العودة   جمهرة العلوم > المنتديات > منتدى جمهرة علوم السلوك

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 16 ذو القعدة 1434هـ/20-09-2013م, 12:14 AM
عبد العزيز بن داخل المطيري عبد العزيز بن داخل المطيري غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 2,179
افتراضي عشريات ابن القيم

بسم الله الرحمن الرحيم

عشريات ابن القيم
روابط عشريَّات ابن القيم - رحمه الله -:
- عشرة أسباب تجلب محبة الله تعالى.
- عشرة أسباب تعين على الصبر عن المعصية.
- عشرة أسباب تعين على الصبر على البلاء.
- عشر فوائد لغضّ البصر.
- عشرة أسباب لتخلّف العمل عن العلم.
- عشرة حُجُب بين العبد وربه.
- عشرة أسباب لمغفرة الذنوب ومحْو آثار السيئات.
- عشرة أسباب لانشراح الصدر.
- عشرة موارد للذِّكْر في القرآن الكريم.
- عشرة أقسام لمعاني ألفاظ القرآن الكريم.
- عشرة أسباب لدفع شر الحاسد.
- عشرة أسباب للعصمة من كيد الشيطان.
- عشر مراتب للهداية.


مقدّمة وتعريف
الحمد لله الذي هدى المؤمنين بآياته، وأنار للسالكين سبيل مرضاته، وأفاض عليهم من فضله وبركاته، فهداهم الصراط المستقيم، وأنزل عليهم الكتاب العظيم، وأرسل إليهم الرسول الكريم، الذي علَّمهم وزكَّاهم، وهَداهم لما فيه هُداهم {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}؛ فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً أما بعد:

فإنَّ علم السلوك من أجلّ العلوم وأنفعها، إذ به يعرف المؤمن معنى سلوك الصراط المستقيم، المفضي إلى رضوان الله تعالى وجنات النعيم.
وبه يعرف السالكُ كيف يُحسن عبادة ربّه سبحانه، وكيف يتقرَّب إليه ويعظّم شأنه، وكيف يصلح قلبه ويداوي علله، وكيف يجاهد نفسه ويزكيها، وكيف ينجو من كيد الشيطان الرجيم، وكيف يجاهد أعداءه من سائر الشياطين، وكيف يدافع العوارض والعوائق، وكيف يصنع في حال الابتلاء، وما سبيل خلاصه من آثار الذنوب وأخطارها، إلى غير ذلك من المباحث القيّمة النافعة التي يحتاج السالكُ إلى بيانها
بما دلَّ عليه القرآن العظيم، وهدي النبي الكريم، وبما بيَّنه أئمة الهدى من العلماء العاملين فيما أُثِرَ عنهم من الآثار، وما ألَّفوه من الكتب والرسائل النافعة.
فلهذا العلم أئمّتُه وهُداة طريقه الذين أحسنوا بيان الهدى فيه،
وعرَّفوا الناس بما تحسن معرفته منه؛ فعلّموهم وذكَّروهم، وقرَّبوا للطلاب والمتعلّمين أقوال أئمة الدين فصنفوها ورتَّبوها.

وكان من أحسن العلماء عناية بهذا العلم وتأصيلاً لمسائله وبيانا لفوائده الإمام الجليل شمس الدين محمد بن أبي بكر الزرعي الدمشقي المعروف بابن القيم رحمه الله تعالى ورفع درجته.
فكانت كتبه في علم السلوك من أنفع ما يقرأ القارئ، وأولى ما ينبغي أن يُعتنى به، لما تضمنته من بيان بديع جامع، وتفصيل حسن رائع، يلحظ منه القارئ اللبيب عنايته بالدراسة الشاملة المستفيضة لكلِّ باب من أبوابه، وحسن تلخيصه لأقسامه
ومسائله، وحلّ مشكلاته ومعضلاته؛ فيبيّن ويفصّل، ويصنّف ويقسّم، ويجمع أطراف المسائل وأدلتها، ويسبر أغوارها، ويستخرج كنوزها حتى يدعها واضحة المعالم، بيّنة الدلائل، شيّقة المعاني، مع سلامة منهجه في الاعتقاد، وتحرّيه العدل والإنصاف، ونصحه البيّن الرفيق، وأسلوبه العذب الرفيع؛ فكان إذا خاطب القلب خالط كلامه شغافه؛ فرغَّبه ورهَّبه وأخذ بمجامعه وطوالعه، وإذا خاطب العقل بيَّن له الحجة وألزمه المحجة وأوضح له السبيل، بما وهبه الله من حسن فهم وقوّة استدلال.
وكان رحمه الله تعالى واسع الاطلاع كثير القراءة -ولا سيما في علم السلوك-، وليس أدلَّ على ذلك من ذِكْرِه ثلاثين تعريفاً للمحبَّة من أقوال علماء السلوك سوى أقوال علماء اللغة وبيانه اشتقاقها وأصولها؛ فجمع تلك الفوائد ونظّمها، وأحسن نقدها وتصنيفها، في مبحث مهم من مباحث كتابه مدارج السالكين.
وكان رحمه الله مع سعة اطلاعه المبهرة صاحبَ نقد وتمحيص يجلّي به الأقوال الحسنة فتزداد حسنا، ويبيّن به علل الأقوال الخاطئة فيُعرَف خطؤها.

وقد لحظت من قراءات متعددة في كتبه - رحمه الله - تكرار ذكره الأسباب العشرة ؛ فكان كثيراً ما يقسّم إلى عشرة؛ ويعدّد إلى عشرة؛ فأردت أن أستكشف عشريّاته هذه، وأضمّ بعضها إلى بعض؛ فإذا هي في مسائل مهمة في أبواب علم السلوك، نحتاج كثيراً إلى قراءتها وتأمّلها لعلنا ننتفع بها.
وهذه العشريات المباركة جديرة بأن تكون من أوّل ما يقرؤه الطالب في علم السلوك؛ لجمعها أبوابا متفرقة فيه، جمع في كل باب منها خلاصة ما قيل فيه وما فَتح الله له به.
وقد جمعتها في كتاب رجاء أن أنتفع بها، وينتفع بها من يطّلع عليها، والله تعالى المسؤول أن يمنّ علينا بالقبول، وأن يبارك فيها إنه حميد مجيد.





حفظ نسخة من الكتاب:


التوقيع :

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 16 ذو القعدة 1434هـ/20-09-2013م, 12:20 AM
عبد العزيز بن داخل المطيري عبد العزيز بن داخل المطيري غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 2,179
افتراضي

عشرة أسباب تجلب محبة الله تعالى.

قال ابن القيّم رحمه الله في مدارج السالكين:
(فصل في الأسباب الجالبة للمحبَّة والموجِبة لها وهي عشرة:
أحدُها: قراءةُ القرآن بالتدبر والتفهّم لمعانيه وما أُريدَ به، كتدبّر الكتابِ الذي يحفظه العبدُ ويشرحه؛ ليتفهَّم مُرادَ صاحبه منه.
الثاني: التقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض فإنها توصله إلى درجة المحبوبيَّة بعد المحبة.
الثالث: دوام ذكره على كل حال باللسان والقلب والعمل والحال فنصيبه من المحبة على قدر نصيبه من هذا الذكر.
الرابع: إيثارُ محابّه على محابّك عند غلَبَات الهوى، والتسَنُّمُ إلى محابّه وإن صَعُبَ المرتقى.
الخامس: مطالعة القلب لأسمائه وصفاته، ومشاهدتها ومعرفتها، وتقلّبه في رياض هذه المعرفة ومباديها؛ فمن عرف الله بأسمائه وصفاته وأفعاله أحبَّه لا محالة، ولهذا كانت المعطّلة والفرعونية والجهمية قطاّع الطريق على القلوب بينها وبين الوصول إلى المحبوب.
السادس: مشاهدة برِّه وإحسانه وآلائه ونعمه الباطنة والظاهرة فإنها داعية إلى محبته.
السابع: وهو من أعجبها، انكسار القلب بكليته بين يدي الله تعالى، وليس في التعبير عن هذا المعنى غير الأسماء والعبارات.
الثامن: الخلوة به وقت النزول الإلهي لمناجاته وتلاوة كلامه، والوقوف بالقلب والتأدُّب بأدب العبودية بين يديه، ثم ختم ذلك بالاستغفار والتوبة.
التاسع: مجالسةُ المحبين الصادقين، والتقاطُ أطايب ثمرات كلامهم كما ينتقى أطايب الثمر، ولا تتكلَّم إلا إذا ترجَّحتْ مصلحةُ الكلام، وعلمتَ أنَّ فيه مزيدا لحالك ومنفعةً لغيرك.
العاشر: مباعدةُ كلِّ سببٍ يحولُ بينَ القلب وبينَ اللهِ عزَّ وجلَّ.

فمِنْ هذه الأسباب العشرة وصلَ المحبُّونَ إلى منازل المحبَّة ودخلوا على الحبيبِ، وَمَلاكُ ذلك كلِّه أمران:
- استعدادُ الرُّوحِ لهذا الشأن.
- وانفتاحُ عينِ البصيرةِ.
وبالله التوفيق).ا.هـ.


التوقيع :

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 16 ذو القعدة 1434هـ/20-09-2013م, 12:55 AM
عبد العزيز بن داخل المطيري عبد العزيز بن داخل المطيري غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 2,179
افتراضي

عشرة أسباب تعين على الصبر عن المعصية

قال رحمه الله في "طريق الهجرتين وباب السعادتين": (قاعدة: الصبر عن المعصية ينشأ من أسباب عديدة:
أحدها: عِلْمُ العبدِ بقُبْحِها ورذالتها ودناءتها، وأنَّ الله إنما حرَّمها ونهى عنها صيانةً وحمايةً عن الدنايا والرذائل، كما يَحْمِي الوالدُ الشفيق ولده عمَّا يضرُّه، وهذا السبب يحمِل العاقل على تركها ولو لم يُعَلَّقْ عليها وعيدٌ بالعذاب.
السبب الثاني: الحياءُ من الله سبحانه فإنَّ العبدَ متى علم بنظَرِه إليه ومقامه عليه، وأنَّه بمرأى منه ومسمع، وكان حَيِيًّا استحيا من ربّه أن يتعرَّضَ لمساخِطِه.
السبب الثالث: مراعاةُ نِعَمِهِ عليك وإحسانه إليك؛ فإنَّ الذنوب تزيلُ النِّعَم ولا بدَّ؛ فما أذنب عبدٌ ذنبا إلا زالت عنه نعمة من الله بحسب ذلك الذنب؛ فإنْ تاب وراجعَ رجعتْ إليه أو مثلها، وإنْ أصرَّ لم ترجعْ إليه، ولا تزال الذنوب تزيل عنه نعمة حتى تسلبه النِّعَمَ كلَّها، قال الله تعالى: {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}
وأعظم النِّعَم الإيمانُ، وذنب الزنا والسرقة وشرب الخمر وانتهاب النهبة يزيلها ويسلبها.
وقال بعض السلف: (أذنبتُ ذنباً فحُرِمْتُ قيام الليل سنة)
وقال آخر: (أذنبتُ ذنباً فحُرِمْتُ فهمَ القرآن).
وفي مثل هذا قيل:

إذا كنت في نعمةٍ فارْعَها ... فإنَّ المعاصِي تزيلُ النِّعَمْ
وبالجملة فإنَّ المعاصي نار النعم، تأكلُها كما تأكلُ النارُ الحطَبَ، عياذا بالله من زوال نعمته وتحوّل عافيته.
السبب الرابع: خوفُ الله وخشيةُ عقابه، وهذا إنما يثبت بتصديقه في وَعْدِهِ ووعيده، والإيمانِ به وبكتابه وبرسوله، وهذا السببُ يقوَى بالعلم واليقين، ويضعُفُ بضَعْفِهما، قال الله تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء}
وقال بعض السلف: (كفى بخشية الله علماً، والاغترار بالله جهلا).

السبب الخامس: محبة الله وهي أقوى الأسباب في الصبر عن مخالفته ومعاصيه؛ فإنَّ المحبَّ لِمَنْ يحبُّ مطيعُ، وكلما قَوِيَ سلطانُ المحبَّةِ في القلب كان اقتضاؤُه للطَّاعَةِ وترك المخالفة أقوى، وإنما تصدُرُ المعصيةُ والمخالفةُ من ضعف المحبَّةِ وسلطانِها، وَفَرْقٌ بينَ من يَحْمِلُه على ترك معصية سيِّدِه خوفُه من سَوْطِهِ وعقوبتِه، وبينَ من يحمِلُه على ذلك حبُّه لسيِّدِه، وفي هذا قال عمر: (نِعْمَ العبدُ صُهيبٌ! لو لم يَخَفِ الله لم يَعْصِهْ) يعني أنه لو لم يخفْ من الله لكان في قلبه من محبَّةِ الله وإجلاله ما يمنعه من معصيته؛ فالمحبُّ الصادق عليه رقيب من محبوبه يرعى قلبَه وجوارحه، وعلامةُ صِدْقِ المحبَّة شهودُ هذا الرقيبِ ودوامُه.
وههنا لطيفة يجب التنبُّه لها: وهي أن المحبَّة المجرَّدَةَ لا توجب هذا الأثر ما لم تقترن بإجلال المحبوب وتعظيمه؛ فإذا قارنها بالإجلال والتعظيم أوجبت هذا الحياء والطاعة، وإلا فالمحبة الخالية عنهما إنما توجب نوعَ أُنْسٍ وانبساطٍ وتذكُّرٍ واشتياق، ولهذا يتخلف عنها أثرها وموجبها، ويفتش العبد قلبَه فيرى نوعَ محبَّةٍ للهِ ولكن لا تحمله على ترك معاصيه، وسبب ذلك تجرّدها عن الإجلال والتعظيم فما عَمَرَ القلبَ شيء كالمحبة المقترنة بإجلال الله وتعظيمه، وتلك من أفضل مواهب الله لعبده أو أفضلها وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
السبب السادس: شَرَفُ النفس وزكاؤها وفضلها وأنَفَتها وحميَّتُها أن تختارَ الأسبابَ التي تحطُّهَا وتَضَعُ من قَدرِها، وتخفض منزلتَها وتحقِّرُها، وتسوِّي بينها وبينَ السفلة.
السبب السابع: قوَّةُ العلمِ بسوءِ عاقبةِ المعصيةِ وَقُبْحِ أثَرِها والضررِ الناشيء منها:من سواد الوجه، وظلمة القلب وضيقه وغمِّه، وحزنه وأَلَمِه وانحصاره، وشدَّةِ قَلَقِهِ واضطرابه، وتمزُّقِ شَمْلِه وضعفه عن مقاومة عدوه، وتَعَرِّيهِ من زينته، والحَيرَةِ في أمرِه، وتخلي وليِّه وناصِرِه عنه، وتولّي عدوِّه المبينِ له، وتواري العلمِ الذي كان مستعدّا له عنه، ونسيان ما كان حاصلا له أو ضعفه ولا بدّ، ومرضه الذي إذا استحكم به فهو الموت ولا بدّ؛ فإن الذنوب تميت القلوب.
- ومنها: ذلُّه بعدَ عِزِّه.
- ومنها: أنه يصيرُ أسيراً في يدِ أعدائه بعد أن كان ملكا متصرفا يخافه أعداؤه.
- ومنها: أنه يضعفُ تأثيرُه فلا يبقى له نفوذ في رعيته ولا في الخارج؛ فلا رعيته تطيعه إذا أمرَها، ولا ينفذ في غيرهم.
- ومنها: زوالُ أمنِهِ وتبدّلِهِ به مخافة؛ فأخوف الناس أشدهم إساءة.
- ومنها: زوالُ الأنسِ والاستبدالُ بهِ وحشةً، وكلما ازداد إساءة ازدادَ وحشة.
- ومنها: زوالُ الرِّضا واستبداله بالسخط.
- ومنها: زوالُ الطُّمَأنينةِ بالله والسكونِ إليه والإيواءِ عنده، واستبدالُهُ بالطَّرْدِ والبُعْدِ منه.
- ومنها: وقوعُه في بئرِ الحسَرَاتِ؛ فلا يزالُ في حسرةٍ دائمةٍ كُلَّما نالَ لذةً نازعَتْهُ نفسُه إلى نظيرها إن لم يقضِ منها وَطَرا، أو إلى غيرها إن قضى وطره منها، وما يعجَزُ عنه من ذلك أضعافَ أضعافَ ما يقدر عليه، وكلما اشتد نزوعُه وعرَفَ عجْزَه اشتدَّتْ حسرَتُه وحُزْنُه؛ فَيَا لها ناراً قد عُذِّبَ بها القلبُ في هذه الدارِ قبل نار الله الموقدة، التي تطلع على الأفئدة.
- ومنها: فقرُهُ بعد غِنَاه؛ فإنَّه كان غنيًّا بما معه من رأس مالِ الإيمانِ، وهو يتَّجِر به ويربحُ الأرباحَ الكثيرةَ؛ فإذا سُلِبَ رأسَ مالِهِ أصبح فقيراً مُعْدِماً؛ فإمَّا أن يسعى بتحصيل رأس مال آخر بالتوبة النصوح والجدّ والتشمير، وإلا فَقَدْ فاتَه ربحٌ كثير بما أضاعه مِن رأسِ ماله.
- ومنها: نُقصانُ رزقه فإن العبدَ يحرم الرزق بالذنب يصيبه.
- ومنها: ضعف بدنه.
- ومنها: زوالُ المهابة والحلاوة التي لبسها بالطاعة؛ فتبدَّلَ بها مهانَة وحقارَة.
- ومنها: حصول البُغْضَةِ والنُّفْرَةِ منه في قلوبِ الناس.

- ومنها: ضياعُ أعَزِّ الأشياءِ عليهِ وأنفَسِها وأغلاها، وهو الوقتُ الذي لا عِوَض منه، ولا يعود إليه أبدا.
- ومنها: طَمَعُ عدوِّهِ فيه وظفره به؛ فإنه إذا رآه منقادًا مستجيبا لما يأمره اشتدَّ طمعُه، وحدَّث نفسَه بالظَّفَرِ بهِ، وجَعْلِهِ من حزبه، حتى يصيرَ هو وليُّه دون مولاه الحقّ.
- ومنها: الطَّبْعُ والرَّيْنُ على قلبه؛ فإنَّ العبد إذا أذنب نُكت في قلبه نكتة سوداء؛ فإن تاب منها صقل قلبه، وإن أذنب ذنبا آخر نكت فيه نكتة أخرى، ولا تزال حتى تعلو قلبه؛ فذلك هو الران قال الله تعالى: {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون}.
- ومنها: أنه يحرم حلاوة الطاعة؛ فإذا فعلها لم يجد أثرها في قلبه من الحلاوة والقوَّة ومزيد الإيمان، والعقل والرغبة في الآخرة؛ فإنَّ الطاعة تثمر هذه الثمرات ولا بد.
- ومنها: أن تمنعَ قلبَه من ترحّله من الدنيا ونزوله بساحة القيامة؛ فإن القلب لا يزال مشتتا مضيَّعا حتى يرحل من الدنيا وينزل في الآخرة؛ فإذا نزل فيها أقبلت إليه وفودُ التوفيقِ والعناية من كل جهة، واجتمع على جمع أطرافه وقضاء جهازه وتعبئة زادِهِ ليوم معاده، وما لم يترحل إلى الآخرة ويحضرها؛ فالتعب والعناء والتشتت والكسل والبطالة لازمة له لا محالة.
- ومنها: إعراضُ الله وملائكته وعبادُه عنه؛ فإنَّ العبدَ إذا أعرض عن طاعة الله واشتغل بمعاصيه أعرضَ الله عنه؛ فأعرضت عنه ملائكتُهُ وعبادُه، كما أنه إذا أقبل على الله أقبل الله عليه، وأقبل بقلوب خلقه إليه.
- ومنها: أن الذنب يستدعي ذنبا آخر، ثم يقوى أحدهما بالآخر؛ فيستدعيان ثالثا، ثم تجتمع الثلاثة فتستدعي رابعا، وهلم جرا حتى تغمرَه ذنوبه وتحيطُ به خطيئته، قال بعض السلف: (إن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها ومن عقوبة السيئة السيئة بعدها).
- ومنها: علمُه بفواتِ ما هو أحبُّ إليه وخيرٌ له منها من جنسها وغير جنسها؛ فإنه لا يجمع الله لعبده بين لذة المحرمات في الدنيا ولذة ما في الآخرة، كما قال تعالى: {ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها} فالمؤمن لا يُذْهِب طيباتِه في الدنيا، بل لا بد أن يترك بعض طيباته للآخرة، وأما الكافر فإنَّه لا يؤمن بالآخرة؛ فهو حريص على تناول حظوظه كلها وطيباته في الدنيا.
- ومنها: علمُهُ بأنَّ أعماله هي زاده ووسيلته إلى دار إقامته؛ فإن تزوَّدَ من معصية الله أوصله ذلك الزاد إلى دار العصاة والجناة، وإن تزود من طاعته وصل إلى دار أهل طاعته وولايته.
- ومنها: علمه بأن عمله هو وليُّه في قبره، وأنيسُهُ فيه، وشفيعُه عند ربّه، والمخاصم والمحاجّ عنه؛ فإن شاء جعله له، وإن شاء جعله عليه.
- ومنها: علمُهُ بأنَّ أعمالَ البرّ تنهضُ بالعبدِ وتقومُ به، وتصعد إلى الله به؛ فبحسب قوة تعلّقه بها يكون صعوده مع صعودها، وأعمال الفجور تهوي به وتجذبه إلى الهاوية وتجرُّه إلى أسفلِ سافلين، وبحسب قوة تعلُّقه بها يكون هبوطه معها ونزولُه إلى حيث يستقرُّ به؛ قال الله تعالى: {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه}، وقال تعالى: {إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء}؛ فلمَّا لم تفتح أبواب السماء لأعمالهم، بل أغلقت عنها، لم تفتح لأرواحهم عند المفارقة بل أغلقت عنها، وأهل الإيمان والعمل الصالح لما كانت أبواب السماء مفتوحة لأعمالهم حتى وصلت إلى الله سبحانه فتحت لأرواحهم حتى وصلت إليه تعالى، وقامت بين يديه فَرَحِمَها وأمر بكتابة اسمها في عليين.
- ومنها: خروجه من حصن الله الذي لا ضيعة على من دخله فيخرج بمعصيته منه إلى حيث يصير نِهْبا للصوص وقطاع الطريق؛ فما الظنُّ بمن خرج من حصنٍ حصين لا تدركه فيه آفة إلى خربة موحشة هي مأوى اللصوص وقطاع الطريق؛ فهل يتركون معه شيئا من متاعه؟!!
- ومنها: أنه بالمعصية قد تعرَّضَ لِمَحْقِ بركته.
وبالجملة؛ فآثار المعصية القبيحة أكثر من أن يحيط بها العبدُ علماً، وآثار الطاعة الحسنة أكثر من أن يحيطَ بها علما، فخير الدنيا والآخرة بحذافيره في طاعة الله، وشرُّ الدنيا والآخرة بحذافيره في معصيته، وفي بعض الآثار يقول الله سبحانه وتعالى: (من ذا الذي أطاعني فشقي بطاعتي؟! ومن ذا الذي عصاني فسعد بمعصيتي؟!).

السبب الثامن: قِصَرُ الأملِ، وعلمُهُ بسرعةِ انتقالِهِ، وأنه كمسافر دخل قرية وهو مزمع على الخروج منها، أو كراكب قال في ظل شجرة ثم سار وتركها؛ فهو لعلمه بقلَّةِ مقامه وسرعة انتقاله حريصٌ على ترك ما يثقله حَمْلُه، ويضره ولا ينفعه، حريص على الانتقال بخير ما بحضرته؛ فليس للعبد أنفع من قصر الأمل، ولا أضرَّ من التسويف وطول الأمل.
السبب التاسع: مجانبةُ الفضولِ في مطعمه ومشربه وملبسه ومنامه واجتماعه بالناس؛ فإنَّ قوَّةَ الداعي إلى المعاصي إنما تنشأ من هذه الفضلات؛ فإنها تطلب لها مصرفا؛ فيضيق عليها المباح فتتعدّاه إلى الحرام، ومن أعظم الأشياء ضررا على العبد بطالتُه وفراغُه؛ فإنَّ النفسَ لا تقعُدُ فارِغَةً، بل إن لم يشغلها بما ينفعها شغَلتْهُ بما يضرُّه ولا بد.
السبب العاشر وهو الجامع لهذه الأسباب كلها: ثباتُ شجرةِ الإيمانِ في القلبِ؛ فَصَبْرُ العبدِ عن المعاصي إنما هو بحسب قوَّةِ إيمانه؛ فكلما كان إيمانه أقوى كان صبره أتم، وإذا ضعف الإيمان ضعف الصبر؛ فإنَّ من باشر قلبه الإيمان بقيام الله عليه ورؤيته له وتحريمه لما حرم عليه وبغضه له ومقته لفاعله، وباشر قلبَه الإيمانُ بالثواب والعقاب والجنة والنار امتنع من أن لا يعمل بموجب هذا العلم، وَمَنْ ظنَّ أنه يقوى على ترك المخالفات والمعاصي بدون الإيمان الراسخ الثابت فقد غلط.
فإذا قوي سراجُ الإيمانِ في القلبِ وأضاءَتْ جهاتُه كلُّها به، وأشرق نوره في أرجائه سرى ذلك النور إلى الأعضاء وانبعث إليها؛ فأسرعت الإجابة لداعي الإيمان، وانقادت له طائعة مذللة غير متثاقلة ولا كارهة، بل تفرح بدعوته حين يدعوها كما يفرح الرجل بدعوة حبيبه المحسن إليه إلى محل كرامته؛ فهو كلَّ وقتٍ يترقَّب داعيه ويتأهب لموافاته، {والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم}.
فصل: والصبر على الطاعة ينشأ من معرفة هذه الأسباب، ومن معرفة ما تجلبه الطاعة من العواقب الحميدة والآثار الجميلة، ومن أقوى أسبابها الإيمان والمحبة؛ فكلما قوي داعي الإيمان والمحبة في القلب كانت استجابته للطاعة بحسبه.
وهاهنا مسألة تكلم فيها الناس: وهي أيُّ الصبرينِ أفضل؟ صبرِ العبدِ عن المعصيةِ أم صبره على الطاعة؟
فطائفة رجحت الأول، وقالت الصبر عن المعصية من وظائف الصديقين؛ كما قال بعض السلف: (أعمال البِرِّ يفعلها البَر والفاجر، ولا يقوى على ترك المعاصي إلا صديق).
قالوا: ولأن داعيَ المعصيةِ أشدُّ من داعي تركِ الطاعةِ؛ فإن داعي المعصية إلى أمرٍ وجوديٍّ تشتهيه النفس وتلتذُّ به، والداعي إلى ترك الطاعة الكسل والبطالة والمهانة، ولا ريب أن داعي المعصية أقوى.
قالوا: ولأن العصيان قد اجتمع عليه داعي النفس والهوى والشيطان وأسباب الدنيا وقرناء الرجل وطلب التشبه والمحاكاة وميل الطبع، وكلُّ واحد من هذه الدواعي يجذبُ العبد إلى المعصية، ويطلب أثره؛ فكيف إذا اجتمعت وتظاهرت على القلب؟!!
فأيُّ صبرٍ أقوى مِنْ صَبْر مَنْ صَبَر عن إجابتها؟!!
ولولا أن الله يصبّره لما تأتَّى منه الصبرُ!
وهذا القول كما ترى حجته في غاية الظهور، ورجحت طائفة الصبر على الطاعة بناءً منها على أنَّ فعل المأمور أفضل من ترك المنهيات، واحتجت على ذلك بنحو من عشرين حجة.
ولا ريب أنَّ فعلَ المأموراتِ إنَّما يتمُّ بالصبر عليها؛ فإذا كان فِعْلُها أفضلَ كان الصبرُ عليها أفضلَ.

وفصل النزاع في ذلك: أن هذا يختلف باختلاف الطاعةِ والمعصيةِ؛ فالصبرُ على الطاعة المعظَّمة الكبيرةِ أفضلُ من الصبر عن المعصيةِ الصغيرة الدنيَّة، والصبرُ عن المعصيةِ الكبيرةِ أفضلِ من الصبرِ على الطاعةِ الصغيرة، وصبرُ العبد على الجهادِ مثلا أفضلُ وأعظمُ من صبرِه عن كثيرٍ من الصغائر، وصبرُه عن كبائرِ الإثم والفواحش أعظمُ من صبرِه على صلاةِ الصبح، وصومِ يومٍ تطوعا ونحوه؛ فهذا فَصْلُ النزاعِ في المسألةِ، والله أعلم).


التوقيع :

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 16 ذو القعدة 1434هـ/20-09-2013م, 02:13 AM
عبد العزيز بن داخل المطيري عبد العزيز بن داخل المطيري غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 2,179
افتراضي

عشرة أسباب تعين على الصبر على البلاء

قال رحمه الله في "طريق الهجرتين": (والصبر على البلاء ينشأ من أسباب عديدة:
أحدها: شهودُ جزائِها وثوابها.
الثاني: شهودُ تكفيرها للسيئات ومَحْوِهَا لها.
الثالث: شهودُ القَدَرِ السابق الجاري بها وأنها مقدَّرةٌ في أمِّ الكتاب قبل أن يُخْلَقَ؛ فلا بدَّ منها؛ فجزَعُه لا يزيده إلا بلاء.
الرابع: شهودُه حقَّ الله عليه في تلك البلوى، وواجبَه فيها الصبر بلا خلاف بين الأمة، أو الصبر والرضا على أحد القولين؛ فهو مأمور بأداء حقِّ الله وعبوديته عليه في تلك البلوى؛ فلا بد له منه وإلا تضاعفت عليه.
الخامس: شهود ترتّبها عليه بذنبه؛ كما قالَ الله تعالى: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم} فهذا عامٌّ في كل مصيبة دقيقةٍ وجليلة؛ فيشْغَلُه شهودَ هذا السببِ بالاستغفارِ الذي هو أعظمُ الأسباب في دفع تلك المصيبة؛ قال عليُّ بن أبي طالب: (ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رُفع بلاء إلا بتوبة).
السادس: أن يعلمَ أن الله قد ارتضاها له واختارها وقسَمَها، وأنَّ العبودية تقتضي رضاه بما رَضِيَ له به سيده ومولاه؛ فإن لم يوفِ قدْرَ المقَامِ حقَّه فهو لضَعْفِهِ؛ فلينزلْ إلى مقامِ الصبر عليها؛ فإن نزلَ عنه نزلَ إلى مقامِ الظلم وتعدِّي الحقّ.
السابع: أن يعلمَ أن هذه المصيبة هي دواءٌ نافعٌ ساقَه إليه الطبيبُ العليم بمصلحته، الرحيم به؛ فليصبرْ على تجرُّعِه ولا يتقيَّأه بتسخُّطِه وشكْوَاه؛ فيذهبُ نفْعُه باطلا.
الثامن: أن يعلم أن في عُقْبَى هذا الدواء من الشفاء والعافية والصحة وزوال الألم ما لم تحصل بدونه؛ فإذا طالعتْ نفسُه كراهةَ هذا الدواءِ ومرارَتَه؛ فلينظرْ إلى عاقبته وحُسْنِ تأثيره، قال تعالى: {وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون} وقال الله تعالى: {فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا}، وفي مثل هذا القائل:
لعل عتبك محمود عواقبه ... وربما صحت الأجسام بالعلل
التاسع: أن يعلمَ أن المصيبةَ ما جاءَتْ لتهلِكَه وتقتُلَه، وإنما جاءت لِتَمْتَحِنَ صبْرَه وتبْتَلِيَه؛ فيتبيّن حينئذ هل يصلح لاستخدامه؟ وجعْلِه من أوليائه وحزبه أم لا؟
فإن ثبت اصطفاه واجتباه، وخلع عليه خِلَعَ الإكرام وألبسه ملابسَ الفضل، وجعل أولياءه وحزبه خدماً له وعوناً له، وإن انقلب على وجهه ونكص على عقبيه طُرِدَ وصُفع قفاه وأُقِصي، وتضاعفت عليه المصيبة وهو لا يشعر في الحال بتضاعفها وزيادتها، ولكن سيعلمُ بعد ذلك بأنَّ المصيبةَ في حقِّه صارت مصائب، كما يعلمُ الصابرُ أنَّ المصيبةَ في حقِّهِ صارَتْ نِعَماً عديدة، وما بين هاتين المنزلتين المتباينتين إلا صبرُ ساعة، وتشجيعُ القلب في تلك الساعة، والمصيبة لا بدَّ أن تقلع عن هذا وهذا، ولكن تقلع عن هذا بأنواع الكرامات والخيرات، وعن الآخرِ بالحرمان والخذلان؛ لأن ذلك تقدير العزيز العليم، وفضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
العاشر: أن يعلم أن الله يربّي عبدَه على السراء والضراء والنعمة والبلاء؛ فيستخرج منه عبوديَّته في جميع الأحوال؛ فإن العبدَ على الحقيقة من قام بعبودية الله على اختلاف الأحوال، وأما عبدُ السرَّاء والعافيةِ الذي يعبد الله على حرفٍ؛ فإن أصابه خير اطمأنَّ به، وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه؛ فليس من عبيده الذين اختارهم لعبوديته؛ فلا ريب أنَّ الإيمان الذي يثبتُ على محلِّ الابتلاء والعافية هو الإيمان النافع وقت الحاجة، وأما إيمان العافية فلا يكاد يصحب العبد ويبلغه منازل المؤمنين، وإنما يصحبه إيمان يثبت على البلاء والعافية؛ فالابتلاء كِير العبد ومَحَكُّ إيمانه؛ فإما أن يخرج تِبْرا أحمر، وإما أن يخرج زغلاً محضاً، وإما أن يخرج فيه مادّتان ذهبية ونحاسية فلا يزال به البلاء حتى يخرج المادة النحاسية من ذهبه، ويبقى ذهبا خالصا؛ فلو علم العبد أن نعمة الله عليه في البلاء ليست بدون نعمة الله عليه في العافية لشغل قلبه بشكره ولسانه: "اللهم أعني على ذكرك وشكر وحسن عبادتك"، وكيف لا يشكر من قيَّض له ما يستخرج خبَثَه ونُحَاسَه، وصيَّرَه تِبْرا خالصاً يصلح لمجاورته والنظر إليه في داره؟!!

فهذه الأسباب ونحوها تثمرُ الصبرَ على البلاء؛ فإن قويت أثمرت الرضا والشكر؛ فنسأل الله أن يسترنا بعافيته، ولا يفضحنا بابتلائه، بمنّه وكرمه).


التوقيع :

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 16 ذو القعدة 1434هـ/20-09-2013م, 03:06 AM
عبد العزيز بن داخل المطيري عبد العزيز بن داخل المطيري غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 2,179
افتراضي

علاج الحُبّ الفاسد، وبيان عشر فوائد لغضّ البصر

قال رحمه الله في الجواب الكافي: (فإن قيل: مع هذ كلِّه فهل من دواء لهذا الداء العضال؟ ورقية لهذا السحر القَتَّال؟
وما الاحتيال لدفع هذا الخبال؟
وهل من طريق قاصد الى التوفيق؟
وهل يمكن السكران بخمرة الهوى أن يفيق؟
وهل يملك العاشق قلبه والعشق قد وصل الى سويدائه؟
وهل للطبيب بعد ذلك حيلة في برئه من سوء دائه؟
إن لامه لائم التذَّ بملامه لذكره لمحبوبه، وإن عذله عذل أغراه عذلُه وسار به في طريق مطلوبه؛ ينادي عليه شاهد حاله بلسان مقاله:
وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي ... متـــــــــــــأخـــــــــــــــــــر عنه ولا متقــــــــــــــــــــــدم
وأهنتني فأهنت نفسي جاهــــــــــــــــــــــــــــدا ... ما من يهــــــــــــــون عليك مــــمن يكـــــرم
أشهبـــت أعدائي فصــــــــــــــــــــــرت أحبهم ... إذ كان حـــــــــــــــــظي منك حظي منهم
أجد الملامــــــــــــــــــــــــــة في هواك لذيـــــــــذة ... حبا لذكــــــــــــــــــــــــــــرك فليلــــــــــــمني اللوم

ولعل هذا هو المقصود بالسؤال الأول الذي وَقَع عليه الاستفتاءُ، والدَّاء الذي طلب له الدواءِ.
قيل: نعم الجواب من أصله: (( وما أنزل الله سبحانه من داءٍ إلا وأنزل له دواءً علمه من علمه وجهله )) ، والكلام في دواء هذا الداء من طريقين:
أحدهما: حَسْمُ مادَّتهِ قبلَ حصولِها.
والثاني: قَلْعُها بعدَ نزولها.
وكلاهما يسيرٌ على من يسَّرَه الله عليه، ومتعذّر على من لم يعنْه اللهُ؛ فإنَّ أزمّة الأمور بيديه.
وأمَّا الطريقُ المانع من حصول هذا الداء؛ فأمران:
أحدهما: غض البصر كما تقدّم فإنَّ النظرة سهم مسموم من سهام إبليس، ومن أطلق لحظاته دامت حسراته.

وفي غض البصر عدة منافع:

أحدها: أنه امتثال لأمر الله الذي هو غاية سعادة العبد في معاشه ومعاده، وليس للعبد في دنياه وآخرته أنفع من امتثال أوامر ربه تبارك وتعالى، وما سَعِدَ من سَعِدَ في الدنيا والآخرة إلا بامتثال أوامره، وما شَقِيَ من شَقِيَ في الدنيا والآخرة إلا بتضييعِ أوامره.
الثاني: أنَّه يمنعُ من وُصولِ أثرِ السمّ المسموم الذي لعلَّ فيه هلاكُه إلى قلبه.
الثالث: أنه يورثُ القلبَ أُنساً بالله وجمعيَّة على الله؛ فإنَّ إطلاقَ البصرِ يفرِّقُ القلب ويشتِّتُه ويبعدِه من الله، وليس على العبد شيء أضرّ من إطلاق البصر؛ فإنه يوقع الوحشة بينَ العبدِ وبينَ ربِّه.
الرابع: أنه يقوّي القلبَ ويفرِحُه كما أنَّ إطلاقَ البصرِ يُضْعِفُه ويحزنُه.
الخامس: أنه يكسب القلب نوراً كما أنَّ إطلاقه يكسبه ظلمة، ولهذا ذكر سبحانه آية النور عقيب الأمر بغضِّ البصر؛ فقال: {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم} ثم قال إثر ذلك: {الله نور السموات والارض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح} أي: مَثَلُ نورِهِ في قلب عبده المؤمن الذي امتثل أوامره واجتنب نواهيه.
وإذا استنار القلب أقبلت وفود الخيرات إليه من كل جانب، كما أنه إذا أظلم أقبلت سحائب البلاء والشر عليه من كل مكان؛ فما شئتَ من بدعة وضلالة، واتباع هوى، واجتناب هدى، وإعراض عن أسباب السعادة، واشتغال بأسباب الشقاوة!!
فإنَّ ذلك إنما يكشفه له النور الذي في القلب؛ فإذا فقد ذلك النور بقي صاحبُه كالأعمى الذي يجوسُ في حنادِسِ الظلام.
السادس: أنه يورِثُ الفِرَاسة الصادقةَ التي يميّز بها بين المحقّ والمبطل، والصادق والكاذب، وكان شاه بن شجاع الكرماني يقول: (مَنْ عَمَرَ ظاهرَه باتباع السنة، وباطنه بدوام المراقبة، وغضَّ بصرَه عن المحارم، وكفَّ نفسَه عن الشهوات، واعتاد أكل الحلال: لم تخطئ له فراسة).
وكان شجاعٌ هذا لا تخطئ له فراسة، والله سبحانه يجزي العبد على عمله بما هو من جنس عمله، ومن تركَ شيئا عوضه الله خيرا منه، فإذا غضَّ بصره عن محارم الله عوَّضه الله بأن يطلق نور بصيرته؛ فعوَّضَه عن حبسه بصرَه لله، وفتح له باب العلم والإيمان والمعرفة والفراسة الصادقة المصيبة التي إنما تنالُ ببصيرة القلب.
وضدّ هذا ما وصف الله به اللوطيَّة من العَمَهِ الذي هو ضدُّ البصيرةِ؛ فقال تعالى: {لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون} ؛ فوصفهم بالسَّكْرَةِ التي هي فسادُ العقلِ، والعَمَهِ الذي هو فَسَادُ البصرِ؛ فالتعلّق بالصوَرِ يوجب فسادَ العقلِ، وعَمَهُ البصيرةِ يُسْكِرُ القلبَ؛ كما قال القائل:
سُكْرانِ سُكْر هوى وسُكْر مُدَامَةٍ ... ومتى إفاقـــــــــــــــــــــــــــــــة من به سُكـــران
وقال الآخر:
قالوا جُننتَ بمن تهوى فقلت لهــــــــــــــــم ... العشق أعظم مما بالمجــــــــــــــــــانين
العشق لا يستفيق الدهــــــــــــرَ صاحـــــــــــــبُه .. وإنما يصرع المجنون في الحــــين
السابع: أنه يورثُ القلبَ ثباتاً وشجاعةً وقوَّةً، ويجمع الله له بين سلطان البصيرة والحجة، وسلطان القدرة والقوة؛ كما في الأثر: (الذي يخالف هواه يفر الشيطان من ظله).
ومثل هذا تجد في المتبع هواه من ذلّ النفس ووضاعتها ومهانتها وخستها وحقارتها، وما جعل الله سبحانه فيمن عصاه كما قال الحسن: (إنهم وان طقطقت بهم البغال، وهملجت بهم البراذين؛ فإنَّ المعصية لا تفارق رقابهم، أبى الله إلا أن يذلَّ من عصاه).
وقد جعل الله سبحانه العزَّ قرين طاعته، والذلَّ قرين معصيته؛ فقال تعالى: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين} وقال تعالى: {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الاعلون إن كنتم مؤمنين}.
والايمان قول وعمل، ظاهر وباطن، وقال تعالى: {من كان يريد العزة فلله العزة جميعا إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه} أي من كان يريد العزة فيطلبها بطاعة الله وذِكْرِه من الكلم الطيب والعمل الصالح، وفي دعاء القنوت: (( إنَّه لا يذلّ من واليت، ولا يعزّ من عاديت )).
ومن أطاع الله فقد والاه فيما أطاعه فيه، وله من العزّ بحسب طاعته، ومن عصاه فقد عاداه فيما عصاه فيه، وله من الذل بحسب معصيته.
الثامن: أنه يسدّ على الشيطان مدخلَهَ من القلب فإنّه يدخلُ مع النظرة وينفذ معها الى القلب أسرع من نفوذ الهواءِ في المكان الخالي؛ فيمثِّلُ له صورةَ المنظورِ إليهِ ويزيّنها ويجعلها صَنَماً يعكف عليه القلب، ثم يَعِدُهُ ويمنّيه ويوقد على القلب نار الشهوة، ويلقى عليه حطبَ المعاصي التي لم يكن يتوصَّل إليها بدون تلك الصورة؛ فيصير القلب في اللهب؛ فَمِنْ ذلك اللهب تلك الأنفاسُ التي يَجِدُ فيها وَهَجَ النار، وتلك الزَفَرَات والحُرُقَات؛ فإنَّ القلبَ قد أحاطت به النيران من كلِّ جانب؛ فهو في وسطها كالشاة في وسط التنّور.
لهذا كانت عقوبة أصحابِ الشهواتِ بالصور المحرَّمَةِ أن جُعِلَ لهم في البرزخ تنّورٌ من نار، وأودعتْ أرواحَهم فيه إلى حَشْرِ أجسادِهم؛ كما أراها الله لنبيّه في المنامِ في الحديثِ المتَّفَق على صحته.
التاسع: أنّه يفرِّغُ القلبَ للفِكْرَةِ في مصالحه والاشتغالِ بها، وإطلاقُ البَصَر يشتِّتُ عليه ذلك، ويحول عليه بينه وبينها؛ فتنفرِطُ عليه أمورُه، ويقعُ في اتِّبَاع هواه، وفي الغفلة عن ذكر ربِّه؛ قال تعالى: {ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا} ، واطلاق النظر يوجب هذه الأمور الثلاثة بحسبه.
العاشر: أن بينَ العينِ والقلبِ منفذاً أو طريقاً يوجب اشتغالَ أحدِهما بالآخر، وأن يصلح بصلاحه، ويفسد بفساده؛ فإذا فسد القلبُ فسدَ النظر، وإذا فَسَدَ النظرُ فَسَدَ القلب، وكذلك في جانب الصلاح؛ فإذا خربت العين وفسدت : خرب القلب وفسد، وصار كالمزبلة التي هي محلُّ النجاساتِ والقاذوراتِ والأوساخِ؛ فلا يصلح لسكنى معرفة الله ومحبته والإنابة إليه والأنس به والسرور بقربه فيه، وإنما يسكن فيه أضداد ذلك.
فهذه إشارة إلى بعض فوائد غضّ البصر تُطْلِعُكَ على ما وراءها.

فصل:

الثاني: اشتغال القلب بما يصدّه عن ذلك ويحول بينه وبين الوقوع فيه، وهو إما خوفٌ مُقْلِقٌ أو حُبٌّ مزعجٌ؛ فمتى خلا القلبُ من خوفِ ما فواتُه أضرُّ عليه من حصولِ هذا المحبوب، أو خوفِ ما حصولُه أضرُّ عليهِ من فواتِ هذا المحبوب، أو محبَّتِه ما هو أنفعُ له وخيرٌ له من هذا المحبوب، وفواتُه أضرُّ عليه من فواتِ هذا المحبوب: لم يجدْ بُدًّا من عِشْقِ الصُّوَر.
وشرح هذا: أنَّ النفسَ لا تتركُ محبوباً إلا لمحبوبٍ أعلى منه، أو خشيةَ مكروهٍ حصولُه أضرُّ عليهِ من فوات هذا المحبوب، وهذا يحتاجُ صاحبُه إلى أمرين، إن فَقَدَ واحدًا منهما لم ينتفع بنفسه:
أحدهما: بصيرةٌ صحيحةٌ يفرِّقُ بها بينَ درجاتِ المحبوبِ والمكروه؛ فيؤثر أعلى المحبوبين على أدناهما، ويحتمل أدنى المكروهين ليتخلَّص من أعلاهما، وهذا خاصَّة العقل، ولا يُعَدُّ عاقلاً من كان بضدّ ذلك، بل قد تكون البهائم أحسن حالا منه.
الثاني: قوَّةُ عزم وصبر يتمكَّنُ بهما من هذا الفعل والترك؛ فكثيراً ما يعرف الرجل قَدْرَ التفاوُتِ، ولكن يأتي له ضعفُ نفسه وهمَّتِه وعزيمتِه على إيثارِ الأنفعِ من خِسَّتِه وحرْصِه ووضاعَةِ نفْسِه وخِسَّةِ هِمَّتِه، ومثل هذا لا ينتفع بنفسِهِ ولا ينتفع به غيرُه.
وقد منعَ اللهُ سبحانَه إمامةَ الدين إلا من أهل الصبرِ واليقين؛ فقال تعالى -وبقولِهِ يهتدِي المهتدُون-: { وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون}
وهذا هو الذي ينتفع بعلمه وينتفع به غيره من الناس، وضدّ ذلك لا ينتفع بعلمه، ولا ينتفع به غيره، ومن الناس من ينتفع بعلمه في نفسه ولا ينتفع به غيره:
- فالأوّل يمشي في نوره، ويمشي الناس في نوره.
- والثاني قد طَفِئ نورُه فهو يمشي في الظلمات ومن تَبِعَه.
- والثالث يمشي في نوره وحدَه).


التوقيع :

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 17 ذو القعدة 1434هـ/21-09-2013م, 07:05 PM
عبد العزيز بن داخل المطيري عبد العزيز بن داخل المطيري غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 2,179
افتراضي

عشرة أسباب لتخلّف العمل عن العلم

قالَ رحمه الله في "مفتاح دار السعادة": (العلمُ بكونِ الشيءِ سبباً لمصلحةِ العبد ولذاته وسروره قد يتخلَّف عنه عملُه بمقتضاه لأسبابٍ عديدة:
السبب الأول: ضعف معرفته بذلك.
السبب الثاني : عدم الأهليَّة، وقد تكون معرفته به تامة لكن يكون مشروطا بزكاة المحل وقبوله للتزكية؛ فإذا كان المحلّ غير زكيّ ولا قابل للتزكية كان كالأرض الصلدة التي لا تخالطها الماء؛ فإنه يمتنع النبات منها لعدم أهليتها وقبولها؛ فإذا كان القلبُ قاسيا حجَريا لا يقبل تزكيةً، ولا تؤثّر فيه النصائح لم ينتفع بكل علم يعلمه، كما لا تنبت الأرض الصلبة ولو أصابها كلُّ مطر، وبُذِر فيها كلُّ بذر، كما قال تعالى في هذا الصنف من الناس: {إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم}، وقال تعالى: {ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله} وقال تعالى: {قل انظروا ماذا في السموات والأرض وما تغنى الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون} وهذا في القرآن كثير.
فإذا كان القلب قاسيا غليظاً جافياً لا يعمل فيه العلم شيئاً، وكذلك إذا كان مريضاً مهيناً مائياً لا صلابةَ فيه، ولا قوَّة ولا عزيمة لم يؤثِّرْ فيه العلم.
السبب الثالث: قيامُ مانعٍ وهو إما حسدٌ أو كِبْرٌ، وذلك مانع إبليس من الإنقياد للأمر وهو داء الأولين والآخرين إلا من عصم الله.
- وبه تخلَّفَ الإيمان عن اليهود الذين شاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفوا صحَّة نبوَّتِه، ومن جرى مجراهم.
- وهو الذي منع عبدَ الله بنَ أبيٍّ من الإيمان.
- وبه تخلَّف الإيمانُ عن أبي جهل وسائر المشركين؛ فإنهم لم يكونوا يرتابون في صدقه، وأنَّ الحق معه لكن حملهم الكِبْرُ والحسدُ على الكفر.
- وبه تخلَّف الإيمانُ عن أميَّة وأضرابه ممن كان عنده علم بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم.

السبب الرابع: مانعُ الرياسَةِ والملكِ، وإن لم يقم بصاحبه حَسَدٌ ولا تكبُّر عن الانقيادِ للحقّ، لكن لا يمكنه أن يجتمع له الانقياد وملكه ورياسته؛ فيَضِنُّ بملكه ورياسته؛ كحالِ هِرَقل وأضرابه من ملوك الكفار الذين علموا نبوَّته وصدقَه وأقروا بها باطناً، وأحبّوا الدخول في دينه، لكن خافوا على ملكهم!!
- وهذا داء أربابِ الملك والولاية والرياسة، وقلَّ من نجا منه إلا من عصَمَ الله.
- وهو داءُ فرعون وقومه، ولهذا قالوا: {أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون}؛ أَنِفُوا أن يؤمنوا، ويتبعوا موسى وهارون وينقادوا لهما، وبنو إسرائيل عبيدٌ لهم.
ولهذا قيل: إن فرعون لما أراد متابعةَ موسى وتصديقَه شاورَ هامان وزيرَه؛ فقال: بينا أنتَ إِلهٌ تُعْبَدْ تصيرُ عبداً تَعْبُدُ غيرَك؛ فأبى العبوديَّة، واختارَ الرياسةَ والإلهيةَ المُحال.

السبب الخامس: مانعُ الشهوةِ والمالِ، وهو الذي منع كثيراً من أهل الكتاب من الإيمان خوفا من بطلان مأكَلِهم وأموالِهم التي تصير إليهم من قومهم، وقد كانت كفارُ قريش يصدّون الرجلَ عن الإيمان بحسب شهوته فيدخلون عليه منها؛ فكانوا يقولون لمن يحب الزنا: إن محمدا يحرم الزنا، ويحرم الخمر، وبه صدّوا الأعشى الشاعر عن الاسلام.
وقد فاوضتُ غيرَ واحدٍ من أهل الكتاب في الإسلام وصحَّته؛ فكان آخر ما كلَّمَني به أحدُهُم: أنا لا أترك الخمر، وأشربها آمناً؛ فإذا أسلمتُ حِلْتُم بيني وبينها، وجلدتموني على شربها.
وقال آخر منهم بعد أن عرف ما قلت له: لي أقارب أرباب أموال وإني إن أسلمت لم يصل إلي منها شيء، وأنا أؤمل أن أرثهم أو كما قال، ولا ريبَ أن هذا القدر في نفوس خلق كثير من الكفار فتتَّفِق قوَّة داعي الشهوة والمال، وضعف داعي الإيمانِ؛ فيجيب داعي الشهوة والمال، ويقول: لا أرغب بنفسي عن آبائي وسلفي.
السبب السادس: محبَّةُ الأَهْلِ والأقاربِ والعشيرةِ، يرى أنَّهُ إذا اتَّبَع الحقَّ وخالفَهم أبعدوه وطردوه عنهم، وأخرجوه من بين أظهرهم، وهذا سبب بقاءِ خلقٍ كثيرٍ على الكفر بين قومِهم وأهاليهم وعشائرهم.

السبب السابع : محبَّةُ الدارِ والوطنِ وإن لم يكن له بها عشيرة ولا أقارب، لكن يرى أنَّ في متابعة الرسول خروجُه عن داره ووطنه إلى دار الغربة والنوى فيضِنُّ بوَطَنِه.
السبب الثامن : تَخَيُّلُ أنَّ في الإسلامِ ومتابعةِ الرسولِ إزراءً وطعناً منه على آبائه وأجداده، وذمّا لهم، وهذا هو الذي منع أبا طالب وأمثاله عن الإسلام، استعظموا آباءهم وأجدادهم أن يشهدوا عليهم بالكفر والضلال، وأن يختاروا خلاف ما اختار أولئك لأنفسهم، ورأوا أنهم إن أسلموا سفَّهُوا أحلامَ أولئك، وضلَّلُوا عقولَهم، ورموهم بأقبح القبائح، وهو الكفر والشرك.
ولهذا قالَ أعداءُ اللهِ لأبي طالب عند الموت: (ترغب عن مِلَّةِ عبد المطلب؟!!)
فكان آخر ما كلَّمهم به: هو على ملة عبد المطلب.
فلَمْ يَدْعُهُ أعداءُ الله إلا من هذا الباب، لعلمهم بتعظيمه أباه عبدَ المطلب، وأنَّهُ إنَّما حازَ الفَخَر والشَّرَفَ به؛ فكيف يأتي أمراً يلزم منه غاية تنقيصه وذمه؟!!
ولهذا قال: لولا أن تكون مسبَّة على بني عبد المطلب لأقررت بها عينك، أو كما قال.
وهذا شعره يصرِّحُ فيه بأنه قد عَلِمَ وتحقَّقَ نبوَّةَ محمَّدٍ صلى الله عليه وآله وسلَّمَ وَصِدْقَه، كقوله:

ولقـــــــد علــــمـــت بــــأن ديــــن مـحــمــــدٍ.......مــــــن خــــيـــر أديــــان الــبــرية ديـــنــا
لـــــولا المـــلامــــــــــــة أو حــــذار مســبـــــــة....... لـوجدتـنـي سـمــحــا بــذاك مـــبــيـنــا
وفي قصيدته اللامية:
فو الله لولا أن تكون مسبـــــــــــــة.......تجر على أشياخنا في المحافل
لكنا اتبعنـــــــاه على كل حالـــــــة.......من الدهر جدا غير قول التهازل
لقد علموا أن ابننا لا مكـــــــــذَّب.......لدينا ولايعنى بقـــــــــــــــــول الأباطل
والمسبّة التي زعم أنها تُجَرُّ على أشياخِهِ شهادَتُه عليهم بالكفرِ والضَّلالِ وتَسْفِيهِ الأحلامِ وتضليلِ العقولِ؛ فهذا هو الذي منعه من الإسلام بعد تيقّنِه.
السبب التاسع : متابعة من يعاديه من النَّاسِ للرَّسول، وَسَبْقِه إلى الدخول في دينه، وتخصُّصِه وقربه منه، وهذا القدر منع كثيراً من اتِّبَاع الهدى، يكونُ للرجلِ عدوٌّ، ويبغض مكانه، ولا يحبُّ أرضاً يمشي عليها، ويقصد مخالفته ومناقضته؛ فيراه قد اتَّبع الحقَّ؛ فيحمله قصد مناقضته ومعاداته على معاداة الحق وأهله، وإن كان لا عداوة بينه وبينهم، وهذا كما جرى لليهود مع الأنصار فإنَّهم كانوا أعداءَهم، وكانوا يتواعدونهم بخروج النبي صلى الله عليه وسلَّمَ، وأنهم يتَّبعونه ويقاتلونهم معه؛ فلما بدرهم إليه الأنصارُ وأسلموا حملهم معاداتُهم على البقاءِ على كُفْرِهم ويهوديَّتِهم.

السبب العاشر: مانعُ الإلفِ والعادَةِ والمنشأِ؛ فإنَّ العادةَ قد تقوى حتى تغلبَ حُكْمَ الطبيعةِ، ولهذا قيل: هي طبيعة ثانية؛ فيربى الرجل على المقالة، وينشأ عليها صغيراً؛ فيتربَّى قلبُه ونفسُه عليها؛ كما يتربَّى لحمُه وعظمُه على الغذاء المعتاد، ولا يعقل نفسه إلا عليها، ثم يأتيه العلم وهلةً واحدة، يريد إزالتها وإخراجها من قلبه، وأن يسكن موضعها؛ فيعسرُ عليه الانتقالُ ويصعب عليه الزوالُ!!
وهذا السبب وإن كان أضعفَ الأسبابِ معنى؛ فهو أغلبها على الأمم وأرباب المقالات والنِّحَل، ليس مع أكثرهم بل جميعهم -إلا ما عسى أن يشذَّ- إلا عادةٌ ومَرْبَى تربَّى عليه طِفلاً لا يعرف غيرها، ولا يحسُّ به؛ فدينُ العوائدِ هو الغالبُ على أكثرِ النَّاسِ؛ فالانتقال عنه كالانتقال عن الطبيعة إلى طبيعةٍ ثانية!!
فصلوات الله وسلامه على أنبيائه ورسله خصوصاً على خاتمهم وأفضلهم محمد صلى الله عليه وسلم؛ كيف غيَّروا عوائد الأمم الباطلة، ونقلوهم إلى الإيمان حتى استحدثوا به طبيعة ثانية خرجوا بها عن عادتهم وطبيعتهم الفاسدة؟!!
ولا يعلم مشقَّةَ هذا على النفوس إلا من زاول نَقْلَ رَجُلٍ واحدٍ عن دِينِه ومقالَتِه إلى الحق؛ فجزى الله المرسلين أفضل ما جزى به أحداً من العالمين.

إذا عرف أن المقتضي نوعان: فالهدى المقتضي -وحدَه -لا يوجب الاهتداء ، والهدى التام يوجب الاهتداء
فالأول
: هدى البيان الدلالة والتعليم، ولهذا يقال: هُدِيَ فما اهتدَى.
والثاني: هدى البيان والدلالة مع إعطاء التوفيق وخَلْقِ الإرادة؛ فهذا الهُدَى الذي يسلتزم الاهتداء، ولا يتخلف عنه موجَبه؛ فمتى وُجِدَ السَّبَبُ وانتفتِ الموانعُ لزم وجود حكمه.

وههنا دقيقة بها ينفصل النزاع وهي أنه هل ينعطف من قيام المانع وعدم الشرط إلى المقتضي أمر يضعفه في نفسه ويسلبه اقتضاءه وقوَّتَه أو الاقتضاء بحاله، وإما غلب المانع فكان التأثير له؟
ومثال ذلك في مسألتنا: أنه بوجود هذه الموانع المذكورة أو بعضها هل يضعفُ العلمُ حتى لا يصير مؤثرا ألبتة؟
أو العلم بحالِه ولكن المانع بقوَّتِه غلبَ؛ فكان الحكم له؟
هذا سرّ المسألة وفقهها؛ فأما الأول فلا شكَّ فيه ، ولكن الشأن في القسم الثاني وهو بقاء العلم بحاله والتحقيق أن الموانع تحجبه وتعميه وربما قلبت حقيقته من القلب، والقرآن قد دلَّ على هذا قال تعالى: {وإذ قال موسى لقومه يا قوم لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين}؛ فعاقبهم سبحانه بإزاغة قلوبهم عن الحق لما زاغوا عنه ابتداء، ونظيره قوله تعالى: {ونقلّب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون}.
ولهذا قيل: من عُرِضَ عليه حق فردَّه؛ فلم يقبلْه عوقب بفساد قَلبِه وعَقْلِه ورَأيه.
ومن هنا قيل: لا رأي لصاحبِ هوى؛ فإنَّ هواهُ يحمله على ردِّ الحقِّ فيفسدُ الله عليهِ رأيَهُ وعقلَهُ، قال تعالى: {فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الانبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف} أخبرَ سُبْحَانَه أنَّ كُفْرَهُم بالحقِّ بعد أن عَلِمُوهُ كان سبباً لِطَبْعِ اللهِ على قلوبهم، {بل طبع الله عليها بكفرهم} حتى صارت غُلْفَا، والغُلْفُ جمعُ أغلَف، وهو القلب الذي قد غَشِيَه غلافٌ كالسيفِ الذي في غلافه، وكلُّ شيء في غلافه فهو أغلف، وجمعه غلف.
يقال: سيف أغلف، وقوس غلفاء، ورَجُلٌ أغلفُ وأقْلَفُ، إذا لم يُختَن.
والمعنى: قلوبنا عليها غشاوةٌ وغِطَاء؛ فلا تَفْقَهُ ما تقولُ يا محمد - صلى الله عليه وسلَّم- ولمْ تَعِ شيئا).



التوقيع :

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 17 ذو القعدة 1434هـ/21-09-2013م, 07:26 PM
عبد العزيز بن داخل المطيري عبد العزيز بن داخل المطيري غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 2,179
افتراضي

عشرة حُجُب بين العبد وربه

قال رحمه الله في "مدارج السالكين": (المكاشفةُ الصحيحةُ علومٌ يُحْدِثُها الرَّبُّ سبحانه وتعالى في قلبِ العبدِ، ويطْلِعُهُ بها على أمورٍ تخفى على غيرِه، وقد يُواليها وقد يُمْسِكُها عنه بالغفلةِ عنها، ويواريها عنه بالغين الذي يغشَى قلبَه وهو أرقُّ الحجبِ أو بالغيمِ وهو أغلظُ منه أو بالرَّانِ وهو أشدّها فالأوَّل يقع للأنبياء عليهم السلام كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (( إنَّه لَيُغان على قلبي وإني لأستغفر الله أكثر من سبعين مرة))
والثاني يكون للمؤمنين، والثالث لمن غلبت عليه الشقوة؛ قال الله تعالى: {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون}
قال ابن عباس وغيره: (هو الذنب بعد الذنب يغطي القلب حتى يصير كالران عليه).
والحُجُبُ عَشَرَة:
- حِجَابُ التعطيل ونفيِ حقائقِ الأسماء والصفات وهو أغلظُها؛ فلا يتهيَّأ لصاحبِ هذا الحجابِ أن يعرفَ اللهَ ولا يصل إليه ألبتة إلا كما يتهيَّأ للحجر أن يصعدَ إلى فوق.
الثاني: حجاب الشرك ، وهو أن يتعبَّد قلبه لغير الله.
الثالث: حجاب البدعة القولية ؛ كحجاب أهل الأهواء والمقالات الفاسدة على اختلافها.
الرابع : حجاب البدعة العملية ؛ كحجاب أهل السلوك المبتدعين في طريقهم وسلوكهم.
الخامس : حجاب أهل الكبائر الباطنة؛ كحجاب أهل الكبر والعجب والرياء والحسد والفخر والخيلاء ونحوها.
السادس: حجاب أهل الكبائر الظاهرة، وحجابهم أرقّ من حجاب إخوانهم من أهل الكبائر الباطنة مع كثرة عباداتهم وزهاداتهم واجتهاداتهم؛ فكبائر هؤلاء أقرب إلى التوبة من كبائر أولئك؛ فإنَّها قد صارت مقامات لهم لا يتحاشون من إظهارها وإخراجها في قوالب عبادة ومعرفة؛ فأهلُ الكبائر الظاهرة أدنى إلى السلامة منهم، وقلوبهم خير من قلوبهم.
السابع: حجاب أهل الصغائر.
الثامن: حجاب أهل الفضلات والتوسع في المباحات.
التاسع: حجاب أهل الغفلة عن استحضارِ ما خُلقوا له وأريد منهم وما لله عليهم من دوام ذكره وشكره وعبوديته.
العاشر: حجاب المجتهدين السالكين المشمرين في السير عن المقصود.
فهذه عشر حجب بين القلب وبين الله سبحانه وتعالى تحول بينه وبين هذا الشأن، وهذه الحجب تنشأ من أربعة عناصر:
- عنصر النفس.
- وعنصر الشيطان.
- وعنصر الدنيا.
- وعنصر الهوى.
فلا يمكن كشف هذه الحجب مع بقاء أصولها وعناصرها في القلب ألبتة، وهذه الأربعة العناصر تفسد القول والعمل والقصد والطريق بحسب غلبتها وقلَّتها؛ فتقطع طريق القول والعمل والقصد أن يصل إلى القلب، وما وصل منه إلى القلب قطعت عليه الطريق أن يصل إلى الربّ؛ فبين القول والعمل وبين القلب مسافة يسافر فيها العبد إلى قلبه ليرى عجائب ما هنالك، وفي هذه المسافة قطَّاع الطريق المذكورون؛ فإن حاربهم وخلصَ العملُ إلى قلبه دار فيه وطلب النفوذ من هناك إلى الله؛ فإنه لا يستقرُّ دون الوصول إليه، {وأن إلى ربك المنتهى} فإذا وصل إلى الله سبحانه أثابه عليه مزيدا في إيمانه ويقينه ومعرفته وعقله، وجمَّل به ظاهرَه وباطنَه؛ فهداه به لأحسن الأخلاق والأعمال، وصرف عنه به سيء الأخلاق والأعمال، وأقام الله سبحانه من ذلك العمل للقلب جنداً يحارب به قطّاع الطريق للوصول إليه :
- فيحارب الدنيا بالزهد فيها وإخراجها من قلبه، ولا يضرُّه أن تكونَ في يده وبيته، ولا يمنعُ ذلك من قوَّة يقينه بالآخرة.
- ويحارب الشيطانَ بترك الاستجابةِ لداعي الهوى؛ فإنَّ الشيطانَ مع الهوى لا يفارقه.
- ويحارب الهوى بتحكيم الأمر المطلق، والوقوف معه بحيث لا يبقى له هوى فيما يفعله ويتركه.
- ويحارب النفس بقوَّةِ الإخلاص.
هذا كله إذا وجد العملُ منفذا من القلبِ إلى الربِّ سبحانه وتعالى، وإن دار فيه ولم يجد منفذا وَثَبَتْ عليه النفسُ فأخذته وصيرته جندا لها؛ فصالت به وعلَت وطغَت؛ فتراه أزهدَ ما يكون وأعبدَ ما يكون وأشدَّه اجتهاداً، وهو أبعد ما يكون عن الله!!
وأصحاب الكبائر أقربُ قلوباً إلى الله منه، وأدنى منه إلى الإخلاص والخلاص!!
- فانظر إلى السَّجَّاد العَبَّاد الزَّاهد الذي بين عينيه أثر السجودِ؛ كيف أورثه طغيانُ عملِه أن أنكرَ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم؟!
وأورث أصحابَه احتقارَ المسلمين حتى سلُّوا عليهم سيوفَهم واستباحُوا دماءَهم.

- وانظر إلى الشرِّيب السكِّير الذي كان كثيراً ما يؤتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيحدُّه على الشراب؛ كيف قامت به قوَّة إيمانه ويقينه ومحبته لله ورسوله وتواضعه وانكساره لله حتى نهى رسول الله عن لعنته؟!!
فظهر بهذا أن طغيانَ المعاصي أسلم عاقبةً من طغيان الطاعات.
وقد روى الإمامُ أحمدُ في كتابِ الزهدِ أنَّ الله سبحانه أوحى إلى موسى: [يا موسى أنذر الصدِّيقين فإني لا أضعُ عدلي على أحد إلا عذَّبتُه من غير أن أظلمَه، وبشِّر الخطَّائين فإنَّه لا يتعاظَمُنِي ذنبٌ أن أغفره] ).


التوقيع :

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 17 ذو القعدة 1434هـ/21-09-2013م, 07:38 PM
عبد العزيز بن داخل المطيري عبد العزيز بن داخل المطيري غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 2,179
افتراضي

عشرة أسباب لمغفرة الذنوب ومحْو آثار السيئات
قال رحمه الله في كتابه "عدة الصابرين": (باب المنهيَّات يَمْحُوهُ الله سبحانه ويبطل أثرَه بأمورٍ عديدةٍ من فِعْلِ العَبْدِ وغيرِه؛ فإنه يبطلُه بالتوبةِ النَّصوحِ، وبالاستغفارِ، وبالحسنات الماحيةِ، وبالمصائبِ المكفِّرةِ، وباستغفار الملائكة، وبدعاء المؤمنين؛ فهذه ستة في حال حياته.
- وبتشديدِ الموتِ وكَرْبِهِ وسياقِه عليه؛ فهذا عندَ مفارقته الدنيا.
- وبهَوْلِ المُطَّلَعِ، ورَوْعَةِ الملَكين في القبر، وضغطته وعصرته له، وشدَّةِ الموقفِ وعنائه وصعوبتِه، وبشفاعة الشافعين فيه، وبرحمةِ أرحمِ الراحمين له.
فإن عجزت عنه هذه الأمور؛ فلا بدَّ له من دخولِ النار، ويكونُ لُبْثُهُ فيها على قدرِ بقاءِ خُبْثِهِ ودَرَنِهِ؛ فإنَّ الله حرَّمَ الجَنَّةَ إلا على كل طيَّبٍ؛ فما دامَ دَرَنُه ووَسَخُه وَخُبْثُه فيه فهو في كير التطهير حتى يتصفَّى).


وهو ملخَّص من كلام لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كرره في مواضع من كتبه، ومنها قوله في رسالة "أمراض القلوب وشفاؤها" : (المؤمن إذا فعل سيئة فإن عقوبته تندفع عنه بعشرة أسباب:
- أن يتوب فيتوب الله عليه؛ فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له.
- أو يستغفر فيغفر له.
- أو يعمل حسنات تمحوها؛ فإنَّ الحسنات يذهبن السيئات.
- أو يدعو له إخوانه المؤمنون، ويشفعون له حيا وميتا.
- أو يهدون له من ثواب أعمالهم لينفعه الله به.
- أو يشفع فيه نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
- أو يبتليه الله في الدنيا بمصائب تُكفِّرُ عنه.
- أو يبتليه في البرزخ والصعقة؛ فيكفَّر بها عنه.
- أو يبتليه في عرصات القيامة من أهوالها بما يكفَّر عنه.
- أو يرحمه أرحم الراحمين.
فمن أخطأته هذه العشرةُ فلا يلومنَّ إلا نفسَه كما قالَ تعالى فيما يروي عنه رسوله: (يا عبادي إنَّما هي أعمالُكم أُحصِيها لكم ثمَّ أوفِّيكم إيَّاها؛ فمن وجدَ خيراً فليحمدِ الله، ومن وَجَدَ غيرَ ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسَه).

ولشيخ الإسلام بسط طويل في شرح هذه الأسباب في كتاب الإيمان الأوسط.


التوقيع :

رد مع اقتباس
  #9  
قديم 17 ذو القعدة 1434هـ/21-09-2013م, 07:42 PM
عبد العزيز بن داخل المطيري عبد العزيز بن داخل المطيري غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 2,179
افتراضي

عشرة أسباب لانشراح الصدر

قال رحمه الله في "زاد المعاد": (فصل: فى أسباب شَرْحِ الصّدورِ، وحصولِها على الكمالِ له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- فأعظم أسباب شرح الصدر: التوحيدُ وعلى حسب كماله، وقوته، وزيادته يكونُ انشراحُ صدر صاحبه، قال الله تعالى: {أَفَمَن شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّنْ رَبِّه} [الزمر: 22]. وقال تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسْلاَمِ، وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى السَّمَاءِ} [الأنعام: 125].
- فالهُدى والتوحيدُ مِن أعظم أسبابِ شرح الصدر، والشِّركُ والضَّلال مِن أعظم أسبابِ ضيقِ الصَّدرِ وانحراجِه.
- ومنها: النورُ الذى يقذِفُه الله فى قلب العبد، وهو نورُ الإيمان، فإنه يشرَحُ الصدر ويُوسِّعه، ويُفْرِحُ القلبَ؛ فإذا فُقِدَ هذا النور من قلبِ العبدِ، ضاقَ وحَرِجَ، وصارَ فى أضيقِ سجنٍ وأصعبه.
وقد روى الترمذى فى جامعه عن النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه قال: (( إذا دَخَلَ النور القلبَ، انْفَسَحَ وانشرحَ )).
قالوا: وما عَلاَمَةُ ذَلِكَ يَا رسُولَ اللهِ؟ قال: (( الإنَابَةُ إلى دارِ الخُلُودِ، والتَجَافِى عَنْ دَارِ الغُرُورِ، والاسْتِعْدادُ للمَوْتِ قَبْلَ نُزوله )).
فيُصيب العبد من انشراح صدْرِه بحسبِ نصيبِه من هذا النُّورِ، وكذلكَ النورُ الحِسِّى، والظلمةُ الحِسِّية، هذه تشرحُ الصدْر، وهذه تُضيِّقه.

- ومنها: العلم، فإنه يشرح الصدر، ويوسِّعه حتى يكون أَوسعَ من الدنيا، والجهلُ يورثه الضِّيق والحَصْر والحبس، فكلما اتَّسع علمُ العبد، انشرح صدره واتسع، وليس هذا لكل عِلم، بل للعلم الموروث عن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو العلمُ النافع، فأهلُه أشرحُ الناس صدراً، وأوسعهم قلوباً، وأحسُنهم أخلاقاً، وأطيبُهم عيشاً.
- ومنها: الإنابةُ إلى الله سبحانه وتعالى، ومحبتُه بكلِّ القلب، والإقبالُ عليه، والتنعُّم بعبادته، فلا شيءَ أشرحُ لصدرِ العبدِ من ذلك؛ حتى إنه ليقولُ أحياناً: إن كنتُ فى الجنة فى مثل هذه الحالة، فإني إذاً فى عيش طيب، وللمحبة تأثيرٌ عجيبٌ فى انشراح الصدر، وطيبِ النفس، ونعيم القلب، لا يعرفه إلا مَن أحسَّ به، وكلَّما كانت المحبَّة أقوى وأشدَّ، كان الصدرُ أفسحَ وأشرحَ، ولا يَضيق إلا عند رؤية البطَّالين الفارِغين من هذا الشأن، فرؤيتُهم قَذَى عينِه، ومخالطتُهم حُمَّى روحه.
ومِنْ أعظم أَسباب ضيق الصدر: الإعراضُ عن الله تعالى، وتعلُّقُ القلب بغيره، والغفلةُ عن ذِكره، ومحبةُ سواه، فإن مَن أحبَّ شيئاً غيرَ الله عُذِّبَ به، وسُجِنَ قلبُه فى محبة ذلك الغير، فما فى الأرض أشقى منه، ولا أكسف بالاً، ولا أنكد عيشاً، ولا أتعب قلباً، فهما محبتان: محبة هى جنة الدنيا، وسرور النفس، ولذةُ القلب، ونعيم الروح، وغِذاؤها، ودواؤُها، بل حياتُها وقُرَّةُ عينها، وهى محبةُ الله وحدَه بكُلِّ القلب، وانجذابُ قوى الميل، والإرادة، والمحبة كلِّها إليه.
ومحبةٌ هى عذاب الروح، وغمُّ النفس، وسِجْنُ القلب، وضِيقُ الصدر، وهى سببُ الألم والنكد والعناء، وهى محبة ما سواه سبحانه.
- ومن أسباب شرح الصدر: دوامُ ذِكرِه على كُلِّ حال، وفى كُلِّ موطن، فللذِكْر تأثير عجيبٌ فى انشراحِ الصَّدْرِ، ونعيم القلبِ، وللغفلةِ تأثيرٌ عجيبٌ فى ضِيقِه وحَبْسِه وعذابه.
- ومنها: الإحسانُ إلى الخَلْق ونفعُهم بما يمكنه من المال والجاهِ والنفع بالبدن، وأنواع الإحسان؛ فإن الكريمَ المحسنَ أشرحُ الناس صدراً، وأطيبُهم نفساً، وأنعمُهم قلباً، والبخيلُ الذى ليس فيه إحسان أضيقُ الناسِ صدراً، وأنكدُهم عيشاً، وأعظمُهم همَّاً وغمَّاً.
وقد ضربَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الصحيح مثلاً للبخيلِ والمتصدِّق، كمَثَل رَجُلينِ عليهما جُبَّتانِ مِنْ حديدٍ، كلَّما هَمَّ المُتَصَدِّقُ بصَدَقَةٍ، اتَّسَعتْ عليهِ وانبسَطَتْ، حتَّى يَجُرَّ ثيابَهُ وَتعفّيَ أثَرهُ، وكلما همَّ البخيلُ بِالصَّدَقَةِ، لَزِمَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ مَكَانَهَا، وَلَمْ تَتَّسِعْ عَلَيْهِ.
فهذا مَثَلُ انشِراحِ صدر المؤمن المتصدِّق، وانفساح قلبه، ومثلُ ضِيقِ صدر البخيل وانحصارِ قلبه.
- ومنها: الشجاعة، فإنَّ الشجاعَ منشرحُ الصدر، واسع البِطَان، متَّسِعُ القلبِ، والجبانُ: أضيقُ الناس صدراً، وأحصرُهم قلباً، لا فرحةَ له ولا سرور، ولا لذَّةَ له، ولا نعيمَ إلا منْ جنس ما للحيوانِ البهيميِّ، وأما سرورُ الرُّوحِ ولذَّتُها ونعيمُها وابتهاجُها، فمحرَّمٌ على كل جَبانٍ، كما هو محرَّم علِى كل بخيلٍ، وعلى كُلِّ مُعرِضٍ عن الله سبحانه، غافلٍ عن ذِكرِه، جاهلٍ به وبأسمائه تعالى وصفاته ودِينه، متعلِّق القلبِ بغيره.
وإنَّ هذا النعيمَ والسرورَ يصير فى القبرِ رياضاً وجَنة، وذلك الضيقُ والحصر ينقلبُ فى القبر عذاباً وسجناً؛ فحال العبد فى القبر. كحال القلب فى الصدر، نعيماً وعذاباً وسجناً وانطلاقاً، ولا عبرةَ بانشراح صدر هذا لعارض، ولا بضيق صدرِ هذا لعارض، فإن العوارِضَ تزولُ بزوال أسبابها، وإنما المعوَّلُ على الصِّفة التى قامت بالقلب تُوجب انشراحه وحبسه، فهى الميزان.. والله المستعان.

- ومنها بل من أعظمها: إخراجُ دَغَلِ القَلْبِ من الصفات المذمومة التى تُوجب ضيقه وعذابه، وتحولُ بينه وبين حصول البُرء، فإن الإنسان إذا أتى الأسباب التى تشرحُ صدره، ولم يُخرِجْ تلك الأوصافَ المذمومة من قلبه، لم يحظَ مِن انشراح صدره بطائل، وغايته أن يكون له مادتان تعتوِرَانِ على قلبه، وهو للمادة الغالبة عليه منهما.
- ومنها: تركُ فضولِ النظر، والكلام، والاستماع، والمخالطةِ، والأكل، والنوم، فإن هذه الفضولَ تستحيلُ آلاماً وغموماً، وهموماً فى القلب، تحصُرُه، وتحبِسه، وتضيِّقهُ، ويتعذَّبُ بها، بل غالِبُ عذابِ الدنيا والآخرة منها، فلا إله إلا اللهُ ما أضيقُ صدَر مَن ضرب فى كل آفةٍ من هذه الآفات بسهم، وما أنكَدَ عيشَه، وما أسوأ حاله، وما أشدَّ حصرَ قلبه، ولا إله إلا الله، ما أنعمَ عيشَ مَنْ ضرب فى كل خَصلةٍ من تلك الخصال المحمودة بسهم، وكانت همتُّه دائرةً عليها، حائمةً حولها، فلهذا نصيب وافر مِنْ قوله تعالى: {إنَّ الأَبْرَارَ لَفِى نَعِيم} [الانفطار: 13] ولذلك نصيب وافر من قوله تعالى: {وإنَّ الفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍ} [الانفطار: 14] وبينهما مراتبُ متفاوتة لا يُحصيها إلا الله تبارك وتعالى.
والمقصود: أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان أكملَ الخلق فى كلِّ صفة يحصُل بها انشراحُ الصدر، واتِّساعُ القلب، وقُرَّةُ العين، وحياةُ الروح، فهو أكملُ الخلق فى هذا الشرح والحياة، وقُرَّةِ العين مع ما خُصَّ به من الشرح الحِسِّىِّ،
وأكملُ الخلق متابعة له، أكملُهم انشراحاً ولذَّة وقُرَّة عين، وعلى حسب متابعته ينالُ العبد من انشراح صدره وقُرَّة عينه، ولذَّة روحه ما ينال، فهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى ذُروة الكمال مِن شرح الصدر، ورفع الذِكْر، ووضع الوِزْر، ولأتباعه من ذلك بحسب نصيبهم من اتِّباعه.. والله المستعانُ.
وهكذا لأتباعه نصيبٌ من حفظ الله لهم، وعصمتِه إياهم، ودفاعِه عنهم، وإعزازه لهم، ونصرِه لهم، بحسب نصيبهم من المتابعة، فمستقِلُّ ومستكثِر، فمَن وجد خيراً، فليحمد الله. ومَن وجد غير ذلك، فلا يلومنَّ إلا نفسه).


التوقيع :

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 17 ذو القعدة 1434هـ/21-09-2013م, 08:49 PM
عبد العزيز بن داخل المطيري عبد العزيز بن داخل المطيري غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 2,179
افتراضي

عشرة موارد للذكر في القرآن الكريم


قال رحمه الله في "مدارج السالكين" في موارد الذكر في القرآن الكريم: (فصل: وهو في القرآن على عشرة أوجه:
الأول: الأمرُ به مطلقا ومقيدا.
الثاني: النهيُ عن ضدِّه من الغفلةِ والنسيان.
الثالث: تعليقُ الفلاحِ باستدامتِه وكثرتِه.
الرابع: الثناءُ على أهلهِ، والإخبارُ بما أعدَّ الله لهم من الجنة والمغفرة.
الخامس: الإخبارُ عن خُسرانِ من لَها عنه بغيره.
السادس: أنَّه سبحانه جعلَ ذِكْرَهُ لهم جزاءَ لذِكْرِهِم له.
السابع: الإخبارُ أنَّه أكبرُ من كلَّ شيء.
الثامن: أنه جعلَه خاتمةَ الأعمالِ الصالحةِ كما كان مفتاحَها.
التاسع: الإخبارُ عن أهلِه بأنَّهم هم أهلُ الانتفاعِ بآياتهِ وأنَّهمْ أولو الألبابِ دونَ غيرهم.
العاشر: أنه جعلَه قرينَ جميعِ الأعمالِ الصالحةِ ورُوحَها فمتَى عَدِمَتْهُ كانت كالجسدِ بلا رُوح.

فصل في تفصيل ذلك:
- أما الأول: فكقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيما}، وقوله تعالى: {واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة}، وفيه قولان:
أحدهما: في سرِّكَ وقلبِكَ.
والثاني: بلسَانِك بحيثُ تُسْمِعُ نفسَك.
- وأما النهيُ عن ضدِّهِ؛ فكقوله: {ولا تكن من الغافلين}، وقوله: {ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم}.
- وأما تعليق الفلاح بالإكثار منه ؛ فكقوله: {واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون}.
- وأما الثناءُ على أهله وحسنِ جزائِهم ؛ فكقوله: {إن المسلمين والمسلمات..} إلى قوله: {والذاكرين الله كثيراً والذاكرات أعدَّ الله لهم مغفرة وأجراً عظيما}.
- وأما خُسْران من لها عنه ؛ فكقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون}.
- وأما جعل ذِكْرِهِ لهم جزاءً لِذِكْرِهِمْ له ؛ فكقوله: {فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون}
- وأما الإخبارُ عنه بأنَّه أكبرُ من كلِّ شيء ؛ فكقوله تعالى: {اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر} ، وفيها أربعة أقوال:
* أحدها: أنَّ ذِكْرَ اللهِ أكبرُ من كلِّ شيء فهو أفضلُ الطاعات لأن المقصودَ بالطاعات كلها إقامةُ ذكرِه؛ فهو سرُّ الطاعاتِ ورُوحها.
* الثاني: أنَّ المعنى: أنكم إذا ذكرتموه ذكَرَكم فكان ذِكْرُه لكم أكبرُ من ذكرِكُم له؛ فعلى هذا: المصدر مضاف إلى الفاعل، وعلى الأول: مضاف إلى المذكور.
* الثالث: أنَّ المعنى: ولذكر الله أكبرُ من أن يبقى معه فاحشة ومنكر، بل إذا تم الذِّكْرُ مَحَقَ كلَّ خطيئةٍ ومعصيةٍ.
هذا ما ذكره المفسرون.

* وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: (معنى الآية: أن في الصلاة فائدتين عظيمتين إحداهما : نهيها عن الفحشاء والمنكر، والثانية : اشتمالها على ذكر الله وتضمنها له، ولَمَا تضمنتْهُ من ذِكْرِ اللهِ أعظمُ من نهيها عن الفحشاء والمنكر).
- وأما ختم الأعمال الصالحة به؛ فكما ختم به عمل الصيام بقوله : {ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون}، وختم به الحج في قوله: {فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا}.
وختم به الصلاة كقوله: {فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم}.
وختم به الجمعة كقوله: {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون}.
ولهذا كان خاتمة الحياة الدنيا، وإذا كان آخر كلام العبد: أدخله الله الجنة.
- وأما اختصاص الذاكرين بالانتفاع بآياته وهم أولو الألباب والعقول؛ فكقولِهِ تعالى: {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولى الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعوداوعلى جنوبهم}.
- وأما مصاحبتُه لجميعِ الأعمالِ واقترانِهِ بها وأنَّه رُوحُها: فإنَّه سبحانه قرَنَه بالصَّلاةِ كقوله: {وأقم الصلاة لذكري}، وقَرَنَه بالصيامِ وبالحجِّ ومناسكِه، بل هو رُوحُ الحجِّ ولبُّه ومقصودُه كما قالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (( إنما جعل الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار : لإقامة ذكر الله)).
وقرنه بالجهاد وأمر بذكرِه عند ملاقاةِ الأقرانِ ومكافحةِ الاعداءِ؛ فقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون}.

وفي أثر إلهي يقول الله تعالى: (إن عبدي كلَّ عبدي الذي يذكرني وهو ملاقٍ قِرْنَه).
سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يستشهد به، وسمعته يقول: المحبون يفتخرون بذكر من يحبونه في هذه الحال كما قال عنترة:
ولقد ذكرتكِ والرماحُ كأنها ... أشطانُ بئرٍ في لَبَانِ الأدهَمِ
وقال الآخر :
ذكرتُكِ والخطيُّ يخطُرُ بيننا ... وقد نهلتْ منا المثقَّفَةُ السُّمْرُ
وقال آخر :
ولقد ذكرتُكِ والرِّمَاحُ شواجرٌ ... نَحْوِي وبِيضُ الهندِ تقطرُ من دَمِي
وهذا كثير في أشعارهم وهو مما يدلّ على قوة المحبة؛ فإنَّ ذكرَ المحبِّ محبوبَهُ في تلكِ الحالِ التي لا يهمُّ المرءَ فيها غيرُ نفسِهِ يدلُّ علَى أنَّهُ عندَهُ بمنزلةِ نفسِهِ أو أعزُّ منها، وهذا دليلٌ على صدقِ المحبَّةِ، والله أعلم).


التوقيع :

رد مع اقتباس
  #11  
قديم 17 ذو القعدة 1434هـ/21-09-2013م, 09:08 PM
عبد العزيز بن داخل المطيري عبد العزيز بن داخل المطيري غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 2,179
افتراضي

عشرة أقسام لمعاني ألفاظ القرآن الكريم

قال رحمه الله في "الصواعق المرسلة": (الوجوهُ التي تنقسِمُ إليها معانِي ألفاظِ القرآنِ، وهي عشرةُ أقسامٍ:
القسم الأولُ: تعريفُه سبحانَه نفسَه لعبادِهِ بأسمائِهِ وصفاتِ كمالِهِ، ونعوتُ جلالِهِ وأفعالِهِ، وأنَّهُ واحدٌ لا شريكَ لهُ، وما يتبع ذلك.
القسم الثاني: ما استشهدَ بهِ على ذلكَ من آياتِ قُدرتِه وآثارِ حكمته فيما خلقَ وذَرَأَ في العالمِ الأعلى والأسفلِ من أنواع بريَّتِه وأصنافِ خليقَتِه محتجًّا بهِ على من ألحدَ في أسمائِه وتوحيدِه وعطَّله عن صفاتِ كمالِهِ وعن أفعاله، وكذلك البراهينُ العقليةُ التي أقامها على ذلكَ، والأمثالُ المضروبةُ، والأقيسةُ العقلية التي تقدَّمتِ الإشارة إلى الشيءِ اليسيرِ منها .
القسم الثالث: ما اشتملَ عليه بَدْءُ الخلقِ وإنشاؤه ومادَّتُه وابتداعُه له، وسَبْقُ بعضِه على بعضٍ، وعدَدُ أيَّامِ التَّخْلِيقِ، وخلقُ آدمَ وإسجادُ الملائكةِ، وشأنُ إبليسَ وتمرُّدُهُ وعصيانُهُ، وما يتبع ذلك .
القسم الرابع: ذكرُ المعادِ والنشأةِ الأخرى وكيفيَّتِه وصورته وإحالةِ الخلق فيهِ مِنْ حالٍ إلى حال، وإعادتِهم خلقًا جديدا
القسم الخامس: ذكرُ أحوالِهم في معادِهم وانقسامِهم إلى شقيٍّ وسعيدٍ ومسرورٍ بمنقلَبِهِ ومثبورٍ به، وما يتبع ذلك.
القسم السادس: ذكرُ القرونِ الماضيةِ والأمم الخاليةِ، وما جرى عليهم، وذِكْرُ أحوالِهم مع أنبيائِهم وما نزلَ بأهل العنادِ والتكذيبِ منهم من المَثُلات، وما حلَّ بهمْ من العقوبات؛ ليكون ما جرتْ عليهِ أحوالُ الماضينَ عِبْرَةٌ للمعاندِين؛ فيحذروا سلوكَ سبيلِهم في التَّكذيبِ والعصيان.
القسم السابع: الأمثالُ التي ضرَبها لهم، والمواعظُ التي وعظَهم بها؛ ينبِّهُهم بها على قدرِ الدنيا وقِصَرِ مدَّتِها، وآفاتِها ليزهَدُوا فيها، ويتركوا الإخلادَ إليها، ويرغبوا فيما أعدَّ لهم في الآخرة من نعيمها المقيم وخيرها الدائم.
القسم الثامن: ما تضمَّنَهُ من الأمرِ والنهيِ والتحليلِ والتحريمِ وبيان ما فيه طاعته ومعصيته، وما يحبُّه من الأعمالِ والأقوالِ والأخلاقِ، وما يكرَهُه ويبغضِهُ منها، وما يقرِّبُ إليه ويدني من ثوابه، وما يبعدُ منه ويدني من عقابه، وقسَّم هذا القِسْمَ إلى فروضٍ فرضَها، وحدودٍ حدَّها، وزواجرَ زجرَ عنها، وأخلاقٍ وشِيَم رَغَّبَ فيها.
القسم التاسع: ما عرَّفهم إيَّاهُ من شأنِ عدوِّهم ومداخِلِه عليهِمْ، ومكايدِه لهم، وما يريدُه بهم، وما عرَّفَهم إيَّاه من طريقِ التحصُّنِ منهُ والاحترازِ من بلوغِ كيدِه منهم، وما يتداركونَ به ما أصيبوا بهِ في معركةِ الحربِ بينهم وبينه، وما يتبع ذلك.
القسم العاشر: ما يختصُّ بالسفيرِ بينَه وبينَ عبادِه مِنْ أوامرِهِ ونواهيهِ، وما اختصَّهُ بهِ من الإباحةِ والتحريمِ، وذِكْرِ حقوقِهِ على أمَّتِهِ، وما يتعلَّقُ بذلك.
فهذه عشرة أقسام عليها مدار القرآن.


وإذا تأملتَ الألفاظَ المتضمِّنَةَ لها وجدتَها ثلاثةَ أنواع:
أحدها: ألفاظٌ في غايةِ العمومِ؛ فدعوى التخصيصِ فيها يُبْطِلُ مقصودَها وفائدةَ الخطابِ بها.
الثاني: ألفاظٌ في غايةِ الخصوصِ؛ فدعوى العمومِ فيها لا سبيلَ إليه.
الثالث: ألفاظٌ متوسِّطَةٌ بينَ العمومِ والخُصوصِ.
فالنوع الأولُ: كقولِهِ: {والله بكل شيء عليم}، و{على كل شيء قدير}، و{خالق كل شيء}، وقوله: {ياأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله}، و{يا أيها الناس اعبدوا ربكم}، و{يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة}، وأمثال ذلك.
والنوع الثاني: كقوله: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك}، وقوله: {فلمّا قضى زيد منها وطرا زوجنكها}، وقوله: {وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين}.
والنوع الثالث: كقوله: {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا}، وقوله: {يا أيها الذين آمنوا}، و{يا أهل الكتاب} و{يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم} ، ونحو ذلك مما يخصُّ طائفةً من الناسِ دونَ طائفة.
وهذا النوع وإن كان متوسّطا بين الأول والثاني؛ فهو عامّ فيما قُصِدَ به ودَلَّ عليه،
وغالبُ هذا النوع أو جميعُه قد علّقت الأحكامُ فيه بالصفاتِ المقتضيةِ لتلكَ الأحكامِ؛ فصار عمومه لما تحته من جهتين:
من جهة اللفظ والمعنى؛ فتخصيصُه ببعض نوعِهِ إبطالٌ لما قُصِدَ به، وإبطالٌ لدلالته؛ إذِ التوقُّف فيها لاحتمال إرادة الخصوص بها أشدُّ إبطالاً لها، وعَوْدٌ على مقصودِ المتكلِّم به بالإبطال.
فادَّعى قومٌ من أهل التأويل في كثير من عمومات هذا النوع التخصيص، وذلك في باب الوعد والوعيد، وفي باب القضاء والقدر.
- أما باب الوعيد فإنَّه لما احتجَّ عليهم الوعيدية بقوله: {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم..}، وبقوله: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا..}، وأمثال ذلك: لجأوا إلى دعوى الخصوصِ، وقالوا: هذا في طائفة معيَّنة، ولجأوا إلى هذا القانون، وقالوا: الدليل اللفظي العامُّ مبنيٌّ على مقدِّمات منها عدم التخصيص، وانتفاؤه غير معلوم.

- وأما باب القَدَر؛ فإنَّ أهلَ الإثباتِ لما احتجوا على القدرية بقوله: {الله خالق كل شيء} ، وقوله: {وهو على كل شيء قدير} ، ونحوه؛ ادعوا تخصيصه.
وأكثر طوائف أهل الباطل ادعاءً لتخصيصِ العمومات هم الرافضة؛ فقلَّ أن تجدَ في القرآن والسنة لفظاً عامًّا في الثناءِ على الصحابةِ إلا قالوا: هذا في عليٍّ وأهلِ البيت!!
وهكذا تجد كلَّ أصحابِ مذهبٍ من المذاهبِ إذا ورد عليهم عامٌّ يخالِفُ مذهبَهم ادَّعَوا تخصيصَه، وقالوا: أكثر عمومات القرآن مخصوصة، وليس ذلك بصحيح، بل أكثرها محفوظة باقيةٌ على عمومها.
فعليك بحفظ العموم؛ فإنه يخلِّصُكَ من أقوالٍ كثيرةٍ باطلة وقَعَ فيها مدّعو الخصوصِ بغير برهان من الله، وأخطأوا من جهة اللفظ والمعنى:

- أما من جهة اللفظ؛ فلأنك تجدُ النصوصَ التي اشتملتْ على وعيدِ أهلِ الكبائرِ مثلاً في جميعِ آياتِ القرآنِ خارجةً بألفاظِها مخرجَ العمومِ المؤكَّدِ المقصودِ عمومُه؛ كقوله: {ومن يظلم منكم نذقه عذابا كبيرا} ، وقوله: {ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال}، وقوله: {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم}، وقوله: {من يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره} وقد سمَّى النبيُّ صلى الله عليه وسلَّم هذه الآيةَ جامعةً فاذَّةً؛ أي: عامَّة فذّةً في بابها، وقوله: {إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى}، وقوله: {إن الذين يأكلون أموال اليتمى}، وقوله: {إن الذين لا يدعون مع الله إلها آخر} .
وأضعاف أضعاف ذلك من عموماتِ القرآنِ المقصودِ عمومُها، التي إذا أُبْطِلَ عمومُها بطلَ مقصودُ عامَّةِ القرآنِ، ولهذا قال شمس الأئمة السَّرَخْسِيُّ: إنكارُ العمومِ بدعةٌ حدثتْ في الإسلام بعدَ القرونِ الثلاثة).


التوقيع :

رد مع اقتباس
  #12  
قديم 17 ذو القعدة 1434هـ/21-09-2013م, 09:21 PM
عبد العزيز بن داخل المطيري عبد العزيز بن داخل المطيري غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 2,179
افتراضي

عشرة أسباب لدفع شرّ الحاسد

قالَ رحمه الله في بدائع الفوائد في خاتمة تفسير سورة الفلق: (فصلٌ ويَنْدَفِعُ شرُّ الحاسِدِ عن المحسودِ بعَشرةِ أسبابٍ:
أحدُها: التعوُّذُ باللهِ من شَرِّه والتحَصُّنُ به واللجوءُ إليه، وهو المقصودُ بهذه السورةِ، واللهُ تعالى سَميعٌ لاستعاذَتِه، عليمٌ بما يَسْتَعيذُ منه.
والسمْعُ هنا الْمُرادُ به سَمْعُ الإجابةِ لا السمْعُ العامُّ، فهو مِثْلَ قولِه: ((سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَه)) وقولِ الخليلِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ}.
ومَرَّةً يَقْرِنَه بالعلْمِ ومَرَّةً بالبَصَرِ؛ لاقتضاءِ حالِ الْمُستعيذِ ذلك، فإنه يَستعيذُ به من عَدُوٍّ يَعْلَمُ أنَّ اللهَ يَراهُ، ويَعلَمُ كَيْدَه وشَرَّهُ، فأَخْبَرَ اللهُ تعالى هذا الْمُستعيذَ أنه سَميعٌ لاستعاذتِه، أي: مُجيبٌ عليمٌ بكَيْدِ عَدُوِّه، يَراهُ ويُبْصِرُه ليَنْبَسِطَ أمَلُ الْمُستعيذِ، ويُقْبِلَ بقلبِه على الدعاءِ.
وتَأَمَّلْ حِكمةَ القرآنِ: كيف جاءَ في الاستعاذةِ من الشيطانِ الذي نَعلَمُ وُجودَه ولا نَراهُ بلفْظِ السميعِ العليمِ في [الأعراف، وحم السجدة] وجاءتِ الاستعاذةُ من شَرِّ الإنْسِ الذين يُؤْنَسُون ويُرَوْنَ بالأبصارِ بلَفْظِ السميعِ البصيرِ في [سورة حم المؤمن] فقالَ:{إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}[غافر:56] لأنَّ أفعالَ هؤلاءِ أَفعالُ مُعايَنَةٍ، تُرى بالبَصَرِ، وأمَّا نَزْغُ الشيطانِ فوَسْاوِسُ وَخَطَرَاتٌ يُلْقِيها في القلْبِ يَتعلَّقُ بها العلْمُ، فأَمَرَ بالاستعاذةِ بالسميعِ العليمِ فيها، وأَمَرَ بالاستعاذةِ بالسميعِ البصيرِ في بابِ ما يُرَى بالبَصَرِ ويُدْرَكُ بالرؤيةِ، واللهُ أَعْلَمُ.
السببُ الثاني: تَقْوَى اللهِ وحِفْظُه عندَ أَمْرِه ونَهْيِه فمَن اتَّقَى اللهَ تَوَلَّى اللهُ حِفْظَه، ولم يَكِلْهُ إلى غيرِه قالَ تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} [آل عمران:120] وقالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعَبْدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ: ((احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ)) ؛ فمَن حَفِظَ اللهَ حَفِظَه اللهُ، ووَجَدَه أمامَه أَيْنَما تَوَجَّهَ، ومَن كان اللهُ حافِظَه وأمامَه فمِمَّن يَخافُ وممَّنْ يَحْذَرُ؟!.
السببُ الثالثُ: الصبرُ على عَدُوِّه، وأن لا يُقاتِلَه ولا يَشْكُوَه ولا يُحَدِّثَ نفْسَه بأذاه أَصْلًا، فما نُصِرَ على حاسِدِه وعَدُوِّه بِمِثْلِ الصبْرِ عليه والتوَكُّلِ على اللهِ، ولا يَسْتَطِلْ تأخيرَه وبَغْيَه، فإنه كلَّما بَغَى عليه كان بَغْيُه جُنْدًا وقُوَّةً للمَبْغِيِّ عليه المحسودِ، يُقاتِلُ به الباغي نفسَه وهو لا يَشْعُرُ، فبَغْيُه سِهامٌ يَرْمِيها من نفسِه إلى نفسِه لو رأى الْمَبْغِيُّ عليه، ولكن لضَعْفِ بَصيرتِه لا يَرى إلا صورةَ البغيِ دونَ آخِرِه ومَآلِه، وقد قالَ تعالى: {وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ}[الحج:65].
فإذا كان اللهُ قد ضَمِنَ له النصْرَ مع أنه قد اسْتَوْفَى حقَّه أوَّلًا، فكيف بِمَن لم يَستوفِ شيئًا من حقِّه، بل بُغِيَ عليه وهو صابرٌ.
وما من الذنوبِ ذنْبٌ أسْرَعُ عُقوبةً من البَغْيِ وقَطيعةِ الرِّحِمِ، وقد سَبَقَتْ سُنَّةُ اللهِ أن لو بَغَى جَبَلٌ على جَبَلٍ جَعَلَ الباغيَ مِنْهُما دَكًّا.
السببُ الرابعُ: التوَكُّلُ على اللهِ {فَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} والتوكُّلُ من أَقْوَى الأسبابِ التي يَدْفَعُ بها العبْدُ ما لا يُطِيقُ من أَذَى الخلْقِ وظُلْمِهم وعُدوانِهم، وهو مِن أَقْوَى الأسبابِ في ذلك، فإنَّ اللهَ حَسْبُه؛ أي: كافِيه، ومَن كان اللهُ كافِيَه وواقِيَه فلا مَطْمَعَ فيه لِعَدُوِّه ولا يَضُرُّه إلا أَذًى لا بدَّ منه، كالحَرِّ والبَرْدِ والجوعِ والعَطَشِ، وأمَّا أن يَضُرَّه بما يَبْلُغُ منه مُرادَه فلا يكونُ أبدًا، وفَرْقٌ بينَ الأذى الذي هو في الظاهِرِ إيذاءٌ له، وهو في الحقيقةِ إحسانٌ إليه، وإضرارٌ بنفسِه وبينَ الضرَرِ الذي يَتَشَفَّى به منه.
قالَ بعضُ السلَفِ: جَعَلَ اللهُ لكلِّ عَمَلٍ جزاءً من جِنْسِه، وجَعَلَ جزاءَ التوَكُّلِ عليه نَفْسَ كفايَتِه لعَبْدِه فقالَ: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}[الطلاق:3] ولم يَقُلْ نُؤْتِه كذا وكذا من الأَجْرِ، كما قالَ في الأعمالِ، بل جَعَلَ نَفْسَه – سبحانَه – كافيًا عبدَه المتوَكِّلَ عليه وحَسْبَه ووَاقِيَه، فلو تَوَكَّلَ العَبْدُ على اللهِ حَقَّ تَوَكُّلِه وكَادَتْه السماواتُ والأرضُ ومَن فيهن لَجَعَلَ له مَخرجًا من ذلك وكفاه ونَصَرَه، وقد ذَكَرْنا حقيقةَ التوَكُّلِ وفوائدَه وعِظَمَ مَنفعتِه وشِدَّةَ حاجةِ العَبْدِ إليه في: (كتابِ الفتْحِ القُدْسِيِّ) وذَكَرْنا هناك فَسادَ مَن جَعَلَه من الْمَقاماتِ الْمَعلولةِ، وأنه من مَقاماتِ العوامِّ، وأَبْطَلْنا قولَه من وُجوهٍ كثيرةٍ، وبَيَّنَّا أنه من أَجَلِّ مَقاماتِ العارفينَ، وأنه كُلَّما علا مَقامُ العَبْدِ كانت حاجتُه إلى التوَكُّلِ أَعظمَ وأَشَدَّ، وأنه على قَدْرِ إيمانِ العبْدِ يكونُ تَوَكُّلُه، و إنما المقصودُ هنا ذِكْرُ الأسبابِ التي يَندفِعُ بها شرُّ الحاسِدِ والعائنِ والساحرِ والباغي.
السببُ الخامسُ: فَراغُ القلبِ من الاشتغالِ به والفِكْرِ فيه، وأن يَقْصِدَ أن يَمْحُوَه مِن بالِه كُلَّما خَطَرَ له، فلا يَلْتَفِتُ إليه ولا يَخافُه ولا يَملأُ قلبَه بالفِكْرِ فيه، وهذا من أَنْفَعِ الأدويةِ وأَقْوَى الأسبابِ الْمُعِينَةِ على اندفاعِ شَرِّه، فإنَّ هذا بمنزِلَةِ مَن يَطْلُبُه عَدُوُّه ليُمْسِكَه ويُؤْذِيَه، فإذا لم يَتَعَرَّضْ له ولا تَمَاسَكَ هو وإيَّاه، بل انْعَزَل عنه لم يَقْدِرْ عليه، فإذا تَمَاسَكَا وتَعَلَّقَ كلٌّ منهما بصاحِبِه حَصَلَ الشرُّ، وهكذا الأرواحُ سواءٌ؛ فإذا عَلَّقَ رُوحَه وشَبَّثَها به، وروحُ الحاسِدِ الباغي مُتَعَلِّقَةٌ به يَقَظَةً ومَنامًا لا يَفْتُرُ عنه، وهو يَتَمَنَّى أن يَتَمَاسَكَ الرُّوحانِ ويَتَشَبَّثَ؛ فإذا تَعَلَّقَتْ كلُّ روحٍ منهما بالأخرى عُدِمَ القَرارُ ودامَ الشرُّ، حتى يَهْلَكَ أَحَدُهما، فإذا جَبَذَ رُوحَه عنه وصَانَها عن الفِكْرِ فيه والتَّعَلُّقِ به وأن لا يُخْطِرُه ببالِه؛ فإذا خَطَرَ ببالِه بادَرَ إلى مَحْوِ ذلك الخاطِرِ والاشتغالِ بما هو أَنْفَعُ له وأَوْلَى به: بَقِيَ الحاسدُ الباغي يَأْكُلُ بعضُه بعضًا، فإنَّ الحسَدَ كالنارِ فإذا لم تَجِدْ ما تَأْكُلُه أَكَلَ بعضُها بعضًا، وهذا بابٌ عظيمُ النفْعِ لا يُلَقَّاهُ إلا أصحابُ النفوسِ الشريفةِ والْهِمَمِ العَلِيَّةِ، أما الغُمْرُ الذي يريد الانتقام والتشفي من عدوِّهِ فإنَّه بمعزلٍ عنه، وشتَّان بينَ الكَيِّسِ الفَطِنِ وبينَه، ولا يُمْكِنُ أحداً معرفةَ قدرِه حتَّى يَذوقَ حَلاوَتَه وطِيبَه ونَعيمَه كأنه يَرى من أَعْظَمِ عذابِ القَلْبِ والروحِ اشتغالَه بعَدُوِّه وتَعَلُّقَ روحِه به، ولا يَرى شيئًا آلَمَ لرُوحِه من ذلك، ولا يُصَدِّقُ بهذا إلا النفوسُ الْمُطمئنَّةُ الوادعةُ اللَّيِّنَةُ التي رَضِيَتْ بوَكالةِ اللهِ لها، وعَلِمَتْ أنَّ نَصْرَه لها خَيْرٌ من انتصارِها هي لنفسِها، فوَثِقَتْ باللهِ وسَكَنَتْ إليه واطمأنَّتْ به، وعلِمَتْ أنَّ ضَمانَه حقٌّ ووَعْدَه صِدْقٌ، وأنه لا أَوْفَى بعَهدِه من اللهِ، ولا أَصْدَقَ منه قِيلًا، فعَلِمَتْ أنَّ نَصْرَه لها أَقْوَى وأَثْبَتُ وأَدْوَمُ وأعظمُ فائدةً من نَصْرِها هي لنفسِها أو نَصْرِ مَخلوقٍ مِثْلِها لها، ولا يَقْوَى على هذا إلا بالسبَبِ السادسِ، وهو الإقبالُ على اللهِ والإخلاصُ له وجَعْلُ مَحَبَّتِه وتَرَضِّيهِ والإنابةِ إليه في مَحَلِّ خواطِرِ نفسِه، وأمانِيِّها تَدُبُّ فيها دَبيبَ تلك الخواطِرِ شيئًا فشيئًا حتى يَقْهَرَها ويَغْمُرَها ويُذْهِبَها بالكُلِّيَّةِ، فتَبْقَى خواطِرُه وهواجِسُه وأَمانِيُّهُ كلُّها في مَحابِّ الربِّ والتقرُّبِ إليه وتَمَلُّقِه وتَرَضِّيه واستعطافِه، وذِكْرِه كما يَذْكُرُ المحبُّ التامُّ الْمَحَبَّةِ لمحبوبِه الْمُحسِنِ إليه، الذي قد امْتَلَأَتْ جَوَانحُه من حُبِّه؛ فلا يَستطيعُ قلبُه انصرافًا عن ذِكْرِه، ولا رُوحُه انصرافًا عن مَحَبَّتِه؛ فإذا صارَ كذلك؛ فكيفَ يَرْضَى لنفسِه أن يَجْعَلَ بيتَ أفكارِه وقَلْبَه مَعمورًا بالفِكْرِ في حاسدِه والباغي عليه والطريقِ إلى الانتقامِ منه والتدبيرِ عليه.
هذا ما لا يَتَّسِعُ له إلا قَلْبٌ خَرابٌ لم تَسْكُنْ فيه مَحَبَّةُ اللهِ وإجلالُه وطَلَبُ مَرضاتِه، بل إذا مَسَّهُ طَيْفٌ من ذلكَ واجتازَ ببابِه من خارجٍ نادَاه حَرَسُ قلبِه: إيَّاكَ وحِمَى الملِكِ، اذهَبْ إلى بيوتِ الحاناتِ التي كلُّ مَن جاءَ حَلَّ فيها ونَزَلَ بها، مالَكَ ولبيتِ السلطانِ الذي أقامَ عليه اليَزَكَ وأدارَ عليه الحرَسَ وأحاطَه بالسُّورِ؟!
قالَ - تعالى - حكايةً عن عَدُوِّه إبليسَ أنه قالَ: {فَبِعَزِّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}[ص:83.82] وقالَ تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ}[الحجر:42]، وقالَ: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ}[النحل:100] وقالَ في حقِّ الصِّدِّيقِ يُوسُفَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ}[يوسف:24] فما أَعْظَمَ سعادةَ مَن دَخَلَ هذا الْحِصْنَ وصارَ داخلَ اليزكِ، لقد آوى إلى حِصْنٍ، لا خَوْفَ على مَن تَحَصَّنَ به، ولا ضَيْعَةَ على مَن آوَى إليه، ولا مَطْمَعَ للعدُوِّ في الدنوِّ إليه منه: {ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}.
السببُ السابعُ: تَجريدُ التوبةِ إلى اللهِ من الذنوبِ التي سَلَّطَتْ عليه أعداءَه، فإنَّ اللهَ تعالى يَقولُ: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ}[الشورى:30] وقالَ لخيرِ الخلْقِ، وهم أصحابُ نبيِّهِ دونَه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ}[آل عمران: 165].
فما سُلِّطَ على العبْدِ مَن يُؤذِيه إلا بذَنْبٍ يَعْلَمُه أو لا يَعْلَمُه, وما لا يَعْلَمُه العبْدُ مِن ذُنوبِه أضعافُ ما يَعْلَمُه منها، وما يَنساه مِمَّا عَلِمَه وعَمِلَه أَضعافُ ما يَذْكُرُه.
وفي الدعاءِ المشهورِ: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أُشْرِكَ بِكَ وَأَنَا أَعْلَمُ وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لَا أَعْلَمُ)) فما يَحتاجُ العَبْدُ إلى الاستغفارِ منه مِمَّا لا يَعْلَمُه أضعافُ أَضعافِ ما يَعْلَمُه، فما سُلِّطَ عليه مُؤْذٍ إلا بذَنْبٍ.
ولَقِيَ بعضَ السلَفِ رجلٌ، فأَغْلَظَ له ونالَ منه فقالَ له: قِفْ حتى أَدْخُلَ البيتَ ثم أَخْرُجَ إليك؛ فدَخَلَ فسَجَدَ للهِ وتَضَرَّعَ إليه وتابَ وأنابَ إلى ربِّه، ثم خرجَ إليه، فقالَ له: ما صَنَعْتَ؟
فقالَ: تُبْتُ إلى اللهِ من الذنْبِ الذي سَلَّطَكَ به عَلَيَّ.

وسَنَذْكُرُ إن شاءَ اللهُ تعالى أنه ليس في الوجودِ شرٌّ إلا الذنوبُ ومُوجباتُها، فإذا عُوفِيَ من الذنوبِ عُوفِيَ من مُوجباتِها، فليس للعَبْدِ إذا بُغِيَ عليه وأُوذِيَ وتَسَلَّطَ عليه خُصومُه شيءٌ أَنْفَعُ له من التوبةِ النَّصُوحِ.
وعَلَامةُ سَعادتِه أن يَعْكِسَ فِكْرَه ونَظَرَه على نفسِه وذنوبِه وعُيوبِه فيَشْتَغِلَ بها وبإصلاحِها وبالتوبةِ منها، فلا يَبْقَى فيه فَراغٌ لتَدَبُّرِ ما نَزَلَ به، بل يَتَوَلَّى هو التوبةَ وإصلاحَ عُيوبِه، واللهُ يَتَوَلَّى نُصْرَتَه وحِفْظَه والدفْعَ عنه ولا بدَّ، فما أَسْعَدَه من عبدٍ!
وما أَبْرَكَها من نازِلَةٍ نزَلَتْ به ! وما أَحْسَنَ أَثَرَها عليه، ولكنَّ التوفيقَ والرَّشَدَ بيدِ اللهِ، لا مانِعَ لِمَا أَعْطَى، ولا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعَ، فما كُلُّ أَحَدٍ يُوَفَّقُ لهذا لا مَعْرِفَةً به، ولا إرادةً له، ولا قُدرةً عليهِ، ولا حولَ ولا قُوَّةَ إلا باللهِ.
السببُ الثامنُ: الصدَقَةُ والإحسانُ ما أَمْكَنَه، فإنَّ لذلك تأثيرًا عَجيبًا في دَفْعِ البلاءِ ودَفْعِ العينِ وشرِّ الحاسِدِ، ولو لم يكنْ في هذا إلا تَجارُبُ الأمَمِ قديمًا وحَديثًا لكَفَى به، فما يَكادُ العينُ والحسَدُ والأذى يَتَسَلَّطُ على مُحْسِنٍ مُتَصَدِّقٍ، وإن أَصَابَه شيءٌ من ذلك كان مُعامَلًا فيه باللطْفِ والْمَعونةِ والتأييدِ، وكانت له فيه العاقبةُ الْحَميدةُ.
فالْمُحْسِنُ الْمُتصدِّقُ في خِفارةِ إحسانِه، وصَدَقَتُه عليه من اللهِ جُنَّةٌ رَاقيةٌ وحِصْنٌ حَصينٌ، وبالجمْلَةِ فالشكْرُ حارسُ النعمَةِ من كلِّ ما يكونُ سَببًا لزوالِها.
ومِن أقوى الأسبابِ حَسَدُ الحاسِدِ والعائنِ، فإنه لا يَفْتُرُ ولا يَنِي ولا يَبْرُدُ قَلْبُه حتى تَزولَ النِّعمةُ عن المحسودِ، فحينئذٍ يَبْرُدُ أَنِينُه وتَنْطَفِئُ نارُه، لا أَطْفَأَهَا اللهُ، فما حَرَسَ العَبْدُ نعمةَ اللهِ عليه بِمِثْلِ شُكْرِها، ولا عَرَّضَها للزوالِ بِمِثْلِ العمَلِ فيها بِمَعاصِي اللهِ، وهو كُفرانُ النِّعمةِ، وهو بابٌ إلى كُفرانِ الْمُنْعِمِ.
فالْمُحْسِنُ المتصدِّقُ يَستخدمُ جُنْدًا وعَسْكرًا يُقاتلون عنه وهو نائمٌ على فِراشِه، فمَنْ لم يكنْ له جُنْدٌ ولا عَسْكَرٌ وله عَدُوٌّ، فإنه يُوشِكُ أن يَظْفَرَ به عدُوُّه، و إن تَأَخَّرَتْ مُدَّةُ الظفَرِ، واللهُ الْمُستعانُ.
السببُ التاسعُ: وهو من أَصْعَبِ الأسبابِ على النفْسِ وأَشَقِّهَا عليها، ولا يُوَفَّقُ له إلا من عَظُمَ حظُّه من اللهِ، وهو إِطفاءُ نارِ الحاسِدِ والباغي والمؤْذِي بالإحسانِ إليه؛ فكُلَّمَا ازدادَ أَذًى وشَرًّا وبَغْيًا وحَسَدًا ازْدَادَتْ إليه إحسانًا وله نصيحةً وعليه شَفَقَةً، وما أَظُنُّك تُصَدِّقُ بأنَّ هذا يكونُ فَضْلًا عن أن تَتَعَاطَاه!!
فاسْمَع الآنَ قولَه - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[فصلت:34-36] وقالَ: {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}[القصص:54].
وتأمَّلْ حالَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي حَكَى عنه نَبِيُّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه ضَرَبَه قومُه حتى أَدْمَوه، فجَعَلَ يَسْلِتُ الدمَ عنه ويقولُ: ((اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)) كيف جَمَعَ في هذه الكلماتِ أرْبَعَ مقاماتٍ من الإحسانِ، قابَلَ بها إساءتَهم العظيمةَ إليه.

أحدُها: عَفْوُه عنهم، والثاني: استغفارُه لهم، الثالثُ: اعتذارُه عنهم بأنهم لا يَعلمون، الرابعُ: استعطافُه لهم بإضافتِهم إليه، فقالَ: {اغْفِرْ لِقَوْمِي} كما يَقولُ الرجُلُ لِمَنْ يَشفَعُ عندَه فيمَنْ يَتَّصِلُ به: هذا وَلَدي، هذا غُلامي، هذا صاحِبِي فهَبْه لي.
واسْمَع الآنَ ما الذي يَسْهُلُ على النفْسِ ويُطَيِّبُه إليها ويُنَعِّمُها به: اعْلَمْ أنَّ لك ذُنوبًا بينَك وبينَ اللهِ تَخافُ عَواقبَها وتَرجوهُ أن يَعْفُوَ عنها، ويَغْفِرَها لك، ويَهَبَها لك، ومع هذا لا يَقْتَصِرُ على مُجَرَّدِ العَفْوِ والْمُسامَحَةِ، حتى يُنْعِمَ عليك ويُكْرِمَك، ويَجْلُبَ إليك من المنافِعِ والإحسانِ فوقَ ما تُؤَمِّلُه؛ فإذا كنتَ تَرْجُو هذا من ربِّك أن يُقابِلَ به إساءتَك، فما أَوْلاك وأَجْدَرَك أن تُعامِلَ به خَلْقَه وتُقابِلَ به إساءتَهم، ليُعَامِلَكَ اللهُ هذه الْمُعامَلَةَ؛ فإنَّ الجزاءَ من جِنْسِ العمَلِ، فكما تَعْمَلُ مع الناسِ في إساءتِهم في حَقِّكَ يَفْعَلُ اللهُ معك في ذنوبِك وإساءتِك جزاءً وِفاقًا، فانْتَقِمْ بعدَ ذلك أو اعْفُ، وأَحْسِنْ أو اتْرُكْ فكَمَا تَدينُ تُدانُ، وكما تَفْعَلُ مع عِبادِه يَفْعَلُ معك؛ فمَن تَصَوَّرَ هذا المعنى وشَغَلَ به فِكْرَه هانَ عليه الإحسانُ إلى مَن أَساءَ إليه، هذا مع ما يَحْصُلُ له بذلك من نَصْرِ اللهِ ومَعِيَّتِه الخاصَّةِ، كما قالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للذي شَكَى إليه قَرَابَتَه وأنه يُحْسِنُ إليهم وهم يُسيئون إليه فقالَ: ((لَا يَزَالُ مَعَكَ مِنَ اللهِ ظَهِيرٌ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ)).
هذا مع ما يَتَعَجَّلُه من ثَناءِ الناسِ عليه ويَصيرونَ كلُّهم معه على خَصْمِه، فإنَّ كلُّ مَن سَمِعَ أنه مُحْسِنٌ إلى ذلك الغيرِ وهو مُسيءٌ إليه وَجَدَ قَلْبَه ودُعاءَه وهِمَّتَه مع الْمُحْسِنِ على المسيءِ، وذلك أمْرٌ فِطْرِيٌّ فَطَرَ اللهُ عليه عِبادَه، فهو بهذا الإحسانِ قد اسْتَخْدَمَ عَسْكرًا لا يَعْرِفُهم ولا يَعْرِفُونَه، ولا يُريدون منه إِقْطَاعًا ولا خُبْزًا.
هذا مع أنه لا بُدَّ له مع عَدُوِّه وحاسِدِه من إحدى حالتينِ.
- إمَّا أن يَمْلُكَه بإحسانِه؛ فيَسْتَعْبِدَه ويَنقادَ له ويَذِلَّ له، ويَبْقَى مِن أَحَبِّ الناسِ إليه.
- وإمَّا أن يُفَتِّتَ كَبِدَه ويَقْطَعَ دابِرَه إن أقامَ على إساءتِه إليه، فإنه يُذِيقُه بإحسانِه أضعافَ ما يَنالُ منه بانتقامِه.
ومَن جَرَّبَ هذا عَرَفَه حقَّ الْمَعرفةِ، واللهُ هو الْمُوَفِّقُ الْمُعينُ، بيدِه الخيرُ كلُّه لا إلهَ غيرُه، وهو المسؤولُ أن يَسْتَعْمِلَنا وإخوانَنا في ذلك بِمَنِّهِ وكَرَمِه.
وفي الجملةِ: ففي هذا الْمَقامِ من الفوائدِ ما يَزيدُ على مائةِ مَنفعةٍ للعَبْدِ عاجِلَة وآجِلَة، سنَذْكُرُها في مَوْضِعٍ آخَرَ إن شاءَ اللهُ تعالى.
السببُ العاشِرُ: وهو الجامعُ لذلك كلِّه، وعليه مَدارُ هذه الأسبابِ، وهو تَجريدُ التوحيدِ والترَحُّلُ بالفكْرِ في الأسبابِ إلى الْمُسَبِّبِ العزيزِ الحكيمِ، والعلْمُ بأنَّ هذه آلاتٌ بمنزِلَةِ حَركاتِ الرياحِ، وهي بِيَدِ مُحَرِّكِها وفاطِرِها وبَارِئِها، ولا تَضُرُّ ولا تَنْفَعُ إلا بإذنِه، فهو الذي يُحَسِّنُ عَبْدَه بها، وهو الذي يَصْرِفُها عنه وحْدَه، لا أَحَدَ سِواه.
قالَ تعالى: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ}[يونس:107] وقالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعَبْدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما: ((وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ كَتَبَهُ اللهُ لَكَ وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ)).
فإذا جَرَّدَ العبْدُ التوحيدَ فقد خَرَجَ من قلبِه خوفُ ما سواه وكان عَدُوُّه أهونَ عليه من أن يَخافَه مع اللهِ، بل يُفْرِدُ اللهَ بالْمَخافَةِ وقد أَمَّنَه منه، وخَرَجَ من قلبِه اهتمامُه به واشتغالُه به وفِكْرُه فيه، وتَجَرَّدَ للهِ مَحبَّةً وخَشيةً وإنابةً وتَوَكُّلًا واشتغالًا به عن غيرِه، فيَرَى أنَّ إعمالَه فِكْرَه في أمْرِ عَدُوِّه وخَوْفَه منه واشتغالَه به من نَقْصِ توحيدِه، و إلا فلو جَرَّدَ توحيدَه لكان له فيه شُغْلُ شاغِلٍ، واللهُ يَتَوَلَّى حِفْظَه والدفْعَ عنه، فإنَّ اللهَ يُدافِعُ عن الذين آمَنُوا، فإنْ كان مُؤْمِنًا فاللهُ يُدافِعُ عنه ولا بدَّ.
وبِحَسَبِ إيمانِه يَكونُ دِفاعُ اللهِ عنه، فإن كَمُلَ إيمانُه كان دَفْعُ اللهِ عنه أَتَمَّ دَفْعٍ، وإن مَزَجَ مُزِجَ له، وإن كان مَرَّةً ومَرَّةً، فاللهُ له مَرَّةً ومَرَّةً، كما قالَ بعضُ السلَفِ: مَن أَقْبَلَ على اللهِ بكُلِّيَّتِه أَقْبَلَ اللهُ عليه جُملةً، ومَن أَعْرَض عن اللهِ بكُلِّيَّتِه أَعْرَضَ اللهُ عنه جُملةً, ومَنْ كان مَرَّةً ومَرَّةً فاللهُ له مَرَّةٌ ومَرَّةٌ.
فالتوحيدُ حِصْنُ اللهِ الأعظَمُ الذي مَن دَخَلَه كان من الآمنينَ.
قالَ بعضُ السلَفِ: مَن خافَ اللهَ خافَه كلُّ شيءٍ، ومن لم يَخَفِ اللهَ أَخَافَه من كلِّ شيءٍ.
فهذه عشرةُ أسبابٍ يَندفِعُ بها شرُّ الحاسِدِ والعائنِ والساحرِ، وليس له أَنْفَعُ من التوَجُّهِ إلى اللهِ وإقبالِه عليه وتَوَكُّلِه عليه، وثِقَتِه به، وأن لا يَخافَ معه غيرَه، بل يكونُ خوفُه منه وحدَه ولا يَرجُو سواه، بل يَرجوه وحدَه، فلا يُعَلِّقُ قلبَه بغيرِه ولا يَستغيثُ بسواه ولا يَرْجُو إلا إيَّاه.

ومتى عَلَّقَ قلبَه بغيرِه ورجاهُ وخافَه وُكِلَ إليه، وخُذِلَ من جِهَتِه، فمَن خافَ شيئًا غيرَ اللهِ سُلِّطَ عليه، ومَن رَجَا شيئًا سِوى اللهِ خُذِلَ من جِهَتِه وحُرِمَ خيرَه، فهذه سُنَّةُ اللهِ في خَلْقِه: {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا}[الأحزاب:62] ).


التوقيع :

رد مع اقتباس
  #13  
قديم 17 ذو القعدة 1434هـ/21-09-2013م, 09:24 PM
عبد العزيز بن داخل المطيري عبد العزيز بن داخل المطيري غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 2,179
افتراضي

عشرة أسباب للعصمة من كيد الشيطان الرجيم

قال - رحمه الله - في خاتمة تفسير المعوّذَتين في "بدائع الفوائد": (
ونَخْتِمُ الكلامَ على السورتين بذِكْرِ قاعدةٍ نافعةٍ
فيما يَعْتَصِمُ به العَبْدُ من الشيطانِ، ويَسْتَدْفِعُ به شَرَّهُ ويَحْتَرِزُ به منه.
وذلك عشرةُ أسبابٍ:
أحدُها: الاستعاذةُ باللهِ من الشيطانِ؛ قالَ تعالى:{وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[فصلت:36] وفي مَوْضِعٍ آخَرَ: {إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}[الأعراف:200].
وقد تَقَدَّمَ أنَّ السمْعَ المرادُ به ههنا سَمْعُ الإجابةِ، لا مُجَرَّدُ السمْعِ العامِّ، وتَأَمَّلْ سِرَّ القرآنِ كيفَ أَكَّدَ الوَصْفَ بالسميعِ العليمِ بذِكْرِ صيغةِ (هو) الدالِّ على تأكيدِ النِّسبةِ واختصاصِها، وعَرَّفَ الوَصْفَ بالألِفِ واللامِ في سورةِ (حم) لاقتضاءِ الْمَقامِ لهذا التأكيدِ، وتَرَكَه في سورةِ الأعرافِ لاستغناءِ الْمَقامِ عنه؛ فإنَّ الأمْرَ بالاستعاذةِ في سورةِ (حم) وَقَعَ بعدَ الأمْرِ بأشَقِّ الأشياءِ على النفْسِ، وهو مُقابَلَةُ إساءةِ المسيءِ بالإحسانِ إليه، وهذا أمْرٌ لا يَقدِرُ عليه إلا الصابرونَ، ولا يُلَقَّاهُ إلا ذو حظٍّ عظيمٍ، كما قالَ اللهُ تعالى.
والشيطانُ لا يَدَعُ العبْدَ يَفعَلُ هذا، بل يُرِيه أنَّ هذا ذُلٌّ وعَجْزٌ ويُسَلِّطُ عليه عَدُوَّه فيَدْعُوه إلى الانتقامِ ويُزَيِّنُه له، فإنْ عَجَزَ عنه دَعاهُ إلى الإعراضِ عنه، وأن لا يُسيءَ إليه، ولا يُحْسِنَ فلا يُؤْثِرُ الإحسانَ إلى الْمُسيءِ إلا مَن خالَفه، وآثَرَ اللهَ وما عندَه على حَظِّه العاجِلِ، فكان الْمَقامُ مَقامَ تأكيدٍ وتَحريضٍ؛ فقالَ فيه: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[فصلت:36].
وأمَّا في سورةِ الأعرافِ فإنه أَمَرَه أن يُعْرِضَ عن الجاهلينَ، وليس فيها الأمْرُ بِمُقابَلَةِ إساءتِهم بالإحسانِ بل بالإعراضِ، وهذا سَهْلٌ على النفوسِ غيرُ مُسْتَعْصٍ عليها، فليس حِرْصُ الشيطانِ وسَعْيُه في دَفْعِ هذا كحِرْصِه على دَفْعِ الْمُقَابَلَةِ بالإحسانِ، فقالَ: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}[الأعراف:200].
وقد تَقَدَّمَ ذِكْرُ الفَرْقِ بينَ هذين الموضعينِ وبينَ قولِه في (حم المؤمن):{فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}[غافر:56] وفي صحيحِ البخاريِّ، عن عَدِيِّ بنِ ثابتٍ، عن سليمانَ بنِ صُرَدَ قالَ: كنتُ جالسًا مع النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورَجلان يَسْتَبَّانِ، فأحدُهما احْمَرَّ وجْهُه وانْتَفَخَتْ أَوْدَاجُه، فقالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا ذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ لَوْ قَالَ: أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ)).

الْحِرْزُ الثاني: قراءةُ هاتينِ السورتينِ فإنَّ لهما تأثيرًا عَجِيبًا في الاستعاذةِ باللهِ من شَرِّه ودَفْعِه والتحصُّنِ منه.
ولهذا قالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَا تَعَوَّذَ الْمُتَعَوِّذُونَ بِمِثْلِهِمَا)) وقد تَقَدَّمَ أنه كان يَتَعَوَّذُ بهما كلَّ ليلةٍ عندَ النومِ، وأَمَرَ عُقبةَ أن يَقرأَ بهما دُبُرَ كلِّ صلاةٍ، وتَقَدَّمَ قولُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ مَنْ قَرَأَهُمَا مَعَ سُورَةِ الْإِخْلَاصِ ثَلَاثًا حِينَ يُمْسِي وَثَلَاثًا حِينَ يُصْبِحُ كَفَتْهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ)).

الْحِرْزُ الثالثُ: قراءةُ آيةِ الكُرْسِيِّ، ففي الصحيحِ من حديثِ مُحَمَّدِ بنِ سيرينِ، عن أبي هُريرةَ قالَ: وَكَّلَنِي رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بحفْظِ زكاةِ رَمضانَ، فأتى آتٍ فجَعَلَ يَحْثُو من الطعامِ، فأَخَذْتُه فقُلْتُ: لأَرْفَعَنَّكَ إلى رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فذَكَرَ الحديثَ فقالَ: ((إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِيِّ، فَإِنَّهُ لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ اللهِ حَافِظٌ ولا يَقْرَبُكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ)) فقالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ، ذَاكَ الشَّيْطَانُ)) وسنَذْكُرُ إن شاءَ اللهُ تعالى السرَّ الذي لأجْلِه كان لهذه الآيةِ العظيمةِ هذا التأثيرُ العظيمُ في التَّحَرُّزِ من الشيطانِ، واعتصامِ قارِئِها بها، في كلامٍ مُفْرَدٍ عليها و على أسرارِها وَكُنوزِها بعَوْنِ اللهِ وتأييدِه.

الْحِرْزُ الرابعُ: قراءةُ سورةِ البقرةِ، ففي الصحيحِ من حديثِ سَهْلٍ، عن عبدِ اللهِ، عن أبي هُريرةَ، أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا، وَإنَّ الْبَيْتَ الذي تُقْرَأُ فِيهِ الْبَقَرَةُ لَا يَدْخُلُهُ الشَّيْطَانُ)).

الْحِرْزُ الخامسُ: قِراءةُ خاتِمَةِ سورةِ البقرةِ، فقد ثَبَتَ في الصحيحِ من حديثِ أبي موسى الأنصاريِّ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ قَرَأَ الْآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ)) وفي التِّرمذيِّ، عن النُّعمانِ بنِ بشيرٍ، عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((إِنَّ اللهَ كَتَبَ كِتَابًا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ بِأَلْفَيْ عَامٍ أَنْزَلَ مَنْهُ آيَتَيْنِ خَتَمَ بِهِمَا سُورَةَ الْبَقَرَةِ فَلَا يُقْرَآنِ فِي دَارٍ ثَلَاثَ لَيَالٍ فَيَقْرَبَهَا شَيْطَانٌ)).

الْحِرْزُ السادسُ: أوَّلُ سورةِ حم المؤمِنِ إلى قولِه: {إِلَيْهِ الْمَصِيرُ}[غافر:3] مع آيةِ الكُرْسِيِّ، في التِّرمذيِّ من حديثِ عبدِ الرحمنِ بنِ أبي بكرٍ، عن ابنِ أبي مُلَيْكَةَ، عن زُرارةَ بنِ مُصْعَبٍ، عن أبي سَلَمَةَ، عن أبي هُريرةَ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ قَرَأَ حم المؤمِنَ إلى {إِلَيْهِ الْمَصِيرُ}وآيةَ الكُرْسِيِّ، حينَ يُصبِحُ حُفِظَ بهما حتى يُمْسِيَ، وَمَنْ قَرَأَهُمَا حِينَ يُمْسِي حُفِظَ بِهِمَا حَتَّى يُصْبِحَ)) وعبدُ الرحمنِ المُلَيْكِيُّ، وإن كان قد تُكُلِّمَ فيه من قِبَلِ حِفْظِه فالحديثُ له شَواهدُ في قراءةِ آيةِ الكرسيِّ، وهو مُحْتَمِلٌ على غَرابتِه.

الْحِرْزُ السابعُ: لا إلهَ إلا اللهُ وحْدَه لَا شَريكَ له، له الْمُلْكُ وله الْحَمْدُ، وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ مائةَ مرَّةٍ.
ففي الصحيحينِ من حديثِ سُمَيٍّ مولَى أبي بَكْرٍ، عن أبي صالِحٍ، عن أبي هُريرةَ أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ كَانَتْ لَهُ عِدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ، وكُتِبَتْ لَهُ مِائةُ حَسَنَةٍ وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ، وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنَ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ، وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ إِلَّا رَجُلٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ)) فهذا حِرْزٌ عظيمُ النفْعِ جليلُ الفائدةِ يَسيرٌ سَهْلٌ على مَن يَسَّرَه اللهُ عليه.

الحرْزُ الثامِنُ: وهو من أَنْفَعِ الْحُروزِ من الشيطانِ كثرةُ ذكْرِ اللهِ - عَزَّ وجَلَّ - ففي التِّرْمِذِيِّ من حديثِ الحارِثِ الأشعريِّ أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ ((إِنَّ اللهَ أَمَرَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا بِخَمْسِ كَلِماتٍ أن يَعْمَلَ بها ويَأْمُرَ بني إسرائيلَ أن يَعْمَلوا بها، وأنه كاد أن يُبْطِئَ بها؛ فقالَ عِيسى: إنَّ اللهَ أَمَرَك بخَمْسِ كلماتِ لتَعْمَلَ بها وتَأْمُرَ بني إسرائيلَ أن يَعْمَلوا بها فإِمَّا أن تَأْمُرَهُم وإِمَّا أن آمُرَهُم.
فقالَ يَحْيَى: أَخْشَى إن سَبَقْتَنِي بها أن يُخْسَفَ بي أو أُعَذَّبَ، فجَمَعَ الناسَ في بيتِ الْمَقدِسِ فامْتَلأَ وقَعَدوا على الشُّرَفِ فقالَ: إنَّ اللهَ أَمَرَني بخَمْسِ كلماتٍ أن أَعْمَلَ بِهِنَّ وآمُرَكُم أن تَعملوا بهِنَّ،
أَوَّلُهُنَّ: أن تَعْبُدوا اللهَ ولا تُشْرِكوا به شيئًا، وأنَّ مَثَلَ مَن أَشْرَكَ باللهِ كمَثَلِ رجلٍ اشترى عَبْدًا من خالِصِ مالِه بذَهَبٍ أو وَرِقٍ فقالَ: هذه داري وهذا عَمَلِي، فاعْمَلْ وأَدِّ إليَّ؛ فكان يَعملُ ويُؤَدِّي إلى غيرِ سيِّدِه، فأَيُّكُمْ يَرْضَى أنْ يَكونَ عَبْدُه كذلك، - وأنَّ اللهَ أَمَرَكم بالصلاةِ؛ فإذا صَلَّيْتُم فلا تَلْتَفِتوا؛ فإنَّ اللهَ يَنْصُبُ وَجْهَه لوجْهِ عَبْدِه في صلاتِه ما لم يَلْتَفِتْ.
- وأَمَرَكُم بالصيامِ؛ فإنَّ مَثَلَ ذلك كمَثَلِ رجُلٍ في عِصابةٍ معه صُرَّةٌ فيها مِسكٌ، فكُلُّهم يُعْجَبُ أو يُعْجِبُه رِيحُها، وإنَّ ريحَ الصائمِ أَطْيَبُ عندَ اللهِ من ريحِ الْمِسكِ.
- وأَمَرَكم بالصَّدَقَةِ؛ فإنَّ مَثَلَ ذلك كمَثَلِ رجُلٍ أَسَرَه العدوُّ فأَوْثَقُوا يَدَه إلى عُنُقِه وقَدَّمُوه ليَضْرِبوا عُنُقَه، فقالَ: أَنَا أَفْدِيهِ مِنْكُم بالقليلِ والكثيرِ فَفَدَى نفسَه منهم.
- وأَمَرَكُم أن تَذْكُروا اللهَ؛ فإنَّ مَثَلَ ذلك كمَثَلِ رَجُلٍ خَرَجَ العدُوُّ في أَثَرِه سِراعًا حتى أَتَى على حِصْنٍ حَصينٍ فأَحْرَزَ نفسَه منه، كذلك العَبْدُ لا يَحْرُزُ نفسَه من الشيطانِ إلا بذِكْرِ اللهِ)).
قالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَأَنَا آمُرُكُمْ بِخَمْسٍ، اللهُ أَمَرَنِي بِهِنَّ: السَّمْعُ، والطاعةُ، والْجِهادُ، والْهِجرةُ، والْجَماعةُ، فإنَّ مَن فَارَقَ الْجَماعةَ قِيدَ شِبْرٍ فقد خَلَعَ رِبْقَةَ الإسلامِ من عُنُقِه إلا أنْ يُرَاجِعَ، ومَن ادَّعَى دَعْوَى الجاهليَّةِ فإنه من جثَاءِ جَهَنَّمَ)).
فقالَ رجُلٌ: يا رسولَ اللهِ، وإن صَلَّى وصَامَ، قالَ: ((وإِنْ صَلَّى وصَامَ، فادْعُوا بدَعْوَى اللهِ الذي سَمَّاكُمُ المسلمينَ المؤمنينَ عِبَادَ اللهِ)) قالَ التِّرمذيُّ: هذا حديثٌ حسَنٌ غريبٌ صحيحٌ. وقالَ البخاريُّ: الحارثُ الأشعريُّ له صُحْبَةٌ، وله غيرُ هذا الحديثِ.
فقد أَخْبَرَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا الحديثِ أنَّ العبْدَ لا يَحْرُزُ نفسَه من الشيطانِ إلا بذِكْرِ اللهِ، وهذا بعينِه هو الذي دَلَّتْ عليه سورةُ: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ، فإنه وَصَفَ الشيطانَ فيها بأنه الْخَنَّاسُ، والْخَنَّاسُ الذي إذا ذَكَرَ العبْدُ اللهَ انْخَنَسَ، وتَجَمَّعَ وانْقَبَضَ، وإذا غَفَلَ عن ذِكْرِ اللهِ الْتَقَمَ القلْبَ وأَلْقَى إليه الوَساوِسَ التي هي مَبادئُ الشرِّ كلِّه، فما أَحْرَزَ العبْدُ نَفْسَه من الشيطانِ بِمِثْلِ ذِكْرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ.

الحِرْزُ التاسعُ:
الوُضوءُ والصلاةُ، وهذا من أَعْظَمِ ما يُتَحَرَّزُ به منه، ولا سيَّما عندَ تَوَارُدِ قُوَّةِ الغضَبِ والشهوةِ، فإنها نارٌ تَغْلِي في قلْبِ ابنِ آدَمَ، كما في التِّرْمِذِيِّ من حديثِ أبي سعيدٍ الْخُدريِّ، عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قالَ: ((أَلَا وَإِنَّ الْغَضَبَ جَمْرَةٌ فِي قَلْبِ ابْنِ آدَمَ، أَمَا رَأَيْتُمْ إِلَى حُمْرَةِ عَيْنَيْهِ وَانْتِفَاخِ أَوْدَاجِهِ، فَمَنْ أَحَسَّ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَلْيَلْصَقْ بِالْأَرْضِ)).
وفي أَثَرٍ آخَرَ: ((إِنَّ الشَّيْطَانَ خُلِقَ مِنْ نَارٍ وَإِنَّمَا تُطْفَأُ النَّارُ بِالْمَاءِ)) فما أَطفأَ العبْدُ جَمرةَ الغضَبِ والشهوةِ بِمِثلِ الوُضوءِ والصلاةِ، فإنها نارٌ والوُضوءُ يُطفِئُها، والصلاةُ إذا وَقَعَتْ بخشوعِها والإقبالِ فيها على اللهِ أَذْهَبَتْ أَثَرَ ذلك كلِّه، وهذا أَمْرٌ تَجْرِبَتُه تُغْنِي عن إقامةِ الدليلِ عليه.

الْحِرْزُ العاشِرُ:
إمساكُ فضولِ النظَرِ والكلامِ والطعامِ ومُخالَطَةِ الناسِ، فإنَّ الشيطانَ إنما يَتَسَلَّطُ على ابنِ آدمَ، ويَنالُ منه غَرَضَه من هذه الأبوابِ الأربعةِ، فإنَّ فُضولَ النظَرِ يَدعو إلى الاستحسانِ ووقوعِ صورةِ الْمَنظورِ إليه في القلْبِ والاشتغالِ به والفِكرةِ في الظَّفَرِ به، فمَبدأُ الفِتنةِ من فُضولِ النظَرِ، كما في الْمُسْنَدِ عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قالَ: ((النَّظْرَةُ سَهْمٌ مَسمُومٌ مِنْ سِهَامِ إِبْلِيسَ، فَمَنْ غَضَّ بَصَرَهُ للهِ أَوْرَثَهُ اللهُ حَلَاوَةً يَجِدُهَا فِي قَلْبِهِ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ)) أو كما قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فالحوادثُ العِظامُ إنما كلُّها من فُضولِ النظَرِ، فكم نَظرةٍ أَعْقَبَتْ حَسَراتٍ لا حَسرةً، كما قالَ الشاعرُ:
كلُ الحوادثِ مَبْدَاها من النظَرِ ... ومُعْظَمُ النارِ من مُسْتَصْغَرِ الشَّرَرِ
كم نَظرةٍ فتَكَتْ في قلْبِ صاحبِها ... فتْكَ السهامِ بلا قَوْسٍ ولا وَتَرِ
وقالَ الآخَرُ:

وكنتَ مَتَى أَرْسَلْتَ طَرْفَك رائدًا ... لقَلْبِكَ يومًا أَتْعبَتْك المناظِرُ
رأيتَ الذي لا كُلُّه أنت قادِرٌ ... عليه ولا عن بعضِه أنت صابِرُ
وقالَ المتنَبِّي:

وأنا الذي جَلَبَ الْمَنِيَّةَ طَرْفُه ... فمَنِ الْمَطالَبُ والقتيلُ القاتلُ؟!
ولي في أبياتٍ:

يا راميًا بسهامِ اللحْظِ مُجْتَهِدًا ... أنت القتيلُ بما تَرْمِي فلا تُصِبِ
وباعِثَ الطرْفِ يَرتادُ الشفاءَ له ... تَوَقَّهُ إنه يَرْتَدُّ بالعَطَبِ
تَرجُو الشفاءَ بأحداقٍ بها مَرَضٌ ... فهل سَمِعْتَ بِبُرْءٍ جاءَ من عَطَبِ
ومُفْنِيًا نفسَه في إِثرِ أَقْبَحِهم ... وصْفا لِلَطْخِ جمالٍ فيه مُسْتَلَبِ
وواهبًا عُمْرَه في مِثلِ ذا سَفَهًا ... لو كنتَ تَعْرِفُ قدْرَ العُمْرِ لم تَهَبِ
وبائعًا طِيبَ عيْشٍ ما لَه خَطَرٌ ... بطَيْفِ عيشٍ من الآلامِ مُنْتَهَبِ
غُبِنْتَ واللهِ غَبْنًا فاحشًا فلو اسـ ... ـتَرْجَعْتَ ذا العَقْدَ لم تُغْبَنْ ولم تَخِبِ
ووَارِدًا صَفْوَ عيشٍ كلُّه كَدَرٌ... أمامَك الوِرْدُ صَفْوًا ليس بالكَذِبِ
وحاطِبُ الليلِ في الظلماءِ مُنْتَصِبًا... لكلِّ داهيةٍ تُدْني من العَطَبِ
شابَ الصِّبَا والتصابِي بعدُ لم يَشِبِ... وضاعَ وَقْتُك بينَ اللهوِ واللعبِ
وشَمْسُ عُمْرِك قد حانَ الغروبُ لها... والضيُّ في الأفُقِ الشرقيِّ لم يَغِبِ
وفازَ بالوَصْلِ مَن قد فازَ وانْقَشَعَتْ... عن أُفْقِه ظُلماتُ الليلِ والسُّحُبِ
كم ذا التخلُّفِ والدنيا قد ارْتَحَلَتْ... ورُسْلُ ربِّك قد وافَتْكَ في الطلَبِ
ما في الديارِ وقد سارتْ ركائِبُ مَن... تَهواهُ للصَّبِّ من سُكْنَى ولا أَرَبِ

فأَفْرِشِ الْخَدَّ ذَيَّاك الترابَ وقُلْ ... ما قالَه صاحبُ الأشواقِ في الحقَبِ
ما رَبْعُ مَيَّةَ مَحفوفًا يَطُوفُ به... غَيلانُ أَشْهى له من رَبعِكَ الْخَرِبِ
ولا الخدودُ وقد أُدْمِينَ من ضَرَجٍ... أَشْهَى إلى نَاظِرِي من خَدِّكَ التَّرِبِ
منازِلاً كان يَهواها ويَأْلَفُها... أيَّامَ كان منالُ الوَصْلِ عن كَثَبِ
فكُلَّمَا جُلِيَتْ تلك الرُّبوعُ له... يَهْوِي إليها هَوِيَّ الماءِ في صَبَبِ
أَحْيَا له الشوقُ تَذكارَ العُهودِ بها... فلو دعا القلْبَ للسُّلوانِ لم يُجِبِ
هذا وكَمْ مَنزِلٍ في الأرضِ يأْلَفُه... وما له في سواها الدَّهْرَ من رَغَبِ
ما في الْخِيامِ أخو وَجْدٍ يُريحُك إن... بَثَثْتَه بعضَ شأنِ الحبِّ فاغْتَرِبِ
وأَسْرِ في غَمَرِاتِ الليلِ مُهْتَديًا... بنفحَةِ الطِّيبِ لا بالنارِ والحطَبِ
وعادِ كلَّ أَخِي جُبْنٍ ومَعْجَزَةٍ... وحارِبِ النفْسَ لا تُلقيكَ في الْحَرَبِ
وخُذْ لنفسِكَ نورًا تَستضِيءُ به... يومَ اقتسامِ الْوَرَى الأنوارَ بالرُّتَبِ
فالْجِسْرُ ذو ظُلماتٍ ليس يَقْطَعُه... إلا بنورٍ يُنَجّي العبْدَ في الكُرَبِ

والمقصودُ أنَّ فُضولَ النظَرِ أصلُ البلاءِ، وأمَّا فُضولُ الكلامِ فإنها تَفْتَحُ للعبْدِ أبوابًا من الشرِّ، كلُّها مَداخِلُ للشيطانِ، فإمساكُ فُضولِ الكلامِ يَسُدُّ عنه تلك الأبوابَ كلَّها، وكم من حَرْبٍ جَرَّتْها كلِمَةٌ واحدةٌ، وقد قالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعاذٍ: ((وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ في النَّارِ إلا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ)). وفي التِّرمذيِّ أنَّ رجلًا من الأنصارِ تُوُفِّيَ فقالَ بعضُ الصحابةِ: طُوبَى له. فقالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((فَمَا يُدْرِيكَ فَلَعَلَّهُ تَكَلَّمَ بَمَا لَا يَعْنِيهِ أَوْ بَخِلَ بِمَا لَا يَنْقُصُه)).
وأكثرُ المعاصي إنما تَوَلُّدُها من فُضولِ الكلامِ والنظَرِ، وهما أَوْسَعُ مَداخِلِ الشيطانِ؛ فإنَّ جَارِحَتَيْهِما لا يَمَلَّانِ ولا يَسْأَمَانِ، بخلافِ شَهوةِ البطْنِ فإنه إذا امْتَلَأَ لم يَبْقَ فيه إرادةٌ للطعَامِ، وأمَّا العينُ واللسانُ فلو تُرِكَا لم يَفْتُرَا من النظَرِ والكلامِ فجِنَايَتُهما مُتَّسِعَةُ الأطرافِ كثيرةُ الشُّعَبِ عَظيمةُ الآفاتِ، وكان السلَفُ يُحَذِّرُونَ من فُضولِ النظَرِ كما يُحَذِّرونَ من فُضولِ الكلامِ، وكانوا يَقولون: ما شيءٌ أَحْوَجَ إلى طولِ السجْنِ من اللسانِ.
وأمَّا فُضولُ الطعامِ فهو داعٍ إلى أنواعٍ كثيرةٍ من الشرِّ فإنه يُحَرِّكُ الْجَوارحَ إلى الْمَعاصي، ويُثْقِلُها عن الطاعاتِ، وحَسْبُك بهذين شَرًّا، فكم من معصيةٍ جَلَبَها الشِّبَعُ وفضولُ الطعامِ وكم من طاعةٍ حالَ دونَها؛ فمن وُقِيَ شرَّ بَطْنِه فقد وُقِيَ شرًّا عظيمًا، والشيطانُ أَعْظَمُ ما يَتَحَكَّمُ من الإنسانِ إذا مَلَأَ بطْنَه من الطعامِ.
ولهذا جاءَ في بعضِ الآثارِ: ضَيِّقُوا مَجارِيَ الشيطانِ بالصوْمِ. وقالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ)) ولو لم يكنْ في الامتلاءِ من الطعامِ إلا أنه يَدْعُو إلى الغَفْلَةِ عن ذِكْرِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وإذا غَفَلَ القلْبُ عن الذكْرِ ساعةً واحدةً جَثَمَ عليه الشيطانُ ووَعَدَه ومَنَّاهُ وشَهَّاهُ وهَامَ به في كلِّ وادٍ؛ فإنَّ النفْسَ إذا شَبِعَتْ تَحَرَّكَتْ وجالَتْ وطَافَتْ على أبوابِ الشهواتِ، و إذا جاعَتْ سَكَنَتْ وخَشَعَتْ وذَلَّتْ.
وأمَّا فُضولُ الْمُخالَطَةِ فهي الداءُ العُضالُ الجالِبُ لكلِّ شرٍّ، وكم سَلَبَت الْمُخالَطَةُ والمعاشَرَةُ من نِعمةٍ، وكم زَرَعَتْ عن عَداوةٍ، وكم غَرَسَتْ في القلْبِ من حَزَازَاتٍ تَزولُ الجبالُ الراسياتُ وهي في القلوبِ لا تَزولُ، فُضولُ المخالطَةِ فيه خَسارةُ الدنيا والآخرةِ، وإنما يَنبغِي للعَبْدِ أن يَأْخُذَ من المخالَطَةِ بِمِقدارِ الحاجةِ، ويَجعلَ الناسَ فيها أربعةَ أقسامٍ متى خَلَطَ أحدُ الأقسامِ بالآخَرِ، ولم يُمَيِّزْ بينَهما دَخَلَ عليه للشرِّ:
أحدُها: مَن مُخالَطَتُه كالغذاءِ لا يَسْتَغْني عنه في اليومِ والليلةِ، فإذا أَخَذَ حاجَتَه منه تَرَكَ الْخُلطةَ، ثم إذا احتاجَ إليه خالَطَه، هكذا على الدوامِ، وهذا الضَّرْبُ أعَزُّ من الكِبريتِ الأحمَرِ، وهم العُلماءُ باللهِ وأَمْرِه ومَكايِدِ عَدُوِّه وأمراضِ القلوبِ وأَدْوِيَتِها، الناصحونَ للهِ ولكتابِه ولرسولِه ولِخَلقِه، فهذا الضرْبُ في مُخالَطَتِهم الربْحُ كلُّه.
القِسمُ الثاني: مَن مُخالَطَتُه كالدواءِ يُحتاجُ إليه عندَ الْمَرضِ فما دُمْتَ صحيحًا فلا حاجةَ لك في خُلطتِه، وهم مَن لا يُسْتَغْنَى عن مُخالطَتِهم في مَصلحَةِ المعاشِ وقِيامِ ما أنت مُحتاجٌ إليه من أنواعِ الْمُعاملاتِ والْمُشارَكاتِ، والاستشارةِ والعِلاجِ للأدواءِ ونحوَها، فإذا قَضَيْتَ حاجَتَكَ من مُخالَطَةِ هذا الضرْبِ بقِيَتْ مُخالطتُهم من القِسمِ الثالثِ: وهم مَن مَخالَطَتُه كالداءِ على اختلافِ مَراتبِه وأنواعِه وقوَّتِه وضَعْفِه.
- فمنهم مَن مُخالطَتُه كالداءِ العُضالِ والمَرَضِ الْمُزمِنِ، وهو مَن لا تَرْبَحُ عليه في دِينٍ ولا دنيا، ومع ذلك فلا بدَّ من أن تَخْسَرَ عليه الدينَ والدنيا أو أحدَهما؛ فهذا إذا تَمَكَّنَتْ مُخالَطَتُه واتَّصَلَتْ فهي مَرَضُ الموتِ الْمَخوفُ.
- ومنهم مَن مُخالطتُه كوَجَعِ الضِّرْسِ يَشْتَدُّ ضَربًا عليك؛ فإذا فارَقَكَ سكَنَ الألَمُ.
- ومِنهم مَن مُخالَطَتُه حُمَّى الرِّبْعِ وهو الثقيلُ البَغيضُ الذي لا يُحْسِنُ أن يَتكلَّمَ فيُفِيدَك ولا يُحْسِنُ أن يُنْصِتَ فيَستفيدَ منك، ولا يَعرِفُ نفسَه فيَضَعَها في مَنزِلتِها، بل إنْ تَكَلَّمَ فكلامُه كالْعِصِيِّ تَنْزِلُ على قلوبِ السامعينَ مع إعجابِه بكَلَامِه وفَرَحِه به، فهو يُحَدِّثُ من فيه، كُلَّمَا تَحَدَّثَ ويَظُنُّ أنه مِسْكٌ يَطيبُ به المجلِسُ، فإن سَكَتَ فأَثْقَلُ من نصفِ الرَّحَا العظيمةِ التي لا يُطاقُ حَمْلُها، ولا جَرُّها على الأرْضِ.
ويُذْكَرُ عن الشافعيِّ - رَحِمَه اللهُ – أنه قالَ: ما جَلَسَ إلى جانبي ثقيلٌ، إلا وَجَدْتُ الجانِبَ الذي هو فيه أَنْزَلَ من الجانِبِ الآخَرِ.
ورأيْتُ يومًا عندَ شَيخِنا -قَدَّسَ اللهُ رُوحَه- رَجُلًا من هذا الضَرْبِ، والشيخُ يَحملُه، وقد ضَعُفَت القُوَى عن حَمْلِه، فالْتَفَتَ إليَّ، وقالَ: مُجالَسَةُ الثقيلِ حُمَّى الرِّبْعِ.
ثم قالَ: لكن قد أَدْمَنَتْ أَرواحُنا على الْحُمَّى؛ فصارَتْ لها عادةً أو كما قالَ.
وبالجُملةِ فمُخالَطَةُ كلِّ مخالِفٍ حُمّى للروحِ فعَرَضِيَّةٌ ولازِمَةٌ، ومِن نَكَدِ الدنيا على العَبْدِ أن يُبْتَلَى بواحِدٍ من هذا الضَّرْبِ، وليس له بُدٌّ من مُعاشَرَتِه ومُخالَطَتِه فلْيُعَاشِرْه بالمعروفِ حتى يَجعَلَ اللهُ له فَرَجًا وَمَخْرَجًا.
القِسمُ الرابعُ: مَن مُخالَطَتُه الْهُلْكُ كلُّه، ومُخالَطَتُه بمنزِلَةِ أَكْلِ السُّمِّ، فإن اتَّفَقَ لآكلِه تَرياقٌ، و إلا فأَحْسِنِ اللهَ فيه العزاءَ، وما أَكثَرَ هذا الضَّرْبَ في الناسِ، لا كَثَّرَهُمُ اللهُ، وهم أَهْلُ البِدَِع والضلالةِ الصادُّون عن سُنَّةِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الداعون إلى خِلافِها، الذين يَصُدُّون عن سبيلِ اللهِ ويَبغونَها عِوَجًا، فيَجعلون البِدْعَةَ سُنَّةً والسُّنَّةَ بِدْعَةً، والمعروفَ مُنْكَرًا والمنكَرَ مَعروفًا:
- إن جَرَّدْتَ التوحيدَ بينَهم قالُوا: تَنَقَّصْتَ جَنابَ الأولياءِ والصالحينَ!!
- وإن جَرَّدْتَ الْمُتابَعَةَ لرسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالُوا: أَهْدَرْتَ الأئمَّةَ المتبوعينَ!!
- وإن وَصَفْتَ اللهَ بما وَصَفَ به نفسَه، وبما وَصَفَه به رسولُه من غيرِ غُلُوٍّ ولا تَقصيرٍ قالُوا: أنت من الْمُشَبِّهِينَ!!
- وإن أَمَرْتَ بما أَمَرَ اللهُ به ورَسولُه من المعروفِ ونَهَيْتَ عمَّا نَهَى اللهُ عنه ورَسولُه من الْمُنْكَرِ قالُوا: أنت من الْمُفتنِين!!
- وإن اتَّبَعْتَ السنَّةَ وتَرَكْتَ ما خالَفَها قالُوا: أنت من أَهْلِ البِدَعِ الْمُضِلِّينَ!!
- وان انْقَطَعْتَ إلى اللهِ تعالى وخَلَّيْتَ بينَهم وبين جِيفةِ الدنيا قالُوا: أنت من الْمُلَبِّسِينَ!!
- وإن تَرَكْتَ ما أنت عليه واتَّبَعْتَ أهواءَهم فأنت عندَ اللهِ من الخاسرينَ وعندَهم من المنافقينَ!!
فالحزْمُ كلُّ الحزْمِ التماسُ مَرضاتِ اللهِ تعالى ورسولِه بإغضابِهم، وأن لا تَشتغلَ بإعتابِهم ولا باستعتابِهم، ولا تُبالِي بذَمِّهِم ولا بُغْضِهم، فإنه عينُ كمالِك كما قالَ:
وإذا أَتَتْكَ مَذَمَّتِي من نَاقِصٍ ... فهي الشهادةُ لي بأنِّيَ كاملُ
وقالَ آخَرُ:
وقد زَادَنِي حُبًّا لنفسي أنني ... بَغيضٌ إلى كلِّ امرئٍ غيرِ طائلِ
فمَن كان بوَّابَ قلْبِه وحارسَه من هذه الْمَداخلِ الأربعةِ التي هي أَصْلُ بلاءِ العالِمِ، وهي فُضولُ النظَرِ والكلامِ والطعامِ والمخالَطَةِ، واستَعْمَلَ ما ذَكَرْناه من الأسبابِ التسعَةِ التي تُحْرِزُه من الشيطانِ؛ فقد أَخَذَ بنصيبِه من التوفيقِ، وسَدَّ على نفسِه أبوابَ جَهنَّمَ، وفَتَحَ عليها أبوابَ الرحمةِ وانغَمَرَ ظاهِرُه وباطنُه، ويُوشِكُ أن يَحْمَدَ عندَ الْمَماتِ عاقِبَةَ هذا الدواءِ؛ فعندَ الْمَماتِ يَحْمَدُ القومُ التُّقَى، وفي الصباحِ يَحْمَدُ القومُ السُّرَى، واللهُ الْمُوَفِّقُ لا ربَّ غيرُه و لا إلهَ سِواهُ).


التوقيع :

رد مع اقتباس
  #14  
قديم 17 ذو القعدة 1434هـ/21-09-2013م, 09:25 PM
عبد العزيز بن داخل المطيري عبد العزيز بن داخل المطيري غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 2,179
افتراضي

عشر مراتب للهداية

قال رحمه الله في "مدارج السالكين": (فصل: في مراتب الهداية الخاصّة والعامّة، وهي عشر مراتب:
المرتبة الأولى: مرتبة تكليم اللّه عزّ وجلّ لعبده يقظةً بلا واسطةٍ، بل منه إليه، وهذه أعلى مراتبها، كما كلّم موسى بن عمران، صلوات اللّه وسلامه على نبيّنا وعليه، قال اللّه تعالى: {وكلّم اللّه موسى تكليمًا}؛ فذكر في أوّل الآية وحيه إلى نوحٍ والنّبيّين من بعده، ثمَّ خصَّ موسى من بينهم بالإخبار بأنّه كلّمه، وهذا يدلّ على أنّ التّكليم الّذي حصل له أخصّ من مطلق الوحي الّذي ذكر في أوّل الآية، ثمّ أكّده بالمصدر الحقيقيّ الّذي هو مصدر "كَلَّمَ" وهو التّكليم رفعًا لما يتوهّمه المعطّلة والجهميّة والمعتزلة وغيرهم من أنّه إلهام، أو إشارة، أو تعريف للمعنى النّفسيّ بشيءٍ غير التّكليم، فأكّده بالمصدرِ المفيدِ تحقيقَ النّسبةِ ورفعَ تَوَهُّمِ المجاز.
قال الفرّاء: (العرب تسمّي ما يوصل إلى الإنسان كلامًا بأيّ طريقٍ وصل، ولكن لا تحقِّقُه بالمصدر، فإذا حقَّقَتْهُ بالمصدر لم يكن إلّا حقيقةَ الكلام، كالإرادة، يقال: فلان أراد إرادةً، يريدون حقيقة الإرادة، ويقال: أراد الجدار، ولا يقال: إرادةً، لأنّه مجاز غير حقيقةٍ) هذا كلامه.
وقال تعالى:
{ولمّا جاء موسى لميقاتنا وكلَّمَه ربّه قال ربّ أرني أنظر إليك} وهذا التّكليم غير التّكليم الأوّل الّذي أرسله به إلى فرعون، وفي هذا التّكليم الثّاني سأل النّظر لا في الأوَّل، وفيه أُعْطِيَ الألواحَ، وكان عن مواعدةٍ من اللّه له، والتّكليمُ الأوّلِ لم يكن عن مواعدةٍ، وفيه قال اللّه له: {يا موسى إنّي اصطفيتك على النّاس برسالاتي وبكلامي} أي بتكليمي لك بإجماع السّلف.
وقد أخبر سبحانه في كتابه أنّه ناداه وناجاه، فالنّداء من بعدٍ، والنّجاء من قربٍ، تقول العرب: إذا كَبِرَت الحَلْقة فهو نداء، أو نجاء، وقال له أبوه آدم في محاجّته: (( أنت موسى الّذي اصطفاك اللّه بكلامه، وخطّ لك التّوراة بيده؟)).
وكذلك يقول له أهل الموقف إذا طلبوا منه الشّفاعة إلى ربّه، وكذلك في حديث الإسراء في رؤية موسى في السّماء السّادسة أو السّابعة على اختلاف الرّواية.
قال: وذلك بتفضيله بكلام اللّه، ولو كان التّكليم الّذي حصل له من جنس ما حصل لغيره من الأنبياء لم يكن لهذا التّخصيص له في هذه الأحاديث معنًى، ولا كان يسمّى كليم الرّحمن وقال تعالى: {وما كان لبشرٍ أن يكلّمه اللّه إلّا وحيًا أو من وراء حجابٍ أو يرسل رسولًا فيوحي بإذنه ما يشاء}.
ففرّق بين تكليم الوحي، والتّكليم بإرسال الرّسول، والتّكليم من وراء حجابٍ.


المرتبة الثّانية: مرتبة الوحي المختصِّ بالأنبياء
قال اللّه تعالى: {إنّا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوحٍ والنّبيّين من بعده} وقال: {وما كان لبشرٍ أن يكلّمه اللّه إلّا وحيًا أو من وراء حجابٍ} الآية، فجعلَ الوحيَ في هذه الآية قسمًا من أقسام التَّكلِيم، وجعله في آية النّساء قسيمًا للتَّكليم، وذلك باعتبارين، فإنّه قَسيمُ التَّكليم الخاصِّ الذي هو بلا واسطةٍ، وقِسْمٌ من التّكليم العامِّ الّذي هو إيصالُ المعنى بطرقٍ متعدّدةٍ.
والوحيُ في اللّغةِ: هو الإعلام السّريع الخفيّ، ويقال في فعله: وَحَى، وأَوْحَى، قال رُؤْبَة:
وَحَى لها القرارَ فاستقرّتِ
وهو أقسام، كما سنذكره.

المرتبة الثّالثة: إرسال الرّسول الملكيّ إلى الرّسول البشريّ
فيوحى إليه عن اللّه ما أمره أن يوصله إليه.

فهذه المراتب الثّلاث خاصّة بالأنبياء لا تكون لغيرهم.
ثمّ هذا الرّسول الملكيُّ قد يتمثَّلُ للرّسولِ البشريِّ رَجُلًا، يراهُ عيانًا ويخاطبه، وقد يراه على صورته التي خُلِقَ عليها، وقد يدخل فيه الملك، ويوحي إليه ما يوحيه، ثمّ يَفْصِمُ عنه، أي يُقْلِعُ، والثّلاثة حصلتْ لنبيّنا صلى الله عليه وسلم.

المرتبة الرّابعة: مرتبة التَّحْدِيث
وهذه دون مرتبة الوحيِ الخاصِّ، وتكون دونَ مرتبة الصدِّيقينَ، كما كانت لعمرَ بنِ الخطَّاب رضي الله عنه، كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (( إنّه كان في الأمم قبلكم مُحَدَّثُون، فإن يكن في هذِه الأمَّة فعمر بن الخطاب)).
وسمعتُ شيخَ الإسلام تقيَّ الدينِ ابنَ تيميَّةَ رحمه اللّه يقول: (جزم بأنّهم كائنون في الأمم قبلنا، وعلَّق وجودَهم في هذه الأمّة بـ"إن" الشَّرطيَّة، مع أنّها أفضل الأمم، لاحتياج الأمم قبلنا إليهم، واستغناء هذه الأمّة عنهم بكمال نبيّها ورسالته، فلم يُحْوِجِ اللهُ الأمَّةَ بعدَه إلى مُحَدَّثٍ ولا مُلْهَمٍ، ولا صاحبِ كَشْفٍ ولا مَنَامٍ، فهذا التَّعْليقُ لكمَال الأمَّةِ واستغنائها لا لِنَقْصِهَا).
والمحدَّثُ: هو الذي يُحَدَّثُ في سرِّهِ وقَلْبِهِ بالشِّيء فيكونُ كما يُحَدَّثُ به.
قال شيخنا: (والصدِّيقُ أكملُ من المحدَّث، لأنَّه استغنى بكمالِ صدِّيقيَّتِه ومتابعتِهِ عن التَّحْدِيث والإلهامِ والكشفِ، فإنَّه قد سلَّم قلبَه كلَّه وسرَّه وظاهرَه وباطنَه للرَّسولِ، فاستغنَى بهِ عمَّا منه).
قال: (وكانَ هذا المحدَّثُ يعرِض ما يحدَّثُ به على ما جاء به الرَّسولُ، فإن وافَقَه قَبِلَه، وإلّا رَدَّه، فَعُلِمَ أنَّ مرتبةَ الصدِّيقيَّةِ فوقَ مرتبةَ التَّحديثِ).
قال: (وأمّا ما يقوله كثير من أصحاب الخيالات والجهالات: حدّثني قلبي عن ربّي؛ فصحيحٌ أنَّ قلبَه حدَّثه، ولكن عمَّن؟!! عن شيطانه أو عن ربّه؟
فإذا قال: حدّثني قلبي عن ربِّي، كان مسندًا الحديث إلى من لم يعلم أنَّه حدَّثَه به، وذلك كذب).
قال: (ومحدَّث الأمَّة لم يكن يقولُ ذلكَ، ولا تَفَوَّهَ بهِ يومًا من الدَّهر، وقد أعاذه اللّه من أن يقولَ ذلك، بل كتبَ كاتبُهُ يومًا: "هذا ما أرى اللهُ أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب"
فقال: (لا، امحه واكتب: هذا ما رأى عمر بن الخطّاب، فإن كان صوابًا فمن اللّه، وإن كان خطأً فمن عمر واللّه ورسوله منه بريء).
وقال في الكلالة: (أقول فيها برأيي، فإن يكن صوابًا فمن اللّه، وإن يكن خطأً فمنّي ومن الشّيطان).
فهذا قولُ المحَدَّثِ بشهادة الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم، وأنت ترى الاتِّحَادِيَّ والحُلُوليَّ والإِباحيَّ الشَّطَّاحَ والسَّمَاعيَّ مجاهرًا بالقِحَة والفِرْيةِ، يقول: "حدَّثَني قلبي عن ربِّي!!").

فانظر إلى ما بين القائلَيْن والمرتبتَيْنِ والقولَيْنِ والحالَيْنِ، وأعطِ كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، ولا تجعلِ الزَّغَل والخَالِصَ شيئًا واحدًا.

المرتبة الخامسة: مرتبة الإفهام
قالَ اللّه تعالى: {وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنّا لحكمهم شاهدين ففهّمناها سليمان وكلًّا آتينا حكمًا وعلمًا} فذكر هذين النَّبيَّيْنِ الكريمينِ، وأثنى عليهما بالعلم والحكم، وخصَّ سليمان بالفهم في هذه الواقعة المعيَّنةِ، وقال عليُّ بنُ أبي طالبٍ وقد سُئِلَ: هل خصَّكم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بشيءٍ دون النّاس؟
فقال: (لا والّذي فلق الحبّة وبرأ النّسمة، إلّا فهمًا يؤتيه اللّه عبدًا في كتابه، وما في هذه الصّحيفة) وكان فيها العقل، وهو الدّيات، وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافرٍ".
وفي كتاب عمر بن الخطّاب لأبي موسى الأشعريِّ رضيَ اللّه عنهما: (والفَهْمَ الفَهْمَ فيما أُدْلِيَ إليك).
فالفهمُ نعمةٌ مِنَ اللهِ على عَبْدِه، ونورٌ يقذفُهُ اللهُ في قلبه يعرِفُ به ويدرك ما لا يدركُهُ غيرُه ولا يعرفُه، فيفهَمُ من النَّصِّ ما لا يفهَمُه غيره مع استوائِهما في حِفْظِه وفهم أصل معناه.

فالفهمُ عن اللّه ورسوله عنوان الصِّدِّيقيَّةِ، ومنشورُ الوِلايةِ النَّبويَّةِ، وفيه تفاوُتُ مراتبِ العلماءِ، حتَّى عُدَّ أَلْفٌ بواحدٍ!!
فانظر إلى فهم ابن عبّاسٍ وقد سأله عمر، ومن حضر من أهل بدرٍ وغيرهم عن سورة "إذا جاء نصر اللّه والفتح" وما خُصَّ به ابنُ عبَّاسٍ من فَهْمِهِ منها أنَّها نَعْيُ اللهِ سبحانَه نبيَّه إلى نَفْسِهِ وإعلامِهِ بحضورِ أَجَلِه، وموافقة عمر له على ذلك، وخفائه عن غيرهما من الصّحابة، وابن عبّاسٍ إذ ذاك أحدثهم سنًّا، وأين تجد في هذه السّورة الإعلام بأجله، لولا الفهم الخاصِّ؟ ويدقُّ هذا حتَّى يَصِلَ إلى مراتبَ تتقاصَرُ عنها أفهامُ أكثرِ النَّاسِ، فيحتاجُ مع النَّصِّ إلى غيرِهِ، ولا يَقَعُ الاستغناءُ بالنُّصوصِ في حقِّه، وأمَّا في حقِّ صاحبِ الفَهْمِ فلا يحتاج مع النِّصوصِ إلى غيرها.


المرتبة السّادسة: مرتبة البيان العامِّ
وهو تَبْيينُ الحقِّ وتمييزُهُ من الباطلِ بأدِلَّتِهِ وشواهدِهِ وأَعْلامِهِ، بحيثُ يصيرُ مشهودًا للقلبِ كشهودِ العَيْنِ للمرئيَّاتِ.
وهذه المرتبة هي حُجَّةُ الله على خلقه، التي لا يعذِّب أحدًا ولا يضلُّه إلا بعدَ وصولِهِ إليهَا، قال الله تعالى:{وما كان اللّه ليضلّ قومًا بعد إذ هداهم حتّى يبيّن لهم ما يتّقون} فهذا الإضلال عقوبةٌ منه لهم، حين بيَّنَ لهم فلم يقبلوا ما بيَّنَهُ لهم، ولم يعملوا به؛ فعاقبهم بأن أضلّهم عن الهدى، وما أضلَّ الله سبحانه أحدًا قطُّ إلا بعد هذا البيان.
وإذا عَرَفْتَ هذا عرفتَ سِرَّ القَدَرِ، وزالت عنك شكوكٌ كثيرةٌ وشبهاتٌ في هذا الباب، وعَلِمْتَ حكمةَ الله في إضلاله من يضلُّهُ من عباده، والقرآن يصرِّحُ بهذا في غير موضعٍ، كقوله: {فلمّا زاغوا أزاغ اللّه قلوبهم}، {وقولهم قلوبنا غلف بل طبع اللّه عليها بكفرهم}
فالأوّل: كفر عنادٍ.
والثّاني: كفر طبعٍ.
وقوله:
{ونقلّب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أوّل مرّةٍ ونذرهم في طغيانهم يعمهون}؛ فعاقَبَهُم على ترك الإيمان بهِ حينَ تيقَّنوه وتحقَّقوهُ، بأن قلَّبَ أفئدتهم وأبصارهم فلم يهتدوا له؛
فتأمَّل هذا الموضعَ حقَّ التّأمُّلِ، فإنَّه موضعٌ عظيم.
وقال تعالى: {وأمّا ثمود فهديناهم فاستحبّوا العمى على الهدى} فهذا هدىً بعدَ البيانِ والدَّلالة، وهو شَرْطٌ لا مُوجِب، فإنَّهُ إن لم يقترن به هدًى آخر بعدَه لم يحصلْ بهِ كمالُ الاهتداءِ، وهو هدى التَّوفيقِ والإِلْهَامِ.
وهذا البيان نوعان:
- بيان بالآيات المسموعة المتلوّة.
-
وبيان بالآيات المشهودة المرئيّة.
وكلاهما أدلَّةٌ وآياتٌ على توحيدِ اللهِ وأسمائه وصفاته وكماله، وصِدْقِ ما أخبرَتْ به رسلُهُ عنه، ولهذا يدعو عباده بآياته المتلوَّةِ إلى التَّفَكُّرِ في آياتِهِ المشهودَةِ ويحضُّهم على التَّفكيرِ في هذه وهذه.
وهذا البيانُ هو الذي بُعِثَتْ به الرُّسُلُ، وجُعِلَ إليهم وإلى العلماء بعدَهم، وبعدَ ذلكَ يُضِلُّ اللهُ من يشاء، قال اللّه تعالى:
{وما أرسلنا من رسولٍ إلّا بلسان قومه ليبيّن لهم فيضلّ اللّه من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم} فالرُّسُلُ تبيِّنُ، واللّه هو الذي يُضِلُّ مَنْ يشاءُ ويهدي مَنْ يشاءُ بعزَّتِهِ وحِكْمَتِه.

المرتبة السّابعة: البيانُ الخاصُّ
وهو البيانُ المستلزِمُ للهدايةِ الخاصَّةِ، وهو بيانٌ تقارِنُه العنايةُ والتَّوفيقُ والاجتباءُ وقَطْعُ أسبابِ الخُذْلانِ وموادِّها عن القلبِ؛ فلا تتخلَّفُ عنه الهداية ألبتَّةَ، قال تعالى في هذه المرتبة: {إن تحرص على هداهم فإنّ اللّه لا يهدي من يضلّ} وقال: {إنّك لا تهدي من أحببت ولكنّ اللّه يهدي من يشاء}
فالبيانُ الأوَّلُ شرطٌ، وهذا مُوجِب.


المرتبة الثّامنة: مرتبة الإسماع
قال اللّه تعالى: {ولو علم اللّه فيهم خيرًا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولّوا وهم معرضون}، وقد قال تعالى:{وما يستوي الأعمى والبصير . ولا الظلمات ولا النور . ولا الظّلّ ولا الحرور . وما يستوي الأحياء ولا الأموات إنّ اللّه يسمع من يشاء وما أنت بمسمعٍ من في القبور . إن أنت إلّا نذير}.
وهذا الإسماعُ أخصُّ من إسماعِ الحُجَّةِ والتَّبليغِ، فإنَّ ذلكَ حاصلٌ لهم، وبه قامت الحُجَّةُ عليهِم، لكنَّ ذاك إسماعُ الآذان، وهذا إسماعُ القلوب؛ فإنّ الكلام له لفظ ومعنًى، وله نسبة إلى الأذن والقلب وتعلُّق بهما، فسماعُ لَفْظِهِ حظُّ الأذن، وسماعُ حقيقةِ معناهُ ومقصودِهِ حظُّ القلبِ؛ فإنَّه سبحانه نفى عن الكفَّارِ سماعَ المقصودِ والمرادِ الذي هو حظُّ القلبِ، وأثبتَ لهم سماعَ الألفاظِ الذي هو حظُّ الأذن في قوله:
{ما يأتيهم من ذكرٍ من ربّهم محدثٍ إلّا استمعوه وهم يلعبون لاهيةً قلوبهم} وهذا السَّماعُ لا يفيدُ السَّامعَ إلا قيامَ الحُجَّةِ عليهِ، أو تمكُّنَه منها، وأمّا مقصودُ السَّمَاعِ وثمرَتُه والمطلوبُ منه فلا يحصل مع لَهْوِ القلب وغفلتِهِ وإعراضِه، بل يخرُجُ السَّامِعُ قائلًا للحاضِرِ مَعَه: ماذا قالَ آنفًا؟! {أولئك الّذين طبع اللّه على قلوبهم}.

والفرق بين هذه المرتبة ومرتبة الإفهام أنَّ هذه المرتبةَ إنَّمَا تحصلُ بواسطة الأذنِ، ومرتبةُ الإفهام أعمُّ؛ فهي أخصُّ من مرتبة الفَهْمِ من هذا الوجه، ومرتبة الفهم أخصُّ من وجهٍ آخر، وهي أنّها تتعلَّقُ بالمعنى المرادِ ولوازِمِه ومتعلِّقاته وإشارَاته، ومرتبة السّماع مدارها على إيصال المقصود بالخطاب إلى القلب، ويترتَّب على هذا السَّماعِ سَمَاعُ القَبُولِ.
فهو إذن ثلاث مراتب: سماع الأذن، وسماع القلب، وسماع القبول والإجابة.

المرتبة التّاسعة: مرتبة الإلهام
قال تعالى: {ونفسٍ وما سوّاها فألهمها فجورها وتقواها} وقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لحصين بن منذرٍ الخزاعيِّ لمَّا أسلم قل: (( اللّهمّ ألهمني رشدي، وقني شرّ نفسي )).
وقد جعل صاحب المنازل الإلهام هو مقام المحَدَّثِين، قال: (وهو فوق مقام الفراسة، لأنّ الفراسة ربّما وقعت نادرةً، واستصعبت على صاحبها وقتًا، أو استعصت عليه، والإلهام لا يكون إلّا في مقامٍ عتيدٍ)ا.هـ.
قلتُ: التَّحديثُ أخصُّ من الإلهامِ، فإنَّ الإلهامَ عامٌّ للمؤمنينَ بحسب إيمانهم؛ فكلُّ مؤمنٍ فقدْ ألهمَهُ اللهُ رُشْدَهُ الذي حَصَلَ لهُ بهِ الإيمانُ، فأمّا التّحديثُ فالنَّبيُّ صلى اللهُ عليه وسلم قال فيه: (( إن يكن في هذه الأمّة أحد فعمر)) يعني من المحدّثين.
فالتَّحْديثُ إلهامٌ خاصٌّ، وهو الوحي إلى غيرِ الأنبياءِ إمَّا من المكلَّفِينَ، كقوله تعالى:
{وأوحينا إلى أمّ موسى أن أرضعيه} وقوله: {وإذ أوحيت إلى الحواريّين أن آمنوا بي وبرسولي} وإمّا من غير المكلَّفين، كقوله تعالى: {وأوحى ربّك إلى النّحل أن اتّخذي من الجبال بيوتًا ومن الشّجر وممّا يعرشون} فهذا كلُّه وَحْيُ إلهامٍ.
وأمّا جعله فوقَ مقامِ الفِرَاسة فقد احتجَّ عليه بأنَّ الفِرَاسةَ ربَّما وقعتْ نادرةً كما تقدَّم، والنّادرُ لا حُكْمَ له، وربَّما استعصتْ على صاحبها واستصعبَتْ عليه فلم تطاوعْه، والإلهامُ لا يكون إلا في مقامٍ عتيدٍ، يعني في مقام القُرْبِ والحضور.
والتَّحقيق في هذا أنَّ كلَّ واحدٍ من "الفراسة" و "الإلهام" ينقسم إلى: عامٍّ وخاصٍّ، وخاصُّ كلِّ واحدٍ منهما فوقَ عامِّ الآخَر، وعامُّ كلِّ واحدٍ قد يقعُ كثيرًا، وخاصُّه قد يقعُ نادرًا.
ولكنَّ الفرْقَ الصَّحيحَ أنَّ الفراسة قد تتعلَّق بنوع كَسْبٍ وتحصيلٍ، وأمّا الإلهام فموهبة مجرَّدَة، لا تُنال بكسبٍ ألبتَّة.

فصل : درجات الإلهام
قال: (وهو على ثلاث درجاتٍ:
الدّرجة الأولى: نبأ يقع وحيًا قاطعًا مقرونًا بسماعٍ، إذ مطلق النّبأ الخبر الّذي له شأن، فليس كلّ خبرٍ نبأً، وهو نبأ خبرٍ عن غيبٍ معظّمٍ.
ويريد بالوحي والإلهام: الإعلام الّذي يقطع من وصل إليه بموجبه، إمّا بواسطة سمعٍ، أو هو الإعلام بلا واسطةٍ)ا.هـ.
قلت: أمّا حصوله بواسطة سَمْعٍ فليسَ ذلكَ إلهامًا، بل هو من قبيلِ الخِطَابِ، وهذا يستحيل حصولُه لغيرِ الأنبياء، وهو الذي خُصَّ به موسى إذْ كان المخاطبَ هو الحقُّ عزَّ وجلَّ.
وأمّا ما يقع لكثيرٍ من أرباب الرِّياضَات من سماعٍ فهو من أحد وجوهٍ ثلاثةٍ لا رابع لها:
أعلاها: أن يخاطبه الملَك خطابًا جُزئيًّا، فإنّ هذا يقع لغير الأنبياء، فقد كانت الملائكة تخاطب عمران بن حصينٍ بالسَّلام، فلمَّا اكتوى تركَتْ خِطَابه، فلمَّا تَرَكَ الكيَّ عادَ إليِه خِطَابٌ ملكيٌّ، وهو نوعان:
- أحدهما: خطابٌ يسمعه بأذنه، وهو نادر بالنَّسبة إلى عمومِ المؤمنين.
- والثَّاني: خِطَابٌ يُلْقَى في قلبِه يُخاطِبُ به المَلَكُ روحَه، كما في الحديث المشهور (( إنَّ للمَلَكِ لَمَّةً بقلبِ ابنِ آدم، وللشيطان لَمَّةً، فلَمَّةُ الملَكِ: إيعادٌ بالخير وتصديقٌ بالوعد، ولَمَّةُ الشّيطانِ إيعادٌ بالشَّرِّ وتكذيب بالوعد، ثمّ قرأ: {الشّيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء واللّه يعدكم مغفرةً منه وفضلًا} )).
وقال تعالى:
{إذ يوحي ربّك إلى الملائكة أنّي معكم فثبِّتوا الّذين آمنوا} قيل في تفسيرها: قَوُّوا قلوبَهم، وبشِّرُوهم بالنَّصر، وقيل: احضُرُوا معهم القتال، والقولان حقّ، فإنَّهم حضَرُوا معَهم القتال، وثبَّتُوا قلوبَهم.
ومِنْ هذا الخطابِ واعظُ اللهِ عزَّ وجلَّ في قلوبِ عبادِهِ المؤمنين، كما في جامع التِّرمذيِّ ومسند أحمد من حديث النَّوَّاسِ بن سَمْعَان عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: (( إنَّ اللّه تعالى ضربَ مثلًا صراطًا مستقيمًا، وعلى كنفتي الصِّرَاط سُوران، لهما أبواب مفتَّحَة، وعلى الأبوابِ ستورٌ مُرْخَاة، وداعٍ يدعو على رأسِ الصِّرَاطِ، وداعٍ يدعو فوق الصِّرَاط، فالصِّراط المستقيمُ: الإسلام، والسُّوران حدودُ اللهِ، والأبوابُ المفتَّحَةُ محارمُ اللهِ، فلا يقَعُ أحدٌ في حدٍّ من حدود الله حتَّى يكشِفَ السِّتْر، والدّاعي على رأسِ الصِّرَاطِ كتابُ الله، والدَّاعي فوقَ الصِّراطِ واعظُ اللهِ في قَلْبِ كلِّ مؤمنٍ)).
فهذا الواعظُ في قلوبِ المؤمنينَ هو الإلهامُ الإلهيُّ بواسِطَةِ الملائكة.
وأمّا وقوعُه بغيرِ واسطةٍ فما لم يتبيَّن بعد، والجزم فيه بنفيٍ أو إثباتٍ موقوف على الدّليل، واللّه أعلم.

النّوع الثّاني من الخطاب المسموع
خِطَابُ الهواتِف من الجانِّ، وقد يكونُ المخاطِبُ جِنِّيًّا مؤمنًا صالحًا، وقد يكون شيطانًا، وهذا أيضًا نوعان:
أحدهما: أن يخاطِبَه خطابًا يَسْمَعُه بأذنه.
والثّاني:أن يُلْقِي في قلبه عندما يلمُّ به، ومنه وَعْدُه وتَمْنِيَتُه حينَ يَعِدُ الإنسيَّ ويمنِّيه، ويأمرُه وينهاه، كما قال تعالى: {يعدهم ويمنّيهم وما يعدهم الشّيطان إلّا غرورًا} وقال: {الشّيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء} ولِلقلب من هذا الخطاب نصيبٌ، وللأذن أيضًا منه نصيب، والعِصْمة منتفيةٌ إلا عن الرُّسُل، ومجموعُ الأمّة.
فمن أين للمخاطَبِ أنَّ هذا الخطاب رحمانيٌّ أو مَلَكِيٌّ ؟ بأيّ برهانٍ ؟ أو بأيّ دليلٍ ؟ والشّيطان يقذف في النَّفْسِ وَحْيَه، ويُلْقِي في السَّمْع خطَابَه، فيقولُ المغرورُ المخدوع: قيل لي وخوطبت!!
صَدَقْتَ، لكنَّ الشَّأنَ في القائل لكَ والمخاطِب، وقد قال عمر بن الخطّاب رضي اللّه عنه لغيلان بن سلمة وهو من الصّحابة لمَّا طلَّق نساءَه وقسَّم مالَه بين بنيه: (إنِّي لأظنُّ الشَّيطانَ فيما يسترقُ من السَّمْعِ سَمِعَ بموتك؛ فقذَفَه في نفسك).
فَمَنْ يأمنُ القُرَّاء بعدك يا شَهْرُ؟!

النّوع الثّالث: خطابٌ حاليِّ، تكونُ بدايته من النَّفْسِ، وَعَوْدُه إليها، فيتوهَّمُه من خارجٍ، وإنَّما هو من نَفْسِهِ، منها بَدَأَ وإليها يعود.
وهذا كثيرًا ما يعرض للسَّالك، فَيَغْلَطُ فيه، ويعتقدُ أنَّه خِطَابٌ من الله، كلَّمَهُ بهِ منهُ إليه، وسَبَبُ غَلَطِهِ أنَّ اللَّطيفةَ المُدْرَكَةَ منَ الإنسانِ إذا صَفَتْ بالرِّيَاضَةِ، وانقطَعَتْ عُلَقُها عن الشَّواغل الكثيفةِ صارَ الحُكْمِ لها بحكم استيلاء الرّوح والقلب على البدن، ومصير الحكم لهما، فتنصرف عناية النّفس والقلب إلى تجريد المعاني الّتي هي متّصلة بهما، وتشتدّ عناية الرّوح بها، وتصير في محلّ تلك العلائق والشّواغل، فتملأ القلب، فتنصرف تلك المعاني إلى المنطق والخطاب القلبيّ الرّوحيّ بحكم العادة، ويتّفق تجرّد الرّوح، فتشكّل تلك المعاني للقوّة السّامعة بشكل الأصوات المسموعة، وللقوّة الباصرة بشكل الأشخاص المرئيّة، فيرى صورها، ويسمع الخطاب، وكلّه في نفسه ليس في الخارج منه شيء، ويحلف أنّه رأى وسمع، وصدّق، لكن رأى وسمع في الخارج، أو في نفسه ؟ ويتّفق ضعف التّمييز، وقلّة العلم، واستيلاء تلك المعاني على الرّوح، وتجرّدها عن الشّواغل.
فهذه الوجوه الثّلاثة هي وجوه الخطاب ، ومن سمّع نفسه غيرها فإنّما هو غرور، وخدع وتلبيس، وهذا الموضع مقطع القول، وهو من أجلّ المواضع لمن حقّقه وفهمه، واللّه الموفّق للصّواب.

فصل:
قال: (الدَّرَجة الثَّانية: إلهامٌ يقع عيانًا، وعلامة صحَّته أنَّه لا يَخْرِقُ سترًا، ولا يجاوِزُ حدًّا، ولا يُخْطِئُ أبدًا).
ش: الفرق بين هذا وبين الإلهام في الدّرجة الأولى: أنَّ ذلك علمٌ شبيهٌ بالضَّروريِّ الذي لا يمكن دَفْعُهُ عن القلب، وهذا معاينة ومكاشفة، فهو فوقُه في الدَّرجة، وأتمُّ منه ظهورًا، ونسبتُه إلى القلبِ نسبةُ المرئيِّ إلى العَيْنِ، وذَكَر له ثلاث علاماتٍ:
إحداها: أنّه لا يخرق سترًا، أي صاحبه إذا كوشف بحالٍ غير المستور عنه لا يَخْرِقُ سترَه ويكشفُه، خيرًا كان أو شرًّا، أو أنَّه لا يخرق ما سترَهُ اللهُ من نفسِهِ عن النَّاس، بل يستُرُ نفسَه، ويستُرُ من كوشِفَ بحالِه.
الثّانية: أنَّه لا يجاوِزُ حدًّا، يحتمل وجهين:
- أحدهما: أنَّه لا يتجاوزُ به إلى ارتكابِ المعاصي، وتجاوزِ حدودِ اللهِ، مثلِ الكُهَّانِ، وأصحابِ الكشفِ الشَّيطانيِّ.
- الثّاني: أنّه لا يقع على خلاف الحدود الشَّرعيَّةِ، مثلِ أن يتجسَّسَ به على العوراتِ الّتي نَهَى اللّه عن التَّجَسُّسِ عليها وتتبُّعِها، فإذا تتبَّعَها وقعَ عليها بهذا الكشفِ، فهو شيطانيٌّ لا رحماني.
الثّالثة: أنّه لا يخطئ أبدًا، بخلاف الشّيطانيّ، فإنّ خطأه كثير، كما قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلمَ لابن صائدٍ: (( ما ترى ؟))
قال: أرى صادقًا وكاذبًا.
فقال: (( لُبِّسَ عليك ))
فالكشفُ الشَّيطانيُّ لا بدَّ أن يكذب، ولا يستمرُّ صِدْقُه ألبتَّةَ
.

فصل:
قال: (الدّرجة الثّالثة: إلهام يجلو عين التّحقيق صرفًا، وينطق عن عين الأزل محضًا، والإلهام غاية تمتنع الإشارة إليها).
ش: عينُ التَّحقيقِ عنده هي الفناء في شهودِ الحقيقة، بحيثُ يَضْمَحِلُّ كلُّ ما سواها في ذلك الشُّهودِ، وتعودُ الرُّسوم أعدامًا محضةً، فالإلهامُ في هذه الدَّرَجة يجلو هذا العينَ للمُلْهَمِ صِرْفًا، بحيث لا يمازِجُها شيءٌ من إدراكِ العُقولِ ولا الحواسِّ، فإن كان هناك إدراك عقليٌّ أو حِسِّيٌّ لم يتمحَّض جلاءُ عينِ الحقيقةِ.
والنَّاطق عن هذا الكشف عندهم لا يَفْهَم عنه إلا من هو معه، ومشارِكٌ له، وعند أربابِ هذا الكشف أنَّ كلَّ الخلقِ عنه في حجابٍ، وعندهم أنَّ العلم والعقل والحالَ حُجُبٌ عليه!!
وأنَّ خطابَ الخلق إنّما يكون على لسان الحجابِ!!
وأنّهم لا يفهمون لغةَ ما وراء الحجاب من المعنى المحجوب؛ فلذلك تمتنع الإشارة إليه، والعبارة عنه، فإنّ الإشارة والعبارة إنّما يتعلّقان بالمحسوس والمعقول، وهذا أمر وراء الحسِّ والعقل.

وحاصلُ هذا الإلهامِ أنَّه إلهامٌ ترتفع معه الوسائط وتضمحلُّ وتَعْدَمُ، لكن في الشُّهود لا في الوجود.
وأمَّا الاتِّحَاديَّةُ القائلون بوَحْدَةِ الوجود فإنَّهم يجعلون ذلك اضمحلالًا وعَدَمًا في الوجود، ويجعلون صاحب "المنازل"(1) منهم، وهو بريء منهم عقلًا ودينًا وحالًا ومعرفةً، والله أعلم.


المرتبة العاشرة من مراتب الهداية: الرُّؤيا الصَّادقة
وهي من أجزاء النُّبوَّةِ كما ثبت عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلمَ أنّه قال: (( الرّؤيا الصّادقة جزء من ستّةٍ وأربعين جزءًا من النّبوّة )).
وقد قيل في سبب هذا التّخصيص المذكور: إنَّ أوَّلَ مبتدأ الوحي كان هو الرُّؤيا الصَّادقة، وذلك نِصْفُ سنةٍ، ثمّ انتقل إلى وحي اليقظة مدَّة ثلاثٍ وعشرين سنةً، من حين بُعِثَ إلى أن تُوفِّي، صلواتُ الله وسلامه عليه، فنسبة مدَّةِ الوحي في المنام من ذلك جزء من ستَّةٍ وأربعين جزءًا، وهذا حسن، لولا ما جاء في الرّواية الأخرى الصّحيحة: (( إنّها جزء من سبعين جزءًا )).
وقد قيل في الجمع بينهما: إن ذلك بحسب حال الرَّائي، فإنَّ رؤيا الصِّدِّيقين من ستّةٍ وأربعين، ورؤيا عموم المؤمنين الصَّادقة من سبعين، والله أعلم.
والرّؤيا مبدَأ الوحي، وصِدْقُها بحسب صِدْقِ الرَّائي، وأصدَقُ النَّاس رؤيا أصدَقُهم حديثًا، وهي عند اقتراب الزَّمَان لا تكادُ تخطِئ، كما قال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلم، وذلك لِبُعْدِ العَهْدِ بالنُّبوَّةِ وآثارِها، فيتعوَّضُ المؤمنونَ بالرّؤيا، وأمَّا في زمن قوَّةِ نور النبوةِ ففي ظهور نورها وقوَّتِه ما يغني عن الرُّؤيا.
ونظيرُ هذا الكرامات التي ظهرت بعد عصر الصحابة ولم تظهرْ عليهم، لاستغنائهم عنها بقوَّةِ إيمانهم، واحتياج من بعدهم إليها لضعف إيمانهم، وقد نصَّ أحمدُ على هذا المعنى، وقال عبادة بن الصّامت: (رؤيا المؤمنِ كلامٌ يكلِّم بهِ الرَّبُّ عبدَه في المنام)
وقد قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((
لم يَبْقَ من النُّبُوَّةِ إلا المبشِّرَات))
قيل: وما المبشِّراتُ يا رسول الله؟
قال: ((
الرُّؤيا الصَّالحة، يراها المؤمن أو تُرى له، وإذا تواطَأَت رؤيا المسلمين لم تكذبْ)).
وقد قال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم لأصحابه لمَّا أُرُوا ليلةَ القَدْرِ في العشر الأواخر، قال: (( أرى رؤياكم قد تواطأت في العشر الأواخر، فمن كان منكم متحرِّيَها فليتحرَّها في العشر الأواخر من رمضان)).
- والرّؤيا كالكَشْفِ، منها رحمانيٌّ، ومنها نفسانيٌّ، ومنها شيطانيٌّ، وقال النَّبيُّ صلى اللهُ عليه وسلم: (( الرّؤيا ثلاثة: رؤيا من اللّه، ورؤيا تَحْزينٌ من الشيطان، ورؤيا ممَّا يحدِّثُ به الرَّجُلُ نفسَه في اليقظة فيراه في المنام)).
- والذي هو من أسباب الهداية:هو الرُّؤيا التي مِنَ الله خاصَّة.
- ورؤيا الأنبياء وحي، فإنَّها معصومة من الشيطان، وهذا باتِّفَاق الأمَّة، ولهذا أقدمَ الخليلُ على ذبح ابنه إسماعيل عليهما السّلام بالرُّؤيا.
- وأمّا رؤيا غيرهم فتُعْرَض على الوحي الصَّريح، فإن وافَقَتْهُ وإلا لم يُعْمَل بها.
فإن قيل: فما تقولون إذا كانت رؤيا صادقة أو تواطأت؟
قلنا: متى كانت كذلك استحالَ مخالفتُها للوحي، بل لا تكون إلا مطابقةً له، منبِّهةً عليه، أو منبِّهَةً على اندراج قضيَّةٍ خاصَّةٍ في حُكْمِه لم يعرف الرَّائي اندراجها فيه؛ فيتنبَّهُ بالرُّؤيا على ذلك.
- ومن أراد أن تَصْدُق رؤياه فليتحرَّ الصِّدْقَ وأَكْلَ الحلال، والمحافظةَ على الأمر والنّهي، ولْيَنَمْ على طهارةٍ كاملةٍ مستقبلَ القِبلةِ، ويذكرِ الله حتى تغلِبَه عيناه، فإنَّ رؤياه لا تكادُ تكذب ألبتَّةَ.

- وأصدق الرّؤيا: رؤيا الأسحار، فإنَّه وقتُ النُّزولِ الإلهيِّ، واقترابِ الرَّحمة والمغفرة، وسُكُونِ الشَّياطين.
وعكسه: رؤيا العَتَمَة، عند انتشار الشَّياطين والأرواح الشَّيطانيَّة.
وقال عبادة بن الصّامت رضي اللّه عنه: ( رؤيا المؤمن كلام يكلّم به الرّبّ عبده في المنام ).

- وللرُّؤيا مَلَكٌ موكَّلٌ بها يريها العبدَ في أمثالٍ تناسِبُه وتُشَاكِلُه، فيضربُها لكلِّ أحَدٍ بحسَبه.
وقال مالك: (الرّؤيا من الوحي وحي)، وزجر عن تفسيرها بلا علمٍ، وقال: (أتتلاعب بوحي اللّه؟).

ولذكر الرُّؤيَا وأحكامها وتفاصيلها وطرق تأويلها مظانّ مخصوصة بها، يُخْرِجُنا ذِكْرُها عن المقصود، والله أعلم).


(1) يريد أبا إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري الهروي (ت:481هـ) صاحب كتاب "منازل السائرين" ، وهو الكتاب الذي شرحه ابن القيم رحمه الله في كتابه مدارج السالكين.


التوقيع :

رد مع اقتباس
  #15  
قديم 6 جمادى الآخرة 1435هـ/6-04-2014م, 04:10 PM
الصورة الرمزية هدي خليل
هدي خليل هدي خليل غير متواجد حالياً
عضو جديد
 
تاريخ التسجيل: Apr 2014
المشاركات: 1
افتراضي

شكرا خوي عبد العزيز الله يجزاك خير

رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 01:33 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
جميع الحقوق محفوظة