تفسير قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: وقالت اليهود إلى قوله لا يحبّ المفسدين هذه الآية تعديد كبيرة من أقوالهم وكفرهم أي فمن يقول هذه العظيمة فلا يستنكر عليه أن ينافق عليك يا محمد ويسعى في رد أمر الله الذي أوحاه إليك، وقال ابن عباس وجماعة من المتأولين معنى قولهم التبخيل، وذلك أنهم لحقتهم سنة وجهد فقالوا هذه العبارة يعنون بها أن الله بخل عليهم بالرزق والتوسعة، وهذا المعنى يشبه ما في قوله تعالى: ولا تجعل يدك مغلولةً إلى عنقك [الإسراء: 29] فإنما المراد لا تبخل، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم:
مثل البخيل والمتصدق، الحديث وذكر الطبري والنقاش أن هذه الآية نزلت في فنحاص اليهودي وأنه قالها، وقال الحسن بن أبي الحسن قولهم: يد اللّه مغلولةٌ إنما يريدون عن عذابهم فهي على هذا في معنى قولهم نحن أبناء اللّه وأحبّاؤه [المائدة: 18] وقال السدي أرادوا بذلك أن يده مغلولة حتى يرد علينا ملكنا.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: فكأنهم عنوا أن قوته تعالى نقصت حتى غلبوا ملكهم، وظاهر مذهب اليهود لعنهم الله في هذه المقالة التجسيم، وكذلك يعطي كثير من أقوالهم، وقوله تعالى: غلّت أيديهم دعاء عليهم، ويحتمل أن يكون خبرا، ويصح على كلا الاحتمالين أن يكون ذلك في الدنيا وأن يراد به الآخرة، وإذا كان خبرا عن الدنيا فالمعنى غلت أيديهم عن الخير والإنفاق في سبيل الله ونحوه وإذا كان خبرا عن الآخرة فالمعنى غلت في نار جهنم أي حتم هذا عليهم ونفذ به القضاء كما حتمت عليهم اللعنة بقولهم هذا وبما جرى مجراه، وقرأ أبو السمال «ولعنوا» بسكون العين، وذلك قصد للتخفيف لا سيما هنا الهبوط من ضمة إلى كسرة، وقوله تعالى: بل يداه مبسوطتان العقيدة في هذه المعنى نفي التشبيه عن الله تعالى وأنه ليس بجسم ولا له جارحة ولا يشبه ولا يكيف ولا يتحيز في جهة كالجواهر ولا تحله الحوادث تعالى عما يقول المبطلون.
ثم اختلف العلماء فيما ينبغي أن يعتقد في قوله تعالى: بل يداه وفي قوله: بيديّ [ص: 75] وعملت أيدينا [يس: 71] ويد اللّه فوق أيديهم [الفتح: 10] ولتصنع على عيني [طه: 39] وتجري بأعيننا [القمر: 14] واصبر لحكم ربّك فإنّك بأعيننا [الطور: 48] وكلّ شيءٍ هالكٌ إلّا وجهه [القصص: 88] ونحو هذا، فقال فريق من العلماء منهم الشعبي وابن المسيب وسفيان يؤمن بهذه الأشياء وتقرأ كما نصها الله ولا يعن لتفسيرها ولا يشقق النظر فيها.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا قول يضطرب لأن القائلين به يجمعون على أنها ليست على ظاهرها في كلام العرب فإذا فعلوا هذا فقد نظروا وصار السكوت عن الأمر بعد هذا مما يوهم العوام ويتيه الجهلة.
وقال جمهور الأمة: بل تفسر هذه الأمور على قوانين اللغة ومجاز الاستعارة وغير ذلك من أفانين كلام العرب. فقالوا في العين والأعين إنها عبارة عن العلم والإدراك، كما يقال فلان من فلان بمرأى ومسمع، إذا كان يعنى بأموره وإن كان غائبا عنه، وقالوا في الوجه إنه عبارة عن الذات وصفاتها، وقالوا في اليد واليدين والأيدي إنها تأتي مرة بمعنى القدرة كما تقول العرب لا يد لي بكذا، ومرة بمعنى النعمة كما يقال لفلان عند فلان يد، وتكون بمعنى الملك كما يقال يد فلان على أرضه، وهذه المعاني إذا وردت عن الله تبارك وتعالى عبر عنها باليد أو الأيدي أو اليدين استعمالا لفصاحة العرب ولما في ذلك من الإيجاز، وهذا مذهب أبي المعالي والحداق، وقال قوم من العلماء منهم القاضي ابن الطيب: هذه كلها صفات زائدة على الذات ثابتة لله دون أن يكون في ذلك تشبيه ولا تحديد، وذكر هذا الطبري وغيره، وقال ابن عباس في هذه الآية، يداه نعمتاه، ثم اختلفت عبارة الناس في تعيين النعمتين فقيل نعمة الدنيا ونعمة الآخرة، وقيل النعمة الظاهرة والنعمة الباطنة، وقيل نعمة المطر ونعمة النبات.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والظاهر أن قوله تعالى: بل يداه مبسوطتان عبارة عن إنعامه على الجملة وعبر عنه بيدين جريا على طريقة العرب في قولهم فلان ينفق بكلتا يديه ومنه قول الشاعر وهو الأعشى:
يداك يدا مجد فكفّ مفيدة = وكفّ إذا ما ضنّ بالمال تنفق
ويؤيد أن اليدين هنا بمعنى الإنعام قرينة الإنفاق، قال أبو عمرو الداني: وقرأ أبو عبد الله «بل يداه بسطتان»، يقال يد بسطة أي مطلقة، وروي عنه «بسطان»، وقوله تعالى: وليزيدنّ كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربّك طغياناً وكفراً إعلام لمحمد صلى الله عليه وسلم بأن هؤلاء اليهود من العتو والبعد عن الحق بحيث إذا سمعوا هذه الأسرار التي لهم والأقوال التي لا يعلمها غيرهم تنزل عليك، طغوا وكفروا، وكان عليهم أن يؤمنوا إذ يعلمون أنك لا تعرفها إلا من قبل الله، لكنهم من العتو بحيث يزيدهم ذلك طغيانا، وخص تعالى ذكر الكثير إذ فيهم من آمن بالله ومن لا يطغى كل الطغيان.
وقوله تعالى: وألقينا بينهم العداوة والبغضاء معطوف على قوله وقالت اليهود فهي قصص يعطف بعضها على بعض، والعداوة أخص من البغضاء لأن كل عدو فهو يبغض وقد يبغض من ليس بعدو، وكأن العداوة شيء مشتهر يكون عنه عمل وحرب، والبغضاء قد لا تجاوز النفوس، وقد ألقى الله الأمرين على بني إسرائيل، وقوله تعالى: كلّما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها اللّه استعارة بليغة تنبئ عن فض جموعهم وتشتيت آرائهم وتفريق كلمتهم، والآية تحتمل أن تكون إخبارا عن حال أسلافهم أي منذ عصوا وعتوا وهد الله ملكهم رماهم بهذه الأمور، فهم لا ترتفع لهم راية إلى يوم القيامة ولا يقاتلون جميعا إلا في قرى محصنة، هذا قول الربيع والسدي وغيرهما. وقال مجاهد: معنى الآية كلما أوقدوا نارا لحرب محمد أطفأها الله، فالآية على هذا تبشير لمحمد صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وإشارة إلى حاضريه من اليهود، وقوله تعالى: ويسعون معنى السعي في هذه الآية العمل والفعل، وقد يجيء السعي بمعنى الانتقال على القدم، وذلك كقوله تعالى: فاسعوا إلى ذكر اللّه [الجمعة: 9] وإن كان مالك رحمه الله قد قال في الموطأ: إن السعي في قوله: فاسعوا إلى ذكر اللّه إنه العمل والفعل، ولكن غيره من أهل العلم جعله على الأقدام وهو الظاهر بقرينة ضيق الوقت وبالتعدية ب «إلى»، ويؤيده قراءة عمر بن الخطاب «فامضوا إلى ذكر الله» وقوله تعالى: واللّه لا يحبّ المفسدين أي لا يظهر عليهم من أفعاله في الدنيا والآخرة ما يقتضي المحبة). [المحرر الوجيز: 3/210-214]
تفسير قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: ولو أنّ أهل الكتاب آمنوا واتّقوا لكفّرنا عنهم سيّئاتهم ولأدخلناهم جنّات النّعيم (65) ولو أنّهم أقاموا التّوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربّهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم منهم أمّةٌ مقتصدةٌ وكثيرٌ منهم ساء ما يعملون (66) يا أيّها الرّسول بلّغ ما أنزل إليك من ربّك وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته واللّه يعصمك من النّاس إنّ اللّه لا يهدي القوم الكافرين (67) قل يا أهل الكتاب لستم على شيءٍ حتّى تقيموا التّوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربّكم وليزيدنّ كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربّك طغياناً وكفراً فلا تأس على القوم الكافرين (68)
هذه الآية تحتمل أن يراد بها معاصر ومحمد صلى الله عليه وسلم، والأظهر أنه يراد بها الأسلاف والمعاصرون داخلون في هذه الأحوال بالمعنى، والغرض الإخبار عن أولئك الذين أطفأ الله نيرانهم وأذلهم بمعاصيهم لو آمنوا بالله وكتابه واتقوا في امتثال أوامره ونواهيه لكفرت سيئاتهم أي سترت وأذهبت ولأدخلوا الجنة). [المحرر الوجيز: 3/214]
تفسير قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (ولو أنّهم أقاموا التّوراة أي أظهروا أحكامها فهي كإقامة السوق وإقامة الصلاة، وذلك كله تشبيه بالقائم من الناس، إذ هي أظهر هيئات المرء، وقوله تعالى: والإنجيل يقتضي دخول النصارى في لفظ أهل الكتاب في هذه الآية، وقوله تعالى: وما أنزل إليهم من ربّهم معناه من وحي وسنن على ألسنة الأنبياء، واختلف المفسرون في معنى من فوقهم ومن تحت أرجلهم فقال ابن عباس وقتادة ومجاهد والسدي: المعنى لأعطتهم السماء مطرها وبركتها والأرض نباتها بفضل الله تعالى. وحكى الطبري والزجّاج وغيرهما أن الكلام استعارة ومبالغة في التوسعة كما يقال فلان قد عمه الخير من قرنه إلى قدمه، وذكر النقاش أن المعنى: لأكلوا من فوقهم أي من رزق الجنة ومن تحت أرجلهم من رزق الدنيا، إذ هو من نبات الأرض. قوله تعالى منهم أمّةٌ مقتصدةٌ معناه: معتدلة، والقصد والاقتصاد: الاعتدال والرفق والتوسط الحسن في الأقوال والأفعال، قال الطبري: معنى الآية أن من بني إسرائيل من هو مقتصد في عيسى عليه السلام يقولون هو عبد الله ورسول وروح منه، والأكثر منهم غلا فيه فقال بعضهم هو إله وعلى هذا مشى الروم ومن دخل بأخرة في ملة عيسى عليه السلام، وقال بعضهم وهم الأكثر من بني إسرائيل: هو آدمي لغير رشدة، فكفر الطرفان، وقال مجاهد: المقتصدة مسلمة أهل الكتاب قديما وحديثا.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وعلى هذا يتخرج قول الطبري: ولا يقول في عيسى إنه عبد رسول إلا مسلم، وقال ابن زيد: هم أهل طاعة الله من أهل الكتاب، وهذا هو المترجح، وقد ذكر الزجّاج أنه يعني بالمقتصدة الطوائف التي لم تناصب الأنبياء مناصبة المتهتكين المجاهرين.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وإنما يتوجه أن توصف بالاقتصاد بالإضافة إلى المتمردة كما يقال في أبي البختري بن هشام إنه مقتصد بالإضافة إلى أبي جهل بن هشام لعنه الله، ثم وصف تعالى الكثير منهم بسوء العمل عموما، وذهب الطبري إلى أن ذلك في تكذيبهم الأنبياء، وكفر اليهود بعيسى والجميع من أهل الكتابين بمحمد صلى الله عليه وسلم وساء في هذه الآية هي المتصرفة كما تقول ساء الأمر يسوء، وقد تستعمل ساء استعمال نعم وبئس، كقوله عز وجل: ساء مثلًا [الأعراف: 177] فتلك غير هذه، يحتاج في هذه التي في قوله ساء مثلًا من الإضمار والتقدير إلى ما يحتاج في نعم وبئس، وفي هذا نظر). [المحرر الوجيز: 3/214-216]