سورة آل عمران
[من الآية (187) إلى الآية (189) ]
{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189)}
قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (لتبيّننّه للنّاس ولا تكتمونه... (187)
قرأ ابن كثير وأبو بكر عن عاصم بالياء فيهما.
وقرأ الباقون بالتاء.
قال أبو منصور: من قرأها بالياء فلأنهم غيب، ومن قرأ بالتاء فعلى الخطاب لهم وقد أخذ الميثاق عليهم، والمعنى: أن الله جلّ وعزّ أخذ عليهم الميثاق ليبيّننّ أمر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فنبذوه وراء ظهورهم ولعنهم). [معاني القراءات وعللها: 1/287]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (69- وقوله تعالى: {لتبيننه للناس ولا تكتمونه} [187].
قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر بالياء. وحجتهم: {فنبذوه} ردوه على الغيب.
وقرأ الباقون بالتاء، جعلوه حكاية لوقت أخذ الميثاق عليهم). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/125]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في الياء والتاء من قوله [جلّ وعز]: لتبيننه للناس ولا تكتمونه [آل عمران/ 187].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر بالياء فيهما.
وقرأ الباقون وحفص عن عاصم بالتاء فيهما.
قال أبو علي: حجّة من قرأ بالتاء قوله: وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم [آل عمران/ 81] والاتفاق عليه، وكذلك: وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله [البقرة/ 83] وقد تقدّم القول في ذلك.
وحجّة من قرأ بالياء أنّ الكلام حمل على الغيبة لأنّهم غيب.
[وقد تقدم القول في ذلك] ). [الحجة للقراء السبعة: 3/116]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({لتبيننه للنّاس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم}
قرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر (ليبيننه للنّاس ولا يكتمونه) بالياء فيهما وحجتهم قوله {فنبذوه} ولم يقل فنبذتموه وبهذا كان يحتج أبو عمرو ويقول الكلام أتى عقيبه بلفظ الخبر
[حجة القراءات: 185]
وهو قوله {فنبذوه} فجعل ما قبله بلفظه ليأتلف الكلام على نظام واحد
وقرأ الباقون بالتّاء بلفظ الخطاب وحجتهم أنه يحكي اللّفظ الّذي خوطبوا به في وقت أخذ الميثاق عليهم والميثاق الّذي أخذ عليهم هو بيان أمر النّبي صلى الله عليه). [حجة القراءات: 186]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (111- قوله: {لتبيننه للناس ولا تكتمونه} قرأ أبو بكر وأبو عمرو وابن كثير بياء فيهما، حملوه على لفظ الغيبة، لأن المخبر عنه غائب، وردوه في الغيبة على ما تقدّم من ذكر الغيبة القريبة منه، في قوله: {الذين أوتوا الكتاب} «186» وعلى ما أتى بعده من لفظ الغيبة، في قوله: {فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنًا قليلًا فبئس ما يشترون} فجاء كله بلفظ الغيبة، فحمل ما قبله عليه، لينتظم الكلام على سنن واحد، ويأتلف على طريقة واحدة في الغيبة، وقرأ الباقون بالتاء فيهما، حملوه على لخطاب، كما قال: {وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم} «آل عمران 81» فرجع إلى الخطاب، ولو حمل على ما قبله لقال: آتيتهم، وفي القراءة بالتاء معنى توكيد الأمر لأن التاء للمواجهة، فتقديره: وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب، فقال لهم لتبيننه للناس ولا تكتمونه، وهو الاختيار، لما فيه من معنى التأكيد، ولأن أكثر القراء عليه، والقراءة بالياء حسنة قوية مختارة أيضًا، لكن نفسي تميل إلى الجماعة، لا سيما إذا كان فيهم أهل المدينة). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/371]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (52- {لَيُبَيِّنُنَّهُ لِلنّاسِ وَلا يَكْتُمُونَهُ} [آية/ 187]:-
بالياء فيهما، قرأها ابن كثير وأبو عمرو وعاصم –ياش-؛ لأن الكلام على الغيبة وهو قوله: {مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}، وهم غيب.
وقرأ الباقون {لَتُبَيِّنُنَّهُ}، {ولا تَكْتُمُونَهُ} بالتاء فيهما، على الخطاب، بإضمار القول؛ أو لأن أخذ الميثاق يتضمن القول، كما قال تعالى: {وَإِذْ
[الموضح: 397]
أَخَذَ الله مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ} وكقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا الله} عند من قرأ بالتاء). [الموضح: 398]
قوله تعالى: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (ولا تحسبنّ الّذين كفروا... (178)
و: (ولا يحسبنّ الّذين يبخلون)
و: (لا تحسبنّ الّذين يفرحون)... (فلا تحسبنّهم).
قرأ ابن كثير وأبو عمرو أربعهن بالياء، وقرأ نافع وابن عامر ثلاثًا بالياء وواحدة بالتاء، وهو قوله: (فلا تحسبنّهم)، وقرأ عاصم والكسائي ويعقوب: (ولا يحسبنّ الّذين كفروا) و(لا يحسبنّ الّذين يبخلون) بالياء، والأخريين بالتاء.
وقرأ حمزة كلهن بالتاء، وكل من قرأ (فلا تحسبنّهم) بالتاء فتح الباء، ومن قرأ بالياء ضم الباء (فلا يحسبنّهم).
[معاني القراءات وعللها: 1/282]
قال محمد بن يزيد: من قرأ (يحسبنّ) يفتح (أن)، وكانت تنوب عن الاسم والخبر، يقول: (حسبت أنّ زيدًا منطلق)، ويقبح الكسر مع الياء، وهو مع قبحه جائز.
ومن قرأ (لا تحسبنّ الّذين كفروا) لم يجز عند البصريين إلا كسر ألف (إن)، المعنى: لا تحسبن الذين كفروا إملاؤنا خير لهم.
ودخلت (إن) مؤكدة، وإذا فتحت صار المعنى: ولا تحسبن الذين كفروا إملاءنا.
قال أبو منصور: الفتح جائز مع الياء عند غيره من النحويين، وهو على البدل من (الذين)، المعنى: لا يحسبن إملاءنا الذين كفروا خيرًا لهم.
وقد قرأ بهذه القراءة جماعة.
وقراءتهم دليل على جوازها، ومثله قال الشاعر:
فما كان قيسٌ هلكه هلك واحدٍ... ولكنه بنيان قومٍ تهدّما
[معاني القراءات وعللها: 1/283]
يجوز هلك واحد، وهلك واحد، فمن رفع قوله (هلكه) ابتداءً جعل هلك واحدا خبر الابتداء، ويسدّان معًا مسدّ الخبر.
ومن جعل (هلكه) بدلا من قوله (قيسٌ) نصب (هلك واحد) المعنى: ما كان هلكه هلك واحد.
وقال الفراء: من قرأ (ولا تحسبنّ الّذين كفروا أنّما) قال: هو على التكرير: لا تحسبنهم لا تحسبن أنما نملي لهم.
قال: وهو مثل قوله: (هل ينظرون إلّا السّاعة أن تأتيهم) على التكرير: هل ينظرون إلا أن تأتيهم). [معاني القراءات وعللها: 1/284] (م)
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في الياء والتاء من قوله [جلّ وعز]: ولا يحسبن الذين كفروا [آل عمران/ 178] فقرأ ابن كثير وأبو عمرو: ولا يحسبن الذين كفروا بالياء، ولا يحسبن الذين يبخلون [آل عمران/ 180] ولا يحسبن الذين يفرحون [آل عمران/ 188] فلا يحسبنهم [آل عمران/ 188] بضمّ
[الحجة للقراء السبعة: 3/100]
الباء في يحسبنهم وكلّهنّ بالياء وكسر السين في كل القرآن.
وقرأ نافع وابن عامر ولا يحسبن الذين كفروا [آل عمران/ 178] ولا يحسبن الذين يبخلون [آل عمران/ 180] لا يحسبن الذين يفرحون [آل عمران/ 188] كل ذلك بالياء فلا تحسبنهم [آل عمران/ 188] بالتاء وفتح الباء غير أنّ نافعا كسر السين وفتحها ابن عامر. وقرأ حمزة: ولا تحسبن الذين كفروا [آل عمران/ 178] ولا تحسبن الذين يفرحون... فلا تحسبنهم [آل عمران/ 188] بفتح الباء والسين وكل ذلك بالتاء. وقرأ عاصم والكسائي كلّ ما في هذه السورة بالتاء إلّا حرفين: قوله: ولا يحسبن الذين يبخلون [آل عمران/ 180] ولا يحسبن الذين كفروا [آل عمران/ 178] فإنّهما بالياء غير أنّ عاصما فتح السين وكسرها الكسائي. ولم يختلفوا في قوله: ولا تحسبن الذين قتلوا [آل عمران/ 169] أنها بالتاء.
قال أبو علي: قراءة ابن كثير وأبي عمرو، ولا يحسبن الذين كفروا* [آل عمران/ 178] ولا يحسبن الذين يبخلون [آل عمران/ 180] ولا يحسبن الذين يفرحون
[الحجة للقراء السبعة: 3/101]
[آل عمران/ 188] فلا يحسبنهم بضم الباء في يحسبنهم وكلّهنّ بالياء وكسر السين في كلّ القرآن.
[قال أبو علي]: الذين في هذه الآي في قراءتهما:
رفع بأنّه فاعل يحسب، وإذا كان الذي في الآي فاعلا اقتضى حسب مفعولين، لأنّها تتعدى إلى مفعولين، أو إلى مفعول يسد مسدّ المفعولين، وذلك إذا جرى في صلة ما يتعدى إليه ذكر الحديث والمحدّث عنه نحو: حسبت أنّ زيدا منطلق، وحسبت أن تقوم، فقوله: أنما نملي لهم خير لأنفسهم [آل عمران/ 178] قد سدّ مسدّ المفعولين اللذين يقتضيهما يحسبنّ. وكسر إنّ في قول من قرأ: يحسبن بالياء لا ينبغي، وقد قرئ فيما حكاه غير أحمد بن موسى. ووجه ذلك أنّ «إنّ» يتلقّى بها القسم كما يتلقّى بلام الابتداء، ويدخل كلّ واحد منهما على الابتداء والخبر فكسر إنّ بعد يحسبنّ، وعلّق عليها الحسبان كما يعلّق باللّام. فقال: لا يحسبن الذين كفروا إنما نملي [آل عمران/ 178] كما قال: لا يحسبن الذين كفروا للآخرة خير لهم. وما تحتمل ضربين أحدهما: أن تكون بمعنى الذي فيكون التقدير: لا يحسبنّ الذين كفروا أنّ الذي نمليه خير لأنفسهم، والآخر: أن يكون ما نملي بمنزلة الإملاء فيكون مصدرا، وإذا كان مصدرا، لم يقتض راجعا إليه. وقال أبو الحسن: المعنى: ولا يحسبنّ الذين كفروا أنّ ما نملي لهم ليزدادوا إثما، إنّما نملي لهم خير لأنفسهم. وأمّا قوله: ولا يحسبن الذين
[الحجة للقراء السبعة: 3/102]
يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم [آل عمران/ 180] فالذين يبخلون فاعل يحسبنّ والمفعول الأول محذوف من اللفظ لدلالة اللفظ عليه، وهو بمنزلة قولك: من كذب كان شرا له، أي:
الكذب، فكذلك: لا يحسبنّ الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله البخل هو خيرا لهم، فدخلت هو فصلا، لأنّ تقدّم يبخلون بمنزلة تقدّم البخل، فكأنّك قلت: لا يحسبنّ الذين يبخلون البخل هو خيرا لهم. فأمّا قوله: ولا يحسبن الذين يفرحون بما أتوا [آل عمران/ 188] فلا تحسبنهم فالذين في موضع رفع بأنّه فاعل يحسب، ولم توقع يحسبنّ على شيء. قال أبو الحسن لا يعجبني قراءة من قرأ الأولى بالياء، لأنّه لم يوقعه على شيء، ونرى أنّه لم يستحسن أن لا يعدّى حسبت، لأنّه قد جرى مجرى اليمين في نحو: علم الله لأفعلنّ.
ولقد علمت لتأتينّ منيتي.......
وظننت ليسبقنّني، وظنوا ما لهم من محيص [فصلت/ 48] فكما أنّ القسم لا يتكلّم به حتى يعلّق بالمقسم عليه، كذلك ظننت وعلمت، في هذا الباب.
وأيضا فإنّه قد جرى في كلامهم لغوا، وما جرى [في
[الحجة للقراء السبعة: 3/103]
كلامهم] لغوا لا يكون في حكم الجمل المفيدة، ومن ثمّ جاء نحو:
وما خلت أبقى بيننا من مودّة... عراض المذاكي المسنفات القلائصا
إنّما هو وما أبقى بيننا، وكذلك قال الخليل: تقول: ما رأيته يقول ذاك إلّا زيد، وما أظنّه يقول ذاك إلّا عمرو، فهذا يدلّك أنّك انتحيت على القول، ولم ترد أن تجعل زيدا موضع فعلك كضربت وقتلت. ولذلك لم يجر الشرط مجرى الجمل في نحو:
إن تفعل، لأنّ الشرط بمنزلة القسم، والجزاء بمنزلة المقسم عليه، ولذلك فصل بالشرط بين أمّا وجوابها في نحو وأما إن كان من أصحاب اليمين، فسلام لك [الواقعة/ 91] ولو كان بمنزلة الجمل لم يجز به الفصل. ووجه قول ابن كثير وأبي عمرو في أن لم يعدّيا حسبت إلى مفعوليه اللذين يقتضيهما أنّ يحسب في قوله: فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب [آل عمران/ 188] لمّا جعل بدلا من الأول،
[الحجة للقراء السبعة: 3/104]
وعدّي إلى مفعوليه استغنى بهما عن تعدية الأول إليهما، كما استغنى في قوله:
بأيّ كتاب أم بأيّة سنّة... ترى حبّهم عارا عليّ وتحسب
بتعدية أحد الفعلين إلى المفعولين عن تعدية الآخر إليهما فإن قلت: كيف يستقيم، تقدير البدل في قوله: لا يحسبن الذين يفرحون بما أتوا... فلا تحسبنهم بمفازة [آل عمران/ 188].
وقد دخلت الفاء بينهما ولا يدخل بين البدل والمبدل منه الفاء؟ فالقول أنّ الفاء زائدة، يدلّك على أنّها لا يجوز أن تكون التي تدخل على الخبر، أنّ ما قبل الفاء ليس بمبتدإ، فتكون الفاء خبره، ولا تكون العاطفة لأنّ المعنى: لا يحسبنّ الذين يفرحون بما أتوا أنفسهم بمفازة من العذاب. فإذا كان كذلك لم يجز تقدير العطف لأنّ الكلام لم يستقل بعد، فيستقيم فيه تقدير العطف.
فأمّا قوله: فلا يحسبنهم فإنّ فعل الفاعل الذي هو يحسبنّ تعدّى إلى ضميره، وحذفت واو الضمير لدخول النون
[الحجة للقراء السبعة: 3/105]
الثقيلة. فإن قلت: هلّا لم يحذف الواو من يحسبون، وأثبتها كما ثبتت في: تمودّ الثوب، وأ تحاجوني [الأنعام/ 80] ونحو ذلك، مما يثبت فيه التقاء الساكنين لما في الساكن الأوّل من زيادة المدّ التي تقوم مقام الحركة، فالقول فيه أنّه حذفت كما حذفت مع الخفيفة، ألا ترى أنّك لو قلت: لا يحسبن زيدا ذاهبا، لزمك الحذف، فأجرى الثقيلة مجرى الخفيفة لهذا. وقوله: بمفازة من العذاب في موضع المفعول الثاني وفيه ذكر للمفعول الأوّل. وفعل الفاعل في هذا الباب يتعدّى إلى ضمير نفسه، نحو:
ظننتني أخاه، لأنّ هذه الأفعال لمّا كانت تدخل على الابتداء والخبر أشبهت إنّ وأخواتها في دخولهنّ على الابتداء والخبر [كدخول هذه الأفعال عليهما وذلك قولك]: ظننتني ذاهبا، كما تقول:
إنّي ذاهب. ومما يدلّك على ذلك قبح دخول اليقين عليها، لو قلت: أظنّ نفسي تفعل كذا لم يحسن كما يحسن أظنّني فاعلا.
قال: وقرأ نافع وابن عامر: ولا يحسبن الذين كفروا ولا يحسبن الذين يبخلون [آل عمران/ 180].. ويفرحون [آل عمران/ 188] كلّ ذلك بالياء. فلا تحسبنهم بالتاء وفتح الباء.
[الحجة للقراء السبعة: 3/106]
قراءتهما في ذلك مثل قراءة ابن كثير وأبي عمرو، وقد مرّ القول فيها إلّا في قوله: فلا تحسبنهم بالتاء وفتح الباء.
والمفعولان اللذان يقتضيهما الحسبان في قوله: ولا يحسبن الذين يفرحون بما أتوا محذوفان، لدلالة ما ذكر من بعد عليهما، ولا يجوز البدل، كما جاز البدل في قراءة ابن كثير وأبي عمرو لاختلاف الفعلين باختلاف فاعليهما.
قال: وقرأ حمزة ولا تحسبن الذين كفروا ولا تحسبن الذين يفرحون فلا تحسبنهم بفتح الباء والسين وكل ذلك بالتاء.
قوله: الذين كفروا في موضع نصب بأنّه المفعول الأول. والمفعول الثاني في هذا الباب هو المفعول الأول في المعنى، فلا يجوز إذا فتح إنّ في قوله: ولا تحسبن الذين كفروا إن ما نملي لهم، لأنّ إملاءهم لا يكون إياهم. فإن قلت: فلم لا يجوز الفتح في أنّ، وتجعله بدلا من الذين كفروا كقوله: وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره [الكهف/ 63] وكما كان أنّ من قوله: وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم [الأنفال/ 7]. [بدلا من إحدى الطائفتين] قيل: لا يجوز ذلك لأنّك إذا أبدلت أنّ من الذين كفروا، كما أبدلت أنّ من إحدى الطائفتين لزمك أن تنصب خيرا على تقدير: لا تحسبنّ إملاء الذين كفروا خيرا لأنفسهم من حيث
[الحجة للقراء السبعة: 3/107]
كان المفعول الثاني: لتحسبنّ وقيل: إنّه لم ينصبه أحد. فإذا لم ينصب علمت أنّ البدل فيه لا يصح، فإذا لم يصح البدل [لم يجز فيه إلّا كسر إنّ] ولا تحسبن الذين كفروا إن ما نملي لهم خير لأنفسهم على أن تكون إنّ وخبرها في موضع المفعول الثاني من تحسبنّ. فأمّا قوله: لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا [آل عمران/ 188] فحذف المفعول الذي يقتضيه تحسبنّ، لأنّ ما يجيء من بعد من قوله: فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب يدلّ عليه، ويجوز أن تجعل تحسبنهم بدلا من تحسبن، كما جاز أن تجعل يحسبنهم بدلا من يحسبن الذين يفرحون في قراءة ابن كثير وأبي عمرو لاتفاق فعلي الفاعلين. وقد قدّمنا أنّ الفاء زائدة، والقول فيها أنّها لا تخلو من أن تكون للعطف، أو للجزاء، أو زائدة، فإن كانت للعطف فلا يخلو من أن تعطف جملة على جملة، أو مفردا على مفرد، وليس هذا موضع العطف، لأنّ الكلام لم يتمّ، ألا ترى أنّ المفعول الثاني لم يذكر بعد؟ ولا يجوز أيضا أن تكون للجزاء كالتي في قوله: وما بكم من نعمة فمن الله [النحل/ 53] ونحوها، لأنّ تلك تدخل على ما كان خبرا من الجمل، لأنّ أصلها أن تدخل في الجزاء، وهي جملة خبر، وليس ما دخلت عليه الفاء في الآية بجملة، إنّما هو فضلة، ألا ترى أنّ مفعولي حسبت فضلة؟ فإن قلت: إنّ أصلهما أن يكونا خبرا، فإنّ
[الحجة للقراء السبعة: 3/108]
ذلك الأصل قد زال بكونهما فضلة، كما زال في قولك: ليت الذي في الدار منطلق، عن أن يكون خبرا بدخول ليت، وكذلك قد زال بدخول حسبت عليهما أن يكون جملة، ويدلّك على ذلك أنّك تقول: حسبت زيدا اليوم منطلقا. فتفصل بينهما باليوم الذي هو ظرف حسبت، ولو كان الكلام باقيا على ما كان عليه قبل دخول الظنّ، لم يجز أن تفصل بينهما بأجنبي منهما، فإذا لم يجز أن تكون للعطف ولا للجزاء، ثبت أنّها زائدة قال: وإذا هلكت فعند ذلك فاجزعي قال: وقرأ عاصم والكسائي: كلّ ما في هذه السورة بالتاء إلّا حرفين: قوله: ولا يحسبن الذين يبخلون، ولا يحسبن الذين كفروا فإنّهما بالياء، غير أنّ عاصما فتح السين وكسرها الكسائي.
قد تقدّم القول في ولا يحسبن الذين يبخلون فأمّا قوله: ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم [آل عمران/ 178] فالوجه فتح أنّ لأنّها تسدّ مسدّ المفعولين، كما سدّ الفعل والفاعل مسدّهما لمّا جرى ذكرهما في الصلة في نحو قوله: أحسب الناس أن يتركوا [العنكبوت/ 29].
[الحجة للقراء السبعة: 3/109]
قال: ولم يختلفوا في قوله: ولا تحسبن الذين قتلوا [آل عمران/ 169] أنّها بالتاء قوله: تحسبن مسند إلى الفاعل المخاطب، والذين قتلوا المفعول الأول، والمفعول الثاني قوله: أمواتا. فقد استوفى الحسبان فاعله ومفعوليه). [الحجة للقراء السبعة: 3/110] (م)
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({لا تحسبن الّذين يفرحون بما أتوا ويحبّون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب} 188
قرأ عاصم وحمزة 4 والكسائيّ {لا تحسبن الّذين يفرحون} بالتّاء هؤلاء قوم من اليهود أظهروا لأصحاب محمّد صلى الله عليه أنهم معهم ليحمدوا وأضمروا خلاف ما أظهروا فقال الله لنبيه صلى الله عليه {لا تحسبن الّذين يفرحون بما أتوا ويحبّون أن يحمدوا بما لم يفعلوا} ثمّ كرر عليه لطول القصّة فقال {فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب} أي بمنجاة من النّار فأعلمه الله أمرهم وأعلمهم أنهم ليسوا بمفازة من العذاب
وقرأ الباقون (لا يحسبن) بالياء إن قيل أين مفعول (لا يحسبن) الجواب عنه من وجهين أحدهما أن {الّذين} في موضع نصب على قراءة من قرأ {تحسبن} بالتّاء ولم يذكر المفعول الثّاني لأنّه ذكره في قوله {فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب} وإنّما لم يذكر المفعول الثّاني في قوله {تحسبن الّذين} لأنّه كرر الفعل وتكرير الفعل ينوي به التوكيد للنّهي كأنّه قال لا تحسبن لا تحسبنهم كما تقول لا تقومن لا تقومن إلى ذلك
[حجة القراءات: 186]
والوجه الآخر أن يكون أراد لا تحسبن الّذين كفروا بمفازة من العذاب فيكون الخبر في قوله بمفازة ثمّ قال {فلا تحسبنهم} ويكون الخبر في الثّانية متروكا اكتفى بعلم المخاطب بموضعه
قرأ ابن كثير وأبو عمرو (فلا يحسبنهم) بالياء ورفع الباء والفعل للكفّار أي فلا يحسب الكفّار أنفسهم بمفازة من العذاب وإنّما أعيد يحسبنهم ثانية لأن معها الاسم والخبر وليس مع الفعل الأول الاسم والخبر فاجتزئ بالثّاني عن الأول
وقرأ الباقون {تحسبنهم} بالتّاء ونصب الباء). [حجة القراءات: 187]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (102- قوله: {ولا تحسبن الذين يفرحون} قرأه الكوفيون بالتاء، وقرأ الباقون بالياء.
103- وحجة من قرأ بالياء أنه أضاف الفعل إلى {الذين يفرحون} فـ «الذين» فاعلون، ولم يعد «يحسبن» إلى شيء، وقد كره ذلك الأخفش؛ لأن تعديته أعظم في الفائدة، لكن من قرأ «فلا يحسبنهم» بالياء، وقرأ: «لا يحسبن الذين يفرحون» بالياء أيضًا، يجوز أن يكون قد أبدل «فلا يحسبنهم» من «لا يحسبن الذين يفرحون»، وقد تعدى {فلا تحسبنهم} إلى مفعولين، فاستغنى بذلك عن تعدي «ولا يحسبن»؛ لأن المبدل منه قام مقامه في التعدي، ولا تمنع الفاء البدل؛ لأنها زائدة، ولأنها ليست العاطفة، وليست التي تدخل في جواب الشرط فهي زائدة، فأما من قرأ الثاني
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/367]
بالتاء والأول بالياء فلا يحسن فيه البدل؛ لاختلاف فاعلهما، ومجازه أنه لم يعد الفعل الأول إلى شيء، كما تقول: حسبت وعلمت وظننت، فتخبر أنه كان منك حسبان وعلم وظن، ولا تخبر على من وقع ذلك، فالكلام فيه فائدة، وإن لم تعده، لكن الفائدة مع التعدي أعظم وأبين، وحسن ترك تعدي الأول في هذا، لدلالة تعدي الثاني على ذلك، وهو: {فلا تحسبنهم بمفازة} وكأن مفعولي الأول حذفا لدلالة مفعولي الثاني على ذلك، وتقديره: لا يحسبن الذين يفرحون بما أوتوا، ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا، بمفازة من العذاب، فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب، ثم حذف الأول، لدلالة الثاني عليه.
104- وحجة من قرأ بالتاء أنه أضاف الفعل إلى النبي عليه السلام، فجرى على المخاطبة، و{الذين يفرحون} مفعول أول لـ «حسب»، وحذف الثاني، لدلالة ما بعده عليه، وهو قوله: {فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب}، ويجوز أن يكون المفعول الثاني قوله: {بمفازة من العذاب}، الذي بعد {تحسبنهم} يُراد به التقديم، ويكون مفعول {تحسبنهم} محذوفًا؛ لدلالة الأول عليه، كما تقول: ظننت زيدًا ذاهبًا، وظننت عمرًا، ويحسن أن يكون {تحسبنهم} في قراءة من قرأه بالتاء، بدلًا من {لا تحسبن} في قراءة من قرأه بالتاء، لاتفاق الفاعلين، والفاء زادة على ما ذكرنا، فإذا حسن البدل فمفعولا {تحسبنهم} هما مفعولا {لا تحسبن} لأن المبدل منه كأنه لم يذكر، فأما من قرأ {لا تحسبن} بالتاء قرأ «فلا يحسبنهم» بالياء فلا يحسن فيه البدل، لاختلاف الفاعلين، ولكن لابد من حذف فمفعولي «لا يحسبن» لدلالة مفعولي {فلا تحسبنهم} على ذلك، ويكون {بمفازة من العذاب} هو المفعول الثاني، لقوله: {لا يحسبن الذين يفرحون} ويكون المفعول الثاني لقوله: {فلا تحسبنهم} محذوفًا؛ لدلالة الأول عليه). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/368]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (112- قوله: {فلا تحسبنهم بمفازة} قرأ ابن كثير وأبو عمرو بالياء وضم الباء، وقرأ الباقون بالتاء وفتح الباء.
113- وحجة من قرأ بالتاء وفتح الباء أنه جعل الفعل خطابًا للنبي عليه السلام، لأن القرآن عليه نزل، فهو المخاطب بأكثره، فخوطب بذلك، وعدّى الفعل إلى ضمير {الذين يفرحون} وهم المفعول الأول و{بمفازة}
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/371]
الثاني، و{تحسبنهم} بدل من «تحسبن» الذي قبله إذا قرئا جميعًا بالتاء والياء، وقد تقدم ذكر هذا، وتقدم ذكر فتح السين في «نحسب» والاختلاف في ذلك.
114- وحجة من قرأ بالياء، وضم الباء أنه أضاف الفعل إلى {الذين يفرحون} لتقدم ذكرهم، وعدّى فعلهم إلى نفسهم، فهو المفعول الأول و{بمفازة} المفعول الثاني، و«يحسبنهم» بدل من «يحسبن» إذا قرئا جميعًا بالياء، وقد تقدم ذكر هذا، وحسن تعدي فعل الفاعل إلى نفسه، كما تقول: ظننتني أخاك، وإنما يجوز هذا في أفعال الظن وأخواته، ولا يجوز في غير ذلك عند البصريينن لو قلت: ضربتني وشتمتني، فتعدل الفعل إلى نفسك، لم يجز، إنما هذا هذا في هذه الأفعال، لأنها داخلة على الابتداء والخبر، كان وأخواتها، ولما كانت «أن» يتصل بها ضمير الفاعل في المعنى، فيتعدّى إليه، جاز ذلك في هذه الأفعال لم يجز تعدي الفعل إلى المفعول، وهو الفاعل، لو قلت: ظن نفسي ذاهبًا لم يجز، كما لا يجوز مع «إن» لو قلت: إن نفسي، لم يجز، وإن أنا ذاهب، لم يجز، وضمت الباء في «تحسبنهم» لتدل على الواو المحذوفة التي للجمع، التي حذفت لسكونها وسكون أول المشدد، وقد أثبتوا الواو مع المشدد في: {أتحاجوني} «الأنعام 80» وقامت المدة مقام الحركة، وإنما لم تثبت في «تحسبنهم» وتمدّ للتشديد، لأنها قد حذفت مع النون الخفيفة، في قولك: لا تحسبن زيدًا قائمًا، فلما حذفت الواو مع الخفيفة، ولم تمد، كان حذفها مع المشدد لازمًا، وحسن ذلك، لئلا يختلف الفعل، وإنما لم تحذف الواو في «أتحاجوني» في قراءة من شدد، كما حذفت في «تحسبنهم» لأن النون في «أتحاجوني» أصلها الحركة، والإسكان عارض، دخل للإدغام، وليست
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/372]
كذلك نون «تحسبنهم» أصل الأول السكون لا الحركة، والقراءة بالتاء وفتح الباء أحب إلي، لما ذكرت من العلة، ولأن أكثر القراء عليه). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/373]
قوله تعالى: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189)}
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين