تحرير القول في مرويات صحيفة عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس
أبو الحسن علي بن أبي طلحة الوالبي الهاشمي (ت: 143هـ)
أبو طلحة هو سالم بن المخارق مولى العباس بن عبد المطلب؛ فلذلك ينسب إلى بني هاشم بالولاء لا بالنسب، واشتهر بالوالبي.
ولعليّ بن أبي طلحة صحيفة مشهورة في التفسير يرويها عن ابن عباس، ويرويها عنه معاوية بن صالح.
وقد روى منها ابن جرير في تفسيره في أكثر من 1300 موضع، وروى منها ابن أبي حاتم فأكثر جداً، وروى منها كذلك ابن المنذر وغيرهم من أصحاب التفاسير المسندة.
وعلي بن أبي طلحة لم يسمع من ابن عباس باتفاق العلماء، والأقرب أنه لم يدركه أيضاً؛ فإنّ وفاة ابن عباس رضي الله عنهما كانت سنة 68هـ،ولم يتلقّ هذه الصحيفة بالدراسة كما تلقّى مجاهد التفسير عن ابن عباس، وإنما هي صحيفة فيها تفسير منسوب إلى ابن عباس؛ فمنه ما يصحّ عنه، ومنه ما لا يصحّ لمخالفته لما ثبت عن ابن عباس بالأسانيد الصحيحة.
ولم نقف على خبر ثابت عن الواسطة بين علي بن أبي طلحة وابن عباس؛ غير أنّ الطحاوي قال في شرح مشكل الآثار: (احتملنا حديث علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما وإن كان لم يلقه؛ لأنه عند أهل العلم بالأسانيد إنما أخذ الكتاب الذي فيه هذه الأحاديث عن مجاهد وعن عكرمة). وقال ابن حجر: (وقال قوم: لم يسمع ابن أبي طلحة من ابن عباس التفسير وإنما أخذه عن مجاهد أو سعيد بن جبير)
وقال السيوطي في الإتقان: (قال ابن حجر: بعد أن عرفت الواسطة وهو ثقة فلا ضير في ذلك).
وهذا القول لا أعرف له مستنداً إلا كون مجاهد وسعيد وعكرمة من أصحاب ابن عباس؛ ولا دليل على أنّه لم يأخذ من غيرهما، وكلام الأئمة النقّاد في أن الواسطة غير معروف ظاهر بيّن؛ حتى إن الحافظ صالح جزرة لما سُئل عن علي بن أبي طلحة ممن سمع التفسير؟ قال: (من لا أحد!). رواه الخطيب البغدادي في تاريخه.
والذين يروون التفسير عن ابن عباس منهم الثقة والضعيف، ومنهم المتثبّت الفَهِم، ومنهم دون ذلك ممن يخطئ في الفَهْم والرواية عن غير تعمّد.
وأوثق الذين كتبوا التفسير عن ابن عباس مجاهد وسعيد بن جبير وأربدة التميمي.
فأمّا مجاهد وسعيد فإنهما قد أخذا عن ابن عباس وغيره؛ بل أخذا في التفسير عن بعض من يروي عن أهل الكتاب كنوف البكالي وتبيع بن عامر ومغيث بن سمي.
وقد قال أبو بكر بن عياش: قلت للأعمش: (ما لهم يتقون تفسير مجاهد؟ قال: كانوا يرون أنه يسأل أهل الكتاب). رواه ابن سعد.
وقال ابن حبان في ترجمة عليّ بن أبي طلحة: (لم يسمع التفسير من مجاهد أحد غير القاسم بن أبي بزة، وأخذ الحكَم وليث بن أبي سليم وابن أبي نجيح وابن جريج وابن عيينة من كتابه، ولم يسمعوا من مجاهد).
وقد بيَّنت ( هنا ) أنّ أصحاب مجاهد على خمس طبقات، وأنّ جماعة منهم كانوا يكتبون التفسير عن مجاهد، وأنّ الضعفاء الذين لهم روايات عن مجاهد في كتب التفسير المسندة نحو ستة.
وَمَن يأخذ من الكتاب دون أن يوقِفَه صاحب الكتاب على صحيحه وضعيفه، وعلى ما هو من لفظه، وما هو من ألفاظ شيوخه، وما يرويه بالمعنى، وما يرويه باللفظ؛ وما تصحّف في كتابه، إلى غير ذلك من العلل؛ فهو عرضة لأن يكون في روايته من الأخطاء ما يُستنكر.
فإذا كانت هذه العلل فيمن يأخذ تفسير مجاهد من كتبه دون أن يسمعه منه؛ فوجودها فيمن هو دونه كأبي صالح مولى أمّ هانئ وأبي مالك الغفاري والضحاك والسدي أولى.
وعلي بن أبي طلحة أصله من الجزيرة بالعراق، ثم انتقل إلى حمص، ولم يصرّح بالواسطة، ولم ينصّ على ما رواه عن ابن عباس في كلّ آية؛ وإنما هذا إسناد عام مجمل للصحيفة أنها من تفسير ابن عباس دون النصّ على ابن عبّاس في كلّ موضع منها.
والذين رووا هذه الصحيفة مفرّقة على الآيات كابن جرير وابن أبي حاتم وغيرهما كرروا إسناد الصحيفة عند كلّ موضع لظهور العلم بأنّهم يروون من صحيفة، فلزم من تكرارهم للأسانيد النصّ على ذكر ابن عباس رضي الله عنهما في كلّ موضع.
ولهذا التصرف نظائر في كتب التفسير المتقدّمة، ومن ذلك ما تقدّم التنبيه عليه من كتابة السدّي تفسيره من طرق عن ابن عباس وعن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة وأدخل مرويات بعضهم في بعض وجعل للكتاب إسناداً مجملاً في أوّله؛ فاضطرّ من يروي تفسيره مفرّقا على الآيات والسور إلى تكرار الإسناد في كلّ موضع.
ومن المجزوم به أنه ليس كل ما رواه ابن أبي طلحة في تلك الصحيفة من لفظ ابن عباس، لما سبق شرحه، ولما وجد في تفسيره من روايات منكرة لا تصحّ عن ابن عباس.
قال الإمام أحمد: (علي بن أبي طلحة له أشياء منكرات، وهو من أهل حمص).
وهذه الصحيفة قد حوت علماً كثيراً، والغالب على ما تضمّنته الصحة، وفيها أشياء منكرة؛ وهذه الأشياء المنكرة لا يبعد أن تكون مما أُدخل في الكتاب من غير طريق ابن عباس، أو روي عنه على غير وجهه، أو أخطأ الناسخ فيه.
وأما قول ابن حجر: (وهذه النسخة كانت عند أبي صالح كاتب الليث رواها عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وهي عند البخاري عن أبي صالح وقد اعتمد عليها في صحيحه كثيرا فيما يعلقه عن ابن عباس)ا.هـ.
فلفظ الاعتماد قد يُفهم منه التوثيق، وليس الأمر كذلك، وإنما أراد أنها من مصادر البخاري في التفسير، والبخاري إنما كان ينتقي منها ما يرى صحّة معناه من غير نسبته إلى ابن عباس، إلا حين يصحّ عنده هذا التفسير عن ابن عباس من طرق أخرى، وشرط البخاري في التعليق غير شرطه في المسند كما هو معلوم، ومعرفة منهج البخاري في الرواية من هذه الصحيفة يفيد طالب العلم كثيراً؛ فإن عامّة ما يرويه منها في التفسير لا يعزوه لابن عباس، وإنما يذكره من باب تفسير الآية كما قال في موضع في صحيحه: ({{فيسحتكم}: فيهلككم).
قال ابن حجر في الفتح: (وصله الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن بن عباس).
فالبخاري هنا لم ينسب التفسير إلى ابن عباس، لكن نقل هذا التفسير لصحته عنده من غير أن ينسبه لابن عباس.
وأما حين يكون التفسير عنده صحيحاً إلى ابن عباس؛ فإنّه ينسبه إليه كما قال في موضع: (وقال ابن عباس: {إصرا} : عهداً).
وأمّا قول ابن حجر في فتح الباري: (قوله: "وقال بن عباس إصرا عهدا": وصله الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {ولا تحمل علينا إصرا} أي عهدا).
فقد فهم منه بعض طلاب العلم أن البخاري جزم بنسبة هذا التفسير لابن عباس اعتمادا على رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس التي ذكرها ابن حجر في الفتح، وهذا غلط؛ لأن هذا التفسير مروي عن ابن عباس من خمسة طرق يشدّ بعضها بعضاً، ورُوي عن مجاهد من طريقين؛ فلمّا كان هذا التفسير صحيحاً إلى ابن عباس عند البخاري من مجموع تلك الطرق نَسبه إلى ابن عباس بصيغة الجزم.
ومنهج البخاري رحمه الله في روايته من هذه الصحيفة يبيّن طريقة حذّاق أهل الحديث في الرواية من هذه الطرق ونظائرها.
أقسام مرويات صحيفة عليّ بن أبي طلحة
ولذلك فإنّ التوسّط في شأن هذه الصحيفة أنه لا يقبل كلّ ما فيها مطلقاً، ولا يترك كلّ ما فيها؛ بل ينظر في كل رواية بحسبها؛ وتلك الروايات على خمسة أقسام:
القسم الأول: ما تشهد لصّحته الروايات الثابتة بإسناد صحيح عن ابن عباس؛ فهذه تقبل استناداً على الرواية الصحيحة.
والقسم الثاني: ما تعضده روايات من طرق أخرى فيها ضعف محتمل للتصحيح، وليس في متنها ما ينكر؛ فهذه تصحح بها الرواية.
والقسم الثالث: ما يكون فيه نكارة في المتن؛ فهذا يردّ؛ ويحكم بضعفه.
والقسم الرابع: ما يكون فيه مخالفة لما ثبت عن ابن عباس بإسناد صحيح؛ فهذه تردّ لأن الرواية الثابتة عن ابن عباس أولى بالاعتماد من هذه الرواية.
والقسم الخامس: ما عدا هذه الأقسام، وهو فيما إذا تفردت هذه الرواية عن ابن عباس بقول ليس فيه نكارة؛ فهي محمولة على القبول المجمل من غير قطع بنسبتها إلى ابن عباس.
وهذا التقسيم من حيث الجملة، وقد يكون لبعض المرويات ما تختصّ به من العلل، وكذلك الحكم بالنكارة يختلف فيه الناس؛ فمن الناس من يسبق إلى ذهنه معنى باطل فينكره؛ والرواية لا تدلّ على ما فهمه وأنكره.
أقوال العلماء في عليّ بن أبي طلحة وصحيفته
- قال يعقوب الفسوي: (علي بن أبي طلحة أبو الحسن الهاشمي شاميٌّ ليس هو بمتروك، ولا هو حجة).
- وقال عبد الرحمن المعلّمي: (صحيفة علي بن أبي طلحة عن ابن عباس يَستأنس بها أهل العلم، ولا يحتجون بها).
- وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وأما ثبوت ألفاظه عن ابن عباس ففيها نظر؛ لأن الوالبي لم يسمعه من ابن عباس ولم يدركه، بل هو منقطع، وإنما أخذ عن أصحابه، وكما أن السدي أيضاً يذكر تفسيره عن ابن مسعود وابن عباس وغيرهما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وليست تلك ألفاظهم بعينها، بل نقل هؤلاء شبيه بنقل أهل المغازي والسير، وهو مما يُستشهد به ويعتبر به، ويُضم بعضه إلى بعض؛ فيصير حجة، وأما ثبوت شيء بمجرد هذا النقل عن ابن عباس؛ فهذا لا يكون عند أهل المعرفة بالمنقولات، وأحسن حال هذا أن يكون منقولاً عن ابن عباس بالمعنى الذي وصل إلى الوالبي إن كان له أصل عن ابن عباس)ا.هـ.
- وقال ابن القيّم كما في مختصر الصواعق: (وفي ثبوت ألفاظه عن ابن عباس نظر؛ لأن الوالبي لم يسمعها من ابن عباس فهو منقطع، وأحسن أحواله أن يكون منقولا عن ابن عباس بالمعنى).
وأما ما نُسب إلى الإمام أحمد أنه قال (بمصر صحيفة في التّفسير رواها عليّ بن أبي طلحة لو رحل فيها رجل إلى مصر قاصدا ما كان كثيرا) كما ذكره أبو جعفر النحاس في كتابه إعراب القرآن، واشتهر نقله في كتب علوم القرآن.
وقد أسندها في كتاب الناسخ والمنسوخ بلفظ آخر؛ فقال: حدثني أحمد بن محمد الأزدي، قال: سمعت علي بن الحسين، يقول: سمعت الحسين بن عبد الرحمن بن فهم، يقول: سمعت أحمد بن حنبل، يقول بمصر: «كتاب التأويل عن معاوية بن صالح لو جاء رجل إلى مصر فكتبه ثم انصرف به ما كانت رحلته عندي ذهبت باطلا»
وقال الطحاوي: حدثنا علي بن الحسين بن عبد الرحمن بن فهم؛ قال: سمعت أحمد بن حنبل يقول «لو أن رجلا رحل إلى مصر؛ فانصرف منها بكتاب التأويل لمعاوية بن صالح ما رأيت رحلته ذهبت باطلة»
وحُمِلَ هذا القول على أنّه توثيق لهذه الصحيفة، وهو خطأ من وجوه:
أولها: أنها لا تصح عن الإمام أحمد؛ لما في إسنادها من الاضطراب، ولضعف الحسين بن عبد الرحمن، قال الدارقطني: ليس بالقوي.
والثاني: أنّ الثناء على هذه الصحيفة لما فيها من علم كثير والغالب عليه الصحّة لا يقتضي تصحيح كلّ ما روي فيها؛ كما أنّ الثناء على كتاب من كتب أهل العلم لا يقتضي تصحيح كلّ ما فيه، ولا الحكم بإصابة مؤلّفه في كلّ ما قال.
ونحن نقول: لو أنّ هذه الصحيفة موجودة في هذا العصر فتكلّف رجل الرحلة ليقتنيها لما كان كثيراً؛ فإنّها قد حوت علماً غزيراً، وفي اقتنائها فوائد كثيرة، وهذا لا يقتضي تصحيح كلّ ما فيها.
والثالث: أن الذين تناقلوا هذه المقولة محتجين بها على توثيق هذه الصحيفة يغفلون عن منهج الإمام أحمد وأقرانه من الأئمة النقاد في مثل هذه الصحيفة؛ فمنهم من يجزم بنسبتها إلى ابن عباس، ومنهم من يضع حكما عامّا لإسناد هذه الصحيفة فيقول: إسنادها حسن؛ ليتوسّط بين المصححين والمضعّفين، ثمّ ينزّل حكم هذا الإسناد على كلّ رواية تروى من هذه الصحيفة، وهذا غلط بيّن.
وصحيفة علي بن أبي طلحة مفقودة من قديم، وإنما يعرف منها ما رواه أصحاب التفاسير المسندة، وقد جَمع مروياتها راشد بن عبد المنعم الرجال من كتب التفسير، وطبعه في كتاب باسم "صحيفة علي بن أبي طلحة"، ونشرته مؤسسة الكتب الثقافية، وهذه التسمية موهمة لمن لم يقف حقيقة التفاسير المجموعة.