معنى الدعاء
قال أبو سليمان حَمْدُ بن محمد بن إبراهيم الخطابي (ت: 388هـ): (معنى الدعاء أصل هذه الكلمة مصدر، من قولك: دعوت الشيء، أدعوه، دعاء.
أقاموا المصدر مقام الاسم. تقول: سمعت دعاء كما تقول: سمعت صوتًا، وكما تقول: اللهم اسمع دعائي. وقد يوضع المصدر موضع الاسم. كقولهم: رجل عدل، وهذا درهم ضرب الأمير، وهذا ثوب نسج اليمن
ومعنى الدعاء: استدعاء العبد ربه – عز ولج – العناية واستمداده إياه المعونة.
وحقيقته: إظهار الافتقار إليه، والتبرؤ من الحول والقوة، وهو سمة العبودية، واستشعار الذلة البشرية، وفيه معنى الثناء على الله [عز وجل]، وإضافة الجود، والكرم إليه؛ ولذلك
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الدعاء هو العبادة».
قال أبو سليمان حَمْدُ بن محمد بن إبراهيم الخطابي (ت: 388هـ): حدثنا: ابن الأعرابي، قال: حدثنا: بكر بن فرقد التميمي قال: حدثنا: أبو داود قال: حدثنا شعبة، عن منصور، عن ذر، عن يسيع الحضرمي، عن النعمان بن بشير: أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله: وحدثنيه: محمد بن الحسين بن عاصم. قال: حدثنا: محمد بن إسحاق بن خزيمة قال: حدثنا: أبو موسى، قال: حدثنا: عبد الرحمن – [يعني -] ابن مهدي – قال: حدثنا شعبة، عن منصور، عن ذر، عن يسيع، عن النعمان بن بشير، عن النبي صلى الله عليه وسلم [أنه] قال: «إن الدعاء هي العبادة»، وقرأ: {وقال ربكم ادعوني استجب لكم} [غافر: 60].
[قال أبو سليمان:]
هكذا قال في رواية: «إن الدعاء هي العبادة»، وإنما أنث على نية الدعوة، أو المسألة، أو الكلمة، أو نحوها، وقوله: «الدعاء هو العبادة» معناه أنه معظم العبادة، أو أفضل العبادة، كقولهم: الناس بنو تميم، والمال الإبل، يريدون: أنهم أفضل الناس، أو أكثرهم عددًا أو ما أشبه ذلك، وإن الإبل أفضل أنواع الأموال، وأنبلها. وكقول النبي صلى الله عليه وسلم:«الحج عرفة». يريد: أن معظم الحج الوقوف بعرفة.
وذلك؛ لأنه إذا أدرك عرفة، فقد أمن فوات الحج. ومثله في الكلام كثير.
وقد اختلفت مذاهب الناس في الدعاء، فقال قوم: لا معنى للدعاء ولا طائل له لأن الأقدار سابقة والأقضية متقدمة، والدعاء لا يزيد فيها، وتركه لا ينقص شيئًا منها ولا فائدة في الدعاء والمسألة.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: «قدر الله المقادير، قبل أن يخلق الخلق، بكذا وكذا عامًا».
وروي عنه صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «جف القلم بما هو كائن».
وروي [عنه صلى الله عليه وسلم]: «أربع قد فرع [الله] منها: العمر، والرزق، والخلق والخلق». أو كما قال.
وقالت طائفة أخرى: الدعاء واجب. وهو يدفع البلاء، ويرد القضاء.
واحتجوا بما روي [عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه]: «لا يرد القضاء إلا الدعاء».
و[بما روي]: «أن الدعاء، والقضاء، يلتقيان فيعتلجان ما بين السماء والأرض».
وقال آخرون: «الدعاء واجب، إلا أنه لا يستجاب منه إلا ما وافق القضاء». وهذا المذهب هو الصحيح، وهو قول أهل السنة والجماعة، وفيه الجمع بين الأخبار المروية عن اختلافها والتوفيق بينها.
فأما من ذهب إلى إبطال الدعاء، فمذهبه فاسد؛ وذلك أن الله سبحانه أمر بالدعاء، وحض عليه، فقال: {ادعوني استجب لكم} [غافر: 60]
وقال عز وجل: {ادعوا ربكم تضرعا وخفية} [الأعراف: 55].
وقال تعالى: {قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم} [الفرقان: 77] في آي ذوات عدد في القرآن.
ومن أبطل الدعاء، فقد أنكر القرآن، ورده. ولا خفاء بفساد قوله، وسقوط مذهبه.
فإن قيل: فإذا كان الأمر على ما ذكرتموه من أن الدعاء: لا يدفع ضررًا، ولا يجلب نفعًا، لم يكن جرى به القضاء، فما فائدته؟ وما معنى الاشتغال به؟ فالجواب: إن هذا من جملة الباب الذي وقع التعبد فيه بظاهر من العلم، يجري مجرى الأمارة المبشرة، أو المنذرة، دون العلة الموجبة، وذلك – والله أعلم – لتكون المعاملة فيه على معنى الترجي، والتعلق بالطمع الباعثين على الطلب دون اليقين الذي يقع معه طمأنينة النفس، فيقضي بصاحبه إلى ترك العمل والإخلاد إلى دعة العطلة. فإن العمل الدائر بين الظفر، بالمطلوب وبين مخافة فوته، يحرك على السعي له، والدأب فيه، واليقين يسكن النفس، [ويريحها]، كما اليأس [يبلدها ويطفئها]، وقد قضى الله سبحانه أن يكون العبد ممتحنًا، ومستعملاً، ومعلقًا بين الرجاء، والخوف اللذين هما مدرجتا العبودية؛ ليستخرج منه بذلك الوظائف المضروبة عليه، التي هي سمة كل عبد، ونصبة كل مربوب، مدبر، وعلى هذا بني الأمر في معاني ما نعتقده في مبادئ الأمور التي هي الأقدار، والأقضية، مع التزامنا الأوامر التي تعبدنا بها، ووعدنا عليها في المعاد، الثواب والعقاب.
ولما عرض في هذا من الإشكال، ما سألت الصحابة: رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا:
«أرأيت أعمالنا هذه أشيء قد فرغ منه، أم أمر نستأنفه؟ فقال: بل هو أمر قد فرغ منه. فقالوا: ففيم العمل إذًا؟ قال: اعملوا، فكل ميسر لما خلق له. قالوا: فنعمل إذًا».
ألا تراه كيف علقهم بين الأمرين، فرهنهم بسابق القدر المفروغ منه، ثم ألزمهم العمل الذي هو مدرجة التعبد، لتكون تلك الأفعال أمائر مبشرة، ومنذرة، فلم يبطل السبب – الذي هو كالفرع – بالعلة التي هي له كالأصل، ولم يترك أحد الأمرين للآخر. وأخبر مع ذلك أن فائدة العمل هو القدر المفروغ منه، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «فكل ميسر لما خلق له». يريد: أنه ميسر في أيام حياته للعمل الذي سبق له القدر به قبل وقت وجوده، وكونه، إلا أن الواجب. [عليك هاهنا] أن تعلم فرق ما بين الميسر، والمسخر، فتفهم.
وكذلك القول في باب الرزق، وفي التسبب إليه بالكسب، وهو أمر مفروغ منه في الأصل، لا يزيده الطلب، ولا ينقصه الترك.
ونظير ذلك؛ أمر العمر، والأجل المضروب فيه في قوله عز وجل: {فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون} [الأعراف: 34].
ثم قد جاء في الطب، والعلاج، ما جاء، وقد استعمله عامة أهل الدين من السلف، والخلف، مع علمهم بأن ما تقدم من الأقدار، والأقضية لا يدفعها التعالج بالعقاقير، والأدوية
وإذا تأملت هذه الأمور، علمت أن الله سبحانه قد لطف بعباده؛ فعلل طباعهم البشرية بوضع هذه الأسباب؛ ليأنسوا بها، فيخفف عنهم ثقل الامتحان الذي تعبدهم به، وليتصرفوا بذلك بين الرجاء، والخوف، وليستخرج منهم وظيفتي الشكر، والصبر في طوري السراء، والضراء، والشدة، والرخاء، ومن وراء ذلك علم الله تعالى فيهم، ولله عاقبة الأمور، وهو العليم الحكيم، لا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} [الأنبياء: 23].
فإن قيل فما تأويل قوله سبحانه: {ادعوني استجب لكم} [غافر: 60]، وهو وعد من الله جل وعز يلزم الوفاء به، ولا يجوز وقوع الخلف فيه؟ قيل هذا مضمر فيه المشيئة كقوله: {بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء} [الأنعام: 41]، وقد يرد الكلام بلفظ عام، مراده خاص، وإنما يستجاب من الدعاء ما وافق القضاء، ومعلوم أنه لا تظهر لكل داع استجابة دعائه؛ فعلمت أنه إنما جاء في نوع خاص منه بصفة معلومة. وقد قيل: معنى الاستجابة: أن الداعي يعوض من دعائه عوضًا ما، فربما كان ذلك إسعافًا بطلبته التي دعا لها، وذلك إذا وافق القضاء. فإن لم يساعده القضاء، فإنه يعطي سكينة في نفسه، وانشراحًا في صدره، وصبرًا يسهل معه احتمال ثقل الواردات عليه، وعلى كل حال فلا يعدم فائدة دعائه، وهو نوع من الاستجابة.
وقد روى: أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من مؤمن ينصب وجهه لله، عز وجل، يسأله مسألة إلا أعطاه إياه إما عجلها له في الدنيا، وإما ادخرها له في الآخرة، ما لم يعجل، قالوا: وما عجلته؟ قال: يقول: دعوت، دعوت، فلا أراه يستجاب لي».
قال الشيخ – رضي الله عنه -: وإذا ثبت معنى الدعاء، ووجوب العمل به؛ فإن من شرائط صحته، أن يكون ذلك من العبد بإخلاص نيته، وإظهار فقر، ومسكنة، وعلى حال ضرع، وخشوع، وأن يكون على طهارة من الداعي، واستقبال للقبلة، وأن يقدم الثناء على الله عز وجل والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم أما دعائه، ومن سنته أن يرفع إلى الله عز وجل يديه، باسطًا كفيه، غير ساتر لهما بثوب، أو غطاء، ويكره فيه الجهر الشديد بالصوت، وتكره الإشارة فيه بأصبعين، وإنما يشير بالسبابة من يده اليمنى فقط.
وقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يشير بأصبعين، فقال له: «أحد أحد».
ويستحب الاقتصار على جوامع الدعاء، ويكره الاعتداء فيه، وليس معنى الاعتداء الإكثار منه.
فقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله يحب الملحين في الدعاء». وقال: «إذا دعا أحدكم، فليستكثر، فإنما يسأل ربه». وإنما هو مثل ما روي عن سعد: أنه سمع ابنًا له يقول:
«اللهم إني أسألك الجنة، ونعيمها، وبهجتها، وكذا، وكذا، وأعوذ بك من النار وسلاسلها وأغلالها وكذا وكذا، فقال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنه سيكون قوم يعتدون في الدعاء» فإياك أن تكون منهم، فإنك إذا سألتها، فأعطيتها، أعطيتها وما فيها، وإذا تعذوت من النار، فأعذت منها، أعذت منها ومما فيها من الشر».
ويكره في الدعاء السجع، وتكلف صنعة الكلام له، ولا يجوز أن يدعا بالمحال، وأن يطلب ما لا مطمع فيه، كمن يدعو بالخلود في الدنيا، وقد علم، أن الله سبحانه استأثر بالبقاء، وكتب الفناء على جميع خلقه. ولا يدعو بمعصية، ولا بقطيعة رحم، ونحوها من الأمور المحظورة، وليتخير لدعائه، والثناء على ربه، أحسن الألفاظ، وأنبلها، وأجمعها للمعاني، وأبينها؛ لأنه مناجاة العبد سيد السادات الذي ليس له مثل، ولا نظير، ولو تقدم بعض خدم ملوك أهل الدنيا إلى صاحبه، ورئيسه في حاجة، يرفعها إليه، أو معونة يطلبها منه، لتخير له محاسن الكلام، ولتخلص إليه بأجود ما يقدر عليه من البيان، ولئن لم يستعمل هذا المذهب في مخاطبته إياه، ولم يسلك هذه الطريقة فيها معه، أوشك أن ينبو سمعه عن كلامه، وأن لا يحظى بطائل من حاجته عنده.
فما ظنك برب العزة سبحانه وبمقام عبده الذليل بين يديه، ومن عسى أن يبلغ بجهد بيانه كنه الثناء عليه؟ وهذا رسوله، وصفيه صلى الله عليه وسلم قد أظهر العجز، والانقطاع دونه؛ فقال في مناجاته: «وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك أنت، كما أثنيت على نفسك». فسبحان من جعل عجز العاجزين عن شكره، والثناء عليه شكرًا لهم، كما جعل معرفة العارفين بأنهم لا يدركون كنه صفته إيمانًا لهم، وقد أولع كثير من العامة بأدعية منكرة اخترعوها، وأسماء سموها، ما أنزل الله بها من سلطان وقد يوجد في أيديهم دستور من الأسماء، والأدعية يسمونه: «الألف الاسم». صنعها لهم بعض المتكلفين من أهل الجهل، والجرأة على الله، عز وجل، أكثرها زور، وافتراء على الله، عز وجل، فليجتنبها الداعي إلا ما وافق منها الصواب. إن شاء الله تعالى
ومما يسمع على ألسنة العامة، وكثير من القصاص، قولهم: يا سبحان – يا برهان – يا غفران – يا سلطان، وما أشبه ذلك.
وهذه الكلمات، وإن كان يتوجه بعضها في العربية على إضمار النسبة بذي، فإنه مستهجن، مهجور، لأنه لا قدوة فيه، ويغلط كثير منهم في مثل قولهم: يا رب طه – ويس، ويا رب القرآن العظيم.
وأول من أنكر ذلك ابن عباس رحمه الله فإنه سمع رجلاً، يقول عند الكعبة: «يا رب القرآن». فقال: «مه! إن القرآن لا رب له، إن كل مربوب مخلوق».
فأما أغاليط من جمح به اللسان، واعتسف أودية الكلام من الأعراب، وغيرهم، الذين لم يعنوا بمعرفة الترتيب، ولم يقومهم ثقاف التأديب، كقول بعضهم في استسقاء الغيث:
رب العباد ما لنا وما لكا
قد كنت تسقينا فما بدا لكا
أنزل علينا الغيث لا أبا لكا
وكقول القائل من قريش حين هدموا الكعبة في الجاهلية،
وأرادوا بناءه على أساس إبراهيم صلوات الله عليه فجاءت حية عظيمة، فحملت عليهم، فارتدعوا. فعند ذلك قال شيخ منهم كبير.
«اللهم لا ترع، ما أردنا إلا تشييد بيتك، وتشريفه» وكقول بعضهم – وإن كان من المذكورين في الزهاد -: «نعم المرء ربنا، لو أطعناه لم يعصنا» فإنها في أخواتها، ونظائرها عجرفية في الكلام، وتهور فيه، والله سبحانه متعال عن هذه النعوت، وذكره منزه عن مثل هذه الأمور، وقد روينا عن عون بن عبد الله، أنه كان يقول:
«ليعظم أحدكم ربه، أن يذكر اسمه في كل شيء، حتى يقول: أخزى الله الكلب، وفعل الله به كذا». وكان بعض من أدركناه من مشايخنا قل ما يذكر اسم الله جل وعلا إلا فيما يتصل بطاعة، أو قربة، وكان يقول للرجل إذا جزاه خيرًا: جزيت خيرًا، وقل ما يقول: جزاك الله خيرًا، إعظامًا للاسم أن يمتهن في غير قربة، أو عبادة.
ومما يجب أن يراعى في الأدعية، الإعراب الذي هو عماد الكلام، وبه يستقيم المعنى، وبعدمه يختل، ويفسد، وربما انقلب المعنى باللحن حتى يصير كالكفر، إن اعتقده صاحبه. كدعاء من دعا، أو قراءة من قرأ: {إياك نعبد وإياك نستعين} بتخفيف الياء من إياك، فإن الأيا ضياء الشمس، فيصير كأنه يقول شمسك نعبد. وهذا كفر.
وأخبرني محمد بن بحر الرهني، قال: حدثني الشاه بن الحسن قال: قال: أبو عثمان المازني لبعض تلامذته: عليك بالنحو؛ فإن بني إسرائيل كفرت بحرف ثقيل خففوه، قال الله عز وجل لعيسى: {إني ولدتك} فقالوا: «إني ولدتك» فكفروا.
وأخبرني أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل، قال: حدثنا ابن المرزبان عن الرياشي، قال: مر الأصمعي برجل يقول في دعائه: «يا ذو الجلال والإكرام» فقال ما اسمك؟ قال: ليث. فأنشأ يقول:
ينادي ربه باللحن ليث
لذاك إذا دعاه لا يجيب
[قال أبو سليمان]:
وإذ قد أتينا بما قد وجب تقديمه من شرائط صحة الدعاء، فلنعمد لتفسير ما جاء منه مأثورًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولنبدأ بتفسير أسماء الله جل وع التي هي تسعة وتسعون اسمًا. قال الله سبحانه: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها} [الأعراف: 180]. ثم قال: {وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون} [الأعراف: 180]. فكان دلالة الآية أن [الغلط فيها والزيغ عنها إلحاد]. ونحن نسأل الله التوفيق لصواب القول فيها برحمته. [شأن الدعاء:3- 21]