العودة   جمهرة العلوم > قسم التفسير > جمهرة التفاسير > تفسير سورة البقرة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 9 ربيع الثاني 1434هـ/19-02-2013م, 05:25 PM
الصورة الرمزية إشراق المطيري
إشراق المطيري إشراق المطيري غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jun 2010
المشاركات: 885
افتراضي تفسير سورة البقرة [من الآية (83) إلى الآية (86) ]

تفسير سورة البقرة
[من الآية (83) إلى الآية (86) ]


{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)}


رد مع اقتباس
  #2  
قديم 17 ربيع الثاني 1434هـ/27-02-2013م, 09:00 PM
الصورة الرمزية إشراق المطيري
إشراق المطيري إشراق المطيري غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jun 2010
المشاركات: 885
افتراضي جمهرة تفاسير السلف

تفسير السلف

تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)}
قال أبو حذيفة موسى بن مسعود النهدي (ت:220هـ): (قال سفيان [الثوري]:
«كان أصحاب عبد اللّه يقرءونها: (وقولوا للناس حَسَناً)»).
[تفسير الثوري: 47]
قالَ سعيدُ بنُ منصورٍ بن شعبة الخراسانيُّ: (ت:227هـ): ([قوله تعالى: {وقولوا للنّاس حسنًا}]
- نا خالد بن عبد اللّه، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاءٍ، في قوله عزّ وجلّ: {وقولوا للنّاس حسنًا} قال: «للنّاس كلّهم، للمشرك، وغير المشرك».
- نا هشيمٌ، قال: نا عبد الملك بن (أبي) سليمان، قال: كان زيد بن ثابتٍ يقرأ: {وقولوا للنّاس حُسْناً}، وكان ابن مسعودٍ يقرأ: (وقولوا للناس حَسَناً) ). [سنن سعيد بن منصور: 2/ 566-567]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلاّ اللّه}.
قد دلّلنا فيما مضى من كتابنا هذا على أنّ الميثاق مفعالٌ، من التّوثّق باليمين ونحوها من الأمور الّتي تؤكّد القول.
فمعنى الكلام إذًا: واذكروا أيضًا يا معشر بني إسرائيل إذ أخذنا ميثاقكم لا تعبدون إلاّ اللّه.
- كما حدّثني به ابن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة، قال: حدّثني ابن إسحاق، قال: حدّثني محمّد بن أبي محمّدٍ، عن سعيد بن جبيرٍ أو عكرمة، عن ابن عبّاسٍ: «{وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل} أي: ميثاقكم {لا تعبدون إلاّ اللّه}».
والقراءة مختلفةٌ في قراءة قوله: {لا تعبدون} فبعضهم يقرؤها بالتاء، وبعضهم يقرؤها بالياء، والمعنى في ذلك واحدٌ. وإنّما جازت القراءة بالياء والتّاء وأن يقال: {لا تعبدون} و(لا يعبدون) وهم غيبٌ؛ لأنّ أخذ الميثاق بمعنى الاستحلاف، فكما تقول: استحلفت أخاك ليقومنّ، فتخبر عنه خبرك عن الغائب لغيبته عنك، وتقول: استحلفته لتقومنّ، فتخبر عنه خبرك عن المخاطب؛ لأنّك قد كنت خاطبته بذلك، فيكون ذلك صحيحًا جائزًا، فكذلك قوله: {وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلاّ اللّه} و(لا يعبدون) من قرأ ذلك بالتّاء فبمعنى الخطاب إذ كان الخطاب قد كان بذلك، ومن قرأ بالياء فلأنّهم كانوا غير مخاطبين بذلك في وقت الخبر عنهم.
وأمّا رفع (لا يعبدون) فبالياء الّتي في (يعبدون)، ولا تنصب بأن الّتي كانت تصلح أن تدخل مع: (لا يعبدون إلاّ اللّه) لأنّها إذا صلح دخولها على فعلٍ فحذفت ولم تدخل كان وجه الكلام فيه الرّفع كما قال جلّ ثناؤه: {قل أفغير اللّه تأمرونّي أعبد أيّها الجاهلون} فرفع أعبد إذ لم تدخل فيها أن بالألف الدّالّة على معنى الاستقبال. وكما قال الشّاعر:

ألا أيّهذا الزّاجري أحضر الوغى ....... وأن أشهد اللّذّات هل أنت مخلدي
فرفع (أحضر) وإن كان يصلح دخول أن فيها، إذ حذفت بالألف الّتي تأتي بمعنى الاستقبال.
وإنّما صلح حذف (أن) من قوله: {وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون} لدلالة ما ظهر من الكلام عليها، فاكتفى بدلالة الظّاهر عليها منها.
وقد كان بعض نحويّي البصرة يقول: معنى قوله: {وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلاّ اللّه} حكايةً، كأنّك قلت: استحلفناهم لا تعبدون، أي قلنا لهم: واللّه لا تعبدون، وقالوا: واللّه لا يعبدون.
والّذي قال من ذلك قريبٌ معناه من معنى القول الّذي قلنا في ذلك.
وبنحو الّذي قلنا في قوله: {وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلاّ اللّه} تأوّله أهل التّأويل. ذكر من قال ذلك:
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا آدم، قال: حدّثنا أبو جعفرٍ، عن الرّبيع، عن أبي العالية: «أخذ مواثيقهم أن يخلصوا له، وأن لا يعبدوا غيره».
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا إسحاق، قال: أخبرنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرّبيع: في قوله: {وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلاّ اللّه}، قال: «أخذنا ميثاقهم أن يخلصوا للّه ولا يعبدوا غيره».
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ: {وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلاّ اللّه}، قال: «الميثاق الّذي أخذ عليهم في المائدة»). [جامع البيان: 2/ 187-190]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {وبالوالدين إحسانًا}.
وقوله جلّ ثناؤه: {وبالوالدين إحسانًا} عطفٌ على موضع أن المحذوفة في {لا تعبدون إلاّ اللّه}، فكان معنى الكلام: وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل بأن لا تعبدوا إلاّ اللّه وبالوالدين إحسانًا، فرفع {لا تعبدون} لمّا حذف أن، ثمّ عطف بالوالدين على موضعها، كما قال الشّاعر:
معاوي إنّنا بشرٌ فأسجح ....... فلسنا بالجبال ولا الحديدا
فنصب (الحديد) على العطف به على موضع (الجبال)؛ لأنّها لو لم تكن فيها باءٌ خافضةٌ كانت نصبًا، فعطف بالحديد على موضوع الجبال لا على لفظها، فكذلك ما وصفت من قوله: {وبالوالدين إحسانًا}.
وأمّا الإحسان فمنصوبٌ بفعلٍ مضمرٍ يؤدّي عن معناه قوله: {وبالوالدين}؛ إذ كان مفهومًا معناه، فكان معنى الكلام لو أظهر المحذوف: وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل بأن لا تعبدوا إلاّ اللّه، وبأن تحسنوا إلى الوالدين إحسانًا. فاكتفى بقوله: {وبالوالدين} من أن يقال: وبأن تحسنوا إلى الوالدين إحسانًا، إذ كان مفهومًا أنّ ذلك معناه بما ظهر من الكلام.
- وقد زعم بعض أهل العربيّة في ذلك أنّ معناه: وبالوالدين فأحسنوا إحسانًا؛ فجعل الباء الّتي في الوالدين من صلة الإحسان مقدّمةً عليه.
- وقال آخرون: بل معنى ذلك: أن لا تعبدوا إلاّ اللّه، وأحسنوا بالوالدين إحسانًا. فزعموا أنّ الباء الّتي في الوالدين من صلة المحذوف، أعني من أحسنوا، فجعلوا ذلك من كلامين. وإنّما يصرف الكلام إلى ما ادّعوا من ذلك إذا لم يوجد لاتّساق الكلام على كلامٍ واحدٍ وجهٌ، فأمّا وللكلام وجهٌ مفهومٌ على اتّساق على كلامٍ واحدٍ فلا وجه لصرفه إلى كلامين. وأحرى: أنّ القول في ذلك لو كان على ما قالوا لقيل: وإلى الوالدين إحسانًا؛ لأنّه إنّما يقال: أحسن فلانٌ إلى والديه، ولا يقال: أحسن بوالديه، إلاّ على استكراهٍ للكلام. ولكنّ القول فيه ما قلنا، وهو: وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل بكذا وبالوالدين إحسانًا، على ما بيّنّا قبل. فيكون الإحسان حينئذٍ مصدرًا من معنى الكلام لا من لفظه كما بيّنّا فيما مضى من نظائره.
فإن قال قائلٌ: وما ذلك الإحسان الّذي أخذ عليهم وبالوالدين الميثاق؟
قيل: نظير ما فرض اللّه على أمّتنا لهما من فعل المعروف لهما والقول الجميل، وخفض جناح الذّلّ رحمةً بهما والتّحنّن عليهما، والرّأفة بهما والدّعاء بالخير لهما، وما أشبه ذلك من الأفعال الّتي ندب اللّه عباده أن يفعلوا بهما). [جامع البيان: 2/ 190-192]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {وذي القربى واليتامى والمساكين}.
يعني بقوله: {وذي القربى} وبذي القربى أن يصلوا قرابته منهم ورحمه.
والقربى مصدرٌ على تقدير فعلى من قولك: قربت منّي رحم فلانٍ قرابةً وقربى وقربة وقربًا بمعنى واحدٍ.
وأمّا اليتامى فهم جمع يتيمٍ، مثل أسيرٍ وأسارى؛ ويدخل في اليتامى الذّكور منهم والإناث
فمعنى ذلك: وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلاّ اللّه وحده دون ما سواه من الأنداد وبالوالدين إحسانًا وبذي القربى، أن تصلوا رحمه، وتعرفوا حقّه، وباليتامى: أن تتعطّفوا عليهم بالرّحمة والرّأفة، وبالمساكين: أن تؤتوهم حقوقهم الّتي ألزمها اللّه أموالكم.
والمسكين: هو المتخشّع المتذلّل من الفاقة والحاجة، وهو مفعيلٌ من المسكنة، والمسكنة هي ذلّ الحاجة والفاقة). [جامع البيان: 2/ 192-193]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {وقولوا للنّاس حسنًا}
إن قال قائلٌ: كيف قيل: {وقولوا للنّاس حسنًا} فأخرج الكلام أمرًا ولمّا يتقدّمه أمرٌ، بل الكلام جارٍ من أوّل الآية مجرى الخبر؟
قيل: إنّ الكلام وإن كان قد جرى في أوّل الآية مجرى الخبر فإنّه ممّا يحسن في موضعه الخطاب بالأمر والنّهي، فلو كان مكان {لا تعبدون إلاّ اللّه}: لا تعبدوا إلاّ اللّه، على وجه النّهي من اللّه لهم عن عبادة غيره كان حسنًا صوابًا؛ وقد ذكر أنّ ذلك كذلك في قراءة أبيّ بن كعبٍ.

وإنّما حسن ذلك وجاز لو كان مقروءًا به لأنّ أخذ الميثاق قولٌ، فكأن معنى الكلام لو كان مقروءًا كذلك: وإذ قلنا لبني إسرائيل لا تعبدوا إلاّ اللّه، كما قال جلّ ثناؤه في موضعٍ آخر: {وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطّور خذوا ما آتيناكم بقوّةٍ} فتلقى ذلك بالأمر، كما تقول: قلنا لهم: خذوا ما آتيناكم بقوة، فلمّا كان حسنًا وضع الأمر والنّهي في موضع: {لا تعبدون إلاّ اللّه} عطف بقوله: {وقولوا للنّاس حسنًا} على موضع {لا تعبدون} وإن كان مخالفًا لفظ كلّ واحدٍ منهما ومعناه معنى صاحبه، لما وصفنا من جواز وضع الخطاب بالأمر والنّهي موضع لا تعبدون؛ فكأنّه قيل: وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدوا إلاّ اللّه، وقولوا للنّاس حسنًا. وهو نظير ما قدّمنا البيان عنه من أنّ العرب تبتدئ الكلام أحيانًا على وجه الخبر عن الغائب في موضع الحكايات عما أخبرت عنه، ثمّ تعود إلى الخبر على وجه الخطاب، وتبتدئ أحيانًا على وجه الخطاب ثمّ تعود إلى الإخبار على وجه الخبر عن الغائب لما في الحكاية من المعنيين؛ كما قال الشّاعر:
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومةً ....... لدينا ولا مقليّةً إن تقلّت
يعني تقليت.
وأمّا الحسن فإنّ القرأة اختلفت في قراءته، فقرأته عامّة قرّاء الكوفة غير عاصمٍ: (وقولوا للنّاس حَسَنًا) بفتح الحاء والسّين.
وقرأته عامّة قرّاء المدينة: {حُسْنًا} بضمّ الحاء وتسكين السّين.
وقد روي عن بعض القرّاء أنّه كان يقرأ: (وقولوا للنّاس حسنى) على مثال (فعلى).
واختلف أهل العربيّة في فرق ما بين معنى قوله: حَسَنًا، وحُسْنًا. فقال بعض البصريّين: هو على أحد وجهين:

إمّا أن يكون يراد بالحُسْنِ: الحَسَن، لكنها لغةٌ، كما يقال: البُخْل والبَخَل.
وإمّا أن يكون جعل الحُسْن هو الحَسَن في التّشبيه، وذلك أنّ الحُسْن مصدرٌ، والحَسَن هو الشّيء الحَسَن، ويكون ذلك حينئذٍ كقولك: إنّما أنت أكلٌ وشربٌ، كما قال الشّاعر:
وخيلٍ قد دلفت لها بخيلٍ ....... تحيّة بينهم ضربٌ وجيع
فجعل التّحيّة ضربًا.
وقال آخر: بل الحُسْن هو الاسم العامّ الجامع جميع معاني الحُسْن، والحَسَن هو البعض من معاني الحُسْن، قال: وكذلك قال جلّ ثناؤه إذ أوصى بالوالدين: {ووصّينا الإنسان بوالديه حسنًا} يعني بذلك أنّه وصّاه فيهما بجميع معاني الحُسْن، وأمر في سائر النّاس ببعض الّذي أمره به في والديه فقال: (وقولوا للنّاس حَسَنًا) يعني بذلك بعض معاني الحُسْن.
والّذي قاله هذا القائل في معنى الحُسْن -بضمّ الحاء وسكون السّين- غير بعيدٍ من الصّواب، وأنّه اسمٌ لنوعه الّذي سمّي به. وأمّا الحَسَن فهو صفةٌ ونعت لما وصف به، وذلك يقع لخاصٍّ. وإذا كان الأمر كذلك، فالصّواب من القراءة في قوله: (وقولوا للنّاس حَسَنًا) لأنّ القوم إنّما أمروا في هذا العهد الّذي قيل لهم: وقولوا للنّاس باستعمال الحَسَن من القول دون سائر معاني الحُسْن، الّذي يكون بغير القول، وذلك نعتٌ لخاصٍّ من معاني الحُسْن وهو القول. فلذلك اخترت قراءته بفتح الحاء والسّين، على قراءته بضمّ الحاء وسكون السّين.
وأمّا الّذي قرأ ذلك: (وقولوا للنّاس حسنى) فإنّه خالف بقراءته إيّاه كذلك قراءة أهل الإسلام، وكفى شاهدًا على خطأ القراءة بها كذلك خروجها من قراءة أهل الإسلام لو لم يكن على خطئها شاهدٌ غيره، فكيف وهي مع ذلك خارجةٌ من المعروف من كلام العرب؟

وذلك أنّ العرب لا تكاد أن تتكلّم بفعلى وأفعل إلاّ بالألف واللاّم أو بالإضافة، لا يقال: جاءني أحسن حتّى يقولوا الأحسن، ولا يقال: أجمل حتّى يقولوا الأجمل، وذلك أنّ الأفعل والفعلى لا يكادان يوجدان صفةً إلاّ لمعهودٍ معروفٍ، كما تقول: بل أخوك الأحسن، وبل أختك الحسنى، وغير جائزٍ أن يقال: امرأةٌ حسنى، ورجلٌ أحسن.
وأمّا تأويل القول الحسن الّذي أمر اللّه به الّذين وصف أمرهم من بني إسرائيل في هذه الآية أن يقولوه للنّاس.
- فهو ما حدّثنا به أبو كريبٍ، قال: حدّثنا عثمان بن سعيدٍ، عن بشر بن عمارة، عن أبي روقٍ، عن الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ، في قوله: {وقولوا للنّاس حسنًا}: «أمرهم أيضًا بعد هذا الخلق أن يقولوا للنّاس حسنًا: أن يأمروا بلا إله إلاّ اللّه من لم يقلها ورغب عنها حتّى يقولوها كما قالوها، فإنّ ذلك قربةٌ من اللّه جلّ ثناؤه». قال: «والحسن أيضًا: لين القول من الأدب الحسن الجميل، والخلق الكريم، وهو ممّا ارتضاه اللّه وأحبّه».
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا آدم، قال حدّثنا أبو جعفرٍ، عن الرّبيع، عن أبي العالية: {وقولوا للنّاس حسنًا} قال: «قولوا للنّاس معروفًا».
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثنا حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ: {وقولوا للنّاس حسنًا} قال: «صدقًا في شأن محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم».
- وحدّثت عن يزيد بن هارون، قال: سمعت سفيان الثّوريّ، يقول: في قوله: {وقولوا للنّاس حسنًا} قال: «مروهم بالمعروف، وانهوهم عن المنكر».
- حدّثني هارون بن إدريس الأصمّ، قال: حدّثنا عبد الرّحمن بن محمّدٍ المحاربيّ، قال: حدّثنا عبد الملك بن أبي سليمان، قال: سألت عطاء بن أبي رباحٍ، عن قول اللّه، جلّ ثناؤه: {وقولوا للنّاس حسنًا} قال: «من لقيت من النّاس فقل له حسنًا من القول». قال: وسألت أبا جعفرٍ، فقال مثل ذلك.
- حدّثنا أبو كريبٍ، قال: حدّثنا هشيم، قال: أخبرنا عبد الملك، عن أبي جعفرٍ، وعطاء بن أبي رباحٍ: في قوله: {وقولوا للنّاس حسنًا} قال: «للنّاس كلّهم».
- حدّثني يعقوب، قال: حدّثنا هشيمٌ، قال: أخبرنا عبد الملك، عن عطاءٍ مثله). [جامع البيان: 2/ 193-197]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {وأقيموا الصّلاة}.
يعني بقوله: {وأقيموا الصّلاة} أدّوها بحقوقها الواجبة عليكم فيها.
- كما حدّثنا أبو كريبٍ، قال: حدّثنا عثمان بن سعيدٍ، عن بشر بن عمارة، عن أبي روقٍ، عن الضّحّاك، عن ابن عباس، قال: «{وأقيموا الصّلاة}فى هذه الأخلاق، وإقامة الصّلاة تمام الرّكوع والسّجود والتّلاوة والخشوع والإقبال عليها فيها»). [جامع البيان: 2 /198]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {وآتوا الزّكاة}.
قد بيّنّا فيما مضى قبل معنى الزّكاة وما أصلها.
- وأمّا الزّكاة الّتي كان اللّه أمر بها بني إسرائيل الّذين ذكر أمرهم في هذه الآية
فهي ما حدّثنا به أبو كريبٍ، قال: حدّثنا عثمان بن سعيدٍ، عن بشر بن عمارة، عن أبي روقٍ، عن الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ: {وآتوا الزّكاة} قال: «إيتاء الزّكاة ما كان اللّه فرض عليهم في أموالهم من الزّكاة، وهي سنّةٌ كانت لهم غير سنّة محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم؛ كانت زكاة أموالهم قربانًا تهبط إليه نارٌ فتحملها، فكان ذلك تقبّله، ومن لم تفعل النّار به ذلك كان غير متقبّلٍ. وكان الّذي قرّب من مكسبٍ لا يحلّ من ظلمٍ أو غشمٍ، أو أخذٍ بغير ما أمر اللّه به وبيّنه له».
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا عبد اللّه بن صالحٍ، قال: حدّثني معاوية بن صالحٍ، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: «{وآتوا الزّكاة} يعني بالزّكاة: طاعة اللّه والإخلاص»). [جامع البيان: 2/ 198-199]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {ثمّ تولّيتم إلاّ قليلاً منكم وأنتم معرضون}.
وهذا خبرٌ من اللّه جلّ ثناؤه عن يهود بني إسرائيل أنّهم نكثوا عهده ونقضوا ميثاقه، بعدما أخذ اللّه ميثاقهم على الوفاء له بأن لا يعبدوا غيره، وأن يحسنوا إلى الآباء والأمّهات، ويصلوا الأرحام، ويتعطّفوا على الأيتام، ويؤدّوا حقوق أهل المسكنة إليهم، ويأمروا عباد اللّه بما أمرهم اللّه به ويحثّوهم على طاعته، ويقيموا الصّلاة بحدودها وفرائضها، ويؤتوا زكاة أموالهم. فخالفوا أمره في ذلك كلّه، وتولّوا عنه معرضين، إلاّ من عصمه اللّه منهم فوفى للّه بعهده وميثاقه.
- كما حدّثنا أبو كريبٍ، قال: حدّثنا عثمان بن سعيدٍ، عن بشر بن عمارة، عن أبي روقٍ، عن الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ، قال: «لمّا فرض اللّه جلّ وعزّ عليهم، يعني على هؤلاء الّذين وصف اللّه أمرهم في كتابه من بني إسرائيل، هذا الّذي ذكر أنّه أخذ ميثاقهم به، أعرضوا عنه استثقالاً له وكراهيةً، وطلبوا ما خفّ عليهم إلاّ قليلاً منهم، وهم الّذين استثنى اللّه فقال: {ثمّ تولّيتم}»، يقول: «أعرضتم عن طاعتي {إلاّ قليلاً منكم}»،قال: «القليل الّذين اخترتهم لطاعتي، وسيحلّ عقابي بمن تولّى وأعرض عنها؛ يقول: «تركها استخفافًا بها».
- حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة، قال: حدّثنا ابن إسحاق، قال: حدّثني محمّد بن أبي محمّدٍ، عن سعيد بن جبيرٍ أو عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ: «{ثمّ تولّيتم إلاّ قليلاً منكم وأنتم معرضون} أي: تركتم ذلك كلّه».
- وقال بعضهم: عنى اللّه جلّ ثناؤه بقوله: {وأنتم معرضون} اليهود الّذين كانوا على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، وعنى بسائر الآية أسلافهم؛ كأنّه ذهب إلى أنّ معنى الكلام: {ثمّ تولّيتم إلاّ قليلاً منكم} ثمّ تولّى سلفكم إلاّ قليلاً منهم، ولكنّه جعل خطابًا لبقايا نسلهم على ما ذكرناه فيما مضى قبل. ثمّ قال: وأنتم يا معشر بقاياهم معرضون أيضًا عن الميثاق الّذي أخذ عليكم بذلك وتاركوه ترك أوائلكم.
- وقال آخرون: بل قوله: {ثمّ تولّيتم إلاّ قليلاً منكم وأنتم معرضون} خطابٌ لمن كان بين ظهراني مهاجر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من يهود بني إسرائيل، وذمٌّ لهم بنقضهم الميثاق الّذي أخذ عليهم في التّوراة وتبديلهم أمر اللّه وركوبهم معاصيه). [جامع البيان: 2/ 199-200]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا اللّه}
- وبه، عن ابن عبّاسٍ: «ثمّ قال يؤنّبهم: {وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل} أي: ميثاقكم {لا تعبدون إلا الله}».
- حدّثنا عصام بن روّادٍ، ثنا آدم، عن أبي جعفرٍ، عن الرّبيع، عن أبي العالية: قوله: {وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا اللّه} قال: «أخذ مواثيقهم أن يخلصوا له ولا يعبدوا غيره {وبالوالدين إحسانًا} إلى آخر الآية».
- أخبرنا عليّ بن المبارك فيما كتب إليّ، ثنا زيد بن المبارك، ثنا ابن ثورٍ، عن ابن جريجٍ: {وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل} قال: «الميثاق الّذي أخذ عليهم في سورة المائدة»). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 159-160]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {لا تعبدون إلا اللّه}
- حدّثنا عصام بن روّادٍ، ثنا آدم، عن أبي جعفرٍ، عن الرّبيع، عن أبي العالية: «قوله: {لا تعبدون إلا اللّه} لا تعبدوا غيره»). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 160]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {وبالوالدين إحسانًا وذي القربى}
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا صفوان، ثنا الوليد، أخبرني بكير بن معروفٍ، عن مقاتل بن حيّان، في قول اللّه: {وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلّا اللّه وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين} قال:«فيما أمركم به من حقّ الوالدين، وذي القربى، واليتامى والمساكين»). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 160]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {وذي القربى}
- قرأت على محمّد بن الفضل بن موسى، ثنا محمّد بن عليّ بن الحسن بن شقيقٍ، أنبأ محمّد بن مزاحمٍ، عن بكير بن معروفٍ، عن مقاتل بن حيّان: «قوله: {وذي القربى} يعني القرابة»). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 160]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {واليتامى}
- حدّثنا الحسن بن أبي الرّبيع، ثنا عبد الرّزّاق، أنبأ معمرٌ، عن جويبرٍ، عن الضّحّاك، عن النّزّال بن سبرة، عن عليّ بن أبي طالبٍ، عن النّبيّ -صلّى اللّه عليه وسلّم- أنّه قال: «لا يتم بعد الحلم».
- حدّثنا محمّد بن عبد اللّه بن يزيد المقري، ثنا سفيان، عن إسماعيل بن أميّة، عن سعيدٍ المقبريّ، عن يزيد بن الهرم: سئل ابن عبّاسٍ عن اليتيم متى ينقضي يتمه؟، فقال: «إذا أونس منه رشدا»). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 160]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {والمساكين}
- حدّثنا هارون بن إسحاق وأحمد بن سنانٍ، قالا: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالحٍ، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «ليس المسكين بالطّوّاف ولا بالّذي تردّه اللّقمة واللّقمتان ولا التّمرة والتّمرتان، ولكنّ المسكين المتعفّف الّذي لا يسأل النّاس شيئًا، ولا يفطن له فيتصدّق عليه»). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 161]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {وقولوا للنّاس حسنا}
[الوجه الأول]
- حدّثنا عليّ بن الحسين، ثنا أحمد بن عبد الرّحمن -يعني الدّشتكيّ-، حدّثني أبي، عن أبيه، عن الأشعث، عن جعفرٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ، في قوله: {وقولوا للنّاس حسنًا} قال: «الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر».
الوجه الثّاني:
- حدّثنا عصام بن روّادٍ، ثنا آدم، ثنا أبو جعفرٍ، عن الرّبيع، عن أبي العالية، في قوله: {وقولوا للنّاس حسنًا} يقول: «قولوا للنّاس معروفًا».
الوجه الثّالث:
- حدّثنا أبو سعيدٍ الأشجّ، ثنا ابن يمانٍ وابن فضيلٍ ومحمّد بن عبيدٍ، قالوا:
ثنا عبد الملك -يعني: بن سليمان-، عن أبي جعفرٍ محمّد بن عليّ بن الحسين وعطاء بن أبي رباحٍ، في قوله: {وقولوا للنّاس حسنًا} قال: «للنّاس كلّهم». وكذا روي عن عكرمة.
الوجه الرّابع:
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا صفوان، ثنا الوليد، أخبرني بكير بن معروفٍ، عن مقاتل بن حيّان، في قول اللّه: {وقولوا للنّاس حسنًا} قال: «قولوا في محمّدٍ صدقًا أنّه نبيٌّ، ولا تكتموا أمره، وقولوا صدقًا فيما أمركم به من عبادته وطاعته وحدوده».
الوجه الخامس:
- حدّثنا الحسن بن أحمد، ثنا إبراهيم بن عبد اللّه بن بشّارٍ، حدّثني سرور بن المغيرة، عن عبّاد بن منصورٍ، عن الحسن، في قوله: {وقولوا للناس حسنا}: «فالحسن من القول تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتحلم وتعفوا وتصفح، وتقول للنّاس حسنًا كما قال اللّه، وهو كلّ خلقٍ حسنٌ رضيه اللّه».
الوجه السّادس:
- حدّثنا أبي، ثنا شهاب بن عبّادٍ، ثنا إبراهيم بن حميد الراسي، عن إسماعيل بن أبي خالدٍ: {وقولوا للنّاس حسنًا} قال: «هذه الآية أمر بها قبل أن يؤمر بالجهاد».
الوجه السّابع:
- حدّثنا أبي، ثنا محمّد بن خلفٍ العسقلانيّ، ثنا عبد اللّه بن يوسف- يعني: الثيي-، ثنا خالد بن صبيحٍ، عن حميد بن عقبة، عن أسد بن وداعة، أنّه كان يخرج من منزله فلا يلقى يهوديًّا ولا نصرانيًّا إلا سلّم عليه، فقيل له: ما شأنك تسلّم على اليهوديّ والنّصرانيّ؟ فقال: «إنّ اللّه يقول: {وقولوا للنّاس حسنًا} وهو السّلام».
وروي عن عطاءٍ الخراسانيّ نحو قول أسد بن وداعة). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 161-162]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {وأقيموا الصّلاة وآتوا الزّكاة}
- حدّثنا أبي، ثنا أحمد بن عبد الرّحمن، ثنا عبد اللّه بن أبي جعفرٍ، عن أبيه، قوله: {وأقيموا الصّلاة وآتوا الزّكاة} قال: كان قتادة يقول:«فريضتان واجبتان أو هما إلى اللّه».

قال أبو محمّدٍ: قد تقدّم تفسيرهما). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 162]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {ثمّ تولّيتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون}
- حدثنا محمد بن نحيى، أنبأ أبو غسّان، ثنا سلمة، قال: قال محمّد بن إسحاق: حدّثني محمّد بن أبي محمّدٍ، عن سعيد بن جبيرٍ أو عكرمة، عن ابن عبّاسٍ: «{ثمّ تولّيتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون} أي: تركتم ذلك كلّه»). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 162]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {وأنتم معرضون}
- حدّثنا عصام بن روّادٍ، ثنا آدم، ثنا أبو جعفرٍ، عن الرّبيع، عن أبي العالية، في قوله: {لا تسفكون دماءكم} يقول:«لا يقتل بعضكم بعضا»). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 162]
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ الحَسَنِ الهَمَذَانِيُّ (ت: 352هـ): (ثنا إبراهيم، قال: ثنا آدم، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: {وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله} قال:«هذا في ذكر اليهود، إلى قوله:{كأنهم لا يعلمون}»). [تفسير مجاهد: 83]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (قوله تعالى: {وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسنا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون}.
- أخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: «{وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل} أي: ميثاقكم».
- وأخرج ابن جرير عن أبي العالية في قوله: {وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل} الآية، قال: «أخذ مواثيقهم أن يخلصوا له وأن لا يعبدوا غيره».
- وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله: {وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل} قال: «ميثاق أخذه الله على بني إسرائيل فاسمعوا على ما أخذ ميثاق القوم {لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا} الآية».
- وأخرج عبد بن حميد، عن عيسى بن عمر، قال: قال الأعمش: «نحن نقرأ (لا يعبدون إلا الله) بالياء لأنا نقرأ آخر الآية (ثم تولوا عنه)، وأنتم تقرؤون {ثم توليتم} فاقرؤوها {لا تعبدون}».
- وأخرج ابن جرير من طريق الضحاك عن ابن عباس في قوله: {وقولوا للناس حسنا} قال: «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أمرهم أن يأمروا بلا إله إلا الله من لم يقلها».
- وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وقولوا للناس حسنا} قال: «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر».
- وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن علي بن أبي طالب في قوله: {وقولوا للناس حسنا} قال:«يعني الناس كلهم».
- وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير عن عطاء وأبي جعفر في قوله: {وقولوا للناس حسنا} قالا: «للناس كلهم».
- وأخرج أبو عبيد سعيد بن منصور، وابن المنذر عن عبد الملك بن سليمان: أن زيد بن ثابت كان يقرأ {وقولوا للناس حُسْناً}، وكان ابن مسعود يقرأ (وقولوا للناس حَسَناً).
- وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {ثم توليتم}: «أي: تركتم ذلك كله».
- وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: {ثم توليتم} قال: «أعرضتم عن طاعتي {إلا قليلا منكم} وهم الذين اخترتهم لطاعتي»). [الدر المنثور: 1/ 452-454]

تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84)}
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثمّ أقررتم وأنتم تشهدون}.
وقوله: {وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم} في المعنى والإعراب نظير قوله: {وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلاّ اللّه}.
وأمّا سفك الدّم، فإنّه صبّه وإراقته.
فإن قال قائلٌ: وما معنى قوله: {لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم} وقال: أوكان القوم يقتلون أنفسهم، ويخرجونها من ديارها، فنهوا عن ذلك؟
قيل: ليس الأمر في ذلك على ما ظننت، ولكنّهم نهوا عن أن يقتل بعضهم بعضًا، فكان في قتل الرّجل منهم الرّجل قتل نفسه، إذ كانت ملّتهما واحدة، ودينها واحدا، وكأن أهل الدين الواحد فى ولاية بعضهم بعضا بمنزلة رجلٍ واحدٍ، كما قال عليه الصّلاة والسّلام: «إنّما المؤمنون في تراحمهم وتعاطفهم بينهم بمنزلة الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمّى والسّهر».
وقد يجوز أن يكون معنى قوله: {لا تسفكون دماءكم} أي: لا يقتل الرّجل منكم الرّجل منكم، فيقاد به قصاصًا، فيكون بذلك قاتلاً نفسه؛ لأنّه كان الّذي سبّب لنفسه ما استحقّت به القتل، فأضيف بذلك إليه قتل وليّ المقتول إيّاه قصاصًا بوليّه، كما يقال للرّجل يركب فعلاً من الأفعال يستحقّ به العقوبة فيعاقب: أنت جنيت هذا على نفسك.
وبنحو الّذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التّأويل. ذكر من قال ذلك:
- حدّثنا بشر بن معاذٍ، قال حدّثنا يزيد بن زريعٍ، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة: «قوله: {وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم} أي: لا يقتل بعضكم بعضًا {ولا تخرجون أنفسكم من دياركم} ونفسك يا ابن آدم أهل ملّتك».
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا آدم، قال: حدّثنا أبو جعفرٍ، عن الرّبيع، عن أبي العالية: في قوله: {وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم} يقول: «لا يقتل بعضكم بعضًا»، {ولا تخرجون أنفسكم من دياركم} يقول:«لا يخرج بعضكم بعضًا من الدّيار».
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا آدم، قال: حدّثنا أبو جعفرٍ، عن قتادة: في قوله: {لا تسفكون دماءكم} يقول: «لا يقتل بعضكم بعضًا».
- حدّثت عن عمار، قال: حدّثنا ابن أبى جعفرٍ، عن أبيه، عن قتادة: {لا تسفكون دماءكم} يقول: «لا يقتل بعضكم بعضًا بغير حقٍّ،{ولا تخرجون أنفسكم من دياركم} فتسفك يا ابن آدم دماء أهل ملّتك ودعوتك»). [جامع البيان: 2/ 200-202]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {ثمّ أقررتم}.
يعني بقوله: {ثمّ أقررتم} أى: أقررتم بالميثاق الّذي أخذنا عليكم ألا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم.
- كما حدّثنا المثنّى، قال: حدّثنا آدم، قال: حدّثنا أبو جعفرٍ، عن الرّبيع، عن أبي العالية: {ثمّ أقررتم} يقول: «أقررتم بهذا الميثاق».
- وحدّثت عن عمّارٍ، قال: حدّثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرّبيع مثله). [جامع البيان: 2/ 202-203]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {وأنتم تشهدون}.
قال أبو جعفرٍ: اختلف أهل التّأويل فيمن خوطب بقوله {وأنتم تشهدون}؛

- فقال بعضهم: ذلك خطابٌ من اللّه تعالى ذكره لليهود الّذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أيّام هجرته إليه مؤنّبًا لهم على تضييع أحكام ما في أيديهم من التّوراة الّتي كانوا يقرّون بحكمها، فقال اللّه تعالى لهم: {ثمّ أقررتم} يعني بذلك أقر أوائلكم وسلفكم {وأنتم تشهدون} على إقراركم بأخذ الميثاق عليهم، بأن لا يسفكوا دماءهم، ولا يخرجوا أنفسهم من ديارهم، وتصدّقون بأنّ ذلك حقٌّ من ميثاقي عليكم. وممّن حكي معنى هذا القول عنه ابن عبّاسٍ.
- حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة، قال: حدّثني ابن إسحاق، قال: حدّثني محمّد بن أبي محمّدٍ، عن سعيد بن جبيرٍ أو عكرمة، عن ابن عبّاسٍ، قال: «{وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثمّ أقررتم وأنتم تشهدون} أنّ هذا حقٌّ من ميثاقي عليكم».
- وقال آخرون: بل ذلك خبرٌ من اللّه جلّ ثناؤه عن أوائلهم، ولكنّه تعالى ذكره أخرج الخبر بذلك عنهم مخرج المخاطبة على النّحو الّذي وصفنا في سائر الآيات الّتي هي نظائرها الّتي قد بيّنّا تأويلها فيما مضى. وتأوّلوا قوله: {وأنتم تشهدون} على معنى: وأنتم شهودٌ. ذكر من قال ذلك:
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا آدم، قال: حدّثنا أبو جعفرٍ، عن الرّبيع، عن أبي العالية: قوله: {وأنتم تشهدون} يقول: «وأنتم شهودٌ».
- وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصّواب عندي أن يكون قوله: {وأنتم تشهدون} خبرًا عن أسلافهم، وداخلاً فيه المخاطبون به الّذين أدركوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، كما كان قوله: {وإذ أخذنا ميثاقكم} خبرًا عن أسلافهم وإن كان خطابًا للّذين أدركوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم؛ لأنّ اللّه تعالى أخذ ميثاق الّذين كانوا على عهد رسول اللّه موسى صلّى اللّه عليه وسلّم من بني إسرائيل على سبيل ما قد بيّنه لنا في كتابه، فألزم جميع من بعدهم من ذرّيّتهم من حكم التّوراة مثل الّذي ألزم منه من كان على عهد موسى منهم. ثمّ أنّب الّذين خاطبهم بهذه الآيات على نقضهم ونقض سلفهم ذلك الميثاق، وتبديلهم ما وكّدوا على أنفسهم له بالوفاء من العهود بقوله: {ثمّ أقررتم وأنتم تشهدون}،
وإن كان خارجًا على وجه الخطاب للّذين كانوا على عهد نبيّنا صلّى اللّه عليه وسلّم منهم، فإنّه معنيٌّ به كلّ من أقر بالميثاق منهم على عهد موسى ومن بعده، وكلّ من شهد منهم بتصديق ما في التّوراة؛ لأنّ اللّه جلّ ثناؤه لم يخصّص بقوله: {ثمّ أقررتم وأنتم تشهدون} وما أشبه ذلك من الآي بعضهم دون بعضٍ؛ والآية محتملةٌ أن يكون أريد بها جميعهم. فإذ كان ذلك كذلك فليس لأحدٍ أن يدّعي أنّه أريد بها بعضٌ منهم دون بعضٍ. وكذلك حكم الآية الّتي بعدها، أعني قوله: {ثمّ أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم} الآية؛ لأنّه قد ذكر لها أنّ أوائلهم قد كانوا يفعلون من ذلك ما كان يفعله أواخرهم الّذين أدركوا عصر نبيّنا محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم). [جامع البيان: 2/ 203-205]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): ({وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثمّ أقررتم وأنتم تشهدون (84) ثمّ أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقًا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرّمٌ عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعضٍ فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلّا خزيٌ في الحياة الدّنيا ويوم القيامة يردّون إلى أشدّ العذاب وما اللّه بغافلٍ عمّا تعملون (85)}
قوله تعالى: {وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم}
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا عمرو بن حمّادٍ بن طلحة، ثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ: {وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم} قال:«إنّ اللّه أخذ على بني إسرائيل في التّوراة أن لا يقتل بعضهم بعضًا».

وروي عن قتادة والرّبيع بن أنسٍ نحو قول أبي العالية). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 163]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {ولا تخرجون أنفسكم من دياركم}
- حدّثنا عصام بن روّادٍ، ثنا أبو جعفرٍ، عن الرّبيع، عن أبي العالية، في قوله: {ولا تخرجون أنفسكم من دياركم} يقول:«لا يخرج بعضكم بعضًا من الدّيار، وكان في بني إسرائيل إذا استضعفوا قومًا أخرجوهم من ديارهم، وقد أخذ عليهم الميثاق أن لا يسفكوا دماءهم ولا يخرجوا أنفسهم من ديارهم».

وروي عن الحسن والسّدّيّ ومقاتل بن حيّان نحو قول الأوّل إلى ذكر الدّيار). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 163]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {ثمّ أقررتم وأنتم تشهدون}
- حدّثنا محمّد بن نحيى، أنبأ أبو غسّان، ثنا سلمة، قال محمّد بن إسحاق: حدّثني محمّد بن أبي محمّدٍ، عن سعيد بن جبيرٍ أو عكرمة، عن ابن عبّاسٍ، في قوله: {ثمّ أقررتم وأنتم تشهدون}: «أنّ هذا حقٌّ من ميثاقي عليكم».
- حدّثنا عصام بن روّادٍ، ثنا آدم، ثنا أبو جعفرٍ، عن الرّبيع، عن أبي العالية: {ثمّ أقررتم وأنتم تشهدون} يقول: «أقررتم بهذا الميثاق وأنتم شهودٌ»). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 163]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (قوله تعالى: {وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دمائكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون * ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون * أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون}.
- أخرج عبد بن حميد عن عاصم، أنه قرأ (لا تسفكون دماءكم) بنصب التاء وكسر الفاء ورفع الكاف.
- وأخرج عبد بن حميد عن طلحة بن مصرف أنه قرأها (تسفكون) برفع الفاء.
- وأخرج ابن جرير عن أبي العالية في قوله: {وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم} يقول:«لا يقتل بعضكم بعضا»، {ولا تخرجون أنفسكم من دياركم} يقول: «لا يخرج بعضكم بعضا من الديار {ثم أقررتم} بهذا الميثاق»، {وأنتم تشهدون} يقول: «وأنتم شهود».
- وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {ثم أقررتم وأنتم تشهدون}:«إن هذا حق من ميثاقي عليكم {ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم} أي: أهل الشرك حتى تسفكوا دماءكم معهم»، {وتخرجون فريقا منكم من ديارهم} قال:«تخرجونهم من ديارهم معهم {تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان} فكانوا إذا كان بين الأوس والخزرج حرب خرجت بنو قينقاع مع الخزرج، وخرجت النضير وقريظة من الأوس، وظاهر كل واحد من الفريقين حلفاءه على إخوانه حتى تسافكوا دماءهم، فإذا وضعت أوزارها افتدوا أسراهم تصديقا لما في التوراة {وإن يأتوكم أسارى تفادوهم} وقد عرفتم أن ذلك عليكم في دينكم {وهو محرم عليكم} في كتابكم {إخراجهم}، {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض} أتفادونهم مؤمنين بذلك، وتخرجونهم كفرا بذلك».
- وأخرج ابن جرير عن أبي العالية أن عبد الله بن سلام مر على رأس الجالوت بالكوفة، وهو يفادي من النساء من لم يقع عليه العرب، ولا يفادي من وقع عليه العرب، فقال له عبد الله بن سلام: «أما مكتوب عندك في كتابك أن فادوهن كلهن».
- وأخرج سعيد بن منصور عن إبراهيم النخعي أنه قرأ {وإن يأتوكم أسارى تفادوهم}.
- وأخرج سعيد بن منصور عن الحسن أنه قرأ {أسارى تفادوهم}.
- وأخرج ابن أبي داود في المصاحف عن الأعمش قال: «في قراءتنا (وإن يؤخذوا تفدوهم)».
- وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: «يكون أول الآية عاما، وآخرها خاصا»، وقرأ هذه الآية: {ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون}.
- وأخرج ابن جرير عن قتادة في قوله: {أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة} قال: «استحبوا قليل الدنيا على كثير الآخرة»). [الدر المنثور: 454-457]

تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)}
قالَ سعيدُ بنُ منصورٍ بن شعبة الخراسانيُّ: (ت:227هـ): ([قوله تعالى: {وإن يأتوكم أسارى تفادوهم}]
- نا أبو معاوية، عن مغيرة، عن إبراهيم، أنّه كان يقرأ: (وإن يأتوكم أسرى).
- نا هشيمٌ، قال: نا مغيرة، عن إبراهيم أنّه كان يقرأ: (وإن يأتوكم أسرى تفدوهم).
- نا سفيان، عن حميد، أنّه كان يقرأ: (أسرى).
- نا هشيم، قال: نا عبّاد بن راشدٍ، عن الحسن، أنّه كان يقرأ: (أسارى تفادوهم) ). [سنن سعيد بن منصور: 2/ 568-570]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {ثمّ أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقًا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان}.
ويتّجه في قوله: {ثمّ أنتم هؤلاء} وجهان:

أحدهما أن يكون أريد به: ثمّ أنتم يا هؤلاء، فترك (يا) استغناءً بدلالة الكلام عليه، كما قال: {يوسف أعرض عن هذا} وتأويله: يا يوسف أعرض عن هذا، فيكون معنى الكلام حينئذٍ: ثمّ أنتم يا معشر يهود بني إسرائيل، بعد إقراركم بالميثاق الّذي أخذته عليكم ألا تسفكوا دماءكم ولا تخرجوا أنفسكم من دياركم، ثمّ أقررتم بعد شهادتكم على أنفسكم بأنّ ذلك حقٌّ لي عليكم لازمٌ لكم الوفاء لي به {تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقًا منكم من ديارهم} متعاونين عليهم في إخراجكم إيّاهم بالإثم والعدوان.
والتّعاون: هو التّظاهر؛ وإنّما قيل: للتّعاون التّظاهر، لتقوية بعضهم ظهر بعضٍ، فهو تفاعلٌ من الظّهر، وهو مساندة بعضهم ظهره إلى ظهر بعضٍ.
والوجه الآخر أن يكون معناه: ثمّ أنتم القومٌ تقتلون أنفسكم؛ فيرجع إلى الخبر عن أنتم، وقد اعترض بينهم وبين الخبر عنهم بهؤلاء، كما تقول العرب: أنا ذا أقوم، وأنا هذا أجلس، وإذ قيل: أنا هذا أجلس كان صحيحًا جائزًا، كذلك أنت ذاك تقوم.
وقد زعم بعض البصريّين أنّ قوله: {هؤلاء} في قوله: {ثمّ أنتم هؤلاء} تنبيهٌ وتوكيدٌ لأنتم، وزعم أنّ أنتم وإن كانت كناية أسماء جماع المخاطبين، فإنّما جاز أن يؤكّدوا بهؤلاء وهؤلاء لايؤكد بها، لأنّها كنايةٌ عن المخاطبين، كما قال خفاف بن ندبة:


أقول له والرّمح يأطر متنه ....... تأمل خفافًا إنّني أنا ذلكا
يريد: أنا هذا. وكما قال جلّ ثناؤه: {حتّى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم}.
ثمّ اختلف أهل التّأويل فيمن عني بهذه الآية نحو اختلافهم فيمن عني بقوله: {وأنتم تشهدون}.

ذكر اختلاف المختلفين في ذلك:
- حدّثنا محمّد بن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة، قال: حدّثني محمّد بن إسحاق، قال: حدّثني محمّد بن أبي محمّدٍ، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ، قال: «{ثمّ أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقًا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان} إلى أهل الشّرك حتّى تسفكوا دماءهم معهم، وتخرجوهم من ديارهم معهم».

فقال: «ابتلاهم اللّه بذلك من فعلهم، وقد حرّم عليهم في التّوراة سفك دمائهم، وافترض عليهم فيها فداء أسراهم؛ فكانوا فريقين طائفةٌ منهم من بنو قينقاعٍ ولفهم حلفاء الخزرج والنّضير وقريظة ولفهم حلفاء الأوس، فكانوا إذا كانت بين الأوس والخزرج حربٌ خرجت بنو قينقاعٍ مع الخزرج، وخرجت النّضير وقريظة مع الأوس، يظاهر كلٌّ من الفريقين حلفاءه على إخوانه حتّى يتسافكوا دماءهم بينهم وبأيديهم التّوراة يعرفون منها ما عليهم وما لهم، والأوس والخزرج أهل شركٍ يعبدون الأوثان لا يعرفون جنّةً ولا نارًا، ولا بعثًا، ولا قيامةً، ولا كتابًا، ولا حرامًا، ولا حلالاً؛ فإذا وضعت الحرب أوزارها افتدوا أسراهم، تصديقًا لما في التّوراة وأخذا به بعضهم من بعضٍ: يفتدي بنو قينقاعٍ ما كان من أسراهم في أيدي الأوس، وتفتدي النّضير وقريظة ما كان في أيدي الخزرج منهم، ويطلّون ما أصابوا من الدّماء وقتلوا من قتلوا منهم فيما بينهم مظاهرةً لأهل الشّرك عليهم».
يقول اللّه تعالى ذكره حين أنّبهم بذلك: {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعضٍ} أي: يفاديه بحكم التّوراة ويقتلونه؛ وفي حكم التّوراة ألا يفعل ويخرجه من داره، ويظاهر عليه من يشرك باللّه ويعبد الأوثان من دونه ابتغاء عرضٍ من عرض الدّنيا. ففي ذلك من فعلهم مع الأوس والخزرج فيما بلغني نزلت هذه القصّة.
- وحدّثني موسى بن هارون، قال: حدّثني عمرو بن حمّادٍ، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ: {وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثمّ أقررتم وأنتم تشهدون} قال: «إنّ اللّه أخذ على بني إسرائيل في التّوراة أن لا يقتل بعضهم بعضًا، وأيّما عبدٍ أو أمةٍ وجدتموه من بني إسرائيل فاشتروه بما قام ثمنه فأعتقوه. فكانت قريظة حلفاء الأوس، والنّضير حلفاء الخزرج، فكانوا يقتتلون في حرب سميرٍ، فتقاتل بنو قريظة مع حلفائها النّضير وحلفاءها. وكانت النّضير تقاتل قريظة وحلفاءها فيغلبونهم، فيخربون بيوتهم ويخرجونهم منها، فإذا أسر الرّجل من الفريقين كليهما جمعوا له حتّى يفدوه، فتعيّرهم العرب بذلك، ويقولون: كيف تقاتلونهم وتفدونهم؟ قالوا: إنّا أمرنا أن نفديهم وحرّم علينا قتالهم، قالوا: فلم تقاتلونهم؟ قالوا: إنّا نستحيي أن تستذلّ حلفاؤنا. فذلك حين عيّرهم جلّ وعزّ فقال: {ثمّ أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقًا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان}».
- حدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ: «كانت قريظة والنّضير أخوين، وكانوا بهذه البلدة، وكان الكتاب بأيديهم. وكانت الأوس والخزرج أخوين فافترقا، وافترقت قريظة والنّضير، فكانت النّضير مع الخزرج، وكانت قريظة مع الأوس. فاقتتلوا، وكان بعضهم يقتل بعضًا، فقال اللّه جلّ ثناؤه: {ثمّ أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقًا منكم من ديارهم} الآية».
- وقال آخرون بما حدّثني به المثنّى، قال: حدّثنا آدم، قال: حدّثنا أبو جعفرٍ، عن الرّبيع، عن أبي العالية، قال: «كان في بني إسرائيل إذا استضعفوا قومًا أخرجوهم من ديارهم، وقد أخذ عليهم الميثاق أن لا يسفكوا دماءهم ولا يخرجوا أنفسهم من ديارهم».
وأمّا العدوان فهو الفعلان من التّعدّي، يقال منه: عدا فلانٌ في كذا عدوًا وعدوانًا، واعتدى يعتدي اعتداءٍ، وذلك إذا جاوز حدّه ظلمًا وبغيًا.
وقد اختلف القرّاء في قراءة: {تظاهرون} فقرأها بعضهم: {تظاهرون}، على مثال تفاعلون فحذف التّاء الزّائدة وهي التّاء الآخرة. وقرأها آخرون: (تظّاهرون) فشدّد بتأويل (تظاهرون) غير أنّهم أدغموا التّاء الثّانية في الظّاء لتقارب مخرجيهما فصيّروهما ظاءً مشدّدةً.
وهاتان القراءتان وإن اختلفت ألفاظهما فإنّهما متّفقتا المعنى، فسواءٌ بأيّ ذلك قرأ القارئ لأنّهما جميعًا لغتان معروفتان وقراءتان مستفيضتان في أمصار الإسلام بمعنى واحدٍ ليس في إحداهما معنى تستحقّ به اختيارها على الأخرى إلاّ أن يختار مختارٌ (تظّاهرون) المشدّدة طلبًا منه تتمّة الكلمة). [جامع البيان: 2/ 205-209]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرّمٌ عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعضٍ}.
يعني بقوله جلّ ثناؤه: {وإن يأتوكم أسارى تفادوهم} اليهود يؤنبهم بذلك، ويعرّفهم به قبيح أفعالهم الّتي كانوا يفعلونها. فقال لهم: ثمّ أنتم بعد إقراركم بالميثاق الّذي أخذته عليكم أن لا تسفكوا دماءكم ولا تخرجوا أنفسكم من دياركم {تقتلون أنفسكم} يعني به يقتل بعضكم بعضًا، وأنتم مع قتلكم من تقتلون منكم إذا وجدتم الأسير منكم في أيدي غيركم من أعدائكم تفدونه ويخرج بعضكم بعضًا من دياره. وقتلكم إيّاهم وإخراجكم لهم من ديارهم حرامٌ عليكم وتركهم أسرى في أيدي عدوّكم، فكيف تستجيزون قتلهم ولا تستجيزون ترك فدائهم من عدوّهم؟ أم كيف لا تستجيزون ترك فدائهم وتستجيزون قتلهم؟ وهم جميعًا في اللاّزم لكم من الحكم فيهم سواءٌ؛ لأنّ الّذي حرّمت عليكم من قتلهم وإخراجهم من دورهم نظير الّذي حرّمت عليكم من تركهم أسرى في أيدي عدوّهم {أفتؤمنون ببعض الكتاب} الّذي فرضت عليكم فيه فرائضي وبيّنت لكم فيه حدودي وأخذت عليكم بالعمل بما فيه ميثاقي فتصدّقون به، فتفادون أسراكم من أيدي عدوّكم؛ وتكفرون ببعضه فتجحدونه فتقتلون من حرّمت عليكم قتله من أهل دينكم ومن قومكم، وتخرجونهم من ديارهم؟ وقد علمتم أنّ الكفر منكم ببعضه نقضٌ منكم عهدي وميثاقي.
- كما حدّثنا بشر بن معاذٍ، قال: حدّثنا يزيد بن زريعٍ، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة: «{ثمّ أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقًا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرّمٌ عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعضٍ} فادين، واللّه إنّ فداءهم لإيمانٌ وإنّ إخراجهم لكفرٌ، فكانوا يخرجونهم من ديارهم، وإذا رأوهم أسارى في أيدي عدوّهم افتكّوهم».
- حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة، قال: حدّثني ابن إسحاق، قال: حدّثني محمّد بن أبي محمّدٍ، عن سعيد بن جبيرٍ أو عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ: «(وإن يأتوكم أسارى تفدوهم) قد علمتم أنّ ذلكم عليكم في دينكم {وهو محرّمٌ عليكم} في كتابكم {إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعضٍ} أتفادونهم مؤمنين بذلك، وتخرجونهم كفرًا بذلك».
- حدّثني محمّد بن عمرٍو، قال حدّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدّثنا عيسى، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ: (وإن يأتوكم أسارى تفدوهم) يقول: «إن وجدته في يد غيرك فديته، وأنت تقتله بيدك».
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا إسحاق، قال: حدّثنا ابن أبي جعفرٍ، قال: قال أبو جعفرٍ: كان قتادة يقول في قوله: {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعضٍ}: «فكان إخراجهم كفرًا، وفداؤهم إيمانًا».
- حدّثنا المثنّى، قال: حدّثنا آدم، قال: حدّثنا أبو جعفرٍ، عن الرّبيع، عن أبي العالية: في قوله: {ثمّ أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم} الآية، قال: «كان في بني إسرائيل إذا استضعفوا قومًا أخرجوهم من ديارهم، وقد أخذ عليهم الميثاق أن لا يسفكوا دماءهم ولا يخرجوا أنفسهم من ديارهم، وأخذ عليهم الميثاق إن أسر بعضهم أن يفادوهم. فأخرجوهم من ديارهم ثمّ فادوهم. فآمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعضٍ؛ آمنوا بالفداء ففدوا، وكفروا بالإخراج من الدّيار فأخرجوا».
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا آدم، قال: حدّثنا أبو جعفرٍ، قال: حدّثنا الرّبيع بن أنسٍ، قال: أخبرني أبو العالية: أنّ عبد اللّه بن سلامٍ، مرّ على رأس الجالوت بالكوفة وهو يفادى من النّساء من لم يقع عليه العرب ولا يفادى من وقع عليه العرب، فقال له عبد اللّه بن سلامٍ: «أما إنّه مكتوبٌ عندك في كتابك أن فادوهنّ كلّهنّ».
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ: {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعضٍ} قال: «كفرهم: القتل والإخراج، وإيمانهم: الفداء».
قال ابن جريجٍ:«يقول: إذا كانوا عندكم تقتلونهم وتخرجونهم من ديارهم. وأمّا إذا أسروا تفدونهم؟ وبلغني أنّ عمر بن الخطّاب قال في قصّة بني إسرائيل: إنّ بني إسرائيل قد مضوا وإنّكم يا أهل الإسلام تعنون بهذا الحديث».
واختلف القرّاء في قراءة قوله: (وإن يأتوكم أسارى تفدوهم)، فقرأه بعضهم: (أسرى تفدوهم) وبعضهم: {أسارى تفادوهم}، وبعضهم: (أسارى تفدوهم) وبعضهم: (أسرى تفادوهم).
فمن قرأ ذلك: (وإن يأتوكم أسرى) فإنّه أراد جمع الأسير، إذ كان على فعيلٍ على مثال جمع أسماء ذوي العاهات الّتي يأتي واحدها على تقدير فعيلٍ، إذ كان الأسر شبيه المعنى في الأذى والمكروه الدّاخل على الأسير ببعض معاني العاهات؛ وألحق جمع المسى به بجمع ما وصفنا، فقيل أسيرٌ وأسرى، كما قيل مريضٌ ومرضى وكسيرٌ وكسرى، وجريحٌ وجرحى.
وأمّا الّذين قرءوا ذلك: {أسارى}، فإنّهم أخرجوه على مخرج جمع فعلان، إذ كان جمع فعلان الّذي له فعلى قد يشارك جمع فعيلٍ، كما قالوا سكارى وسكرى وكسالى وكسلى، فشبّهوا أسيرًا وجمعوه مرّةً أسارى وأخرى أسرى بذلك.
وكان بعضهم يزعم أنّ معنى الأسرى مخالفٌ معنى الأسارى، ويزعم أنّ معنى الأسرى استئسار القوم بغير أسرٍ من المستأسر لهم، وأنّ معنى الأسارى معنى مصير القوم المأسورين في أيدي الآسرين بأسرهم وأخذهم قهرًا وغلبةً.
قال أبو جعفرٍ: وذلك ما لا وجه له يفهم في لغة أحدٍ من العرب، ولكنّ ذلك على ما وصفت من جمع الأسير مرّةً على فعلى لما بيّنت من العلّة، ومرّةً على فعالى لما ذكرت من تشبيههم جمعه بجمع سكران وكسلان وما أشبه ذلك.
وأولى القراءات بالصّواب في ذلك قراءة من قرأ: (وإن يأتوكم أسرى) لأنّ فعالى في جمع فعيلٍ غير مستفيضٍ في كلام العرب.
فإذا كان ذلك غير مستفيضٍ في كلامهم، وكان مستفيضًا فاشيًا فيهم جمع ما كان من الصّفات الّتي بمعنى الآلام والزّمانة واحدةً على تقدير فعيلٍ على فعلى كالّذي وصفنا قبل، وكان أحد ذلك الأسير؛ كان الواجب أن يلحق بنظائره وأشكاله فيجمع جمعها دون غيرها ممّن خالفها.
وأمّا من قرأ: {تفادوهم} فإنّه أراد أنّكم تفدونهم ممن أسرهم، ويفدى منكم، الّذين أسروهم ففادوكم بهم، أسراهم منكم.
وأمّا من قرأ ذلك: (تفدوهم) فإنّه أراد أنّكم يا معشر اليهود إن أتاكم الّذين أخرجتموهم منكم من ديارهم أسرى فديتموهم فاستنقذتموهم.
وهذه القراءة أعجب إليّ من الأولى، أعني: (أسرى تفدوهم) لأنّ الّذي على اليهود في دينهم فداء أسراهم بكلّ حالٍ فدى الآسرون أسراهم منهم أم لم يفدوهم.
وأمّا قوله: {وهو محرّمٌ عليكم إخراجهم} فإنّ في قوله: {وهو} وجهين من التّأويل؛

أحدهما: أن يكون كنايةً عن الإخراج الّذي تقدّم ذكره، كأنّه قال: وتخرجون فريقًا منكم من ديارهم، وإخراجهم محرّمٌ عليكم. ثمّ كرّر الإخراج الّذي بعد وهو محرّمٌ عليكم تكريرًا على هو، لما حال بين الإخراج وهو كلامٌ.
والتّأويل الثّاني: أن يكون عمادًا لمّا كانت الواو الّتي مع هو تقتضي اسمًا يليها دون الفعل، فلمّا قدّم الفعل قبل الاسم الّذي تقتضيه الواو أن يليها أوليت هو لأنّه اسمٌ، كما تقول: أتيتك وهو قائمٌ أبوك، بمعنى: وأبوك قائمٌ، إذ كانت الواو تقتضي اسمًا فعمدت بهو، إذ سبق الفعل الاسم ليصلح الكلام؛ كما قال الشّاعر:


فأبلغ أبا يحيى إذا ما لقيته ....... على العيس في آباطها عرقٌ يبس
بأنّ السّـلاميّ الّذي بـضـريّــــةٍ ....... أمير الحمى قد باع حقّي بني عبس
بثوبٍ ودينارٍ وشاةٍ ودرهمٍ ....... فهل هو مرفوعٌ بما ههنا رأس

فأوليت هل لطلبها الاسم العماد). [جامع البيان: 2/ 210-215]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلاّ خزيٌ في الحياة الدّنيا}.
يعني بقوله جلّ ثناؤه: {فما جزاء من يفعل ذلك منكم} فليس لمن قتل منكم قتيلاً فكفر بقتله إيّاه ببعض حكم اللّه الّذي حكم به عليه في التّوراة، وأخرج منكم فريقًا من ديارهم مظاهرًا عليهم أعداءهم من أهل الشّرك ظلمًا وعدوانًا وخلافًا لما أمره اللّه به في كتابه الّذي أنزله إلى موسى، جزاءٌ، يعني بالجزاء: الثّواب وهو العوض ممّا فعل من ذلك والأجر عليه {إلاّ خزيٌ في الحياة الدّنيا} والخزي الذّلّ والصّغار، يقال منه: خزي الرّجل يخزى خزيًا {في الحياة الدّنيا}، يعني في عاجل الدّنيا قبل الآخرة.
ثمّ اختلف في الخزي الّذي جزاهم اللّه بما سلف منهم من معصيتهم إيّاه:

- فقال بعضهم: ذلك هو حكم اللّه الّذي أنزله إلى نبيّه محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم من أخذ القاتل بمن قتل والقود به قصاصًا، والانتقام للمظلوم من الظّالم.
- وقال آخرون: بل ذلك هو أخذ الجزية منهم ما أقاموا على دينهم ذلّةً لهم وصغارًا.
- وقال آخرون: بل ذلك الخزي الّذي جوزوا به في الدّنيا إخراج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم النّضير من ديارهم لأوّل الحشر، وقتل مقاتلة قريظة وسبي ذراريّهم؛ فكان ذلك خزيًا في الدّنيا، ولهم في الآخرة عذابٌ عظيمٌ). [جامع البيان:2/ 215-216]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {ويوم القيامة يردّون إلى أشدّ العذاب}.
يعني بقوله: {ويوم القيامة يردّون إلى أشدّ العذاب} ويوم تقوم السّاعة يردّ من يفعل ذلك منكم بعد الخزي الّذي يحلّ به في الدّنيا جزاءً على معصية اللّه إلى أشدّ العذاب الّذي أعدّ اللّه لأعدائه.
وقد قال بعضهم: معنى ذلك: {ويوم القيامة يردّون إلى أشدّ العذاب} من عذاب الدّنيا. ولا معنى لقول قائل ذلك. ذلك بأنّ اللّه جلّ ثناؤه إنّما أخبر أنّهم يردّون إلى أشدّ معاني العذاب؛ ولذلك أدخل فيه الألف واللاّم، لأنّه عنى به جنس العذاب كلّه دون نوعٍ منه). [جامع البيان: 2/ 216]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {وما اللّه بغافلٍ عمّا تعملون}.
اختلف القرّاء في قراءة ذلك، فقرأه بعضهم: (وما اللّه بغافلٍ عمّا يعملون) بالياء على وجه الإخبار عنهم، فكأنّهم نحوا بقراءتهم معنى: (فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلاّ خزيٌ في الحياة الدّنيا ويوم القيامة يردّون إلى أشدّ العذاب وما اللّه بغافلٍ عمّا يعملون) يعني عمّا يعمله الّذين أخبر اللّه عنهم أنّه ليس لهم جزاءٌ على فعلهم إلاّ الخزي في الحياة الدّنيا، ومرجعهم في الآخرة إلى أشدّ العذاب.
وقرأه آخرون: {وما اللّه بغافلٍ عمّا تعملون} بالتّاء على وجه المخاطبة؛ قال: فكأنّهم نحوا بقراءتهم: {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعضٍ}، {وما اللّه بغافلٍ} يا معشر اليهود {عمّا تعملون} أنتم.
وأعجب القراءتين إلى قراءة من قرأ بالياء إتباعًا لقوله: {فما جزاء من يفعل ذلك منكم} ولقوله: {ويوم القيامة يردّون} لأنّ قوله: (وما اللّه بغافلٍ عمّا يعملون) إلى ذلك أقرب منه إلى قوله: {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعضٍ} فإتباعه الأقرب إليه أولى من إلحاقه بالأبعد منه.
والوجه الآخر غير بعيدٍ من الصّواب.
وتأويل قوله: (وما اللّه بغافلٍ عمّا يعملون) وما اللّه بساهٍ عن أعمالهم الخبيثة، بل هو محصٍ لها وحافظها عليهم حتّى يجازيهم بها في الآخرة ويخزيهم في الدّنيا فيذلّهم ويفضحهم بها). [جامع البيان: 2/ 217]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {ثمّ أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم}
- حدّثنا محمّد بن يحيى، أنبأ أبو غسّان، ثنا سلمة، قال: قال محمّد بن إسحاق: حدّثني محمّد بن أبي محمّدٍ، عن سعيد بن جبيرٍ أو عكرمة، عن ابن عبّاسٍ: «{ثمّ أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم} أي: أهل الشّرك حتّى يسفكوا دماءهم معهم».
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا عمرو بن حمّادٍ بن طلحة، ثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ: قال: «فكانت قريظة حلفاء الأوس، وكانت النّضير حلفاء الخزرج، فكانوا يقتتلون في حربٍ سميرٍ فتقاتل بنو قريظة مع حلفائها. النضير وحلفائهم. وكانت النّضير تقاتل قريظة وحلفاءها ويغلبون فيخرّبون ديارهم ويخرجونهم منها فإذا أسر رجلٌ من الفريقين كليهما جمعوا له حتّى يفدوه فتعيّرهم العرب بذلك، ويقولون: كيف تقاتلونهم وتفدونهم، قالوا: أمرنا أن نفديهم وحرم علينا قتالهم، قالوا: إنا نستحي أن يستدل بحلفائنا. فذلك حين عيّرهم اللّه فقال: {ثمّ أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقًا منكم من ديارهم}».
- حدّثنا أبي، ثنا أحمد بن عبد الرّحمن الدّشتكيّ، ثنا عبد اللّه بن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرّبيع بن أنسٍ: {ثمّ أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم} يقول:«يقتل بعضكم بعضًا».
وروي عن الحسن وقتادة نحو ذلك). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 163-164]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {وتخرجون فريقًا منكم من ديارهم}
- حدّثنا محمّد بن يحيى، أنبأ أبو غسّان، ثنا سلمة، عن محمّد بن إسحاق: حدّثني محمّد بن أبي محمّدٍ، عن سعيد بن جبيرٍ أو عكرمة، عن ابن عبّاسٍ: {
وتخرجون فريقًا منكم من ديارهم} قال: «يخرجونهم من ديارهم معهم».

وروي عن الحسن، وقتادة نحو ذلك). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 164]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان}
- به، عن ابن عبّاسٍ: {تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان} قال: «فكانوا إذا كان بين الأوس والخزرج حربٌ خرجت بنو قينقاعٍ مع الخزرج، وخرجت النّضير وقريظة مع الأوس، يظاهر كلّ واحدٍ من الفريقين حلفاءه على إخوانه حتّى يتسافكوا دماءهم بينهم».
- حدّثنا عليّ بن الحسين، ثنا حمدان بن الوليد البصريّ -يعني البسريّ-، ثنا محمّد بن جعفرٍ -يعني غندر-، ثنا شعبة، عن السّدّيّ قال: «نزلت هذه الآية في قيس بن خطيمٍ: {ثمّ أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقًا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان}»). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 164]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {بالإثم}
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا يحيى بن عبد اللّه بن بكيرٍ، حدّثني عبد اللّه بن لهيعة، حدّثني عطاء بن دينارٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، في قول اللّه: {بالإثم}:«بعد المعصية».
وروي عن مقاتل بن حيّان مثل ذلك). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 165]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {والعدوان}
- به، عن سعيد بن جبيرٍ، في قول اللّه: {العدوان} قال:«بعض الظّلم»). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 165]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {وإن يأتوكم أسارى تفادوهم}
- حدثنا محمد بن نحيى، أنبأ أبو غسّان، ثنا سلمة، قال: قال محمّد بن إسحاق: حدّثني محمّد بن أبي محمّدٍ، عن سعيد بن جبيرٍ أو عكرمة، عن ابن عبّاسٍ: «{وإن يأتوكم أسارى تفادوهم} وقد عرفتم أنّ ذلك عليكم في دينكم».
- حدثنا أبو سعيد بن نحيى بن سعيدٍ القطّان، ثنا عمرو بن محمّدٍ العنقزيّ، ثنا أسباط بن نصرٍ، عن السّدّيّ، عن عبد خيرٍ قال: غزونا مع سلمان بن ربيعة الباهليّ بلنجرٍ، فحاصرنا أهلها ففتحنا المدينة وأصبنا سبايا، واشترى عبد اللّه بن سلامٍ يهوديّةً بسبعمائة درهمٍ، فلمّا مرّ برأس الجالوت نزل به فقال له عبد اللّه: «يا رأس الجالوت هل لكم في عجوزٍ هاهنا من أهل دينك تشتريها منّي؟»، قال: نعم. قال: «أخذتها بسبعمائة درهمٍ». قال: فإنّي أربحك سبعمائةٍ أخرى. قال: «فإنّي قد حلفت أن لا أنقصها من أربعة آلافٍ». قال: لا حاجة لي فيها. قال: «والله لتشتريها منّي أو لتكفرنّ بدينك الّذي أنت عليه». قال: «ادن منّي، فدنا منه فقرأ في أذنه الّتي في التّوراة: إنّك لا تجد مملوكًا في بني إسرائيل إلا اشتريته فأعتقته: {وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرّمٌ عليكم إخراجهم}»، قال: أنت عبد اللّه بن سلامٍ؟ قال: «نعم». قال: فجاء بأربعةٍ فأخذ عبد اللّه ألفى درهمٍ، وردّ عليه ألفين.
- حدّثنا عصام بن رواد، ثنا آدم، ؟ أبو جعفرٍ، عن الرّبيع، عن أبي العالية، قال: «وقد أخذ عليهم الميثاق إن أسر بعضهم أن يفادوهم، فأخرجوهم من ديارهم ثمّ فادوهم».

قوله: {وهو محرّمٌ عليكم إخراجهم}
- حدّثنا محمّد بن يحيى، أنبأ أبو غسّان، ثنا سلمة، قال: قال محمّد بن إسحاق: حدّثني محمّد بن أبي محمّدٍ، عن سعيد بن جبيرٍ أو عكرمة، عن ابن عبّاسٍ: «{وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرّمٌ عليكم} في كتابكم {إخراجهم}».
- حدّثنا محمّد بن يحيى، أنبأ العبّاس بن الوليد النّرسيّ، ثنا يزيد بن زريعٍ، ثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة قوله: {وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرّمٌ عليكم إخراجهم} قال: «واللّه إنّ فداءهم لإيمانٌ، وإنّ إخراجهم لكفرٌ»). [تفسير القرآن العظيم:1/ 165-166]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {أفتؤمنون ببعض الكتاب}
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا عمرو بن حمّادٍ، ثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ: {أفتؤمنون ببعض الكتاب} قال: «كان إيمانهم ببعض الكتاب حين فدوا الأسارى»). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 166]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {وتكفرون ببعضٍ}
- حدّثنا محمّد بن يحيى، أنبأ أبو غسّان، ثنا سلمة، قال: قال محمّد بن إسحاق: حدّثني محمّد بن أبي محمّدٍ، عن سعيد بن جبيرٍ أو عكرمة عن ابن عبّاسٍ: «{أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعضٍ} أتفادونهم مؤمنين بذلك، وتخرجونهم كفرًا بذلك، {فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلّا خزيٌ في الحياة الدّنيا ويوم القيامة يردّون إلى أشدّ العذاب وما اللّه بغافلٍ عمّا تعملون} يقول الله حين أنبائهم بذلك: {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعضٍ} أي: تفاديه بحكم التّوراة، وتقتله وفي حكم التّوراة ألا تفعل، وتخرجه من داره، وتظاهر عليه من يشرك باللّه ويعبد الأوثان من دونه ابتغاء عرض الدّنيا، ففي ذلك من فعلهم مع الأوس والخزرج نزلت هذه القصّة».
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا عمرو بن حمّادٍ بن طلحة، ثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ: «{أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعضٍ} فكان إيمانهم ببعض الكتاب حين فدوا الأسارى، وكفرهم حين قتل بعضهم بعضًا، {فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزيٌ في الحياة الدّنيا}».
- حدّثنا عصام بن روّادٍ، ثنا آدم، ثنا أبو جعفرٍ، عن الرّبيع، عن أبي العالية قال: «فآمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعضٍ، آمنوا بالفدية ففدوا، وكفروا بالإخراج من الدّيار فأخرجوا».
- حدّثنا عصام بن روّادٍ، ثنا أبو شيبة -يعني شعيب بن زريقٍ-، عن عطاءٍ الخراسانيّ، في قوله: {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعضٍ}: «فكفرهم أنّهم كانوا يقتلون أبناءهم وأنفسهم. وإيمانهم أنّهم كانوا يرون حقًّا عليهم أن يفادوا من وجدوا منهم أسيرًا»). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 166-167]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلّا خزيٌ في الحياة الدّنيا}
- حدّثنا محمّد بن يحيى، أنبأ أبو غسّان، ثنا سلمة، قال: قال محمّد بن إسحاق: حدّثني محمّد بن أبي عكرمة أو سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: {فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلّا خزيٌ في الحياة الدّنيا ويوم القيامة يردّون إلى أشدّ العذاب} إلى قوله: {ولا هم ينصرون}: «فأنبأهم بذلك من فعلهم، وقد حرّم عليهم في التّوراة سفك دمائهم، وافترض عليهم فداء أسراهم»). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 167]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {ويوم القيامة يردّون إلى أشدّ العذاب وما الله بغافل عما تعملون}
- حدّثنا الحسن بن محمّد بن الصّبّاح، ثنا عفّان، ثنا حمّادٌ، عن عطاء بن السّائب، عن عبد اللّه بن حبيبٍ السّلميّ، قال:«كان يكون أوّل الآية عامًّا، وآخرها خاصًّا»، وقرأ هذه الآية: {يردّون إلى أشدّ العذاب وما اللّه بغافلٍ عمّا تعملون}). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 167]

تفسير قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)}
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {أولئك الّذين اشتروا الحياة الدّنيا بالآخرة فلا يخفّف عنهم العذاب ولا هم ينصرون}.
يعني بقوله -جلّ ثناؤه- أولئك الّذين أخبر عنهم أنّهم يؤمنون ببعض الكتاب فيفادون أسراهم من اليهود، ويكفرون ببعضٍ، فيقتلون من حرّم اللّه عليهم قتله من أهل ملّتهم، ويخرجون من داره من حرّم اللّه عليهم إخراجه من داره، نقضًا لعهد اللّه وميثاقه في التّوراة إليهم. فأخبر جلّ ثناؤه أنّ هؤلاء الّذين اشتروا رياسة الحياة الدّنيا على الضّعفاء وأهل الجهل والغباء من أهل ملّتهم، وابتاعوا المآكل الخسيسة الرّديئة فيها، بالإيمان الّذي كان يكون لهم به في الآخرة لو كانوا أتوا به مكان الكفر الخلود في الجنّان. وإنّما وصفهم اللّه جلّ ثناؤه بأنّهم اشتروا الحياة الدّنيا بالآخرة لأنّهم رضوا بالدّنيا بكفرهم باللّه فيها عوضًا من نعيم الآخرة الّذي أعدّه اللّه للمؤمنين، فجعل تركهم حظوظهم من نعيم الآخرة بكفرهم باللّه ثمنًا لما ابتاعوه به من خسيس الدّنيا.
- كما حدّثنا بشر بن معاذ قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة:«قوله: {أولئك الّذين اشتروا الحياة الدّنيا بالآخرة} استحبّوا قليل الدّنيا على كثير الآخرة».
ثمّ أخبر اللّه -جلّ ثناؤه- أنّهم إذ باعوا حظوظهم من نعيم الآخرة بتركهم طاعته، وإيثارهم الكفر به والخسيس من الدّنيا عليه،
فلا حظّ لهم في نعيم الآخرة، وأنّ الّذي لهم في الآخرة العذاب غير مخفّفٍ عنهم فيها العذاب؛ لأنّ الّذي يخفّف عنه فيها من العذاب هو الّذي له حظٌّ في نعيمها، ولا حظّ لهؤلاء لاشترائهم كان في الدّنيا دنياهم بآخرتهم.
وأمّا قوله: {ولا هم ينصرون} فإنّه أخبر عنهم أنّه لا ينصرهم في الآخرة أحدٌ فيدفع عنهم بنصرته عذاب اللّه، لا بقوّته ولا بشفاعته ولا غيرهما). [جامع البيان: 2/ 218-219]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): ({أولئك الّذين اشتروا الحياة الدّنيا بالآخرة فلا يخفّف عنهم العذاب ولا هم ينصرون (86)}
قوله: {أولئك الذين اشتروا}
- حدثنا أبو زرعة، ثنا نحيى بن عبد اللّه بن بكيرٍ، حدّثني ابن لهيعة، أخبرني عطاء بن دينارٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، في قول اللّه: {أولئك}: «الّذين ذكر اللّه في هذه الآية».
- حدّثنا محمّد بن يحيى، أنبأ العبّاس بن الوليد، ثنا يزيد بن زريعٍ، ثنا سعيدٌ، عن قتادة قوله: {أولئك الّذين اشتروا} قال: «استحبّوا».
- وبه، عن قتادة: «قوله: {أولئك الّذين اشتروا الحياة الدّنيا بالآخرة} استحبّوا قليل الدّنيا على كثير الآخرة»). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 167]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {فلا يخفّف عنهم العذاب}
- حدّثنا عصام بن روّادٍ، ثنا آدم، ثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية، في قوله: {فلا يخفّف عنهم العذاب ولا هم ينصرون} قال: «هو كقوله: {هذا يوم لا ينطقون * ولا يؤذن لهم فيعتذرون}»). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 167]


رد مع اقتباس
  #3  
قديم 26 ربيع الثاني 1434هـ/8-03-2013م, 08:52 PM
الصورة الرمزية إشراق المطيري
إشراق المطيري إشراق المطيري غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jun 2010
المشاركات: 885
افتراضي

التفسير اللغوي

تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت:207هـ): (وقوله: {وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلاّ اللّه...}

رفعت {تعبدون} لأنّ دخول "أن" يصلح فيها، فلمّا حذف الناصب رفعت، كما قال الله: {أفغير اللّه تأمرونّي أعبد} (قرأ الآية)، وكما قال: {ولا تمنن تستكثر}، وفي قراءة عبد الله "ولا تمنن أن تستكثر" فهذا وجهٌ من الرفع، فلما لم تأت بالناصب رفعت، وفي قراءة أبيّ: "وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدوا" ومعناها الجزم بالنهى، وليست بجواب لليمين، ألا ترى أنه قد قال: {وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطّور خذوا ما آتيناكم بقوّةٍ} فأمروا، والأمر لا يكون جوابا لليمين؛ لا يكون في الكلام أن تقول: واللّه قم، ولا أن تقول: والله لا تقم، ويدلّ على أنه نهىٌ وجزمٌ أنه قال: {وقولوا للنّاس حسناً} كما تقول: افعلوا ولا تفعلوا، أو لا تفعلوا وافعلوا، وإن شئت جعلت {لا تعبدون} جوابا لليمين؛ لأنّ أخذ الميثاق يمينٌ، فتقول: لا يعبدون، ولا تعبدون، والمعنى واحد.
وإنّما جاز أن تقول (لا يعبدون) و(لا تعبدون) وهم غيّبٌ، كما قال: "قل للّذين كفروا سيغلبون" و"ستغلبون" بالياء والتاء؛ "سيغلبون" بالياء على لفظ الغيب، والتّاء على المعنى؛ لأنه إذا أتاهم أو لقيهم صاروا مخاطبين، وكذلك قولك: استحلفت عبد الله ليقومنّ؛ لغيبته، واستحلفته لتقومنّ، لأني قد كنت خاطبته، ويجوز في هذا: استحلفت عبد الله لأقومنّ؛ أي: قلت له احلف لأقومنّ، كقولك: قل لأقومنّ، فإذا قلت: استحلفت، فأوقعت فعلك على مستحلفٍ جاز فعله أن يكون بالياء والتاء والألف، وإذا كان هو حالفا وليس معه مستحلف كان بالياء وبالألف ولم يكن بالتاء؛ من ذلك: حلف عبد الله ليقومنّ فلم يقم، وحلف عبد الله لأقومنّ؛ لأنهّ كقولك: قال لأقومنّ، ولم يجز بالتّاء؛ لأنه لا يكون مخاطبا لنفسه؛ لأنّ التاء لا تكون إلاّ لرجل تخاطبه، فلما لم يكن مستحلفٌ سقط الخطاب.

وقوله: {قالوا تقاسموا باللّه لنبيّننّه وأهله} فيها ثلاثة أوجهٍ: "لتبيّتنّه" و"ليبيّتنّه" و"لنبيّتنّه" بالتاء والياء والنون، إذا جعلت "تقاسموا" على وجه فعلوا، فإذا جعلتها في موضع جزمٍ قلت: تقاسموا لتبيتنه ولنبيتنه، ولم يجز بالياء، ألا ترى أنكّ تقول للرجل: احلف لتقومنّ، أو احلف لأقومنّ، كما تقول: قل لأقومنّ، ولا يجوز أن تقول للرّجل: احلف ليقومنّ، فيصير كأنّه لآخر، فهذا ما في اليمين). [معاني القرآن: 1/ 53-45]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت:215هـ): ({وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلاّ اللّه وبالوالدين إحساناً وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للنّاس حسناً وأقيموا الصّلاة وآتوا الزّكاة ثمّ تولّيتم إلاّ قليلاً مّنكم وأنتم مّعرضون}
قوله: {وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلاّ اللّه} وقوله: {وبالوالدين إحساناً} فجعله أمراً، كأنّه يقول: "وإحساناً بالوالدين" أي: "أحسنوا إحسانا".
وقال: {وقولوا للنّاس حسناً} فهو على أحد وجهين؛ إمّا أن يكون يراد بـ"الحُسْنِ": "الحَسَنُ" كما تقول: "البَخَل" و"البُخْل"، وإمّا أن يكون جعل "الحُسْن" هو "الحَسَن" في التشبيه كما تقول: "إنّما أنت أكلٌ وشربٌ"، قال الشاعر:

وخيلٍ قد دلفتٌ لها بخيلٍ ....... تحيّـة بينهـم ضـربٌ وجـيـعٌ
"دلفت": "قصدت" فجعل التحية ضربا، وهذه الكلمة في الكلام ليست بكثيرة وقد جاءت في القرآن.
وقد قرأها بعضهم (حَسَنًا) يريد: "قولوا لهم حسناً"، وقال بعضهم (قولوا للناس حسنى) يؤنثها ولم ينّونها، وهذا لا يكاد يكون لا "الحسنى" لا يتكلم بها إلا بالألف واللام، كما لا يتلكم بتذكيرها إلا بالألف واللام [فـ] لو قلت: "جاءني أحسن وأطول" لم يحسن حتّى تقول: "جاءني الأحسن والأطول" فكذلك هذا يقول: "جاءتني الحسنى والطولى"، إلاّ أنهم قد جعلوا أشياء من هذا أسماء نحو "دنيا" و"أولى"، قال الراجز:
في سعي دنيا طال ما قد مدّت
ويقولون: "هي خيرة النساء" ["هنّ خيرات النّساء"] لا يكادون يفردونه وإفراده جائز، وفي كتاب الله عز وجل: {فيهنّ خيراتٌ حسان} وذلك أنه لم يرد "أفعل" وإنما أراد تأنيث الخير لأنه لما وصف فقال: "فلان خيرٌ" أشبه الصفات فأدخل الهاء للمؤنث.
وأما قوله: {وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل} ثم قال: {وقولوا للنّاس حسناً} ثم قال: {ثمّ تولّيتم إلا قليلا منكم} فلأنه خاطبهم من بعدما حدث عنهم وذا في الكلام والشعر كثير، قال الشاعر:
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومةٌ ....... لـديــنــا ولا مـقـلــيــةٌ إن تــقــلّــب
وإنما يريدون: "تقلّيت"، وقال الآخر:
شطّت مزار العاشقين فأصبحت ....... عسـراً عـلـيّ طـلابـك ابـنـةٌ مـخـرم
إنّما أراد: "فأصبحت ابنة مخرمٍ عسراً على طلابها"، وجاز أن يجعل الكلام كأنه خاطبها لأنه حين قال: "شطّت مزار العاشقين" كأنه قال: "شططت مزار العاشقين" لأنه إيّاها يريد بهذا الكلام، ومثله مما يخرج من أوله قوله:
إنّ تميماً خلقت ملموما
فأراد القبيلة بقوله: "خلقت" ثم قال "ملموما" على الحي أو الرجل، ولذلك قال:
مثل الصّفا لا تشتكي الكلوما
ثم قال:
قوماً ترى واحدهم صهميما
فجاء بالجماعة لأنه أراد القبيلة أو الحي، ثم قال:
لا راحم الناس ولا مرحوما
وقال الشاعر:
أقول له والرمـح يأطر متنـه ....... تأمّل خفافاً إنّني أنا ذلكا
و "تبيّن خفافاً"، يريد: "أنا هو"، وفي كتاب الله عز وجل: {حتّى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم} فأخبر بلفظ الغائب وقد كان في المخاطبة لأن ذلك يدل على المعنى، وقال الأسود:
وجفنةٍ كإزاء الحوض مترعةٍ ....... ترى جوانبها بالشّحم مفتونـا
فيكون على أنه حمله على المعنى، أي: ترى كلّ جانبٍ منها، أو جعل صفة الجميع واحدا كنحو ما جاء في الكلام، وقوله "مأطر متنه" يثنى متنه. وكذلك {الحمد للّه ربّ العالمين} ثم قال: {إيّاك نعبد} لأن الذي أخبر عنه هو الذي خاطب، قال رؤبة:
الحمـد لـلّـه الأعــزّ الأجـلـل ....... أنت مليك الناس ربّاً فاقبل
وقال زهير:
فـإنّــي لـــو ألاقــيــك اجـتـهـدنـا ....... وكــــان لــكــلّ مـنــكــرةٍ كــفـــاء
فأبـرئ موضحـات الـرأس منـه ....... وقد يشفى من الجرب الهناء
وقال الله تبارك وتعالى: {ذوقوا فتنتكم هذا الّذي كنتم به تستعجلون} فذكّر بعد التأنيث، كأنه أراد: هذا الأمر الذي كنتم به تستعجلون، ومثله {فلماّ رأى الشّمس بازغةً قال هذا ربّي هذا أكبر فلمّا أفلت} فيكون هذا على: الذي أرى ربّي، أي: هذا الشيء ربي، وهذا يشبه قول المفسرين {أحلّ لكم ليلة الصّيام الرّفث إلى نسائكم} قال: إنّما دخلت "إلى" لأن معنى "الرفث" و"الإفضاء" واحد، فكأنه قال: "الإفضاء إلى نسائكم"، وإنما يقال: "رفث بامرأته" ولا يقال: "إلى امرأته"، وذا عندي كنحو ما يجوز من "إلى" في مكان "الباء" ، في مكانها، وفي مكان "على" في قوله: {فأثابكم غمّاً بغمٍّ} إنما هو "غمّاً على غمٍّ" [وقوله] {ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطارٍ} أي: "على قنطارٍ"، كما تقول: "مررت به" و"مررت عليه"، كما قال الشاعر -وأخبرني من أثق به أنه سمعه من العرب-:
إذا رضيت عليّ بنو قشيرٍ ....... لعمر اللّـه أعجبنـي رضاهـا
يريد: "عنى"، وذا يشبه {وإذا خلوا إلى شياطينهم} لأنك تقول: "خلوت إليه وصنعنا كذا وكذا" و"خلوت به"، وإن شئت جعلتها في معنى قوله: {من أنصاري إلى اللّه} أي: "مع اللّه"، وكما قال: {ونصرناه من القوم} أي: "على القوم"). [معاني القرآن: 1/ 97-100]
قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : (الحسن وأبو عمرو {لا تعبدون} بالتاء.
ابن أبي إسحاق {لا يعبدون إلا الله}.
الأعرج {وقولوا للناس حسنا}.
الأعمش {حسنا}.
عيسى بن عمر "حسنا" برفع السين). [معاني القرآن لقطرب: 252]
قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : (وقوله عز وجل {وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون} وقوله {وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون}، وقوله عز وجل {ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا}، وقوله {أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون} فكأن المعنى في هذا: أن مضمر؛ يريد: أخذنا ميثاق بني إسرائيل أن لا تعبدوا، وأن لا تسفكوا دماءكم، ومن آياته أن يريكم البرق؛ لأنها كلها فيها "أن"؛ وهذا مثل قولهم: من شأنه يكرمك، ويحسن إليك؛ المعنى: أن يكرمك، إلا أن الفعل يرتفع إذا صار في موضع الاسم، ولا تعمل "أن" مضمرة هاهنا؛ فهذا الأحسن.
ولو قلت في قوله {ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون}: يجعلها في موضع الحال، كأنه قال: غير عابدين؛ أي أخذنا ميثاقهم هكذا، أو ميثاقكم لا تسفكون؛ أي غير سافكين؛ إلا أن هذا المذهب لا يكون في قوله {ومن آياته يريكم البرق}، إلا على معنى "أن"؛ لأنه غير مستغن إذا قال {ومن آياته} حتى يصله، فليست هاهنا حال.
وأما قول الله عز وجل {قل أفغير الله تأمروني} فتكون على وجه آخر غير إضمار "أن"؛ كأنه قال: أفغير الله أعبد، ثم قال: تأمروني؛ أي فيما تامروني؛ كقولك: زيد شاخص، بلغني؛ أي فيما بلغني، فهذا وجه آخر.
وقال طرفة:
[معاني القرآن لقطرب: 417]
ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى = وأن أشهد اللذات هل أنت مخلد
يريد: أن أحضر الوغى، فرفع لما ذهبت "أن" من لفظه؛ كما قلنا في {لا تعبدون} و{لا تسفكون}؛ وقد حكي لنا بعضهم: أحضر الوغى، بالنصب، كأنه أضمر "أن" وذلك خبيث.
وقد حكى لنا من نثق به: نحن أشغل من نجلس هنا؛ فنصب "نجلس"، وحكى لنا معمر التيمي: أريد أكرمك، وأخشى تلومني؛ يريدك أن أكرمك، وأن تلومني فأضمر وأعمل، وقالوا: عجبت من يبيعها، بالنصب.
وقال الشاعر:
أآظعان ليلى تلكم المتحمله = ونهنهت نفسي بعدما كدت أفعله
بالنصب؛ كأنه نصب بأن.
وقال ابن مقبل:
وما الدهر إلا تارتان فمنهما = أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح
المعنى: أن أموت؛ مثل {ومن آياته يريكم البرق} المعنىك أن يريكم؛ كقوله: من فعله يكرمك؛ أي أن يكرمك.
قال أبو علي: وقد يكون المعنى في بيت ابن مقبل: فمنهما تارة أموت، فلا يضمر "أن" ويكون {ومن آياته يريكم} على هذا؛ أي آية يريكم فيها البرق، وإن أردت: ومن آياته يريكم من البرق، تريد: البرق من آياته، فعلى الجواز.
وقال قيس الرقيات:
[معاني القرآن لقطرب: 418]
فتاتان أما منهما فشبيهة = هلالا وأخرى منهم تشبه الشمسا
كأنه قال: منهما واحدة كذا، وأخرى كذا.
وقال الآخر:
هنالك لا أخشى تنال ظعينتي = إذا حل بيتي بين غول وغلغله
على إضمار "أن" فيما زعم معمر أو غيره.
وقد يجوز {لا تعبدون إلا الله} على الحال؛ أي غير عابدين؛ {وإذ أخذنا ميثاقكم} غير سافكين، إلا أن الحال لا يجوز في {ومن آياته يريكم}؛ لأن هذا غير مستغن، لو قلت {ومن آياته} لم يكن كلامًا.
وأما {تأمروني أعبد} فقد يكون على وجه آخر؛ كأنه قال: أفغير الله أعبد ثم قال {تأمروني} أي فيما تامرونني، كقولك: زيد شاخص بلغني؛ أي فيما بلغني.
وقد يكون {ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون} على مثل: أقسمت عليه لا يفعل، وأقسمت عليه ليفعلن؛ فإذا قلت: استحلفته ليفعلن ذلك، جاز أيضًا لأفعلن ذلك، كأنه قال: حلف لأفعلن ذلك؛ ويجوز: استحلفته لتفعلن؛ كأنه قال: فقلت له: لتفعلن ذلك؛ وإذا قلت: حلف عليه ليفعلن ذلك، ولأفعلن ذلك؛ ذهبت التاء للمخاطبة). [معاني القرآن لقطرب: 419]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت:237هـ): (و"الميثاق": العهد). [غريب القرآن وتفسيره: 75]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت:276هـ): ({وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلّا اللّه} أمرناهم بذلك فقبلوه، وهو أخذ الميثاق عليهم.
{وبالوالدين إحساناً} أي: وصّيناهم بالوالدين إحسانا، مختصر كما قال: {وقضى ربّك ألّا تعبدوا إلّا إيّاه وبالوالدين إحساناً} أي: ووصى بالوالدين). [تفسير غريب القرآن: 56]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلّا اللّه وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للنّاس حسنا وأقيموا الصّلاة وآتوا الزّكاة ثمّ تولّيتم إلّا قليلا منكم وأنتم معرضون} القراءة على ضربين، (تعبدون) و(يعبدون) بالياء والتاء، وقد روي وجه ثالث لا يؤخذ به لأنه مخالف للمصحف، قرأ ابن مسعود: (لا تعبدوا).
ورفع {لا تعبدون} -بالتاء- على ضربين، على أن يكون (لا) جواب القسم لأن أخذ الميثاق بمنزلة القسم، والدليل على ذلك قوله: {وإذ أخذ اللّه ميثاق الّذين أوتوا الكتاب لتبيّننّه للنّاس} فجاء جواب القسم باللام فكذلك هو بالنفي بـ"لا"، ويجوز أن يكون رفعه على إسقاط "أن" على معنى "ألا تعبدوا" فلما سقطت "أن" رفعت، وهذا مذهب الأخفش وغيره من النحويين،
فأما القراءة بالتاء؛ فعلى معنى الخطاب والحكاية، كأنّه قيل: قلنا لهم لا تعبدون إلا الله، وأمّا (لا يعبدون) بالياء فإنهم غيب، وعلامة الغائب الياء.
ومعنى "أخذ الميثاق والعهد" قد بيّناه قبل هذا الموضع.
وقوله عزّ وجلّ: {وبالوالدين إحسانا} نصب على معنى: وأحسنوا بالوالدين إحسانا، بدل من اللفظ (أحسنوا).
{وذي القربى واليتامى}: جمع على فعالى، كما جمع أسير على أسارى، يقال: يَتِم يَيْتَم يُتْمًا ويَتْمًا إذا فقد أباه، هذا للإنسان فأمّا غيره فيتمه من قبل أمه.
أخبرني بذلك محمد بن يزيد، عن الرياشي، عن الأصمعي: إن اليتيم في الناس من قبل الأب، وفي غير الناس من قبل الأم،
{والمساكين} مأخوذ من السكون، وأحدهم مسكين كأنّه قد أسكنه الفقر.
وقوله عزّ وجلّ: {وقولوا للنّاس حسنا} فيها ثلاثة أقوال:
(حسْنًا) بالتنوين وإسكان السين، و(حسَنًا) بالتنوين وفتح السين، وروى الأخفش (حسنى) غير منون.
فأما الوجهان الأولان؛ فقرأهما الناس، وهما جيدان بالغان في اللغة، وأما "حسنى" فكان لا ينبغي أن يقرأ به لأنه باب الأفعل والفعلى، نحو الأحسن والحسنى، والأفضل والفضلى، لا يستعمل إلا بالألف واللام، كما قال اللّه عزّ وجلّ: {إنّ الّذين سبقت لهم منّا الحسنى} وقال: {للّذين أحسنوا الحسنى وزيادة}.
وفي قوله {حسنا} بالتنوين قولان:
المعنى: قولوا للناس قولا ذا حسن، وزعم الأخفش أنّه يجوز أن يكون (حُسْنًا) في معنى (حَسَنًا)، فأمّا (حُسْنًا) فصفة، المعنى: قولا حسنا،
وتفسير: {قولوا للناس حسنا} مخاطبة لعلماء اليهود، قيل لهم: اصدقوا في صفة النبي -صلى الله عليه وسلم-.
{وأقيموا الصّلاة وآتوا الزّكاة} اعلموا أنه قد أخذ عليهم الميثاق وعهد عليهم فيه بالصدق في صفة النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وقوله عزّ وجلّ: {ثمّ تولّيتم إلّا قليلا منكم} يعني أوائلهم الذين أخذ عليهم الميثاق،
وقوله {وأنتم معرضون} أي: وأنتم -أيضا- كأوائلكم في الإعراض عمّا عهد إليكم فيه،
ونصب {إلّا قليلا} على الاستثناء، والمعنى: استثني قليلا منكم). [معاني القرآن: 1/ 162-164]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت:437هـ): ("المِيثَاقَ": العهد). [العمدة في غريب القرآن: 79]

تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84)}
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({لا تسفكون دماءكم} سفك دمه: أي صبّ دمه، كما يسفح نحي السمن: يهريقه). [مجاز القرآن: 1/ 45]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت:215هـ): ({وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم مّن دياركم ثمّ أقررتم وأنتم تشهدون}
[وقوله] {وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم} فرفع هذا، لأنه كلّ ما كان من الفعل على "يفعل هو" و"تفعل أنت" و"أفعلٌ أنا" و"نفعل نحن" فهو أبداً مرفوع، لا تعمل فيه إلا الحروف التي ذكرت لك من حروف النصب أو حروف الجزم والأمر والنهي والمجازاة، وليس شيء من ذلك ههنا وإنما رفع لموقعه في موضع الأسماء، ومعنى هذا الكلام حكاية، كأنه قال: "استحلفناهم لا يعبدون" أي: قلنا لهم: "واللّه لا تعبدون"، وذلك أنها تقرأ (يعبدون) و{تعبدون}.
قال: {وحفظاً مّن كلّ شيطان مّاردٍ * لاّ يسّمّعون إلى الملأ الأعلى ويقذفون} فإن شئت جعلت "لا يسّمّعون" مبتدأ، وإن شئت قلت: هو في معنى "أن لا لا يسّمّعوا" فلما حذفت "أن" ارتفع، كما تقول: "أتيتك تعطيني وتحسن إليّ وتنظر في حاجتي"، ومثله: "مره يعطيني" إن شئت جعلته على "فهو يعطيني"، وإن شئت على "أن يعطيني"، فلما ألقيت "أن" ارتفع، قال الشاعر:
ألا أيّـهـذا الـزاجـري أحـضــر الـوغــى ....... وأن أتبع اللّذّات هل أنت مخلدي
فـ"أحضر" في معنى "أن أحضر"). [معاني القرآن: 1/ 100-101]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت:276هـ): ({وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم} أي: لا يسفك بعضكم دم بعض.
{ولا تخرجون أنفسكم من دياركم} أي: لا يخرج بعضكم بعضا من داره ويغلبه عليها.
{ثمّ أقررتم} أي: ثمّ قبلتم ذلك وأقررتم به.
{وأنتم تشهدون} على ذلك). [تفسير غريب القرآن: 56-57]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثمّ أقررتم وأنتم تشهدون} يقال: سفكت الدم أسفكه سفكا إذا صببته، ورفع {لا تسفكون} على القسم، وعلى حذف "أن" كما وصفنا في قوله: {لا تعبدون}، ومثل حذف "أن" قول طرفة:
ألا أيّـهــذا الــزاجــري أحــضــر الــوغــى ....... وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي
وواحد الدماء دم -يا هذا- مخفف، وأصله "دمى" في قول أكثر النحويين، ودليل من قال إن أصله دمي قول الشاعر:
فلـو أنّـا عـلـى حـجـر ذبحـنـا ....... جرى الدّميان بالخبر اليقين
وقال قوم: أصله "دمي" إلا إنّه لما حذف ورد إليه ما حذف منه حركت الميم لتدل الحركة على أنه استعمل محذوفا.
وقوله عز وجل: {ولا تخرجون أنفسكم من دياركم} عطف على {لا تسفكون دماءكم}.
وقوله: {ثم أقررتم} أي: اعترفتم بأن هذا أخذ عليكم في العهد وأخذ على آبائكم، وأنتم أيها الباقون المخاطبون تشهدون أن هذا حق). [معاني القرآن: 1/ 164-165]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت:437هـ): ({لا تسفكون دماءكم} أي: لا يسفك بعضكم دماء بعض، وكذلك {ولا تخرجون أنفسكم من دياركم}).[تفسير المشكل من غريب القرآن: 30]

تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت:207هـ): (وقوله: {وهو محرّمٌ عليكم إخراجهم...}
إن شئت جعلت {هو} كناية عن الإخراج، {وتخرجون فريقاً مّنكم مّن ديارهم} أي: وهو محرّم عليكم؛ يريد: إخراجهم محرّم عليكم، ثم أعاد الإخراج مرة أخرى تكريرا على "هو" لمّا حال بين الإخراج وبين "هو" كلامٌ، فكان رفع الإخراج بالتكرير على "هو" وإن شئت جعلت "هو" عمادا ورفعت الإخراج بـ{محرم}؛ كما قال الله جل وعزّ: {وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمّر} فالمعنى -والله أعلم-: ليس بمزحزحه من العذاب التّعمير؛ فإن قلت: إن العرب إنما تجعل العماد في الظّنّ لأنّه ناصب، وفي "كان" و"ليس" لأنهما يرفعان، وفي "إنّ" وأخواتها لأنهن ينصبن، ولا ينبغي للواو وهي لا تنصب ولا ترفع ولا تخفض أن يكون لها عمادٌ،
قلت: لم يوضع العماد على أن يكون لنصب أو لرفع أو لخفض، إنما وضع في كل موضع يبتدأ فيه بالاسم قبل الفعل، فإذا رأيت الواو في موضع تطلب الاسم دون الفعل صلح في ذلك العماد؛ كقولك: أتيت زيدا وأبوه قائم، فقبيحٌ أن تقول: أتيت زيدا وقائم أبوه، وأتيت زيدا ويقوم أبوه؛ لأنّ الواو تطلب الأب، فلما بدأت بالفعل وإنما تطلب الواو الاسم أدخلوا لها "هو" لأنّه اسمٌ .
قال الفراء: سمعت بعض العرب يقول: كان مرّة وهو ينفع النّاس أحسابهم، وأنشدني بعض العرب:
فـأبــلــغ أبـــــا يــحــيــى إذا مــــــا لـقـيــتــه ....... علـى العيـس فـي آباطهـا عـرقٌ يبـس
بـــــــأنّ الــسّـــلامـــي الــــــــذي بــضـــريّـــةٍ ....... أمير الحمى قد باع حقّي بني عبس
بـــثــــوبٍ وديــــنــــارٍ وشــــــــاةٍ ودرهــــــــمٍ ....... فـهـل هــو مـرفـوعٌ بـمـا هـــا هـنــا رأس
فجعل مع "هل" العماد وهي لا ترفع ولا تنصب؛ لأن "هل" تطلب الأسماء أكثر من طلبها فاعلا؛ قال: وكذلك "ما" و"أمّا"، تقول: ما هو بذاهب أحدٌ، وأمّا هو فذاهبٌ زيد، لقبح أمّا ذاهب فزيد). [معاني القرآن: 1/ 50-52]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت:215هـ): ({ثمّ أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقاً مّنكم مّن ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرّمٌ عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعضٍ فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلاّ خزيٌ في الحياة الدّنيا ويوم القيامة يردّون إلى أشدّ الّعذاب وما اللّه بغافلٍ عمّا تعملون}
قال: (تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان) فجعلها من "تتظاهرون" وأدغم التاء في الظاء وبها نقرأ، وقد قرئت {تظاهرون} مخففة بحذف التاء الآخرة لأنّها زائدة لغير معنى، وقال: (وإن يأتوكم أسرى) وقرئت {أسارى}، وذلك لأن "أسير" "فعيل"، وهو يشبه "مريضاً" لأنّ به عيبا كما بالمريض، وهذا "فعيل" مثله، وقد قالوا في جماعة "المريض": "مرضى"، وقالوا: "أسارى" فجعلوها مثل "سكارى" و"كسالى"، لأنّ جمع "فعلان" الذي به علة قد يشارك جمع "فعيل" وجمع "فعل" نحو: "حبطٌ" و"حبطى" و"حباطى" و"حبجٌ" و"حبجى" و"حباجى"، وقد قالوا: "أسارى" كما قالوا: "سكارى".
وقال بعضهم: (تفدوهم) من "تفدى"، وبعضهم: {تفادوهم} من "فادى" يفادي" وبها نقرأ، وكل ذلك صواب.
وقال: {فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلاّ خزيٌ}، وقال: {ما هذا إلاّ بشرٌ مّثلكم} و{وما أمرنا إلاّ واحدةٌ} رفع، لأن كل ما لا تحسن فيه الباء من خبر "ما" فهو رفع، لأن "ما" لا تشبه في ذلك الموضع بالفعل، وإنما تشبه بالفعل في الموضع الذي تحسن فيه الباء، لأنها حينئذ تكون في معنى "ليس" لا يشركها معه شيء، وذلك قول الله عز وجل: {ما هذا بشراً}، وتميم ترفعه، لأنه ليس من لغتهم أن يشبهوا "ما" بالفعل.
وقال: {ثمّ أنتم هؤلاء} وفي موضع آخر {ها أنتم هؤلاء} كبعض ما ذكرنا وهو كثير في كلام العرب، وردّد التنبيه توكيدا، وتقول: "ها أنا هذا" و"ها أنت هذا" فتجعل "هذا" للذي يخاطب، وتقول: "هذا أنت"، وقد جاء أشد من ذا، قال الله عز وجل: {ما إنّ مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوّة} والعصبة هي تنوء بالمفاتيح، قال:
تنوء بها فتثقلها....... عجيزتـهـا......
يريد: "تنوء بعجزيتها"، أي: "لا تقوم إلا جهدا بعد جهد"، قال الشاعر:
مثل القنافذ هدّاجون قد بلغت ....... نجران أو بلغـت سوآتهـم هجـر
وهو يريد أن السوآت بلغت هجراً، و"هجر" رفعٌ لأنّ القصيدة مرفوعة، ومثل ذا قول الشاعر:
وتـلـحـق خــيــلٌ لا هــــوادة بـيـنـهـا ....... وتشقى الرّماح بالضياطرة الحمر
والضياطرة هم يشقون بالرماح، و"الضياطرة" هم العظام وواحدهم "ضيطار" مثل "بيطار"، ومثل قول الشاعر:
لقد خفت حتّى ما تزيد مخافتي ....... عـلـى وعــلٍ بــذي الفـقـارة عـاقــل
يريد: حتى ما تزيد مخافة وعلٍ على مخافتي). [معاني القرآن: 1/ 101-103]
قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : (وقراءة الحسن {تظاهرون} خفيف لا يثقل الظاء، وقد جاء عنه {تظاهرون} على تتظاهرون بالتثقيل.
أبو جعفر "تظاهرون} من ظاهرت بضم التاء والتخفيف.
الأعرج {وإن يأتوكم أسارى}.
الحسن {أسرى تقادوهم}.
[معاني القرآن لقطرب: 252]
الأعمش {أسرى تقدوهم}.
أبو عمرو {أسارى تفدوهم}.
الحسن "تردون إلى أشد العذاب".
وهي قراءة أبي عمرو أيضًا {وما الله بغافل عما تعملون}.
الأعرج {يردون} ). [معاني القرآن لقطرب: 253]
قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : (وقوله {تظاهرون عليهم} يريد: تتظاهرون، ومثله {تصدى} و{فأنت عنه تلهى} يريد: تتصدى وتتلهى، و{على من تنزل الشياطين} أي تتنزل؛ العرب تحذف إحدى التاءين هاهنا لاجتماعها متحركتين، فالمحذوفة الثانية؛ لأن الأولى جاءت لمعنى تدل عليه، كما تدل في تفعل ونفعل؛ وقالوا: هذه مسئلة لا توهم؛ فأبقوا المضمومة وهي الأولى، لأن الأصل لا تتوهم.
وقال الراجز فحذف:
أولاك أوتاد الجبال الصيم = لا تشتكي محلا ولا تكلم
يريد: تتكلم). [معاني القرآن لقطرب: 322]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت:276هـ): ({ثمّ أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم} وقد بينت معنى هذه الآية في المشكل.
{تظاهرون}: تعاونون، والتّظاهر: التعاون، ومنه قوله: {إن تتوبا إلى اللّه فقد صغت قلوبكما وإن تظاهرا عليه} أي: تعاونا عليه، و"اللّه ظهير" أي: عون. وأصل التّظاهر من الظّهر، فكأنّ التظاهر: أن يجعل كلّ واحد من الرجلين أو من القوم، الآخر له ظهرا يتقوّى به ويستند إليه). [تفسير غريب القرآن: 57]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): ({ثمّ أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرّم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلّا خزي في الحياة الدّنيا ويوم القيامة يردّون إلى أشدّ العذاب وما اللّه بغافل عمّا تعملون}
{ثم أنتم هؤلاء} الخطاب وقع لليهود من بني قريظة وبني النضير لأنهم نكثوا، فقتل بعضهم بعضا، وأخرج بعضهم بعضا من ديارهم وهذا نقض عهدهم
وقوله عزّ وجلّ: {تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان} قرئت بالتخفيف والتشديد، {تظاهرون} و(تظّاهرون)، فمن قرأ بالتشديد؛ فالأصل فيه (تتظاهرون) فأدغم التاء في الظاء لقرب المخرجين، ومن قرأ بالتخفيف؛ فالأصل فيه -أيضا- (تتظاهرون) فحذفت التاء الثانية لاجتماع تاءين.
وتفسير {تظاهرون}: تتعاونون، يقال: قد ظاهر فلان فلانا إذا عاونه، منه قوله {وكان الكافر على ربه ظهيرا} أي: معينا.
وقوله عزّ وجلّ: {بالإثم والعدوان} العدوان: الإفراط في الظلم؛ ويقال: عدا فلان في ظلمه عدوا وعدوا وعدوانا وعداء، هذا كله معناه: المجاوزة في الظلم. وقوله عزّ وجلّ: {ولا تعدوا في السّبت} إنما هو من هذا، أي: لا تظلموا فيه.
وقوله عزّ وجلّ: {وإن يأتوكم أسارى تفادوهم} القراءة في هذا على وجوه:
(أسرى تَفْدوهم) و(أسرى تُفَادوهم)، و{أُسَارى تفادوهم}، ويجوز (أَسَارى) ولا أعلم أحد قرأ بها، وأصل الجمع "فُعالى".
أعلم الله مناقضتهم في كتابه وأنه قد حرّم عليهم قتلهم وإخراجهم من ديارهم، وأنهم يفادونهم إذا أسروا ويقتلونهم ويخرجونهم من ديارهم، فوبّخهم فقال: {فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلّا خزي في الحياة الدّنيا} يعني: ما نال بني قريظة وبني النضير، لأن بني النضير أجلوا إلى الشام،
و(بني) قريظة أبيدوا -حكم فيهم بقتل المقاتلة وسبي الذراري- فقال الله عزّ وجلّ: {ذلك لهم خزي في الدّنيا}، ولغيرهم من سائر الكفار: الخزي في الدنيا: القتل وأخذ الجزية مع الذلة والصغار.
ثم أعلم اللّه عزّ وجلّ أن ذلك غير مكفر عن ذنوبهم، وأنهم صائرون بعد ذلك إلى عذاب عظيم، فقال: {ذلك لهم خزي في الدّنيا ويوم القيامة يردّون إلى أشدّ العذاب وما اللّه بغافل عمّا تعملون}.
ومعنى {ثمّ أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم}
{هؤلاء} في معنى "الذين"، و{تقتلون} صلة لـ{هؤلاء}، كقولك: ثم أنتم الذين تقتلون أنفسكم، ومثله قوله: {وما تلك بيمينك يا موسى}.
وقوله عزّ وجلّ: {وهو محرم عليكم إخراجهم}
{هو} على ضربين:
جائز أن يكون بإضمار الإخراج الذي تقدم ذكره، قال: {وتخرجون فريقا منكم من ديارهم ... وهو محرم عليكم إخراجهم}، ثم بين -لتراخي الكلام- أن ذلك الذي حرم الإخراج.
وجائز أن يكون للقصة والحديث والخبر، كأنه قال: والخبر محرم عليكم إخراجهم، كما قال عزّ وجلّ: {قل هو اللّه أحد} أي: الأمر الذي هو الحق توحيد اللّه عزّ وجلّ .
{خزي} يقال في الشر والسوء: خزي الرجل خزيا، ويقال في الحياء: خزي يخزي خزاية.
ومعنى {يردون إلى أشد العذاب}، و{عذاب عظيم}، و{عذاب أليم} أن العذاب على ضربين، على قدر المعاصي.
والدليل على ذلك قوله عزّ وجلّ: {فأنذرتكم نارا تلظّى * لا يصلاها إلّا الأشقى * الّذي كذّب وتولّى} فهذه النار الموصوفة ههنا لا يدخلها إلا الكفار). [معاني القرآن: 1/ 165-168]
قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت:345هـ):{تظاهرون}: تعاونون). [ياقوتة الصراط: 175]
قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت:345هـ):{الخزي}: المباعدة من الخير). [ياقوتة الصراط: 175]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت:437هـ): ({تظاهرون} أي: تعاونون). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 30]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت:437هـ): ({تَظَاهَرُونَ}: تعاونون). [العمدة في غريب القرآن: 79]

تفسير قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)}


رد مع اقتباس
  #4  
قديم 11 جمادى الأولى 1434هـ/22-03-2013م, 02:42 PM
الصورة الرمزية إشراق المطيري
إشراق المطيري إشراق المطيري غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Jun 2010
المشاركات: 885
افتراضي

التفسير اللغوي المجموع
[ما استخلص من كتب علماء اللغة مما له صلة بهذا الدرس]

تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)}
[لا يوجد]

تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84)}

[لا يوجد]

تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)}
قَالَ سِيبَوَيْهِ عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ بْنِ قُنْبُرٍ (ت: 180هـ): (وقد تكون (ها) في (ها أنت ذا) غير مقدمة ولكنها تكون للتنبيه بمنزلتها في (هذا) يدلك على هذا قوله عز وجل: {ها أنتم هؤلاء}.
فلو كانت (ها) هاهنا هي التي تكون أولا إذا قلت (هؤلاء) لم تعد (ها) هاهنا بعد (أنتم).
وحدثنا يونس أيضا تصديقا لقول أبي الخطاب أن العرب تقول: هذا أنت تقول: كذا وكذا، لم يرد بقوله: هذا أنت، أن يعرفه نفسه كأنه يريد أن يعلمه أنه ليس غيره. هذا محال ولكنه أراد أن ينبهه، كأنه قال: الحاضر عندنا أنت، والحاضر القائل كذا وكذا أنت.
وإن شئت لم تقدم (ها) في هذا الباب قال تعالى: {ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم}). [الكتاب: 2/ 354-355]
قالَ يعقوبُ بنُ إسحاقَ ابنِ السِّكِّيتِ البَغْدَادِيُّ (ت: 244هـ) : (وتقول: قد خزي الرجل يخزى خزيا، إذا وقع في بلية). [إصلاح المنطق: 373]
قالَ محمَّدُ بنُ القاسمِ بنِ بَشَّارٍ الأَنْبَارِيُّ: (ت: 328 هـ): (
وأنــــبــــأتــــه أن الــــــفــــــرار خــــــزايـــــــة ....... على المرء ما لم يبل جهدًا ويعذر

قال الضبي: الخزاية: الاستحياء. وقوله: (ويعذر) أي: يأتي بعذر. ومنه قول العرب: قد أعذر من أنذر أي: من أنذر فقد أتى بعذرٍ. وكان عبد الله بن العباس يقرأ: {وجاء المعذرون من الأعراب} أي: من جاء منهم بعذرٍ، ويقول: «لعن الله المعذرين، إنما المعذرون المقصرون». ويروى: وأخبرته أن الفرار خزاية، رواها الحرمازي والأثرم، وروى الأثرم: جهدًا فيعذر، وعذرًا فيعذر، وقال ذو الرمة:

خـــــزايـــــةً أدركـــــتـــــه بـــــعــــــد جـــولــــتــــه ....... من جانب الحبل مخلوطًا بها غضب
خزايةً: استحياءً، يقال: خزي يخزى خزايةً وخزىً مقصور. وقد خزي يخزى خزيًا إذا وقع في الهلاك، وخزا فلان فلانًا يخزوه إذا ساسه وقهره، قال ذو الإصبع العدواني:
ولا أنت دياني فتخزوني
). [شرح المفضليات:707- 708]
قالَ محمَّدُ بنُ القاسمِ بنِ بَشَّارٍ الأَنْبَارِيُّ: (ت: 328 هـ): (والخزايا: جمع خزيان، والاسم الخزاية وهو كل ما يستحيا منه، قال ذو الرمة:

خـــــزايـــــة أدركـــــتـــــه بـــــعــــــد جـــولــــتــــه ....... من جانب الحبل مخلوطًا بها غضب
ويقال: خزي الرجل يخزى خزيًا إذا وقع في هلكةٍ، ويقال: خزاه يخزوه إذا ساسه، قال الرستمي: وأنشدني يعقوب بيت ذي الإصبع العدواني:
لاه ابن عمك لا أفضلت في حسبٍ ....... عـــنـــي ولا أنــــــت ديـــانـــي فـتــخــزونــي
أي: لا أنت مالك أمري فتخزوني، وقال لبيد:
غير أن لا تكذبنها في التقى ....... واخـــزهـــا بــالــبــر لله الأجـــــــل
أي: سسها). [شرح المفضليات: 781]

تفسير قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)}
[لا يوجد]


رد مع اقتباس
  #5  
قديم 28 جمادى الأولى 1435هـ/29-03-2014م, 12:05 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن الثالث الهجري


.....

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 28 جمادى الأولى 1435هـ/29-03-2014م, 12:05 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن الرابع الهجري


.....

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 28 جمادى الأولى 1435هـ/29-03-2014م, 12:05 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن الخامس الهجري


.....

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 28 جمادى الأولى 1435هـ/29-03-2014م, 12:05 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن السادس الهجري

تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلاّ اللّه وبالوالدين إحساناً وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للنّاس حسناً وأقيموا الصّلاة وآتوا الزّكاة ثمّ تولّيتم إلاّ قليلاً منكم وأنتم معرضون (83) وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثمّ أقررتم وأنتم تشهدون (84)}
المعنى: «واذكروا إذ أخذنا»،
- وقال مكي رحمه الله: «هذا هو الميثاق الذي أخذ عليهم حين أخرجوا من صلب آدم كالذر»، وهذا ضعيف، وإنما هو ميثاق أخذ عليهم وهم عقلاء في حياتهم على لسان موسى عليه السلام وغيره من أنبيائهم عليهم السلام،
وأخذ الميثاق قول، فالمعنى قلنا لهم لا تعبدون، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي «لا يعبدون» بالياء من أسفل، وقرأ الباقون بالتاء من فوق، حكاية ما قيل لهم، وقرأ أبي بن كعب وابن مسعود «لا تعبدوا» على النهي.
- قال سيبوية: (لا تعبدون) متعلق لقسم، والمعنى: وإذ استخلفناكم والله لا تعبدون،
- وقالت طائفة: تقدير الكلام بأن لا تعبدوا إلا الله، ثم حذفت الباء ثم حذفت أن فارتفع الفعل لزوالها، فـ(لا تعبدون) على هذا معمول لحرف النصب،
- وحكي عن قطرب أن لا تعبدون إلّا اللّه في موضع الحال أي: أخذنا ميثاقهم موحدين، وهذا إنما يتجه على قراءة ابن كثير، ونظام الآية يدفعه مع كل قراءة،
- وقال قوم: لا تعبدون إلّا اللّه نهي في صيغة خبر، ويدل على ذلك أن في قراءة أبي: لا تعبدوا.
والباء في قوله: {وبالوالدين}؛
- قيل: هي متعلقة بالميثاق عطفا على الباء المقدرة أولا على قول من قال: التقدير بأن لا تعبدوا،
- وقيل: تتعلق بقوله: {وإحساناً} والتقدير: قلنا لهم لا تعبدون إلا الله، وأحسنوا إحسانا بالوالدين ويعترض هذا القول بأن المصدر قد تقدم عليه ما هو معمول له،
- وقيل: تتعلق الباء بأحسنوا المقدر، والمعنى: وأحسنوا بالوالدين إحسانا، وهذا قول حسن،
وقدم اللفظ بالوالدين تهمما فهو نحو قوله تعالى: {إيّاك نعبد} [الفاتحة: 5] وفي الإحسان تدخل أنواع بر الوالدين كلها،
و(ذي القربى) عطف على الوالدين، والقربى بمعنى القرابة، وهو مصدر كالرجعى والعقبى، وهذا يتضمن الأمر بصلة الرحم،
واليتامى: جمع يتيم كنديم وندامى، واليتم في بني آدم فقد الأب، وفي البهائم فقد الأم، وقال عليه السلام: «لا يتم بعد بلوغ»، وحكى الماوردي أن اليتيم في بني آدم في فقد الأم، وهذا يتضمن الرأفة باليتامى وحيطة أموالهم،
والمساكين: جمع مسكين وهو الذي لا شيء له، لأنه مشتق من السكون، وقد قيل: إن المسكين هو الذي له بلغة من العيش، وهو على هذا مشتق من السكن، وهذا يتضمن الحض على الصدقة والمواساة وتفقد أحوال المساكين.
وقوله تعالى: {وقولوا للنّاس حسناً}، أمر عطف على ما تضمنه {لا تعبدون إلّا اللّه} وما بعده من معنى الأمر والنهي، أو على أحسنوا المقدر في قوله: {وبالوالدين}،
وقرأ حمزة والكسائي «حَسَنا» بفتح الحاء والسين، قال الأخفش: هما بمعنى واحد كالبخل والبخل، قال الزجاج وغيره: بل المعنى في القراءتين وقولوا قولا حَسَنا بفتح السين أو قولا ذا «حُسْن» بضم الحاء، وقرأ قوم «حسنى» مثل فعلى، ورده سيبويه لأن أفعل وفعلى لا تجيء إلا معرفة إلا أن يزال عنها معنى التفضيل وتبقى مصدرا كالعقبى، فذلك جائز، وهو وجه القراءة بها، وقرأ عيسى بن عمر وعطاء بن أبي رباح «حُسُنا» بضم الحاء والسين،
- وقال ابن عباس: «معنى الكلام قولوا لهم: لا إله إلا الله ومروهم بها»،
- وقال ابن جريج: «قولوا لهم حسنا في الإعلام بما في كتابكم من صفة محمد صلى الله عليه وسلم»،
- وقال سفيان الثوري: «معناه: مروهم بالمعروف وانهوهم عن المنكر»،
- وقال أبو العالية: «معناه: قولوا لهم الطيب من القول وحاوروهم بأحسن ما تحبون أن تحاوروا به، وهذا حض على مكارم الأخلاق»،
- وحكى المهدوي عن قتادة: «أن قوله تعالى: {وقولوا للنّاس حسناً} منسوخ بآية السيف».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا على أن هذه الأمة خوطبت بمثل هذا اللفظ في صدر الإسلام، وأما الخبر عن بني إسرائيل وما أمروا به فلا نسخ فيه،
وقد تقدم القول في إقامة الصلاة، وزكاتهم هي التي كانوا يضعونها وتنزل النار على ما تقبل ولا تنزل على ما لم يتقبل، ولم تكن كزكاة أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: «الزكاة التي أمروا بها طاعة الله والإخلاص».
وقوله تعالى: {ثمّ تولّيتم} الآية، خطاب لمعاصري محمد صلى الله عليه وسلم أسند إليهم تولي أسلافهم، إذ هم كلهم بتلك السبيل، قال نحوه ابن عباس وغيره، و(ثمّ) مبنية على الفتح ولم تجر مجرى رد وشد لأنها لا تتصرف، وضمت التاء الأخيرة من (تولّيتم) لأن تاء المفرد أخذت الفتح وتاء المؤنث أخذت الكسر فلم يبق للتثنية والجمع إلا الضم، و(قليلًا) نصب على الاستثناء،
- قال سيبويه: المستثنى منصوب على التشبيه بالمفعول به،
- قال المبرد: هو مفعول حقيقة لأن تقديره: استثنيت كذا،
والمراد بالقليل: جميع مؤمنيهم قديما من أسلافهم وحديثا كابن سلام وغيره، والقلة على هذه هي في عدد الأشخاص،
- ويحتمل أن تكون القلة في الإيمان أي: لم يبق حين عصوا وكفر آخرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم إلا إيمان قليل، إذ لا ينفعهم، والأول أقوى،
وقرأ قوم «إلا قليل» برفع القليل، ورويت عن أبي عمرو، وهذا على بدل قليل من الضمير في (تولّيتم)، وجاز ذلك مع أن الكلام لم يتقدم فيه نفي لأن (تولّيتم) معناه النفي كأنه قال: ثم لم تفوا بالميثاق إلا قليل). [المحرر الوجيز: 1/ 268-271]


تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84)}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (والسفك: صب الدم وسرد الكلام، وقرأ طلحة بن مصرف وشعيب بن أبي حمزة «لا تسفكون» بضم الفاء، وقرأ أبو نهيك «تسفّكون» بضم التاء وكسر الفاء وتضعيفها، وإعراب (لا تسفكون) كما تقدم في (لا تعبدون)،
ودماءكم جمع دم، وهو اسم منقوص أصله دمي، وتثنيته دميان، وقيل: أصله دمي بسكون الميم، وحركت في التثنية لتدل الحركة على التغيير الذي في الواحد.
وقوله تعالى: {ولا تخرجون أنفسكم من دياركم} معناه: ولا ينفي بعضكم بعضا بالفتنة والبغي، ولما كانت ملتهم واحدة وأمرهم واحدا وكانوا في الأمم كالشخص الواحد، جعل قتل بعضهم لبعض ونفي بعضهم بعضا قتلا لأنفسهم ونفيا لها، وكذلك حكم كل جماعة تخاطب بهذا اللف في القول،
وقيل: لا تسفكون دماءكم أي: لا يقتل أحد فيقتل قصاصا، فكأنه سفك دم نفسه لما سبب ذلك ولا يفسد في الأرض فينفى فيكون قد أخرج نفسه من دياره، وهذا تأويل فيه تكلف، وإنما كان الأمر أن الله تعالى قد أخذ على بني إسرائيل في التوراة ميثاقا أن لا يقتل بعضهم بعضا ولا ينفيه ولا يسترقه ولا يدعه يسترق، إلى غير ذلك من الطاعات.
وقوله تعالى: {ثمّ أقررتم} أي: خلفا بعد سلف أن هذا الميثاق أخذ عليكم والتزمتموه فيتجه في هذه اللفظة أن تكون من الإقرار الذي هو ضد الجحد وتتعدى بالباء، وأن تكون من الإقرار الذي هو إبقاء الأمر على حاله، أي: أقررتم هذا الميثاق ملتزما.
وقوله: {وأنتم تشهدون} قيل: الخطاب يراد به من سلف منهم، والمعنى: وأنتم شهود أي: حضور أخذ الميثاق والإقرار،
وقيل: إن المراد من كان في مدة محمد صلى الله عليه وسلم، والمعنى: وأنتم شهداء أي: بينة أن هذا الميثاق أخذ على أسلافكم فمن بعدهم). [المحرر الوجيز: 1 /271-272]

تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {ثمّ أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرّمٌ عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعضٍ فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلاّ خزيٌ في الحياة الدّنيا ويوم القيامة يردّون إلى أشدّ العذاب وما اللّه بغافلٍ عمّا تعملون (85)}
(هؤلاء) دالة على أن المخاطبة للحاضرين لا تحتمل ردا إلى الأسلاف،
- قيل: تقدير الكلام: يا هؤلاء، فحذف حرف النداء، ولا يحسن حذفه عند سيبويه مع المبهمات، لا تقول: هذا أقبل،
- وقيل: تقديره: أعني هؤلاء،
- وقيل: (هؤلاء) بمعنى الذين، فالتقدير: ثم أنتم الذين تقتلون، فـ(تقتلون) صلة لـ(هؤلاء)، ونحوه قال يزيد بن مفرغ الحميري:
عدس ما لعبّاد عليك إمارة ....... نجوت وهذا تحملين طليق
- وقال الأستاذ الأجل أبو الحسن بن أحمد شيخنا رضي الله عنه: (هؤلاء) رفع بالابتداء و(أنتم) خبر مقدم، و(تقتلون) حال بها تم المعنى، وهي كانت المقصود فهي غير مستغنى عنها، وإنما جاءت بعد أن تم الكلام في المسند والمسند إليه، كما تقول: هذا زيد منطلقا، وأنت قد قصدت الإخبار بانطلاقه لا الإخبار بأن هذا هو زيد.
وهذه الآية خطاب لقريظة والنضير وبني قينقاع، وذلك أن النضير وقريظة حالفت الأوس، وبني قينقاع حالفت الخزرج، فكانوا إذا وقعت الحرب بين بني قيلة ذهبت كل طائفة من بني إسرائيل مع أحلافها فقتل بعضهم بعضا وأخرج بعضهم بعضا من ديارهم، وكانوا مع ذلك يفدي بعضهم أسرى بعض اتباعا لحكم التوراة وهم قد خالفوها بالقتال والإخراج،
وقرأ الحسن بن أبي الحسن: «تقتّلون» بضم التاء الأولى وكسر الثانية وشدّها على المبالغة،
والديار مباني الإقامة، وقال الخليل: محلة القوم دارهم،
وقرأ حمزة وعاصم والكسائي: «تظاهرون» بتخفيف الظاء وهذا على حذف التاء الثانية من تتظاهرون، وقرأ بقية السبعة «تظّاهرون» بشد الظاء على إدغام التاء في الظاء، وقرأ أبو حيوة «تظهرون» بضم التاء وكسر الهاء، وقرأ مجاهد وقتادة «تظّهرّون» بفتح التاء وشد الظاء والهاء مفتوحة دون ألف، ورويت هذه عن أبي عمرو،
ومعنى ذلك على كل قراءة: تتعاونون، وهو مأخوذ من الظهر، كأن المتظاهرين يسند كل واحد منهما ظهره إلى صاحبه،
والإثم: العهد الراتبة على العبد من المعاصي، والمعنى: بمكتسبات الإثم،
والعدوان: تجاوز الحدود والظلم، وحسن لفظ الإتيان من حيث هو في مقابلة الإخراج فيظهر التضاد المقبح لفعلهم في الإخراج،
وقرأ حمزة «أسرى تفدوهم»، وقرأ نافع وعاصم والكسائي «أسارى تفادوهم»، وقرأ أبو عمرو وابن عامر وابن كثير «أسارى تفدوهم»، وقرأ قوم «أسرى تفادوهم».
وأسارى جمع أسير، والأسير مأخوذ من الأسر وهو الشد، سمي بذلك لأنه يؤسر أي: يشد وثاقا، ثم كثر استعماله حتى لزم وإن لم يكن ثم ربط ولا شد، وأسير فعيل بمعنى مفعول، ولا يجمع بواو ونون وإنما يكسر على أسرى وأسارى، والأقيس فيه أسرى، لأن فعيلا بمعنى مفعول الأصل فيه أن يجمع على فعلى، كقتلى وجرحى، والأصل في فعلان أن يجمع على «فعالى» بفتح الفاء و «فعالى» بضمها كسكران وكسلان وسكارى وكسالى، قال سيبويه: فقالوا في جمع كسلان: كسلى، شبّهوه بأسرى كما قالوا: أسارى شبهوه بكسالى، ووجه الشبه أن الأسر يدخل على المرء مكرها كما يدخل الكسل، وفعالى إنما يجيء فيما كان آفة تدخل على المرء.
و(تفادوهم) معناه في اللغة: تطلقونهم بعد أن تأخذوا عنهم شيئا، قاله أبو علي، قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وفاديت نفسي إذا أطلقتها بعد أن دفعت شيئا، فعلى هذا قد تجيء بمعنى فديت أي: دفعت فيه من مال نفسي، ومنه قول العباس للنبي صلى الله عليه وسلم: «أعطني فإني فاديت نفسي، وفاديت عقيلا»، وهما فعلان يتعديان إلى مفعولين الثاني منهما بحرف جر، تقول: فديت زيدا بمال وفاديته بمال،
وقال قوم: هي في قراءة (تفادوهم) مفاعلة في أسرى بأسرى، قال أبو علي: كل واحد من الفريقين فعل، الأسر دفع الأسير، والمأسور منه دفع أيضا إما أسيرا وإما غيره، والمفعول الثاني محذوف.
وقوله تعالى: {وهو محرّمٌ}؛
- قيل: في (هو) إنه ضمير الأمر، تقديره: والأمر محرم عليكم، وإخراجهم في هذا القول بدل من (هو)،
- وقيل: (هو) فاصلة، وهذا مذهب الكوفيين، وليست هنا بالتي هي عماد، و(محرّمٌ) على هذا ابتداء، و(إخراجهم) خبره،
- وقيل: (هو) الضمير المقدر في (محرّمٌ) قدم وأظهر،
- وقيل: (هو) ضمير الإخراج تقديره: وإخراجهم محرم عليكم.
وقوله تعالى: {أفتؤمنون ببعض الكتاب} يعني التوراة، والذي آمنوا به فداء الأسارى، والذي كفروا به قتل بعضهم بعضا وإخراجهم من ديارهم، وهذا توبيخ لهم، وبيان لقبح فعلهم.
وروي أن عبد الله بن سلام مرّ على رأس الجالوت بالكوفة وهو يفادي من النساء من لم تقع عليه العرب ولا يفادي من وقع عليه، فقال له ابن سلام: «أما إنه مكتوب عندك في كتابك أن تفاديهن كلهن».
ثم توعدهم عز وجل. والخزي: الفضيحة والعقوبة، يقال: خزي الرجل يخزى خزيا إذا ذل من الفضيحة، وخزي يخزى خزاية إذا ذل واستحيا.
واختلف ما المراد بالخزي هاهنا؟
- فقيل: القصاص فيمن قتل،
- وقيل: ضرب الجزية عليهم غابر الدهر،
- وقيل: قتل قريظة، وإجلاء النضير،
- وقيل: الخزي الذي توعد به الأمة وهو غلبة العدو.
والدنيا مأخوذة من دنا يدنو، وأصل الياء فيها واو ولكن أبدلت فرقا بين الأسماء والصفات.
وأشد العذاب: الخلود في جهنم، وقرأ الحسن وابن هرمز «تردون» بتاء.
وقوله تعالى: {وما اللّه بغافلٍ} الآية،
قرأ نافع وابن كثير «يعملون» بياء على ذكر الغائب فالخطاب بالآية لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، والآية واعظة لهم بالمعنى إذ الله تعالى بالمرصاد لكل كافر وعاص،
وقرأ الباقون بتاء على الخطاب المحتمل أن يكون في سرد الآية وهو الأظهر، ويحتمل أن يكون لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، فقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:«إن بني إسرائيل قد مضوا وأنتم الذين تعنون بهذا يا أمة محمد»، يريد: وبما يجري مجراه). [المحرر الوجيز: 1/ 272-277]

تفسير قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {أولئك الّذين اشتروا الحياة الدّنيا بالآخرة فلا يخفّف عنهم العذاب ولا هم ينصرون (86) ولقد آتينا موسى الكتاب وقفّينا من بعده بالرّسل وآتينا عيسى ابن مريم البيّنات وأيّدناه بروح القدس أفكلّما جاءكم رسولٌ بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقاً كذّبتم وفريقاً تقتلون (87) وقالوا قلوبنا غلفٌ بل لعنهم اللّه بكفرهم فقليلاً ما يؤمنون (88)}
جعل الله ترك الآخرة وأخذ الدنيا مع قدرتهم على التمسك بالآخرة بمنزلة من أخذها ثم باعها بالدنيا.
وهذه النزعة صرفها مالك رحمه الله في فقه البيوع، إذ لا يجوز الشراء على أن يختار المشتري في كل ما تختلف صفة آحاده، ولا يجوز فيه التفاضل كالحجل المذبوحة وغيرها،
ولا يخفف عنهم العذاب في الآخرة، ولا ينصرون لا في الدنيا ولا في الآخرة). [المحرر الوجيز: 1/ 277]


رد مع اقتباس
  #9  
قديم 28 جمادى الأولى 1435هـ/29-03-2014م, 12:06 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن السابع الهجري


.....

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 28 جمادى الأولى 1435هـ/29-03-2014م, 12:06 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن الثامن الهجري

تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)}
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا اللّه وبالوالدين إحسانًا وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للنّاس حسنًا وأقيموا الصّلاة وآتوا الزّكاة ثمّ تولّيتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون (83)}
يذكّر -تبارك وتعالى- بني إسرائيل بما أمرهم به من الأوامر، وأخذ ميثاقهم على ذلك، وأنّهم تولّوا عن ذلك كلّه، وأعرضوا قصدًا وعمدًا، وهم يعرفونه ويذكرونه، فأمرهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا. وبهذا أمر جميع خلقه، ولذلك خلقهم كما قال تعالى: {وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ إلا نوحي إليه أنّه لا إله إلا أنا فاعبدون} [الأنبياء: 25]، وقال تعالى: {ولقد بعثنا في كلّ أمّةٍ رسولا أن اعبدوا اللّه واجتنبوا الطّاغوت} [النّحل: 36]، وهذا هو أعلى الحقوق وأعظمها، وهو حقّ اللّه تعالى، أن يعبد وحده لا شريك له، ثمّ بعده حقّ المخلوقين، وآكدهم وأولاهم بذلك حقّ الوالدين، ولهذا يقرن اللّه تعالى بين حقّه وحقّ الوالدين، كما قال تعالى: {أن اشكر لي ولوالديك إليّ المصير} [لقمان: 14]، وقال تعالى: {وقضى ربّك ألا تعبدوا إلا إيّاه وبالوالدين إحسانًا} الآية، إلى أن قال: {وآت ذا القربى حقّه والمسكين وابن السّبيل} [الإسراء: 23-26]، وفي الصّحيحين، عن ابن مسعودٍ، قلت: يا رسول اللّه، أيّ العمل أفضل؟ قال: «الصّلاة على وقتها». قلت: ثمّ أيٌّ؟ قال: «برّ الوالدين». قلت: ثمّ أيٌّ؟ قال: «الجهاد في سبيل اللّه». ولهذا جاء في الحديث الصّحيح: أنّ رجلًا قال: يا رسول اللّه، من أبرّ؟ قال: «أمّك». قال: ثمّ من ؟ قال: «أمّك». قال: ثمّ من؟ قال: «أباك، ثم أدناك أدناك».
[وقوله: {لا تعبدون إلا اللّه} قال الزّمخشريّ: خبرٌ بمعنى الطّلب، وهو آكد.
وقيل: كان أصله: ألّا تعبدوا كما قرأها بعض السّلف فحذفت (أن) فارتفع، وحكي عن أبيٍّ وابن مسعودٍ، رضي اللّه عنهما، أنّهما قرآها: "لا تعبدوا إلا اللّه".
وقيل: {لا تعبدون} مرفوعٌ على أنّه قسمٌ، أي: واللّه لا تعبدون إلّا اللّه، ونقل هذا التّوجيه القرطبيّ في تفسيره عن سيبويه. وقال: اختاره المبرّد والكسائيّ والفرّاء].
قال: {واليتامى} وهم: الصّغار الّذين لا كاسب لهم من الآباء. [وقال أهل اللّغة: اليتيم في بني آدم من الآباء، وفي البهائم من الأمّ، وحكى الماورديّ أنّ اليتيم أطلق في بني آدم من الأمّ أيضًا].
{والمساكين} الّذين لا يجدون ما ينفقون على أنفسهم وأهليهم، وسيأتي الكلام على هذه الأصناف عند آية النّساء، التي أمرنا اللّه تعالى بها صريحًا في قوله: {واعبدوا اللّه ولا تشركوا به شيئًا وبالوالدين إحسانًا} الآية [النّساء: 36].
وقوله تعالى: {وقولوا للنّاس حسنًا} أي: كلّموهم طيّبًا، ولينوا لهم جانبًا، ويدخل في ذلك الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر بالمعروف، كما قال الحسن البصريّ في قوله: {وقولوا للنّاس حسنًا}: «فالحسن من القول: يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويحلم، ويعفو، ويصفح، ويقول للنّاس حسنًا كما قال اللّه، وهو كلّ خلق حسنٍ رضيه اللّه».
وقال الإمام أحمد: حدّثنا روحٌ، حدّثنا أبو عامرٍ الخزّاز، عن أبي عمران الجوني، عن عبد اللّه بن الصّامت، عن أبي ذرٍّ، رضي اللّه عنه، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه قال: «لا تحقرنّ من المعروف شيئًا، وإن لم تجد فالق أخاك بوجهٍ منطلقٍ».
وأخرجه مسلمٌ في صحيحه، والتّرمذيّ [وصحّحه] من حديث أبي عامرٍ الخزّاز، واسمه صالح بن رستم، به.
وناسب أن يأمرهم بأن يقولوا للنّاس حسنًا، بعد ما أمرهم بالإحسان إليهم بالفعل، فجمع بين طرفي الإحسان الفعليّ والقوليّ.
ثمّ أكّد الأمر بعبادته والإحسان إلى النّاس بالمعيّن من ذلك، وهو الصّلاة والزّكاة، فقال: {وأقيموا الصّلاة وآتوا الزّكاة} وأخبر أنّهم تولّوا عن ذلك كلّه، أي: تركوه وراء ظهورهم، وأعرضوا عنه على عمدٍ بعد العلم به، إلّا القليل منهم، وقد أمر تعالى هذه الأمّة بنظير ذلك في سورة النّساء، بقوله: {واعبدوا اللّه ولا تشركوا به شيئًا وبالوالدين إحسانًا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصّاحب بالجنب وابن السّبيل وما ملكت أيمانكم إنّ اللّه لا يحبّ من كان مختالا فخورًا} [النساء: 36] ، فقامت هذه الأمّة من ذلك بما لم تقم به أمّةٌ من الأمم قبلها، وللّه الحمد والمنّة.
- ومن النّقول الغريبة هاهنا ما ذكره ابن أبي حاتمٍ في تفسيره:
حدّثنا أبي، حدّثنا محمّد بن خلفٍ العسقلاني، حدّثنا عبد اللّه بن يوسف -يعني التّنّيسي-، حدّثنا خالد بن صبيح، عن حميد بن عقبة، عن أسد بن وداعة: أنّه كان يخرج من منزله فلا يلقى يهوديًّا ولا نصرانيًّا إلّا سلّم عليه، فقيل له: ما شأنك؟ تسلّم على اليهوديّ والنّصرانيّ. فقال: «إنّ اللّه يقول: {وقولوا للنّاس حسنًا} وهو: السّلام». قال: وروي عن عطاءٍ الخراساني، نحوه.
قلت: وقد ثبت في السّنّة أنّهم لا يبدؤون بالسّلام، والله أعلم). [تفسير ابن كثير: 1/ 316-318]

تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84)}
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثمّ أقررتم وأنتم تشهدون (84) ثمّ أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقًا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرّمٌ عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعضٍ فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزيٌ في الحياة الدّنيا ويوم القيامة يردّون إلى أشدّ العذاب وما اللّه بغافلٍ عمّا تعملون (85) أولئك الّذين اشتروا الحياة الدّنيا بالآخرة فلا يخفّف عنهم العذاب ولا هم ينصرون (86)}
يقول -تبارك وتعالى- منكرًا على اليهود الّذين كانوا في زمان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بالمدينة، وما كانوا يعانونه من القتال مع الأوس والخزرج، وذلك أنّ الأوس والخزرج، وهم الأنصار، كانوا في الجاهليّة عبّاد أصنامٍ، وكانت بينهم حروبٌ كثيرةٌ، وكانت يهود المدينة ثلاث قبائل: بنو قينقاع. وبنو النّضير حلفاء الخزرج. وبنو قريظة حلفاء الأوس. فكانت الحرب إذا نشبت بينهم قاتل كلّ فريقٍ مع حلفائه، فيقتل اليهوديّ أعداءه، وقد يقتل اليهوديّ الآخر من الفريق الآخر، وذلك حرامٌ عليهم في دينه ونصّ كتابه، ويخرجونهم من بيوتهم وينهبون ما فيها من الأثاث والأمتعة والأموال، ثمّ إذا وضعت الحرب أوزارها استفكّوا الأسارى من الفريق المغلوب، عملًا بحكم التّوراة؛ ولهذا قال تعالى: {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعضٍ}، ولهذا قال تعالى: {وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم} أي: لا يقتل بعضكم بعضًا، ولا يخرجه من منزله، ولا يظاهر عليه، كما قال تعالى: {فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خيرٌ لكم عند بارئكم} [البقرة: 54].
وذلك أنّ أهل الملّة الواحدة بمنزلة النّفس الواحدة، كما قال عليه الصّلاة والسّلام: «مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتواصلهم بمنزلة الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالحمّى والسّهر».
[وقوله:] {ثمّ أقررتم وأنتم تشهدون} أي: ثمّ أقررتم بمعرفة هذا الميثاق وصحّته وأنتم تشهدون به). [تفسير ابن كثير: 1/ 318-319]

تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)}
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({ثمّ أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقًا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرّمٌ عليكم إخراجهم} .
- قال محمّد بن إسحاق بن يسارٍ: حدّثني محمّد بن أبي محمّدٍ، عن سعيد بن جبيرٍ -أو عكرمة-، عن ابن عبّاسٍ: {ثمّ أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم} الآية، قال:«أنّبهم اللّه من فعلهم، وقد حرّم عليهم في التّوراة سفك دمائهم وافترض عليهم فيها فداء أسراهم، فكانوا فريقين: طائفةٌ منهم بنو قينقاع وإنّهم حلفاء الخزرج، والنّضير وقريظة وإنّهم حلفاء الأوس، فكانوا إذا كانت بين الأوس والخزرج حربٌ خرجت بنو قينقاع مع الخزرج، وخرجت النّضير وقريظة مع الأوس، يظاهر كلّ واحدٍ من الفريقين حلفاءه على إخوانه، حتّى يتسافكوا دماءهم بينهم، وبأيديهم التّوراة يعرفون فيها ما عليهم وما لهم. والأوس والخزرج أهل شركٍ يعبدون الأوثان، ولا يعرفون جنّةً ولا نارًا، ولا بعثًا ولا قيامةً، ولا كتابًا، ولا حلالًا ولا حرامًا، فإذا وضعت الحرب أوزارها افتدوا أسراهم، تصديقًا لما في التّوراة، وأخذًا به؛ بعضهم من بعضٍ، يفتدي بنو قينقاع ما كان من أسراهم في أيدي الأوس، ويفتدي النّضير وقريظة ما كان في أيدي الخزرج منهم، ويطلبون ما أصابوا من دمائهم وقتلى من قتلوا منهم فيما بينهم، مظاهرةً لأهل الشّرك عليهم. يقول اللّه تعالى ذكره حيث أنّبهم بذلك: {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعضٍ} أي: يفاديه بحكم التّوراة ويقتله، وفي حكم التّوراة ألّا يفعل، ولا يخرج من داره، ولا يظاهر عليه من يشرك باللّه، ويعبد الأوثان من دونه، ابتغاء عرض الدّنيا. ففي ذلك من فعلهم مع الأوس والخزرج -فيما بلغني- نزلت هذه القصّة».
- وقال أسباطٌ عن السّدّيّ: «كانت قريظة حلفاء الأوس، وكانت النّضير حلفاء الخزرج، فكانوا يقتتلون في حرب سمير، فيقاتل بنو قريظة مع حلفائها النضير وحلفاءهم، وكانت النضير تقاتل قريظة وحلفاءها، ويغلبونهم، فيخرّبون ديارهم، ويخرجونهم منها، فإذا أسر رجلٌ من الفريقين كليهما، جمعوا له حتّى يفدوه. فتعيّرهم العرب بذلك، ويقولون: كيف تقاتلونهم وتفدونهم؟ قالوا: إنّا أمرنا أن نفديهم، وحرّم علينا قتالهم، قالوا: فلم تقاتلونهم؟ قالوا: إنّا نستحيي أن تستذلّ حلفاؤنا. فذلك حين عيّرهم اللّه، فقال: {ثمّ أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقًا منكم من ديارهم}».
- وقال شعبة، عن السّدّيّ: «نزلت هذه الآية في قيس بن الخطيم: {ثمّ أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقًا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان}».
- وقال أسباطٌ، عن السّدّيّ، عن عبد خيرٍ، قال: غزونا مع سلمان بن ربيعة الباهليّ بلنجر فحاصرنا أهلها ففتحنا المدينة وأصبنا سبايا واشترى عبد اللّه بن سلامٍ يهوديّةً بسبعمائةٍ، فلمّا مرّ برأس الجالوت نزل به، فقال له عبد اللّه:«يا رأس الجالوت، هل لك في عجوزٍ هاهنا من أهل دينك، تشتريها منّي؟»، قال: نعم. قال: «أخذتها بسبعمائة درهمٍ». قال: فإنّي أربحك سبعمائةٍ أخرى. قال: «فإنّي قد حلفت ألّا أنقصها من أربعة آلافٍ». قال: لا حاجة لي فيها، قال:«واللّه لتشترينّها منّي، أو لتكفرنّ بدينك الذي أنت عليه». قال: ادن منّي، فدنا منه، فقرأ في أذنه التي في التّوراة: «إنّك لا تجد مملوكًا من بني إسرائيل إلّا اشتريته فأعتقته {وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرّمٌ عليكم إخراجهم}»، قال: أنت عبد اللّه بن سلامٍ؟ قال: «نعم». قال: فجاء بأربعة آلافٍ، فأخذ عبد اللّه ألفين، وردّ عليه ألفين.
- وقال آدم بن أبي إياسٍ في تفسيره: حدّثنا أبو جعفرٍ يعني الرّازيّ، حدّثنا الرّبيع بن أنسٍ، أخبرنا أبو العالية: أنّ عبد اللّه بن سلامٍ مرّ على رأس الجالوت بالكوفة، وهو يفادي من النّساء من لم يقع عليها العرب، ولا يفادي من وقع عليها العرب، فقال عبد اللّه بن سلامٍ: «أما إنّه مكتوبٌ عندك في كتابك أن تفاديهنّ كلّهنّ».
والذي أرشدت إليه الآية الكريمة، وهذا السّياق، ذمّ اليهود في قيامهم بأمر التّوراة التي يعتقدون صحّتها، ومخالفة شرعها، مع معرفتهم بذلك وشهادتهم له بالصّحّة، فلهذا لا يؤتمنون على ما فيها ولا على نقلها، ولا يصدّقون فيما يكتمونه من صفة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ونعته، ومبعثه ومخرجه، ومهاجره، وغير ذلك من شؤونه، التي قد أخبرت بها الأنبياء قبله. واليهود -عليهم لعائن اللّه- يتكاتمونه بينهم، ولهذا قال تعالى: {فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزيٌ في الحياة الدّنيا} أي: بسبب مخالفتهم شرع اللّه وأمره {ويوم القيامة يردّون إلى أشدّ العذاب} جزاءً على ما كتموه من كتاب اللّه الذي بأيديهم {وما اللّه بغافلٍ عمّا تعملون}). [تفسير ابن كثير: 1/ 319-320]

تفسير قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)}
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({أولئك الّذين اشتروا الحياة الدّنيا بالآخرة} أي: استحبّوها على الآخرة واختاروها {فلا يخفّف عنهم العذاب} أي: لا يفتّر عنهم ساعةً واحدةً {ولا هم ينصرون} أي: وليس لهم ناصرٌ ينقذهم ممّا هم فيه من العذاب الدّائم السّرمديّ، ولا يجيرهم منه). [تفسير ابن كثير: 1/ 320-321]


رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع
إبحث في الموضوع:

البحث المتقدم
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 03:24 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
جميع الحقوق محفوظة