العودة   جمهرة العلوم > قسم التفسير > جمهرة التفاسير > تفسير سورة الأعراف

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 15 شعبان 1435هـ/13-06-2014م, 03:58 PM
أم إسماعيل أم إسماعيل غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Dec 2010
المشاركات: 4,914
افتراضي

تفاسير القرن الخامس الهجري

....


رد مع اقتباس
  #2  
قديم 15 شعبان 1435هـ/13-06-2014م, 04:04 PM
أم إسماعيل أم إسماعيل غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Dec 2010
المشاركات: 4,914
افتراضي

تفاسير القرن السادس الهجري

تفسير قوله تعالى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155) }

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {واختار موسى قومه ... الآية}، معنى هذه الآية أن موسى عليه السلام اختار من قومه هذه العدة ليذهب بهم إلى موضع عبادة وابتهال ودعاء ليكون منه ومنهم اعتذار إلى الله عز وجل من خطأ بني إسرائيل في عبادة العجل وطلب لكمال العفو عمن بقي منهم، وروي عن علي بن أبي طالب أن اختيارهم إنما كان بسبب قول بني إسرائيل أن موسى قتل هارون حين ذهب معه ولم يرجع، فاختار هؤلاء ليذهبوا فيكلمهم هارون بأنه مات بأجله، وقوله: {لميقاتنا} يؤيد القول الأول وينافر هذا القول لأنها تقتضي أن ذلك كان عن توقيت من الله عز وجل وعدة في الوقت الموضع، وتقدير الكلام: واختار موسى من قومه، فلما انحذف الخافض تعدى الفعل فنصب، وهذا كثير في كلام العرب.
واختلف العلماء في سبب الرّجفة التي حلت بهم، فقيل كانت عقوبة لهم على سكوتهم وإغضائهم على عبادة العجل، وقيل: كانت على عبادتهم العجل بأنفسهم وخفي ذلك عن موسى في وقت الاختيار حتى أعلمه الله، قاله السدي، وقيل: كانت عقوبة لهم لأنهم لما دنوا وعلموا أن موسى يسمع كلام الله قالوا له: أرنا ربك فأخذتهم الرجفة، وقيل كانت عقوبة لتشططهم في الدعاء بأن قالوا اللهم أعطنا ما لم تعطه أحدا قبلنا ولا تعطيه أحدا بعدنا، فأخذتهم الرجفة، وقيل: إنما أخذتهم لما سمعوا كلام هارون وهو ميت، وذلك أن موسى وهارون ذهبا إلى التعبد أو نحوه فمات هارون فدفنه موسى وجاء فقالت له بنو إسرائيل: أين هارون؟ فقال: مات، فقالوا بل أنت قتلته لأنك حسدتنا على حسن خلقه وعشرته، فاختار السبعين ليمضوا معه حتى يروا برهان ما قال لهم، فلما وصلوا قال له موسى يا هارون أقتلت أم مت؟ فناداه من القبر بل مت فأخذت القوم الرجفة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وروي أنهم ماتوا في رجفتهم هذه، ويحتمل أن كانت كالإغماء ونحوه، والرّجفة الاهتزاز والتقلقل للهول العظيم، فلما رأى موسى ذلك أسف عليهم وعلم أن أمر بني إسرائيل سيتشعب عليه إذا لم يأت بالقوم فجعل يستعطف ربه أي رب لو أهلكتهم قبل هذه الحال وإياي لكان أحق عليّ، وهذا وقت هلاكهم فيه مفسد على مؤذلي، ثم استفهم على جهة الرغبة والتضرع والتذلل، ويحتمل قوله: ربّ لو شئت أهلكتهم من قبل وإيّاي أن يريد وقت إغضائهم على عبادة العجل أي وقت عبادتهم على القول بذلك وفي نفسه هو وقت قتله القبطي، أي فأنت قد سترت وعفوت حينئذ فكيف الآن إذ رجوعي دونهم فساد لبني إسرائيل، فمنحى الكلام على هذا محض استعطاف، وعلى التأويل الأول منحاه الإدلاء بالحجة في صيغة استعطاف، وإذا قلنا إن سبب «الرجفة» كان عبادة العجل كان الضمير في قوله: أتهلكنا له وللسبعين، والسّفهاء إشارة إلى العبدة من بني إسرائيل، وكذلك إذا كان سببها قول بني إسرائيل له قتلت هارون، وإذا كان سبب الرجفة طلبهم الرؤية وتشططهم في الدعاء أو عبادتهم بأنفسهم العجل فالضمير في قوله: أتهلكنا يريد به نفسه وبني إسرائيل، أي بالتفرق والكفر والعصيان يكون هلاكهم، ويكون قوله: السّفهاء إشارة إلى السبعين، وروي أن السبعين لم يكن فيهم من زاد على الأربعين ولا من قصر عن العشرين، وروي عن علي بن أبي طالب أنهم أحيوا وجعلوا أنبياء كلهم، وقالت فرقة: إن موسى عليه السلام لما أعلمه الله عز وجل أن السبعين عبدوا العجل تعجب وقال: إن هي إلّا فتنتك تضلّ بها من تشاء أي الأمور بيدك تفعل ما تريد، وقيل: إن الله تعالى لما أعلم موسى بعبادة بني إسرائيل العجل وبصفته قال موسى: أي رب ومن أخاره؟ قال أنا، قال موسى: فأنت أضللتهم إن هي إلا فتنتك ويحتمل أن يشير بها إلى قولهم: أرنا الله إذ كانت فتنة من الله أوجبت الرجفة، وفي هذه الآية رد على المعتزلة، وفاغفر معناه استر).[المحرر الوجيز: 4/ 56-58]
تفسير قوله تعالى: {وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) }

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {واكتب لنا في هذه الدّنيا حسنةً وفي الآخرة إنّا هدنا إليك قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كلّ شيءٍ فسأكتبها للّذين يتّقون ويؤتون الزّكاة والّذين هم بآياتنا يؤمنون (156)}
اكتب معناه أثبت واقض، والكتب مستعمل في ما يخلد، وحسنةً لفظ عام في كل ما يحسن في الدنيا من عافية وغنى وطاعة لله تعالى وغير ذلك وحسنة الآخرة الجنة لا حسنة دونها ولا مرمى وراءها، وهدنا بضم الهاء معناه تبنا، وقرأ أبو وجزة «هدنا» بكسر الهاء ومعناه حركنا أنفسنا وجذبناها لطاعتك، وهو مأخوذ من هاد يهيد إذا حرك، وقوله تعالى: قال عذابي أصيب به من أشاء الآية، قال الله عز وجل: إن الرجفة التي أنزلت بالقوم هي عذابي أصيب به من شئت ثم أخبر عن رحمته، ويحتمل وهو الأظهر أن الكلام قصد الخبر عن عذابه وعن رحمته من أول ما ابتدأ، ويندرج أمر أصحاب الرجفة في عموم قوله عند عذابي أصيب به من أشاء وقرأ الحسن وطاوس وعمرو بن فائد «من أساء» من الإساءة أي من عمل غير صالح، وللمعتزلة بهذه القراءة تعلق من وجهين: أحدهما إنفاذ الوعيد، والآخر خلق المرء أفعاله وأن أساء لا فعل فيه لله، وهذان التعلقان فيهما احتمال ينفصل عنه كما ينفصل عن سائر الظواهر إلا أن القراءة أطنبوا في التحفظ من هذه القراءة، وقال أبو عمرو الداني: لا تصح هذه القراءة عن الحسن وطاوس، وعمرو بن فائد رجل سوء، وذكر أبو حاتم أن سفيان بن عيينة قرأها مرة واستحسنها فقام إليه عبد الرحمن المقبري وصاح به وأسمعه فقال سفيان: لم أدر ولم أفطن لما يقول أهل البدع وهذا إفراط من المقربين وحملهم على ذلك شحهم على الدين وظنهم أن الانفصال عن تعلق المعتزلة متعذر.
ثم وصف الله -تعالى- رحمته بأنها وسعت كلّ شيءٍ فقال بعض العلماء: هو عموم في الرحمة وخصوص في قوله كلّ شيءٍ والمراد من قد سبق في علم الله أن يرحمه دون من سواهم، وقال بعضهم: هو عموم في رحمة الدنيا لأن الكافر والمؤمن والحيوان كله متقلب في رحمة الله الدنياوية، وقالت فرقة: قوله: {ورحمتي} يراد به التوبة وهي خاصة على هذا في الرحمة وفي الأشياء لأن المراد من قد تقع منه التوبة، وقال نوف البكالي: إن إبليس لما سمع قول الله تعالى: {ورحمتي وسعت كلّ شيءٍ} طمع في رحمة الله فلما سمع فسأكتبها للّذين يتّقون ويؤتون الزّكاة يئس إبليس وبقيت اليهود والنصارى، فلما تمادت الصفة تبين أن المراد أمة محمد صلى الله عليه وسلم ويئس اليهود والنصارى من الآية، وقال نحوه قتادة،
وقوله: {فسأكتبها} أي أقدرها وأقضيها، وقال نوف البكالي: إن موسى عليه السلام قال يا رب جعلت وفادتي لأمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، وقال نوف البكالي: فاحمدوا الله الذي جعل وفادة بني إسرائيل لكم، وقوله: {يتّقون} في هذه الآية قالت فرقة: معناه يتقون الشرك، وقالت فرقة: يتقون المعاصي.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ومن قال: الشرك لا غير خرج إلى قول المرجئة، ويرد عليه من الآية شرط الأعمال بقوله: {ويؤتون الزّكاة}، ومن قال المعاصي ولا بد خرج إلى قول المعتزلة، والصواب بأن تكون اللفظة عامة ولكن ليس بأن نقول ولا بد من اتقاء المعاصي بل بأن نقول مع أن مواقع المعاصي في مشيئة الله تعالى، ومعنى: يتّقون يجعلون بينهم وبين المتقى وقاية وحجابا، فذكر الله تعالى الرتبة العالية ليتسابق السامعون إليها، وقوله: ويؤتون الزّكاة الظاهر من قوله يؤتون أنها الزكاة المختصة بالمال وخصها هنا بالذكر تشريفا لها وجعلها مثالا لجميع الطاعات، وقال ابن عباس فيما روي عنه: ويؤتون الأعمال التي يزكون بها أنفسهم). [المحرر الوجيز: 4/ 58-60]
تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) }

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {الّذين يتّبعون الرّسول النّبيّ الأمّيّ الّذي يجدونه مكتوباً عندهم في التّوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحلّ لهم الطّيّبات ويحرّم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال الّتي كانت عليهم فالّذين آمنوا به وعزّروه ونصروه واتّبعوا النّور الّذي أنزل معه أولئك هم المفلحون (157)}
هذه الألفاظ أخرجت اليهود والنصارى من الاشتراك الذي يظهر في قوله: {فسأكتبها للّذين يتّقون} وخلصت هذه العدة لأمة محمد -صلى الله عليه وسلم- قاله ابن عباس وابن جبير وغيرهما، ويتّبعون معناه في شرعه ودينه، والرّسول والنّبيّ اسمان لمعنيين فإن الرسول، أخص من النبي هذا في الآدميين لاشتراك الملك في لفظة الرسول،
والنّبيّ مأخوذ من النبأ، وقيل لما كان طريقا إلى رحمة الله تعالى وسببا شبه بالنبيء الذي هو الطريق، وأنشدوا:
لأصبح رتما دقاق الحصى ....... مكان النبيء من الكاثب
وأصله الهمز ولكنه خفف كذا قال سيبويه وذلك كتخفيفهم خابية وهي من خبأ، واستعمل تخفيفه حتى قد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تنبروا اسمي، وقدم الرسول اهتماما بمعنى الرسالة عند المخاطبين بالقرآن وإلا فمعنى النبوءة هو المتقدم وكذلك رد رسول الله صلى الله عليه وسلم على البراء بن عازب حين قال آمنت بكتابك الذي أنزلت وبرسولك الذي أرسلت، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وبنبيك الذي أرسلت» ليترتب الكلام كما ترتب الأمر في نفسه، لأنه نبئ ثم أرسل، وأيضا في العبارة المردودة تكرار الرسالة وهو معنى واحد، و «الأمي» بضم الهمزة قيل نسب إلى أم القرى وهي مكة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: واللفظة على هذا مختصة بالنبي صلى الله عليه وسلم وغير مضمنة معنى عدم الكتابة، وقيل هو منسوب لعدمه الكتابة والحساب إلى الأم، أي هو على حال الصدر عن الأم في عدم الكتابة، وقالت فرقة هو منسوب إلى الأمة، وهذا أيضا مضمن عدم الكتابة لأن الأمة بجملتها غير كاتبة حتى تحدث فيها الكتابة كسائر الصنائع، وقرأ بعض القراء فيما ذكر أبو حاتم «الأمي» بفتح الهمزة وهو منسوب إلى الأم وهو القصد، أي لأن هذا النبي مقصد للناس وموضع أم يؤمونه بأفعالهم وتشرعهم، قال ابن جني:
وتحتمل هذه القراءة أن يريد الأمي فغير تغيير النسب.
والضمير في قوله: {يجدونه} لبني إسرائيل والهاء منه لمحمد صلى الله عليه وسلم، والمراد صفته ونعته.
وروي أن الله عز وجل قال لموسى قل لبني إسرائيل أجعل لكم الأرض مسجدا وطهورا وأجعل السكينة معكم في بيوتكم وأجعلكم تقرءون التوراة عن ظهر قلوبكم، فأخبر موسى بني إسرائيل فقالوا: إنما نريد أن نصلي في الكنائس وأن تكون السكينة كما كانت في التابوت وأن لا نقرأ التوراة إلا نظرا، فقيل لهم فنكتبها للذين يتقون يعني أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وروي عن عبد الله بن عمر، وفي البخاري أو غيره أن في التوراة من صفة محمد صلى الله عليه وسلم: «يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للأميين أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح ولن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله فنقيم به قلوبا غلفا وآذانا صما وأعينا عميا». وفي البخاري «فنفتح به عيونا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا». ونص كعب الأحبار نحو هذه الألفاظ إلا أنه قال: «قلوبا غلفا وآذانا صموما»، قال الطبري: وهي لغة حميرية وقد رويت «غلوفيا وصموميا».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وأظن هذا وهما وعجمة.
وقوله تعالى: {يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر} يحتمل أن يريد ابتداء وصف الله تعالى النبي -صلى الله عليه وسلم- ويحتمل أن يجعله متعلقا ب يجدونه في موضع الحال على تجوز، أي يجدونه في التوراة أمرا بشرط وجوده فالمعنى الأول لا يقتضي أنهم علموا من التوراة أنه يأمرهم وينهاهم ويحل ويحرم، والمعنى الثاني يقتضي ذلك فالمعنى الثاني على هذا ذم لهم، ونحا إلى هذا أبو إسحاق الزجّاج، وقال أبو علي الفارسي في الأغفال يأمرهم عندي تفسير لما كتب من ذكره كما أن قوله تعالى: {خلقه من ترابٍ} [آل عمران: 59] تفسير للمثل، ولا يجوز أن يكون حالا من الضمير في يجدونه لأن الضمير للذكر والاسم، والذكر والاسم لا يأمران.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وما قدمته من التجوز وشرط الوجود يقرب ما منع منه أبو علي، وانظر، وبالمعروف ما عرف الشرع، وكل معروف من جهة المروءة فهو معروف بالشرع، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «بعثت لأتمم محاسن الأخلاق» والمنكر مقابله.
والطّيّبات قال فيها بعض المفسرين إنها إشارة إلى البحيرة ونحوها، ومذهب مالك رحمه الله أنها المحللات فكأنه وصفها بالطيب إذ هي لفظة تتضمن مدحا وتشريفا، وبحسب هذا يقول في الخبائث إنها المحرمات وكذلك قال ابن عباس «الخبائث» هي لحم الخنزير والربا وغيره، وعلى هذا حلل مالك المتقذرات كالحيات والخنافس والعقارب ونحوها، ومذهب الشافعي رحمه الله أن الطيبات هي من جهة الطعم إلا أن اللفظة عنده ليست على عمومها لأن عمومها بهذا الوجه من الطعم يقتضي تحليل الخمر والخنزير بل يراها مختصة فيما حلله الشرع، ويرى «الخبائث» لفظا عاما في المحرمات بالشرع وفي المتقذرات فيحرم العقارب والخنافس والوزغ وما جرى هذا المجرى، والناس على هذين القولين إلا أن في تعيين الخبائث اختلافا ليس هذا موضع تقصيه.
وقوله تعالى: {ويضع عنهم إصرهم ... الآية}، يضع كأن قياسه أن يكون «يضع» بكسر الضاد لكن رده حرف الحلق إلى فتح الضاد، قال أبو حاتم وأدغم أبو عمرو «ويضع عنهم» العين في العين وأشمها الرفع وأشبعها أبو جعفر وشيبة ونافع، وطلحة ويذهب عنهم إصرهم، و «الإصر» الثقل وبه فسر هنا قتادة وابن جبير ومجاهد، و «الإصر» أيضا العهد وبه فسر ابن عباس والضحاك والحسن وغيرهم، وقد جمعت هذه الآية المعنيين فإن بني إسرائيل قد كان أخذ عليهم عهد أن يقوموا بأعمال ثقال فوضع عنهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ذلك العهد وثقل تلك الأعمال، وحكى أبو حاتم عن ابن جبير، قال: «الإصر» شدة العبادة.
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي والناس «إصرهم» وقرأ ابن عامر وحده وأيوب السختياني ويعلى بن حكيم وأبو سراج الهذلي وأبو جعفر «آصارهم» بالجمع لما كانت الأعمال كثيرة كانت أثقالها متغايرة، ومن وحد الإصر فإنما هو مفرد اسم جنس يراد به الجمع، قال أبو حاتم: في كتاب بعض العلماء «أصرهم» واحد مفتوح الهمزة عن نافع وعيسى والزيات وذلك غلط، وذكرها مكي عن أبي بكر عن عاصم وقال: هي لغة.
والأغلال الّتي كانت عليهم عبارة مستعارة أيضا لتلك الأثقال كقطع الجلد من أثر البول، وأن لا دية ولا بد من قتل للقاتل، وترك الأشغال يوم السبت، فإنه روي أن موسى عليه السلام رأى يوم السبت رجلا يحمل قصبا فضرب عنقه، هذا قول جمهور المفسرين، وهذا مثل قولك طوق فلان كذا إذا ألزمه، ومنه قول الشاعر: [مجزوء الكامل]
اذهب بها اذهب بها ....... طوقتها طوق الحمامه
أي لزمك عارها.
ومن هذا المعنى قول الهذلي:
فليس كعهد الدار يا أم مالك ....... ولكن أحاطت بالرقاب السلاسل

وعاد الفتى كالكهل ليس بقابل ....... سوى الحق شيئا فاستراح العواذل
يريد أوامر الإسلام ولوازم الإيمان الذي قيد الفتك كما قال صلى الله عليه وسلم، وقال ابن زيد: إنما المراد هنا ب {الأغلال}؛ قول الله -عز وجل- في اليهود: {غلّت أيديهم} [المائدة: 64] فمن آمن بمحمد -صلى الله عليه وسلم- زالت عنه الدعوة وتغليلها.
ثم أخبر تعالى عن حال المؤمنين فقال: فالّذين آمنوا به وعزّروه ونصروه وقرأ الجحدري وسليمان التيمي وقتادة وعيسى «عزروه» بالتخفيف، وجمهور الناس على التشديد في الزاي، ومعناه في القراءتين وقروه، والتعزير والنصر مشاهدة خاصة للصحابة، واتباع النور يشترك فيه معهم المؤمنون إلى يوم القيامة، والنّور كناية عن جملة الشرع، وقوله: {معه} فيه حذف مضاف والتقدير مع بعثه أو نبوته أو نحو هذا، وشبه الشرع والهدى بالنور إذ القلوب تستضيء به كما يستضيء البصر بالنور، والمفلحون معناه الفائزون ببغيتهم، وهذا يعم معاني الفلاح فإن من بقي فقد فاز ببغيته). [المحرر الوجيز: 4/ 60-65]


رد مع اقتباس
  #3  
قديم 15 شعبان 1435هـ/13-06-2014م, 04:05 PM
أم إسماعيل أم إسماعيل غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Dec 2010
المشاركات: 4,914
افتراضي

تفاسير القرن السابع الهجري

....


رد مع اقتباس
  #4  
قديم 15 شعبان 1435هـ/13-06-2014م, 04:12 PM
أم إسماعيل أم إسماعيل غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Dec 2010
المشاركات: 4,914
افتراضي

تفاسير القرن الثامن الهجري

تفسير قوله تعالى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا فلمّا أخذتهم الرّجفة قال ربّ لو شئت أهلكتهم من قبل وإيّاي أتهلكنا بما فعل السّفهاء منّا إن هي إلا فتنتك تضلّ بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت وليّنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين (155) واكتب لنا في هذه الدّنيا حسنةً وفي الآخرة إنّا هدنا إليك قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كلّ شيءٍ فسأكتبها للّذين يتّقون ويؤتون الزّكاة والّذين هم بآياتنا يؤمنون (156)}
قال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ في تفسير هذه الآية: كان اللّه أمره أن يختار من قومه سبعين رجلًا فاختار سبعين رجلًا فبرز بهم ليدعوا ربّهم، فكان فيما دعوا اللّه قالوا: اللّهمّ أعطنا ما لم تعطه أحدًا قبلنا ولا تعطه أحدًا بعدنا فكره اللّه ذلك من دعائهم، فأخذتهم الرجفة، قال موسى: {ربّ لو شئت أهلكتهم من قبل وإيّاي} الآية.
وقال السّدّي: إنّ اللّه أمر موسى أن يأتيه في ناسٍ من بني إسرائيل، يعتذرون إليه من عبادة العجل، ووعدهم موعدًا، فاختار موسى قومه سبعين رجلًا على عينه، ثمّ ذهب بهم ليعتذروا. فلمّا أتوا ذلك المكان قالوا: لن نؤمن لك يا موسى حتّى نرى اللّه جهرةً، فإنّك قد كلّمته، فأرناه. فأخذتهم الصّاعقة فماتوا، فقام موسى يبكي ويدعو اللّه ويقول: ربّ، ماذا أقول لبني إسرائيل إذا لقيتهم وقد أهلكت خيارهم؟ {ربّ لو شئت أهلكتهم من قبل وإيّاي}
وقال محمّد بن إسحاق: اختار موسى من بني إسرائيل سبعين رجلًا الخيّر فالخيّر، وقال: انطلقوا إلى اللّه فتوبوا إليه ممّا صنعتم، وسلوه التّوبة على من تركتم وراءكم من قومكم، صوموا وتطهّروا، وطهّروا ثيابكم. فخرج بهم إلى طور سيناء، لميقاتٍ وقّته له ربّه، وكان لا يأتيه إلّا بإذنٍ منه وعلمٍ -فقال له السّبعون -فيما ذكر لي -حين صنعوا ما أمرهم به، وخرجوا معه للقاء ربّه، [فقالوا] لموسى: اطلب لنا نسمع كلام ربّنا. فقال: أفعل. فلمّا دنا موسى من الجبل، وقع عليه عمود الغمام، حتّى تغشّى الجبل كلّه. ودنا موسى فدخل فيه، وقال للقوم: ادنوا. وكان موسى إذا كلّمه اللّه وقع على جبهة موسى نورٌ ساطعٌ، لا يستطيع أحدٌ من بني آدم أن ينظر إليه. فضرب دونه بالحجاب. ودنا القوم، حتّى إذا دخلوا وقعوا سجودا فسمعوه وهو يكلّم موسى، يأمره وينهاه: افعل، ولا تفعل. فلمّا فرغ إليه من أمره، انكشف عن موسى الغمام، فأقبل إليهم، فقالوا لموسى: لن نؤمن لك حتّى نرى اللّه جهرةً. فأخذتهم الرّجفة -وهي الصّاعقة -فافتلتت أرواحهم، فماتوا جميعًا. فقام موسى يناشد ربّه ويدعوه ويرغب إليه، ويقول: {ربّ لو شئت أهلكتهم من قبل وإيّاي} قد سفهوا، أفنهلك من ورائي من بني إسرائيل.
وقال سفيان الثّوريّ: حدّثني أبو إسحاق، عن عمارة بن عبدٍ السّلولي، عن عليّ بن أبي طالبٍ، رضي اللّه عنه، قال: «
انطلق موسى وهارون وشبّر وشبير، فانطلقوا إلى سفح جبل، فنام هارون على سريرٍ، فتوفّاه اللّه، عزّ وجلّ. فلمّا رجع موسى إلى بني إسرائيل قالوا له: أين هارون؟ قال: توفّاه اللّه، عزّ وجلّ. قالوا له: أنت قتلته، حسدتنا على خلقه ولينه -أو كلمةٍ نحوها -قال: فاختاروا من شئتم. قال: فاختاروا سبعين رجلًا. قال: فذلك قوله تعالى: {واختار موسى قومه سبعين رجلا} فلمّا انتهوا إليه قالوا: يا هارون، من قتلك؟ قال: ما قتلني أحدٌ، ولكن توفّاني اللّه. قالوا: يا موسى، لن تعصى بعد اليوم. قال: فأخذتهم الرّجفة. قال: فجعل موسى، عليه السّلام، يرجع يمينًا وشمالًا وقال: يا {ربّ لو شئت أهلكتهم من قبل وإيّاي أتهلكنا بما فعل السّفهاء منّا إن هي إلا فتنتك تضلّ بها من تشاء وتهدي من تشاء} قال: فأحياهم اللّه وجعلهم أنبياء كلّهم».
هذا أثرٌ غريبٌ جدًّا، وعمارة بن عبدٍ هذا لا أعرفه. وقد رواه شعبة، عن أبي إسحاق عن رجلٍ من بني سلول عن عليٍّ، فذكره.
وقال ابن عبّاسٍ ومجاهدٌ وقتادة وابن جريج: إنّما أخذتهم الرّجفة لأنّهم لم يزايلوا قومهم في عبادتهم العجل، ولا نهوهم، ويتوجّه هذا القول بقول موسى: {أتهلكنا بما فعل السّفهاء منّا}.
وقوله: {إن هي إلا فتنتك} أي: ابتلاؤك واختبارك وامتحانك. قاله ابن عبّاسٍ، وسعيد بن جبيرٍ، وأبو العالية، وربيع بن أنسٍ، وغير واحدٍ من علماء السّلف والخلف. ولا معنى له غير ذلك؛ يقول: إن الأمر إلّا أمرك، وإن الحكم إلّا لك، فما شئت كان، تضلّ من تشاء، وتهدي من تشاء، ولا هادي لمن أضللت، ولا مضل لمن هديت، ولا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت، فالملك كلّه لك، والحكم كلّه لك، لك الخلق والأمر.
وقوله: {أنت وليّنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين} الغفر هو: السّتر، وترك المؤاخذة بالذّنب، والرّحمة إذا قرنت مع الغفر، يراد بها ألّا يوقعه في مثله في المستقبل، {وأنت خير الغافرين} أي: لا يغفر الذّنوب إلّا أنت). [تفسير القرآن العظيم: 3/ 479-481]

تفسير قوله تعالى: {وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({واكتب لنا في هذه الدّنيا حسنةً وفي الآخرة} هناك الفصل الأوّل من الدّعاء دفع المحذور، وهذا لتحصيل المقصود {واكتب لنا في هذه الدّنيا حسنةً وفي الآخرة} أي: أوجب لنا وأثبت لنا فيهما حسنةً، وقد تقدّم تفسير ذلك في سورة البقرة. [الآية:201]
{إنّا هدنا إليك} أي: تبنا ورجعنا وأنبنا إليك. قاله ابن عبّاسٍ، وسعيد بن جبير، ومجاهدٌ، وأبو العالية، والضّحّاك، وإبراهيم التّيميّ، والسّدّي، وقتادة، وغير واحدٍ. وهو كذلك لغة.
وقال ابن جريرٍ: حدّثنا ابن وكيع، حدّثنا أبي، عن شريكٍ، عن جابرٍ، عن عبد اللّه بن نجيّ عن عليٍّ [رضي اللّه عنه] قال:
«إنّما سمّيت اليهود لأنّهم قالوا: {إنّا هدنا إليك}»
جابرٌ -هو ابن يزيد الجعفي -ضعيفٌ.
قال تعالى مجيبًا لموسى في قوله: {إن هي إلا فتنتك تضلّ بها من تشاء وتهدي من تشاء} الآية: {عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كلّ شيءٍ فسأكتبها للّذين يتّقون} أي: أفعل ما أشاء، وأحكم ما أريد، ولي الحكمة والعدل في كلّ ذلك، سبحانه لا إله إلّا هو.
وقوله تعالى: {ورحمتي وسعت كلّ شيءٍ} آيةٌ عظيمة الشّمول والعموم، كقوله إخبارًا عن حملة العرش ومن حوله أنّهم يقولون: {ربّنا وسعت كلّ شيءٍ رحمةً وعلمًا} [غافرٍ: 7]
وقال الإمام أحمد: حدّثنا عبد الصّمد، حدّثنا أبي، حدّثنا الجريري، عن أبي عبد اللّه الجشمي، حدّثنا جندب -هو ابن عبد اللّه البجلي، رضي اللّه عنه -قال: جاء أعرابيٌّ فأناخ راحلته ثمّ عقلها ثمّ صلّى خلف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم. فلمّا صلّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أتى راحلته فأطلق عقالها، ثمّ ركبها، ثمّ نادى: اللّهمّ، ارحمني ومحمّدًا، ولا تشرك في رحمتنا أحدًا. فقال رسول اللّه -صلّى اللّه عليه وسلّم-:
«أتقولون هذا أضلّ أم بعيره؟ ألم تسمعوا ما قال؟» قالوا: بلى. قال: «لقد حظرت رحمةً واسعةً؛ إن الله، عز وجلّ، خلق مائة رحمةٍ، فأنزل رحمةً واحدةً يتعاطف بها الخلق؛ جنّها وإنسها وبهائمها، وأخّر عنده تسعًا وتسعين رحمةً، أتقولون هو أضلّ أم بعيره؟».
رواه أبو داود عن عليّ بن نصرٍ، عن عبد الصّمد بن عبد الوارث، به.
وقال الإمام أحمد أيضًا: حدّثنا يحيى بن سعيدٍ عن سليمان، عن أبي عثمان، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال:
«إن للّه عزّ وجلّ، مائة رحمةٍ، فمنها رحمةٌ يتراحم بها الخلق، وبها تعطف الوحوش على أولادها، وأخّر تسعًا وتسعين إلى يوم القيامة».
تفرّد بإخراجه مسلمٌ، فرواه من حديث سليمان -هو ابن طرخان -وداود بن أبي هندٍ كلاهما، عن أبي عثمان -واسمه عبد الرّحمن بن ملٍّ -عن سلمان، هو الفارسيّ، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، به
وقال الإمام أحمد: حدّثنا عفّان، حدّثنا حمّاد، عن عاصم بن بهدلة، عن أبي صالحٍ، عن أبي هريرة؛ أنّ النّبيّ -صلّى اللّه عليه وسلّم- قال:
«للّه مائة رحمةٍ، عنده تسعةٌ وتسعون، وجعل عندكم واحدةً تتراحمون بها بين الجنّ والإنس وبين الخلق، فإذا كان يوم القيامة ضمّها إليه». تفرّد به أحمد من هذا الوجه
وقال أحمد: حدّثنا عفّان، حدّثنا عبد الواحد، حدّثنا الأعمش، عن أبي صالحٍ، عن أبي سعيدٍ قال: قال: رسول اللّه -صلّى اللّه عليه وسلّم-:
«للّه مائة رحمةٍ، فقسّم منها جزءًا واحدًا بين الخلق، فيه يتراحم النّاس والوحش والطّير».
ورواه ابن ماجه من حديث أبي معاوية، عن الأعمش، به.
وقال الحافظ أبو القاسم الطّبرانيّ: حدّثنا محمّد بن عثمان بن أبي شيبة، حدّثنا أحمد بن يونس، حدّثنا سعدٌ أبو غيلان الشّيبانيّ، عن حمّاد بن أبي سليمان، عن إبراهيم، عن صلة بن زفر، عن حذيفة بن اليمان، رضي اللّه عنه، قال: قال رسول اللّه -صلّى اللّه عليه وسلّم-:
«والّذي نفسي بيده، ليدخلنّ الجنّة الفاجر في دينه، الأحمق في معيشته. والّذي نفسي بيده، ليدخلنّ الجنّة الّذي قد محشته النّار بذنبه. والّذي نفسي بيده، ليغفرنّ اللّه يوم القيامة مغفرةً يتطاول لها إبليس رجاء أن تصيبه».
هذا حديثٌ غريبٌ جدًّا، "وسعدٌ" هذا لا أعرفه.
وقوله: {فسأكتبها للّذين يتّقون} الآية، يعني: فسأوجب حصول رحمتي منّةً منّي وإحسانًا إليهم، كما قال تعالى: {كتب ربّكم على نفسه الرّحمة} [الأنعام: 54]
وقوله: {للّذين يتّقون} أي: سأجعلها للمتّصفين بهذه الصّفات، وهم أمّة محمّدٍ -صلّى اللّه عليه وسلّم- الّذين يتّقون، أي: الشّرك والعظائم من الذّنوب.
{ويؤتون الزّكاة} قيل: زكاة النّفوس. وقيل: [زكاة] الأموال. ويحتمل أن تكون عامّةً لهما؛ فإنّ الآية مكّيّةٌ {والّذين هم بآياتنا يؤمنون} أي: يصدّقون). [تفسير القرآن العظيم: 3/ 481-483]

تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({الّذين يتّبعون الرّسول النّبيّ الأمّيّ الّذي يجدونه مكتوبًا عندهم في التّوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحلّ لهم الطّيّبات ويحرّم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال الّتي كانت عليهم فالّذين آمنوا به وعزّروه ونصروه واتّبعوا النّور الّذي أنزل معه أولئك هم المفلحون (157)}
{الّذين يتّبعون الرّسول النّبيّ الأمّيّ الّذي يجدونه مكتوبًا عندهم في التّوراة والإنجيل} وهذه صفة محمّدٍ -صلّى اللّه عليه وسلّم- في كتب الأنبياء بشّروا أممهم ببعثه وأمروهم بمتابعته، ولم تزل صفاته موجودةً في كتبهم يعرفها علماؤهم وأحبارهم كما قال الإمام أحمد:
حدّثنا إسماعيل، عن الجريري، عن أبي صخرٍ العقيليّ، حدّثني رجلٌ من الأعراب، قال: جلبت جلوبةً إلى المدينة في حياة رسول اللّه -صلّى اللّه عليه وسلّم-، فلمّا فرغت من بيعتي قلت: لألقينّ هذا الرّجل فلأسمعنّ منه، قال: فتلقّاني بين أبي بكرٍ وعمر يمشون، فتبعتهم في أقفائهم حتّى أتوا على رجلٍ من اليهود ناشرًا التّوراة يقرؤها، يعزّي بها نفسه عن ابنٍ له في الموت كأحسن الفتيان وأجمله، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم:«أنشدك بالّذي أنزل التّوراة، هل تجد في كتابك هذا صفتي ومخرجي؟» فقال برأسه هكذا، أي: لا. فقال ابنه، إي: والّذي أنزل التّوراة إنّا لنجد في كتابنا صفتك ومخرجك، وإنّي أشهد أن لا إله إلّا اللّه، وأنّك رسول اللّه فقال: «أقيموا اليهوديّ عن أخيكم». ثمّ ولي كفنه والصّلاة عليه
هذا حديثٌ جيّدٌ قويٌّ له شاهدٌ في الصّحيح، عن أنسٍ.
وقال الحاكم صاحب المستدرك: أخبرنا أبو محمّدٍ -عبد اللّه بن إسحاق البغويّ، حدّثنا إبراهيم بن الهيثم البلديّ حدّثنا عبد العزيز بن مسلم بن إدريس، حدّثنا عبد اللّه بن إدريس، عن شرحبيل بن مسلمٍ، عن أبي أمامة الباهليّ، عن هشام بن العاص الأمويّ قال: بعثت أنا ورجلٌ آخر إلى هرقل صاحب الرّوم ندعوه إلى الإسلام، فخرجنا حتّى قدمنا الغوطة -يعني غوطة دمشق -فنزلنا على جبلة بن الأيهم الغسّانيّ، فدخلنا عليه، فإذا هو على سريرٍ له، فأرسل إلينا برسوله نكلّمه، فقلنا: واللّه لا نكلّم رسولًا إنّما بعثنا إلى الملك، فإن أذن لنا كلّمناه وإلّا لم نكلم الرّسول فرجع إليه الرّسول فأخبره بذلك، قال: فأذن لنا فقال: تكلّموا فكلّمه هشام بن العاص، ودعاه إلى الإسلام، فإذا عليه ثياب سوادٍ فقال له هشامٌ: وما هذه الّتي عليك؟ فقال: لبستها وحلفت ألّا أنزعها حتّى أخرجكم من الشّام. قلنا: ومجلسك هذا، واللّه لنأخذنّه منك، ولنأخذنّ ملك الملك الأعظم، إن شاء اللّه، أخبرنا بذلك نبيّنا صلّى اللّه عليه وسلّم. قال: لستم بهم، بل هم قومٌ يصومون بالنّهار، ويقومون باللّيل، فكيف صومكم؟ فأخبرناه، فملئ وجهه سوادًا فقال: قوموا. وبعث معنا رسولًا إلى الملك، فخرجنا، حتّى إذا كنّا قريبًا من المدينة، قال لنا الّذي معنا: إنّ دوابّكم هذه لا تدخل مدينة الملك، فإن شئتم حملناكم على براذين وبغالٍ؟ قلنا: واللّه لا ندخل إلّا عليها، فأرسلوا إلى الملك أنّهم يأبون ذلك. فدخلنا على رواحلنا متقلّدين سيوفنا، حتّى انتهينا إلى غرفةٍ فأنخنا في أصلها وهو ينظر إلينا، فقلنا: لا إله إلّا اللّه، واللّه أكبر فاللّه يعلم لقد تنفّضت الغرفة حتّى صارت كأنّها عذق تصفّقه الرّياح، فأرسل إلينا: ليس لكم أن تجهروا علينا بدينكم. وأرسل إلينا: أن ادخلوا فدخلنا عليه وهو على فراشٍ له، وعنده بطارقته من الرّوم، وكلّ شيءٍ في مجلسه أحمر، وما حوله حمرةٌ، وعليه ثيابٌ من الحمرة، فدنونا منه فضحك، فقال: ما كان عليكم لو حيّيتموني بتحيّتكم فيما بينكم؟ وإذا عنده رجلٌ فصيحٌ بالعربيّة، كثير الكلام، فقلنا: إن تحيّتنا فيما بيننا لا تحلّ لك، وتحيّتك الّتي تحيى بها لا تحلّ لنا أن نحيّيك بها. قال: كيف تحيّتكم فيما بينكم؟ قلنا: السّلام عليك. قال: وكيف تحيّون ملككم؟ قلنا: بها. قال: وكيف يردّ عليكم؟ قلنا: بها. قال: فما أعظم كلامكم؟ قلنا: لا إله إلّا اللّه، واللّه أكبر فلمّا تكلّمنا بها واللّه يعلم -لقد تنفّضت الغرفة حتّى رفع رأسه إليها، قال: فهذه الكلمة الّتي قلتموها حيث تنفّضت الغرفة، كلّما قلتموها في بيوتكم تنفّضت عليكم غرفكم؟ قلنا: لا ما رأيناها فعلت هذا قطّ إلّا عندك. قال: لوددت أنّكم كلّما قلتم تنفّض كلّ شيءٍ عليكم. وإنّي خرجت من نصف ملكي. قلنا: لم؟ قال: لأنّه كان أيسر لشأنها، وأجدر ألّا تكون من أمر النّبوّة، وأنّها تكون من حيل النّاس. ثمّ سألنا عمّا أراد فأخبرناه. ثمّ قال: كيف صلاتكم وصومكم؟ فأخبرناه، فقال: قوموا فقمنا. فأمر لنا بمنزلٍ حسنٍ ونزلٍ كثير، فأقمنا ثلاثًا.
فأرسل إلينا ليلًا فدخلنا عليه، فاستعاد قولنا، فأعدناه. ثمّ دعا بشيءٍ كهيئة الرّبعة العظيمة مذهبةٍ، فيها بيوتٌ صغارٌ عليها أبوابٌ، ففتح بيتًا وقفلًا فاستخرج حريرةً سوداء، فنشرها، فإذا فيها صورةٌ حمراء، وإذا فيها رجلٌ ضخم العينين. عظيم الأليتين، لم أر مثل طول عنقه، وإذا ليست له لحيةٌ، وإذا له ضفيرتان أحسن ما خلق اللّه. قال: أتعرفون هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا آدم، عليه السّلام، وإذا هو أكثر النّاس شعرًا.
ثمّ فتح بابًا آخر، فاستخرج منه حريرةً سوداء، وإذا فيها صورةٌ بيضاء، وإذا له شعرٌ كشعر القطط، أحمر العينين، ضخم الهامة، حسن اللّحية، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا نوحٌ، عليه السّلام.
ثمّ فتح بابًا آخر، فاستخرج حريرةً سوداء، وإذا فيها رجلٌ شديد البياض، حسن العينين، صلت الجبين، طويل الخدّ، أبيض اللّحية كأنّه يبتسم، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا إبراهيم، عليه السّلام.
ثمّ فتح بابًا آخر فإذا فيه صورةٌ بيضاء، وإذا -واللّه -رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال أتعرفون هذا؟ قلنا: نعم، محمّدٍ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: وبكينا. قال: واللّه يعلم أنّه قام قائمًا ثمّ جلس، وقال: واللّه إنّه لهو؟ قلنا: نعم، إنّه لهو، كأنّك تنظر إليه، فأمسك ساعةً ينظر إليها، ثمّ قال: أما إنّه كان آخر البيوت، ولكنّي عجّلته لكم لأنظر ما عندكم.
ثمّ فتح بابًا آخر، فاستخرج منه حريرةً سوداء، فإذا فيها صورةٌ أدماء سحماء وإذا رجلٌ جعدٌ قططٌ، غائر العينين، حديد النّظر، عابسٌ متراكب الأسنان، مقلّص الشّفة كأنّه غضبان، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا موسى عليه السّلام. وإلى جانبه صورةٌ تشبهه، إلّا أنّه مدهان الرّأس، عريض الجبين، في عينيه قبلٌ، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا هارون بن عمران، عليه السّلام.
ثمّ فتح بابًا آخر، فاستخرج منه حريرةً بيضاء، فإذا فيها صورة رجل آدم سبط ربعة، كأنّه غضبان، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا لوطٌ، عليه السّلام.
ثمّ فتح بابًا آخر، فاستخرج منه حريرةً بيضاء، فإذا فيها صورة رجلٍ أبيض مشرب حمرة، أقنى، خفيف العارضين، حسن الوجه فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا. قال هذا إسحاق، عليه السّلام.
ثمّ فتح بابًا آخر، فاستخرج حريرةً بيضاء، فإذا فيها صورةٌ تشبه إسحاق، إلّا أنّه على شفته خالٌ، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا. [قال] هذا يعقوب، عليه السّلام.
ثمّ فتح بابًا آخر، فاستخرج منه حريرةً سوداء، فيها صورة رجلٍ أبيض، حسن الوجه، أقنى الأنف، حسن القامة، يعلو وجهه نورٌ، يعرف في وجهه الخشوع، يضرب إلى الحمرة، قال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا إسماعيل جدّ نبيّكم، عليهما السّلام.
ثمّ فتح بابًا آخر، فاستخرج حريرةً بيضاء، فيها صورةٌ كأنّها آدم، عليه السّلام، كأنّ وجهه الشّمس، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا يوسف، عليه السّلام.
ثمّ فتح بابًا آخر فاستخرج حريرةً بيضاء، فإذا فيها صورة رجلٍ أحمر حمش السّاقين، أخفش العينين ضخم البطن، ربعة متقلّدٍ سيفًا، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا داود، عليه السلام.
ثمّ فتح بابًا آخر، فاستخرج حريرةً بيضاء، فيها صورة رجلٍ ضخم الأليتين، طويل الرّجلين، راكبٍ فرسًا، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا سليمان بن داود، عليه السّلام.
ثمّ فتح بابًا آخر، فاستخرج منه حريرةً سوداء، فيها صورةٌ بيضاء، وإذا شابٌّ شديدٌ سواد اللّحية، كثير الشّعر، حسن العينين، حسن الوجه، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا عيسى ابن مريم، عليه السّلام.
قلنا: من أين لك هذه الصّور؟ لأنّا نعلم أنّها على ما صوّرت عليه الأنبياء، عليهم السّلام، لأنّا رأينا صورة نبيّنا عليه السّلام مثله. فقال: إنّ آدم، عليه السّلام، سأل ربّه أن يريه الأنبياء من ولده، فأنزل عليه صورهم، فكان في خزانة آدم، عليه السّلام، عند مغرب الشّمس، فاستخرجها ذو القرنين من مغرب الشّمس فدفعها إلى دانيال. ثمّ قال: أما واللّه إنّ نفسي طابت بالخروج من ملكي، وإني كنت عبدًا لأشرّكم ملكةً، حتّى أموت. ثمّ أجازنا فأحسن جائزتنا، وسرّحنا، فلمّا أتينا أبا بكرٍ الصّدّيق، رضي اللّه عنه، فحدّثناه بما أرانا، وبما قال لنا، وما أجازنا، قال: فبكى أبو بكرٍ وقال: مسكينٌ! لو أراد اللّه به خيرًا لفعل. ثمّ قال: أخبرنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنّهم واليهود يجدون نعت محمّدٍ -صلّى اللّه عليه وسلّم- عندهم.
هكذا أورده الحافظ الكبير أبو بكرٍ البيهقيّ، رحمه اللّه، في كتاب "دلائل النّبوّة"، عن الحاكم إجازةً، فذكره وإسناده لا بأس به.
وقال ابن جريرٍ: حدّثنا المثنّى، حدّثنا عثمان بن عمر، حدّثنا فليح، عن هلال بن عليٍّ، عن عطاء بن يسارٍ، قال: لقيت عبد اللّه بن عمرو فقلت: أخبرني عن صفة رسول اللّه -صلّى اللّه عليه وسلّم- في التّوراة. قال: أجل واللّه، إنّه لموصوفٌ في التّوراة كصفته في القرآن: "يا أيّها النّبيّ إنّا أرسلناك شاهدًا ومبشّرًا ونذيرًا وحرزًا للأمّيّين، أنت عبدي ورسولي، سمّيتك المتوكّل، ليس بفظٍّ ولا غليظٍ، ولا صخّاب في الأسواق، ولا يجزي بالسّيّئة السّيّئة، ولكن يعفو ويصفح، ولن يقبضه اللّه حتّى يقيم به الملّة العوجاء، بأن يقولوا: لا إله إلّا اللّه ويفتح به قلوبًا غلفا، وآذانًا صمًّا، وأعينًا عميًا" قال عطاءٌ: ثمّ لقيت كعبًا فسألته عن ذلك، فما اختلف حرفًا، إلّا أنّ كعبًا قال بلغته، قال: "قلوبًا غلوفيًا وآذانًا صموميًا وأعينًا عموميًا".
وقد رواه البخاريّ في صحيحه، عن محمّد بن سنان، عن فليح، عن هلال بن عليٍّ -فذكر بإسناده نحوه وزاد بعد قوله: "ليس بفظٍّ ولا غليظٍ": "ولا صخّابٍ في الأسواق، ولا يجزي بالسّيّئة السّيّئة، ولكن يعفو ويصفح".
ويقع في كلام كثيرٍ من السّلف إطلاق "التّوراة" على كتب أهل الكتاب. وقد ورد في بعض الأحاديث ما يشبه هذا، واللّه أعلم.
وقال الحافظ أبو القاسم الطّبرانيّ: حدّثنا موسى بن هارون، حدّثنا محمّد بن إدريس ورّاق الحميديّ حدّثنا محمّد بن عمر بن إبراهيم -من ولد جبير بن مطعمٍ -قال: حدّثتني أمّ عثمان بنت سعيدٍ -وهي جدّتي -عن أبيها سعيد بن محمّد بن جبيرٍ، عن أبيه محمّد بن جبيرٍ، عن أبيه جبير بن مطعمٍ، قال: خرجت تاجرًا إلى الشّام، فلمّا كنت بأدنى الشّام، لقيني رجلٌ من أهل الكتاب، فقال: هل عندكم رجلٌ نبيًّا؟ قلت: نعم. قال: هل تعرف صورته إذا رأيتها؟ قلت: نعم. فأدخلني بيتًا فيه صورٌ، فلم أر صورة النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، فبينما أنا كذلك إذ دخل رجلٌ منهم علينا، فقال: فيم أنتم؟ فأخبرناه، فذهب بنا إلى منزله، فساعة ما دخلت نظرت إلى صورة النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، وإذا رجلٌ آخذٌ بعقب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، قلت: من هذا الرّجل القابض على عقبه؟ قال: إنّه لم يكن نبيٌّ إلّا كان بعده نبيٌّ إلّا هذا النّبيّ، فإنّه لا نبيّ بعده، وهذا الخليفة بعده، وإذا صفة أبي بكرٍ، رضي اللّه عنه
وقال أبو داود: حدّثنا حفص بن عمر أبو عمر الضّرير حدّثنا حمّاد بن سلمة أنّ سعيد بن إياسٍ الجريريّ أخبرهم، عن عبد اللّه بن شقيقٍ العقيليّ، عن الأقرع مؤذّن عمر بن الخطّاب قال: بعثني عمر إلى الأسقف، فدعوته، فقال له عمر: هل تجدني في الكتاب؟ قال: نعم. قال: كيف تجدني؟ قال: أجدك قرنا. قال: فرفع عمر الدّرّة وقال: قرن مه؟ قال: قرن حديدٍ، أميرٌ شديدٌ. قال: فكيف تجد الّذي بعدي؟ قال: أجد خليفةً صالحًا، غير أنّه يؤثر قرابته قال عمر: يرحم اللّه عثمان، ثلاثًا. قال: كيف تجد الّذي بعده؟ قال: أجد صدأ حديدٍ. قال: فوضع عمر يده على رأسه وقال: يا دفراه، يا دفراه! قال: يا أمير المؤمنين، إنّه خليفةٌ صالحٌ، ولكنّه يستخلف حين يستخلف والسّيف مسلولٌ، والدّم مهراقٌ.
وقوله تعالى: {يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر} هذه صفة الرّسول -صلّى اللّه عليه وسلّم- في الكتب المتقدّمة، وهكذا كان حاله، عليه الصّلاة والسّلام، لا يأمر إلّا بخيرٍ، ولا ينهى إلّا عن شرٍّ، كما قال عبد اللّه بن مسعودٍ: إذا سمعت اللّه يقول: {يا أيّها الّذين آمنوا} فأرعها سمعك، فإنّه خيرٌ يأمر به أو شرٌّ ينهى عنه. ومن أهمّ ذلك وأعظمه، ما بعثه اللّه [تعالى] به من الأمر بعبادته وحده لا شريك له، والنّهي عن عبادة من سواه، كما أرسل به جميع الرّسل قبله، كما قال تعالى: {ولقد بعثنا في كلّ أمّةٍ رسولا أن اعبدوا اللّه واجتنبوا الطّاغوت} [النّحل: 36] وقال الإمام أحمد: حدّثنا أبو عامرٍ -هو العقديّ عبد الملك بن عمرٍو -حدّثنا سليمان -هو ابن بلالٍ -عن ربيعة بن أبي عبد الرّحمن، عن عبد الملك بن سعيدٍ، عن أبي حميد وأبي أسيد، رضي اللّه عنهما، أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «إذا سمعتم الحديث عنّي تعرفه قلوبكم، وتلين له أشعاركم وأبشاركم، وترون أنّه منكم قريبٌ، فأنا أولاكم به. وإذا سمعتم الحديث عنّي تنكره قلوبكم، وتنفر منه أشعاركم وأبشاركم، وترون أنّه منكم بعيدٌ، فأنا أبعدكم منه»
هذا [حديثٌ] جيّد الإسناد، لم يخرجه أحدٌ من أصحاب الكتب [السّتّة]
وقال الإمام أحمد: حدّثنا أبو معاوية، حدّثنا الأعمش، عن عمرو بن مرّة، عن أبي البختريّ، عن عليٍّ، رضي اللّه عنه، قال: «إذا حدّثتم عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حديثًا، فظنّوا به الّذي هو أهدى، والّذي هو أهنا، والّذي هو أنجى والّذي هو أتقى».
ثم رواه عن يحيى عن بن سعيدٍ، عن مسعرٍ، عن عمرو بن مرّة، عن أبي البختريّ، عن أبي عبد الرّحمن، عن عليٍّ، رضي اللّه عنه، قال: «إذا حدّثتم عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حديثًا، فظنّوا به الّذي هو أهداه وأهناه وأتقاه».
وقوله: {ويحلّ لهم الطّيّبات ويحرّم عليهم الخبائث} أي: يحلّ لهم ما كانوا حرّموه على أنفسهم من البحائر، والسّوائب، والوصائل، والحام، ونحو ذلك، ممّا كانوا ضيّقوا به على أنفسهم، ويحرّم عليهم الخبائث.
قال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس: كلحم الخنزير والرّبا، وما كانوا يستحلّونه من المحرّمات من المآكل الّتي حرّمها اللّه تعالى.
وقال بعض العلماء: كلّ ما أحلّ اللّه تعالى، فهو طيّبٌ نافعٌ في البدن والدّين، وكلّ ما حرّمه، فهو خبيثٌ ضارٌّ في البدن والدّين.
وقد تمسّك بهذه الآية الكريمة من يرى التّحسين والتّقبيح العقليّين، وأجيب عن ذلك بما لا يتّسع هذا الموضع له.
وكذا احتجّ بها من ذهب من العلماء إلى أنّ المرجع في حلّ المآكل الّتي لم ينصّ على تحليلها ولا تحريمها، إلى ما استطابته العرب في حال رفاهيتها، وكذا في جانب التّحريم إلى ما استخبثته. وفيه كلامٌ طويلٌ أيضًا.
وقوله: {ويضع عنهم إصرهم والأغلال الّتي كانت عليهم} أي: إنّه جاء بالتّيسير والسّماحة، كما ورد الحديث من طرقٍ عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه قال:«بعثت بالحنيفيّة السّمحة». وقال لأميريه معاذٍ وأبي موسى الأشعريّ، لمّا بعثهما إلى اليمن: "بشّرا ولا تنفّرا، ويسّرا ولا تعسّرا، وتطاوعا ولا تختلفا". وقال صاحبه أبو برزة الأسلميّ: إنّي صحبت رسول اللّه -صلّى اللّه عليه وسلم- وشهدت تيسيره.
وقد كانت الأمم الّذين كانوا قبلنا في شرائعهم ضيقٌ عليهم، فوسّع اللّه على هذه الأمّة أمورها، وسهّلها لهم؛ ولهذا قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم:«إنّ اللّه تجاوز لأمّتي ما حدّثت به أنفسها، ما لم تقل أو تعمل» وقال: «رفع عن أمّتي الخطأ والنّسيان وما استكرهوا عليه» ؛ ولهذا قد أرشد اللّه هذه الأمّة أن يقولوا: {ربّنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربّنا ولا تحمل علينا إصرًا كما حملته على الّذين من قبلنا ربّنا ولا تحمّلنا ما لا طاقة لنا به واعف عنّا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين}[البقرة: 286] وثبت في صحيح مسلمٍ أنّ اللّه تعالى قال بعد كلّ سؤالٍ من هذه: قد فعلت، قد فعلت
وقوله: {فالّذين آمنوا به وعزّروه ونصروه} أي: عظّموه ووقّروه، {واتّبعوا النّور الّذي أنزل معه} أي: القرآن والوحي الّذي جاء به مبلّغًا إلى النّاس، {أولئك هم المفلحون} أي: في الدّنيا والآخرة). [تفسير القرآن العظيم: 3/ 483-489]


رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 01:03 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
جميع الحقوق محفوظة