال الديار أي فمشوا وقال أبو عبيدة جاس يجوس أي نقّب وقيل نزل وقيل قتل وقيل تردّد وقيل هو طلب الشّيء باستقصاءٍ وهو بمعنى نقّب). [فتح الباري: 8/394]
- قال أحمدُ بنُ عَلَيِّ بنِ حجرٍ العَسْقَلانيُّ (ت: 852هـ) : (قوله فيه
وقال مجاهد {موفورا} وافرا {تبيعا} ثائرا وقال ابن عبّاس نصيرًا {خبت} طفئت وقال ابن عبّاس {ولا تبذر} لا تنفق في الباطل {ابتغاء رحمة} رزق {مثبورا} ملعونا {ولا تقف} لا تقل {فجاسوا} تيمموا {يزجي لكم الفلك} يجري الفلك {يخرون للأذقان} للوجوه
قال عبد بن حميد ثنا شبابة ثنا ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله 63 الإسراء {موفورا} قال وافرا
وبه في قوله 69 الإسراء {به تبيعا} قال نصيرًا ثائرا
وقال ابن أبي حاتم ثنا أبي ثنا أبو صالح ثنا معاوية عن علّي عن ابن عبّاس في قوله تبيعا قال نصيرًا
وبه في قوله 97 الإسراء {كلما خبت} قال طفئت
أخبرنا أبو الفرج بن الغزّي أنا يوسف بن عمر الختني وهو آخر من حدث عنه بالسّماع أنا عبد الوهّاب بن رواج وهو آخر من تقيّ من حضر عنده أو سمع عليه أنا الحافظ أبو طاهر السلفي أنا أبو طاهر بن البطر أنا عبيدالله بن عبد الله بن البيع ثنا الحسين بن إسماعيل المحاملي ثنا محمود بن خداش ثنا هشيم أنا حصين عن عكرمة عن ابن عبّاس في قوله 27 الإسراء {إن المبذرين كانوا إخوان الشّياطين} قال المبذر المنفق في غير حق
رواه البخاريّ في كتاب الأدب المفرد عن عارم عن هشيم به فوقع لنا بدلا عاليا
وقال أبو جعفر الطّبريّ ثنا القاسم ثنا الحسين ثنا حجاج عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عبّاس في قوله 26 الإسراء {ولا تبذر} قال لا تنفق في الباطل فإن المبذر هو المسرف في غير حق
وبه في قوله 28 الإسراء {ابتغاء رحمة من ربك} قال رزق
وقال أيضا ثنا علّي هو ابن داود ثنا عبد الله هو ابن صالح ثنا معاوية عن علّي بن أبي طلحة عن ابن عبّاس في قوله 102 الإسراء {وإنّي لأظنك يا فرعون مثبورا} قال ملعونا
وقال ابن أبي حاتم ثنا أبي تنا أبو صالح حدثني معاوية عن علّي عن ابن عبّاس قوله 36 الإسراء {ولا تقف} يقول لا تقل
وبه في قوله 5 الإسراء {فجاسوا خلال الديار} قال فمشوا). [تغليق التعليق: 4/240-242] (م)
- قال محمودُ بنُ أحمدَ بنِ موسى العَيْنِيُّ (ت: 855هـ) : (فجاسوا تيمّموا
أشار به إلى قوله تعالى: {فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا} (الإسراء: 5) وفسّر: (جاسوا) بقوله: (تيمموا) أي: قصدوا وسط الدّار، وجاسوا من الجوس وهو طلب الشّيء باستقصاء، وقال ابن عرفة: معناه عانوا وأفسدوا). [عمدة القاري: 19/25]
- قال أحمدُ بنُ محمدِ بن أبي بكرٍ القَسْطَلاَّنيُّ (ت: 923هـ) : ( ({فجاسوا}) في قوله تعالى: {فجاسوا خلال الديار} [الإسراء: 5] أي (تيمموا) أي قصدوا وسطها للقتل والإغارة). [إرشاد الساري: 7/203]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (وأمّا قوله: {فإذا جاء وعد أولاهما} يعني: فإذا جاء وعد أولى المرّتين اللّتين يفسدون بهما في الأرض كما؛
- حدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ، في قوله: {فإذا جاء وعد أولاهما} قال: إذا جاء وعد أولى تينك المرّتين اللّتين قضيتا إلى بني إسرائيل {لتفسدنّ في الأرض مرّتين}
وقوله: {بعثنا عليكم عبادًا لنا أولي بأسٍ شديدٍ فجاسوا خلال الدّيار وكان وعدًا مفعولاً} يعني تعالى ذكره بقوله: {بعثنا عليكم} وجّهنا إليكم، وأرسلنا عليكم {عبادًا لنا أولي بأسٍ شديدٍ} يقول: ذوي بطشٍ في الحروب شديدٍ
وقوله: {فجاسوا خلال الدّيار وكان وعدًا مفعولاً} يقول: فتردّدوا بين الدّور والمساكن، وذهبوا وجاءوا. يقال فيه: جاس القوم بين الدّيار وجاسوا بمعنًى واحدٍ، وجست أنا أجوس جوسا وجوسانًا.
وبنحو الّذي قلنا في ذلك، روي الخبر عن ابن عبّاسٍ:
- حدّثني عليّ بن داود، قال: حدّثنا عبد اللّه، قال: حدّثني معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عبّاسٍ، {فجاسوا خلال الدّيار} قال: مشوا.
وكان بعض أهل المعرفة بكلام العرب من أهل البصرة يقول: معنى جاسوا: قتلوا، ويستشهد لقوله ذلك ببيت حسّان:
ومنّا الّذي لاقى بسيف محمّدٍ = فجاس به الأعداء عرض العساكر
وجائزٌ أن يكون معناه: فجاسوا خلال الدّيار فقتلوهم ذاهبين وجائين، فيصحّ التّأويلان جميعًا.
ويعني بقوله: {وكان وعدًا مفعولاً} وكان جوس القوم الّذين نبعث عليهم خلال ديارهم وعدًا من اللّه لهم مفعولاً ذلك لا محالة لأنّه لا يخلف الميعاد.
ثمّ اختلف أهل التّأويل في الّذين عنى اللّه بقوله: {أولي بأسٍ شديدٍ} فيما كان من فعلهم في المرّة الأولى في بني إسرائيل حين بعثوا عليهم، ومن الّذين بعث عليهم في المرّة الآخرة، وما كان من صنعهم بهم، فقال بعضهم: كان الّذي بعث اللّه عليهم في المرّة الأولى جالوت، وهو من أهل الجزيرة
ذكر من قال ذلك
- حدّثني محمّد بن سعدٍ، قال: حدّثنا أبي قال، حدّثني عمّي، قال: حدّثني أبي، عن أبيه، عن ابن عبّاسٍ، قوله: {فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادًا لنا أولي بأسٍ شديدٍ فجاسوا خلال الدّيار وكان وعدًا مفعولاً} قال: بعث اللّه عليهم جالوت فجاس خلال ديارهم، وضرب عليهم الخراج والذّلّ، فسألوا اللّه أن يبعث لهم ملكًا يقاتلون في سبيل اللّه، فبعث اللّه طالوت، فقاتلوا جالوت، فنصر اللّه بني إسرائيل، وقتل جالوت بيدي داود، ورجع اللّه إلى بني إسرائيل ملكهم
- حدّثنا بشرٌ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، قوله: {فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادًا لنا أولي بأسٍ شديدٍ فجاسوا خلال الدّيار وكان وعدًا مفعولاً} قضاءٌ قضى اللّه على القوم كما تسمعون، فبعث عليهم في الأولى جالوت الجزريّ، فسبى وقتل، وجاسوا خلال الدّيار كما قال اللّه، ثمّ رجع القوم على دخنٍ فيهم
- حدّثنا محمّد بن عبد الأعلى، قال: حدّثنا محمّد بن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادة، قال: أما المرّة الأولى فسلّط اللّه عليهم جالوت، حتّى بعث طالوت ومعه داود، فقتله داود.
وقال آخرون: بل بعث عليهم في المرّة الأولى سنحاريب، وقد ذكرنا بعض قائلي ذلك فيما مضى ونذكر ما حضرنا ذكره ممّن لم نذكره قبل
- حدّثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدّثنا ابن عليّة، عن أبي المعلّى، قال: سمعت سعيد بن جبيرٍ، يقول في قوله: {بعثنا عليكم عبادًا لنا أولي بأسٍ شديدٍ} قال: بعث اللّه تبارك وتعالى عليهم في المرّة الأولى سنحاريب من أهل أثور ونينوى، فسألت سعيدًا عنها، فزعم أنّها الموصل
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ عن ابن جريجٍ، قال: حدّثني يعلى بن مسلمٍ عن سعيد بن جبيرٍ، أنّه سمعه يقول: كان رجلٌ من بني إسرائيل يقرأ، حتّى إذا بلغ {بعثنا عليكم عبادًا لنا أولي بأسٍ شديدٍ} بكى وفاضت عيناه، وطبّق المصحف، فقال ذلك ما شاء اللّه من الزّمان، ثمّ قال: أي ربّ أرني هذا الرّجل الّذي جعلت هلاك بني إسرائيل على يديه، فأري في المنام مسكينًا ببابل، يقال له بختنصّر، فانطلق بمالٍ وأعبدٍ له، وكان رجلاً موسرًا، فقيل له أين تريد؟ قال: أريد التّجارة، حتّى نزل دارًا ببابل، فاستكراها ليس فيها أحدٌ غيره، فجعل يدعو المساكين ويلطف بهم حتّى لا يأتيه أحدٌ، فقال: هل بقي مسكينٌ غيركم؟ قالوا: نعم، مسكينٌ بفجّ آل فلانٍ مريضٍ يقال له بختنصّر، فقال لغلمته: انطلقوا، حتّى أتاه، فقال: ما اسمك؟ قال: بختنصّر، فقال لغلمته: احتملوه، فنقله إليه ومرّضه حتّى برأ، فكساه وأعطاه نفقةً، ثمّ آذن الإسرائيليّ بالرّحيل، فبكى بختنصّر، فقال الإسرائيليّ: ما يبكيك؟ قال: أبكي أنّك فعلت بي ما فعلت، ولا أجد شيئًا أجزيك، قال: بلى شيئًا يسيرًا، إن ملكت أطعتني، فجعل الآخر يتبعه ويقول: تستهزئ بي؟ ولا يمنعه أن يعطيه ما سأله، إلاّ أنّه يرى أنّه يستهزئ به، فبكى الإسرائيليّ وقال: ولقد علمت ما يمنعك أن تعطيني ما سألتك، إلاّ أنّ اللّه يريد أن ينفذ ما قد قضاه وكتب في كتابه وضرب الدّهر من ضربه، فقال يومًا صيحون وهو ملك فارس ببابل: لو أنّا بعثنا طليعةً إلى الشّام قالوا: وما ضرّك لو فعلت؟ قال: فمن ترون؟ قالوا: فلانٌ، فبعث رجلاً وأعطاه مائة ألفٍ، وخرج بختنصّر في مطبخه، لم يخرج إلاّ ليأكل في مطبخه، فلمّا قدم الشّام ورأى صاحب الطّليعة أكثر أرض اللّه فرسًا ورجلاً جلدًا، فكسر ذلك في ذرعه، فلم يسأل، قال: فجعل بختنصّر يجلس مجالس أهل الشّام فيقول: ما يمنعكم أن تغزوا بابل، فلو غزوتموها ما دون بيت مالها شيءٌ، قالوا: لا نحسن القتال، قال: فلو غزوتم، قالوا: إنّا لا نحسن القتال ولا نقاتل حتّى أنفذ مجالس أهل الشّام، ثمّ رجعوا فأخبر الطّليعة ملكهم بما رأى، وجعل بختنصّر يقول لفوارس الملك: لو دعاني الملك لأخبرته غير ما أخبره فلانٌ، فرفع ذلك إليه، فدعاه فأخبره الخبر وقال: إنّ فلانًا لمّا رأى أكثر أرض اللّه كراعا ورجلاً جلدًا، كسر ذلك في روعه ولم يسألهم عن شيءٍ، وإنّي لم أدع مجلسًا بالشّام إلاّ جالست أهله، فقلت لهم كذا وكذا، وقالوا لي كذا وكذا الّذي ذكر سعيد بن جبيرٍ أنّه قال لهم: قال الطّليعة لبختنصّر: إنّك فضحتني لك مائة ألفٍ وتنزع عمّا قلت، قال: لو أعطيتني بيت مال بابل ما نزعت، وضرب الدّهر من ضربه، فقال الملك: لو بعثنا جريدة خيلٍ إلى الشّام، فإن وجدوا مساغًا ساغوا، وإلاّ امتشو ما قدروا عليه، قالوا: ما ضرّك لو فعلت؟ قال: فمن ترون؟ قالوا: فلانٌ، قال: بل الرّجل الّذي أخبرني ما أخبرني، فدعا بختنصّر وأرسله، وانتخب معه أربعة آلافٍ من فرسانهم، فانطلقوا فجاسوا خلال الدّيار، فسبوا ما شاء اللّه ولم يخرّبوا ولم يقتلوا، ورمى في جنازة صيحون الملك قالوا: استخلفوا رجلاً، قالوا: على رسلكم حتّى تأتي أصحابكم فإنّهم فرسانكم، أن ينغصوا عليكم شيئًا، فأمهلوا حتّى جاء بختنصّر بالسّبي وما معه، فقسمه في النّاس، فقالوا: ما رأينا أحدًا أحقّ بالملك من هذا، فملّكوه
- حدّثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: أخبرني سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيدٍ، قال: سمعت سعيد بن المسيّب، يقول: ظهر بختنصّر على الشّام، فخرّب بيت المقدس وقتلهم، ثمّ أتى دمشق، فوجد بها دمًا يغلي على كبا: أي كناسةٍ، فسألهم ما هذا الدّم؟ قالوا: أدركنا آباءنا على هذا وكلّما ظهر عليه الكبا ظهر، قال: فقتل على ذلك الدّم سبعين ألفًا من المسلمين وغيرهم، فسكن.
وقال آخرون: يعني بذلك قومًا من أهل فارس، قالوا: ولم يكن في المرّة الأولى قتالٌ
ذكر من قال ذلك
- حدّثني محمّد بن عمرٍو، قال: حدّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدّثنا عيسى، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، {فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادًا لنا أولي بأسٍ شديدٍ فجاسوا خلال الدّيار} قال: من جاءهم من فارس يتحسّسون أخبارهم، ويسمعون حديثهم، معهم بختنصّر، فوعى أحاديثهم من بين أصحابه، ثمّ رجعت فارس ولم يكن قتالٌ، ونصرت عليهم بنو إسرائيل، فهذا وعد الأولى
- حدّثني الحارث، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ {بعثنا عليكم عبادًا لنا أولي بأسٍ شديدٍ} جندٌ جاءهم من فارس يتجسّسون أخبارهم، ثمّ ذكر نحوه
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهد {فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادًا لنا أولي بأسٍ شديدٍ} قال: ذلك أي من جاءهم من فارس، ثمّ ذكر نحوه). [جامع البيان: 14/470-476]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن زيد رضي الله عنه في قوله: {فإذا جاء وعد أولاهما} قال: إذا جاء وعد أولى تينك المرتين اللتين قضينا إلى بني إسرائيل {لتفسدن في الأرض مرتين} ). [الدر المنثور: 9/262]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن جرير، وابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد رضي الله عنه في قوله: {بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد} قال جند أتوا من فارس يتجسسون من أخبارهم ويسمعون حديثهم معهم بختنصر فوعى حديثهم من بين أصحابه ثم رجعت فارس ولم يكثر قتال ونصرت عليهم بنو إسرائيل فهذا وعد الأولى {فإذا جاء وعد الآخرة} بعث ملك فارس ببابل جيشا وأمر عليهم بختنصر فدمروهم فهذا وعد الآخرة). [الدر المنثور: 9/262-263]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {فجاسوا} قال فمشوا). [الدر المنثور: 9/263]

تفسير قوله تعالى: (ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) )
قال محمدُ بنُ إسماعيلَ بن إبراهيم البخاريُّ (ت: 256هـ) : ({نفيرًا} [الإسراء: 6] : «من ينفر معه»). [صحيح البخاري: 6/83]
- قال أحمدُ بنُ عَلَيِّ بنِ حجرٍ العَسْقَلانيُّ (ت: 852هـ): (قوله نفيرًا من ينفر معه قال أبو عبيدة في قوله أكثر نفيرا قال الّذين ينفرون معه وروى الطّبريّ من طريق سعيدٍ عن قتادة في قوله وجعلناكم أكثر نفيرا أي عددًا ومن طريق أسباطٍ عن السّدّيّ مثله). [فتح الباري: 8/390]
- قال محمودُ بنُ أحمدَ بنِ موسى العَيْنِيُّ (ت: 855هـ) : (نفيراً من ينفر معه
أشار به إلى قوله تعالى: {وجعلناكم أكثر نفيراً}
أشار به إلى قوله تعالى: {وجعلناكم أكثر نفيراً} (الإسراء: 6) قال أبو عبيدة: معناه الّذين ينفرون معه، وروى الطّبريّ من طريق سعيد عن قتادة في قوله: {وجعلناكم أكثر نفيراً} أي: عددا، وقال الثّعلبيّ: أصله من ينفر مع الرجل من عشيرته وأهل بيته، ودليله قول مجاهد: أكثر رجلا، والنفير والنافر واحد، كالقدير والقادر). [عمدة القاري: 19/20]
- قال أحمدُ بنُ محمدِ بن أبي بكرٍ القَسْطَلاَّنيُّ (ت: 923هـ) : ( ({نفيرًا}) في قوله: {وجعلناكم أكثر نفيرًا} [الإسراء: 16] قال أبو عبيدة أصله (من ينفر معه) أي مع الرجل من قومه وعشيرته وقيل جمع نفر وهم المجتمعون للذهاب إلى العدوّ، وفاء ينفر بالكسر والضم). [إرشاد الساري: 7/199]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى {ثمّ رددنا لكم الكرّة عليهم وأمددناكم بأموالٍ وبنين وجعلناكم أكثر نفيرًا}.
يقول تعالى ذكره: ثمّ أدلناكم يا بني إسرائيل على هؤلاء القوم الّذين وصفهم جلّ ثناؤه أنّه يبعثهم عليهم، وكانت تلك الإدالة والكرّة لهم عليهم، فيما ذكر السّدّيّ في خبره أنّ بني إسرائيل غزوهم، وأصابوا منهم، واستنقذوا ما في أيديهم منهم. وفي قول آخرين: إطلاق الملك الّذي غزاهم ما في يديه من أسراهم، وردّ ما كان أصاب من أموالهم عليهم من غير قتالٍ. وفي قول ابن عبّاسٍ الّذي رواه عطيّة عنه هي إدالة اللّه إيّاهم من عدوّهم جالوت حتّى قتلوه، وقد ذكرنا كلّ ذلك بأسانيده فيما مضى
{وأمددناكم بأموالٍ وبنين} يقول: وزدنا فيما أعطيناكم من الأموال والبنين
وقوله: {وجعلناكم أكثر نفيرًا} يقول: وصيّرناكم أكثر عددٍ نافرٍ منهم.
وبنحو الّذي قلنا في ذلك، قال أهل التّأويل
ذكر من قال ذلك
- حدّثنا بشرٌ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، قوله {وجعلناكم أكثر نفيرًا} أي عددًا، وذلك في زمن داود.
- حدّثني موسى، قال: حدّثنا عمرٌو، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ، {وجعلناكم أكثر نفيرًا} يقول: عددًا
- حدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ، في قوله: {ثمّ رددنا لكم الكرّة عليهم} لبني إسرائيل، بعد أن كانت الهزيمة، وانصرف الآخرون عنهم {وجعلناكم أكثر نفيرًا} قال: جعلناكم بعد هذا أكثر عددًا
- حدّثنا محمّد بن عبد الأعلى، قال: حدّثنا محمّد بن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادة، {ثمّ رددنا لكم الكرّة عليهم} ثمّ رددت الكرّة لبني إسرائيل
- حدّثني محمّد بن سنانٍ القزّاز، قال: حدّثنا أبو عاصمٍ، عن سفيان، في قوله: {وأمددناكم بأموالٍ وبنين} قال: أربعة آلافٍ). [جامع البيان: 14/476-477]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة رضي الله عنه قال: أما المرة الأولى فسلط عليهم جالوت حتى بعث طالوت ومعه داود فقتله داود ثم رد الكرة لبني إسرائيل {وجعلناكم أكثر نفيرا} أي عددا وذلك في زمان داود). [الدر المنثور: 9/263] (م)

تفسير قوله تعالى: (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7) )
قال محمدُ بنُ إسماعيلَ بن إبراهيم البخاريُّ (ت: 256هـ) : ({وليتبّروا} [الإسراء: 7] : «يدمّروا» ، {ما علوا} [الإسراء: 7] ). [صحيح البخاري: 6/83]
- قال محمودُ بنُ أحمدَ بنِ موسى العَيْنِيُّ (ت: 855هـ) : (وليتبّروا يدمّروا ما علوا
أشار به إلى قوله تعالى: {وليتبروا ما علوا تتبيراً} (الإسراء: 7) وفسّر قوله: (وليتبروا) بقوله: (يدمروا) من التدمير، وهو الإهلاك من الدمار وهو الهلاك. قوله: (ما علوا) أي: ما غلبوا عليه من بلادكم، والجملة في محل النصب لأنّها مفعول: ليتبروا، وقال الزّجاج: كل شيء كسرته وفتنته فقد دمرته، والمعنى: وليخربوا ما غلبوا عليه). [عمدة القاري: 19/20]
- قال أحمدُ بنُ محمدِ بن أبي بكرٍ القَسْطَلاَّنيُّ (ت: 923هـ) : ( ({وليتبروا}) أي (يدمروا {ما علوا}) من التدمير وهو الإهلاك أي ليهلكوا ما غلبوه واستولوا عليه). [إرشاد الساري: 7/199]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى {إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أوّل مرّةٍ وليتبّروا ما علوا تتبيرًا}.
يقول تعالى ذكره لبني إسرائيل فيما قضى إليهم في التّوراة: {إن أحسنتم} يا بني إسرائيل، فأطعتم اللّه وأصلحتم أمركم ولزمتم أمره ونهيه {أحسنتم} وفعلتم ما فعلتم من ذلك {لأنفسكم} لأنّكم إنّما تنفعون بفعلكم ما تفعلون من ذلك أنفسكم في الدّنيا والآخرة. أمّا في الدّنيا فإنّ اللّه يدفع عنكم من بغاكم سوءًا، وينمّي لكم أموالكم، ويزيدكم إلى قوّتكم قوّةً. وأمّا في الآخرة فإنّ اللّه تعالى يثيبكم به جنانه {وإن أسأتم} يقول: وإن عصيتم اللّه وركبتم ما نهاكم عنه حينئذٍ، فإلى أنفسكم تسيئون، لأنّكم تسخطون بذلك على أنفسكم ربّكم، فيسلّط عليكم في الدّنيا عدوّكم، ويمكّن منكم من بغاكم سوءًا، ويخلّدكم في الآخرة في العذاب المهين. وقال جلّ ثناؤه {وإن أسأتم فلها} والمعنى: فإليها كما قال {بأنّ ربّك أوحى لها} والمعنى: أوحى إليها
وقوله: {فإذا جاء وعد الآخرة} يقول: فإذا جاء وعد المرّة الآخرة من مرّتي إفسادكم يا بني إسرائيل في الأرض {ليسوءوا وجوهكم} يقول: ليسوء مجيء ذلك الوعد للمرّة الآخرة وجوهكم فيقبّحها.
وقد اختلف القرّاء في قراءة قوله {ليسوءوا وجوهكم} فقرأ ذلك عامّة قرّاء أهل المدينة والبصرة {ليسوءوا وجوهكم} بمعنى: ليسوء العباد الألو البأس الشّديد الّذين يبعثهم اللّه عليكم وجوهكم، واستشهد قارئو ذلك لصحّة قراءتهم كذلك بقوله {وليدخلوا المسجد} وقالوا: ذلك خبرٌ عن الجميع فكذلك الواجب أن يكون قوله {ليسوءوا} وقرأ ذلك عامّة قرّاء الكوفة: ( ليسوء وجوهكم ) على التّوحيد وبالياء. وقد يحتمل ذلك وجهين من التّأويل: أحدهما ما قد ذكرت، والآخر منهما: ليسوء اللّه وجوهكم. فمن وجّه تأويل ذلك إلى ليسوء مجيء الوعد وجوهكم، جعل جوّاب قوله " فإذا " محذوفًا، وقد استغني بما ظهر عنه، وذلك المحذوف " جاء "، فيكون الكلام تأويله: فإذا جاء وعد الآخرة ليسوء وجوهكم جاء. ومن وجّه تأويله إلى: ليسوء اللّه وجوهكم، كان أيضًا في الكلام محذوفٌ، قد استغني هنا عنه بما قد ظهر منه، غير أنّه ذلك المحذوف سوى " جاء "، فيكون معنى الكلام حينئذٍ: فإذا جاء وعد الآخرة بعثناهم ليسوء اللّه وجوهكم، فيكون المضمر بعثناهم، وذلك جواب " إذا " حينئذٍ. وقرأ ذلك بعض أهل العربيّة من الكوفيّين: " لنسوء وجوهكم " على وجه الخبر من اللّه تبارك وتعالى اسمه عن نفسه.
وكان مجيء وعد المرّة الآخرة عند قتلهم يحيى.
ذكر الرّواية بذلك والخبر عمّا جاءهم من عند اللّه حينئذٍ كما:
- حدّثنا موسى، قال: حدّثنا عمرٌو، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ، في الحديث الّذي ذكرنا إسناده قيل: إنّ رجلاً من بني إسرائيل رأى في النّوم أنّ خراب بيت المقدس وهلاك بني إسرائيل على يدي غلامٍ يتيمٍ ابن أرملةٍ من أهل بابل، يدعى بختنصّر، وكانوا يصدقون فتصدق رؤياهم، فأقبل فسأل عنه حتّى نزل على أمّه وهو يحتطب، فلمّا جاء وعلى رأسه حزمةٌ من حطبٍ ألقاها، ثمّ قعد في جانب البيت فضمّه، ثمّ أعطاه ثلاثة دراهم، فقال: اشتر بهذا طعامًا وشرابًا، فاشترى بدرهمٍ لحمًا وبدرهمٍ خبزًا وبدرهمٍ خمرًا، فأكلوا وشربوا حتّى إذا كان اليوم الثّاني فعل به ذلك، حتّى إذا كان اليوم الثّالث فعل ذلك، ثمّ قال له: إنّي أحبّ أن تكتب لي أمانًا إن أنت ملكت يومًا من الدّهر، فقال: أتسخر بي؟ فقال: إنّي لا أسخر بك، ولكن ما عليك أن تتّخذ بها عندي يدًا، فكلّمته أمّه، فقالت: وما عليك إن كان ذلك وإلاّ لم ينقصك شيئًا، فكتب له أمانًا، فقال: أرأيت إن جئت والنّاس حولك قد حالوا بيني وبينك، فاجعل لي آيةً تعرفني بها قال: نرفع صحيفتك على قصبةٍ أعرفك بها، فكساه وأعطاه. ثمّ إنّ ملك بني إسرائيل كان يكرم يحيى بن زكريّا، ويدني مجلسه، ويستشيره في أمره، ولا يقطع أمرًا دونه، وأنّه هوى أن يتزوّج ابنة امرأةٍ له، فسأل يحيى عن ذلك، فنهاه عن نكاحها وقال: لست أرضاها لك، فبلغ ذلك أمّها فحقدت على يحيى حين نهاه أن يتزوّج ابنتها، فعمدت أمّ الجارية حين جلس الملك على شرابه، فألبستها ثيابًا رقاقًا حمرًا، وطيّبتها وألبستها من الحليّ، وقيل: إنّها وألبستها فوق ذلك كساءً أسود، وأرسلتها إلى الملك، وأمرتها أن تسقيه، وأن تعرض له نفسها، فإن أرادها على نفسها أبت عليه حتّى يعطيها ما سألته، فإذا أعطاها ذلك سألته أن يأتي برأس يحيى بن زكريّا في طستٍ، ففعلت، فجعلت تسقيه وتعرض له نفسها، فلمّا أخذ فيه الشّراب أرادها على نفسها، فقالت: لا أفعل حتّى تعطيني ما أسألك، فقال: ما تسأليني؟ قالت: أسألك أن تبعث إلى يحيى بن زكريّا، فأوتى برأسه في هذا الطّست، فقال: ويحك سليني غير هذا، فقالت له: ما أريد أن أسألك إلاّ هذا. قال: فلمّا أبت عليه بعث إليه، فأتى برأسه، والرّأس يتكلّم حتّى وضع بين يديه وهو يقول: لا يحلّ لك ذلك، فلمّا أصبح إذا دمه يغلي، فأمر بترابٍ فألقي عليه، فرقى الدّم فوق التّراب يغلي، فألقى عليه التّراب أيضًا، فارتفع الدّم فوقه، فلم يزل يلقي عليه التّراب حتّى بلغ سور المدينة وهوفي ذلك يغلي وبلغ صيحائين، فثار في النّاس، وأراد أن يبعث عليهم جيشًا، ويؤمّر عليهم رجلاً، فأتاه بختنصّر وكلّمه وقال: إنّ الّذي كنت أرسلته تلك المرّة ضعيفٌ، وإنّي قد دخلت المدينة وسمعت كلام أهلها، فابعثني، فبعثه، فسار بختنصّر حتّى إذا بلغوا ذلك المكان تحصّنوا منه في مدائنهم، فلم يطقهم، فلمّا اشتدّ عليهم المقام وجاع أصحابه، أرادوا الرّجوع، فخرجت إليهم عجوزٌ من عجائز بني إسرائيل فقالت: أين أمير الجند؟ فأتي بها إليه، فقالت له: إنّه بلغني أنّك تريد أن ترجع بجندك قبل أن تفتح هذه المدينة، قال: نعم، قد طال مقامي، وجاع أصحابي، فلست أستطيع المقام فوق الّذي كان منّي، فقالت: أرأيتك إن فتحت لك المدينة أتعطيني ما سألتك، وتقتل من أمرتك بقتله، وتكفّ إذا أمرتك أن تكفّ؟ قال: نعم، قالت: إذا أصبحت فاقسم جندك أربعة أرباعٍ، ثمّ أقم على كلّ زاويةٍ ربعًا، ثمّ ارفعوا بأيديكم إلى السّماء فنادوا: إنّا نستفتحك يا اللّه بدم يحيى بن زكريّا، فإنّها سوف تسّاقط، ففعلوا، فتساقطت المدينة، ودخلوا من جوانبها، فقالت له: كف يدك اقتل على هذا الدّم حتّى يسكن، وانطلقت به إلى دم يحيى وهو على ترابٍ كثيرٍ، فقتل عليه حتّى سكن سبعين ألفًا وامرأةً، فلمّا سكن الدّم قالت له: كفّ يدك، فإنّ اللّه تبارك وتعالى إذا قتل نبيٌّ لم يرض، حتّى يقتل من قتله، ومن رضي قتله، وأتاه صاحب الصّحيفة بصحيفته، فكفّ عنه وعن أهل بيته، وخرّب بيت المقدس، وأمر به أن تطرح فيه الجيف، وقال: من طرح فيه جيفةً فله جزيته تلك السّنّة، وأعانه على خرابه الرّوم من أجل أنّ بني إسرائيل قتلوا يحيى، فلمّا خرّبه بختنصّر ذهب معه بوجوه بني إسرائيل وسراتهم، وذهب بدانيال وعليا وعزريا وميشائيل، هؤلاء كلّهم من أولاد الأنبياء وذهب معه برأس الجالوت، فلمّا قدم أرض بابل وجد صحابين قد مات، فملك مكانه، وكان أكرم النّاس عليه دانيال وأصحابه، فحسدهم المجوس على ذلك، فوشوا بهم إليه وقالوا: إنّ دانيال وأصحابه لا يعبدون إلهك، ولا يأكلون من ذبيحتك، فدعاهم فسألهم، فقالوا: أجل إنّ لنا ربًّا نعبده، ولسنا نأكل من ذبيحتكم، فأمر بخدٍّ فخدّ لهم، فألقوا فيه وهم ستّةٌ، وألقى معهم سبعً ضار ليأكلهم، فقال: انطلقوا فلنأكل ولنشرب، فذهبوا فأكلوا وشربوا، ثمّ راحوا فوجدوهم جلوسًا والسّبع مفترشٌ ذراعيه بينهم، ولم يخدش منهم أحدًا، ولم ينكأه شيئًا، ووجدوا معهم رجلاً، فعدّوهم فوجدوهم سبعةً، فقالوا: ما بال هذا السّابع إنّما كانوا ستّةً؟ فخرج إليهم السّابع، وكان ملكًا من الملائكة، فلطمه لطمةً فصار في الوحش، فكان فيهم سبع سنين، لا يراه وحشيٌّ إلاّ أتاه حتّى ينكحه، يقتصّ منه ما كان يصنع بالرّجال، ثمّ إنّه رجع وردّ اللّه عليه ملكه، فكانوا أكرم خلق اللّه عليه. ثمّ إنّ المجوس وشوا به ثانيةً، فألقوا أسدًا في بئرٍ قد ضري، فكانوا يلقون إليه الصّخرة فيلتقمها، فألقوا إليه دانيال، فقام الأسد في جانبٍ، وقام دانيال في جانبٍ لا يمسّه، فأخرجوه، وقد كان قبل ذلك خدّ لهم خدًّا، فأوقد فيه نارًا، حتّى إذا أجّجها قذفهم فيها، فأطفأها اللّه عليهم ولم يبكأهم منها شيءٌ. ثمّ إنّ بختنصّر رأى بعد ذلك في منامه صنمًا رأسه من ذهبٍ، وعنقه من شبهٍ، وصدره من حديدٍ، وبطنه أخلاط ذهبٍ وفضّةٍ وقوارير، ورجلاه من فخّارٍ، فبينا هو قائمٌ ينظر، إذ جاءت صخرةٌ من السّماء من قبل القبلة، فكسرت الصّنم فجعلته هشيمًا، فاستيقظ فزعًا وأنسيها، فدعا السّحرة والكهنة، فسألهم، فقال: أخبروني عمّا رأيت فقالوا له: لا، بل أنت أخبرنا ما رأيت فنعبره لك قال: لا أدري، قالوا له: فهؤلاء الفتية الّذين تكرمهم، فادعهم فاسألهم، فإن هم لم يخبروك بما رأيت فقتلهم فأرسل إلى دانيال وأصحابه، فدعاهم، فقال لهم: أخبروني ماذا رأيت؟ فقال له دانيال: بل أنت أخبرنا ما رأيت فنعبره لك قال: لا أدري قد نسّيتها فقال له دانيال: كيف نعلم رؤيا لم تخبرنا بها؟ فأمر البوّاب أن يقتلهم، فقال دانيال للبوّاب: إنّ الملك إنّما أمر بقتلنا من أجل رؤياه، فأخّرنا ثلاثة أيّامٍ، فإن نحن أخبرنا الملك برؤياه وإلاّ فاضرب أعناقنا، فأجّلهم فدعوا اللّه، فلمّا كان اليوم الثّالث أبصر كلّ رجلٍ منهم رؤيا بختنصّر على حدةٍ، فأتوا البوّاب فأخبروه، فدخل على الملك فأخبره، فقال: أدخلهم عليّ، وكان بختنصّر لا يعرف من رؤياه شيئًا، إلاّ شيئًا يذكرونه، فقالوا له: أنت رأيت كذا وكذا، فقصّوها عليه، فقال: صدقتم قالوا: نحن نعبرها لك. أمّا الصّنم الّذي رأيت رأسه من ذهبٍ، فإنّه ملكٌك حسنٌ مثل الذّهب، وكان قد ملك الأرض كلّها، وأمّا العنق من الشّبه، فهو ملك ابنك بعدك، يملك فيكون ملكه حسنًا، ولا يكون مثل الذّهب، وأمّا صدره الّذي من حديدٍ فهو ملك أهل فارس، يملكون بعد ابنك، فيكون ملكهم شديدًا مثل الحديد، وأمّا بطنه الأخلاط، فإنّه يذهب ملك أهل فارس، ويتنازع النّاس الملك في كلّ قريةٍ، حتّى يكون الملك يملك اليوم واليومين، والشّهر والشّهرين، ثمّ يقتل، فلا يكون للنّاس قوامٌ على ذلك، كما لم يكن للصّنم قوامٌ على رجلين من فخّارٍ، فبينما هم كذلك، إذ بعث اللّه تعالى نبيًّا من أرض العرب، فأظهره على بقيّة ملك أهل فارس، وبقيّة ملك ابنك وملكك، فدمّره وأهلكه حتّى لا يبقى منه شيءٌ، كما جاءت الصّخرة فهدمت الصّنم، فعطف عليهم بختنصّر فأحبّهم. ثمّ إنّ المجوس وشوا بدانيال، فقالوا: إنّ دانيال إذا شرب الخمر لم يملك نفسه أن يبول، وكان ذلك فيهم عارًا، فجعل لهم بختنصّر طعامًا، فأكلوا وشربوا، وقال للبوّاب: انظر أوّل من يخرج عليك يبول، فاضربه بالطّبرزين، وإن قال: أنا بختنصّر، فقل: كذبت، بختنصّر أمرني. فحبس اللّه عن دانيال البول، وكان أوّل من قام من القوم يريد البول بختنصّر، فقام مدلًّا، وكان ذلك ليلاً، يسحب ثيابه، فلمّا رآه البوّاب شدّ عليه، فقال: أنا بختنصّر، فقال: كذبت، بختنصّر أمرني أن أقتل أوّل من يخرج، فضربه فقتله
- حدّثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدّثنا ابن عليّة، عن أبي المعلّى، قال: سمعت سعيد بن جبيرٍ، قال: بعث اللّه عليهم في المرّة الأولى سنحاريب. قال: فردّ اللّه لهم الكرّة عليهم، كما قال، قال: ثمّ عصوا ربّهم وعادوا لما نهوا عنه، فبعث عليهم في المرّة الآخرة بختنصّر، فقتل المقاتلة، وسبى الذّرّيّة، وأخذ ما وجد من الأموال، ودخلوا بيت المقدس، كما قال اللّه عزّ وجلّ: {وليدخلوا المسجد كما دخلوه أوّل مرّةٍ وليتبّروا ما علوا تتبيرًا} دخلوه فتبّروه وخرّبوه وألقوا فيه ما استطاعوا من العذرة والحيض والجيف والقذر، فقال اللّه {عسى ربّكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا} فرحمهم فردّ إليهم ملكهم وخلّص من كان في أيديهم من ذرّيّة بني إسرائيل، وقال لهم: إن عدتم عدنا فقال أبو المعلّى، ولا أعلم ذلك، إلاّ من هذا الحديث، ولم يعدهم الرّجعة إلى ملكهم
- حدّثني محمّد بن عمرٍو، قال: حدّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدّثنا عيسى، وحدّثني الحارث، قال: حدّثنا الحسن، قال: حدّثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، {فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم} قال: بعث اللّه ملك فارس ببابل جيشًا، وأمّر عليهم بختنصّر، فأتوا بني إسرائيل، فدمّروهم، فكانت هذه الآخرة ووعدها.
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ، نحوه.
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، قال: حدّثني يعلى بن مسلمٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، قال: لمّا ضرب بختنصّر الملك بجرانه، قال: ثلاثةٌ فمن استأخر منكم بعدها فليمش إلى خشبته، فغزا الشّام، فذلك حين قتل وأخرب بيت المقدس، ونزع حليته، فجعلها آنيةً ليشرب فيها الخمور، وخونًا يأكل عليها الخنازير، وحمل التّوراة معه، ثمّ ألقاها في النّار، وقدم فيما قدم به مائة وصيفٍ منهم دانيال وعزريا وحنانيا ومشائيل، فقال لإنسانٍ: أصلح لي أجسام هؤلاء لعلّي أختار منهم أربعةً يخدمونني، فقال دانيال لأصحابه: إنّما نصروا عليكم بما غيّرتم من دين آبائكم، لا تأكلوا لحم الخنزير، ولا تشربوا الخمر، فقالوا للّذي يصلح أجسامهم: هل لك أن تطعمنا طعامًا، هو أهون عليك في المؤنة ما تطعم أصحابنا، فإن لم نسمن قبلهم رأيت رأيك، قال: ماذا؟ قال: خبز الشّعير والكرّاث، ففعل فسمنوا قبل أصحابهم، فأخذهم بختنصّر يخدمونه، بينا ذلك رأى بختنصّر رؤيا، فجلس فنسيها، فعاد فرقد فرآها، فقام فنسيها، ثمّ عاد فرقد فرآها، فخرج إلى الحجرة، فنسيها، فلمّا أصبح دعا العلماء والكهّان، فقال: أخبروني بما رأيت البارحة، وأوّلوا لي رؤياي، وإلاّ فليمش كلّ رجلٍ منكم إلى خشبته، موعدكم ثالثةٌ. فقالوا: هذا لو أخبرنا برؤياه، وذكر كلامًا لم أحفظه، قال: وجعل دانيال كلّما مرّ به أحدٌ من قرابته يقول: لو دعاني الملك لأخبرته برؤياه، ولأوّلتها له، قال: فجعلوا يقولون: ما أحمق هذا الغلام الإسرائيليّ إلى أن مرّ به كهلٌ، فقال له ذلك، فرجع إليه فأخبره، فدعاه فقال: ماذا رأيت؟ قال: رأيت تمثالاً، قال: إيه، قال: ورأسه من ذهبٍ، قال: إيه، قال: وعنقه من فضّةٍ، قال: إيه، قال: وصدره من حديدٍ، قال: إيه، قال: وبطنه من صفرٍ، قال: إيه، قال: ورجلاه من آنكٍ، قال: إيه، قال: وقدماه من فخّارٍ، قال: هذا الّذي رأيت؟ قال: إيه، قال: فجاءت حصاه فوقعت في رأسه، ثمّ في عنقه، ثمّ في صدره، ثمّ في بطنه، ثمّ في رجليه، ثمّ في قدميه، قال: فأهلكته. قال: فما هذا؟ قال: أمّا الذّهب فإنّه ملكك، وأمّا الفضّة فملك ابنك من بعدك، ثمّ ملك ابن ابنك، قال: وأمّا الفخّار فملك النّساء، فكساه جبّةًمن حرير وسورةً وطاف به في القرية، وأجاز خاتمه، فلمّا رأت ذلك فارس، قالوا: ما الأمر إلاّ أمر هذا الإسرائيليّ، فقالوا: ائتوه من نحو الفتية الثّلاثة، ولا تذكروا له دانيال، فإنّه لا يصدّقكم عليه، فأتوه، فقالوا: إنّ هؤلاء الفتية الثّلاثة ليسوا على دينك، وآية ذلك أنّك إن قرّبت إليهم لحم الخنزير والخمر لم يأكلوا ولم يشربوا، فأمر بحطبٍ كثيرٍ فوضع، ثمّ أرقاهم عليه، ثمّ أوقد فيه نارًا، ثمّ خرج من آخر اللّيل يبول، فإذا هم يتحدّثون، وإذا معهم رابعٌ يروح عنهم يصلّي، قال: من هذا يا دانيال؟ قال: هذا جبريل، إنّك ظلمتهم، قال: ظلمتهم مر بهم ينزلوا، فأمر بهم فنزلوا، قال: ومسخ اللّه تعالى بختنصّر من الدّوابّ كلّها، فجعل من كلّ صنفٍ من الدّوابّ رأسا من السّباع الأسد، ومن الطّير النّسر، وملك ابنه فرأى كفًّا خرجت بين لوحين، ثمّ كتبت سطرين، فدعا الكهّان والعلماء فلم يجد فيه علمًا، فقالت له أمّه: إنّك لو أعدت إلى دانيال منزلته الّتي كانت له من أبيك أخبرك، وكان قد جفاه، فدعاه، فقال: إنّي معيدٌ إليك منزلتك من أبي، فأخبرني ما هذان السّطران؟ قال: أما أنّ تعيد إليّ منزلتي من أبيكٍ، فلا حاجة لي بها، وأمّا هذان السّطران فإنّك تقتل اللّيلة، فأخرج من في القصر أجمعين، وأمر بقتله، فأقفلت الأبواب عليه، وأدخل معه آمن أهل القرية في نفسه معه سيفٌ، فقال: من جاءك من خلق اللّه فاقتله، وإنّ قال أنا فلان، وبعث اللّه عليه البطن، فجعل يمشي حتّى كان شطر اللّيل، فرقد ورقد صاحبه، ثمّ نبّهه البطن، فذهب يمشي والآخر نائمٌ، فرجع فاستيقظ به، فقال له: أنا فلان، فضربه بالسّيف فقتله
- حدّثنا بشرٌ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، قوله: {" إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة "} آخر العقوبتين {ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أوّل مرّةٍ} كما دخله عدوّهم قبل ذلك {وليتبّروا ما علوا تتبيرًا} فبعث اللّه عليهم في الآخرة بختنصّر المجوسيّ البابليّ، أبغض خلق اللّه إليه، فسبا وقتل وخرّب بيت المقدس، وسامهم سوء العذاب
- حدّثنا محمّد بن عبد الأعلى، قال: حدّثنا محمّد بن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادة، قال: ثم جاء وعد الآخرة من المرّتين {ليسوءوا وجوهكم} قال: ليقبّحوا وجوهكم {وليتبّروا ما علوا تتبيرًا} قال: يدمّروا ما علوا تدميرًا، قال: هو بختنصّر، بعثه اللّه عليهم في المرّة الآخرة
- حدّثني محمّد بن سعدٍ، قال: حدّثني أبي، قال: حدّثني عمّي، قال: حدّثني أبي، عن أبيه، عن ابن عبّاسٍ، قال: فلمّا أفسدوا بعث اللّه عليهم في المرّة الآخرة بختنصّر، فخرّب المساجد وتبّر ما علوا تتبيرًا
- حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة، قال: حدّثني ابن إسحاق، قال: فيما بلغني، استخلف اللّه على بني إسرائيل بعد ذلك، يعني بعد قتلهم شعياء رجلاً منهم يقال له: ناشة بن آموص، فبعث اللّه الخضر نبيًّا، وكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فيما قد بلغني يقول: " إنّما سمّي الخضر خضرًا، لأنّه جلس على فروةٍ بيضاء، فقام عنها وهي تهتزّ خضراء " قال: واسم الخضر فيما كان وهب بن منبّهٍ يزعم عن بني إسرائيل: أرميا بن حلفيا، وكان من سبط هارون بن عمران
- حدّثني محمّد بن سهل بن عسكرٍ، ومحمّد بن عبد الملك بن زنجويه، قالا: حدّثنا إسماعيل بن عبد الكريم، قال: حدّثنا عبد الصّمد بن معقلٍ، عن وهب بن منبّهٍ، وحدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عمّن لا يتّهم، عن وهب بن منبّهٍ اليمانيّ، واللّفظ، لحديث ابن حميدٍ أنّه كان يقول: قال اللّه تبارك وتعالى لإرميا حين بعثه نبيًّا إلى بني إسرائيل: يا إرميا من قبل أن أخلقك اخترتك، ومن قبل أن أصوّرك في بطن أمّك قدّستك، ومن قبل أن أخرجك من بطن أمّك طهّرتك، ومن قبل أن تبلغ السّعي نبّتك، ومن قبل أن تبلغ الأشدّ اختبرتك، ولأمرٍ عظيمٍ اختبيتك، فبعث اللّه إرميا إلى ذلك الملك من بني إسرائيل يسدّده ويرشده، ويأتيه بالخبر من اللّه فيما بينه وبين اللّه، قال: ثمّ عظمت الأحداث في بني إسرائيل، وركبوا المعاصي، واستحلّوا المحارم، ونسوا ما كان اللّه تعالى صنع بهم، وما نجّاهم من عدوّهم سنحاريب وجنوده فأوحى اللّه تعالى إلى إرمياء: أن ائت قومك من بني إسرائيل، واقصص عليهم ما آمرك به، وذكّرهم نعمتي عليهم، وعرّفهم أحداثهم، فقال إرمياء: إنّي ضعيفٌ إن لم تقوّني، وعاجزٌ إن لم تبلّغني، ومخطئٌ إن لم تسدّدني، ومخذولٌ إن لم تنصرني، وذليلٌ إن لم تعزّني. قال: اللّه تبارك وتعالى: أولم تعلم أنّ الأمور كلّها تصدر عن مشيئتي، وأنّ القلوب كلّها والألسنة بيدي، أقلّبها كيف شئت، فتطيعني، وإنّي أنا اللّه الّذي لا شيء مثلي، قامت السّماوات والأرض وما فيهنّ بكلمتي، وأنا كلّمت البحار، ففهمت قولي، وأمرتها فعقلت أمري، وحدّدت عليها بالبطحاء فلا تعدّى حدّي، تأتي بأمواجٍ أمثال الجبال، حتّى إذا بلغت حدّي ألبستها مذلّة طاعتي خوفًا واعترافًا لأمري، إنّي معك ولن يصل إليك شيءٌ معي، وإن بعثتك إلى خلقٍ عظيمٍ من خلقي، لتبلّغهم رسالاتي، ولتستحقّ بذلك مثل أجر من تبعك منهم لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، وإن تقصّر عنها تستحق بذلك مثل وزر من تركت في عماه لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئًا، انطلق إلى قومك فقل: إنّ اللّه ذكر بكم صلاح آبائكم، فحمله ذلك على أن يستتيبكم يا معشر الأبناء، وسلهم كيف وجد آباؤهم مغبّة طاعتي، وكيف وجدوا هم مغبّة معصيتي، وهل علموا أنّ أحدًا قبلهم أطاعني فشقي بطاعتي، أو عصاني فسعد بمعصيتي، فإنّ الدّوابّ ممّا تذكر أوطانها الصّالحة فتنتابها، وإنّ هؤلاء القوم قد رتعوا في مروج الهلكة. أمّا أحبارهم ورهبانهم فاتّخذوا عبادي خولاً ليعبدوهم دوني وتحكّموا فيهم بغير كتابي حتّى أجهلوهم أمري، وأنسوهم ذكري، وغرّوهم منّي. أمّا أمراؤهم وقاداتهم فبطروا نعمتي، وأمنوا مكري، ونبذوا كتابي، ونسوا عهدي، وغيّروا سنّتي، فأدان لهم عبادي بالطّاعة الّتي لا تنبغي إلاّ لي، فهم يطيعونهم في معصيتي، ويتابعونهم على البدع الّتي يبتدعون في ديني جراءةً عليّ وغرّةً وفريةً عليّ وعلى رسلي، فسبحان جلالي وعلوّ مكاني، وعظمة شأني، فهل ينبغي لبشرٍ أن يطاع في معصيتي، وهل ينبغي لي أن أخلق عبادًا أجعلهم أربابًا من دوني. وأمّا قرّاؤهم وفقهاؤهم فيتعبّدون في المساجد، ويتزيّنون بعمارتها لغيري، لطلب الدّنيا بالدّين، ويتفقّهون فيها لغير العلم، ويتعلّمون فيها لغير العمل. وأمّا أولاد الأنبياء، فمكثرون مقهورون مغيّرون، يخوضون مع الخائضين، ويتمنّون عليّ مثل نصر آبائهم والكرامة الّتي أكرمتهم بها، ويزعمون أن لا أحد أولى بذلك منهم منّي بغير صدقٍ ولا تفكّرٍ ولا تدبّرٍ، ولا يذكرون كيف كان صبر آبائهم لي، وكيف كان جدّهم في أمري حين غيّر المغيّرون، وكيف بذلوا أنفسهم ودماءهم، فصبروا وصدقوا حتّى عزّ أمري، وظهر ديني، فتأنّيت بهؤلاء القوم لعلّهم يستجيبون، فأطولت لهم، وصفحت عنهم، لعلّهم يرجعون، فأكثرت ومددت لهم في العمر لعلّهم يتذكّرون، فأعذرت في كلّ ذلك، أمطر عليهم السّماء، وأنبت لهم الأرض، وألبسهم العافية وأظهرهم على العدوّ فلا يزدادون إلاّ طغيانًا وبعدًا منّي، فحتّى متى هذا؟ أبي يتمرّسون أم إيّاي يخادعون؟ وإنّي أحلف بعزّتي لأقيّضنّ لهم فتنةً يتحيّر فيها الحليم، ويضلّ فيها رأي ذي الرّأي وحكمة الحكيم، ثمّ لأسلّطنّ عليهم جبّارًا قاسيًا عاتيًا، ألبسه الهيبة، وأنتزع من صدره الرّأفة والرّحمة والليان، يتبعه عددٌ وسوادٌ مثل سواد اللّيل المظلم، له عساكر مثل قطع السّحاب، ومراكب أمثال العجاج، كأنّ حفيف راياته طيران النّسور، وأنّ حملة فرسانه كرير العقبان.
ثمّ أوحى اللّه إلى إرميا: إنّي مهلكٌ بني إسرائيل بيافث، ويافث أهل بابل، وهم من ولد يافث بن نوحٍ. ثمّ لمّا سمع إرميا وحي ربّه صاح وبكى وشقّ ثيابه، ونبذ الرّماد على رأسه وقال: ملعونٌ يوم ولدت فيه، ويوم لقيت التّوراة، ومن شرّ أيامي يوم ولدت فيه، فما أبقيت آخر الأنبياء إلاّ لما هو أشرّ عليّ لو أراد بي خيرًا ما جعلني آخر الأنبياء من بني إسرائيل، فمن أجلي تصيبهم الشّقوة والهلاك، فلمّا سمع اللّه تضرّع الخضر وبكاءه، وكيف يقول، ناداه: يا إرميا أشقّ ذلك عليك فيما أوحيت لك؟ قال: نعم يا ربّ أهلكني قبل أن أرى في بني إسرائيل ما لا أسرّ به فقال اللّه: وعزّتي العزيزة لا أهلك بيت المقدس وبني إسرائيل حتّى يكون الأمر من قبلك في ذلك ففرح عند ذلك إرميا لمّا قال له ربّه، وطابت نفسه، وقال: لا والّذي بعث موسى وأنبياءه بالحقّ لا آمر ربّي بهلاك بني إسرائيل أبدًا ثمّ أتى ملك بني إسرائيل فأخبره ما أوحى اللّه إليه فاستبشر وفرح وقال: إن يعذّبنا ربّنا فبذنوبٍ كثيرةٍ قدّمناها لأنفسنا، وإن عفا عنّا فبقدرته.
ثمّ إنّهم لبثوا بعد هذا الوحي ثلاث سنين لم يزدادوا إلاّ معصيةً وتماديًا في الشّرّ، وذلك حين اقترب هلاكهم، فقلّ الوحي حين لم يكونوا يتذكّرون الآخرة، وأمسك عنهم حين ألهتهم الدّنيا وشأنها، فقال لهم ملكهم: يا بني إسرائيل، انتهوا عمّا أنتم عليه قبل أن يمسّكم بأس اللّه، وقبل أن يبعث عليكم قومٌ لا رحمة لهم بكم، وإنّ ربّكم قريب التّوبة، مبسوط اليدين بالخير، رحيمٌ بمن تاب إليه. فأبوا عليه أن ينزعوا عن شيءٍ ممّا هم عليه، وإنّ اللّه قد ألقى في قلب بختنصّر بن نجور زاذان بن سنحاريب بن دارياس بن نمرود بن فالخ بن عابر بن نمرود صاحب إبراهيم الّذي حاجّه في ربّه، أن يسير إلى بيت المقدس، ثمّ يفعل فيه ما كان جدّه سنحاريب أراد أن يفعل، فخرج في ستّ مائة ألف رايةٍ يريد أهل بيت المقدس، فلمّا فصل سائرًا أتى ملك بني إسرائيل الخبر أنّ بختنصّر قد أقبل هو وجنوده يريدكم، فأرسل الملك إلى إرميا، فجاءه فقال: يا إرميا أين ما زعمت لنا أنّ ربّك أوحى إليك أن لا يهلك أهل بيت المقدس، حتّى يكون منك الأمر في ذلك؟ فقال إرميا للملك: إنّ ربّي لا يخلف الميعاد، وأنا به واثقٌ.
فلمّا اقترب الأجل ودنا انقطاع ملكهم وعزم اللّه على هلاكهم، بعث اللّه ملكًا من عنده، فقال له: اذهب إلى إرميا فاستفته، وأمره بالّذي يستفتى فيه، فأقبل الملك إلى إرمياء، وكان قد تمثّل له رجلاً من بني إسرائيل، فقال له إرميا: من أنت؟ قال: أنا رجل من بني إسرائيل أستفتيك في بعض أمري، فأذن له، فقال له الملك: يا نبيّ اللّه أتيتك أستفتيك في أهل رحمي، وصلت أرحامهم بما أمرني اللّه به، لم آت إليهم إلاّ حسنًا، ولم آلهم كرامةً، فلا تزيدهم كرامتي إيّاهم إلاّ إسخاطًا لي، فأفتني فيهم يا نبيّ اللّه فقال له: أحسن فيما بينك وبين اللّه، وصل ما أمرك اللّه أن تصل، وأبشر بخيرٍ وانصرف عنه. فمكث أيّامًا، ثمّ أقبل إليه في صورة ذلك الرجل الّذي كان جاءه، فقعد بين يديه، فقال له إرميا: من أنت؟ قال: أنا الرّجل الّذي آتيتك أستفتيك في شأن أهلي، فقال له نبيّ اللّه: أوما طهرت لك أخلاقهم بعد، ولم تر منهم الّذي تحبّ؟ فقال: يا نبيّ اللّه، والّذي بعثك بالحقّ ما أعلم كرامةً يأتيها أحدٌ من النّاس لأهل رحمه إلاّ قد أتيتها إليهم وأفضل من ذلك، فقال النّبيّ: ارجع إلى أهلك فأحسن إليهم، أسأل اللّه الّذي يصلح عباده الصّالحين أن يصلح ذات بينكم، وأن يجمعكم على مرضاته، ويجنّبكم سخطه، فقام الملك من عنده، فلبث أيّامًا وقد نزل بختنصّر وجنوده حول بيت المقدس بأكثر من الجراد، ففزع منهم بنو إسرائيل فزعًا شديدًا، وشقّ ذلك على ملك بني إسرائيل، فدعا إرميا، فقال: يا نبيّ اللّه أين ما وعدك اللّه؟ فقال: إنّي بربّي واثقٌ. ثمّ إنّ الملك أقبل إلى إرميا وهو قاعدٌ على جدار بيت المقدس يضحك ويستبشر بنصر ربّه الّذي وعده، فقعد بين يديه فقال له إرميا: من أنت؟ قال: أنا الّذي كنت آتيتك في شأن أهلي مرّتينٍ، فقال له النّبيّ: أولم يأن لهم أن يفيقوا من الّذي هم فيه مقيمون عليه؟ فقال له الملك: يا نبيّ اللّه، كلّ شيءٍ كان يصيبني منهم قبل اليوم كنت أصبر عليه، وأعلم أنّ ما بهم في ذلك سخطي، فلمّا أتيتهم اليوم رأيتهم في عملٍ لا يرضي اللّه ولا يحبّه اللّه عزّ وجلّ. فقال له نبيّ اللّه: على أيّ عملٍ رأيتهم؟ قال: يا نبيّ اللّه رأيتهم على عملٍ عظيمٍ من سخط اللّه، فلو كانوا على مثل ما كانوا عليه قبل اليوم لم يشتدّ عليهم غضبي، وصبرت لهم ورجوتهم، ولكن غضبت اليوم للّه ولك، فأتيتك لأخبرك خبرهم، وإنّي أسألك باللّه الّذي بعثك بالحقّ إلاّ ما دعوت عليهم ربّك أن يهلكهم، فقال إرميا: يا مالك السّماوات والأرض، إن كانوا على حقٍّ وصوابٍ فأبقهم، وإن كانوا على سخطك وعملٍ لا ترضاه فأهلكهم. فلما خرجت الكلمة من في إرميا حتّى أرسل اللّه صاعقة من السّماء في بيت المقدس، فالتهب مكان القربان، وخسف بسبعة أبوابٍ من أبوابها، فلمّا رأى ذلك إرميا صاح وشقّ ثيابه، ونبذ الرّماد على رأسه ياملك السماء وياأرحم الرّاحمين أين ميعادك الّذي وعدتني؟ فنودي إرميا: إنّهم لم يصبهم الّذي أصابهم إلاّ بفتياك الّتي أفتيت بها رسولنا، فاستيقن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أنّها فتياه الّتي أفتى بها ثلاث مرّاتٍ، وأنّه رسول ربّه. ثمّ إنّ إرميا طار حتّى خالط الوحش، ودخل بختنصّر وجنوده بيت المقدس، فوطئ الشّام، وقتل بني إسرائيل حتّى أفناهم، وخرّب بيت المقدس، أمر جنوده أن يملأ كلّ رجلٍ منهم ترسه ترابًا ثمّ يقذفه في بيت المقدس، فقذفوا فيه التّراب حتّى ملئوه، ثمّ انصرف راجعًا إلى أرض بابل، واحتمل معه سبايا بني إسرائيل، وأمرهم أن يجمعوا من كان في بيت المقدس كلّهم، فاجتمع عنده كلّ صغيرٍ وكبيرٍ من بني إسرائيل، فاختار منهم سبعين ألف صبيٍّ، فلمّا خرجت غنائم جنده، وأراد أن يقسمهم فيهم، قالت له الملوك الّذين كانوا معه: أيّها الملك لك غنائمنا كلّها، واقسم بيننا هؤلاء الصّبيان الّذين اخترتهم من بني إسرائيل، ففعل وأصاب كلّ رجلٍ منهم أربعة أغلمةٍ، وكان من أولئك الغلمان دانيال وحنانيا وعزاريا وميشائيل وسبعة آلافٍ من أهل بيت داود، وأحد عشر ألفًا من سبط يوسف بن يعقوب، وأخيه بنيامين، وثمانية آلافٍ من سبط أشر بن يعقوب، وأربعة عشر ألفًا من سبط زبالون بن يعقوب ونفثالي بن يعقوب، وأربعة آلافٍ من سبط يهوذا بن يعقوب، وأربعة آلافٍ من سبط روبيل ولاوي ابني يعقوب. ومن بقي من بني إسرائيل، وجعلهم بختنصّر ثلاث فرقٍ، فثلثًا أقرّ بالشّام، وثلثًا سبى، وثلثًا قتل، وذهب بآنية بيت المقدس حتّى أقدمها بابل، وذهب بالصّبيان السّبعين الألف حتّى أقدمهم بابل، فكانت هذه الوقعة الأولى الّتي أنزل اللّه ببني إسرائيل بإحداثهم وظلمهم. فلمّا ولى بختنصّر عنهم راجعًا إلى بابٍ بمن معه من سبايا بني إسرائيل، أقبل إرميا على حمارٍ له معه عصيرٌ ثمّ ذكر قصّته حين أماته اللّه مائة عامٍ، ثمّ بعثه، ثمّ خبر رؤيا بختنصّر وأمر دانيال، وهلاك بختنصّر، ورجوع من بقي من بني إسرائيل في أيدي أصحاب بختنصّر بعد هلاكه إلى الشّام، وعمارة بيت المقدس، وأمر عزيرٍ وكيف ردّ اللّه عليه التّوراة
- حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: ثمّ عمدت بنو إسرائيل بعد ذلك يحدثون الأحداث، يعني بعد مهلك عزيرٍ، ويعود اللّه عليهم، ويبعث فيهم الرّسل، ففريقًا يكذّبون، وفريقًا يقتلون، حتّى كان آخر من بعث اللّه فيهم من أنبيائهم زكريّا ويحيى بن زكريّا وعيسى ابن مريم، وكانوا من بيت آل داود
- حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة، قال: حدّثني محمّد بن إسحاق، عن عمر بن عبد اللّه بن عروة، عن عبد اللّه بن الزّبير، أنّه قال وهو يحدّث عن قتل يحيى بن زكريّا قال: ما قتل يحيى بن زكريّا إلاّ بامرأةٍ بغيٍّ من بغايا بني إسرائيل، كان فيهم ملكٌ، وكان يحيى بن زكريّا تحت يدي ذلك الملك، فهمّت ابنة ذلك الملك بأبيها، فقالت: لو أنّي تزوّجت بأبي فاجتمع لي سلطانه دون النّساء، فقالت له: يا أبت تزوّجني ودعته إلى نفسها، فقال لها: يا بنيّة إنّ يحيى بن زكريّا لا يحلّ لنا هذا، فقالت: من لي بيحيى بن زكريّا؟ ضيّق عليّ وحال بيني وبين أن أتزوّج بأبي فأغلب على ملكه ودنياه دون النّساء قال: فأمرت اللّعّابين ومحلت بذلك لقتل يحيى بن زكريّا، فقالت: ادخلوا عليه فالعبوا، حتّى إذا فرغتم فإنّه سيحكّمكم، فقولوا: دم يحيى بن زكريّا، ولا تقبلوا غيره. وكان اسم الملك روّاد، واسم ابنته البغيّ، وكان الملك فيهم إذا حدّث فكذب، أو وعد فأخلف خلع فاستبدل به غيره، فلمّا ألعبوه وكثر عجبه منهم، قال: سلوني أعطكم، فقالوا له: نسألك دم يحيى بن زكريّا أعطنا إيّاه قال: ويحكم سلوني غير هذا فقالوا: لا نسألك شيئًا غيره، فخاف على ملكه إن هو أخلفهم أن يستحلّ بذلك خلعه، فبعث إلى يحيى بن زكريّا وهو جالسٌ في محرابه يصلّي، فذبحوه في طستٍ ثمّ حزّوا رأسه، فاحتمله رجلٌ في يده والدّم يحمل في الطّست معه. قال: فطلع برأسه يحمله حتّى وقف به على الملك، ورأسه يقول في يدي الّذي يحمله لا يحلّ لك ذلك فقال رجلٌ من بني إسرائيل: أيّها الملك لو أنّك وهبت لي هذا الدّم؟ فقال: وما تصنع به؟ قال: أطهّر منه الأرض، فإنّه كان قد ضيّقها علينا، فقال: أعطوه هذا الدّم، فأخذه فجعله في قلّةٍ، ثمّ عمد به إلى بيتٍ في المذبح، فوضع القلّة فيه، ثمّ أغلق عليه، ففار في القلّة حتّى خرج منها من تحت الباب من البيت الّذي هو فيه، فلمّا رأى الرّجل ذلك، فظع به، فأخرجه فجعله في فلاةٍ من الأرض، فجعل يفور، وعظمت فيهم الأحداث. ومنهم من يقول: أقرّ مكانه في القربان ولم يحوّل
- حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة، قال: قال ابن إسحاق: فلمّا رفع اللّه عيسى من بين أظهرهم وقتلوا يحيى بن زكريّا ( وبعض النّاس يقول: وقتلوا زكريّا ) ابتعث اللّه عليهم ملكًا من ملوك بابل يقال له خردوس، فسار إليه بأهل بابل حتّى دخل عليهم الشّام، فلمّا ظهر عليهم أمر رأسًا من رءوس جنوده يدعى نبور زاذان صاحب القتل، فقال له: إنّي قد كنت حلفت بإلهي لئن أبا ظهرت على أهل بيت المقدس لأقتلنّهم حتّى تسيل دماؤهم في وسط عسكري، إلاّ أن لا أجد أحدًا أقتله، فأمر أن يقتلهم حتّى يبلغ ذلك منهم نبور زادان، فدخل بيت المقدس، فقال في البقعة الّتي كانوا يقربون فيها قربانهم، فوجد فيها دمًا يغلي، فسألهم فقال: يا بني إسرائيل، ما شأن هذا الدّم الّذي يغلي، أخبروني خبره ولا تكتموني شيئًا من أمره؟ فقالوا: هذا دم قربانٍ كان لنا كنّا قرّبناه فلم يتقبّل منّا، فلذلك هو يغلي كما تراه ولقد قرّبنا منذ ثمان مائة سنةٍ القربان فتقبّل منّا إلاّ هذا القربان قال: ما صدقتموني الخبر قالوا له: لو كان كأوّل زماننا لقبل منّا، ولكنّه قد انقطع منّا الملك والنّبوّة والوحي، فلذلك لم يتقبّل منّا فذبح منهم نبور زادان على ذلك الدّم سبع مائةٍ وسبعين روحًا من رءوسهم، فلم يهدأ، فأمر بسبع مائة غلامٍ من غلمانهمٍ فذبحوا على الدّم فلم يهدأ، فأمر بسبعة آلافٍ من شيعهمٍ وأزواجهم، فذبحهم على الدّم فلم يبرد ولم يهدأ، فلمّا رأى نبور زاذان أنّ الدّم لا يهدأ قال لهم: ويلكم يا بني إسرائيل، اصدقوني واصبروا على أمر ربّكم، فقد طال ما ملكتم في الأرض، تفعلون فيها ما شئتم قبل أن لا أترك منكم نافخ نارٍ، لا أنثى ولا ذكرًا إلاّ قتلته، فلمّا رأوا الجهد وشدّة القتل صدقوه الخبر، فقالوا له: إنّ هذا دم نبيٍّ منّا كان ينهانا عن أمورٍ كثيرةٍ من سخط اللّه، فلو أطعناه فيها لكان أرشد لنا، وكان يخبرنا بأمركم، فلم نصدّقه، فقتلناه، فهذا دمه فقال لهم نبور زاذان: ما كان اسمه؟ قالوا: يحيى بن زكريّا، قال: الآن صدقتموني بمثل هذا ينتقم ربّكم منكم، فلمّا رأى نبور زاذان أنّهم صدقوه خرّ ساجدًا وقال لمن حوله: غلّقوا الأبواب، أبواب المدينة، وأخرجوا من كان ههنا من جيش خردوس. وخلا في بني إسرائيل ثمّ قال: يا يحيى بن زكريّا، قد علم ربّي وربّك ما قد أصاب قومك من أجلك، وما قتل منهم من أجلك، فاهدأ بإذن اللّه قبل أن لا أبقي من قومك أحدًا فهدأ دم يحيى بن زكريّا بإذن اللّه، ورفع نبور زاذان عنهم القتل وقال: آمنت بما آمنت به بنو إسرائيل، وصدّقت وأيقنت أنّه لا ربّ غيره، ولو كان معه آخر لم يصلح، ولو كان له شريكٌ لم تستمسك السّماوات والأرض، ولو كان له ولدٌ لم يصلح، فتبارك وتقدّس، وتسبّح وتكبّر وتعظّم، ملك الملوك الّذي يملك السّماوات السّبع بالعلم وحكم وجبروت وعزّة، الّذي بسط الأرض وألقى فيها رواسي ألا تزول، فكذلك ينبغي لربّي أن يكون ويكون ملكه، فأوحى إلى رأسٍ من رءوس بقيّة الأنبياء أنّ نبور زاذان حبورٌ صدوقٌ، والحبور بالعبرانيّة: حديث الإيمان. وإنّ نبورزاذان قال لبني إسرائيل: يا بني إسرائيل، إنّ عدوّ اللّه خردوس أمرني أن أقتل منكم حتّى تسيل دماؤكم وسط عسكره، وإنّي لست أستطيع أن أعصيه. قالوا له: افعل ما أمرت به. فأمرهم فحفروا خندقًا وأمر بأموالهم من الخيل والبغال والحمير والبقر والغنم والإبل، فذبحها حتّى سال الدّم في العسكر، وأمر بالقتلى الّذين كانوا قبل ذلك، فطرحوا على ما قتل من مواشيهم حتّى كانوا فوقهم، فلم يظنّ خردوس إلاّ أنّ ما كان في الخندق من بني إسرائيل. فلمّا بلغ الدّم عسكره، أرسل إلى نبور زاذان أن ارفع عنهم، فقد بلغتني دماؤهم، وقد انتقمت منهم بما فعلوا، ثمّ انصرف عنهم إلى أرض بابل، وقد أفنى بني إسرائيل أو كاد، وهي الوقعة الآخرة الّتي أنزل اللّه ببني إسرائيل. يقول اللّه عزّ ذكره لنبيّه محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم: {وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدنّ في الأرض مرّتين ولتعلنّ علوًّا كبيرًا فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادًا لنا أولي بأسٍ شديدٍ فجاسوا خلال الدّيار وكان وعدًا مفعولاً ثمّ رددنا لكم الكرّة عليهم وأمددناكم بأموالٍ وبنين وجعلناكم أكثر نفيرًا إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أوّل مرّةٍ وليتبّروا ما علوا تتبيرًا عسى ربّكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنّم للكافرين حصيرًا} وعسى من اللّه حقٌّ، فكانت الوقعة الأولى: بختنصّر وجنوده، ثمّ ردّ اللّه لكم الكرّة عليهم، وكانت الوقعة الآخرة خردوس وجنوده، وهي كانت أعظم الوقعتين، فيها كان خراب بلادهم، وقتل رجالهم، وسبي ذراريهم ونسائهم. يقول اللّه تبارك وتعالى: {وليتبّروا ما علوا تتبيرًا} ثمّ عاد اللّه عليهم، فأكثر عددهم، ونشرهم في بلادهم، ثمّ بدّلوا وأحدثوا الأحداث، واستبدلوا بكتابهم غيره، وركبوا المعاصي، واستحلّوا المحارم وضيّعوا الحدود
- حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن أبي عتّابٍ، رجلٍ من تغلب كان نصرانيًّا عمرًا من دهره، ثمّ أسلم بعد، فقرأ القرآن، وفقه في الدّين، وكان فيما ذكر له نصرانيًّا أربعين سنةً، ثمّ عمّر في الإسلام أربعين سنةً قال: كان آخر أنبياء بني إسرائيل نبيًّا بعثه اللّه إليهم، فقال لهم: يا بني إسرائيل إنّ اللّه يقول لكم: إنّي قد سببت أصواتكم، وأبغضتكم بكثرة أحداثكم، فهمّوا به ليقتلوه، فقال اللّه تبارك وتعالى له: ائتهم واضرب لي ولهم مثلاً، فقل لهم: إنّ اللّه تبارك وتعالى يقول لكم: اقضوا بيني وبين كرمي ألم اختر له البلاد، وطيّبت له المدرة، وحظرته بالسّياج، وعرّشته السّويق والشّوك والسّياج والعوسج، وأحطته بردائي، ومنعته من العالم وفضّلته، فلقيني بالشّوك والجذوع، وكلّ شجرةٍ لا تؤكل؟ ما لهذا اخترت البلدة، ولا طيّبت المدرة، ولا حظرته بالسّياج، ولا عرّشته السّويق، ولأحطته بردائي، ولا منعته من العالم فضّلتكم وأتممت عليكم نعمتي، ثمّ استقبلتموني بكلّ ما أكره من معصيتي وخلاف أمري، لمه؟ إنّ الحمار ليعرف مذوده، لمه؟ إنّ البقرة لتعرف سيّدها، وقد حلفت بعزّتي العزيزة، وبذراعي الشّديد لآخذنّ ردائي، ولأمرجنّ الحائط، ولأجعلنّكم تحت أرجل العالم. قال: فوثبوا على نبيّهم فقتلوه، فضرب اللّه عليهم الذّلّ، ونزع منهم الملك، فليسوا في أمّةٍ من الأمم إلاّ وعليهم ذلٌّ وصغارٌ وجزيةٌ يؤدّونها، والملك في غيرهم من النّاس، فلن يزالوا كذلك أبدًا، ما كانوا على ما هم عليه.
قال: قال: فهذا ما انتهى إلينا من جماع أحاديث بني إسرائيل
- حدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ، في قوله: {فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أوّل مرّةٍ وليتبّروا ما علوا تتبيرًا} قال: كانت الآخرة أشدّ من الأولى بكثيرٍ، قال: لأنّ الأولى كانت هزيمةً فقط، والآخرة كان التّدمير، وأحرق بختنصّر التّوراة لم يترك فيها حرفاٌ، وخرّب المسجد
- حدّثنا أبو السّائب، قال: حدّثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ، قال: بعث عيسى ابن مريم يحيى بن زكريّا، في اثني عشر من الحواريّين يعلّمون النّاس. قال: فكان فيما نهاهم عنه، نكاح ابنة الأخ. قال: وكانت لملكهم ابنة أخٍ تعجبه يريد أن يتزوّجها، وكانت لها كلّ يومٍ حاجةً يقضيها، فلمّا بلغ ذلك أمّها قالت لها: إذا دخلت على الملك فسألك حاجتك، فقولي: حاجتي أن تذبح لي يحيى بن زكريّا، فلمّا دخلت عليه سألها حاجتها، فقالت: حاجتي أن تذبح يحيى بن زكريّا، فقال: سلي غير هذا فقالت: ما أسألك إلاّ هذا قال: فلمّا أبت عليه دعا يحيى ودعا بطستٍ فذبحه، فبدرت قطرةٌ من دمه على الأرض، فلم تزل تغلي حتّى بعث اللّه بختنصّر عليهم، فجاءته عجوزٌ من بني إسرائيل، فدلّته على ذلك الدّم. قال: فألقى اللّه في نفسه أن يقتل على ذلك الدّم منهم حتّى يسكن، فقتل سبعين ألفًا منهم من سنّ واحدٍ فسكن
وقوله: {وليدخلوا المسجد كما دخلوه أوّل مرّةٍ} يقول: وليدخل عدوّكم الّذي أبعثه عليكم مسجد بيت المقدس قهرًا منهم لكم وغلبةً، كما دخلوه أوّل مرّةٍ حين أفسدتم الفساد الأوّل في الأرض
وأمّا قوله: {وليتبّروا ما علوا تتبيرًا} فإنّه يقول: وليدمّروا ما غلبوا عليه من بلادكم تدميرًا. يقال منه: دمّرت البلد: إذا خرّبته وأهلكته. وتبّر تبرًا وتبارًا، وتبّرته أتبّره تتبيرًا. ومنه قول اللّه تعالى ذكره {ولا تزد الظّالمين إلاّ تبارًا} يعني: هلاكًا.
وبنحو الّذي قلنا في ذلك، قال أهل التّأويل
ذكر من قال ذلك
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، قال: قال ابن عبّاسٍ: {وليتبّروا ما علوًّا تتبيرًا} قال: تدميرًا
- حدّثنا محمّد بن عبد الأعلى، قال: حدّثنا محمّد بن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادة، {وليتبّروا ما علوا تتبيرًا} قال: يدمّروا ما علوا تدميرًا). [جامع البيان: 14/477-505]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة رضي الله عنه قال: أما المرة الأولى فسلط عليهم جالوت حتى بعث طالوت ومعه داود فقتله داود ثم رد الكرة لبني إسرائيل {وجعلناكم أكثر نفيرا} أي عددا وذلك في زمان داود {فإذا جاء وعد الآخرة} آخر العقوبتين {ليسوؤوا وجوهكم} قال ليقبحوا وجوهكم {وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة} قال: كما دخل عدوهم قبل ذلك {وليتبروا ما علوا تتبيرا} قال: يدمروا ما علوا تدميرا فبعث الله عليهم في الآخرة بختنصر البابلي المجوسي أبغض خلق الله إليه فسبى وقتل وخرب بيت المقدس وسامهم سوء العذاب). [الدر المنثور: 9/263]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن جرير عن ابن زيد رضي الله عنه في الآية قال: كانت الآخرة أشد من الأولى بكثير فإن الأولى كانت هزيمة فقط والآخرة كانت تدميرا وحرق بختنصر التوراة حتى لم يترك فيها حرفا واحدا وخرب بيت المقدس). [الدر المنثور: 9/263-264]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {تتبيرا} قال: تدميرا). [الدر المنثور: 9/264]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير رضي الله عنه قال: {تبرنا} دمرنا بالنبطية). [الدر المنثور: 9/264]

تفسير قوله تعالى: (عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8) )
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (عن معمر عن قتادة في قوله تعالى وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا قال محبسا حصروا فيها وقال الحسن حصيرا فراشا مهادا). [تفسير عبد الرزاق: 1/374]

قال محمدُ بنُ إسماعيلَ بن إبراهيم البخاريُّ (ت: 256هـ) : ({حصيرًا} [الإسراء: 8] : " محبسًا: محصرًا "، حقّ: «وجب»). [صحيح البخاري: 6/83]
- قال أحمدُ بنُ عَلَيِّ بنِ حجرٍ العَسْقَلانيُّ (ت: 852هـ): (قوله حصيرًا محبسًا محصرًا أما محبسا فهو تفسير بن عبّاس وصله بن المنذر من طريق عليّ بن أبي طلحة عنه في قوله وجعلنا جهنّم للكافرين حصيرًا قال محبسًا وقال أبو عبيدة في قوله حصيرًا قال محصرًا). [فتح الباري: 8/390]
- قال أحمدُ بنُ عَلَيِّ بنِ حجرٍ العَسْقَلانيُّ (ت: 852هـ): (قوله حصيرا محبسا هو قول أبي عبيدة أيضًا وهو بفتح الميم وكسر الموحدة وروى بن أبي حاتمٍ من طريق عليّ بن أبي طلحة عن بن عبّاسٍ قال حصيرًا أي سجنًا). [فتح الباري: 8/393]
- قال محمودُ بنُ أحمدَ بنِ موسى العَيْنِيُّ (ت: 855هـ) : (حصيراً محبساً محصراً
أشار به إلى قوله تعالى: {وجعلنا جهنّم للكافرين حصيرا} (الإسراء: 8) وفسّر حصيرا بقوله: (محبساً) ، وكذا روى ابن المنذر من طريق عليّ بن أبي طلحة عن ابن عبّاس. قوله: (محصراً) ، بفتح الميم وسكون الحاء وكسر الصّاد، وهو إسم موضع الحصر، وكذا فسر أبو عبيدة قوله: (حصيرا) ، وقال صاحب (التّوضيح) : محصراً بفتح الصّاد لأنّه من حصر يحصر. قلت: هذا إذا كان مفتوح الميم لأنّه يكون إسم موضع من حصر يحصر من باب نصر ينصر، وأما مضموم الميم ومفتوح الصّاد فهو من: أحصر، بالألف في أوله). [عمدة القاري: 19/20]
- قال أحمدُ بنُ محمدِ بن أبي بكرٍ القَسْطَلاَّنيُّ (ت: 923هـ) : ( ({حصيرًا}) في قوله: {وجعلنا جهنم للكافرين حصيرًا} [الإسراء: 8] أي (محبسًا) بفتح الميم وكسر الموحدة لا يقدرون على الخروج منها أبد الآباد (محصرًا) بفتح الميم والصاد المهملة اسم لموضع الحصر). [إرشاد الساري: 7/199]
قالَ مُحَمَّدُ بنُ أَحمدَ بنِ نَصْرٍ الرَّمْلِيُّ (ت:295هـ): (ثنا أحمد بن محمّدٍ القوّاس المكّيّ، قال: ثنا مسلم بن خالد الزنجي، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قوله عز وجل: {جعلنا جهنم للكافرين حصيرا} قال: يحصرون فيها). [جزء تفسير مسلم بن خالد الزنجي: 52]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {عسى ربّكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنّم للكافرين حصيرًا}.
يقول تعالى ذكره: لعلّ ربّكم يا بني إسرائيل أن يرحمكم بعد انتقامه منكم بالقوم الّذين يبعثهم اللّه عليكم ليسوء مبعثه عليكم وجوهكم، وليدخلوا المسجد كما دخلوه أوّل مرّةٍ، فيستنقذكم من أيديهم، وينتشلكم من الذّلّ الّذي يحلّه بكم، ويرفعكم من الخمولة الّتي تصيرون إليها، فيعزّكم بعد ذلك. " وعسى " من اللّه: واجبٌ. وفعل اللّه ذلك بهم، فكثر عددهم بعد ذلك، ورفع خساستهم، وجعل منهم الملوك والأنبياء، فقال جلّ ثناؤه لهم: وإن عدتم يا معشر بني إسرائيل لمعصيتي وخلاف أمري، وقتل رسلي، عدنا عليكم بالقتل والسّباء، وإحلال الذّلّ والصّغار بكم، فعادوا، فعاد اللّه عليهم بعقابه وإحلال سخطه بهم.
وبنحو الّذي قلنا في ذلك، قال أهل التّأويل
ذكر من قال ذلك
- حدّثنا أبو كريبٍ، قال: حدّثنا ابن عطيّة، عن عمر بن ثابتٍ، عن أبيه، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ، في قوله: {عسى ربّكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا} قال: عادوا فعاد، ثمّ عادوا فعاد، ثمّ عادوا فعاد. قال: فسلّط اللّه عليهم ثلاثة ملوكٍ من ملوك فارس: سندبادان وشهربادان وآخر
- حدّثني محمّد بن سعدٍ، قال: حدّثني أبي، قال: حدّثني عمّي، قال: حدّثني أبي، عن أبيه، عن ابن عبّاسٍ، قال: قال اللّه تبارك وتعالى بعد الأولى والآخرة: {عسى ربّكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا} قال: فعادوا فسلّط اللّه عليهم المؤمنين
- حدّثنا بشرٌ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، قال {عسى ربّكم أن يرحمكم} فعاد اللّه عليهم بعائدته ورحمته {وإن عدتم عدنا} قال: عاد القوم بشرّ ما يحضرهم، فبعث اللّه عليهم ما شاء أن يبعث من نقمته وعقوبته. ثمّ كان ختام ذلك أن بعث اللّه عليهم هذا الحيّ من العرب، فهم في عذابٍ منهم إلى يوم القيامة، قال اللّه عزّ وجلّ في آيةٍ أخرى {وإذ تأذن ربّك ليبعثنّ عليهم إلى يوم القيامة} الآية، فبعث اللّه عليهم هذا الحيّ من العرب
- حدّثنا محمّد بن عبد الأعلى، قال: حدّثنا محمّد بن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادة، قال {عسى ربّكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا} فعادوا فبعث اللّه عليهم محمّدًا صلّى اللّه عليه وسلّم، فهم يعطون الجزية عن يدٍ وهم صاغرون.
- حدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ، في قول اللّه تعالى: {عسى ربّكم أن يرحمكم} قال بعد هذا {وإن عدتم} لما صنعتم لمثل هذا من قتل يحيى وغيره من الأنبياء {عدنا} لكم بمثل هذا
وقوله: {وجعلنا جهنّم للكافرين حصيرًا}.
اختلف أهل التّأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: وجعلنا جهنّم للكافرين سجنًا يسجنون فيها
ذكر من قال ذلك
- حدّثنا محمّد بن مسعدة، قال: حدّثنا جعفر بن سليمان، عن أبي عمران، {وجعلنا جهنّم للكافرين حصيرًا} قال: سجنًا
- حدّثني محمّد بن سعدٍ، قال: حدّثني أبي، قال: حدّثني عمّي، قال: حدّثني أبي، عن أبيه، عن ابن عبّاسٍ، قوله: {وجعلنا جهنّم للكافرين حصيرًا} يقول: جعل اللّه مأواهم فيها
- حدّثنا محمّد بن عبد الأعلى، قال: حدّثنا محمّد بن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادة، {وجعلنا جهنّم للكافرين حصيرًا} قال: محبسًا حصورًا
- حدّثنا بشرٌ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة {وجعلنا جهنّم للكافرين حصيرًا} يقول: سجنًا.
- حدّثني محمّد بن عمرٍو، قال: حدّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدّثنا عيسى، وحدّثني الحارث، قال: حدّثنا الحسن، قال: حدّثنا ورقاء، جميعًا، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، في قول اللّه تعالى: {حصيرًا} قال: يحصرون فيها
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ {وجعلنا جهنّم للكافرين حصيرًا} قال: يحصرون فيها
- حدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ، في قوله: {وجعلنا جهنّم للكافرين حصيرًا} سجنًا يسجنون فيها حصروا فيها
- حدّثنا عليّ بن داود، قال: حدّثنا عبد اللّه بن صالحٍ، قال: حدّثني معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عبّاسٍ، قوله {وجعلنا جهنّم للكافرين حصيرًا} يقول: سجنًا.
وقال آخرون: معناه: وجعلنا جهنّم للكافرين فراشًا ومهادًا
ذكر من قال ذلك
- حدّثنا محمّد بن عبد الأعلى، قال: حدّثنا محمّد بن ثورٍ، عن معمرٍ، قال: قال الحسن: الحصير: فراشٌ ومهادٌ.
وذهب الحسن بقوله هذا إلى أنّ الحصير في هذا الموضع عني به الحصير الّذي يبسط ويفترش، وذلك أنّ العرب تسمّي البساط الصّغير حصيرًا، فوجّه الحسن معنى الكلام إلى أنّ اللّه تعالى جعل جهنّم للكافرين به بساطًا ومهادًا، كما قال: {لهم من جهنّم مهادٌ ومن فوقهم غواشٍ} وهو وجهٌ حسنٌ وتأويلٌ صحيحٌ وأمّا الآخرون، فوجّهوه إلى أنّه فعيلٌ. من الحصر الّذي هو الحبس. وقد بيّنت ذلك بشواهده في سورة البقرة، وقد تسمّي العرب الملك حصيرًا بمعنى أنّه محصورٌ: أي محجوبٌ عن النّاس، كما قال لبيدٌ:
ومقامةٍ غلب الرّقاب كأنّهم = جنٌّ لدى باب الحصير قيام
يعني بالحصير: الملك، ويقال للبخيل: حصورٌ وحصرٌ: لمنعه ما لديه من المال عن أهل الحاجة، وحبسه إيّاه عن النّفقة، كما قال الأخطل:
وشاربٍ مربحٍ بالكأس نادمني = لا بالحصور ولا فيها بسوّار
ويروى: بسآّر. ومنه الحصر في المنطق لامتناع ذلك عليه، واحتباسه إذا أراده. ومنه أيضًا الحصور عن النّساء لتعذّر ذلك عليه، وامتناعه من الجماع، وكذلك الحصر في الغائط: احتباسه عن الخروج، وأصل ذلك كلّه واحدٌ وإن اختلفت ألفاظه. فأمّا الحصيران: فالجنبان، كما قال الطّرماح:
قليلاً تتلّى حاجةً ثمّ عوليت = على كلّ معروش الحصيرين بادن
يعني بالحصيرين: الجنبين.
والصّواب من القول في ذلك عندي أي يقال: معنى ذلك: {وجعلنا جهنّم للكافرين حصيرًا} فراشًا ومهادًا لا يزايله، من الحصير الّذي بمعنى البساط، لأنّ ذلك إذا كان كذلك كان جامعًا معنى الحبس والامتهاد، مع أنّ الحصير بمعنى البساط في كلام العرب أشهر منه بمعنى الحبس، وأنّها إذا أرادت أن تصف شيئًا بمعنى حبس شيءٌ، فإنّما تقول: هو له حاصرٌ أو محصرٌ، فأمّا الحصير فغير موجودٍ في كلامهم، إلاّ إذا وصفته بأنّه مفعولٌ به، فيكون في لفظ فعيلٍ، ومعناه مفعولٌ به، ألا ترى بيت لبيدٍ: لدى باب الحصير؟ فقال: لدى باب الحصير، لأنّه أراد: لدى باب المحصور، فصرف مفعولاً إلى فعيلٍ. فأمّا فعيلٌ في الحصر بمعنى وصفه بأنّه الحاصر. فذلك ما لا نجده في كلام العرب، فلذلك قلت: قول الحسن أولى بالصّواب في ذلك. وقد زعم بعض أهل العربيّة من أهل البصرة أنّ ذلك جائزٌ، ولا أعلم لما قال وجهًا يصحّ إلاّ بعيدًا وهو أن يقال: جاء حصيرٌ بمعنى حاصرٍ، كما قيل: عليمٌ بمعنى عالمٍ، وشهيدٌ بمعنى شاهدٍ، ولم يسمع ذلك مستعملاً في الحاصر كما سمعنا في عالمٍ وشاهدٍ). [جامع البيان: 14/505-510]
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ الحَسَنِ الهَمَذَانِيُّ (ت: 352هـ): (نا إبراهيمنا آدم نا ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا قال يحصرون فيها). [تفسير مجاهد: 358-359]
قال أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل البوصيري (ت: 840هـ) : (وقال أبو بكر بن أبي شيبة: ثنا يزيد بن المقدام، عن المقدام، عن أبيه شريح، أنّه سأل عائشة- رضي اللّه عنها- "أكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يصلّي على الحصير؟ فإنّي سمعت في كتاب اللّه- عزّ وجلّ- (وجعلنا جهنم للكافرين حصيراً) فقالت: لا، لم يكن يصلّي عليه".
- رواه أبو يعلى: ثنا ابن أبي شيبة.
هذا إسنادٌ رواته ثقاتٌ، يزيد بن المقدام بن شريحٍ، عن أبيه، عن جده شريح القاضي، كلهم ثقات). [إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة: 6/228]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك رضي الله عنه في قوله: {عسى ربكم أن يرحمكم} قال: كانت الرحمة التي وعدهم: بعث محمد صلى الله عليه وسلم). [الدر المنثور: 9/264]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة رضي الله عنه في قوله: {وإن عدتم عدنا} قال: فعادوا فبعث الله عليهم محمدا صلى الله عليه وسلم فهم يعطون (الجزية عن يد وهم صاغرون) (التوبة آية - 29) ). [الدر المنثور: 9/264]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا} قال: سجنا). [الدر المنثور: 9/264]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن النجار في تاريخه عن أبي عمران الجوني في قوله: {وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا} يقول: جعل الله مأواهم فيها). [الدر المنثور: 9/264-265]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد رضي الله عنه في قوله: {حصيرا} قال: يحصرون فيها). [الدر المنثور: 9/265]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن الحسن في قوله: {حصيرا} قال: فراشا ومهادا). [الدر المنثور: 9/265]


رد مع اقتباس
  #3  
قديم 27 جمادى الأولى 1434هـ/7-04-2013م, 05:29 PM
أم سهيلة أم سهيلة غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Mar 2013
المشاركات: 2,672
Post

التفسير اللغوي


تفسير قوله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4)}
قال يَحيى بن سلاَّم بن أبي ثعلبة البصري (ت: 200هـ): (قوله: {وقضينا إلى بني إسرائيل} [الإسراء: 4] تفسير السّدّيّ: أخبرنا بني إسرائيل.
{في الكتاب} [الإسراء: 4] يعني: في التّوراة.
وهو تفسير السّدّيّ.
قال الحسن: يقول: أعلمناهم، كقوله: {وقضينا إليه ذلك الأمر} [الحجر: 66]، يقول: أعلمناه.
عاصم بن حكيمٍ، أنّ مجاهدًا قال: {وقضينا} [الإسراء: 4] كتبنا.
{لتفسدنّ في الأرض مرّتين} [الإسراء: 4]، يعني: لتهلكنّ في الأرض مرّتين.
وهو تفسير السّدّيّ.
{ولتعلنّ علوًّا كبيرًا} [الإسراء: 4] يعني: لتقهرنّ قهرًا شديدًا.
تفسير السّدّيّ). [تفسير القرآن العظيم: 1/115]
قال يَحيى بن سلاَّم بن أبي ثعلبة البصري (ت: 200هـ): (وقال ابن مجاهدٍ عن أبيه: {وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب} [الإسراء: 4] كتبنا عليهم {لتفسدنّ في الأرض مرّتين} [الإسراء: 4] إلى قوله: {أولي بأسٍ شديدٍ} [الإسراء: 5]، قال: ذلك بيان من جاءهم من فارس، يتحسّسون أخبارهم، ويسمعون حديثهم، ومعهم بختنصّر، فوعى أحاديثهم من بين أصحابه، ثمّ رجعت فارس فلم يكن قتالٌ، ونصرت عليهم بنو إسرائيل.
فهذا وعد الأولى). [تفسير القرآن العظيم: 1/116]
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ: (ت: 207هـ):
(وقوله: {وقضينا إلى بني إسرائيل...}
أعلمناهم أنهم سيفسدون مرّتين). [معاني القرآن: 2/116]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ( {وقضينا} مجازه: أخبرنا). [مجاز القرآن: 1/370]
قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : (وقوله {وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب} فكان ابن عباس يقول: عهدنا إليهم لتفسدن في الأرض؛ قال ابن عباس {وقضى ربك} قال: أمر ربك؛ وقال {فاقض ما أنت قاض} اصنع ما أنت صانع.
وقال أبو ذؤيب:
وعليهما مسرودتان قضاهما = داود أو صنع السوابغ تبع
وقال الله عز وجل {فقضاهن سبع سماوات}؛ أي خلقهن.
وقال الهذلي:
حلو ومر كعطف القدح مرته = في كل إني قضاه الليل ينتعل
كأنه قال: أمضاه وأفناه). [معاني القرآن لقطرب: 834]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ) : ( {قضينا}: أخبرنا). [غريب القرآن وتفسيره: 211]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ) : ( {وقضينا إلى بني إسرائيل}: أخبرناهم). [تفسير غريب القرآن: 251]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): (قوله: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ}، أي أعلمناهم، لأنّه لمّا خبّرهم أنهم سيفسدون في الأرض، حتم بوقوع الخبر). [تأويل مشكل القرآن: 441]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ) : (وقوله: {وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدنّ في الأرض مرّتين ولتعلنّ علوّا كبيرا }
معناه أعلمناهم في الكتاب، وأوحينا إليهم، ومثل ذلك قوله: {وقضينا إليه ذلك الأمر أنّ دابر هؤلاء مقطوع مصبحين}.
ومعناه وأوحينا إليه.
وقوله: {فقضاهنّ سبع سماوات في يومين} معناه خلقهن وفرغ منهن، ومثل هذا في الشعر قوله:
وعليهما مسرودتان قضاهما= داود أو صنع السّوابغ تبّع
معناه عملهما.
وجملة هذا الباب أن كل ما عمل عملا محكما فقد قضي، وإنما قيل للحاكم قاض لأنه إذا أمر أمرا لم يردّ أمره، فالقضاء قطع الأشياء عن إحكام.
والمعنى إنا أوحينا إليهم لتفسدنّ في الأرض ولتعلنّ علوّا كبيرا، معناه لتعظمن ولتبغنّ، لأنه يقال لكل متجبّر قد علا وتعظّم). [معاني القرآن: 3/227]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ) : ( وقوله جل وعز: {وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب} قال سفيان أي على بني إسرائيل قال ابن عباس قضينا أعلمنا).
[معاني القرآن: 4/122]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ( {وقضينا إلى بني إسرائيل} أخبرناهم). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 135]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ( {قَضَيْنا}: أخبرناهم). [العمدة في غريب القرآن: 180]

تفسير قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5)}
قال يَحيى بن سلاَّم بن أبي ثعلبة البصري (ت: 200هـ): ( {فإذا جاء وعد أولاهما} [الإسراء: 5] : أولى العقوبتين.
{بعثنا عليكم عبادًا لنا أولي بأسٍ شديدٍ} [الإسراء: 5] تفسير مجاهدٍ: فارس.
{فجاسوا خلال الدّيار} [الإسراء: 5] فقتلوهم في الدّيار، وهدموا بيت المقدس، وألقوا فيه الجيف والعذرة.
[تفسير القرآن العظيم: 1/115]
{وكان وعدًا مفعولا} [الإسراء: 5] أي أنّه كائنٌ). [تفسير القرآن العظيم: 1/116]
قال يَحيى بن سلاَّم بن أبي ثعلبة البصري (ت: 200هـ): (وقال ابن مجاهدٍ عن أبيه: {وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب} [الإسراء: 4] كتبنا عليهم {لتفسدنّ في الأرض مرّتين} [الإسراء: 4] إلى قوله: {أولي بأسٍ شديدٍ} [الإسراء: 5]، قال: ذلك بيان من جاءهم من فارس، يتحسّسون أخبارهم، ويسمعون حديثهم، ومعهم بختنصّر، فوعى أحاديثهم من بين أصحابه، ثمّ رجعت فارس فلم يكن قتالٌ، ونصرت عليهم بنو إسرائيل.
فهذا وعد الأولى). [تفسير القرآن العظيم: 1/116] (م)
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ: (ت: 207هـ):
(وقوله: {فإذا جاء وعد أولاهما...} يقول: عقوبة أولى المرّتين، وهو أول الفسادين {بعثنا عليكم عباداً لّنا} يعني بختنصّر فسبى وقتل.

وقوله: {فجاسوا خلال الدّيار} يعني: قتلوكم بين بيوتكم {فجاسوا} في معنى أخذوا وحاسوا أيضاً بالحاء في ذلك المعنى). [معاني القرآن: 2/116]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ( {فجاسوا} قتلوا.
{خلال الدّيار} بين الديار). [مجاز القرآن: 1/370]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ) : ( {فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عباداً لّنا أولي بأسٍ شديدٍ فجاسوا خلال الدّيار وكان وعداً مّفعولاً}
وقال: {فإذا جاء وعد أولاهما} لأن "الأولى" مثل "الكبرى" يتكلم بها بالألف واللام ولا يقال "هذه أولى". والإضافة تعاقب الألف واللام.
فلذلك قال: {أولاهما} كما تقول "هذه كبراهمٌا" و"كبراهنّ" و"كبراهم عنده"). [معاني القرآن: 2/69]
قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : (وقوله {فجاسوا خلال الديار} فالمصدر: جوسا جاسه جوسا؛ أي داسه ووطئه). [معاني القرآن لقطرب: 834]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ) : ( {جاسوا خلال الديار}: طلبوا من فيها كما يجوس الرجل الأخبار.
{خلال الديار}: بين الديار وبين البيوت). [غريب القرآن وتفسيره: 211]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ) : ( {فجاسوا خلال الدّيار} أي عاثوا بين الديار وأفسدوا، يقال: جاسوا وحاسوا. فهم يجوسون ويحوسون).
[تفسير غريب القرآن: 251]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): (وقال عز وجل: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ}. أراد: بعثناهم ليسوءوا وجوهكم، فحذفها، لأنه قال قبل: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا}.فاكتفى بالأول من الثاني، إذ كان يدل عليه.
وكذلك قوله: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ}. فاكتفى بذكر الثاني من الأول). [تأويل مشكل القرآن: 218]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ) : (وقوله: {فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الدّيار وكان وعدا مفعولا}
المعنى فإذا جاء وعد أولى المرتين.
{بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد} يروى أنه بعث عليهم بختنصر.
{فجاسوا خلال الدّيار} أي فطافوا في خلال الديار ينظرون هل بقي أحد لم يقتلوه، والجوس طلب الشيء باستقصاء). [معاني القرآن: 3/227]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ) : ( وقوله جل وعز: {فإذا جاء وعد أولاهما} أي أولى المرتين بعثنا عليكم عبادا لنا أولى بأس شديد روى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال لجاءوا من ناحية فارس أول مرة ومعهم بختنصر فهزمهم بنو إسرائيل ثم رجعوا في الثانية فقتلوا بني إسرائيل ودمروهم تدميرا
قال قتادة بعث عليهم في أول مرة جالوت وفي الثانية بختنصر). [معاني القرآن: 4/123-122]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ) : ( ثم قال جل وعز: {فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا} روى معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال جاسوا مشوا قال أبو جعفر المعروف عند أهل اللغة أنه يقال جسنا دور بني فلان وجسناها إذا قهروهم وغلبوهم). [معاني القرآن: 4/123]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ( {فجاسوا} أي أفسدوا بين الديار، ومثله (حاسوا) ). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 135]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ( {فَجَاسوا}: طافوا). [العمدة في غريب القرآن: 180]

تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6)}
قال يَحيى بن سلاَّم بن أبي ثعلبة البصري (ت: 200هـ): ({فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم} [الإسراء: 7] بعث ملك فارس ببابل جيشًا، وأمّر عليهم بختنصّر، فأتوا بني إسرائيل فدمّروهم.
فكانت هذه الآخرة ووعدها.
وقال السّدّيّ: {فإذا جاء وعد الآخرة} [الإسراء: 7]، يعني: الموت الأخير من العذاب الّذي وعدهم.
سعيدٌ، عن قتادة، قال: عوقب القوم على غلوّهم وفسادهم، فبعث اللّه عليهم في الأولى جالوت الخزريّ، فسبى وقتل، وجاسوا خلال الدّيار كما قال اللّه، ثمّ روجع القوم على دخنٍ فيهم كثيرٍ.
فقال: {ثمّ رددنا لكم الكرّة عليهم وأمددناكم بأموالٍ وبنين} [الإسراء: 6] يقول: وأعطيناكم.
تفسير السّدّيّ). [تفسير القرآن العظيم: 1/116]
قال يَحيى بن سلاَّم بن أبي ثعلبة البصري (ت: 200هـ): ({وجعلناكم أكثر نفيرًا} [الإسراء: 6]، أي: أكثر عددًا في زمان داود.
وقوله: {ثمّ رددنا لكم الكرّة عليهم} [الإسراء: 6] ففعل ذلك بهم في زمان داود يوم طالوت). [تفسير القرآن العظيم: 1/116]
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ: (ت: 207هـ):
(وقوله: {ثمّ رددنا لكم الكرّة عليهم...}

يعني على بختنصّر جاء رجل بعثه الله عزّ وجلّ على بختنصّر فقتله وأعاد الله إليهم ملكهم وأمرهم، فعاشوا، ثم أفسدوا وهو آخر الفسادين). [معاني القرآن: 2/116]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ( {رددنا لكم الكرّة} أعقبنا لكم الدولة.
{أكثر نفيراً} مجازه: من الذين نفروا معه). [مجاز القرآن: 1/371]
قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : (وقوله {أكثر نفيرا} فالقوم النافرون في الحرب وغيرها؛ فقالوا: النفير في الواحد والجمع؛ والواحد نافر؛ مثل: العبيد والكليب والكلاب). [معاني القرآن لقطرب: 835]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ) : ( {الكرة}: الدولة.
{أكثر نفيرا}: أي من نفر معه). [غريب القرآن وتفسيره: 211]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ) : ( {ثمّ رددنا لكم الكرّة} أي الدّولة.
{أكثر نفيراً} أي أكثر عددا. وأصله: من ينفر مع الرجل من عشيرته وأهل بيته. والنّفير والنّافر واحد. كما يقال: قدير وقادر). [تفسير غريب القرآن: 251]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ) : (وقوله: {ثمّ رددنا لكم الكرّة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا}أي رددنا لكم الدولة.
{وجعلناكم أكثر نفيرا} أي جعلناكم أكثر منهم نصّارا، ويجوز أن يكون نفيرا جمع نفر كما يقال: العبيد والكليب والضّئين والمعيز.
و{نفيرا} منصوب على التمييز). [معاني القرآن: 3/228]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ) : ( وقوله جل وعز: {ثم رددنا لكم الكرة عليهم} أي الدولة {وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا}
يجوز أن يكون نفيرا بمعنى نافر مثل قدير وقادر
ويجوز أن يكون جمع نفر مثل عبيد وكليب ومعيز وأصله من ينفر مع الرجل من عشيرته وأصحابه). [معاني القرآن: 4/123-124]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ( {أكثر نفيرا} أي أكثر عددا). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 135]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ( {الكرَّةَ}: الدولة). [العمدة في غريب القرآن: 180]

تفسير قوله تعالى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7)}
قال يَحيى بن سلاَّم بن أبي ثعلبة البصري (ت: 200هـ): ({فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم} [الإسراء: 7] بعث ملك فارس ببابل جيشًا، وأمّر عليهم بختنصّر، فأتوا بني إسرائيل فدمّروهم.
فكانت هذه الآخرة ووعدها.
وقال السّدّيّ: {فإذا جاء وعد الآخرة} [الإسراء: 7]، يعني: الموت الأخير من العذاب الّذي وعدهم.
سعيدٌ، عن قتادة، قال: عوقب القوم على غلوّهم وفسادهم، فبعث اللّه عليهم في الأولى جالوت الخزريّ، فسبى وقتل، وجاسوا خلال الدّيار كما قال اللّه، ثمّ روجع القوم على دخنٍ فيهم كثيرٍ.
فقال: {ثمّ رددنا لكم الكرّة عليهم وأمددناكم بأموالٍ وبنين} [الإسراء: 6] يقول: وأعطيناكم.
تفسير السّدّيّ). [تفسير القرآن العظيم: 1/116] (م)
قال يَحيى بن سلاَّم بن أبي ثعلبة البصري (ت: 200هـ): (قال: {إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها} [الإسراء: 7]، أي: فلأنفسكم.
[تفسير القرآن العظيم: 1/116]
{فإذا جاء وعد الآخرة} [الإسراء: 7] قال قتادة: آخر العقوبتين.
{ليسوءوا وجوهكم} [الإسراء: 7] وهي تقرأ على وجهين: ليسوء اللّه وجوهكم، خفيفةٌ، والوجه الآخر: ليسوّئوا، مثقّلةٌ، يعني: القوم وجوهكم.
{وليدخلوا المسجد} [الإسراء: 7]، يعني: بيت المقدس.
{كما دخلوه أوّل مرّةٍ} [الإسراء: 7] سعيدٌ، عن قتادة، قال: أي كما دخله عدوّهم قبل ذلك.
قال: {وليتبّروا ما علوا} [الإسراء: 7] أي: غلبوا عليه.
{تتبيرًا} [الإسراء: 7] أي: وليفسدوا ما غلبوا عليه فسادًا، فبعث اللّه عليهم في الآخرة بختنصّر البابليّ المجوسيّ، فسبى، وقتل، وخرّب بيت المقدس، وقذف فيه الجيف والعذرة.
يقال إنّه فسادهم الثّاني قتل يحيى بن زكريّاء، فبعث اللّه بختنصّر عقوبةً عليهم بقتلهم يحيى، فقتل منهم سبعين ألفًا.
أبو سهلٍ، عن أبي هلالٍ الرّاسبيّ، عن قتادة، أنّ مريم لمّا حملت قالوا: ضيّع اللّه بنت سيّدنا، يعنون زكريّاء، حتّى زنت، فلمّا طلبوا زكريّاء ليقتلوه انطلق هاربًا، فعرضت له شجرةٌ، فقال: افرجي لي حتّى أختبئ فيك، ففرجت له فدخل فيها وانضمّت عليه، وبقي بعض هدب ثيابه خارجًا.
فطلبوه فلم يقدروا عليه، فجاء إبليس، فقال: هو في هذه الشّجرة وهذا هدب ثوبه، فجيء بالمنشار فوضع عليه حتّى قتل.
[تفسير القرآن العظيم: 1/117]
وإنّ يحيى بن زكريّا كان في زمانٍ لم يكن للرّجل منهم أن يتزوّج امرأة أخيه بعده، وإذا كذب متعمّدًا لم يولّ الملك.
فمات الملك وولّي أخوه، فأراد الملك أن يتزوّج امرأة أخيه الملك الّذي مات، فسألهم فرخّصوا له، فسأل يحيى بن زكريّا، فأبى أن يرخّص له، فحقدت عليه امرأة أخيه، وجاءت بابنة أخي الملك الأوّل إليه فقال لها: سليني اليوم حكمك، فقالت: حتّى أنطلق إلى أمّي، فلقيت أمّها فقالت: قولي له إن أردت أن تفي لنا بشيءٍ فأعطني رأس يحيى بن زكريّاء، فقال: قولي لها:
غير هذا خيرٌ لك منه، قال: فأبت، وتكره أن يخلفها فلا يولّى الملك، فدفع إليها يحيى بن زكريّاء.
فلمّا وضعت الشّفرة على حلقه قال: قولي: بسم اللّه.
هذا ما بايع عليه يحيى بن زكريّاء عيسى ابن مريم على ألا يزني، ولا يسرق، ولا يلبس إيمانه بسوءٍ.
فلمّا أمرّت الشّفرة على أوداجه فذبحته ناداها منادٍ من فوقها، فقال: يا ربّة البيت الخاطئة الغاوية، قالت: إنّها كذلك، فما تريد منها؟ قال: لتبشّر فإنّها أوّل ما تدخل النّار.
قال: وخسف بابنتها فجاءوا بالمعاول فجعلوا يحفرون عنها وتدخل في الأرض حتّى ذهبت). [تفسير القرآن العظيم: 1/118]
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ: (ت: 207هـ):
(وقوله: {فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم...}

يقول القائل: أين جواب (إذا)؟ ففيه وجهان. يقال: فإذا جاء عد الآخرة بعثناهم ليسوء الله وجوهكم لمن قرأ بالياء. وقد يكون ليسوء العذاب وجوهكم.
وقرأها أبيّ بن كعب بـ (لنسوءن وجوهكم) بالتخفيف يعني النون. ولو جعلتها مفتوحة اللام كانت جواباً لإذا بلا ضمير فعل.
تقول إذا أتيتني لأسوءنّك ويكون دخول الواو فيما بعد (لنسوءن) بمنزلة قوله: {وكذلك نري إبراهيم ملكوت السّموات والأرض وليكون من} نريه الملكوت، كذلك الواو في {وليدخلوا} تضمر لها فعلا بعدها، وقد قرئت {ليسوءوا وجوهكم} الذين يدخلون). [معاني القرآن: 2/117-116]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ( {وليتبّروا} وليدمروا). [مجاز القرآن: 1/371]
قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : (أهل المدينة وأبو عمرو {ليسوءوا وجوهكم} جمع.
وقراءة علي صلوات الله عليه {لنسوء وجوهكم} بالنون.
ومن قرأ {ليسوء وجوهكم} قال: ليسوء الوعد وجوهكم). [معاني القرآن لقطرب: 822]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ) : ( {وليتبروا ما علوا}: ليدمروا). [غريب القرآن وتفسيره: 212]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ) : ( {فإذا جاء وعد الآخرة} يعني من المرّتين.
{ليسوؤا وجوهكم} من السّوء.
{وليتبّروا} أي ليدمّروا ويخرّبوا). [تفسير غريب القرآن: 251]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ) : (وقوله: {إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أوّل مرّة وليتبّروا ما علوا تتبيرا}
{فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم).
وتقرأ {ليسوء وجوهكم}
المعنى فإن جاء وعد الآخرة ليسوء الوعد وجوهكم.
ومن قرأ (ليسوءوا) فالمعنى ليسوء هؤلاء القوم وجوهكم.
وقد قرئت (لنسوء وجوهكم) - بالنون الخفيفة - ومعناه ليسوء الوعد وجوهكم، والوقف عليها ليسوءا. والأجود ليسوء بغير نون، وليسوءوا. ويجوز: ليسوء وجوهكم،
ويكون الفعل للوعد على الأمر، ولا تقرأ به، ويجوز لنسوء بالنون في موضع الياء.
وقوله: {وليتبّروا ما علوا تتبيرا} معناه ليدمّروا، ويقال لكل شيء منكسر من الزّجاج والحديد والذّهب تبر، ومعنى {ما علوا} أي ليدمّروا في حال علوّهم عليكم). [معاني القرآن: 3/228]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ) : ( وقوله جل وعز: {فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم} فإذا جاء وعد الآخرة أي من المرتين ليسوءوا وجوهكم
روى زائد عن الأعمش قال الله ليسوء وجوهكم
وقال غيره ليسوء الوعد وجوهكم
ويروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قرأ لنسوء وجوهكم بالنون وهي قراءة الكسائي وفي الكلام حذف والمعنى فإذا جاء وعد الآخرة بعثناهم لنسوء وجوهكم
وروى عن أبي بن كعب أنه قرأ فإذا جاء وعد الآخرة لنسوءن وجوهكم بالنون الخفيفة واللام المفتوحة والوقف عليه لنسوءا مثل لنسفعا وهو على غير حذف ومن قرأ ليسوءوا فالمعنى عنده للعباد وفيه حذف). [معاني القرآن: 4/125-124]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ) : ( وقوله عز وجل: {وليتبروا ما علوا تتبيرا} قال ابن جريج ليدمروا تدميرا كذا قال ابن عباس قال أبو جعفر وكذلك هو في اللغة يقال تبر الشيء إذا كسرة ومنه التبر). [معاني القرآن: 4/126-125]
قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت:345 هـ) : ( {وليتبروا} أي: وليدمروا، أي: وليهلكوا. (تتبيرا) أي: إهلاكا وتدميرا. والعرب تقول: تبرته ودمرته وأهلكته بمعنى واحد). [ياقوتة الصراط: 305]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ( {ليسوءوا} من السوء.
{وليتبروا} أي يدمروا ويخربوا). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 135]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ( {يُتَبِّروا}: يدمّروا). [العمدة في غريب القرآن: 180]

تفسير قوله تعالى: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)}
قال يَحيى بن سلاَّم بن أبي ثعلبة البصري (ت: 200هـ): (قال: {عسى ربّكم أن يرحمكم} [الإسراء: 8] سعيدٌ، عن قتادة، قال: فعاد اللّه عليهم بعائدته.
قال: {وإن عدتم عدنا} [الإسراء: 8] عليكم بالعقوبة.
كان أعلمهم أنّ هذا كائنٌ كلّه.
قوله: {وإن عدتم عدنا} [الإسراء: 8] تفسير الحسن: أنّ اللّه عاد لهم بمحمّدٍ فأذلّهم بالجزية.
[تفسير القرآن العظيم: 1/118]
قال يحيى: يعني قوله: {وإذ تأذّن ربّك} [الأعراف: 167] يعني قال ربّك في تفسير قتادة.
وقال الحسن: أشعر ربّك، قال ربّك، {ليبعثنّ عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب} [الأعراف: 167] وقال سعيدٌ، عن قتادة: ثمّ عاد القوم لشرّ ما بحضرتهم، فبعث اللّه عليهم ما شاء من نقمته، ثمّ كان عذاب اللّه أن بعث عليهم العرب، فهم منهم في عذابٍ إلى يوم القيامة.
قوله: {وجعلنا جهنّم للكافرين حصيرًا} [الإسراء: 8] سعيدٌ، عن قتادة، قال: سجنًا أي: يحصرهم فيها.
وقال ابن مجاهدٍ، عن أبيه: يحصرون فيها). [تفسير القرآن العظيم: 1/119]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ):
( {جهنّم للكافرين حصيراً} من الحصر والحبس فكان معناه محبساً، ويقال: للملك حصير لأنه محجوب،

قال لبيد:
ومقامةٍ غلب الرّقاب كأنّهم= جنٌّ لدى باب الحصير قيام
والحصير أيضاً: البساط الصغير، فيجوز أن تكون جهنم لهم مهاداً بمنزلة الحصير، ويقال للجنبين: حصيران، يقال: لاضربن حصيريك وصقليك). [مجاز القرآن: 1/371]
قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : (وقوله {للكافرين حصيرا} يقال: الحصير: السجن؛ والحصير أيضًا: القصر؛ إذا حصر فيه صاحبه؛ والحصير: الملك أيضًا؛ لأنه محجوب عن الناس.
وقال الشاعر:
ومقامة غلب الرقاب كأنهم = جن لدى باب الحصير قيام
يريد: الملك؛ وقد فسرنا كل ما فيه في سورة البقرة). [معاني القرآن لقطرب: 835]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ) : ( {حصيرا}: محبسا). [غريب القرآن وتفسيره: 212]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ) : ( {وجعلنا جهنّم للكافرين حصيراً} أي محبسا. من حصرت الشيء: إذا حبسته. فعيل بمعنى فاعل). [تفسير غريب القرآن: 251]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ) : (وقوله: {عسى ربّكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنّم للكافرين حصيرا}
{وجعلنا جهنّم للكافرين حصيرا} معناه حبسا، أخذ من قوله: حصرت الرّجل إذا حبسته فهو محصور وهذا حصيره أي محبسه، والحصير المنسوج إنما سمي حصيرا لأنه حصرت طاقاته بعضها مع بعض.
والجنب يقال له الحصير لأن بعض الأضلاع محصور مع بعض). [معاني القرآن: 3/229-228]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ) : ( وقوله جل ذكره: {وإن عدتم عدنا} روى مبارك عن الحسن قال إن عدتم إلى المعصية عدنا إلى العقوبة). [معاني القرآن: 4/126]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ) : ( وقوله جل وعز: {وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا} قال مجاهد أي يحصرون فيها وقال الحسن فراشا ومعادا وروى معمر عن قتادة قال محبسا قال أبو جعفر ومعروف في اللغة أن يقال حصرت الرجل أي حبسته ويقال للموضع الذي يحبس فيه حصير ويقال أحصره المرض والأصل فيه واحد).
[معاني القرآن: 4/126]
قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت:345 هـ) : ( {حصيرا}: أي: حبيسا). [ياقوتة الصراط: 305]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ( {حصيرا} أي محبسا، وقيل: فراشا). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 135]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ( {حَصيراً}: حبسا). [العمدة في غريب القرآن: 180]


رد مع اقتباس
  #4  
قديم 27 جمادى الأولى 1434هـ/7-04-2013م, 06:32 PM
أم سهيلة أم سهيلة غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Mar 2013
المشاركات: 2,672
Post

التفسير اللغوي المجموع
[ما استخلص من كتب علماء اللغة مما له صلة بهذا الدرس]

تفسير قوله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) }

تفسير قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) }
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ القَاسِمُ بنُ سَلاَّمٍ الهَرَوِيُّ (ت: 224 هـ) : (في حديث عمر رضي الله عنه حين قال لفلان وذكر شيئا فقال له عمر: بل تحوسك فتنة.
قال العدبس الأعرابي الكناني: قوله: بل تحوسك فتنة يقول: تخالط قلبك وتحثك وتحركك على ركوبها.
وقال أبو عمرو في الحوس مثل قول العدبس أو نحوه.
الحوس والجوس بمعنى واحد، وهو كل موضع خالطته ووطئته فقد حسته وجسته سواء قال الله تبارك وتعالى: {بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا}.
ومنه قول الشاعر:
نجوس عمارة ونكف أخرى = لنا حتى نجاوزها دليل
قوله: نجوس عمارة، أي نخالطها ونطؤها حتى تبلغ ما نريد منها، ونكف أخرى، يقول: نأخذ في كفتها وهي ناحيتها، ثم ندعها ونحن نقدر عليها.
قال ابن الكلبي: العمارة هي أكبر من القبيلة.
فهذا الجوس. وقال الحطيئة في الحوس يذم رجلا:
رهط

ابن أفعل في الخطوب أذلة = دنس الثياب قناتهم لم تضرس
بالهمز من طول الثقاف وجارهم = يعطى الظلامة في الخطوب الحوس
يعني الأمور التي تنزل بهم فتغشاهم وتخلل ديارهم). [غريب الحديث: 4/294-296]
قالَ أبو العبَّاسِ أَحمدُ بنُ يَحْيَى الشَّيبانِيُّ - ثَعْلَبُ - (ت:291هـ): (وقال أبو العباس في قوله عز وجل: {فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ}: جاسوا وداسوا واحد). [مجالس ثعلب: 267]

قال أبو عليًّ إسماعيلُ بنُ القاسمِ القَالِي (ت: 356هـ) : (ما تعاقب فيه الحاء الجيم
قال الأصمعي: يقال: تركت فلانًا يجوس بني فلان ويحوسهم إذا كان يدوسهم ويطلب فيهم.
وحدّثني أبو بكر، رحمه الله، قال: حدّثني أبو عبد الله بن الحسين، قال: حدّثنا المازني، قال: سمعت أبا سرار الغنوي، يقرأ: (فحاسوا خلال الديار) فقلت: إنما هو جاسوا فقال: حاسوا وجاسوا واحد، قال وسمعته يقرأ: {وإذ قتلتم نسمةً فادّارأتم فيها} فقلت له: إنما هو نفس، قال: النسمة والنفس واحد قال الكسائي: يقال أحم الأمر وأجم إذا حان وقته، ويقال: رجل محارف ومجارف، قال: وهم يحلبون عليك، ويجلبون أي: يعينون، قال الأصمعي: إذا حان وقوع الأمر قيل: أجمّ، يقال: أجمّ ذلك الأمر أي: حان وقته). [الأمالي: 2/78]

تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) }

تفسير قوله تعالى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7) }

تفسير قوله تعالى: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8) }
قال محمد بن المستنير البصري (قطرب) (ت:206هـ): (فمن الأضداد «عسى»، تكون يقينا مرة وشكا أخرى. قال الله جل ثناؤه: {عسى ربكم أن يرحمكم}. وعسى في القرآن واجبة. قال ابن عباس: هي واجبة من الله). [الأضداد: 70]
قالَ يعقوبُ بنُ إسحاقَ ابنِ السِّكِّيتِ البَغْدَادِيُّ (ت: 244هـ) : (ويقال قد أحصره المرض إذا منعه من السفر أو من حاجة يريدها قال الله عز وجل: {فإن أحصرتم} وقد حصره العدو يحصرونه حصرا إذا ضيقوا عليه ومنه قوله: {أو جاءوكم حصرت صدورهم} أي ضاقت ومنه:

(جرداء يحصر دونها جرامها )
أي: تضيق صدورهم من طول هذه النخلة ومنه قيل للمحبس حصير أي يضيق به على المحبوس قال الله جل وعز: {وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا} أي محبسا ومنه رجل حصور وحصير وهو الضيق الذي لا يخرج مع القوم ثمنا إذا اشتروا الشراب وقال الأخطل:
(وشارب مربح بالكأس نادمني = لا بالحصور ولا فيها بسوار)
أي: بمعربد). [إصلاح المنطق: 230] (م)
قالَ أبو سعيدٍ الحَسَنُ بنُ الحُسَينِ السُّكَّريُّ (ت: 275هـ) : (

بطعن كإيزاع المخاض رشاشه = وضرب كتشقيق الحصير المشقق
...
و(الحصير) كساء). [شرح أشعار الهذليين: 1/472]
قالَ أبو العبَّاسِ أَحمدُ بنُ يَحْيَى الشَّيبانِيُّ - ثَعْلَبُ - (ت:291هـ): ( {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ} أي ما أقربه. قال: هذه تسمى المقاربة. عسى عبد الله يقوم، مثل كاد عبد الله يقوم. وإذا أدخل أن فإنه يقول قارب أن يقوم. وأنشد:
عسى الغوير أبؤسا
أي عسى أن يكون، مثل كان عبد الله قائمًا. قال: وهو شاذ. عسى زيد قائمًا شاذ). [مجالس ثعلب: 307]
قالَ محمَّدُ بنُ القاسمِ بنِ بَشَّارٍ الأَنْبَارِيُّ: (ت: 328 هـ): ( وعسى لها معنيان متضادان: أحدهما الشك والطمع، والآخر اليقين، قال الله عز وجل: {وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم}، معناه ويقين أن ذاك يكون.
وقال بعض المفسرين: عسى في جميع كتاب الله جل وعز واجبة
وقال غيره: عسى في القرآن واجبة إلا في موضعين: في سورة بني إسرائيل: {عسى ربكم أن يرحمكم}، يعني بني النضير، فما رحمهم ربهم، بل قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأوقع العقوبة بهم. وفي سورة التحريم: {عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن}، فما أبدله الله بهن أزواجا ولابن منه، حتى قبض عليه السلام.
وقال تميم بن أبي في كون «عسى» إيجابا:
ظن بهم كعسى وهم بتنوفة = يتنازعون جوائز الأمثال
أراد ظن بهم كيقين. ويروى: «سوائر الأمثال»، ويروى: «جوائب الأمثال».
وأنشد أبو العباس:
عسى الكرب الذي أمسيت فيه = يكون وراءه فرج قريب
فـ«عسى» في هذا البيت على معنى الشك). [كتاب الأضداد: 22-23] (م)
قال أبو عليًّ إسماعيلُ بنُ القاسمِ القَالِي (ت: 356هـ) : (تفسير قوله تعالى: {وجعلنا جهنّم للكافرين حصيرًا} [الإسراء: 8]
قال: وحدّثنا أبو بكر بن الأنباري، قال في قوله عز وجل: {وجعلنا جهنّم للكافرين حصيرًا} [الإسراء: 8] ، قال: معناه سجنًا وحبسًا، ويقال: حصرت الرجل أحصره حصرًا إذا حبسته وضيّقت عليه، قال الله عز وجل: {أو جاءوكم حصرت صدورهم} [النساء: 90] أي ضاقت صدورهم وقرأ الحسن: حصرةً صدورهم معناه ضيقة صدورهم، ويقال: أحصره المرض إذا حبسه، والحصير: الملك لأنه حصر أن يراه الناس، قال الشاعر:
ومقامةٍ غلب الرقاب كأنهم = جنٌّ لدى باب الحصير قيام).
[الأمالي: 2/306]

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 14 ذو القعدة 1439هـ/26-07-2018م, 05:14 PM
جمهرة التفاسير جمهرة التفاسير غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 2,953
افتراضي

تفاسير القرن الرابع الهجري

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 14 ذو القعدة 1439هـ/26-07-2018م, 05:15 PM
جمهرة التفاسير جمهرة التفاسير غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 2,953
افتراضي

تفاسير القرن الخامس الهجري

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 14 ذو القعدة 1439هـ/26-07-2018م, 05:19 PM
جمهرة التفاسير جمهرة التفاسير غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 2,953
افتراضي

تفاسير القرن السادس الهجري

تفسير قوله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4)}
قال عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {وقضينا إلى بني إسرائيل} الآية، قال الطبري: معنى "قضينا" فرغنا، وحكي عن غيره أنه قال: "قضينا" هنا بمعنى: أخبرنا، وحكي عن آخرين أنهم قالوا: "قضينا" معناه: في أم الكتاب.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وإنما يلبس في هذا المكان تعدية "قضينا" بـ "إلى"، وتلخيص الكلام عندي أن هذا الأمر هو مما قضاه الله تعالى في أم الكتاب على بني إسرائيل وألزمهم إياه، ثم أخبرهم به في التوراة على لسان موسى، فلما أراد هنا الإعلام بالأمرين جميعا في إيجاز جعل "قضينا" دالة على النفوذ في أم الكتاب، وقرن بها "إلى" دالة على إنزال الخير بذلك إلى بني إسرائيل والمعنى المقصود مفهوم خلال هذه الألفاظ، ولهذا فسر ابن عباس رضي الله عنهما مرة بأن قال: وقضينا إلى بني إسرائيل معناه: أعلمناهم، وقال مرة: معناه: قضينا عليهم و"الكتاب" هنا التوراة; لأن القسم في قوله تبارك وتعالى: "لتفسدن" غير متوجه مع أن يجعل "الكتاب" هو اللوح المحفوظ. وقرأ سعيد بن جبير، وأبو العالية الرياحي: "في الكتب" على الجمع، قال أبو حاتم: قراءة الناس على الإفراد. وقرأ الجمهور: "لتفسدن" بضم التاء وكسر السين، وقرأ عيسى الثقفي "لتفسدن" بفتح التاء وضم السين والدال، وقرأ ابن عباس، ونصر بن عاصم، وجابر بن زيد: "لتفسدن" بضم التاء وفتح السين وضم الدال. وقوله تعالى: "ولتعلن" أي: لتتكبرن عن طاعة الآمرين بطاعة الله، وتطلبون في الأرض العلو والفساد، وتظلمون من قدرتم على ظلمهم، ونحو هذا.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
ومقتضى هذه الآيات أن الله تعالى أعلم بني إسرائيل في التوراة أنه سيقع منهم عصيان وطغيان وكفر لنعم الله تعالى عندهم في الرسل والكتب وغير ذلك، وأنه سيرسل عليهم أمة تغلبهم وتقتلهم وتذلهم، ثم يرحمهم بعد ذلك ويجعل لهم الكرة ويردهم إلى حالهم الأولى من الظهور، فيقع منهم المعاصي وكفر النعم، والظلم والقتل، والكفر بالله من بعضهم، فيبعث الله عليهم أمة أخرى تخرب ديارهم وتقتلهم
[المحرر الوجيز: 5/440]
وتجليهم جلاء مبرحا، وأعطى الوجود بعد ذلك هذا الأمر كله، وقيل: كان بين المرتين: آخر الأولى وأول الثانية مائتا سنة وعشر سنين ملكا مؤبدا بأنبياء، وقيل: سبعون سنة). [المحرر الوجيز: 5/441]

تفسير قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5)}
قال عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا}
الضمير في قوله: {أولاهما} عائد على قوله: {مرتين} وعبر عن الشر بـ (الوعد) لأنه قد صرح بذكر المعاقبة، وإذا لم يجئ (الوعد) مطلقا فجائز أن يقع في الشر.
وقرأ علي بن أبي طالب، والحسن بن أبي الحسن: "عبيدا"، واختلف الناس في العبيد المبعوثين وفي صورة الحال اختلافا شديدا متباعدا. عيونه أن بني إسرائيل عصوا وقتلوا زكرياء عليه السلام فغزاهم سنحاريب ملك بابل، كذا قال ابن إسحاق، وابن جبير. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: غزاهم جالوت من أهل الجزيرة، وروي عن عبد الله بن الزبير أنه قال في حديث طويل: غزاهم آخرا ملك اسمه خردوش، وتولى قتلهم على دم يحيى بن زكريا قائد لخردوش اسمه هورزاذان، وكف عن بني إسرائيل وسكن برعاية دم يحيى بن زكريا عليهما السلام، وقيل: غزاهم أولا صخابين ملك رومة، وقيل: بختنصر، وروي أنه دخل قبل في جيش من الفرس وهو خامل يسير في مطبخ الملك، فاطلع من جور بني إسرائيل على ما لم تعلمه الفرس؛ لأنه كان يداخلهم، فلما انصرف الجيش ذكر ذلك للملك الأعظم، فلما كان بعد مدة جعله الملك رئيس جيش وبعثه، فخرب بيت المقدس وقتلهم وجلاهم، ثم انصرف فوجد الملك قد مات فملك موضعه، واستمرت حاله حتى ملك الأرض بعد ذلك.
وقالت فرقة: إنما غزاهم بختنصر في المرة الأخيرة حين عصوا وقتلوا يحيى بن
[المحرر الوجيز: 5/441]
زكريا عليهما السلام، وصورة قتله أن الملك أراد أن يتزوج بنت امرأته، فنهاه يحيى عليه السلام عن ذلك، فعز ذلك على امرأته، فزينت بنتها وجعلتها تسقي الملك الخمر، وقالت لها: إذا راودك الملك عن نفسك فتمنعي حتى يعطيك الملك ما تتمني، فإذا قال لك: تمني علي ما أردت، فقولي له: رأس يحيى بن زكريا، ففعلت الجارية ذلك، فردها الملك مرتين، وأجابها في الثالثة، فجيء بالرأس في طست ولسانه يتكلم ويقول: لا تحل لك، وجرى دم يحيى عليه السلام فلم ينقطع، فجعل الملك عليه التراب حتى ساوى سور المدينة والدم ينبعث، فلما غزاهم الملك الذي بعث الله عليهم -بحسب الخلاف فيه- قتل منهم على الدم حتى سكن بعد قتل سبعين ألفا. هذا مقتضى هذا الخبر، وفي بعض رواياته زيادة ونقص، فروت فرقة أن أشعياء وعظهم وذكرهم الله ونعمه في مقام طويل نصه الطبري، وذكر أشعياء في آخره محمدا صلى الله عليه وسلم وبشر به، فابتدره بنو إسرائيل ففر منهم، فلقي شجرة فتفلقت له حتى دخلها فالتأمت عليه، فعرض الشيطان عليهم هدبة من ثوبه، فأخذوا منشارا فنشروا الشجرة وقطعوه في وسطها فقتلوه، فحينئذ بعث الله عليهم في المرة الأخيرة.
وذكر الزهراوي عن قتادة قصصا أن زكريا هو صاحب الشجرة، وأنهم قالوا لما حملت مريم قالوا: ضيع بنت سيدنا حتى زنت، فطلبوه فهرب منهم حتى دخل في الشجرة فنشروه. وروت فرقة أن بختنصر كان حفيد سنحاريب الملك الأول، وروت فرقة أن الذي غزاهم آخرا هو سابور ذو الأكتاف. وقال أيضا ابن عباس رضي الله عنهما: سلط الله عليهم حين عادوا ثلاثة أملاك من فارس: سندابادان وشهريازان وآخر. وقال مجاهد: إنما جاءهم في الأولى عسكر من فارس فجاس خلال الديار وتقلب، ولكن لم يكن قتال ولا قتل في بني إسرائيل ثم انصرفت عنهم الجيوش، وظهروا وأمدوا بالأموال والبنين حتى عصوا وطغوا، فجاءهم في المرة الثانية من قتلهم وغلبهم على بيضتهم وأهلكهم آخر الدهر.
وقوله تعالى: {فجاسوا خلال الديار}، وهي المنازل والمساكن، وقوله تعالى: {وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة} يرد على قول مجاهد: إنه لم يكن في المرة
[المحرر الوجيز: 5/442]
الأولى غلبة ولا قتال، وهل يدخل المسجد إلا بعد غلبة وقتال؟ وقد قال مؤرخ. جاسوا خلال الأزقة، وقد ذكر الطبري في هذه الآية قصصا طويلا، منه ما يخص الآيات، وأكثره لا يخص، وهذه المعاني ليست بالثابتة فلذلك اختصرتها.
وقوله تعالى: "بعثنا" يحتمل أن يكون الله بعث إلى ملك تلك الأمة رسولا يأمره بغزو بني إسرائيل فتكون البعثة بأمر، ويحتمل أن يكون عبر بالبعث عما ألقي في نفس الملك الذي غزاهم. وقرأ الناس: "فجاسوا" بالجيم، وقرأ أبو السمال: "فحاسوا" بالحاء، وهما بمعنى الغلبة والدخول قسرا، ومنه الحواس، وقيل لأبي السمال: إنما القراءة "جاسوا" بالجيم، فقال: جاسوا وحاسوا واحد.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
فهذا يدل على تخير لا على رواية، ولهذا لا تجوز الصلاة بقراءته وقراءة نظرائه، وقرأ الجمهور: "خلال"، وقرأ الحسن بن أبي الحسن: "خلل"، ونصبه في الوجهين على الظرف). [المحرر الوجيز: 5/443]

تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6)}
قال عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {ثم رددنا لكم الكرة عليهم} الآية عبارة عما قال الله لبني إسرائيل في التوراة، وجعل "رددنا" موضع "نرد" إذ وقت إخبارهم لم يقع الأمر بعد، لكنه لما كان وعد الله في غاية الثقة أنه يقع عبر عن مستقبله بالماضي، وهذه الكرة هي بعد الجلوة الأولى كما وصفنا، فغلبت بنو إسرائيل على بيت المقدس وملكوا فيه، وحسنت حالهم برهة من الدهر، وأعطاهم الله الأموال والأولاد، وجعلهم إذا نفروا إلى أمر أكثر الناس، قال الطبري: وصيرناكم أكثر عدد نافر منهم. قال قتادة: كانوا أكثر نفيرا في زمن داود عليه السلام، و"نفيرا" يحتمل أن يكون جمع نفر، ككلب وكليب، وعبد وعبيد، ويحتمل أن يكون فعيلا بمعنى فاعل، أي: وجعلناكم أكثر نافرا.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وعندي أن النفير اسم للجمع الذي ينفر، سمي بالمصدر، وقد قال تبع الحميري:
فأكرم بقحطان من والد ... وبالحميريين أكرم نفيرا
[المحرر الوجيز: 5/443]
وقالوا: "لا في العير ولا في النفير"، يريدون جمع قريش الخارج من مكة إلى بدر). [المحرر الوجيز: 5/444]

تفسير قوله تعالى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7)}
قال عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي (ت:546هـ) : (فلما قال الله تعالى لهم: إني سأفعل بكم هكذا عقب ذلك بوصيتهم في قوله سبحانه: {إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم} والمعنى: إنكم بعملكم تؤخذون، لا يكون ذلك ظلما ولا تشرعا إليكم، ووعد الآخرة معناه: من المرتين المذكورتين، وقوله تعالى: {ليسوءوا وجوهكم}، اللام لام أمر، وقيل: المعنى بعثناهم ليسوؤوا، فهي لام "كي" كلها، والضمير للعباد أولي البأس الشديد، وقرأ الجمهور: "ليسوءوا" بالياء، جمع وهمزة بين واوين، وقرأ عاصم -في رواية أبي بكر -، وابن عامر: "ليسوء" بالياء وهمزة مفتوحة على الإفراد، وقرأ الكسائي -وهي مروية عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "لنسوء" بنون العظمة، وقرأ أبي بن كعب: "لنسوأن" بنون خفيفة، وهي لام الأمر، وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "ليسوأن"، بفتح اللام وهي لام القسم- والفاعل الله عز وجل، وفي مصحف أبي بن كعب: "ليسيء" بياء مضمومة بغير واو، وفي مصحف أنس: "ليسوء وجهكم" على
[المحرر الوجيز: 5/444]
الإفراد، وخص بالذكر الوجوه لأنها المواضع الدالة على ما بالإنسان من خير أو شر. و"المسجد": مسجد بيت المقدس. و"تبر" معناه: أفسد وأهلك بغشم، وقوله: {ما علوا} أي: ما تغلبوا عليه من الأقطار وملكوه من البلاد، وقيل: "ما" ظرفية، والمعنى: مدة علوهم وغلبتهم على البلاد. و"تبر" تحريره: رد الشيء فتاتا كتبر الذهب والحرير ونحوه، وهو تفتيته). [المحرر الوجيز: 5/445]

تفسير قوله تعالى: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)}
قال عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذابا أليما ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا}
يقول الله تعالى لبقية بني إسرائيل عسى ربكم إن أطعتم في أنفسكم واستقمتم أن يرحمكم و"عسى" ترج في حقهم، وهذه العدة ليست برجوع دولة، وإنما هي بأن يرحم المطيع منهم، وكان من الطاعة اتباعهم لعيسى عليه السلام، ولمحمد صلى الله عليه وسلم، فلم يفعلوا، وعادوا إلى الكفر والمعصية، فعاد عقاب الله تعالى، فضرب عليهم الذل وقتلهم، وأذلهم بيد كل أمة، وهنا قال ابن عباس رضي الله عنهما: سلط عليهم ثلاثة ملوك.
و "الحصير" فعيل من الحصر، فهي بمعنى السجن، أي: تحصرهم، وبنحو هذا فسر مجاهد وقتادة وغيرهما، ويقال: الحصير أيضا من الحصر للملك، ومنه قول لبيد:
ومقامة غلب الرقاب كأنهم ... جن لدى باب الحصير قيام
[المحرر الوجيز: 5/445]
ويقال لجنبي الإنسان: حصيران لأنهما يحصرانه، ومنه قول الطرماح:
قليلا تتلى حاجة ثم عوليت ... على كل معروش الحصيرين بادن
وقال الحسن: "الحصير" في الآية أراد به ما يفترش ويبسط كالحصير المعروف عند الناس.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وذلك الحصير مأخوذ من الحصر). [المحرر الوجيز: 5/446]

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 29 ذو الحجة 1439هـ/9-09-2018م, 04:16 PM
أم إسماعيل أم إسماعيل غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Dec 2010
المشاركات: 4,914
افتراضي

تفاسير القرن السابع الهجري
...

رد مع اقتباس
  #9  
قديم 29 ذو الحجة 1439هـ/9-09-2018م, 04:19 PM
أم إسماعيل أم إسماعيل غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Dec 2010
المشاركات: 4,914
افتراضي

تفاسير القرن الثامن الهجري

تفسير قوله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4)}
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدنّ في الأرض مرّتين ولتعلنّ علوًّا كبيرًا (4) فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادًا لنا أولي بأسٍ شديدٍ فجاسوا خلال الدّيار وكان وعدًا مفعولًا (5) ثمّ رددنا لكم الكرّة عليهم وأمددناكم بأموالٍ وبنين وجعلناكم أكثر نفيرًا (6) إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أوّل مرّةٍ وليتبّروا ما علوا تتبيرًا (7) عسى ربّكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنّم للكافرين حصيرًا (8)}
يقول تعالى: إنّه قضى إلى بني إسرائيل في الكتاب، أي: تقدّم إليهم وأخبرهم في الكتاب الّذي أنزله عليهم أنّهم سيفسدون في الأرض مرّتين ويعلون علوًّا كبيرًا، أي: يتجبّرون ويطغون ويفجرون على النّاس كما قال تعالى: {وقضينا إليه ذلك الأمر أنّ دابر هؤلاء مقطوعٌ مصبحين} [الحجر: 66] أي: تقدّمنا إليه وأخبرناه بذلك وأعلمناه به). [تفسير القرآن العظيم: 5/ 47]

تفسير قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6)}
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله: {فإذا جاء وعد أولاهما} أي: أولى الإفسادتين {بعثنا عليكم عبادًا لنا أولي بأسٍ شديدٍ} أي: سلّطنا عليكم جندًا من خلقنا أولي بأسٍ شديدٍ، أي: قوّةٍ وعدّةٍ وسلطةٍ شديدةٍ {فجاسوا خلال الدّيار} أي: تملّكوا بلادكم وسلكوا خلال بيوتكم، أي: بينها ووسطها، وانصرفوا ذاهبين وجائين لا يخافون أحدًا {وكان وعدًا مفعولا}
وقد اختلف المفسّرون من السّلف والخلف في هؤلاء المسلّطين عليهم: من هم؟ فعن ابن عبّاسٍ وقتادة: أنّه جالوت الجزريّ وجنوده، سلّط عليهم أوّلًا ثمّ أديلوا عليه بعد ذلك. وقتل داود جالوت؛ ولهذا قال: {ثمّ رددنا لكم الكرّة عليهم وأمددناكم بأموالٍ وبنين وجعلناكم أكثر نفيرًا}
وعن سعيد بن جبيرٍ: أنّه ملك الموصل سنجاريب وجنوده. وعنه أيضًا، وعن غيره: أنّه بختنصّر ملك بابل.
وقد ذكر ابن أبي حاتمٍ له قصّةً عجيبةً في كيفيّة ترقّيه من حالٍ إلى حالٍ، إلى أن ملك البلاد، وأنّه كان فقيرًا مقعدًا ضعيفًا يستعطي النّاس ويستطعمهم، ثمّ آل به الحال إلى ما آل، وأنّه سار إلى بلاد بيت المقدس، فقتل بها خلقًا كثيرًا من بني إسرائيل.
وقد روى ابن جريرٍ في هذا المكان حديثًا أسنده عن حذيفة مرفوعًا مطوّلًا وهو حديثٌ موضوعٌ لا محالة، لا يستريب في ذلك من عنده أدنى معرفةٍ بالحديث! والعجب كلّ العجب كيف راج عليه مع إمامته وجلالة قدره! وقد صرّح شيخنا الحافظ العلّامة أبو الحجّاج المزّيّ، رحمه اللّه، بأنّه موضوعٌ مكذوبٌ، وكتب ذلك على حاشية الكتاب.
وقد وردت في هذا آثارٌ كثيرةٌ إسرائيليّةٌ لم أر تطويل الكتاب بذكرها؛ لأنّ منها ما هو موضوعٌ، من وضع [بعض] زنادقتهم، ومنها ما قد يحتمل أن يكون صحيحًا، ونحن في غنية عنها، وللّه الحمد. وفيما قصّ اللّه تعالى علينا في كتابه غنيةٌ عمّا سواه من بقيّة الكتب قبله، ولم يحوجنا اللّه ولا رسوله إليهم. وقد أخبر اللّه تعالى أنّهم لمّا بغوا وطغوا سلّط اللّه عليهم عدّوهم، فاستباح بيضتهم، وسلك خلال بيوتهم وأذلّهم وقهرهم، جزاءً وفاقًا، وما ربّك بظلّامٍ للعبيد؛ فإنّهم كانوا قد تمرّدوا وقتلوا خلقًا من الأنبياء والعلماء.
وقد روى ابن جريرٍ: حدّثني يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهبٍ، أخبرني سليمان بن بلالٍ، عن يحيى بن سعيدٍ قال: سمعت سعيد بن المسيّب يقول: ظهر بختنصّر على الشّام، فخرّب بيت المقدس وقتلهم، ثمّ أتى دمشق فوجد بها دمًا يغلي على كبًا، فسألهم: ما هذا الدّم؟ فقالوا أدركنا آباءنا على هذا، وكلّما ظهر عليه الكبا ظهر. قال: فقتل على ذلك الدّم سبعين ألفًا من المسلمين وغيرهم، فسكن.
وهذا صحيحٌ إلى سعيد بن المسيّب، وهذا هو المشهور، وأنّه قتل أشرافهم وعلماءهم، حتّى إنّه لم يبق من يحفظ التّوراة، وأخذ معه خلقًا منهم أسرى من أبناء الأنبياء وغيرهم، وجرت أمورٌ وكوائن يطول ذكرها. ولو وجدنا ما هو صحيحٌ أو ما يقاربه، لجاز كتابته وروايته، واللّه أعلم). [تفسير القرآن العظيم: 5/ 47-48]

تفسير قوله تعالى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7)}
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (ثمّ قال تعالى: {إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها} أي: فعليها، كما قال تعالى: {من عمل صالحًا فلنفسه ومن أساء فعليها} [فصّلت: 46].
وقوله: {فإذا جاء وعد الآخرة} أي: المرّة الآخرة أي: إذا أفسدتم المرّة الثّانية وجاء أعداؤكم {ليسوءوا وجوهكم} أي: يهينوكم ويقهروكم {وليدخلوا المسجد} أي بيت المقدس {كما دخلوه أوّل مرّةٍ} أي: في الّتي جاسوا فيها خلال الدّيار {وليتبّروا} أي: يدمّروا ويخرّبوا {ما علوا} أي: ما ظهروا عليه {تتبيرًا}). [تفسير القرآن العظيم: 5/ 48]

تفسير قوله تعالى: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)}
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({عسى ربّكم أن يرحمكم} أي: فيصرفهم عنكم {وإن عدتم عدنا} أي: متى عدتم إلى الإفساد {عدنا} إلى الإدالة عليكم في الدّنيا مع ما ندّخره لكم في الآخرة من العذاب والنّكال، ولهذا قال [تعالى] {وجعلنا جهنّم للكافرين حصيرًا} أي: مستقرًّا ومحصرًا وسجنًا لا محيد لهم عنه.
قال ابن عبّاسٍ [رضي اللّه عنهما]: {حصيرًا} أي: سجنًا.
وقال مجاهدٌ: يحصرون فيها. وكذا قال غيره.
وقال الحسن: فراشٌ ومهادٌ.
وقال قتادة: قد عاد بنو إسرائيل، فسلّط اللّه عليهم هذا الحيّ، محمّدٌ صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه، يأخذون منهم الجزية عن يدٍ وهم صاغرون). [تفسير القرآن العظيم: 5/ 48]

رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
إبحث في الموضوع:

البحث المتقدم
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 11:54 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
جميع الحقوق محفوظة