العودة   جمهرة العلوم > قسم التفسير > جمهرة التفاسير > تفسير سورة المائدة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 18 ربيع الثاني 1434هـ/28-02-2013م, 06:32 PM
أم إسماعيل أم إسماعيل غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Dec 2010
المشاركات: 4,914
افتراضي تفسير سورة المائدة [ من الآية (4) إلى الآية (5) ]

تفسير سورة المائدة
[ من الآية (4) إلى الآية (5) ]


بسم الله الرحمن الرحيم
{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللّهُ فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4) الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)}


رد مع اقتباس
  #2  
قديم 19 ربيع الثاني 1434هـ/1-03-2013م, 11:16 PM
أم إسماعيل أم إسماعيل غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Dec 2010
المشاركات: 4,914
افتراضي تفسير السلف

تفسير السلف

تفسير قوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4) )
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (أنا معمر عن قتادة في قوله تعالى: {وما علمتم من الجوارح مكلبين} قال أخبرني ليث أنه سمع مجاهدا وسئل عن الصقر والبازي والفهد وما يصطاد به من السباع فقال هذه كلها جوارح). [تفسير عبد الرزاق: 1/184]
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (عن معمر عن عاصم بن سليمان عن الشعبي عن عدي بن حاتم قال قلت يا رسول الله إن أرضي أرض صيد قال إذا أرسلت كلبك وسميت فكل ما أمسك عليك كلبك وإن قتل فإن أكل منه فلا تأكل فإنه إنما أمسك على نفسه فإذا أرسلت كلبك فخالطته أكلب لم تسم عليها فلا تأكل فإنك لا تدري أيها قتلته). [تفسير عبد الرزاق: 1/184]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {يسألونك ماذا أحلّ لهم قل أحلّ لكم الطّيّبات وما علّمتم من الجوارح مكلّبين تعلّمونهنّ ممّا علّمكم اللّه فكلوا ممّا أمسكن عليكم واذكروا اسم اللّه عليه واتّقوا اللّه إنّ اللّه سريع الحساب}
يعني بذلك جلّ ثناؤه: يسألك يا محمّد أصحابك ما الّذي أحلّ لهم أكله من المطاعم والمآكل، فقل لهم: أحلّ منها الطّيّبات، وهي الحلال الّذي أذن لكم ربّكم في أكله من الذّبائح، وأحلّ لكم أيضًا مع ذلك صيد ما علّمتم من الجوارح، وهنّ الكواسب من سباع البهائم والطّير،
سمّيت جوارح لجرحها لأربابها وكسبها إيّاهم أقواتهم من الصّيد، يقال منه: جرح فلانٌ لأهله خيرًا: إذا أكسبهم خيرًا، وفلانٌ جارحة أهله: يعني بذلك: كاسبهم، ولا جارحة لفلانة إذا لم يكن لها كاسبٌ، ومنه قول أعشى بني ثعلبة:
ذات خدٍّ منضجٍ ميسمها = يذكر الجارح ما كان اجترح
يعني: اكتسب.
وترك من قوله: {وما علّمتم} وصيد ما علّمتم من الجوارح اكتفاءً بدلالة ما ذكر من الكلام على ما ترك ذكره. وذلك أنّ القوم فيما بلغنا كانوا سألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حين أمرهم بقتل الكلاب عمّا يحلّ لهم اتّخاذه منها وصيده، فأنزل اللّه عزّ ذكره فيما سألوا عنه من ذلك هذه الآية فاستثنى ممّا كان حرّم اتّخاذه منها، وأمر بقتلة كلاب الصّيد وكلاب الماشية وكلاب الحرث، وأذن لهم باتّخاذ ذلك.
ذكر الخبر بذلك:
- حدّثنا أبو كريبٍ، قال: حدّثنا زيد بن حبابٍ العكليّ، قال: حدّثنا موسى بن عبيدة، قال: حدثني ابان بن صالحٌ، عن القعقاع بن حكيمٍ، عن سلمى أمّ رافعٍ، عن أبي رافعٍ، قال: جاء جبريل إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم يستأذن عليه، فأذن له، فقال: قد أذنّا لك يا رسول اللّه قال: أجل، ولكنّا لا ندخل بيتًا فيه كلبٌ. قال أبو رافعٍ: فأمرني أن أقتل كلّ كلبٍ بالمدينة, فقتلت حتّى انتهيت إلى امرأةٍ عندها كلبٌ ينبح عليها، فتركته رحمةً لها، ثمّ جئت إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فأخبرته، فأمرني، فرجعت إلى الكلب فقتلته، فجاءوا فقالوا: يا رسول اللّه، ما يحلّ لنا من هذه الأمّة الّتي أمرت بقتلها؟ قال: فسكت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فأنزل اللّه: {يسألونك ماذا أحلّ لهم قل أحلّ لكم الطّيّبات وما علّمتم من الجوارح مكلّبين}.
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن عكرمة: أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم بعث أبا رافعٍ في قتل الكلاب، فقتل حتّى بلغ العوالي، فدخل عاصم بن عديٍّ وسعد بن خيثمة وعويم بن ساعدة، فقالوا: ماذا أحلّ لنا يا رسول اللّه؟ فنزلت: {يسألونك ماذا أحلّ لهم قل أحلّ لكم الطّيّبات وما علّمتم من الجوارح مكلّبين}.
- حدّثنا المثنّى، قال: حدّثنا إسحاق، قال: حدّثنا عبد اللّه بن الزّبير، قال: حدّثونا عن محمّد بن كعبٍ القرظيّ، قال: لمّا أمر النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم بقتل الكلاب، قالوا: يا رسول اللّه، ماذا أحلّ لنا من هذه الأمّة؟ فنزلت: {يسألونك ماذا أحلّ لهم} الآية.
ثمّ اختلف أهل التّأويل في الجوارح الّتي عنى اللّه بقوله: {وما علّمتم من الجوارح} فقال بعضهم هو كلّ ما علّم الصّيد فتعلّمه من بهيمةٍ أو طائرٍ.
ذكر من قال ذلك:.
- حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا ابن المبارك، عن إسماعيل بن مسلمٍ، عن الحسن، في قوله: {وما علّمتم من الجوارح مكلّبين} قال: كلّ ما علّم فصاد: من كلبٍ، أو صقرٍ، أو فهدٍ، أو غيره.
- حدّثنا ابن وكيعٍ، قال: حدّثنا ابن فضيلٍ، عن إسماعيل بن مسلمٍ، عن الحسن: {مكلّبين} قال: كلّ ما علّم فصاد من كلبٍ أو فهدٍ أو غيره.
- حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا ابن المبارك، عن معمرٍ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، في صيد الفهد، قال: هو من الجوارح.
- حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا حكّامٌ، عن عنبسة، عن محمّد بن عبد الرّحمن، عن القاسم بن أبي بزّة، عن مجاهدٍ، في قوله: {وما علّمتم من الجوارح مكلّبين} قال: الطّير، والكلاب.
- حدّثنا ابن وكيعٍ، قال: حدّثنا أبو خالدٍ الأحمر، عن الحجّاج، عن عطاءٍ، عن القاسم بن أبي بزّة، عن مجاهدٍ، مثله.
- حدّثنا ابن وكيعٍ، قال: حدّثنا حفص عن حجاج عن القاسم بن نافع عن مجاهد مثلة.
- حدّثنا ابن وكيعٍ، قال:حدثنا ابن عيينة، عن حميدٍ، عن مجاهدٍ: {مكلّبين} قال: من الكلاب والطّير.
- حدّثنا محمّد بن عمرٍو، قال: حدّثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قول اللّه: {من الجوارح مكلّبين} قال: من الطّير والكلاب.
- حدّثنا المثنّى: حدّثنا أبو حذيفة، قال: حدّثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، مثله.
- حدّثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدّثنا ابن عليّة، قال: حدّثنا شعبة، ح وثنا ابن وكيعٍ، قال: حدّثنا أبي، عن شعبة، عن الهيثم، عن طلحة بن مصرّفٍ، قال: خيثمة بن عبد الرّحمن: هذا ما قد بيّنت لك أنّ الصّقر والبازي من الجوارح.
- حدّثنا محمّد بن المثنّى قال: حدّثنا محمّد بن جعفرٍ، قال: حدّثنا شعبة، قال: سمعت الهيثم يحدّث عن طلحة الإياميّ، عن خيثمة، قال:قد أنبئت لك أنّ الصّقر، والباز، والكلب: من الجوارح.
- حدّثنا ابن بشّارٍ، قال: حدّثنا عبد الرّحمن، قال: حدّثنا عبد اللّه بن عمر، عن نافعٍ، عن عليّ بن حسينٍ، قال: الباز الصّقر من الجوارح.
- حدّثنا ابن وكيعٍ، قال: حدّثنا يحيى بن يمانٍ، عن شريكٍ، عن جابرٍ، عن أبي جعفرٍ، قال: الباز والصّقر من الجوارح المكلّبين.
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا عبد اللّه، قال: حدّثني معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عبّاسٍ، قوله: {وما علّمتم من الجوارح مكلّبين} يعني بالجوارح: الكلاب الضّواري والفهود والصّقور وأشباهها.
- حدّثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرّزّاق، قال: أخبرنا معمرٌ، عن ابن طاووسٍ، عن أبيه: {وما علّمتم من الجوارح مكلّبين} قال: من الكلاب وغيرها، من الصّقور والبيزان وأشباه ذلك ممّا يعلّم.
- حدّثني محمّد بن سعدٍ، قال: حدّثني أبي قال: حدّثني عمّي، قال: حدّثني أبي عن أبيه، عن ابن عبّاسٍ قوله: {وما علّمتم من الجوارح مكلّبين} الجوارح: الكلاب والصّقور المعلّمة.
- حدّثني سعيد بن الرّبيع الرّازيّ، قال: حدّثنا سفيان، عن عمرو بن دينارٍ، سمع عبيد بن عميرٍ، يقول في قوله: {من الجوارح مكلّبين} قال: الكلاب والطّير.
وقال آخرون: إنّما عنى اللّه جلّ ثناؤه بقوله: {وما علّمتم من الجوارح مكلّبين} الكلاب دون غيرها من السّباع.
ذكر من قال ذلك:.
- حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا أبو تميلة، قال: حدّثنا عبيدٌ، عن الضّحّاك: {وما علّمتم من الجوارح مكلّبين} قال: هي الكلاب.
- حدّثنا محمّد بن الحسين، قال: حدّثنا أحمد بن مفضّلٍ، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ، قوله: {وما علّمتم من الجوارح مكلّبين} يقول: أحلّ لكم صيد الكلاب الّتي علّمتموهنّ.
- حدّثنا هنّادٌ، قال: حدّثنا ابن أبي زائدة، قال: أخبرنا ابن جريجٍ، عن نافعٍ، عن ابن عمر، قال: أمّا ما صاد من الطّير والبزاة وغيرها من الطّير، فما أدركت فهو لك، وإلا فلا تطعمه.
وأولى القولين بتأويل الآية، قول من قال: كلّ ما صاد من الطّير والسّباع فمن الجوارح، وإنّ صيد جميع ذلك كله حلالٌ إذا صاد بعد التّعليم، لأنّ اللّه جلّ ثناؤه عمّ بقوله: {وما علّمتم من الجوارح مكلّبين} كلّ جارحةٍ، ولم يخصّص منها شيئًا، فكلّ جارحةٍ كانت بالصّفة الّتي وصف اللّه من كلّ طائرٍ وسبعٍ فحلالٌ أكل صيدها.
وقد روي عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، بنحو ما قلنا في ذلك خبرٌ، مع ما في الآية من الدّلالة الّتي ذكرنا على صحّة ما قلنا في ذلك، وهو ما:.
- حدّثنا به، هنّادٌ، قال: حدّثنا عيسى بن يونس، عن مجالدٍ، عن الشّعبيّ، عن عديّ بن حاتمٍ، قال: سألت رسول اللّه عن صيد البازي، فقال: ما أمسك عليك فكل فأباح صلّى اللّه عليه وسلّم صيد البازي وجعله من الجوارح، ففي ذلك دلالةٌ بيّنةٌ على فساد قول من قال: عنى اللّه بقوله: {وما علّمتم من الجوارح} ما علّمنا من الكلاب خاصّةً دون غيرها من سائر الجوارح.
فإن ظنّ ظانٌّ أنّ في قوله {مكلّبين} دلالةً على أنّ الجوارح الّتي ذكرت في قوله: {وما علّمتم من الجوارح} هي الكلاب خاصّةً، فقد ظنّ غير الصّواب، وذلك أنّ معنى الآية: قل أحلّ لكم أيّها النّاس في حال مصيركم أصحاب كلابٍ الطّيّبات وصيد ما علّمتموه الصّيد من كواسب السّباع والطّير. فقوله: {مكلّبين} صفةٌ للقانص، وإن صاد بغير الكلاب في بعض أحيانه، وهو نظير قول القائل يخاطب قومًا: أحلّ لكم الطّيّبات، وما علّمتم من الجوارح مؤمّنين؛ فمعلومٌ أنّه إنّما عنى قائل ذلك إخبار القوم أنّ اللّه جلّ ذكره أحلّ لهم في حال كونهم أهل إيمانٍ الطّيّبات، وصيد الجوارح لا أن الايمان هوالجورح الّتي أعلمهم أنّه لا يحلّ لهم منه إلاّ ما صادوه به، فكذلك قوله: {أحلّ لكم الطّيّبات وما علّمتم من الجوارح مكلّبين} لذلك نظيره في أنّ التّكليب صفة للقانص بالكلاب كان صيده أو بغيرها، لا أنّه إعلامٌ من اللّه عزّ ذكره أنّه لا يحلّ من الصّيد إلاّ ما صادته الكلاب). [جامع البيان: 8/99-107]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {تعلّمونهنّ ممّا علّمكم اللّه}
يعني جلّ ثناؤه بقوله: {تعلّمونهنّ} تؤدّبون الجوارح، فتعلّمونهنّ طلب الصّيد لكم ممّا علّمكم اللّه، يعني بذلك: من التّأديب الّذي أدّبكم اللّه والعلم الّذي علّمكم.
وقد قال بعض أهل التّأويل: معنى قوله: {ممّا علّمكم اللّه} كما علّمكم اللّه.
ذكر من قال ذلك:.
- حدّثنا محمّد بن الحسين، قال: حدّثنا أحمد بن المفضّل، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ: {تعلّمونهنّ ممّا علّمكم اللّه} يقول: تعلّمونهنّ من الطّلب كما علّمكم اللّه
ولسنا نعرف في كلام العرب من بمعنى الكاف، لأنّ من تدخل في كلامهم بمعنى التّبعيض، والكاف بمعنى التّشبيه. وإنّما يوضع الحرف مكان آخر غيره إذا تقارب معنياهما، فأمّا إذا اختلفت معانيهما فغير موجودٍ في كلامهم وضع أحدهما عقيب الآخر، وكتاب اللّه وتنزيله أحرى الكلام أن يجنّب ما خرج عن المفهوم والغاية في الفصاحة من كلام من نزل بلسانه.
- حدّثنا أبو كريبٍ، قال: حدّثنا إسماعيل بن صبيحٍ، قال: حدّثنا أبو هانئٍ، عمر عن أبي بشرٍ، قال: حدّثنا عامرٌ، أنّ عديّ بن حاتمٍ الطّائيّ، قال: أتى رجلٌ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يسأله عن صيد الكلاب، فلم يدر ما يقول له، حتّى نزلت هذه الآية: {تعلّمونهنّ ممّا علّمكم اللّه}.فان قال لنا قائل وما صفة التعليم التي أذن لنا ربنا بتعليمنا جورحنا صيدنا فقال لنا {وما علّمتم من الجوارح مكلّبين تعلّمونهنّ ممّا علّمكم اللّه}
قيل: اختلف أهل التّأويل في ذلك، فقال بعضهم: هو أن يستشلى لطلب الصّيد إذا أرسله صاحبه، ويمسك عليه إذا أخذه فلا يأكل منه، ويستجيب له إذا دعاه، ولا يفرّ منه إذا أراده، فإذا تتابع ذلك منه مرارًا كان معلّمًا. وهذا قول جماعةٍ من أهل الحجاز وبعض أهل العراق.
ذكر من قال ذلك:.
- حدّثنا محمّد بن بشّارٍ، قال: حدّثنا أبو عاصمٍ، قال: أخبرنا ابن جريجٍ، قال: قال عطاءٌ: كلّ شيءٍ قتله صائدك قبل أن يعلّم ويمسك ويصيد فهو ميتةٌ، ولا يكون قتله إيّاه ذكاةً حتّى يعلّم ويمسك ويصيد، فإن كان ذلك ثمّ قتل فهو ذكاته.
- حدّثني محمّد بن سعدٍ، قال: حدّثني أبي قال: حدّثني عمّي، قال: حدّثني أبي عن أبيه، عن ابن عبّاسٍ، قال:ايه المعلّم من الكلاب أن يمسك صيده فلا يأكل منه حتّى يأتيه صاحبه، فإن أكل من صيده قبل أن يأتيه صاحبه فيدرك ذكاته، فلا يأكل من صيده.
- حدّثنا أبو كريبٍ، قال: حدّثنا ابن عيينة، عن عمرٍو، عن طاووسٍ، عن ابن عبّاسٍ، قال: إذا أكل الكلب فلا تأكل، فإنّما أمسك على نفسه.
- حدّثنا أبو كريبٍ، ويعقوب بن إبراهيم، قالا: حدّثنا إسماعيل بن إبراهيم، قال: حدّثنا أبو المعلّى، عن سعيد بن جبيرٍ، قال: قال ابن عبّاسٍ: إذا أرسل الرّجل الكلب فأكل من صيده فقد أفسده، وإن كان ذكر اسم اللّه حين أرسله، فزعم أنّه إنّما أمسك على نفسه، واللّه يقول {من الجوارح} مكلّبين تعلّمونهنّ ممّا علّمكم اللّه فزعم أنّه إذا أكل من صيده قبل أن يأتيه صاحبه أنّه ليس بمعلّمٍ، وأنّه ينبغي أن يضرب ويعلّم حتّى يترك ذلك الخلق.
- حدّثنا أبو كريبٍ، قال: حدّثنا معمرٌ الرّقّيّ، عن حجّاجٍ، عن عطاءٍ، عن ابن عبّاسٍ، قال: إذا أخذ الكلب فقتل فأكل، فهو سبعٌ.
- حدّثنا ابن المثنّى قال: حدّثني عبد الأعلى، قال: حدّثنا داود، عن عامرٍ، عن ابن عبّاسٍ، قال: لا يأكل منه، فإنّه لو كان معلّمًا لم يأكل منه ولم يتعلّم ما علّمته، إنّما أمسك على نفسه ولم يمسك عليك.
- حدّثنا ابن المثنّى قال: حدّثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا داود، عن الشّعبيّ، عن ابن عبّاسٍ، بنحوه.
- حدّثنا محمّد بن بشّارٍ، قال: حدّثنا عبد الرّحمن، قال: حدّثنا سفيان، عن حمّادٍ، عن إبراهيم، عن ابن عبّاسٍ، قال: إذا أكل الكلب فلا تأكل.
- حدّثنا ابن بشّارٍ، قال: حدّثنا عبد الرّحمن، قال: حدّثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن الشّعبيّ، عن ابن عبّاسٍ، بمثله.
- حدّثنا حميد بن مسعدة، قال: حدّثنا بشر بن المفضّل، قال: حدّثنا ابن عونٍ، قال: قلت لعامرٍ الشّعبيّ: الرّجل يرسل كلبه فيأكل منه، أنأكل منه؟ قال: لا، لم يتعلّم الّذي علّمته.
- حدّثنا أبو كريبٍ، قال: حدّثنا ابن إدريس، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ، عن ابن عمر، قال: إذا أكل الكلب من صيدٍ فاضربه، فإنّه ليس بمعلّمٍ.
- حدّثنا سوّار بن عبد اللّه، قال: حدّثنا يحيى بن سعيدٍ، عن ابن جريجٍ، عن ابن طاووسٍ، عن أبيه، قال: إذا أكل الكلب فهو ميتةٌ، فلا تأكله.
- حدّثنا الحسن بن عرفة، قال: حدّثنا هشيمٌ، عن أبي بشرٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، وسيّارٍ، عن الشّعبيّ، ومغيرة، عن إبراهيم، أنّهم قالوا: في الكلب إذا أكل من صيده فلا تأكل، فإنّما أمسك على نفسه.
- حدّثنا ابن بشّارٍ، قال: حدّثنا أبو عاصمٍ، قال: أخبرنا ابن جريجٍ، قال: قال عطاءٌ: إن وجدت الكلب قد أكل من الصّيد، فما وجدته ميّتًا فدعه، فإنّه ممّا لم يمسك عليك حينئدًا، إنّما هو سبعٌ أمسك على نفسه ولم يمسك عليك، وإن كان قد علّم.
- حدّثنا محمّد بن الحسن، قال: حدّثنا أحمد بن المفضّل، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ: بنحوه.
وقال آخرون نحو هذه المقالة، غير أنّهم حدّوا لمعرفة الكلاب بأنّ كلبه قد قبل التّعليم، وصار من الجوارح الحلال صيدها أن يفعل ذلك كلبه مرّاتٍ ثلاثًا وهذا قولٌ محكيّ عن أبي يوسف ومحمّد بن الحسن.
وقال آخرون ممّن قال هذه المقالة: لا حدّ لعلم الكلاب بذلك من كلبه أكثر من أن يفعل كلبه ما وصفنا أنّه له تعليمٌ؛ قالوا: فإذا فعل ذلك فقد صار معلّمًا حلالاً صيده. وهذا قول بعض المتأخّرين.
وفرّق بعض قائلي هذه المقالة بين تعليم البازي وسائر الطّيور الجارحة، وتعليم الكلب وضاري السّباع الجارحة، فقال: جائزٌ أكل ما أكل منه البازي من الصّيد. قالوا: وإنّما تعليم البازي أن يطير إذا استشلي، ويجيب إذا دعي، ولا ينفّر من صاحبه إذا أراد أخذه. قالوا: وليس من شروط تعليمه أن لا يأكل من الصّيد.
ذكر من قال ذلك:.
- حدّثنا هنّاد بن السّريّ، قال: حدّثنا هشيمٌ، عن مغيرة، عن إبراهيم، وحجّاجٍ، عن عطاءٍ، قال: لا بأس بصيد البازي وإن أكل منه.
- حدّثنا أبو كريبٍ، قال: حدّثنا أسباطٌ، قال: حدّثنا أبو إسحاق الشّيبانيّ، عن حمّادٍ، عن إبراهيم، عن ابن عبّاسٍ، أنّه قال في الطّير: إذا أرسلته فقتل فكل، فإنّ الكلب إذا ضربته لم يعد، وإنّ تعليم الطّير: أن يرجع إلى صاحبه، وليس يضرب فإذا أكل من الصّيد ونتف من الرّيش فكل.
- حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا يحيى بن واضحٍ، قال: حدّثنا أبو حمزة، عن جابرٍ، عن الشّعبيّ، قال: ليس البازي والصّقر كالكلب، فإذا أرسلتهما فأمسكا فأكلا فدعوتهما فأتياك، فكل منه.
- حدّثنا هنّادٌ، قال: حدّثنا أبو زبيدٍ، عن مطرّفٍ، عن حمّادٍ، قال إبراهيم: كلّ صيد البازي وإن أكل منه.
- حدّثنا هنّادٌ، قال: حدّثنا وكيعٌ، عن سفيان، عن حمّادٍ، عن إبراهيم، وجابرٍ، عن الشّعبيّ، قالا: كل من صيد البازي وإن أكل.
- حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا جريرٌ، عن مغيرة، عن حمّادٍ، عن إبراهيم: إذا أكل البازي والصّقر من الصّيد، فكل، فإنّه لا يعلّم.
- حدّثنا ابن بشّارٍ، قال: حدّثنا عبد الرّحمن، قال: حدّثنا سفيان، عن حمّادٍ، عن إبراهيم، قال: لا بأس بما أكل منه البازي.
- حدّثنا ابن المثنّى، قال: حدّثنا محمّد بن جعفرٍ، قال: حدّثنا شعبة، عن حمّادٍ، أنّه قال في البازي: إذا أكل منه قال كل.
وقال آخرون منهم: سواءٌ تعليم الطّير والبهائم والسّباع، لا يكون نوعٌ من ذلك معلّمًا إلاّ بما يكون به سائر الأنواع معلّمًا. وقالوا: لا يحلّ أكل شيءٍ من الصّيد الّذي صادته جارحةٌ فأكلت منه، كائنةً ما كانت تلك الجارحة بهيمةً أو طائرًا. قالوا: لأنّ من شروط تعليمها الّذي يحلّ به صيدها، أن تمسك ما صادت على صاحبها فلا تأكل منه.
ذكر من قال ذلك:.
- حدّثنا هنّادٌ، وأبو كريبٍ، قالا: حدّثنا ابن أبي زائدة، قال: حدّثنا محمّد بن سالمٍ، عن عامرٍ، قال: قال عليٌّ: إذا أكل البازي من صيده فلا تأكل.
- حدّثنا ابن المثنّى، قال: حدّثنا ابن جعفرٍ، عن شعبة، عن مجالد بن سعيدٍ، عن الشّعبيّ، قال: إذا أكل البازي منه فلا تأكل.
- حدّثنا هنّادٌ، قال: حدّثنا وكيعٌ، عن سفيان، عن سالمٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، قال: إذا أكل البازي فلا تأكل.
- حدّثنا هنّادٌ، قال: حدّثنا وكيعٌ، عن عمرو بن الوليد الشنيّ، قال: سمعت عكرمة، قال: إذا أكل البازي فلا تأكل.
- حدّثنا ابن بشّارٍ، قال: حدّثنا أبو عاصمٍ، قال: أخبرنا ابن جريجٍ، قال: قال عطاءٌ: الكلب والبازي كلّه واحدٌ، لا تأكل ما أكل منه من الصّيد إلاّ أن تدرك ذكاته فتذكّيه قال: قلت لعطاءٍ: البازي ينتف الرّيش؟ قال: فما أدركته ولم يأكل، فكل قال ذلك غير مرّةٍ.
وقال آخرون: تعليم كلّ جارحةٍ من البهائم والطّير واحدٌ، قالوا: وتعليمه الّذي يحلّ به صيده أن يشلى على الصّيد فيستشلي ويأخذ الصّيد، ويدعوه صاحبه فيجيبه، أو لا يفرّ منه إذا أخذه. قالوا: فإذا فعل الجارح ذلك كان معلّمًا داخلا في المعنى الّذي قال اللّه: {وما علّمتم من الجوارح مكلّبين تعلّمونهنّ ممّا علّمكم اللّه فكلوا ممّا أمسكن عليكم} قالوا: وليس من شرط تعليم ذلك أن لا يأكل من الصّيد، قالوا: وكيف يجوز أن يكون ذلك من شرطه وهو يؤدّب بأكله؟.
ذكر من قال ذلك:.
- حدّثنا ابن أبي الشّوارب، قال: حدّثنا يزيد بن زريعٍ، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، عن سعيدٍ، أو سعدٍ، عن سلمان، قال: إذا أرسلت كلبك على صيدٍ، وذكرت اسم اللّه عليه فأن أكل ثلثيه وبقي ثلثه، فكل ما بقي.
- حدّثنا حميد بن مسعدة، قال: حدّثنا بشر بن المفضّل، قال: حدّثنا حميدٌ، قال: حدّثني القاسم بن ربيعة، عمّن حدّثه، عن سلمان وبكر بن عبد اللّه، عمّن حدّثه، عن سلمان: أنّ الكلب يأخذ الصّيد فيأكل منه، قال: كل وإن أكل ثلثيه إذا أرسلته وذكرت اسم اللّه وكان معلّمًا.
- حدّثنا ابن بشّارٍ وابن المثنّى قالا: حدّثنا محمّد بن جعفرٍ، قال: حدّثنا شعبة، قال: سمعت قتادة يحدّث عن سعيد بن المسيّب، قال: قال سلمان: كل وإن أكل ثلثيه؛ يعني: الصّيد إذا أكل ثلثيه؛ يعني: الصّيد إذا أكل منه الكلب.
- حدّثنا هنّادٌ، قال: حدّثنا وكيعٌ، عن شعبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيّب، عن سلمان، نحوه.
- حدّثنا ابن المثنّى قال: حدّثنا ابن أبي عديٍّ وعبد العزيز بن عبد الصّمد، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيّب، قال: قال سلمان: إذا أرسلت كلبك المعلّم وذكرت اسم اللّه فأكل ثلثه وبقى فكل.
- حدّثنا هنّادٌ، قال: حدّثنا عبدة، عن سعيدٍ، عن قتادة، عن سعيدٍ، عن سلمان، نحوه.
- حدّثنا مجاهد بن موسى، قال: حدّثنا يزيد، أخبرنا حميد عن بكر بن عبد اللّه المزنيّ والقاسم، أنّ سلمان قال: إذا أكل الكلب فكل، وإن أكل ثلثيه.
- حدّثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدّثنا ابن عليّة، عن داود بن أبي الفرات، عن محمّد بن زيدٍ، عن سعيد بن المسيّب، قال: قال سلمان: إذا أرسلت كلبك أو بازك، فسمّيت، فأكل نصفه أو ثلثيه، فكل بقيّته.
- حدّثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: أخبرني مخرمة بن بكيرٍ، عن أبيه، عن حميد بن مالك بن خثيمٍ الدّؤليّ، أنّه سأل سعد بن أبي وقّاصٍ عن الصّيد، يأكل منه الكلب، فقال: كل وإن لم يبق منه إلاّ حذيةٌ، يعني بضعةٌ.
- حدّثنا محمّد بن المثنّى، قال: حدّثني عبد الصّمد، قال: حدّثنا شعبة، عن عبد ربّه بن سعيدٍ، قال: سمعت بكير بن الأشجّ، يحدّث عن سعدٍ، قال: كل وإن أكل ثلثيه.
- حدّثنا ابن المثنّى، قال: حدّثنا سعيد بن الرّبيع، قال: حدّثنا شعبة، عن عبد ربّه بن سعيدٍ، قال: سمعت بكير بن الأشجّ، عن سعيد بن المسيّب، قال شعبة: قلت: سمعته من، سعيدٍ؟ قال: لا. قال: كل وإن أكل ثلثيه. قال: ثمّ إنّ شعبة قال في حديثه عن سعدٍ، قال: كل وإن أكل نصفه.
- حدّثنا ابن المثنّى، قال: حدّثني عبد الأعلى، قال: حدّثنا داود، عن عامرٍ، عن أبي هريرة، قال: إذا أرسلت كلبك فأكل منه، فإن أكل ثلثيه وبقي ثلثه فكل.
- حدّثنا ابن المثنّى قال: حدّثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا داود بن أبي هندٍ، عن الشّعبيّ، عن أبي هريرة، بنحوه.
- حدّثنا هنّادٌ، قال: حدّثنا أبو معاوية، عن داود بن أبي هندٍ، عن الشّعبيّ، عن أبي هريرة، نحوه.
- حدّثنا ابن المثنّى قال: حدّثني سالم بن نوحٍ العطّار، عن عمر يعني ابن عامرٍ، عن قتادة، عن سعيد بن المسيّب، عن سلمان، قال: إذا أرسلت كلبك المعلّم فأخذ فقتل، فكل وإن أكل ثلثيه.
- حدّثنا محمّد بن عبد الأعلى، قال: حدّثنا المعتمر، قال: سمعت عبد اللّه، ح وحدّثنا هنّادٌ، قال: حدّثنا عبدة، عن عبيد اللّه بن عمر، عن نافعٍ، عن عبد اللّه بن عمر، قال: إذا أرسلت كلبك المعلّم وذكرت اسم اللّه فكل ما أمسك عليك، أكل أو لم يأكل.
- حدّثنا ابن المثنّى: حدّثنا عبد الوهّاب، قال: حدّثنا عبيد اللّه، عن نافعٍ، عن ابن عمر، بنحوه.
- حدّثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: أخبرني ابن أبي ذئبٍ، أنّ نافعًا، حدّثهم: أنّ عبد اللّه بن عمر كان لا يرى بأكل الصّيد بأسًا، إذا قتله الكلب أكل منه.
- حدّثني يونس به مرّةً أخرى، فقال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: حدّثني عبيد اللّه بن عمر وابن أبي ذئبٍ وغير واحدٍ، أنّ نافعًا حدّثهم عن عبد اللّه بن عمر، فذكر نحوه.
- حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا يحيى بن واضحٍ، قال: حدّثنا محمّد بن أبي ذئبٍ، عن نافعٍ، عن ابن عمر: أنّه كان لا يرى بأسًا بما أكل الكلب الضّاري.
- حدّثنا هنّادٌ، قال: حدّثنا وكيعٌ، عن ابن أبي ذئبٍ عن نافع عن ابن عمرو نحوه.
- حدّثنا هنّادٌ، قال: حدّثنا وكيعٌ، عن ابن أبي ذئبٍ، عن بكير بن عبد اللّه بن الأشجّ، عن حميد بن عبد اللّه، عن سعدٍ، قال: قلت: لنا كلابٌ ضوارٍ يأكلن ويبقين؟ قال: كل وإن لم يبق إلاّ بضعةً.
- حدثنا هنّادٌ، قال: حدّثنا قبيصة، عن سفيان، عن ابن أبي ذئبٍ، عن يعقوب بن عبد اللّه بن الأشجّ، عن حميدٍ، قال: سألت سعدًا، فذكر نحوه
وأولى الأقوال في ذلك بالصّواب عندنا في تأويل قوله: {تعلّمونهنّ ممّا علّمكم اللّه} أنّ التّعليم الّذي ذكره اللّه في هذه الآية للجوارح، إنّما هو أن يعلّم الرّجل جارحه الاستشلاء إذا أشلي على الصّيد، وطلبه إيّاه إذا أغري به، وإمساكه عليه إذا أخذ من غير أن يأكل منه شيئًا، وألاّ يفرّ منه إذا أراده، وأن يجيبه إذا دعاه، فذلك هو تعليم جميع الجوارح طيرها وبهائمها. وإن أكل من الصّيد جارحة صائدٍ، فجارحته حينئذٍ غير معلّمٍ. فإن أدرك صيده صاحبه حيًّا فذكّاه حلّ له أكله، وإن أدركه ميّتًا لم يحلّ له، لأنّه ممّا أكله السّبع الّذي حرّمه اللّه تعالى بقوله: {وما أكل السّبع} ولم يدرك ذكاته.
وإنّما قلنا ذلك أولى الأقوال في ذلك بالصّواب لتظاهر الأخبار عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بما.
- حدّثنا به ابن حميدٍ، قال: حدّثنا ابن المبارك، عن عاصم بن سليمان الأحول، عن الشّعبيّ، عن عديّ بن حاتمٍ، أنّه سأل النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم عن الصّيد، فقال: إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم اللّه عليه، فإن أدركته وقد قتل وأكل منه، فلا تأكل منه شيئًا، فإنّما أمسك على نفسه.
- حدّثنا أبو كريبٍ، وأبو هشامٍ الرّفاعيّ، قالا: حدّثنا محمّد بن فضيلٍ، عن بيان بن بشرٍ، عن عامرٍ، عن عديّ بن حاتمٍ، قال: سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فقلت: إنّا قومٌ نتصيّد بهذه الكلاب؟ فقال: إذا أرسلت كلابك المعلّمة وذكرت اسم اللّه عليها، فكل ما أمسكن عليك وإن قتلن، إلاّ أن يأكل الكلب، فإن أكل فلا تأكل، فإنّي أخاف أن يكون إنّما حبسه على نفسه.
فإن قال قائلٌ: فما أنت قائلٌ فيما:
- حدّثك به، عمران بن بكّارٍ الكلاعيّ، قال: حدّثنا عبد العزيز بن موسى، قال: حدّثنا محمّد بن دينارٍ، عن أبي إياس، عن سعيد بن المسيّب، عن سلمان الفارسيّ، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، قال: إذا أرسل الرّجل كلبه على الصّيد فأدركه وقد أكل منه. فليأكل ما بقي قيل: هذا خبرٌ في إسناده نظرٌ، فإنّ سعيدًا غير معلومٍ له سماعٌ من سلمان، والثّقات من أهل الآثار يقفون هذا الكلام على سلمان ويروونه عنه من قبله غير مرفوعٍ إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم. والحفّاظ الثّقات إذا تتابعوا على نقل شيءٍ بصفةٍ فخالفهم واحدٌ منفردٌ ليس له حفظهم، كانت الجماعة الأثبات أحقّ بصحّة ما نقلوا من الفرد الّذي ليس له حفظهم. وإذا كان الأمر في الكلب على ما ذكرت من أنّه إذا أكل من الصّيد فغير معلّمٍ، فكذلك حكم كلّ جارحةٍ في أنّ ما أكل منها من الصّيد فغير معلّمٍ، لا يحلّ له أكل صيده إلاّ أن يدرك ذكاته). [جامع البيان: 8/107-122]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {فكلوا ممّا أمسكن عليكم}
يعني بقوله: {فكلوا ممّا أمسكن عليكم} فكلوا أيّها النّاس ممّا أمسكت عليكم جوارحكم.
واختلف أهل التّأويل في معنى ذلك، فقال بعضهم: ذلك على الظّاهر والعموم كما عمّه اللّه حلالٌ أكل كلّ ما أمسكت علينا الكلاب والجوارح المعلّمة من الصّيد الحلال أكله، أكل منه الجارح والكلاب أو لم يأكل منه، أدركت ذكاته فذكّي أو لم تدرك ذكاته حتّى قتلته الجوارح، بجرحها إيّاه أو بغير جرحٍ. وهذا قول الّذين قالوا: تعليم الجوارح الّذي يحلّ به صيدها أن تعلّم الاستشلاء على الصّيد وطلبه إذا أشليت عليه وأخذه، وترك الهرب من صاحبها دون ترك الأكل من صيدها إذا صادته. وقد ذكرنا قول قائلي هذه المقالة والرّواية عنهم بأسانيدها الواردة آنفًا
وقال آخرون: بل ذلك على الخصوص دون العموم، قالوا: ومعناه: فكلوا ممّا أمسكن عليكم من الصّيد جميعه دون بعضه. قالوا: فإن أكلت الجوارح منه بعضًا وأمسكت بعضًا، فالّذي أمسكت منه غير جائزٍ أكله وقد أكلت بعضه لأنّها إنّما أمسكت ما أمسكت من ذلك الصّيد بعد الّذي أكلت منه على أنفسها لا علينا، واللّه تعالى ذكره إنّما أباح لنا كلّ ما أمسكته جوارحنا المعلّمة علينا بقوله: {فكلوا ممّا أمسكن عليكم} دون ما أمسكته على أنفسها، وهذا قول من قال: تعليم الجوارح الّذي يحلّ به صيدها، أن تستشلي للصّيد إذا أشليت فتطلبه وتأخذه، فتمسكه على صاحبها فلا تأكل منه شيئًا، ولا تفرّ من صاحبها؛ وقد ذكرنا ممّن قال ذلك فيما مضى منهم جماعةٌ كثيرةٌ، ونذكر منهم جماعةً آخر في هذا الموضع.
- حدّثنا المثنّى، قال: حدّثنا عبد اللّه، قال: حدّثني معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عبّاسٍ، قوله: {فكلوا ممّا أمسكن عليكم} يقول: كلوا ممّا قتلن. قال عليّ: وكان ابن عبّاسٍ يقول: إن قتل وأكل فلا تأكل، وإن أمسك فأدركته حيًّا فذكّه.
- حدّثني محمّد بن سعدٍ، قال: حدّثني أبي قال: حدّثني عمّي، قال: حدّثني أبي عن أبيه، عن ابن عبّاسٍ، قال: إن أكل المعلّم من الكلاب من صيده قبل أن يأتيه صاحبه فيدرك ذكاته، فلا يأكل من صيده.
- حدّثنا محمّد بن الحسين، قال: حدّثنا أحمد بن المفضّل، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ: {فكلوا ممّا أمسكن عليكم} إذا صاد الكلب فأمسكه وقد قتله ولم يأكل منه، فهو حلٌّ، فإن أكل منه، فيقال: إنّما أمسك لنفسه، فلا تأكل منه شيئًا، إنّه ليس بمعلّمٍ.
- حدّثنا بشر بن معاذٍ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة: {يسألونك ماذا أحلّ لهم} إلى قوله: {فكلوا ممّا أمسكن عليكم واذكروا اسم اللّه عليه} قال: إذا أرسلت كلبك المعلّم أو طيرك أو سهمك، فذكرت اسم اللّه، فأخذ أو قتل، فكل.
- حدّثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذٍ، يقول: أخبرنا عبيد بن سلمان، قال: سمعت الضّحّاك، يقول: إذا أرسلت كلبك المعلّم وذكرت اسم اللّه حين ترسله فأمسك أو قتل فهو حلالٌ، فإذا أكل منه فلا تأكله، فإنّما أمسكه على نفسه.
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثنا أبو معاوية، عن عاصمٍ، عن الشّعبيّ، عن عديٍّ، قوله: {فكلوا ممّا أمسكن عليكم} قال: قلت: يا رسول اللّه، إنّ أرضي أرض صيدٍ؟ قال: إذا أرسلت كلبك وسمّيت فكل ممّا أمسك عليك كلبك، وإن قتل، فإن أكل فلا تأكل فإنّما أمسك على نفسه.
وقد بيّنّا أولى القولين في ذلك بالصّواب قبل، فأغنى ذلك عن إعادته وتكراره.
فإن قال قائلٌ: وما وجه دخول من في قوله: {فكلوا ممّا أمسكن عليكم} وقد أحلّ اللّه لنا صيد جوارحنا الحلال، ومن إنّما تدخل في الكلام مبعّضةً لما دخلت فيه؟
قيل: قد اختلف في معنى دخولها في هذا الموضع أهل العربيّة، فقال بعض نحويّي البصرة حين دخلت من في هذا الموضع لغير معنًى، كما تدخله العرب في قولهم: كان من مطرٍ، وكان من حديثٍ. قال: ومن ذلك قوله: {ويكفّر عنكم من سيّئاتكم} وقوله: {وينزّل من السّماء من جبالٍ فيها من بردٍ} قال: وهو فيما فسّر: وينزّل من السّماء جبالاً فيها بردٌ. قال: وقال بعضهم: {وينزّل من السّماء من جبالٍ فيها من بردٍ} أي من السّماء من بردٍ، بجعل الجبال من بردٍ في السّماء، وبجعل الإنزال منها.
وكان غيره من أهل العربيّة ينكر ذلك ويقول: لم تدخل من إلاّ لمعنًى مفهومٍ لا يجوز الكلام ولا يصلح إلاّ به، وذلك أنّها دالّةٌ على التّبعيض. وكان يقول: معنى قولهم: قد كان من مطرٍ، وكان من حديثٍ: هل كان من مطرٍ مطر عندكم، وهل من حديثٍ حدّث عنكم. ويقول: معنى {ويكفّر عنكم من سيّئاتكم} أي ويكفّر عنكم من سيّئاتكم ما يشاء ويريد، وفي قوله: {وينزّل من السّماء من جبالٍ فيها من بردٍ} فيجيز حذف من من {من بردٍ} ولا يجيز حذفها من الجبال، ويتأوّل معنى ذلك: وينزّل من السّماء أمثال جبال بردٍ، ثمّ أدخلت من في البرد، لأنّ البرد مفسّرٌ عنده عن الأمثال: أعني: أمثال الجبال، وقد أقيمت الجبال مقام الأمثال والجبال وهي جبال بردٍ، فلا يجيز حذف من من الجبال، لأنّها دالّةٌ على أنّ الّذي في السّماء الّذي أنزل منه البرد أمثال جبال بردٍ، وأجاز حذف من من البرد، لأنّ البرد مفسّرٌ عن الأمثال، كما تقول: عندي رطلان زيتًا، وعندي رطلان من زيتٍ، وليس عندك الرّطل وإنّما عندك المقدار، فمن تدخل في المفسّر وتخرج منه. وكذلك عند قائل هذا القول: من السّماء، من أمثال جبالٍ، وليس بجبالٍ. وقال: وإن كان أنزل من جبالٍ في السّماء من بردٍ جبالاً، ثمّ حذف الجبال الثّانية والجبال الأوّل في السّماء جاز، كما تقول: أكلت من الطّعام، تريد: أكلت من الطّعام طعامًا، ثمّ تحذف الطّعام ولا تسقط من.
والصّواب من القول في ذلك، أنّ من لا تدخل في الكلام إلاّ لمعنًى مفهومٍ، وقد يجوز حذفها في بعض الكلام وبالكلام إليه حاجةٌ لدلالة ما يظهر من الكلام عليها، فأمّا أن تكون في الكلام لغير معنًى أفادته بدخولها، فذلك ما قد بيّنّا فيما مضى أنّه غير جائزٍ أن يكون فيما صحّ من الكلام.
ومعنى دخولها في قوله: {فكلوا ممّا أمسكن عليكم} للتّبعيض إذ كانت الجوارح تمسك على أصحابها ما أحلّ اللّه لهم لحومه وحرّم عليهم فرثه ودمه، فقال جلّ ثناؤه: فكلوا ممّا أمسكت عليكم جوارحكم الطّيّبات الّتي أحللت لكم من لحومها دون ما حرّمت عليكم من خبائثه من الفرث والدّم وما أشبه ذلك ممّا لم أطيّبه لكم، فذلك معنى دخول من في ذلك.
وأمّا قوله: {ويكفّر عنكم من سيّئاتكم} فقد بيّنّا وجه دخولها فيه فيما مضى بما أغنى عن إعادته.
وأمّا دخولها في قوله: {وينزّل من السّماء من جبالٍ} فسنبيّنه إذا أتينا عليه إن شاء اللّه تعالى). [جامع البيان: 8/122-127]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {واذكروا اسم اللّه عليه}
يعني جلّ ثناؤه بقوله: {واذكروا اسم اللّه} على ما أمسكت عليكم جوارحكم من الصّيد. كما:.
- حدّثنا المثنّى، قال: حدّثنا عبد اللّه، قال: حدّثني معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عبّاسٍ، قوله: {واذكروا اسم اللّه عليه} يقول: إذا أرسلت جارحك فقل: بسم اللّه، وإن نسيت فلا حرج.
- حدّثنا محمّدٌ، قال: حدّثنا أحمد، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ، قوله: {واذكروا اسم اللّه عليه} قال: إذا أرسلته فسمّ عليه حين ترسله على الصّيد). [جامع البيان: 8/128]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {واتّقوا اللّه إنّ اللّه سريع الحساب} يعني بذلك جلّ ثناؤه: واتّقوا اللّه أيّها النّاس فيما أمركم به وفيما نهاكم عنه، فاحذروه في ذلك أن تقدموا على خلافه، وأن تأكلوا من صيد الجوارح غير المعلّمة أو ممّا لم تمسك عليكم من صيدها وأمسكته على أنفسها، أو تطعموا ما لم يسمّ اسم اللّه عليه من الصّيد والذّبائح ممّا صاده أهل الأوثان وعبدة الأصنام ومن لا يوحّد اللّه من خلقه، أو ذبحوه، فإنّ اللّه قد حرّم ذلك عليكم فاجتنبوه.
ثمّ خوّفهم إن هم فعلوا ما نهاهم عنه من ذلك ومن غيره فقال: اعلموا أنّ اللّه سريعٌ حسابه لمن حاسبه على نعمه عليه منكم وشكر الشّاكر منكم ربّه، على ما أنعم به عليه بطاعته إيّاه فيما أمر ونهى، لأنّه حافظٌ لجميع ذلك منكم محيط به، لا يخفى عليه منه شيءٌ، فيجازي المطيع منكم بطاعته والعاصي بمعصيته، وقد بيّن لكم جزاء الفريقين). [جامع البيان: 8/128-129]
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ الحَسَنِ الهَمَذَانِيُّ (ت: 352هـ): (ثنا إبراهيم قال ثنا آدم قال ثنا ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال الجوارح الطير والكلاب). [تفسير مجاهد: 185-186]
قال محمدُ بنُ عبدِ اللهِ الحاكمُ النَّيْسابوريُّ (ت: 405هـ): (حدّثني أبو بكرٍ محمّد بن أحمد بن بالويه، ثنا محمّد بن شاذان الجوهريّ، ثنا معلّى بن منصورٍ، ثنا ابن أبي زائدة، عن محمّد بن إسحاق، عن أبان بن صالحٍ، عن القعقاع بن حكيمٍ، عن سلمى، عن أبي رافعٍ، قال: أمرنا رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم بقتل الكلاب فقال النّاس: يا رسول اللّه، ما أحلّ لنا من هذه الأمّة الّتي أمرت بقتلها؟ فأنزل اللّه " {يسألونك ماذا أحلّ لهم قل أحلّ لكم الطّيّبات، وما علّمتم من الجوارح مكلّبين} [المائدة: 4] «هذا حديثٌ صحيح الإسناد ولم يخرجاه»). [المستدرك: 2/340]
قال محمدُ بنُ عبدِ اللهِ الحاكمُ النَّيْسابوريُّ (ت: 405هـ): (حدّثنا أبو العبّاس محمّد بن يعقوب، ثنا الحسن بن عليّ بن عفّان العامريّ، ثنا يحيى بن فضيلٍ، ثنا الحسن بن صالحٍ، عن سماك بن حربٍ، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ رضي اللّه عنهما، قال: إنّما «أحلّت ذبائح اليهود والنّصارى من أجل أنّهم آمنوا بالتّوراة والإنجيل» هذا حديثٌ صحيح الإسناد ولم يخرجاه "). [المستدرك: 2/341]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (قوله تعالى: {يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه واتقوا الله إن الله سريع الحساب}.
أخرج الفريابي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي في "سننه" عن أبي رافع قال: جاء جبريل إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فاستأذن عليه فأذن له فأبطأ فاخذ رداءه فخرج فقال: قد أذنا لك قال: أجل ولكنا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة فنظروا فإذا في بعض بيوتهم جرو، قال أبو رافع: فأمرني أن أقتل كل كلب بالمدينة ففعلت وجاء الناس فقالوا: يا رسول الله ماذا يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها فسكت النّبيّ صلى الله عليه وسلم فانزل الله {يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أرسل الرجل كلبه وذكر اسم الله فامسك عليه فليأكل ما لم يأكل.
وأخرج ابن جرير عن عكرمة، أن النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعث أبا رافع في قتل الكلاب فقتل حتى بلغ العوالي فدخل عاصم بن عدي وسعد بن خيثمة وعويم بن ساعدة فقالوا: ماذا أحل لنا يا رسول الله فنزلت {يسألونك ماذا أحل لهم} الآية.
وأخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي قال لما أمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب قالوا: يا رسول الله ماذا أحل لنا من هذه الأمة فنزلت {يسألونك ماذا أحل لهم} الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير أن عدي بن حاتم وزيد بن المهلهل الطائيين سألا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا: يا رسول الله إنا قوم نصيد بالكلاب والبزاة وإن كلاب آل ذريح تصيد البقر والحمير والظباء قد حرم الله الميتة، فماذا يحل لنا فنزلت {يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات}.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير عن عامر، أن عدي بن حاتم الطائي أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن صيد الكلاب فلم يدر ما يقول له حتى أنزل الله عليه هذه الآية في المائدة {تعلمونهن مما علمكم الله}.
وأخرج ابن جرير عن رعوة بن الزبير عمن حدثه أن رجلا من الأعراب أتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم يستفتيه في الذي حرم الله عليه والذي أحل له فقال له النّبيّ صلى الله عليه وسلم: يحل لك الطيبات ويحرم عليك الخبائث إلا أن تفتقر إلى طعام لك فتأكل منه حتى تستغني عنه، فقال الرجل: وما فقري الذي يحل لي وما غناي الذي يغنيني عن ذلك قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: إذا كنت ترجو نتاجا فتبلغ من لحوم ماشيتك إلى نتاجك أو كنت ترجو غنى تطلبه فتبلغ من ذلك شيئا فاطعم أهلك ما بدا لك حتى تستغني عنه، فقال الأعرابي: ما غناي الذي أدعه إذا وجدته فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا أرويت أهلك غبوقا من الليل فاجتنب ما حرم الله عليك من طعام وأما مالك فإنه ميسور كله ليس فيه حرام.
وأخرج الطبراني عن صفوان بن أمية أن عرفطة بن نهيك التميمي قال: يا رسول الله إني وأهل بيتي يرزقون من هذا الصيد ولنا فيه قسم وبركة وهو مشغلة عن ذكر الله وعن الصلاة في جماعة وبنا إليه حاجة أفتحله أم أحرمه قال: أحله لان الله قد أحله نعم العمل والله أولى بالعذر قد كانت قبلي لله رسل كلهم يصطادون ويطلبون الصيد ويكفيك من الصلاة في جماعة إذا غبت غبت عنها في طلب الرزق حبك الجماعة وأهلها وحبك ذكر الله وأهله وابتغ على نفسك وعيالك حلالا فإن في ذلك جهاد في سبيل الله وأعلم أن عون الله في صالح التجار.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم والبيهقي في "سننه" عن ابن عباس في قوله {وما علمتم من الجوارح مكلبين} قال: هي الكلاب المعلمة والبازي يعلم الصيد والجوارح يعني: الكلاب والفهود والصقور وأشباهها والمكلبين الضواري {فكلوا مما أمسكن عليكم} يقول: كلوا مما قتلن فإن قتل وأكل فلا تأكل {واذكروا اسم الله عليه} يقول: إذا أرسلت جوارحك فقل بسم الله وإن نسيت فلا حرج.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير عن مجاهد في قوله {من الجوارح مكلبين} قال: الطير والكلاب.
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله {من الجوارح مكلبين} قال: يكالبن الصيد {فكلوا مما أمسكن عليكم} قال: إذا أرسلت كلبك أو طائرك أو سهمك فذكرت اسم الله فأمسك أو قتل فكل.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس: في المسلم يأخذ كلب المجوسي المعلم أو بازه أو صقره مما علمه المجوسي فيرسله فيأخذه، قال: لا يأكله وإن سميت لأنه من تعليم المجوسي وإنما قال {تعلمونهن مما علمكم الله}.
وأخرج ابن جرير عن الحسن في قوله {وما علمتم من الجوارح} قال: كل ما {تعلمونهن مما علمكم الله} قال: تعلمونهن من الطلب كما علمكم الله
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: إنما المعلم من الكلاب أن يمسك صيده فلا يأكل كل منه حتى يأتيه صاحبه.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: إذا أكل الكلب فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه، واخرج ابن جرير عن عدي بن حاتم قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد البازي، قال: ما أمسك عليك فكل.
وأخرج البخاري ومسلم عن عدي بن حاتم قال قلت: يا رسول الله إني أرسل الكلاب المعلمة واذكر اسم الله فقال: إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل ما أمسكن عليك، قلت: وإن قتلن قال: وإن قتلن ما لم يشركها كلب ليس منها فانك إنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عدي بن حاتم قال: قلت يا رسول الله إنا قوم نصيد بالكلاب والبزاة فما يحل لنا منها قال: يحل لكم {وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه} ثم قال: ما أرسلت من كلب وذكرت اسم الله فكل ما أمسك عليك، قلت: وإن قتل قال: وإن قتل ما لم يأكل هو الذي أمسك، قلت: إنا قوم نرمي فما يحل لنا قال: ما ذكرت اسم الله وخزقت فكل.
وأخرج عبد بن حميد عن علي بن الحكم أن نافع بن الأزرق سأل ابن عباس فقال: أرأيت إذا أرسلت كلبي وسميت فقتل الصيد آكله قال: نعم، قال نافع: يقول الله {إلا ما ذكيتم} تقول أنت: وإن قتل قال: ويحك يا ابن الأزرق، أرأيت لو أمسك على سنور فأدركت ذكاته أكان يكون على يأس والله إني لأعلم في أي كلاب نزلت: في كلاب نبهان من طي ويحك يا ابن الأزرق، ليكونن لك نبأ.
وأخرج عبد بن حميد عن مكحول قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أمسك عليك الذي ليس بمكلب فأدركت ذكاته فكل وإن لم تدرك ذكاته فلا تأكل.
وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس قال: إذا أكل الكلب فلا تأكل وإذا أكل الصقر فكل لأن الكلب تستطيع أن تضربه والصقر لا تستطيع.
وأخرج عبد بن حميد عن عروة أنه سئل عن الغراب امن الطيبات هو قال: من أين يكون من الطيبات وسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم فاسقا). [الدر المنثور: 5/190-197]

تفسير قوله تعالى: (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5) )
قالَ عَبْدُ اللهِ بنُ وَهْبٍ المَصْرِيُّ (ت: 197 هـ): ({ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمةٌ مؤمنةٌ خيرٌ من مشركةٍ ولو أعجبتكم}؛
فنسخ واستثنى منها: فأحل من المشركات نساء أهل الكتاب في سورة المائدة؛
قال الله: {اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حلٌ لكم وطعامكم حلٌ لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم}،
وقال: {لا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله}، {فلا جناح عليهما فيما افتدت به}). [الجامع في علوم القرآن: 3/67] (م)
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (عن الثوري عن مغيرة عن إبراهيم في قوله تعالى وطعام الذين أوتوا الكتب حل لكم قال ذبائحهم). [تفسير عبد الرزاق: 1/186]
قال أبو حذيفة موسى بن مسعود النهدي (ت:220هـ): (سفيان [الثوري] عن ليثٍ عن مجاهدٍ {وطعام الذين أوتوا الكتاب} قال: الذبائح [الآية: 5].
سفيان [الثوري] عن المغيرة عن إبراهيم مثله). [تفسير الثوري: 100]
قال أبو حذيفة موسى بن مسعود النهدي (ت:220هـ): (سفيان [الثوري] عن ابن جريجٍ عن مجاهدٍ: {ومن يكفر بالإيمان} قال: الإيمان بالله [الآية: 5]). [تفسير الثوري: 100]
قالَ سعيدُ بنُ منصورٍ بن شعبة الخراسانيُّ: (ت:227هـ): ( [قوله تعالى: {اليوم أحلّ لكم الطّيّبات وطعام الّذين أوتوا الكتاب حلٌّ لكم وطعامكم حلٌّ لهم} ]
- حدّثنا سعيدٌ، قال: نا إسماعيل بن عيّاش، عن عبيد اللّه بن عبيد الكلاعي قال: سألت مكحولاً عن ذبائح عيدات أهل الكتاب، والمرتّبات لكنائسهم، فتلا هذه الآية: {اليوم أحل لكم الطّيّبات وطعام الّذين أوتوا الكتاب حلٌّ لكم وطعامكم حلٌّ لهم} قال: طعامهم: ذبائحهم). [سنن سعيد بن منصور: 4/1439-1440]
قال محمدُ بنُ إسماعيلَ بن إبراهيم البخاريُّ (ت: 256هـ): ({أجورهنّ} [النساء: 24]: مهورهنّ "). [صحيح البخاري: 6/50] (م)
- قال أحمدُ بنُ عَلَيِّ بنِ حجرٍ العَسْقَلانيُّ (ت: 852هـ): (قوله أجورهنّ مهورهنّ هو تفسير أبي عبيدة). [فتح الباري: 8/269]
- قال محمودُ بنُ أحمدَ بنِ موسى العَيْنِيُّ (ت: 855هـ) : (أجورهنّ مهورهنّ
أشار به إلى قوله تعالى: {إذا آتيتموهنّ أجورهنّ محصنين غير مسافحين} (المائدة: 5) وفسّر الأجور بالمهور، وهكذا روي عن ابن عبّاس، رواه ابن المنذر عن غيلان: حدثنا أبو صالح حدثني معاوية عن عليّ بن أبي طلحة عنه رضي الله تعالى عنهما). [عمدة القاري: 18/198]
- قال أحمدُ بنُ محمدِ بن أبي بكرٍ القَسْطَلاَّنيُّ (ت: 923هـ) : ( (أجورهن) يريد {إذا آتيتموهن أجورهن} [المائدة: 5] (مهورهن) وهذا تفسير أبي عبيدة). [إرشاد الساري: 7/100]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {اليوم أحلّ لكم الطّيّبات وطعام الّذين أوتوا الكتاب حلٌّ لكم وطعامكم حلٌّ لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الّذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهنّ أجورهنّ محصنين غير مسافحين ولا متّخذي أخدان ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين}
يعني جلّ ثناؤه بقوله: {اليوم أحلّ لكم الطّيّبات} اليوم أحلّ لكم أيّها المؤمنون الحلال من الذّبائح والمطاعم، دون الخبائث منها.
قوله: {وطعام الّذين أوتوا الكتاب حلٌّ لكم} وذبائح أهل الكتاب من اليهود والنّصارى، وهم الّذين أوتوا التّوراة والإنجيل، وأنزل عليهم، فدانوا بهما أو بأحدهما {حلٌّ لكم} يقول: حلالٌ لكم أكله دون ذبائح سائر أهل الشّرك الّذين لا كتاب لهم من مشركي العرب وعبدة الأوثان والأصنام، فإنّ من لم يكن منهم ممّن أقرّ بتوحيد اللّه عزّ ذكره ودان دين أهل الكتاب، فحرامٌ عليكم ذبائحهم.
ثمّ اختلف فيمن عنى اللّه عزّ ذكره بقوله: {وطعام الّذين أوتوا الكتاب} من أهل الكتاب، فقال بعضهم: عنى اللّه بذلك ذبيحة كلّ كتابيٍّ ممّن أنزل عليه التّوراة والإنجيل، أو ممّن دخل في ملّتهم فدان دينهم وحرّم ما حرّموا وحلّل ما حلّلوا منهم ومن غيرهم من سائر أجناس الأمم.
- حدثنا أبو كريب قال حدثنا يحيى بن عيسى عن ابن أبى ليلى عن الحكم عن سعيد بن جبير عن بن عباس أنه سئل عن ذبائح نصارى العرب فقال لابأس ثم قرأ {ومن يتولّهم منكم فإنّه منهم}.
- حدّثنا ابن بشّارٍ، قال: حدّثنا عبد الرّحمن، قال: حدّثنا سفيان، عن عاصمٍ الأحول، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ، مثله.
- حدّثنا محمّد بن عبد الملك بن أبي الشّوارب، قال: حدّثنا عبد الواحد، قال: حدّثنا خصيفٌ، قال: حدّثنا عكرمة، قال: سئل ابن عبّاسٍ عن ذبائح نصارى بني تغلب، فقرأ هذه الآية: {يا أيّها الّذين آمنوا لا تتّخذوا اليهود} إلى قوله: {ومن يتولّهم منكم فإنّه منهم} الآية
- حدّثنا ابن بشّارٍ، قال: حدّثنا ابن عثمة، قال: حدّثنا سعيد بن بشرٍ، عن قتادة، عن الحسن، وعكرمة: أنّهما كانا لا يريان بأسًا بذبائح نصارى بني تغلب وبتزوّج نسائهم، ويتلوان: {ومن يتولّهم منكم فإنّه منهم}.
- حدّثنا ابن بشّارٍ، قال: حدّثنا ابن أبي عديٍّ، عن سعيدٍ، عن قتادة، عن الحسن، وسعيد بن المسيّب: أنّهما كانا لا يريان بأسًا بذبيحة نصارى بني تغلب.
- حدّثنا ابن بشّارٍ، قال: حدّثنا عبد الرّحمن، قال: حدّثنا سفيان، عن أبي حصينٍ، عن الشّعبيّ: أنّه كان لا يرى بأسًا بذبائح نصارى بني تغلب، وقرأ: {وما كان ربّك نسيًّا}.
- حدّثني ابن بشّارٍ، وابن المثنّى، قالا: حدّثنا أبو عاصمٍ، قال: أخبرنا ابن جريجٍ، قال: حدّثني ابن شهابٍ عن ذبيحة نصارى العرب، قال: تؤكل من أجل أنّهم في الدّين أهل كتابٍ، ويذكرون اسم اللّه.
- حدّثنا ابن بشّارٍ، وابن المثنّى، قالا: حدّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدّثنا ابن جريجٍ،: قال: قال عطاءٌ: إنّما يقرف ذلك الكتاب.
- حدّثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: حدّثنا ابن عليّة، قال: حدّثنا شعبة، قال: سألت الحكم وحمّادًا وقتادة عن ذبائح نصارى بني تغلب، فقالوا: لا بأس بها. قال: وقرأ الحكم: {ومنهم أمّيّون لا يعلمون الكتاب إلاّ أمانيّ}.
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا الحجّاجٌ، قال: حدّثنا حمّادٌ، عن عطاء بن السّائب، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ، قال: كلوا من ذبائح بني تغلب، وتزوّجوا من نسائهم، فإنّ اللّه قال في كتابه: يا أيّها الّذين آمنوا لا تتّخذوا اليهود والنّصارى أولياء بعضهم أولياء بعضٍ ومن يتولّهم منكم فإنّه منهم فلو لم يكونوا منهم إلاّ بالولاية لكانوا منهم.
- حدّثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدّثنا ابن عليّة، عن ابن أبي عروبة، عن قتادة: أنّ الحسن، كان لا يرى بأسًا بذبائح نصارى بني تغلب، وكان يقول: انتحلوا دينًا فذاك دينهم.
وقال آخرون: إنّما عنى بالّذين أوتوا الكتاب في هذه الآية، الّذين أنزل عليهم التّوراة والإنجيل، من بني إسرائيل وأبنائهم، فأمّا من كان دخيلاً فيهم من سائر الأمم ممّن دان بدينهم وهو من غير بني إسرائيل، فلم يعن بهذه الآية وليس هو ممّن يحلّ أكل ذبائحه؛ لأنّه ليس ممّن أوتي الكتاب من قبل المسلمين. وهذا قولٌ كان محمّد بن إدريس الشّافعيّ يقوله، حدّثنا بذلك عنه الرّبيع، ويتأوّل في ذلك قول من كره ذبائح نصارى العرب من الصّحابة والتّابعين.
ذكر من كرّه ذبائح نصارى العرب.
- حدّثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: حدّثنا ابن عليّة، عن أيّوب، عن محمّدٍ، عن عبيدة، قال: قال عليٌّ رضوان اللّه عليه: لا تأكلوا ذبائح نصارى بني تغلب، فإنّهم إنّما يتمسّكون من النّصرانيّة بشرب الخمر.
- حدّثنا يعقوب، قال: حدّثنا هشيمٌ، قال: أخبرنا هشامٌ، عن ابن سيرين، عن عبيدة، عن عليٍّ، قال: لا تأكلوا ذبائح نصارى بني تغلب، فإنّهم لم يتمسّكوا بشيءٍ من النّصرانيّة إلاّ بشرب الخمر.
- حدّثنا الحسن بن عرفة، قال: حدّثنا عبد اللّه بن بكرٍ، قال: حدّثنا هشامٌ، عن محمّد بن سيرين، عن عبيدة، قال: سألت عليًّا عن ذبائح نصارى العرب، فقال: لا تؤكل ذبائحهم، فإنّهم لم يتعلّقوا من دينهم إلاّ بشرب الخمر.
- حدّثني عليّ بن سعيدٍ الكنديّ، قال: حدّثنا عليّ بن عابسٍ، عن عطاء بن السّائب، عن أبي البختريّ، قال: نهانا عليٌّ عن ذبائح نصارى العرب.
- حدّثنا ابن المثنّى، قال: حدّثنا محمّد بن جعفرٍ، قال: حدّثنا شعبة، عن أبي حمزة القصّاب، قال: سمعت محمّد بن عليٍّ، يحدّث عن عليٍّ: أنّه كان يكره نصارى العرب ذبائح نصارى بني تغلب.
- حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا جريرٌ، عن ليثٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ، قال: لا تأكلوا ذبائح نصارى العرب وذبائح نصارى أرمينية.
وهذه الأخبار عن عليٍّ رضوان اللّه عليه، إنّما تدلّ على أنّه كان ينهى، عن ذبائح نصارى بني تغلب من أجل أنّهم ليسوا على النّصرانيّة، لتركهم تحليل ما تحلّل النّصارى وتحريم ما تحرّم غير الخمر. ومن كان منتحلاً ملّةً هو غير متمسّكٍ منها بشيءٍ، فهو إلى البراءة منها أقرب إلى اللّحاق بها وبأهلها، فلذلك نهى عليٌّ عن أكل ذبائح نصارى بني تغلب، لا من أجل أنّهم ليسوا من بني إسرائيل.
فإذا كان ذلك كذلك، وكان إجماعًا من الحجّة ألاباس يذييحه كلّ نصرانيٍّ ويهوديٍّ، إن دين النّصارى أو اليهود، فأحلّ ما أحلّوا، وحرّم ما حرّموا من بني إسرائيل كان أو من غيرهم، فبيّنٌ خطأ ما قال الشّافعيّ في ذلك وتأويله الّذي تأوّله في قوله: {وطعام الّذين أوتوا الكتاب حلٌّ لكم} أنّه ذبائح الّذين أوتوا الكتاب التّوراة والإنجيل من بني إسرائيل، وصواب ما خالف تأويله ذلك، وقول من قال: إنّ كلّ يهوديٍّ ونصرانيٍّ فحلالٌ ذبيحته من أيّ أجناس بني آدم كان
وأمّا الطّعام الّذي قال اللّه: {وطعام الّذين أوتوا الكتاب} فإنّه الذّبائح.
وبمثل ما قلنا في ذلك قال أهل التّأويل.
ذكر من قال ذلك:.
- حدّثنا أبو كريبٍ، وابن وكيعٍ، قالا: حدّثنا ابن إدريس، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ: {وطعام الّذين أوتوا الكتاب حلٌّ لكم} قال: الذّبائح.
- حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا حكّامٌ، عن عنبسة، عن محمّد بن عبد الرّحمن، عن القاسم بن أبي بزّة، عن مجاهدٍ في قوله: {وطعام الّذين أوتوا الكتاب حلٌّ لكم} قال: ذبائحهم
- حدّثنا محمّد بن بشّارٍ، قال: حدّثنا عبد الرّحمن، قال: حدّثنا سفيان، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ، مثله.
- حدّثنا المثنّى قال: حدّثنا أبو نعيمٍ وقبيصة، قالا: حدّثنا سفيان، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ، مثله.
- حدّثنا ابن وكيعٍ، قال حدثنا أبى عن سفيان عن ليث عن مجاهد مثله.
- حدّثنا ابن وكيعٍ، قال: حدّثنا إسحاق بن سليمان الرّازيّ، عن أبي سنانٍ، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ، مثله.
- حدّثنا محمّد بن عمرٍو، قال: حدّثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، مثله.
- حدّثني المثنّى قال: حدّثنا أبو حذيفة، قال: حدّثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ: {وطعام الّذين أوتوا الكتاب حلٌّ لكم} قال: ذبيحتهم أهل الكتاب.
- حدّثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: حدّثنا هشيمٌ، عن مغيرة، عن إبراهيم، في قوله: {وطعام الّذين أوتوا الكتاب حلٌّ لكم} قال: ذبائحهم.
- حدّثنا ابن بشّارٍ، قال: حدّثنا عبد الرّحمن، قال: حدّثنا سفيان عن المغيرة، عن إبراهيم، بمثله
- حدّثنا ابن وكيعٍ، قال: حدّثنا أبي، عن سفيان، عن مغيرة، عن إبراهيم، مثله.
- حدّثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرّزّاق، قال: أخبرنا الثّوريّ، عن مغيرة، عن إبراهيم، مثله
- حدّثنا المثنّى قال: حدّثنا أبو نعيمٍ وقبيصة، قالا: حدّثنا سفيان، عن مغيرة، عن إبراهيم مثله.
- حدّثنا المثنّى، قال: حدّثنا عبد اللّه بن صالحٍ، قال: حدّثني معاوية، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: {وطعام الّذين أوتوا الكتاب حلٌّ لكم} قال: ذبائحهم.
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا المعلّى بن أسدٍ، قال: حدّثنا خالدٌ، عن يونس، عن الحسن، مثله.
- حدّثنا بشرٌ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، قوله: {وطعام الّذين أوتوا الكتاب حلٌّ لكم} أي ذبائحهم.
- حدّثنا محمّد بن الحسين، قال: حدّثنا أحمد بن المفضّل، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ: {وطعام الّذين أوتوا الكتاب حلٌّ لكم} أمّا طعامهم فهو الذّبائح.
- حدّثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذٍ، يقول: حدّثنا عبيدٌ، قال: سمعت الضّحّاك، يقول في قوله: {وطعام الّذين أوتوا الكتاب حلٌّ لكم} قال: أحلّ اللّه لنا طعامهم ونساءهم.
- حدّثني محمّد بن سعدٍ، قال: حدّثني أبي قال: حدّثني عمّي، قال: حدّثني أبي عن أبيه، عن ابن عبّاسٍ، أمّا قوله: {وطعام الّذين أوتوا الكتاب حلٌّ لكم} فإنّه أحلّ لنا طعامهم ونساءهم.
- حدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: سألته، يعني ابن زيد، عمّا ذبح للكنائس وسمّي عليها فقال: أحلّ اللّه لنا طعام أهل الكتاب، ولم يستثن منه شيئًا.
- حدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: حدّثني معاوية، عن أبي الزّاهريّة حدير بن كريبٍ، عن عمير بن الأسود: أنّه سأل أبا الدّرداء عن كبشٍ ذبح لكنيسةٍ يقال لها جرجس أهدوه لنا، أنأكل منه؟ فقال أبو الدّرداء: اللّهمّ عفرًا، إنّهم هم أهل كتابٍ، طعامهم حلٌّ لنا وطعامنا حلٌّ لهم. وأمره بأكله.
وأمّا قوله {وطعامكم حلٌّ لهم} فإنّه يعني: ذبائحكم أيّها المؤمنون حلٌّ لأهل الكتاب). [جامع البيان: 8/129-138]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الّذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهنّ أجورهنّ}
يعني جلّ ثناؤه بقوله: {والمحصنات من المؤمنات} أحلّ لكم أيّها المؤمنون المحصنات من المؤمنات وهنّ الحرائر منهنّ أن تنكحوهنّ {والمحصنات من الّذين أوتوا الكتاب من قبلكم} يعني: والحرائر من الّذين أعطوا الكتاب، وهم اليهود والنّصارى الّذين دانوا بما في التّوراة والإنجيل من قبلكم أيّها المؤمنون بمحمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم من العرب وسائر النّاس، أن تنكحوهنّ أيضًا. {إذا آتيتموهنّ أجورهنّ} يعني: إذا أعطيتم من نكحتم من محصناتكم ومحصناتهم أجورهنّ، وهي مهورهنّ.
واختلف أهل التّأويل في المحصنات اللاّتي عناهنّ اللّه عزّ ذكره بقوله: {والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الّذين أوتوا الكتاب من قبلكم} فقال بعضهم: عنى بذلك الحرائر خاصّةً، فاجرةً كانت أو عفيفةً.
وأجاز قائلو هذه المقالة نكاح الحرّة مؤمنةً كانت أو كتابيةً من اليهود والنّصارى من أيّ أجناسٍ كانت، بعد أن تكون كتابيّةً فاجرةً كانت أو عفيفةً، وحرّموا إماء أهل الكتاب أن يتزوّجنّ بكلّ حالٍ؛ لأنّ اللّه جلّ ثناؤه شرط من نكاح الإماء الإيمان بقوله: {ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات}.
ذكر من قال ذلك:.
- حدّثنا ابن وكيعٍ، قال: حدّثنا أبو داود، عن سفيان، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ: {والمحصنات من الّذين أوتوا الكتاب} قال: من الحرائر.
- حدّثنا محمّد بن بشّارٍ، قال: حدّثنا عبد الرّحمن، قال: حدّثنا سفيان، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ: {والمحصنات من الّذين أوتوا الكتاب من قبلكم} قال: من الحرائر.
- حدّثنا ابن بشّارٍ، قال: حدّثنا عبد الرّحمن، قال: حدّثنا سفيان، عن قيس بن مسلمٍ، عن طارق بن شهابٍ: أنّ رجلاً، طلّق امرأته وخطبت إليه أخته، وكانت قد أحدثت، فأتى عمر فذكر ذلك له منها، فقال عمر: ما رأيت منها؟ قال: ما رأيت منها إلاّ خيرًا. فقال: زوّجها ولا تخبر.
- حدّثنا ابن أبي الشّوارب، قال: حدّثنا عبد الواحد، قال: حدّثنا سليمان الشّيبانيّ، قال: حدّثنا عامرٌ، قال: زنت امرأةٌ من همدان، قال: فجلدها مصدّق رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم الحدّ، ثمّ تابت، فأتوا عمر، فقالوا: نزوّجها وبئس ما كان من أمرها. قال عمر: لئن بلغني أنّكم ذكرتم شيئًا من ذلك لأعاقبنّكم عقوبةً شديدةً.
- حدّثنا ابن المثنّى، قال: حدّثنا محمّد بن جعفرٍ، قال: حدّثنا شعبة، عن قيس بن مسلمٍ، عن طارق بن شهابٍ: أنّ رجلاً، أراد أن يزوّج، أخته، فقالت: إنّي أخشى أن أفضح أبي، فقد، بغيت. فأتى عمر فقال: أليس قد تابت؟ قال: بلى: قال: فزوّجها.
- حدّثنا ابن المثنّى، قال: حدّثنا أبو داود، قال: حدّثنا شعبة، عن إسماعيل بن أبي خالدٍ، عن الشّعبيّ: أنّ نبيشة امرأةً من همدان، بغت فأرادت أن تذبح نفسها، قال: فأدركوها فداووها فبرئت، فذكروا ذلك لعمر، فقال: انكحوها نكاح العفيفة المسلمة.
- حدّثنا ابن المثنّى، قال: حدّثنا عبد الوهّاب، قال: حدّثنا داود، عن عامرٍ: أنّ رجلاً، من أهل اليمن أصابت أخته فاحشةً، فأمرّت الشّفرة على أوداجها، فأدركت، فدووي جرحها حتّى برئت، ثمّ إنّ عمّها انتقل بأهله حتّى قدم المدينة، فقرأت القرآن ونسكت، حتّى كانت من أنسك نسائهم، فخطبت إلى عمّها، وكان يكره أن يدلّسها، ويكره أن يفشي على ابنة أخيه، فأتى عمر، فذكر ذلك له، فقال عمر: لو أفشيت عليها لعاقبتك، إذا أتاك رجلٌ صالحٌ ترضاه فزوّجها إيّاه.
- حدّثنا ابن المثنّى قال: حدّثنا عبد الأعلى، قال: حدّثنا داود، عن عامرٍ: أنّ جاريةً باليمن يقال لها نبيشة، أصابت فاحشةً، فذكر نحوه.
- حدّثنا تميم بن المنتصر، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا إسماعيل، عن عامرٍ، قال: أتى رجلٌ عمر فقال: إنّ ابنةً لي كانت وئدت في الجاهليّة، فاستخرجتها قبل أن تموت، فأدركت الإسلام، فلمّا أسلمت أصابت حدًّا من حدود اللّه، فعمدت إلى الشّفرة لتذبح بها نفسها، فأدركتها وقد قطعت بعض أوداجها، فداويتها حتّى برئت، ثمّ إنّها أقبلت بتوبةٍ حسنةٍ، فهي تخطب إليّ يا أمير المؤمنين، فأخبر من شأنها بالّذي كان؟ فقال عمر: أتخبر بشأنها؟ تعمد إلى ما ستره اللّه فتبديه؟ واللّه لئن أخبرت بشأنها أحدًا من النّاس لأجعلنّك نكالاً لأهل الأمصار بل أنكحها بنكاح العفيفة المسلمة.
- حدّثنا أحمد بن منيعٍ، قال: حدّثنا مروان، عن إسماعيل، عن الشّعبيّ، قال: جاء رجلٌ إلى عمر. فذكر نحوه.
- حدّثنا مجاهدٌ، قال: حدّثنا يزيد، قال: أخبرنا يحيى بن سعيدٍ، عن أبي الزّبير: أنّ رجلاً، خطب من رجلٍ أخته، فأخبره أنّها، قد أحدثت، فبلغ ذلك عمر بن الخطّاب، فضرب الرّجل، وقال: ما لك والخبر؟ أنكح واسكت.
- حدّثنا ابن بشّارٍ، قال: حدّثنا سليمان بن حربٍ، قال: حدّثنا أبو هلالٍ، عن قتادة، عن الحسن، قال: قال عمر بن الخطّاب: لقد هممت أن لا، أدع أحدًا أصاب فاحشةً في الإسلام أن يتزوّج محصنةً. فقال له أبيّ بن كعبٍ: يا أمير المؤمنين، الشّرك أعظم من ذلك، وقد يقبل منه إذا تاب
وقال آخرون: إنّما عنى اللّه بقوله: {والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الّذين أوتوا الكتاب من قبلكم} العفائف من الفريقين، إماءً كنّ أو حرائر. فأجاز قائلو هذه المقالة نكاح إماء أهل الكتاب الدّائنات دينهم بهذه الآية، وحرّموا البغايا من المؤمنات وأهل الكتاب.

ذكر من قال ذلك:.
- حدّثنا أبو كريبٍ، قال حدّثنا ابن إدريس، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ، في قوله: {والمحصنات من الّذين أوتوا الكتاب من قبلكم} قال: العفائف.
- حدّثنا ابن وكيعٍ، قال: حدّثنا جريرٌ، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ، مثله.
- حدّثنا ابن حميدٍ، وابن وكيعٍ، قالا: حدّثنا جريرٌ، عن مطرّفٍ، عن عامرٍ: {والمحصنات من الّذين أوتوا الكتاب من قبلكم} قال: إحصان اليهوديّة والنّصرانيّة: أن لا تزني وأن تغتسل من الجنابة.
- حدّثنا ابن وكيعٍ، قال: حدّثنا ابن فضيلٍ، عن مطرّفٍ، عن عامرٍ: {والمحصنات من الّذين أوتوا الكتاب من قبلكم} قال: إحصان اليهوديّة والنّصرانيّة: أن تغتسل من الجنابة، وأن تحصن فرجها.
- حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا حكّامٌ، عن عنبسة، عن مطرّفٍ، عن رجلٍ، عن الشّعبيّ في قوله: {والمحصنات من الّذين أوتوا الكتاب من قبلكم} قال: إحصان اليهوديّة والنّصرانيّة: أن لا تزني، وأن تغتسل من الجنابة.
- حدّثنا المثنّى قال حدّثنا عمرو بن عونٍ، قال: أخبرنا هشيمٌ، عن مطرّفٍ، عن الشّعبيّ في قوله: {والمحصنات من الّذين أوتوا الكتاب من قبلكم} قال: إحصانها أن تغتسل من الجنابة، وأن تحصن فرجها من الزّنى.
- حدّثني المثنّى قال: حدّثنا معلّى بن أسدٍ، قال: حدّثنا خالدٌ، قال: أخبرنا مطرّفٌ عن عامرٍ، بنحوه.
- حدّثنا المثنّى، قال: حدّثنا سويدٌ، قال: أخبرنا ابن المبارك، قال: سمعت سفيان، يقول في قوله: {والمحصنات من الّذين أوتوا الكتاب} قال: العفائف.
- حدّثنا محمّد بن الحسين، قال: حدّثنا أحمد بن مفضّلٍ، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ: {والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الّذين أوتوا الكتاب من قبلكم} قال: أمّا المحصنات: فهنّ العفائف.
- حدّثنا محمّد بن بشّارٍ، قال: حدّثنا عبد الأعلى، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة: أنّ امرأةً، اتّخذت مملوكها وقالت: تأوّلت كتاب اللّه: {وما ملكت أيمانكم} قال: فأتي بها عمر بن الخطّاب، فقال له ناسٌ من أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: تأوّلت آيةً من كتاب اللّه على غير وجهها. قال: فغرّب العبد وجزّ رأسه، وقال: أنت بعده حرامٌ على كلّ مسلمٍ.
- حدّثنا محمّد بن المثنّى، قال: حدّثنا محمّد بن جعفرٍ، قال: حدّثنا شعبة، عن منصورٍ، عن إبراهيم: أنّه قال في الّتي تسرّي قبل أن يدخل بها، قال: ليس لها صداقٌ ويفرّق بينهما.
- حدّثنا أبو كريبٍ، قال: حدّثنا ابن إدريس، قال: حدّثنا أشعث، عن الشّعبيّ، في البكر تفجر قال: تضرب مائة سوطٍ، وتنفى سنةً، وتردّ الى زوجها ما أخذت منه.
- حدّثنا أبو كريبٍ، قال: حدّثنا ابن إدريس، قال: حدّثنا أشعث، عن أبي الزّبير، عن جابرٍ، مثل ذلك.
- حدّثنا أبو كريبٍ، قال: حدّثنا ابن إدريس، قال: أخبرنا أشعث، عن الحسن، مثل ذلك.
- حدّثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: حدّثنا ابن عليّة، عن يونس، أنّ الحسن، كان يقول: إذا رأى الرّجل من امرأته فاحشةً فاستيقن فإنّه لا يمسكها.
- حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا جريرٌ، عن مغيرة، عن أبي ميسرة، قال: مملوكات أهل الكتاب بمنزلة حرائرهم.
ثمّ اختلف أهل التّأويل في حكم قوله عزّ ذكره: {والمحصنات من الّذين أوتوا الكتاب من قبلكم} أعامٌّ أم خاصٌّ؟ فقال بعضهم: هو عامٌّ في العفائف منهنّ، لأنّ المحصنات العفائف، وللمسلم أن يتزوّج كلّ حرّةٍ وأمةٍ كتابيّةٍ حربيّةً كانت أو ذميّةً.
واعتلّوا في ذلك بظاهر قوله تعالى: {والمحصنات من الّذين أوتوا الكتاب من قبلكم} وأنّ المعنيّ بهنّ العفائف كائنةً من كانت منهنّ. وهذا قول من قال: عني بالمحصنات في هذا الموضع: العفائف.
وقال آخرون: بل اللّواتي عنى بقوله جلّ ثناؤه: {والمحصنات من الّذين أوتوا الكتاب من قبلكم} الحرائر منهنّ، والآية عامّةٌ في جميعهنّ، فنكاح جميع الحرائر اليهود والنّصارى جائزٌ، حربيّاتٍ كنّ أو ذمّيّاتٍ، من أيّ أجناس اليهود والنّصارى كنّ وهذا قول جماعةٍ من المتقدّمين والمتأخّرين.
ذكر من قال ذلك:.
- حدّثنا ابن بشّارٍ، قال: حدّثنا ابن أبي عديٍّ، عن سعيدٍ، عن قتادة، عن سعيد بن المسيّب، والحسن: أنّهما كانا لا يريان بأسًا بنكاح نساء اليهود والنّصارى، وقالا: أحلّه اللّه على علمٍ.
وقال آخرون منهم: بل عنى بذلك: نكاح بني إسرائيل الكتابيّات منهنّ خاصّةً دون سائر أجناس الأمم الّذين دانوا باليهوديّة والنّصرانيّة. وذلك قول الشّافعيّ ومن قال بقوله.
وقال آخرون: بل ذلك معنيٌّ به نساء أهل الكتاب الّذين لهم من المسلمين ذمّةٌ وعهدٌ، فأمّا أهل الحرب فإنّ نساءهم حرامٌ على المسلمين.
ذكر من قال ذلك:.
- حدّثنا أبو كريبٍ، قال: حدّثنا محمّد بن عقبة، قال: حدّثنا الفزاريّ، عن سفيان بن حسينٍ، عن الحكم، عن مقسمٍ، عن ابن عبّاسٍ، قال: من نساء أهل الكتاب من يحلّ لنا، ومنهم من لا يحلّ لنا، ثمّ قرأ: {قاتلوا الّذين لا يؤمنون باللّه ولا باليوم الآخر ولا يحرّمون ما حرّم اللّه ورسوله ولا يدينون دين الحقّ من الّذين أوتوا الكتاب حتّى يعطوا الجزية} فمن أعطى الجزية حلّ لنا نساؤه، ومن لم يعط الجزية لم يحلّ لنا نساؤه. قال الحكم: فذكرت ذلك لإبراهيم فأعجبه.
وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصّواب قول من قال: عنى بقوله: {والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الّذين أوتوا الكتاب من قبلكم} حرائر المؤمنين وأهل الكتاب، لأنّ اللّه جلّ ثناؤه لم يأذن بنكاح الإماء الأحرار في الحال الّتي أباحهنّ لهم إلاّ أن يكنّ مؤمناتٍ، فقال عزّ ذكره: {ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات} فلم يبح منهنّ إلاّ المؤمنات، فلو كان مرادًا بقوله: {والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الّذين أوتوا الكتاب} العفائف، لدخل العفائف من إمائهم في الإباحة، وخرج منها غير العفائف من حرائرهم وحرائر أهل الإيمان. وقد أحلّ اللّه لنا حرائر المؤمنات، وإن كنّ قد أتين بفاحشةٍ بقوله: {وأنكحوا الأيامى منكم والصّالحين من عبادكم وإمائكم} وقد دلّلنا على فساد قول من قال: لا يحلّ نكاح من أتى الفاحشة من نساء المؤمنين وأهل الكتاب للمؤمنين في موضعٍ غير هذا بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
فنكاح حرائر المسلمين وأهل الكتاب حلالٌ للمؤمنين، كنّ قد أتين بفاحشةٍ أو لم يأتين بفاحشةٍ، ذميّةً كانت أو حربيّةً، بعد أن تكون بموضعٍ لا يخاف النّاكح فيه على ولده أن يجبر على الكفر، بظاهر قول اللّه جلّ وعزّ: {والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الّذين أوتوا الكتاب من قبلكم} فأمّا قول الّذي قال: عنى بذلك نساء بني إسرائيل الكتابيّات منهنّ خاصّةً، فقولٌ لا يوجب التّشاغل بالبيان عنه لشذوذه والخروج عمّا عليه علماء الأمّة من تحليل نساء جميع اليهود والنّصارى.
وقد دلّلنا على فساد قول قائل هذه المقالة من جهة القياس في غير هذا الموضع بما فيه الكفاية فكرهنا إعادته.
وأمّا قوله: {إذا آتيتموهنّ أجورهنّ} فإنّ الأجر: العوض الّذي يبذله الزّوج للمرأة للاستمتاع بها، وهو المهر.
كما:.
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا أبو صالحٍ، قال: حدّثني معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عبّاسٍ، في قوله: {آتيتموهنّ أجورهنّ} يعني مهورهنّ). [جامع البيان: 8/138-148]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {محصنين غير مسافحين ولا متّخذي أخدانٍ}
يعني بذلك جلّ ثناؤه: أحلّ لكم المحصنات من المؤمنات، والمحصنات من الّذين أوتوا الكتاب من قبلكم، وأنتم محصنون غير مسافحين ولا متّخذي أخدانٍ.
ويعني بقوله جلّ ثناؤه: {محصنين} أعفّاء {غير مسافحين} يعني: لا معالنين بالسّفاح بكلّ فاجرةٍ وهو الفجور {ولا متّخذي أخدانٍ} يقول: ولا منفردين ببغيّةٍ واحدةٍ قد خادنها وخادنته واتّخذها لنفسه صديقةً يفجر بها.
وقد بيّنّا معنى الإحصان ووجوهه ومعنى السّفّاح والخدن في غير هذا الموضع بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع وهو كما:.
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا عبد اللّه، قال: حدّثني معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عبّاسٍ، قوله: {محصنين غير مسافحين} يعني: ينكحوهنّ بالمهر والبيّنة {غير مسافحين} متعالنين بالزّنى {ولا متّخذي أخدانٍ} يعني: يسرّون بالزّنى.
- حدّثنا بشرٌ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، قال: أحلّ اللّه لنا محصنتين: محصنةً مؤمنةً، ومحصنةً من أهل الكتاب {ولا متّخذي أخدانٍ} ذات الخدن: ذات الخليل الواحد.
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا سويدٌ، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن سليمان بن المغيرة، عن الحسن، قال: سأله رجلٌ: أيتزوّج الرّجل المرأة من أهل الكتاب؟ قال: ما له ولأهل الكتاب وقد أكثر اللّه المسلمات؟ فإن كان لا بدّ فاعلاً، فليعمد إليها حصانًا غير مسافحةٍ. قال الرّجل: وما المسافحة؟ قال: هي الّتي إذا لمح الرّجل إليها بعينه اتّبعته). [جامع البيان: 8/148-149]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله عزّ ذكره: {ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين}
يعني بقوله جلّ ثناؤه: {ومن يكفر بالإيمان} ومن يجحد ما أمر اللّه بالتّصديق به من توحيد اللّه ونبوّة محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم، وما جاء به من عند اللّه، وهو الإيمان الّذي قال اللّه جلّ ثناؤه: {ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله} يقول: فقد بطل ثواب عمله الّذي كان يعمله في الدّنيا، يرجو أن يدرك به منزلةً عند اللّه. {وهو في الآخرة من الخاسرين} يقول: وهو في الآخرة من الهالكين الّذين غبنوا أنفسهم حظوظها من ثواب اللّه بكفرهم بمحمّدٍ وعملهم بغير طاعة اللّه.
وقد ذكر أنّ قوله: {ومن يكفر بالإيمان} عني به أهل الكتاب، وأنّه أنزل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من أجل قومٍ تحرّجوا نكاح نساء أهل الكتاب لمّا قيل لهم {أحلّ لكم الطّيّبات وطعام الّذين أوتوا الكتاب حلٌّ لكم وطعامكم حلٌّ لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الّذين أوتوا الكتاب من قبلكم}.
ذكر من قال ذلك:.
- حدّثنا بشرٌ، حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، قال: ذكر لنا أنّ ناسًا، من المسلمين قالوا: كيف نتزوّج نساءهم، يعني نساء أهل الكتاب، وهم على غير ديننا؟ فأنزل اللّه عزّ ذكره: {ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين} فأحلّ اللّه تزويجهنّ على علمٍ.
وبنحو الّذي قلنا في تأويل الإيمان قال أهل التّأويل.
ذكر من قال ذلك:.
- حدّثنا محمّد بن بشّارٍ، قال: حدّثنا مؤمّلٌ، قال حدّثنا سفيان، عن ابن جريجٍ، عن عطاءٍ: {ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله} قال: اللّه الإيمان.
- حدّثنا ابن وكيعٍ، قال: حدّثنا يحيى بن يمانٍ، عن واصلٍ، عن عطاءٍ: {ومن يكفر بالإيمان} قال: الإيمان: التّوحيد.
- حدّثنا ابن وكيعٍ، قال: حدّثنا أبي، عن سفيان، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ: {ومن يكفر بالإيمان} قال: باللّه.
- حدّثنا ابن وكيعٍ، قال: حدّثنا يحيى، عن سفيان، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ، مثله.
- حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا حكّامٌ، عن عنبسة، عن محمّد بن عبد الرّحمن، عن القاسم بن أبي بزّة، عن مجاهدٍ في قوله: {ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله} قال: من يكفر باللّه.
- حدّثنا محمّدٌ، قال: حدّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدّثنا عيسى، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قوله: {ومن يكفر بالإيمان} قال: من يكفر باللّه.
- حدّثنا محمّدٌ قال: حدّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدّثنا عيسى، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ في قوله: {ومن يكفر بالإيمان} قال: الكفر باللّه.
- حدّثنا المثنّى قال: حدّثنا أبو حذيفة، قال: حدّثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، مثله.
- حدّثني المثنّى قال: حدّثنا عبد اللّه، قال: حدّثني معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عبّاسٍ، قوله: {ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله} قال: أخبر اللّه سبحانه أنّ الإيمان هو العروة الوثقى، وأنّه لا يقبل عملاً إلاّ به، ولا يحرّم الجنّة إلاّ على من تركه.
فإن قال لنا قائلٌ: وما وجه تأويل من وجّه قوله: {ومن يكفر بالإيمان} إلى معنى: ومن يكفر باللّه؟
قيل: وجه تأويله ذلك كذلك أنّ الإيمان هو التّصديق باللّه وبرسله وما ابتعثهم به من دينه، والكفر: جحود ذلك. قالوا: فمعنى الكفر بالإيمان، هو جحود اللّه وجحود توحيده. ففسّروا معنى الكلمة بما أريد بها، وأعرضوا عن تفسير الكلمة على حقيقة ألفاظها وظاهرها في التّلاوة فإن قال قائلٌ: فما تأويلها على ظاهرها وحقيقة ألفاظها؟
قيل: تأويلها: ومن يأب الإيمان باللّه ويمتنع من توحيده والطّاعة له فيما أمره به ونهاه عنه، فقد حبط عمله؛ وذلك أنّ الكفر هو الجحود في كلام العرب، والإيمان: التّصديق والإقرار، ومن أبى التّصديق بتوحيد اللّه والإقرار به فهو من الكافرين، فذلك تأويل الكلام على وجهه). [جامع البيان: 8/149-152]
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ الحَسَنِ الهَمَذَانِيُّ (ت: 352هـ): (نا إبراهيم قال نا آدم قال ثنا ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم قال يعني ذبائحهم حل لكم). [تفسير مجاهد: 186]
قال أحمدُ بنُ عَلَيِّ بنِ حجرٍ العَسْقَلانيُّ (ت: 852هـ) : (وقال مسدّدٌ: حدثنا يحيى عن يحيى، قال: سمعت القاسم يقول: قالت عائشة رضي الله عنها: لمّا سمعت النّاس يقولون: يحرم كلّ ذي نابٍ من السّباع، قلت: لا أجد فيما أوحي علي محرّمًا على طاعمٍ يطعمه... إلى آخر الآية، قال: وإنّ البرمة (تكون) في مائها الصّفرة ثمّ لا يحرّمها ذلك). [المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية: 14/622]
قال أحمدُ بنُ عَلَيِّ بنِ حجرٍ العَسْقَلانيُّ (ت: 852هـ) : (وقال مسدّدٌ: حدثنا معتمرٌ عن برد بن سنانٍ، عن عبادة بن نسيٍّ عن غضيف بن الحارث، قال: (كتب إلى - يعني ابن عمر رضي الله عنهما -): إنّ لنا (جيرانًا) من السّامرة، يقرؤون بعض التّوراة (والإنجيل، ولا يؤمنون بالغيب، فما ترى في ذبائحهم؟ فكتب إليه: إن كانوا يقرؤون بعض التّوراة) وبعض الإنجيل (ويسبتون) فذبائحهم كذبائح أهل الكتاب). [المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية: 14/624]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (قوله تعالى: {اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين}.
أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم والنحاس والبيهقي في سنه عن ابن عباس في قوله {وطعام الذين أوتوا الكتاب} قال: ذبائحهم، وفي قوله {والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم} قال: حل لكم {إذا آتيتموهن أجورهن} يعني مهورهن {محصنين} يعني تنكحوهن بالمهر والبينة {غير مسافحين} غير معلنين بالزنا {ولا متخذات أخدان} يعني يسررن بالزنا.
وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد في قوله {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} قال: ذبيحتهم.
وأخرج عبد الرزاق عن إبراهيم النخعي في قوله: {وطعام الذين أوتوا الكتاب} قال: ذبائحهم.
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله {والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم} قال: أحل الله لنا محصنتين: محصنة مؤمنة ومحصنة من أهل الكتاب نساؤنا عليهم حرام ونساؤهم لنا حلال.
وأخرج ابن جرير، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم نتزوج نساء أهل الكتاب ولا يتزوجون نساءنا.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير عن عمر بن الخطاب قال: المسلم يتزوج النصرانية ولا يتزوج النصراني المسلمة.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية قال: أحل لنا طعامهم ونساؤهم.
وأخرج الطبراني والحاكم وصححه عن ابن عباس قال: إنما أحلت ذبائح اليهود والنصارى من أجل أنهم آمنوا بالتوراة والإنجيل.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير عن مجاهد في قوله: {والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم} قال: من الحرائر.
وأخرج عبد بن حميد عن الضحاك في قوله {والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم} قال: من العفائف.
وأخرج عبد الرزاق عن الشعبي في قوله {والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم} قال: التي أحصنت فرجها واغتسلت من الجنابة.
وأخرج عبد الرزاق، وابن المنذر، عن جابر بن عبد الله، انه سئل عن نكاح المسلم اليهودية والنصرانية فقال: تزوجناهن زمن الفتح ونحن لا نكاد نجد المسلمات كثيرا فلما رجعنا طلقناهن، قال: ونساؤهن لنا حل ونساؤنا عليهم حرام.
وأخرج عبد بن حميد عن ميمون بن مهران قال: سألت ابن عمر عن نساء أهل الكتاب فتلا علي هذه الآية {والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم}، {ولا تنكحوا المشركات} البقرة الآية 221.
وأخرج ابن جرير عن الحسن، انه سئل: أيتزوج الرجل المرأة من أهل الكتاب قال: ماله ولأهل الكتاب وقد أكثر الله المسلمات فإن كان لابد فاعلا فليعهد إليها حصانا غير مسافحة، قال الرجل: وما المسافحة قال: هي التي إذا المح إليها الرجل بعينه تبعته.
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله {ولا متخذي أخدان} قال: ذو الخدن والخلية الواحدة، قال: ذكر لنا أن رجالا قالوا: كيف نتزوج نساءهم وهم على دين ونحن على دين فانزل الله {ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله} قال: لا والله لا يقبل الله عملا إلا بالإيمان.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن مجاهد في قوله {ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله} قال: أخبر الله أن الإيمان هو العروة الوثقى وإنه لا يقبل عملا إلا به ولا يحرم الجنة إلا على من تركه.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصناف النساء إلا ما كان من المؤمنات المهاجرات وحرم كل ذات دين غير الإسلام قال الله تعالى {ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله}). [الدر المنثور: 5/197-201]


رد مع اقتباس
  #3  
قديم 19 ربيع الثاني 1434هـ/1-03-2013م, 11:17 PM
أم إسماعيل أم إسماعيل غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Dec 2010
المشاركات: 4,914
افتراضي التفسير اللغوي

التفسير اللغوي

تفسير قوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4) )
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ: (ت: 207هـ): (وقوله: {وما علّمتم مّن الجوارح...}
يعني الكلاب. و{مكلّبين} نصب على الحال خارجة من (لكم)، يعني بمكلّبين: الرجال أصحاب الكلاب، يقال للواحد: مكلّب وكلاّب. وموضع (ما) رفع.
وقوله: {تعلّمونهنّ}: تؤدّبونهن ألاّ يأكلن صيدهنّ.
ثم قال تبارك وتعالى: {فكلوا ممّا أمسكن عليكم} ممّا لم يأكلن منه، فإن أكل فليس بحلال؛ لأنه إنما أمسك على نفسه). [معاني القرآن: 1/302]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ( (قل أحلّ لكم الطّيّبات) (4) أي الحلال.
[مجاز القرآن: 1/153]
(وما علّمتم من الجوارح) (4) أي الصوائد، ويقال: فلان جارحة أهله أي كاسبهم، وفي آية أخرى: (ومن يجترح) (؟) أي يكتسب، ويقال: امرأة أرملة لا جارح لها، أي لا كاسب لها، وفي آية أخرى: (اجترحوا السيئات) (4520) كسبوا، (وما جرحتم) (660) أي ما كسبتم.
(مكلّبين) (4) أصحاب كلاب، وقال طفيل الغنويّ:
تبارى مراخيها الزّجاج كأنها... ضراءٌ أحسّت نبأةً من مكلّب). [مجاز القرآن: 1/154]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ) : ({يسألونك ماذا أحلّ لهم قل أحلّ لكم الطّيّبات وما علّمتم مّن الجوارح مكلّبين تعلّمونهنّ ممّا علّمكم اللّه فكلوا ممّا أمسكن عليكم واذكروا اسم اللّه عليه واتّقوا اللّه إنّ اللّه سريع الحساب}
وقال: {ماذا أحلّ} فإن شئت جعلت "ذا" بمنزلة "الذي" وإن شئت جعلتها زائدة كما قال الشاعر: [من البسيط وهو الشاهد الثالث والثمانون بعد المائة]:
يا خزر تغلب ماذا بال نسوتكم = لا يستفقن إلى الديرين تحنانا
فـ"ذا" لا تكون ههنا إلاّ زائدة. [إذ] لو قلت: "ما الذي بال نسوتكم" لم يكن كلاماً.
[و] قال: {الجوارح} وهي الكواسب كما تقول: "فلان جارحة أهله" و"مالهم جارحةٌ" أي: ما لهم مماليك "ولا حافرة".
[و] قال: {كلوا ممّا أمسكن عليكم} [فـ] أدخل {من} كما أدخله في قوله: "كان من حديث" و"قد كان من مطرٍ". وقوله: {ويكفّر عنكم مّن سيّئاتكم} و{ينزّل من السّماء من جبالٍ فيها من بردٍ}. وهو فيما فسر "ينزّل من السّماء جبالاً فيها بردٌ". وقال بعضهم {وينزّل من السّماء من جبالٍ فيها من بردٍ} أي: في السّماء جبالٌ من برد. أي: يجعل الجبال من بردٍ في السّماء، ويجعل الإنزال منها). [معاني القرآن: 1/218]
قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : (وأما قوله عز وجل {وما علمتم من الجوارح مكلبين} فالجوارح فيما زعم من نثق به: الفم واليدان من الكلاب؛ وقالوا: الجوارح الصوائد الكواسب لأهلها؛ ويقال: فلان جارحة أهله، وفلانة أرملة لا جارحة لها؛ أي لا كاسب لها؛ وقوله عز وجل {اجترحوا السيئات} من ذلك؛ أي اكتسبوا؛ وقالوا: جرح واجترح جميعًا من الجوارح، اليد والرجل والعينين، وشبه ذلك.
وأما قوله عز وجل {مكلبين} فالمكلبون أصحاب الكلام.
وقال لبيد:
حتى أشب لها ضراء مكلب = يسعى بهن أقب كالسرحان
وقال الطرماح:
نظر الظباء سمعن صوت مكلب أو صوت حابل
وهو الرجل الذي معه الحبال يحبلها.
وقال أوس بن حجر:
حتى إذا الكلاب قال لها = كاليوم مطلوبًا ولا طلبا
فقال: الكلاب). [معاني القرآن لقطرب: 492]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ) : (4- {الجوارح}: الصوائد.
4- {مكبلين}: أصحاب الكلاب). [غريب القرآن وتفسيره: 128]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ)
: (4 - {الجوارح}: كلاب الصيد. وأصل الاجتراح: الاكتساب.
يقال: امرأة لا جارح لها، أي لا كاسب. ويقال ما اجترحتم: أي ما اكتسبتم.
{مكلّبين} أصحاب كلاب). [تفسير غريب القرآن: 141]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ) : (وقوله: (يسألونك ماذا أحلّ لهم قل أحلّ لكم الطّيّبات وما علّمتم من الجوارح مكلّبين تعلّمونهنّ ممّا علّمكم اللّه فكلوا ممّا أمسكن عليكم واذكروا اسم اللّه عليه واتّقوا اللّه إنّ اللّه سريع الحساب (4)
(يسألونك ماذا أحلّ لهم)
موضع " ما " رفع، إن شئت جعلتها وحدها اسما، ويكون خبرها قوله: (ذا). ويكون أحل من صلة ما، والتأويل: يسألونك أي شيء أحل لهم.
وجائز أن تكون " ما "، و " ذا "، اسما واحدا، وهي أيضا رفع بالابتداء والتأويل على هذا: يسألونك أي شيء أحل لهم، وأحل لهم خبر الابتداء.
(قل أحلّ لكم الطّيّبات وما علّمتم من الجوارح).
فالطيبات كل شيء لم يأت تحريمه في كتاب ولا سنة، والكلام يدل على أنهم سألوا عن الصيد فيما سألوا عنه، ولكن حذف ذكر صيد " ما علمتم).. لأن في الكلام دليلا عليه، كما قال: (واسأل القرية).
المعنى واسأل أهل القرية.
" وقوله: (مكلّبين).
أي في هذه الحال يقال رجل مكلّب، وكلّاب، أي صاحب صيد بالكلاب، وفي هذا دليل أن لحم صيد الكلب الذي لم يعلّم حرام إذا لم تدرك ذكاته، فإذا أرسل المرسل كلب الصيد فصاد فقتل صيده، وقد ذكر الصائد اسم اللّه على الصيد فهو حلال بلا اختلاف بين الناس في ذلك.
[معاني القرآن: 2/149]
وقوله عزّ وجلّ: (فكلوا ممّا أمسكن عليكم).
فاختلف الفقهاء فيه إذا أكل من الصيد، فقال بعضهم يؤكل (منه) وإن أكل منه. وكل ذلك في اللغة غير ممتنع لأنه قد يمسك الصيد إذا قتله ولم يأكل منه، وقد يمسك وقد أكل منه.
ومعنى: (تعلّمونهنّ ممّا علّمكم اللّه).
أي تؤدبونهنّ أن يمسكن الصيد عليكم، فإن غاب الصيد فمات فإنه غير ممسك. وفي الحديث: " كل ما أصميت ودع ما أنميت).
ومعنى كل ما أصميت أي إن صدت صيدا بكلب أو غيره فمات وأنت تراه مات بصيدك فهو ما أصميت، وأصل الصميان في اللغة السرعة والخفة.
فالمعنى: كل ما أصميت أي ما قتلته بصيدك وأنت تراه أسرع في الموت، فرأيته وعلمت - لا محالة - إنّه مات بصيدك، ومعنى ما أنميت، أي ما غاب عنك فمات ولم تره، فلست تدري أمات بصيدك أم عرض له عارض آخر فقتله، يقال نمت الرّمية إذا مضت والسهم فيها، وأنميت الرمية إذا رميتها فمضت والسهم فيها.
قال امرؤ القيس:
فهو لا تنمي رميّته... ما له لا عدّ من نفره
وقال الحرث بن وعلة الشيباني:
قالت سليمى قد غنيت فتى... فالآن لا تصمي ولا تنمي). [معاني القرآن: 2/150]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ) : (26-وقوله عز وجل: {يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين} وقرأ عبد الله بن مسعود والحسن وأبو رزين (مكلبين) ومعنى مكلبين أصحاب كلاب يقال كلب فهو مكلب وكلاب ويقال أكلب فهو مكلب إذا كثرت عنده الكلاب كما يقال أمشى فهو ممش إذا كثرت ماشيته وأنشد الاصمعي:
[معاني القرآن: 2/263]
وكل فتى وإن أمشى فأثرى ستخلجه عن الدنيا منون
وروي عن أبي رافع أنه قال لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب سألوه ما يحل من هذه الأمة التي أمرت بقتلها فنزلت: {يسألونك ماذا أحل لهم} وقرأ إلى آخر الآية والجوارح في اللغة الكواسب يقال ما لفلانة جارح أي كاسب وقال مجاهد في قول الله عز وجل: {ويعلم ما جرحتم بالنهار} قال ما كسبتم
[معاني القرآن: 2/264]
وقال مجاهد في معنى الجوارح إنها الكلاب والطير وقال طاووس يحل صيد الطير لقوله تعالى: {مكلبين} وليس في الآية دليل على تحريم صيد سوى الكلاب لأن معنى مكلبين محرشون.
والإجماع يقوي قول طاووس على تحليل صيد الطير). [معاني القرآن: 2/265]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ) : (27-وقوله جل وعز: {فكلوا مما أمسكن عليكم} قال سعد بن أبي وقاص وسلمان وعبد الله بن عمر وأبو هريرة إذا أمسك عليك فكل وإن أكل وهذا قول أهل المدينة
[معاني القرآن: 2/265]
وروي عن عدي بن حاتم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن أمسك عليك ولم يأكل فكل وهذا قول أهل الكوفة). [معاني القرآن: 2/266]
قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت:345 هـ) : ( (فكلوا مما أمسكن عليكم) يعني: الجوارح). [ياقوتة الصراط: 207]
قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت:345 هـ) : (والجوارح: الكواسب لأهلها، ويقال: فلان جارح أهله، إذا كان كاسبهم
[ياقوتة الصراط: 207]
والكاد عليهم). [ياقوتة الصراط: 208]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): (4- {الْجَوَارِحِ} كلاب الصيد، وأصل الاجتراح الاكتساب.
{مُكَلِّبِينَ} أصحاب كلاب). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 68]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): (4- {الْجَوَارِحِ}: الصوائد من البزاة والكلاب وغيرها
4- {مُكَلِّبِينَ}: أصحاب كلاب). [العمدة في غريب القرآن: 120]

تفسير قوله تعالى: (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5) )
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ( (والمحصنات من المؤمنات) (5) أي ذوات الأزواج، وقد فرغنا قبل هذا منه.
(مسافحين) (5) أي زانين، والسّفاح: الزّناء.
(أجورهنّ) (5): مهورهن.
[مجاز القرآن: 1/154]
(حبط عمله) (6) أي ذهب). [مجاز القرآن: 1/155]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ) : ({اليوم أحلّ لكم الطّيّبات وطعام الّذين أوتوا الكتاب حلٌّ لّكم وطعامكم حلٌّ لّهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الّذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهنّ أجورهنّ محصنين غير مسافحين ولا متّخذي أخدان ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين}
وقال: {محصنين غير مسافحين ولا متّخذي أخدان} فيعني به الرجال.
وقال: {أحلّ لكم الطّيّبات} (و) أحلّ {لكم المحصنات} من النساء {محصنين غير مسافحين} أي: أحلّ لكم في هذه الحال). [معاني القرآن: 1/219]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ) : (5- (الأخدان): الأصدقاء يقال فلان خدني وخديني). [غريب القرآن وتفسيره: 128]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ) : (وقوله جلّ وعز: (اليوم أحلّ لكم الطّيّبات وطعام الّذين أوتوا الكتاب حلّ لكم وطعامكم حلّ لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الّذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهنّ أجورهنّ محصنين غير مسافحين ولا متّخذي أخدان ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين (5)
(وطعام الّذين أوتوا الكتاب حلّ لكم وطعامكم حلّ لهم)
أي ذبائح أهل الكتاب حل لكم، وقد أجمع المسلمون أن ذبائح أهل الكتاب حلال للمسلمين، واختلفوا فيما سواها من الأطعمة، والذبائح هي من الأطعمة، فالظاهر - واللّه أعلم - أن جميع طعامهم حلال كالذبائح.
(وطعامكم حلّ لهم).
تأويله حل لكم أن تطعموهم، لأن الحلال والحرام والفرائض بعد عقد التوحيد، إنما يعقد على أهل الشريعة والملة، فأما الكفار فالواجب فيهم القتل إلّا من أدّى الجزية من أهل الكتاب.
وقوله: (والمحصنات من الّذين أوتوا الكتاب من قبلكم)
أي وأحلّ لكم المحصنات وهن العفائف وقيل الحرائر، والكتاب يدل على أن الأمة إذا كانت غير مؤمنة لم يجز التزويج بها، لقوله: (ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات واللّه أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض فانكحوهنّ بإذن أهلهنّ وآتوهنّ أجورهنّ بالمعروف محصنات غير مسافحات).
فإذا آتيتموهنّ أي إذا أعطيتموهن الأجر على جهة التزويج لا على جهة السّفاح وهو الزنا.
وقوله: (ولا متّخذي أخدان).
[معاني القرآن: 2/151]
وهن الصديقات والأصدقاء، فحرم الله عز وجل الجماع على جهة السفاح، أو على جهة اتخاذ الصديقة، وأحلّة على جهة الإحصان، وهو التزويج، على ما عليه جماعة العلماء.
وقوله: (ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله)
أي من بدل شيئا مما أحل الله فجعله حراما، أو أحل شيئا مما حرم الله فهو كافر بإجماع، وقد حبط عمله أي حبط جميع ما تقرب به إلى اللّه جل ثناؤه، ومن غير ذلك). [معاني القرآن: 2/152]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ) : (28-وقوله جل وعز: {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} قال مجاهد وإبراهيم يعني الذبائح). [معاني القرآن: 2/266]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ) : (29-وقوله جل وعز: {والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أتوا الكتاب من قبلكم} روي عن ابن عباس أنه قال المحصنات العفيفات العاقلات وقال الشعبي هو أن تحصن فرجها فلا تزني وتغتسل من الجنابة
[معاني القرآن: 2/266]
والقراءة على قول الشعبي والمحصنات بكسر الصاد وبه قرأ الكسائي (والمحصنة) تكون العفيفة والمتزوجة والحرة فالحرة ههنا أولى ولو أريد العفيفة لما جاز أن تتزوج امرأة حتى يوقف على عفتها وقال مجاهد المحصنات الحرائر قال أبو عبيد نذهب إلى أنه لا يحل نكاح إماء أهل الكتاب لقوله جل وعز: {فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات}
[معاني القرآن: 2/267]
وهذا القول الذي عليه جلة العلماء ويدل على أنهن الحرائر قوله جل ثناه: {ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات} قال الحسن والزهري ويحيى بن سعيد وإبراهيم ومكحول وقتادة لا يحل نكاح إماء أهل الكتاب لقوله تعالى: {من فتياتكم المؤمنات}). [معاني القرآن: 2/268]
قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ) : (30-وقوله جل وعز: {ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله قال مجاهد وعطاء أي ومن يكفر بالله). [معاني القرآن: 2/268]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): (5- {الأَخْدَانٍ}: الأصدقاء). [العمدة في غريب القرآن: 120]


رد مع اقتباس
  #4  
قديم 2 جمادى الأولى 1434هـ/13-03-2013م, 11:07 AM
أم إسماعيل أم إسماعيل غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Dec 2010
المشاركات: 4,914
افتراضي التفسير اللغوي المجموع

التفسير اللغوي المجموع
[ما استخلص من كتب علماء اللغة مما له صلة بهذا الدرس]

تفسير قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4) }
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ القَاسِمُ بنُ سَلاَّمٍ الهَرَوِيُّ (ت: 224 هـ) : (في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه رخص للمحرم في قتل العقرب والفأرة والغراب والحدأ والكلب العقور.
...
قوله: والكلب العقور، بلغني عن سفيان بن عيينة أنه قال: معناه كل سبع يعقر، ولم يخص به الكلب.
وليس للحديث عندي مذهب إلا ما قال سفيان لما رخص الفقهاء فيه من قتل المحرم السبع العادي عليه.
ومثل قول الشعبي وإبراهيم: من حل بك فاحلل به.
يقول: إن المحرم لا يقتل فمن عرض لك فحل بك فكن أنت أيضا به حلالا.
وكأنهم إنما اتبعوا هذا الحديث في الكلب العقور.
ومع هذا أنه قد يجوز في الكلام أن يقال للسبع: كلب، ألا ترى أنهم يروون في المغازي أن عتبة بن أبي لهب كان شديد الأذى للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اللهم سلط عليه كلبا من كلابك)) فخرج عتبة بن أبي لهب إلى الشام مع أصحاب له فنزل منزلا فطرقهم الأسد فتخطى إلى عتبة بن أبي لهب من بين أصحابه حتى قتله، فصار الأسد ههنا قد لزمه اسم الكلب.
وهذا مما يثبت ذلك التأويل.
ومن ذلك قول الله تبارك تعالى: {وما علمتم من الجوارح مكلبين} فهذا اسم مشتق من الكلب، ثم دخل فيه صيد الفهد والصقر والبازي، فصارت كلها داخلة في هذا الاسم، فلهذا قيل لكل جارح أو عاقر من السباع: كلب عقور). [غريب الحديث: 1/382-384]
قالَ محمَّدُ بنُ القاسمِ بنِ بَشَّارٍ الأَنْبَارِيُّ: (ت: 328 هـ): (وقوله: ويجرح أي: يكسب ويصيد، يقال فلان جارحة أهله إذا كان الكاسب لهم وهو من قول الله عز ذكره: {وما علمتم من الجوارح مكلبين} ). [شرح المفضليات: 497]


تفسير قوله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5) }

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 16 جمادى الآخرة 1435هـ/16-04-2014م, 05:46 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن الثالث الهجري

....

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 16 جمادى الآخرة 1435هـ/16-04-2014م, 05:46 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن الرابع الهجري

....

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 16 جمادى الآخرة 1435هـ/16-04-2014م, 05:46 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن الخامس الهجري

....

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 16 جمادى الآخرة 1435هـ/16-04-2014م, 05:46 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن السادس الهجري

تفسير قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (يسألونك ماذا أحلّ لهم قل أحلّ لكم الطّيّبات وما علّمتم من الجوارح مكلّبين تعلّمونهنّ ممّا علّمكم اللّه ...
وسبب نزول قوله تعالى: يسئلونك ماذا أحلّ لهم أن جبريل جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد في البيت كلبا فلم يدخل فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ادخل فقال أنا لا أدخل بيتا فيه كلب فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب فقتلت حتى بلغت العوالي فجاء عاصم بن عدي وسعد بن خيثمة وعويم بن ساعدة فقالوا يا رسول الله، ماذا يحل لنا من هذه الكلاب؟
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وروى هذا السبب أبو رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم وهو كان المتولي لقتل الكلاب، وحكاه أيضا عكرمة ومحمد بن كعب القرظي موقوفا عليهما وظاهر الآية أن سائلا سأل عما أحل للناس من المطاعم لأن قوله تعالى: قل أحلّ لكم الطّيّبات ليس الجواب على ما يحل لنا من اتخاذ الكلاب اللهم إلا أن يكون هذا من إجابة السائل بأكثر مما سأل عنه وهذا موجود كثيرا من النبي صلى الله عليه وسلم كجوابه في لباس المحرم وغير ذلك وهو صلى الله عليه وسلم مبين الشرع فإنما يجاوب مادّا أطناب التعليم لأمته، والطّيّبات الحلال هذا هو المعنى عند مالك وغيره ولا يراغى مستلذا كان أم لا، وقال الشافعي: الطّيّبات الحلال المستلذ وكل مستقذر كالوزغ والخنافس وغيرها فهي من الخبائث حرام.
وقوله تعالى: وما علّمتم من الجوارح تقديره وصيد ما علمتم أو فاتخاذ ما علمتم وأعلى مراتب التعليم أن يشلى الحيوان فينشلي ويدعى فيجيب ويزجر بعد ظفره بالصيد فينزجر وأن يكون لا يأكل من صيده فإذا كان كلب بهذه الصفات ولم يكن أسود بهيما فأجمعت الأمة على صحة الصيد به بشرط أن يكون تعليم مسلم ويصيد به مسلم، هنا انعقد الإجماع فإذا انخرم شيء مما ذكرنا دخل الخلاف، فإن كان الذي يصاد به غير كلب كالفهد وما أشبهه وكالبازي والصقر ونحوهما من الطير فجمهور الأمة على أن كل ما صاد بعد تعليم فهو جارح أي كاسب يقال: جرح فلان واجترح إذا كسب ومنه قوله تعالى: ويعلم ما جرحتم بالنّهار [الأنعام: 60] أي كسبتم من حسنة وسيئة وكان ابن عمر يقول إنما يصاد بالكلاب فأما ما صيد به من البزاة وغيرها من الطير فما أدركت ذكاته فذكه فهو حلال لك وإلا فلا تطعمه هكذا حكى ابن المنذر قال: وسئل أبو جعفر عن البازي والصقر أيحل صيده قال: لا إلا أن تدرك ذكاته قال واستثنى قوم البزاة فجوزوا صيدها لحديث عدي بن حاتم قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد البازي فقال إذا أمسك عليك فكل، وقال الضحاك والسدي: وما علّمتم من الجوارح مكلّبين هي الكلاب خاصة فإن كان الكلب أسود بهيما فكره صيده الحسن بن أبي الحسن وقتادة وإبراهيم النخعي. وقال أحمد بن حنبل ما أعرف أحدا يرخص فيه إذا كان بهيما وبه قال ابن راهويه، فأما عوام أهل العلم بالمدينة والكوفة فيرون جواز صيد كل كلب معلم.
وأما أكل الكلب من الصيد فقال ابن عباس وأبو هريرة والشعبي وإبراهيم النخعي وسعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح وقتادة وعكرمة والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور والنعمان وأصحابه، لا يؤكل ما بقي لأنه إنما أمسك على نفسه ولم يمسك على ربه ويعضد هذا القول قول النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم في الكلب المعلم وإذا أكل فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه، وتأول هؤلاء قوله تعالى: فكلوا ممّا أمسكن عليكم أي الإمساك التام ومتى أكل فلم يمسك على الصائد، وقال سعد بن أبي وقاص وعبد الله ابن عمر وأبو هريرة أيضا وسلمان الفارسي رضي الله عنهم: إذا أكل الجارح أكل ما بقي وإن لم تبق إلا بضعة. وهذا قول مالك وجميع أصحابه فيما علمت وتأولوا قوله تعالى: ممّا أمسكن عليكم [المائدة: 4] على عموم الإمساك فمتى حصل إمساك ولو في بضعة حل أكلها وروي عن النخعي وأصحاب الرأي والثوري وحماد بن أبي سليمان أنهم رخصوا فيما أكل البازي منه خاصة في البازي.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: كأنه لا يمكن فيه أكثر من ذلك لأن حد تعليمه أن يدعى فيجيب، وأن يشلى
فينشلي، وإذا كان الجارح يشرب من دم الصيد فجمهور الناس على أن ذلك الصيد يؤكل، وقال عطاء:
ليس شرب الدم بأكل. وكره أكل ذلك الصيد الشعبي وسفيان الثوري.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وليس في الحيوان شيء يقبل التعليم التام إلا الكلب شاذا وأكثرها يأكل من الصيد ولذلك لم ير مالك ذلك من شروط التعليم. وأما الطير فقال ربيعة: ما أجاب منها إذا دعي فهو المعلم الضاري.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: لأن أكثر الحيوان بطبعه ينشلي، وقال أصحاب أبي حنيفة: إذا صاد الكلب وأمسك ثلاث مرات ولاء فقد حصل منه التعليم، قال ابن المنذر: وكان النعمان لا يحد في ذلك عددا، وقال غيرهم: إذا فعل ذلك مرة واحدة فقد حصل معلما وإذا كان الكلب تعليم يهودي أو نصراني فكره الصيد به الحسن البصري، فأما كلب المجوسي وبازه وصقره فكره الصيد بها جابر بن عبد الله والحسن وعطاء ومجاهد وإبراهيم النخعي والثوري وإسحاق بن راهويه، ومالك رحمه الله والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم على إباحة الصيد بكلابهم إذا كان الصائد مسلما قالوا: وذلك مثل شفرته، وأما إن كان الصائد من أهل الكتاب فجمهور الأمة على جواز صيده غير مالك رحمه الله فإنه لم يجوز صيد اليهودي والنصراني وفرق بين ذلك وبين ذبيحته وتلا قول الله تعالى: تناله أيديكم ورماحكم قال فلم يذكر الله بهذا اليهود ولا النصارى، وقال ابن وهب وأشهب: صيد اليهودي والنصراني حلال كذبيحته، وفي كتاب محمد لا يجوز صيد الصابئ ولا ذبيحته وهم قوم بين اليهود والنصارى لا دين لهم وأما إن كان الصائد مجوسيا فمنع من أكل صيده مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم وعطاء وابن جبير والنخعي والليث بن سعد وجمهور الناس، وقال أبو ثور فيها قولين: أحدهما كقول هؤلاء، والآخر أن المجوس أهل كتاب وأن صيدهم جائز، وقرأ جمهور الناس «وما علمتم» بفتح العين واللام وقرأ ابن عباس ومحمد بن الحنفية «علّمتم» بضم العين وكسر اللام أي أمر الجوارح والصيد بها، والجوارح الكواسر على ما تقدم، وحكى ابن المنذر عن قوم أنهم قالوا الجوارح مأخوذ من الجارح أي الحيوان الذي له ناب وظفر أو مخلب يجرح به صيده.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا قول ضعيف أهل اللغة على خلافه وقرأ جمهور الناس «مكلّبين» بفتح الكاف وشد اللام والمكلب معلم الكلاب ومضريها ويقال لمن يعلم غير كلب مكلب لأنه يرد ذلك الحيوان كالكلب، وقرأ الحسن وأبو زيد «مكلبين» بسكون الكاف وتخفيف اللام ومعناه أصحاب كلاب يقال: أمشى الرجل كثرت ماشيته وأكلب كثرت كلابه، وقال بعض المفسرين: المكلب بفتح الكاف وشد اللام صاحب الكلاب.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وليس هذا بمحرر.
أي يعلمونهن من الحيلة في الاصطياد والتأتي لتحصيل الحيوان وهذا جزء مما علمه الله الإنسان ف «من» للتبعيض، ويحتمل أن تكون لابتداء الغاية وأنث الضمير في تعلّمونهنّ مراعاة للفظ الجوارح إذ هو جمع جارحة.
قوله عز وجل: فكلوا ممّا أمسكن عليكم واذكروا اسم اللّه عليه واتّقوا اللّه إنّ اللّه سريع الحساب (4)
قوله تعالى: فكلوا ممّا أمسكن عليكم يحتمل أن يريد مما أمسكن فلم يأكلن منه شيئا.
ويحتمل أن يريد مما «أمسكن» وإن أكلن بعض الصيد وبحسب هذا الاحتمال اختلف العلماء في جواز أكل الصيد إذا أكل منه الجارح وقد تقدم ذلك، وقوله تعالى: واذكروا اسم اللّه عليه أمر بالتسمية عند الإرسال على الصيد وفقه الصيد والذبح في معنى التسمية واحد فقال بعض العلماء هذا الأمر على الوجوب ومتى ترك المرسل أو الذابح التسمية عمدا أو نسيانا لم تؤكل وممن رويت عنه كراهية ما لم يسم عليه الله نسيانا الشعبي وابن سيرين ونافع وأبو ثور، ورأى بعض العلماء هذا الأمر بالتسمية على الندب وإلى ذلك ينحو أشهب في قوله إن ترك التسمية مستخفا لم تؤكل وإن تركها عامدا لا يدري قدر ذلك لكنه غير متهاون بأمر الشريعة فإنها تؤكل ومذهب مالك وجمهور أهل العلم: أن التسمية واجبة مع الذكر ساقطة مع النسيان فمن تركها عامدا فقد أفسد الذبيحة والصيد ومن تركها ناسيا سمى عند الأكل وكانت الذبيحة جائزة، واستحب أكثر أهل العلم أن لا يذكر في التسمية غير الله تعالى وأن لفظها بسم الله والله كبر، وقال قوم: إن صلى مع ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم فجائز، ثم أمر تعالى بالتقوى على الجملة والإشارة الغريبة هي إلى ما تضمنته هذه الآيات من الأوامر وسرعة الحساب هي من أنه تبارك وتعالى قد أحاط بكل شيء علما فلا يحتاج إلى محاولة عد ويحاسب جميع الخلائق دفعة واحدة، وتحتمل الآية أن تكون وعيدا بيوم القيامة كأنه قال إن حساب الله لكم سريع إتيانه إذ يوم القيامة قريب، ويحتمل أن يريد ب الحساب المجازاة فكأنه توعد في الدنيا بمجازاة سريعة قريبة إن لم يتق الله). [المحرر الوجيز: 3/105-110]

تفسير قوله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (اليوم أحلّ لكم الطّيّبات وطعام الّذين أوتوا الكتاب حلٌّ لكم وطعامكم حلٌّ لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الّذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهنّ أجورهنّ محصنين غير مسافحين ولا متّخذي أخدانٍ ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين (5)
وقوله تعالى: اليوم أحلّ لكم الطّيّبات إشارة إلى الزمن والأوان، والخطاب للمؤمنين، وتقدم القول في الطّيّبات وقوله تعالى: وطعام الّذين أوتوا الكتاب حلٌّ لكم ابتداء وخبر، وحلٌّ معناه حلال، والطعام في هذه الآية الذبائح كذا قال أهل التفسير، وذلك أن الطعام الذي لا محاولة فيه كالبر والفاكهة ونحوه لا يضر فيه ويحرم عينه تملك أحد، والطعام الذي تقع فيه محاولة على ضربين فمنه ما محاولته صنعة لا تعلق للدين بها كخبز الدقيق وتعصير الزيت ونحوه فهذا إن جنب من الذمي فعلى جهة التقزز، والضرب الثاني هي التزكية التي هي محتاجة إلى الدين والنية فلما كان القياس ألا تجوز ذبائحهم كما تقول: إنهم لا صلاة لهم ولا صوم ولا عبادة مقبولة رخص الله تعالى في ذبائحهم على هذه الأمة وأخرجها بالنص عن القياس، ثم إن العلماء اختلفوا في لفظ طعام فقال الجمهور: وهي الذبيحة كلها وتذكية الذمي عاملة لنا في كل الذبيحة ما حل له منها وما حرم عليه لأنه مذك. وقالت جماعة من أهل العلم إنما أحل لنا طعامهم من الذبيحة أي الحلال لهم لأن ما لا يحل لهم لا تعمل فيه تذكيتهم فمنعت هذه الطائفة الطريف والشحوم المحضة من ذبائح أهل الكتاب، وهذا الخلاف موجود في مذهب مالك رحمه الله، واختلف العلماء في لفظة أوتوا فقالت فرقة إنما أحلت لنا ذبائح بني إسرائيل والنصارى الصرحاء الذين نزل عليهم التوراة والإنجيل، فمنعت هذه الفرقة ذبائح نصارى بني تغلب من العرب وذبائح كل دخيل في هذين الدينين وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه ينهى عن ذبائح نصارى بني تغلب ويقول لأنهم لم يتمسكوا بشيء من النصرانية إلا بشرب الخمر.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: فهذا ليس بنهي عن ذبائح النصارى المحققين منهم، وقال جمهور الأمة ابن عباس والحسن وعكرمة وابن المسيب والشعبي وعطاء وابن شهاب والحكم وحماد وقتادة ومالك رحمه الله وغيرهم: إن ذبيحة كل نصراني حلال سواء كان من بني تغلب أو غيرهم، وكذلك اليهود وتأولوا قول الله تعالى: ومن يتولّهم منكم فإنّه منهم [المائدة: 51] وقوله تعالى: وطعامكم حلٌّ لهم أي ذبائحكم، فهذه رخصة للمسلمين لا لأهل الكتاب لما كان الأمر يقتضي أن شيئا قد تشرعنا فيه بالتذكية ينبغي لنا أن نحميه منهم ورخص الله تعالى في ذلك رفعا للمشقة بحسب التجاوز، وقوله تعالى: والمحصنات عطف على الطعام المحلل، والإحصان في كلام العرب وفي تصريف الشرع مأخوذ من المنعة ومنه الحصن، وهو مترتب بأربعة أشياء: الإسلام والعفة والنكاح والحرية، فيمتنع في هذا الموضع أن يكون الإسلام لأنه قد نص أنهن من أهل الكتاب ويمتنع أن يكون النكاح لأن ذات الزوج لا تحل، ولم يبق إلا الحرية والعفة فاللفظة تحتملهما، واختلف أهل العلم بحسب هذا الاحتمال فقال مالك رحمه الله ومجاهد وعمر بن الخطاب وجماعة من أهل العلم «المحصنات» في هذه الآية الحرائر فمنعوا نكاح الأمة الكتابية، وقالت جماعة من أهل العلم: «المحصنات» في هذه الآية العفائف، منهم مجاهد أيضا والشعبي وغيرهم فجوزوا نكاح الأمة الكتابية وبه قال سفيان والسدي، وقال الشعبي: إحصان الذمية ألا تزني وأن تغتسل من الجنابة، وقال أبو ميسرة: مملوكات أهل الكتاب بمنزلة حرائرهن العفائف منهن حلال نكاحهن.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ومنع بعض العلماء زواج غير العفيفة بهذه الآية، وقال الحسن بن أبي الحسن: إذا اطلع الرجل من امرأته على فاحشة فليفارقها. وفرق ابن عباس بين نساء أهل الحرب ونساء أهل الذمة فقال: من أهل الكتاب من يحل لنا وهم كل من أعطى الجزية، ومنهم من لا يحل لنا وهم أهل الحرب، وكره مالك رحمه الله نكاح نساء أهل الحرب مخافة ضياع الولد أو تغير دينه، والأجور في هذه الآية المهور، وانتزع أهل العلم لفظة آتيتموهنّ أنه لا ينبغي أن يدخل زوج بزوجته إلا بعد أن يبذل من المهر ما يستحلها به، ومن جوز أن يدخل دون أن يبذل ذلك فرأى أنه بحكم الارتباط والالتزام في حكم الموتى، ومحصنين معناه متزوجين على السنة، والإحصان في هذا الموضع هو بالنكاح، والمسافح المزاني، والسفاح الزنى، والمسافحة هي المرأة التي لا ترد يد لامس وتزني مع كل أحد وهن أصحاب الرايات في الجاهلية، والمخادنة أن يكون الزانيان قد وقف كل واحد نفسه على صاحبه، وقد تقدم نظير هذه الآية وفسر بأوعب من هذا، وقوله تعالى: ومن يكفر بالإيمان يحتمل أن يكون المعنى على أن الكفر هو بنفس الإيمان، وفي هذا مجاز واستعارة لأن الإيمان لا يتصور كفر به إنما الكفر بالأمور التي حقها أن يقع الإيمان بها، وباقي الآية بين). [المحرر الوجيز: 3/110-112]

رد مع اقتباس
  #9  
قديم 16 جمادى الآخرة 1435هـ/16-04-2014م, 05:47 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن السابع الهجري

....

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 16 جمادى الآخرة 1435هـ/16-04-2014م, 05:47 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن الثامن الهجري

تفسير قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {يسألونك ماذا أحلّ لهم قل أحلّ لكم الطّيّبات وما علّمتم من الجوارح مكلّبين تعلّمونهنّ ممّا علّمكم اللّه فكلوا ممّا أمسكن عليكم واذكروا اسم اللّه عليه واتّقوا اللّه إنّ اللّه سريع الحساب (4) }
لمّا ذكر تعالى ما حرّمه في الآية المتقدّمة من الخبائث الضّارّة لمتناولها، إمّا في بدنه، أو في دينه، أو فيهما، واستثنى ما استثناه في حالة الضّرورة، كما قال: {وقد فصّل لكم ما حرّم عليكم إلا ما اضطررتم إليه} [الأنعام: 119] قال بعدها: {يسألونك ماذا أحلّ لهم قل أحلّ لكم الطّيّبات} كما [قال] في سورة الأعراف في صفة محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم: أنّه {يحلّ لهم الطّيّبات ويحرّم عليهم الخبائث} [الآية: 157].
قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبو زرعة، حدّثنا يحيى بن عبد اللّه بن بكير، حدّثني عبد اللّه بن لهيعة، حدّثني عطاء بن دينارٍ، عن سعيد بن جبير، عن عديّ بن حاتمٍ، وزيد بن المهلهل الطّائيّين سألا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فقالا يا رسول اللّه، قد حرّم اللّه الميتة، فماذا يحلّ لنا منها؟ فنزلت: {يسألونك ماذا أحلّ لهم قل أحلّ لكم الطّيّبات} قال سعيد [بن جبيرٍ] يعني: الذّبائح الحلال الطّيّبة لهم. وقال مقاتل: [بن حيّان] [في قوله: {قل أحلّ لكم الطّيّبات}] فالطّيّبات ما أحلّ لهم من كلّ شيءٍ أن يصيبوه وهو الحلال من الرّزق. وقد سئل الزّهريّ عن شرب البول للتّداوي فقال: ليس هو من الطّيّبات.
رواه ابن أبي حاتمٍ وقال ابن وهبٍ: سئل مالكٌ عن بيع الطّين الّذي يأكله النّاس. فقال: ليس هو من الطّيّبات.
وقوله تعالى: {وما علّمتم من الجوارح مكلّبين} أي: أحلّ لكم الذّبائح الّتي ذكر اسم اللّه عليها والطّيّبات من الرّزق، وأحلّ لكم ما اصطدتموه بالجوارح، وهي من الكلاب والفهود والصّقور وأشباه ذلك، كما هو مذهب الجمهور من الصّحابة والتّابعين والأئمّة، وممّن قال ذلك: عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ في قوله: {وما علّمتم من الجوارح مكلّبين} وهنّ الكلاب المعلّمة والبازي، وكلّ طيرٍ يعلّم للصّيد والجوارح: يعني الكلاب الضّواري والفهود والصّقور وأشباهها.
رواه ابن أبي حاتمٍ، ثمّ قال: وروي عن خيثمة، وطاوسٍ، ومجاهدٍ، ومكحولٍ، ويحيى بن أبي كثيرٍ، نحو ذلك. وروي عن الحسن أنّه قال: الباز والصّقر من الجوارح. وروي عن عليّ بن الحسين مثله. ثمّ روي عن مجاهدٍ أنّه كره صيد الطّير كلّه، وقرأ قول اللّه [عزّ وجلّ] {وما علّمتم من الجوارح مكلّبين} قال: وروي عن سعيد بن جبيرٍ نحو ذلك.
ونقله ابن جريرٍ عن الضّحّاك والسّدّي، ثمّ قال: حدّثنا هنّاد، حدّثنا ابن أبي زائدة، أخبرنا ابن جريجٍ، عن نافعٍ، عن ابن عمر قال: أمّا ما صاد من الطّير البزاة وغيرها من الطّير، فما أدركت فهو لك، وإلّا فلا تطعمه.
قلت: والمحكيّ عن الجمهور أنّ صيد الطّيور كصيد الكلاب ؛ لأنّها تكلب الصّيد بمخالبها كما تكلبه الكلاب، فلا فرق. وهذا مذهب الأئمّة الأربعة وغيرهم، واختاره ابن جريرٍ، واحتجّ في ذلك بما رواه عن هنّادٍ، حدّثنا عيسى بن يونس، عن مجالدٍ، عن الشّعبيّ، عن عديّ بن حاتمٍ قال: سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم عن صيد البازي، فقال: "ما أمسك عليك فكل".
واستثنى الإمام أحمد صيد الكلب الأسود؛ لأنّه عنده ممّا يجب قتله ولا يحلّ اقتناؤه؛ لما ثبت في صحيح مسلمٍ عن أبي ذرٍّ؛ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "يقطع الصلاة الحمار والمرأة والكلب الأسود" فقلت: ما بال الكلب الأسود من الأحمر ؟ فقال: "الكلب الأسود شيطانٌ" وفي الحديث الآخر: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أمر بقتل الكلاب، ثمّ قال: "ما بالهم وبال الكلاب، اقتلوا منها كلّ أسودٍ بهيم".
وسمّيت هذه الحيوانات الّتي يصطاد بهنّ: جوارح، من الجرح، وهو: الكسب. كما تقول العرب: فلانٌ جرح أهله خيرًا، أي: كسبهم خيرًا. ويقولون: فلانٌ لا جارح له، أي: لا كاسب له، وقال اللّه تعالى: {وهو الّذي يتوفّاكم باللّيل ويعلم ما جرحتم بالنّهار} [الأنعام: 60] أي: ما كسبتم من خيرٍ وشرٍّ.
وقد ذكر في سبب نزول هذه الآية الكريمة الحديث الّذي رواه ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا حجّاج بن حمزة، حدّثنا زيد بن الحباب، حدّثني موسى بن عبيدة، حدّثني أبان بن صالحٍ، عن القعقاع بن حكيمٍ، عن سلمى أمّ رافعٍ، عن أبي رافعٍ مولى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب، فقتلت، فجاء النّاس فقالوا: يا رسول اللّه، ما يحلّ لنا من هذه الأمّة الّتي أمرت بقتلها؟ قال: فسكت، فأنزل اللّه: {يسألونك ماذا أحلّ لهم قل أحلّ لكم الطّيّبات وما علّمتم من الجوارح مكلّبين} الآية. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "إذا أرسل الرّجل كلبه وسمّى، فأمسك عليه، فليأكل ما لم يأكل ".
وهكذا رواه ابن جريرٍ، عن أبي كريب، عن زيد بن الحباب بإسناده، عن أبي رافعٍ قال: جاء جبريل إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم ليستأذن عليه، فأذن له فقال: قد أذنّا لك يا رسول اللّه. قال: أجل، ولكنّا لا ندخل بيتًا فيه كلبٌ، قال أبو رافعٍ: فأمرني أن أقتل كلّ كلبٍ بالمدينة، فقتلت، حتّى انتهيت إلى امرأةٍ عندها كلبٌ ينبح عليها، فتركته رحمةً لها، ثمّ جئت إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فأخبرته فأمرني، فرجعت إلى الكلب فقتلته، فجاءوا فقالوا: يا رسول اللّه، ما يحلّ لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟ قال: فسكت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، قال: فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {يسألونك ماذا أحلّ لهم قل أحلّ لكم الطّيّبات وما علّمتم من الجوارح مكلّبين}
ورواه الحاكم في مستدركه من طريق محمّد بن إسحاق، عن أبان بن صالحٍ، به. وقال: صحيحٌ ولم يخرجاه.
وقال ابن جريرٍ: حدّثنا القاسم، حدّثنا الحسين، حدّثنا حجّاجٌ، عن ابن جريج، عن عكرمة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا رافعٍ في قتل الكلاب، حتّى بلغ العوالي فدخل عاصم بن عديٍّ، وسعد بن خيثمة، وعويم بن ساعدة، فقالوا: ماذا أحلّ لنا يا رسول اللّه؟ فنزلت: {يسألونك ماذا أحلّ لهم قل أحلّ لكم الطّيّبات وما علّمتم من الجوارح مكلّبين} [الآية]
ورواه الحاكم من طريق سماك، عن عكرمة وهكذا قال محمّد بن كعبٍ القرظيّ في سبب نزول هذه الآية: إنّه في قتل الكلاب.
وقوله تعالى: {مكلّبين} يحتمل أن يكون حالًا من الضّمير في {علّمتم} فيكون حالًا من الفاعل، ويحتمل أن يكون حالًا من المفعول وهو {الجوارح} أي: وما علّمتم من الجوارح في حال كونهنّ مكلّبات للصّيد، وذلك أنّ تقتنصه [الجوارح] بمخالبها أو أظفارها فيستدلّ بذلك -والحالة هذه-على أنّ الجارحة إذا قتل الصّيد بصدمته أو بمخلابه وظفره أنّه لا يحلّ، كما هو أحد قولي الشّافعيّ وطائفةٍ من العلماء؛ ولهذا قال: {تعلّمونهنّ ممّا علّمكم اللّه} وهو أنّه إذا أرسله استرسل، وإذا أشلاه استشلى وإذا أخذ الصّيد أمسكه على صاحبه حتّى يجيء إليه ولا يمسكه لنفسه؛ ولهذا قال تعالى: {فكلوا ممّا أمسكن عليكم واذكروا اسم اللّه عليه} فمتى كان الجارحة معلّمًا وأمسك على صاحبه، وكان قد ذكر اسم اللّه عند إرساله حلّ الصّيد، وإن قتله بالإجماع.
وقد وردت السّنّة بمثل ما دلّت عليه هذه الآية الكريمة، كما ثبت في الصّحيحين عن عديّ بن حاتمٍ قال: قلت: يا رسول اللّه، إنّي أرسل الكلاب المعلّمة وأذكر اسم اللّه. فقال: "إذا أرسلت كلبك المعلّم وذكرت اسم اللّه، فكل ما أمسك عليك". قلت: وإن قتلن؟ قال: "وإن قتلن ما لم يشركها كلبٌ ليس منها، فإنّك إنّما سمّيت على كلبك ولم تسمّ على غيره". قلت له: فإنّي أرمي بالمعراض الصّيد فأصيب؟ فقال: "إذا رميت بالمعراض فخزق فكله، وإن أصابه بعرض فإنّه وقيذٌ، فلا تأكله". وفي لفظٍ لهما: "إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم اللّه، فإن أمسك عليك فأدركته حيًّا فاذبحه، وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه فكله، فإنّ أخذ الكلب ذكاته". وفي روايةٍ لهما: "فإن أكل فلا تأكل، فإنّي أخاف أن يكون أمسك على نفسه." فهذا دليلٌ للجمهور وهو الصّحيح من مذهب الشّافعيّ، وهو أنّه إذا أكل الكلب من الصّيد يحرم مطلقًا، ولم يستفصلوا كما ورد بذلك الحديث. وحكي عن طائفةٍ من السّلف أنهم قالوا: لا يحرم مطلقا.
ذكر الآثار بذلك:
قال ابن جريرٍ: حدّثنا هنّاد، حدّثنا وكيع، عن شعبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيّب قال: قال سلمان الفارسيّ: كل وإن أكل ثلثيه -يعني الصّيد-إذا أكل منه الكلب. وكذا رواه سعيد بن أبي عروبة، وعمر بن عامرٍ، عن قتادة. وكذا رواه محمّد بن زيدٍ، عن سعيد بن المسيّب، عن سلمان.
ورواه ابن جريرٍ أيضًا عن مجاهد بن موسى، عن يزيد، عن بكر بن عبد اللّه المزنيّ والقاسم؛ أنّ سلمان قال: إذا أكل الكلب فكل، وإن أكل ثلثيه.
وقال ابن جريرٍ: حدّثنا يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهب، أخبرني مخرمة بن بكير عن أبيه، عن حميد بن مالك بن خثيم الدّؤليّ؛ أنّه سأل سعد بن أبي وقّاصٍ عن الصّيد يأكل منه الكلب، فقال: كل، وإن لم يبق منه إلّا حذية -يعني: [إلّا] بضعةٌ.
ورواه شعبة، عن عبد ربّه بن سعيدٍ، عن بكير بن الأشجّ، عن سعيد بن المسيّب، عن سعد بن أبي وقّاصٍ قال: كل وإن أكل ثلثيه.
وقال ابن جريرٍ: حدّثنا ابن المثنّى، حدّثنا عبد الأعلى، حدّثنا داود، عن عامرٍ، عن أبي هريرة قال: لو أرسلت كلبك فأكل منه، فإن أكل ثلثيه وبقي ثلثه فكل.
وقال ابن جريرٍ: حدّثنا محمّد بن عبد الأعلى، حدّثنا المعتمر قال: سمعت عبيد اللّه وحدّثنا هنّادٌ، حدّثنا عبدة، عن عبيد اللّه بن عمر-عن نافعٍ، عن عبد اللّه بن عمر قال: إذا أرسلت كلبك المعلّم وذكرت اسم اللّه فكل ما أمسك عليك، أكل أو لم يأكل.
وكذا رواه عبيد اللّه بن عمر وابن أبي ذئبٍ وغير واحدٍ، عن نافعٍ.
فهذه الآثار ثابتةٌ عن سلمان، وسعد بن أبي وقّاصٍ، وأبي هريرة، وابن عمر. وهو محكيٌّ عن عليٍّ، وابن عبّاسٍ. واختلف فيه عن عطاءٍ، والحسن البصريّ. وهو قول الزّهريّ، وربيعة، ومالكٍ. وإليه ذهب الشّافعيّ في القديم، وأومأ إليه في الجديد.
وقد روي من طريق سلمان الفارسيّ مرفوعًا، فقال ابن جريرٍ: حدّثنا عمران بن بكّار الكلاعيّ، حدّثنا عبد العزيز بن موسى اللّاحونيّ، حدّثنا محمّد بن دينارٍ -هو الطّاحيّ-عن أبي إياسٍ معاوية بن قرّة، عن سعيد بن المسيّب، عن سلمان الفارسيّ، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "إذا أرسل الرّجل كلبه على الصّيد فأدركه، وقد أكل منه، فليأكل ما بقي ".
ثمّ قال ابن جريرٍ: وفي إسناد هذا الحديث نظرٌ، وسعيدٌ غير معلوم له سماع من سلمان، والثّقات يروونه من كلام سلمان غير مرفوعٍ.
وهذا الّذي قاله ابن جريرٍ صحيحٌ، لكن قد روي هذا المعنى مرفوعًا من وجوهٍ أخر، فقال أبو داود: حدّثنا محمّد بن منهال الضّرير، حدّثنا يزيد بن زريع، حدّثنا حبيبٌ المعلّم، عن عمرو بن شعيبٍ، عن أبيه، عن جدّه؛ أنّ أعرابيًّا -يقال له: أبو ثعلبة-قال: يا رسول اللّه، إنّ لي كلابًا مكلّبة، فأفتني في صيدها. فقال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: "إنّ كان لك كلابٌ مكلّبةٌ، فكل ممّا أمسكن عليك". فقال: ذكيًّا وغير ذكيٍّ؟ قال: "نعم". قال: وإن أكل منه؟ قال: "نعم، وإن أكل منه". قال: يا رسول اللّه، أفتني في قوسي. فقال: "كل ما ردّت عليك قوسك" قال: ذكيًّا وغير ذكيٍّ؟ قال: "وإن تغيّب عنك ما لم يصل، أو تجد فيه أثر غير سهمك". قال: أفتني في آنية المجوس إذا اضّطررنا إليها. قال: "اغسلها وكل فيها"..
هكذا رواه أبو داود وقد أخرجه النّسائيّ. وكذا رواه أبو داود، من طريق بسر بن عبيد اللّه عن أبي إدريس الخولانيّ، عن أبي ثعلبة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم اللّه فكل، وإن أكل منه، وكل ما ردّت عليك يدك"
وهذان إسنادان جيّدان، وقد روى الثّوريّ، عن سماك بن حرب، عن عديٍّ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "ما كان من كلبٍ ضارٍّ أمسك عليك، فكل". قلت: وإن أكل؟ قال: "نعم".
وروى عبد الملك بن حبيبٍ: حدّثنا أسد بن موسى، عن ابن أبي زائدة، عن الشّعبيّ، عن عدي مثله.
فهذه آثارٌ دالّةٌ على أنّه يغتفر إن أكل منه الكلب. وقد احتجّ بها من لم يحرّم الصّيد بأكل الكلب وما أشبهه، كما تقدّم عمّن حكيناه عنهم، وقد توسّط آخرون فقالوا: إن أكل عقب ما أمسكه فإنّه يحرم لحديث عديّ بن حاتمٍ. وللعلّة الّتي أشار إليها النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: "فإن أكل فلا تأكل، فإنّي أخاف أن يكون أمسك على نفسه" وأمّا إن أمسكه ثمّ انتظر صاحبه فطال عليه وجاع فأكل من الصّيد لجوعه، فإنّه لا يؤثّر في التّحريم. وحملوا على ذلك حديث أبي ثعلبة الخشنيّ، وهذا تفريقٌ حسنٌ، وجمعٌ بين الحديثين صحيحٌ. وقد تمنّى الأستاذ أبو المعالي الجويني في كتابه "النّهاية" أن لو فصّل مفصّلٌ هذا التّفصيل، وقد حقّق اللّه أمنيّته، وقال بهذا القول والتّفريق طائفةٌ من الأصحاب منهم، وقال آخرون قولًا رابعًا في المسألة، وهو التّفرقة بين أكل الكلب فيحرم لحديث عديّ، وبين أكل الصّقور ونحوها فلا يحرم؛ لأنّه لا يقبل التّعليم إلّا بالأكل.
وقال ابن جريرٍ: حدّثنا أبو كريب، حدّثنا أسباط بن محمّدٍ، حدّثنا أبو إسحاق الشّيبانيّ، عن حمّادٍ، عن إبراهيم، عن ابن عبّاسٍ؛ أنّه قال في الطّير: إذا أرسلته فقتل فكل، فإنّ الكلب إذا ضرّبته لم يعد، وإن تعلّم الطّير أن يرجع إلى صاحبه وليس يضرب، فإذا أكل من الصّيد ونتف الرّيش فكل.
وكذا قال إبراهيم النّخعي، والشّعبيّ، وحمّاد بن أبي سليمان.
وقد يحتجّ لهؤلاء بما رواه ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبو سعيدٍ، حدّثنا المحاربيّ، حدّثنا مجالد، عن الشّعبيّ، عن عديّ بن حاتمٍ قال: قلت: يا رسول اللّه، إنّا قومٌ نصيد بالكلاب والبزاة، فما يحلّ لنا منها؟ قال: "يحلّ لكم ما علّمتم من الجوارح مكلّبين تعلّمونهنّ ممّا علّمكم اللّه، فكلوا ممّا أمسكن عليكم، واذكروا اسم اللّه عليه" ثمّ قال: "ما أرسلت من كلبٍ وذكرت اسم اللّه عليه، فكل ممّا أمسك عليك". قلت: وإن قتل؟ قال: "وإن قتل، ما لم يأكل". قلت: يا رسول اللّه، وإن خالطت كلابنا كلابًا غيرها؟ قال: فلا تأكل حتّى تعلم أنّ كلبك هو الّذي أمسك". قال: قلت: إنّا قومٌ نرمي، فما يحلّ لنا؟ قال: "ما ذكرت اسم اللّه عليه وخزقت فكل ".
فوجه الدّلالة لهم أنّه اشترط في الكلب ألّا يأكل، ولم يشترط ذلك في البزاة، فدلّ على التّفرقة بينهما في الحكم، واللّه أعلم.
وقوله: {فكلوا ممّا أمسكن عليكم واذكروا اسم اللّه عليه} أي: عند الإرسال، كما قال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم لعديّ بن حاتمٍ: "إذا أرسلت كلبك المعلّم وذكرت اسم اللّه، فكل ما أمسك عليك". وفي حديث أبي ثعلبة المخرّج في الصّحيحين أيضًا: "إذا أرسلت كلبك، فاذكر اسم اللّه، وإذا رميت بسهمك فاذكر اسم اللّه"؛ ولهذا اشترط من اشترط من الأئمّة كأحمد [بن حنبلٍ] -في المشهور عنه -التّسمية -عند إرسال الكلب والرّمي بالسّهم لهذه الآية وهذا الحديث، وهذا القول هو المشهور عن الجمهور، أنّ المراد بهذه الآية الأمر بالتّسمية عند الإرسال، كما قال السّدّي وغير واحدٍ.
وقال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ في قوله: {واذكروا اسم اللّه عليه} يقول: إذا أرسلت جارحك فقل: باسم اللّه، وإن نسيت فلا حرج.
وقال بعض النّاس: المراد بهذه الآية الأمر بالتّسمية عند الأكل كما ثبت في الصّحيح: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم علّم ربيبه عمر بن أبي سلمة فقال: "سمّ اللّه، وكل بيمينك، وكل ممّا يليك". وفي صحيح البخاريّ: عن عائشة أنّهم قالوا: يا رسول اللّه، إنّ قومًا يأتوننا -حديثٌ عهدهم بكفرٍ-بلحمانٍ لا ندري أذكر اسم اللّه عليها أم لا؟ فقال: "سمّوا اللّه أنتم وكلوا."
حديثٌ آخر: وقال الإمام أحمد: حدّثنا يزيد، حدّثنا هشامٌ، عن بديل، عن عبد اللّه بن عبيد بن عمير، عن عائشة؛ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم كان يأكل الطّعام في ستّة نفرٍ من أصحابه، فجاء أعرابيٌّ فأكله بلقمتين، فقال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: "أما إنّه لو كان ذكر اسم اللّه لكفاكم، فإذا أكل أحدكم فليذكر اسم اللّه، فإن نسي أن يذكر اسم اللّه أوّله فليقل: باسم اللّه أوّله وآخره ".
وهكذا رواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن يزيد بن هارون، به وهذا منقطعٌ بين عبد اللّه بن عبيد بن عميرٍ وعائشة، فإنّه لم يسمع منها هذا الحديث، بدليل ما رواه الإمام أحمد:
حدّثنا عبد الوهّاب، أخبرنا هشامٌ -يعني ابن أبي عبد اللّه الدّستوائي-عن بديلٍ، عن عبد اللّه بن عبيد بن عميرٍ؛ أنّ امرأةً منهم -يقال لها: أمّ كلثومٍ-حدّثته، عن عائشة: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كان يأكل طعامًا في ستّةٍ من أصحابه، فجاء أعرابيٌّ جائعٌ فأكله بلقمتين، فقال: "أما إنّه لو ذكر اسم اللّه لكفاكم، فإذا أكل أحدكم فليذكر اسم اللّه، فإن نسي اسم اللّه في أوّله فليقل: باسم اللّه أوّله وآخره ".
[و] رواه أحمد أيضًا، وأبو داود، والتّرمذيّ، والنّسائيّ من غير وجهٍ، عن هشامٍ الدّستوائيّ، به وقال التّرمذيّ: حسنٌ صحيحٌ.
حديثٌ آخر: وقال أحمد: حدّثنا عليّ بن عبد اللّه، حدّثنا يحيى بن سعيدٍ، حدّثنا جابر بن صبحٍ حدّثني المثنّى بن عبد الرّحمن الخزاعيّ، وصحبته إلى واسطٍ، فكان يسمّي في أوّل طعامه وفي آخر لقمةٍ يقول: بسم اللّه أوّله وآخره.
فقلت له: إنّك تسمّي في أوّل ما تأكل، أرأيت قولك في آخر ما تأكل: باسم اللّه أوّله وآخره؟ فقال: أخبرك عن ذلك إنّ جدّي أمّيّة بن مخشّى -وكان من أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم-سمعته يقول: إنّ رجلًا كان يأكل، والنّبيّ ينظر، فلم يسمّ، حتّى كان في آخر طعامه لقمةٌ، فقال: باسم اللّه أوّله وآخره. فقال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: "واللّه ما زال الشّيطان يأكل معه حتّى سمّى، فلم يبق شيءٌ في بطنه حتّى قاءه ".
وهكذا رواه أبو داود والنّسائيّ، من حديث جابر بن صبحٍ الرّاسبيّ أبي بشرٍ البصريّ ووثّقه ابن معين والنّسائيّ، وقال أبو الفتح الأزديّ: لا تقوم به الحجّة.
حديثٌ آخر: قال الإمام أحمد: حدّثنا أبو معاوية، حدّثنا الأعمش، عن خيثمة، عن أبي حذيفة قال أبو عبد الرّحمن عبد اللّه بن الإمام أحمد: واسمه سلمة بن الهيثم بن صهيبٍ -من أصحاب ابن مسعودٍ-عن حذيفة قال: كنّا إذا حضرنا مع النّبيّ [صلّى اللّه عليه وسلّم] على طعامٍ، لم نضع أيدينا حتّى يبدأ رسول اللّه [صلّى اللّه عليه وسلّم] فيضع يده، وإنّا حضرنا معه طعامًا فجاءت جاريةٌ، كأنّما تدفع، فذهبت تضع يدها في الطّعام، فأخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بيدها، وجاء أعرابيٌّ كأنّما يدفع، فذهب يضع يده في الطّعام، فأخذ رسول اللّه [صلّى اللّه عليه وسلّم] بيده، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "إنّ الشّيطان يستحلّ الطّعام إذا لم يذكر اسم اللّه عليه، وإنّه جاء بهذه الجارية ليستحلّ بها، فأخذت بيدها، وجاء بهذا الأعرابيّ ليستحلّ به، فأخذت بيده، والّذي نفسي بيده، إنّ يده في يدي مع يدهما يعني الشّيطان. وكذا رواه مسلمٌ وأبو داود والنّسائيّ، من حديث الأعمش به.
حديثٌ آخر: روى مسلمٌ وأهل السّنن إلّا التّرمذيّ من طريق ابن جريج، عن أبي الزّبير، عن جابر بن عبد اللّه، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "إذا دخل الرّجل بيته، فذكر اللّه عند دخوله وعند طعامه، قال الشّيطان: لا مبيت لكم ولا عشاء، وإذا دخل فلم يذكر اسم اللّه عند دخوله قال الشّيطان: أدركتم المبيت، فإذا لم يذكر اسم اللّه عند طعامه قال: أدركتم المبيت والعشاء". لفظ أبي داود.
حديثٌ آخر: قال الإمام أحمد: حدّثنا يزيد بن عبد ربّه، حدّثنا الوليد بن مسلمٍ، عن وحشيّ بن حرب بن وحشي بن حرب، عن أبيه، عن جدّه؛ أنّ رجلًا قال للنّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: إنّا نأكل وما نشبع؟ قال: "فلعلّكم تأكلون متفرّقين، اجتمعوا على طعامكم واذكروا اسم اللّه، يبارك لكم فيه ".
ورواه أبو داود، وابن ماجه، من طريق الوليد بن مسلمٍ. ). [تفسير القرآن العظيم: 3/31-39]

تفسير قوله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {اليوم أحلّ لكم الطّيّبات وطعام الّذين أوتوا الكتاب حلٌّ لكم وطعامكم حلٌّ لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الّذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهنّ أجورهنّ محصنين غير مسافحين ولا متّخذي أخدانٍ ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين (5) }
لمّا ذكر تعالى ما حرّمه على عباده المؤمنين من الخبائث، وما أحلّه لهم من الطّيّبات، قال بعده: {اليوم أحلّ لكم الطّيّبات} ثمّ ذكر حكم ذبائح أهل الكتابين من اليهود والنّصارى، فقال: {وطعام الّذين أوتوا الكتب حلٌّ لكم} قال ابن عبّاسٍ، وأبو أمامة، ومجاهدٌ، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وعطاء، والحسن، ومكحول، وإبراهيم النّخعي، والسّدّي، ومقاتل بن حيّان: يعني ذبائحهم.
وهذا أمرٌ مجمعٌ عليه بين العلماء: أنّ ذبائحهم حلالٌ للمسلمين؛ لأنّهم يعتقدون تحريم الذّبح لغير اللّه، ولا يذكرون على ذبائحهم إلّا اسم اللّه، وإن اعتقدوا فيه تعالى ما هو منزّهٌ عن قولهم، تعالى وتقدّس. وقد ثبت في الصّحيح عن عبد اللّه بن مغفّل قال: دلّي بجرابٍ من شحمٍ يوم خيبر. [قال] فاحتضنته وقلت: لا أعطي اليوم من هذا أحدًا، والتفتّ فإذا النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم يتبسّم.
فاستدلّ به الفقهاء على أنّه يجوز تناول ما يحتاج إليه من الأطعمة ونحوها من الغنيمة قبل القسمة، وهذا ظاهرٌ. واستدلّ به الفقهاء الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة على أصحاب مالكٍ في منعهم أكل ما يعتقد اليهود تحريمه من ذبائحهم، كالشّحوم ونحوها ممّا حرم عليهم. فالمالكيّة لا يجوّزون للمسلمين أكله؛ لقوله تعالى: {وطعام الّذين أوتوا الكتاب حلٌّ لكم} قالوا: وهذا ليس من طعامهم. واستدلّ عليهم الجمهور بهذا الحديث، وفي ذلك نظرٌ؛ لأنّه قضيّة عينٍ، ويحتمل أنّه كان شحمًا يعتقدون حلّه، كشحم الظّهر والحوايا ونحوهما، واللّه أعلم.
وأجود منه في الدّلالة ما ثبت في الصّحيح: أنّ أهل خيبر أهدوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم شاةٌ مصليّة، وقد سمّوا ذراعها، وكان يعجبه الذّراع، فتناوله فنهش منه نهشةً، فأخبره الذّراع أنّه مسمومٌ، فلفظه وأثّر ذلك السّمّ في ثنايا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وفي أبهره، وأكل معه منها بشر بن البراء بن معرور؛ فمات، فقتل اليهوديّة الّتي سمّتها، وكان اسمها زينب، فقتلت ببشر بن البراء.
ووجه الدّلالة منه أنّه عزم على أكلها ومن معه، ولم يسألهم هل نزعوا منها ما يعتقدون تحريمه من شحمها أم لا.
وفي الحديث الآخر: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أضافه يهوديٌّ على خبز شعيرٍ وإهالةٍ سنخة، يعني: ودكا زنخًا
وقال ابن أبي حاتمٍ: قرئ على العبّاس بن الوليد بن مزيد، أخبرنا محمّد بن شعيبٍ، أخبرني النّعمان بن المنذر، عن مكحولٍ قال: أنزل اللّه: {ولا تأكلوا ممّا لم يذكر اسم اللّه عليه} [الأنعام: 121] ثمّ نسخها الرّبّ، عزّ وجلّ، ورحم المسلمين، فقال: {اليوم أحلّ لكم الطّيّبات وطعام الّذين أوتوا الكتاب حلٌّ لكم} فنسخها بذلك، وأحلّ طعام أهل الكتاب.
وفي هذا الّذي قاله مكحولٌ، رحمه اللّه، نظرٌ، فإنّه لا يلزم من إباحته طعام أهل الكتاب إباحة أكل ما لم يذكر اسم اللّه عليه؛ لأنّهم يذكرون اسم اللّه على ذبائحهم وقرابينهم، وهم متعبدون بذلك؛ ولهذا لم يبح ذبائح من عداهم من أهل الشّرك ومن شابههم، لأنّهم لم يذكروا اسم اللّه على ذبائحهم، بل ولا يتوقّفون فيما يأكلونه من اللّحم على ذكاةٍ، بل يأكلون الميتة، بخلاف أهل الكتابين ومن شاكلهم من السّامرة والصّابئة، ومن تمسّك بدين إبراهيم وشيث وغيرهما من الأنبياء، على أحد قولي العلماء، ونصارى العرب كبني تغلب وتنوخ وبهراء وجذام ولخم وعاملة ومن أشبههم، لا تؤكل ذبائحهم عند الجمهور.
[و] قال أبو جعفر بن جريرٍ: حدّثنا يعقوب بن إبراهيم، حدّثنا ابن عليّة، عن أيّوب، عن محمّد بن عبيدة قال: قال عليٌّ: لا تأكلوا ذبائح بني تغلب؛ لأنّهم إنّما يتمسّكون من النّصرانيّة بشرب الخمر.
وكذا قال غير واحدٍ من الخلف والسّلف.
وقال سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة عن سعيد بن المسيّب، والحسن؛ أنّهما كانا لا يريان بأسًا بذبيحة نصارى بني تغلب.
وأمّا المجوس، فإنّهم وإن أخذت منهم الجزية تبعًا وإلحاقًا لأهل الكتاب فإنّهم لا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم، خلافًا لأبي ثورٍ إبراهيم بن خالدٍ الكلبيّ، أحد الفقهاء من أصحاب الشّافعيّ، وأحمد بن حنبلٍ، ولمّا قال ذلك واشتهر عنه أنكر عليه الفقهاء ذلك، حتّى قال عنه الإمام أحمد: أبو ثورٍ كاسمه! يعني في هذه المسألة، وكأنّه تمسّك بعموم حديثٍ روي مرسلًا عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه قال: "سنوا بهم سنّة أهل الكتاب"، ولكن لم يثبت بهذا اللّفظ، وإنّما الّذي في صحيح البخاريّ: عن عبد الرّحمن بن عوفٍ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر ولو سلّم صحّة هذا الحديث، فعمومه مخصوصٌ بمفهوم هذه الآية: {وطعام الّذين أوتوا الكتاب حلٌّ لكم} فدلّ بمفهومه -مفهوم المخالفة-على أنّ طعام من عداهم من أهل الأديان لا يحلّ
وقوله: {وطعامكم حلٌّ لهم} أي: ويحلّ لكم أنّ تطعموهم من ذبائحكم، وليس هذا إخبارًا عن الحكم عندهم، اللّهمّ إلّا أن يكون خبرًا عمّا أمروا به من الأكل من كلّ طعامٍ ذكر اسم اللّه عليه، سواءٌ كان من أهل ملّتهم أو غيرها. والأوّل أظهر في المعنى، أي: ولكم أن تطعموهم من ذبائحكم كما أكلتم من ذبائحهم. وهذا من باب المكافأة والمقابلة والمجازاة، كما ألبس النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم ثوبه لعبد الله بن أبيّ بن سلول حين مات ودفنه فيه، قالوا: لأنّه كان قد كسا العبّاس حين قدم المدينة ثوبه، فجازاه النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم ذلك بذلك، فأمّا الحديث الّذي فيه: "لا تصحب إلّا مؤمنا، ولا يأكل طعامك إلّا تقيٌّ" فمحمولٌ على النّدب والاستحباب، واللّه أعلم.
وقوله: {والمحصنات من المؤمنات} أي: وأحلّ لكم نكاح الحرائر العفائف من النّساء المؤمنات، وذكر هذا توطئةٌ لما بعده، وهو قوله: {والمحصنات من الّذين أوتوا الكتاب من قبلكم} فقيل: أراد بالمحصّنات: الحرائر دون الإماء، حكاه ابن جريرٍ عن مجاهدٍ. وإنّما قال مجاهدٌ: المحصنات: الحرائر، فيحتمل أن يكون أراد ما حكاه عنه، ويحتمل أن يكون أراد بالحرّة العفيفة، كما قاله مجاهدٌ في الرّواية الأخرى عنه. وهو قول الجمهور هاهنا، وهو الأشبه؛ لئلّا يجتمع فيها أن تكون ذمّيّةً وهي مع ذلك غير عفيفةٍ، فيفسد حالها بالكلّيّة، ويتحصّل زوجها على ما قيل في المثل: "حشفا وسوء كيلةٍ". والظّاهر من الآية أنّ المراد بالمحصنات: العفيفات عن الزّنا، كما قال في الآية الأخرى: {محصناتٍ غير مسافحاتٍ ولا متّخذات أخدانٍ} [النّساء: 25].
ثمّ اختلف المفسّرون والعلماء في قوله: {والمحصنات من الّذين أوتوا الكتاب من قبلكم} هل يعمّ كلّ كتابيّةٍ عفيفةٍ، سواءٌ كانت حرّةً أو أمةً؟ حكاه ابن جريرٍ عن طائفةٍ من السّلف، ممّن فسّر المحصنة بالعفيفة. وقيل: المراد بأهل الكتاب هاهنا الإسرائيليّات، وهو مذهب الشّافعيّ. وقيل: المراد بذلك: الذّمّيّات دون الحربيّات؛ لقوله: {قاتلوا الّذين لا يؤمنون باللّه ولا باليوم الآخر [ولا يحرّمون ما حرّم اللّه ورسوله ولا يدينون دين الحقّ من الّذين أوتوا الكتاب حتّى يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون]} [التّوبة: 29]
وقد كان عبد اللّه بن عمر لا يرى التّزويج بالنّصرانيّة، ويقول: لا أعلم شركًا أعظم من أن تقول: إنّ ربّها عيسى، وقد قال اللّه تعالى: {ولا تنكحوا المشركات حتّى يؤمنّ} الآية [البقرة: 221].
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا محمّد بن حاتم بن سليمان المؤدّب، حدّثنا القاسم بن مالكٍ -يعني المزنيّ-حدّثنا إسماعيل بن سميع، عن أبي مالكٍ الغفاريّ، عن ابن عبّاسٍ قال: لمّا نزلت هذه الآية: {ولا تنكحوا المشركات حتّى يؤمنّ} قال: فحجز النّاس عنهنّ حتّى نزلت الّتي بعدها: {والمحصنات من الّذين أوتوا الكتاب من قبلكم} فنكح النّاس [من] نساء أهل الكتاب.
وقد تزوّج جماعةٌ من الصّحابة من نساء النّصارى ولم يروا بذلك بأسًا، أخذًا بهذه الآية الكريمة: {والمحصنات من الّذين أوتوا الكتاب من قبلكم} فجعلوا هذه مخصّصةً للآية الّتي البقرة: {ولا تنكحوا المشركات حتّى يؤمنّ} [الآية: 221] إن قيل بدخول الكتابيّات في عمومها، وإلّا فلا معارضة بينها وبينها ؛ لأنّ أهل الكتاب قد يفصل في ذكرهم عن المشركين في غير موضعٍ، كما قال تعالى: {لم يكن الّذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكّين حتّى تأتيهم البيّنة} [البيّنة: 1] وكقوله {وقل للّذين أوتوا الكتاب والأمّيّين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا} الآية [آل عمران: 20]، وقوله: {إذا آتيتموهنّ أجورهنّ} أي: مهورهنّ، أي: كما هنّ محصناتٌ عفائف، فابذلوا لهنّ المهور عن طيب نفسٍ. وقد أفتى جابر بن عبد اللّه، وإبراهيم النّخعيّ، وعامرٌ الشّعبيّ، والحسن البصريّ بأنّ الرّجل إذا نكح امرأةً فزنت قبل دخوله بها: أنّه يفرّق بينه وبينها، وتردّ عليه ما بذل لها من المهر. رواه ابن جريرٍ عنهم..
وقوله: {محصنين غير مسافحين ولا متّخذي أخدانٍ} فكما شرط الإحصان في النّساء -وهي العفّة-عن الزّنا كذلك شرطها في الرّجال وهو أن يكون الرّجل أيضًا محصنًا عفيفًا؛ ولهذا قال: {غير مسافحين} وهم: الزّناة الّذين لا يرتدعون عن معصيةٍ، ولا يردّون أنفسهم عمّن جاءهم، {ولا متّخذي أخدانٍ} أي: ذوي العشيقات الّذين لا يفعلون إلّا معهنّ، كما تقدّم في سورة النّساء سواءٌ؛ ولهذا ذهب الإمام أحمد بن حنبلٍ، رحمه اللّه، إلى أنّه لا يصحّ نكاح المرأة البغي حتّى تتوب، وما دامت كذلك لا يصحّ تزويجها من رجلٍ عفيفٍ، وكذلك لا يصحّ عنده عقد الرّجل الفاجر على عفيفةٍ حتّى يتوب ويقلع عمّا هو فيه من الزّنا؛ لهذه الآية وللحديث الآخر: "لا ينكح الزّاني المجلود إلّا مثله."
وقال ابن جريرٍ: حدّثنا محمّد بن بشّار، حدّثنا سليمان بن حرب، حدّثنا أبو هلالٍ، عن قتادة، عن الحسن قال: قال عمر بن الخطّاب [رضي اللّه عنه] لقد هممت ألّا أدع أحدًا أصاب فاحشةً في الإسلام أن يتزوّج محصنةً. فقال له أبيّ بن كعبٍ: يا أمير المؤمنين، الشّرك أعظم من ذلك، وقد يقبل منه إذا تاب.
وسيأتي الكلام على هذه المسألة مستقصًى [إن شاء اللّه تعالى] عند قوله: {الزّاني لا ينكح إلّا زانيةً أو مشركةً والزّانية لا ينكحها إلا زانٍ أو مشركٌ وحرّم ذلك على المؤمنين} [النّور: 3]؛ ولهذا قال تعالى هاهنا: {ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين} ). [تفسير القرآن العظيم: 3/39-43]

رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
إبحث في الموضوع:

البحث المتقدم
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 08:58 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
جميع الحقوق محفوظة