العودة   جمهرة العلوم > قسم التفسير > جمهرة التفاسير > تفسير سورة البقرة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 9 ربيع الثاني 1434هـ/19-02-2013م, 08:09 AM
عبد العزيز بن داخل المطيري عبد العزيز بن داخل المطيري غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 2,179
افتراضي تفسير سورة البقرة [من الآية (2) إلى الآية (5) ]

تفسير سورة البقرة
[من الآية (2) إلى الآية (5) ]

بسم الله الرحمن الرحيم
{ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)}


رد مع اقتباس
  #2  
قديم 9 ربيع الثاني 1434هـ/19-02-2013م, 08:10 AM
عبد العزيز بن داخل المطيري عبد العزيز بن داخل المطيري غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 2,179
افتراضي

تفسير السلف


تفسير قوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) }
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (أخبرنا معمر عن قتادة لا ريب فيه هدى يقول لا شك فيه). [تفسير عبد الرزاق: 1/39]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {ذلك الكتاب لا ريب فيه هدًى للمتّقين}.
قال عامّة المفسّرين: تأويل قول اللّه تعالى: {ذلك الكتاب} هذا الكتاب.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثني هارون بن إدريس الأصمّ الكوفيّ، قال: حدّثنا عبد الرّحمن بن محمّدٍ المحاربيّ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ: {ذلك الكتاب} قال:« هو هذا الكتاب ».
- حدّثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدّثنا ابن عليّة، قال: أخبرنا خالدٌ الحذّاء، عن عكرمة، قال: « {ذلك الكتاب} هذا الكتاب ».
- حدّثنا أحمد بن إسحاق الأهوازيّ، قال: حدّثنا أبو أحمد الزّبيريّ، قال: حدّثنا الحكم بن ظهيرٍ، عن السّدّيّ، في قوله: {ذلك الكتاب} قال: « هذا الكتاب ».
- حدّثنا القاسم بن الحسن، قال: حدّثنا الحسين بن داود، قال: حدّثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، قوله: {ذلك الكتاب} هذا الكتاب قال: قال ابن عبّاسٍ{ذلك الكتاب} هذا الكتاب ».
فإن قال قائلٌ: وكيف يجوز أن يكون ذلك بمعنى هذا؟ وهذا لا شكّ إشارةٌ إلى حاضرٍ معاينٌ، وذلك إشارةٌ إلى غائبٍ غير حاضرٍ ولا معاينٍ؟
قيل: جاز ذلك لأنّ كلّ ما تقضّى وقرب تقضّيه من الأخبار فهو وإن صار بمعنى غير الحاضر، فكالحاضر عند المخاطب؛ وذلك كالرّجل يحدّث الرّجل الحديث، فيقول السّامع: إنّ ذلك واللّه لكما قلت، وهذا واللّه كما قلت، وهو واللّه كما ذكرت. فيخبر عنه مرّةً بمعنى الغائب إذ كان قد تقضّى ومضى، ومرّةً بمعنى الحاضر لقرب جوابه من كلام مخبره كأنّه غير منقضٍ، فكذلك ذلك في قوله: {ذلك الكتاب} لأنّه جلّ ذكره لمّا قدّم قبل ذلك الكتاب {الم} الّتي ذكرنا تصرّفها في وجوهها من المعاني على ما وصفنا، قال لنبيّه صلّى اللّه عليه وسلّم: يا محمّد هذا الّذي ذكرته وبيّنته لك الكتاب. ولذلك حسن وضع ذلك في مكان هذا، لأنّه أشير به إلى الخبر عمّا تضمّنه قوله: {الم} من المعاني بعد تقضّي الخبر عنه {الم}، فصار لقرب الخبر عنه من تقضّيه كالحاضر المشار إليه، فأخبر عنه بذلك لانقضائه ومصير الخبر عنه كالخبر عن الغائب.
وترجمه المفسّرون أنّه بمعنى هذا لقرب الخبر عنه من انقضائه، فكان كالمشاهد المشار إليه بهذا نحو الّذي وصفنا من الكلام الجاري بين النّاس في محاوراتهم، وكما قال جلّ ذكره: {واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وكلٌّ من الأخيار هذا ذكرٌ} فهذا ما في ذلك إذا عنى بها هذا.
وقد يحتمل قوله جلّ ذكره: {ذلك الكتاب} أن يكون معنيًّا به السّور الّتي نزلت قبل سورة البقرة بمكّة والمدينة، فكأنّه قال جلّ ثناؤه لنبيّه محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم: يا محمّد اعلم أنّ ما تضمّنته سور الكتاب الّتي قد أنزلتها إليك هو الكتاب الّذي لا ريب فيه. ثمّ ترجمه المفسّرون بأنّ معنى ذلك: هذا الكتاب، إذ كانت تلك السّور الّتي نزلت قبل سورة البقرة من جملة جميع كتابنا هذا الّذي أنزله اللّه عزّ وجلّ على نبيّنا محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم.
وكان التّأويل الأوّل أولى بما قاله المفسّرون؛ لأنّ ذلك أظهر معاني قولهم الّذي قالوه في ذلك.
وقد وجّه معنى ذلك بعضهم إلى نظير معنى بيت خفاف بن ندبة السّلميّ:


فإن تك خيلي قد أصيب صميمها.......فعمدًا على عينٍ تيمّمت مالكا.

أقول له والرّمح يأطر متنه.......تأمّل خفافًا إنّني أنا ذلكا


كأنّه أراد: تأمّلني أنا ذلك. فزعم أنّ {ذلك الكتاب} بمعنى هذا نظير ما أظهر خفافٌ من اسمه على وجه الخبر عن الغائب وهو مخبرٌ عن نفسه، فكذلك أظهر ذلك بمعنى الخبر عن الغائب، والمعنى فيه الإشارة إلى الحاضر المشاهد.
والقول الأوّل أولى بتأويل الكتاب لما ذكرنا من العلل.
وقد قال بعضهم: {ذلك الكتاب} يعني به التّوراة والإنجيل، وإذا وجّه تأويل ذلك إلى هذا الوجه فلا مؤنة فيه على متأوّله كذلك لأنّ ذلك يكون حينئذٍ إخبارًا عن غائبٍ على صحّةٍ). [جامع البيان: 1/231-228]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {لا ريب فيه}
وتأويل قوله: {لا ريب فيه} لا شكّ فيه،.
- كما حدّثني هارون بن إدريس الأصمّ، قال: حدّثنا عبد الرّحمن المحاربيّ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ: {لا ريب فيه}، قال: «لا شكّ فيه ».
- حدّثني سلاّم بن سالمٍ الخزاعيّ، قال: حدّثنا خلف بن ياسين الكوفيّ، عن عبد العزيز بن أبي روّادٍ، عن عطاءٍ: {لا ريب فيه} قال: «لا شكّ فيه ».
- حدّثني أحمد بن إسحاق الأهوازيّ، قال: حدّثنا أبو أحمد الزّبيريّ، قال: حدّثنا الحكم بن ظهيرٍ، عن السّدّيّ، قال: «{لا ريب فيه} لا شكّ فيه ».
- حدّثني موسى بن هارون الهمدانيّ، قال: حدّثنا عمرو بن حمّادٍ، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ، في خبرٍ ذكره عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ، وعن مرّة الهمدانيّ، عن ابن مسعودٍ، وعن ناسٍ من أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: {لا ريب فيه} لا شكّ فيه.
- حدّثنا محمّد بن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة بن الفضل، عن محمّد بن إسحاق، عن محمّد بن أبي محمّدٍ، مولى زيد بن ثابتٍ، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: {لا ريب فيه} قال: « لا شكّ فيه ».
- حدّثنا القاسم بن الحسن قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ عن ابن جريجٍ، قال: قال ابن عبّاسٍ{لا ريب فيه} يقول لا شكّ فيه ».
- حدّثنا الحسن بن يحيى، قال: حدّثنا عبد الرّزّاق، قال: أخبرنا معمرٌ، عن قتادة: {لا ريب فيه} يقول: « لا شكّ فيه».
- وحدّثت عن عمّار بن الحسن، قال: حدّثنا عبد اللّه بن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرّبيع بن أنسٍ، قوله: {لا ريب فيه} يقول: « لا شكّ فيه».وهو مصدرٌ من قولك: رابني الشّيء يريبني ريبًا. ومن ذلك قول ساعدة بن جؤيّة الهذليّ..

فقالوا تركنا الحيّ قد حصروا به.......فلا ريب أن قد كان ثمّ لحيم

ويروى: حصروا، وحصروا، والفتح أكثر، والكسر جائزٌ. يعني بقوله: حصروا به أطافوا به، ويعني بقوله، {لا ريب فيه} لا شكّ فيه، وبقوله: أن قد كان ثمّ لحيم يعني قتيلاً، يقال، قد لحم إذا قتل.
والهاء الّتي في فيه. عائدةٌ على الكتاب، كأنّه قال: لا شكّ في ذلك الكتاب أنّه من عند اللّه هدًى للمتّقين).[جامع البيان: 1/233-231]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {هدًى}.
- حدّثني أحمد بن حازمٍ الغفاريّ، قال، حدّثنا أبو نعيمٍ، قال: حدّثنا سفيان، عن بيانٍ، عن الشّعبيّ: {هدًى} قال، «هدًى من الضّلالة».
- حدّثني موسى بن هارون، قال، حدّثنا عمرو بن حمّادٍ، قال: حدّثنا أسباط بن نصرٍ، عن إسماعيل السّدّيّ، في خبرٍ ذكره، عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ، وعن مرّة الهمدانيّ، عن ابن مسعودٍ، وعن ناسٍ، من أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: {هدًى للمتّقين} يقول: « نورٌ للمتّقين ».
والهدى في هذا الموضع مصدرٌ من قولك هديت فلانًا الطّريق إذا أرشدته إليه. ودللته عليه، وبيّنته له، أهديه هدًى وهدايةً.
فإن قال لنا قائلٌ: أوما كتاب اللّه نورًا إلاّ للمتّقين ولا رشادًا إلاّ للمؤمنين؟
قيل: ذلك كما وصفه ربّنا عزّ وجلّ، ولو كان نورًا لغير المتّقين، ورشادًا لغير المؤمنين لم يخصّص اللّه عزّ وجلّ المتّقين بأنّه لهم هدًى، بل كان يعمّ به جميع المنذرين؛ ولكنّه هدًى للمتّقين، وشفاءٌ لما في صدور المؤمنين، ووقرٌ في آذان المكذّيين، وعمًى لأبصار الجاحدين. وحجّةٌ للّه بالغةٌ على الكافرين؛ فالمؤمن به مهتدٍ، والكافر به محجوجٌ.
وقوله: {هدًى} يحتمل أوجهًا من المعاني؛
أحدها: أن يكون نصبًا لمعنى القطع من الكتاب لأنّه نكرةٌ والكتاب معرفةٌ، فيكون التّأويل حينئذٍ: الم ذلك الكتاب هاديًا للمتّقين. وذلك مرفوعٌ بـ الم، والم به، والكتاب نعتٌ لذلك.
وقد يحتمل أن يكون نصبًا على القطع من راجع ذكر الكتاب الّذي في فيه، فيكون معنى ذلك حينئذٍ: الم الّذي لا ريب فيه هاديًا.
وقد يحتمل أن يكون أيضًا نصبًا على هذين الوجهين، أعني على وجه القطع من الهاء الّتي في فيه، ومن الكتاب على أنّ الم كلامٌ تامٌّ، كما قال ابن عبّاسٍ إنّ معناه: أنا اللّه أعلم. ثمّ يكون ذلك الكتاب خبرًا مستأنفًا، ويرفع حينئذٍ الكتاب بذلك وذلك بالكتاب، ويكون هدًى قطعًا من الكتاب، وعلى أن يرفع ذلك بالهاء العائدة عليه الّتي في فيه، والكتاب نعتٌ له، والهدى قطعٌ من الهاء الّتي في فيه. وإن جعل الهدى في موضع رفعٍ لم يجز أن يكون {ذلك الكتاب} إلاّ خبرًا مستأنفًا والم كلامًا تامًّا مكتفيًا بنفسه إلاّ من وجهٍ واحدٍ؛ وهو أن يرفع حينئذٍ هدًى بمعنى المدح كما قال اللّه جلّ وعزّ: {الم تلك آيات الكتاب الحكيم هدًى ورحمةٌ للمحسنين} في قراءة من قرأ رحمةٌ بالرّفع على المدح للآيات.
والرّفع في هدًى حينئذٍ يجوز من ثلاثة أوجهٍ،
أحدها: ما ذكرنا من أنّه مدحٌ مستأنفٌ. والآخر: على أن يجعل مرّافع ذلك، والكتاب نعتٌ لذلك. والثّالث: أن يجعل تابعًا لموضع {لا ريب فيه} ويكون {ذلك الكتاب} مرفوعًا بالعائد في فيه، فيكون كما قال تعالى ذكره: {وهذا كتابٌ أنزلناه مباركٌ}.
وقد زعم بعض المتقدّمين في العلم بالعربيّة من الكوفيّين أنّ الم مرافع {ذلك الكتاب} بمعنى: هذه الحروف من حروف المعجم، ذلك الكتاب الّذي وعدتك أن أوحيه إليك. ثمّ نقض ذلك من قوله فأسرع نقضه، وهدم ما بنى فأسرع هدمه، فزعم أنّ الرّفع في هدًى من وجهين والنّصب من وجهين، وأنّ أحد وجهي الرّفع أن يكون الكتاب نعتًا لذلك، والهدى في موضع رفع خبرٍ لذلك كأنّك قلت: ذلك هدى لا شكّ فيه. قال: وإن جعلت {لا ريب فيه} خبره رفعت أيضًا هدًى بجعله تابعًا لموضع {لا ريب فيه} كما قال اللّه جلّ ثناؤه: {وهذا كتابٌ أنزلناه مباركٌ} كأنّه قال: وهذا كتابٌ هدًى من صفته كذا وكذا. قال: وأمّا أحد وجهي النّصب، فأن تجعل الكتاب خبرًا لذلك وتنصب هدًى على القطع؛ لأنّ هدًى نكرةٌ اتّصلت بمعرفةٍ وقد تمّ خبرها فنصبتها، لأنّ النّكرة لا تكون دليلاً على معرفةٍ، وإن شئت نصبت هدًى على القطع من الهاء الّتي في فيه كأنّك قلت: لا شكّ فيه هاديًا.
قال أبوجعفرٍ: فترك الأصل الّذي أصّله في الم وأنّها مرفوعةٌ ب {ذلك الكتاب} ونبذه وراء ظهره. واللاّزم له على الأصل الّذي كان أصله أن لا يجيز الرّفع في هدًى بحالٍ إلاّ من وجهٍ واحدٍ، وذلك من قبل الاستئناف إذ كان مدحًا. فأمّا على وجه الخبر لذلك، أو على وجه الإتباع لموضع {لا ريب فيه} فكان اللاّزم له على قوله أن يكون خطأً، وذلك أنّ الم إذا رفعت {ذلك الكتاب} فلا شكّ أنّ هدًى غير جائزٍ حينئذٍ أن يكون خبرًا لذلك بمعنى المرّافع له، أو تابعًا لموضع لا ريب فيه، لأنّ موضعه حينئذٍ نصبٌ لتمام الخبر قبله وانقطاعه بمخالفته إيّاه عنه). [جامع البيان: 237-1/233]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {للمتّقين}.
- حدّثنا سفيان بن وكيعٍ، قال: حدّثنا أبي، عن سفيان، عن رجلٍ، عن الحسن، قوله:{للمتّقين} قال: « اتّقوا ما حرّم عليهم وأدّوا ما افترض عليهم ».
- حدّثنا محمّد بن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة بن الفضل، عن محمّد بن إسحاق، عن محمّد بن أبي محمّدٍ، مولى زيد بن ثابتٍ، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: {للمتّقين} أي الّذين يحذرون من اللّه عزّ وجلّ عقوبته في ترك ما يعرفون من الهدى، ويرجون رحمته بالتّصديق بما جاء به.
- حدّثني موسى بن هارون، قال: حدّثنا عمرو بن حمّادٍ، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ، في خبرٍ ذكره عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ، وعن مرّة الهمدانيّ، عن ابن مسعودٍ، وعن ناسٍ، من أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: {هدًى للمتّقين} قال: «هم المؤمنون ».
- حدّثنا أبو كريبٍ، قال: حدّثنا أبو بكر بن عيّاشٍ، قال: «سألني الأعمش عن المتّقين؟ قال: فأجبته، فقال لي: سئل عنها الكلبيّ، فسألته فقال: الّذين يجتنبون كبائر الإثم قال: فرجعت إلى الأعمش، فقال: نرى أنّه كذلك ولم ينكره».
- حدّثني المثنّى بن إبراهيم الطّبريّ، قال: حدّثنا إسحاق بن الحجّاج، عن عبد الرّحمن بن عبد اللّه، قال: حدّثنا عمر أبو حفصٍ، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة: {هدًى للمتّقين} هم من نعتهم ووصفهم فأثبت صفتهم فقال: {الّذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصّلاة وممّا رزقناهم ينفقون}.
- حدّثنا أبو كريبٍ، قال: حدّثنا عثمان بن سعيدٍ، قال حدّثنا بشر بن عمّارٍة، عن أبي روقٍ، عن الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ: {للمتّقين} قال: « المؤمنين الّذين يتّقون الشّرك ويعملون بطاعتي ».
وأولى التّأويلات بقول اللّه جلّ ثناؤه: {هدًى للمتّقين} تأويل من وصف القوم بأنّهم الّذين اتّقوا اللّه تبارك وتعالى في ركوب ما نهاهم عن ركوبه، فتجنّبوا معاصيه واتّقوه فيما أمرهم به من فرائضه فأطاعوه بأدائها. وذلك أنّ اللّه جلّ ثناؤه أبهم وصفهم بالتّقوى فلم يحصر تقواهم إيّاه على بعض ما هو جلّ ثناؤه أهلٌ له منهم دون بعضٍ. فليس لأحدٍ من النّاس أن يحصر معنى ذلك على وصفهم بشيءٍ من تقوى اللّه عزّ وجلّ دون شيء إلاّ بحجّةٍ يجب التّسليم لها، لأنّ ذلك من صفة القوم لو كان محصورًا على خاصٍّ من معاني التّقوى دون العام لم يدع اللّه جلّ ثناؤه بيان ذلك لعباده، إمّا في كتابه، وإمّا على لسان رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم؛ إذ لم يكن في العقل دليلٌ على استحالة وصفهم بعموم التّقوى.
فقد تبيّن إذًا بذلك فساد قول من زعم أنّ تأويل ذلك إنّما هو: الّذين اتّقوا الشّرك وبرءوا من النّفاق؛ لأنّه قد يكون كذلك وهو فاسقٌ غير مستحقٌّ أن يكون من المتّقين. إلاّ أن يكون عند قائل هذا القول معنى النّفاق ركوب الفواحش الّتي حرّمها اللّه جلّ ثناؤه وتضييع فرائضه الّتي فرضها عليه، فإنّ جماعةً من أهل العلم قد كانت تسمّي من كان كذلك منافقًا، فيكون، وإن كان مخالفًا في تسميته من كان كذلك بهذا الاسم، مصيبًا تأويل قول اللّه عزّ وجلّ للمتّقين). [جامع البيان: 1/239-237]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): ( {ذلك الكتاب لا ريب فيه هدًى للمتّقين (2)}
قوله: {ذلك الكتاب}
- به عن عكرمة: {ذلك الكتاب}قال: «هذا الكتاب ». قال: وهكذا فسّره سعيد ابن جبيرٍ والسّدّيّ ومقاتل بن حيّان وزيد بن أسلم.قوله: {الكتاب}
- حدّثنا الحسن بن محمّد بن الصّبّاح، ثنا أسباط بن محمّدٍ، عن الهذليّ- يعني أبا بكرٍ- عن الحسن في قول اللّه: الكتاب قال: «القرآن ». قال أبو محمّدٍ: وروي عن ابن عبّاسٍ مثل ذلك). [تفسير القرآن العظيم: 1/34-33]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {لا ريب فيه}
- حدّثنا أبي، ثنا أبو اليمان الحكم بن نافعٍ، ثنا حريز بن عثمان عن عبد الرحمن ابن أبي عوفٍ، عن عبد الرّحمن بن مسعودٍ الفزاريّ، عن أبي الدّرداء قال: «الرّيب- يعني الشّكّ- من الكفر ». قال أبو محمّدٍ: «ولا أعلم في هذا الحرف اختلافًا بين المفسّرين منهم ابن عبّاسٍ، وسعيد بن جبيرٍ، وأبو مالكٍ، ونافعٌ مولى ابن عمر، وعطاء بن أبي رباحٍ، وأبو العالية، والرّبيع بن أنسٍ، وقتادة، ومقاتل بن حيّان، والسّدّيّ، وإسماعيل بن أبي خالد»). [تفسير القرآن العظيم: 1/34]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {هدى}
اختلف في تفسيره على أوجه:
[الوجه الأول]
فمنهم من قال: هدى من الضّلالة.
- حدّثنا الحسن بن أبي الرّبيع، أنا عبد الرّزّاق، أخبرني الثّوريّ، عن بيانٍ.
- وحدّثنا أبي، ثنا أبو نعيمٍ وعيسى بن جعفرٍ قالا: ثنا سفيان، عن بيانٍ، عن الشّعبيّ في قوله: {هدًى }قال: « من الضلالة ».
[الوجه الثاني]
ومن فسّره على نورٍ:
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا عمرو بن حمّاد بن طلحة القنّاد، ثنا أسباط بن نصرٍ، عن السّدّيّ: وأمّا هدى للمتقين نور للمتقين.
[الوجه الثالث]
ومن فسّره على تبيانٍ للمتّقين:
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا يحيى بن عبد اللّه بن بكيرٍ، ثنا ابن لهيعة، عن عطاء ابن دينارٍ، عن سعيد بن جبيرٍ: هدًى للمتّقين تبيان للمتقين). [تفسير القرآن العظيم: 1/34]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {للمتقين}
[الوجه الأول]
- حدّثنا أحمد بن سنانٍ، ثنا أبو النّضر هاشم بن القاسم، ثنا أبو عقيلٍ عبد الله ابن عقيلٍ، عن عبد اللّه بن يزيد، عن ربيعة بن يزيد وعطيّة بن قيسٍ، عن عطيّة السّعديّ وكان من أصحاب النّبيّ- صلّى اللّه عليه وسلّم- قال: قال رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وسلّم-: «لا يكون الرّجل من المتّقين حتّى يدع ما لا بأس به حذرًا لما به البأس».
الوجه الثّاني:
- حدّثنا أبي، ثنا عبد اللّه بن عمران، ثنا إسحاق بن سليمان الرّازيّ، عن المغيرة ابن مسلمٍ، عن ميمونٍ، عن أبي حمزة قال:« كنت جالسًا عند أبي وائلٍ فدخل علينا رجلٌ يقال له أبو عفيفٍ من أصحاب معاذٍ. فقال له شقيق بن سلمة: يا أبا عفيفٍ، ألا تحدّثنا عن معاذ بن جبلٍ؟ قال: بلى، سمعته يقول: يحبس النّاس يوم القيامة في نقيع واحدٍ فينادي منادٍ: أين المتّقون؟ فيقومون في كنف الرّحمن، لا يحتجب اللّه منهم ولا يستتر. قلت: من المتّقون؟ قال: قومٌ اتّقوا الشّرك وعبادة الأوثان، وأخلصوا للّه العبادة فيمرّون إلىالجنّة ».
الوجه الثّالث:
- حدّثنا محمّد بن يحيى، أنبأ أبو غسّان محمّد بن عمرٍو زنيجٌ، ثنا سلمة عن محمّد بن إسحاق قال: فيما حدّثني محمّد بن أبي محمّدٍ مولى زيد بن ثابتٍ، عن عكرمة أو سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ قال:« يقول اللّه سبحانه وبحمده: هدًى للمتّقين أي الّذين يحذرون من اللّه عقوبته في ترك ما يعرفون من الهدى ويرجون رحمته بالتّصديق بما جاء منه ».
والوجه الرّابع:
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا عمرو بن حمّاد بن طلحة القنّاد، ثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ: هدًى للمتّقين نورٌ للمتّقين، وهم المؤمنون.
- حدّثنا محمّد بن يحيى ثنا العبّاس بن الوليد، ثنا يزيد بن زريعٍ حدثني سعيد ابن أبي عروبة، عن قتادة في قوله: هدًى للمتّقين من هم؟ نعتهم اللّه، فأثبت نعتهم ووصفهم. قال: « الّذين يؤمنون بالغيب »). [تفسير القرآن العظيم: 1/35-34]
قال محمدُ بنُ عبدِ اللهِ الحاكمُ النَّيْسابوريُّ (ت: 405هـ): (أخبرني أبو أحمد محمّد بن إسحاق الصّفّار، ثنا أحمد بن نصرٍ، ثنا عمرو بن طلحة القنّاد، ثنا أسباط بن نصرٍ، عن إسماعيل بن عبد الرّحمن، عن مرّة الهمدانيّ، عن ابن مسعودٍ رضي اللّه عنه: {الم ذلك الكتاب}[البقرة: 2] قال: « {الم} [البقرة: 1] : حرف اسم اللّه، و {الكتاب} [البقرة: 2] : القرآن، {لا ريب فيه}[البقرة: 2] : لا شكّ فيه» هذا حديثٌ صحيحٌ على شرط مسلمٍ، ولم يخرّجاه ). [المستدرك: 2/286] (م)
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (قوله تعالى: {ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين })
-أخرج الفريابي، وعبد بن حميد، وابن الضريس، وابن جرير، وابن المنذر عن مجاهد قال: «من أول البقرة أربع آيات في نعت المؤمنين وآيتان في نعت الكافرين وثلاث عشرة آية في نعت المنافقين ومن أربعين آية إلى عشرين ومائة في بني إسرائيل».
-وأخرج وكيع عن مجاهد قال:« هؤلاء الآيات الأربع في أول سورة البقرة إلى {المفلحون} نزلت في نعت المؤمنين واثنتان من بعدها إلى {عظيم} نزلت في نعت الكافرين وإلى العشر نزلت في المنافقين ».
-وأخرج ابن جرير عن الربيع بن أنس قال:« أربع آيات من فاتحة سورة البقرة في الذين آمنوا وآيتان في قادة الأحزاب ».
-وأخرج ابن جرير والحاكم وصححه عن ابن مسعود {الم} حرف اسم الله و{الكتاب} القرآن {لا ريب} لا شك فيه.
-وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله {ذلك الكتاب} قال: «هذا الكتاب»
-وأخرج ابن جرير، وابن الأنباري في المصاحف عن عكرمة، مثله.
-وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله {لا ريب فيه} قال: «لا شك فيه ».
-وأخرج أحمد في الزهد، وابن أبي حاتم عن أبي الدرداء قال «ال {ريب} الشك من الكفر ».
-وأخرج الطستي في مسائل ابن عباس أن نافع بن الأزرق قال له:« أخبرني عن قوله عز وجل {لا ريب فيه} قال: لا شك فيه قال: وهل تعرف العرب ذلك قال: نعم، أما سمعت ابن الزبعرى وهو يقول: ليس في الحق يا أمامة ريب * إنما الريب ما يقول الكذوب ».
-وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله {لا ريب فيه} قال:« لا شك فيه».
-وأخرج ابن جرير عن مجاهد مثله). [الدر المنثور: 1/129-127]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (قوله تعالى: {ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين}.
-أخرج وكيع، وابن جرير عن الشعبي في قوله {هدى} قال: «من الضلالة ».
-وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود في قوله {هدى} قال:« نور{للمتقين}قال: هم المؤمنون ».
-وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله {هدى للمتقين} أي الذين يحذرون من أمر الله عقوبته في ترك ما يعرفون من الهدى ويرجون رحمته في التصديق بما جاء منه.
-وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله {هدى للمتقين} قال: « للمؤمنين الذين يتقون الشرك ويعملون بطاعتي ».
-وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله {هدى للمتقين} قال:« جعله الله هدى وضياء لمن صدق به ونور للمتقين ».
-وأخرج أبن أبي حاتم عن معاذ بن جبل قال:« يحبس الناس يوم القيامة بقيع واحد فينادي مناد: أين المتقون فيقومون في كنف الرحمن لايحتجب الله منهم ولا يستتر، قيل: من المتقون قال: قوم اتقوا الشرك عبادة الأوثان واخلصوا لله العبادة فيمرون إلى الجنة ».
-وأخرج أحمد، وعبد بن حميد والبخاري في تاريخه والترمذي وحسنه، وابن ماجه، وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن عطية السعدي وكان من الصحابة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا يبلغ العبد المؤمن أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا لما به بأس ».
-وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب التقوى عن أبي هريرة، « أن رجلا قال له: ما التقوى قال: هل أخذت طريقا ذا شوك قال: نعم، قال: فكيف صنعت قال: إذا رأيت الشوك عدلت عنه أو جاوزته أو قصرت عنه قال: ذاك التقوى ».
-وأخرج ابن أبي شيبة، وابن أبي الدنيا، وابن أبي حاتم عن طلق بن حبيب أنه قيل له: ألا تجمع لنا التقوى في كلام يسير يرونه قال: «التقوى العمل بطاعة الله على نور من الله رجاء رحمة الله والتقوى ترك معاصي الله على نور من الله مخافة عذاب الله ».
-وأخرج أحمد في الزهد، وابن أبي الدنيا عن أبي الدرداء قال: «تمام التقوى أن يتقي الله العبد حتى يتقيه من مثقال ذرة وحتى يترك بعض ما يرى أنه حلال خشية أن يكون حراما، يكون حجابا بينه وبين الحرام ».
-وأخرج ابن أبي الدنيا عن الحسن قال: « ما زالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيرا من الحلال مخافة الحرام ».
-وأخرج ابن أبي الدنيا عن سفيان الثوري قال: « إنما سموا المتقين لأنهم اتقوا ما لا يتقى ».
-وأخرج ابن أبي الدنيا عن عبد الله بن المبارك قال: « لو أن رجلا اتقى مائة شيء ولم يتق شيئا واحدا لم يكن من المتقين ».
-وأخرج ابن أبي شيبة، وابن أبي الدنيا عن عون بن عبد الله قال:« تمام التقوى أن تبتغي علم ما لم تعلم منها إلى ما قد علمت منها»-وأخرج ابن أبي الدنيا عن رجاء قال:« من سره أن يكون متقيا فليكن أذل من قعود أبل كل من أتى عليه أرغاه ».
-وأخرج ابن أبي الدنيا من طريق مالك بن أنس عن وهب بن كيسان قال: «كتب رجل إلى عبد الله بن الزبير بموعظة، أما بعد، فإن لأهل التقوى علامات يعرفون بها ويعرفونها من أنفسهم، من صبر على البلاء ورضي بالقضاء وشكر النعماء وذل لحكم القرآن ».
-وأخرج ابن أبي الدنيا عن ابن المبارك قال: « قال داود لابنه سليمان عليه السلام: يا بني إنما تستدل على تقوى الرجل بثلاثة أشياء، لحسن توكله على الله فيما نابه ولحسن رضاه فيما أتاه ولحسن زهده فيما فاته ».
-وأخرج ابن أبي الدنيا عن سهم بن سحاب قال:« معدن من التقوى لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله ».
-وأخرج أحمد في الزهد، وابن أبي الدنيا عن سعيد بن أبي سعيد المقبري قال: « بلغنا أن رجلا جاء إلى عيسى فقال: يا معلم الخير كيف أكون تقيا لله كما ينبغي له قال: بيسير من الأمر، تحب الله بقلبك كله وتعمل بكدحك وقوتك ما استطعت وترحم ابن جنسك كما ترحم نفسك، قال: من ابن جنسي يا معلم الخير قال: ولد آدم كلهم وما لا تحب أن يؤتى إليك فلا تأته إلى أحد فأنت تقي لله حقا ».
-وأخرج ابن أبي الدنيا عن إياس بن معاوية قال:« رأس التقوى ومعظمه أن لا تعبد شيئا دون الله ثم تتفاض الناس بالتقى والنهى».
-وأخرج ابن أبي الدنيا عن عون بن عبد الله قال:« فواتح التقوى حسن النية وخواتمها التوفيق والعبد فيما بين ذلك بين هلكات وشبهات ونفس تحطب على سلوها وعدو مكيد غير غافل ولا عاجز ».
-وأخرج ابن أبي الدنيا عن محرز الطفاري قال: « كيف يرجو مفاتيح التقوى من يؤثر على الآخرة الدنيا ».
-وأخرج ابن أبي الدنيا عن عمر بن عبد العزيز قال:« ليس تقوى الله بصيام النهار ولا بقيام الليل والتخليط فيما بين ذلك ولكن تقوى الله ترك ما حرم الله وأداء ما افترض الله فمن رزق بعد ذلك خيرا فهو خير إلى خير ».
-وأخرج ابن أبي الدنيا عن محمد بن يوسف الفريابي قال: « قلت لسفيان أرى الناس يقولون سفيان الثوري وأنت تنام الليل فقال لي: اسكت، ملاك هذا الأمر التقوى ».
-وأخرج ابن أبي الدنيا عن شبيب بن شبة قال: « تكلم رجل من الحكماء عند عبد الملك بن مروان فوصف المتقي فقال: رجل آثر الله على خلقه وآثر الآخرة على الدنيا ولم تكربه المطالب ولم تمنعه المطامع نظر ببصر قلبه إلى معالي إرادته فسما لها ملتمسا لها فزهده مخزون يبيت إذا نام الناس ذا شجون ويصبح مغموما في الدنيا مسجون قد انقطعت من همته الراحة دون منيته فشفاؤه القرآن ودواؤه الكلمة من الحكمة والموعظة الحسنة لا يرى منها الدنيا عوضا ولا يستريح إلى لذة سواها، فقال عبد الملك: أشهد أن هذا أرجى ء بالا منا وأنعم عيشا ».
-وأخرج ابن أبي شيبة وأبو نعيم في الحلية عن ميمون بن مهران قال:« لا يكون الرجل من المتقين حتى يحاسب نفسه أشد من محاسبة شريكه حتى تعلم من أين مطعمه ومن أين ملبسه ومن أين مشربه أمن حل ذلك أو من حرام ».
-وأخرج ابن أبي الدنيا عن عمر بن عبد العزيز، أنه لما ولي حمد الله وأثنى عليه ثم قال: « أوصيكم بتقوى الله فإن تقوى الله خلف من كل شيء وليس من تقوى الله خلف ».
-وأخرج ابن أبي الدنيا عن عمر بن عبد العزيز قال: « يا أيها الناس اتقوا الله فإنه ليس من هالك إلا له خلف إلا التقوى ».
-وأخرج ابن أبي الدنيا عن قتادة قال:« لما خلق الله الجنة قال لها تكلمي قالت: طوبى للمتقين ».
-وأخرج ابن أبي الدنيا عن مالك بن دينار قال: « القيامة عرس المتقين ».
-وأخرج ابن أبي الدنيا عن محمد بن يزيد الرحبي قال:« قيل لأبي الدرداء: أنه ليس أحد له بيت في الأنصار إلا قال شعرا فما لك لا تقول قال: وأنا قلت فاستمعوه:

يريد المرء أن يعطى مناه.......ويأبى الله إلا ما أرادا

يقول المرء فائدتي وذخري.......وتقوى الله أفضل ما استفادا »


-وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العفيف وكان من أصحاب معاذ بن جبل قال: « يدخل أهل الجنة على أربعة أصناف، المتقين ثم الشاكرين ثم الخائفين ثم أصحاب اليمين »). [الدر المنثور: 1/137-130]


تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) }
قالَ سعيدُ بنُ منصورٍ بن شعبة الخراسانيُّ: (ت:227هـ): ( [قوله تعالى: {الم * ذلك الكتاب لا ريب فيه هدًى للمتّقين * الّذين يؤمنون بالغيب} ]
- حدّثنا سعيد بن منصورٍ، قال: نا أبو معاوية، عن الأعمش، عن عمارة بن عميرٍ، عن عبد الرّحمن بن يزيد، عن عبد اللّه، قال: «ذكروا أصحاب محمّدٍ (صلّى الله عليه وسلّم) وإيمانهم، فقال عبد اللّه: إنّ أمر محمّدٍ (صلّى الله عليه وسلّم) كان بيّنًا لمن رآه، والّذي لا إله غيره، ما آمن مؤمنٌ أفضل من إيمانٍ بغيبٍ، ثمّ قرأ: {الم * ذلك الكتاب لا ريب فيه هدًى للمتّقين * الّذين يؤمنون بالغيب} ».
- حدّثنا سعيدٌ، قال: نا سفيان، قال: قال الحارث بن قيسٍ لعبد اللّه: «عند اللّه نحتسب ما سبقتمونا به يا أصحاب محمّدٍ من رؤية رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم. فقال عبد اللّه: نحتسب إيمانكم بمحمّدٍ صلّى الله عليه وسلّم ولم تروه »). [سنن سعيد بن منصور: 2/545-544]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى. {الّذين يؤمنون}.
- حدّثنا محمّد بن حميدٍ الرّازيّ، قال حدّثنا سلمة بن الفضل، عن محمّد بن إسحاق، عن محمّد بن أبي محمّدٍ، مولى زيد بن ثابتٍ، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: {الّذين يؤمنون} قال:« يصدّقون ».
- حدّثني يحيى بن عثمان بن صالحٍ السّهميّ، قال: حدّثنا أبو صالحٍ، قال: حدّثني معاوية بن صالحٍ، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: {يؤمنون} يصدّقون.
- حدّثني المثنّى بن إبراهيم، قال: حدّثنا إسحاق بن الحجّاج، قال: حدّثنا عبد اللّه بن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرّبيع: {يؤمنون} يخشون.
- حدّثنا محمّد بن عبد الأعلى الصّنعانيّ، قال: حدّثنا محمّد بن ثورٍ، عن معمرٍ، قال: قال الزّهريّ: « الإيمان: العمل ».
- وحدّثت عن عمّار بن الحسن، قال: حدّثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن العلاء بن المسيّب بن رافعٍ، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد اللّه، قال:« الإيمان: التّصديق ».
ومعنى الإيمان عند العرب: التّصديق فيدعى المصدّق بالشّيء قولاً مؤمنًا به، ويدعى المصدّق قوله بفعله مؤمنًا. ومن ذلك قول اللّه جلّ ثناؤه: {وما أنت بمؤمنٍ لنا ولو كنّا صادقين} يعني: وما أنت بمصدّقٍ لنا في قولنا. وقد تدخل الخشية للّه في معنى الإيمان الّذي هو تصديق القول بالعمل.
والإيمان كلمةٌ جامعةٌ للإقرار باللّه وكتبه ورسله، وتصديق الإقرار بالفعل. وإذا كان ذلك كذلك، فالّذي هو أولى بتأويل الآية وأشبه بصفة القوم: أن يكونوا موصوفين بالتّصديق بالغيب، قولاً، واعتقادًا، وعملاً، إذ كان جلّ ثناؤه لم يحصرهم من معنى الإيمان على معنى دون معنى، بل أجمل وصفهم به من غير خصوص شيءٍ من معانيه أخرجه من صفتهم بخبرٍ ولا عقلٍ). [جامع البيان: 1/241-240]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {بالغيب}.
- حدّثنا محمّد بن حميدٍ الرّازيّ، قال: حدّثنا سلمة بن الفضل، عن محمّد بن إسحاق، عن محمّد بن أبي محمّدٍ، مولى زيد بن ثابتٍ، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: {بالغيب} قال: « بما جاء به، يعني من اللّه جلّ ثناؤه ».
- حدّثني موسى بن هارون، قال: حدّثنا عمرو بن حمّادٍ، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ، في خبرٍ ذكره عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ، وعن مرّة الهمدانيّ، عن ابن مسعودٍ، وعن ناسٍ، من أصحاب النّبيّ: {بالغيب} أمّا الغيب: فما غاب عن العباد من أمر الجنّة وأمر النّار، وما ذكر اللّه تبارك وتعالى في القرآن. لم يكن تصديقهم بذلك، يعني المؤمنين من العرب، من قبل أصل كتابٍ أو علمٍ كان عندهم.
- حدّثنا أحمد بن إسحاق الأهوازيّ، قال: حدّثنا أبو أحمد الزّبيريّ، قال: حدّثنا سفيان، عن عاصمٍ، عن زرٍّ، قال:«الغيب: القرآن».
- حدّثنا بشر بن معاذٍ العقديّ، قال: حدّثنا يزيد بن زريعٍ، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، في قوله: {الّذين يؤمنون بالغيب} قال: « آمنوا بالجنّة والنّار والبعث بعد الموت وبيوم القيامة، وكلّ هذا غيبٌ ».
- حدّثت عن عمّار بن الحسن، قال: حدّثنا عبد اللّه بن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرّبيع بن أنسٍ:« {الّذين يؤمنون بالغيب}آمنوا باللّه وملائكته ورسله واليوم الآخر وجنّته وناره ولقائه، وآمنوا بالحياة بعد الموت، فهذا غيبٌ كلّه ».
وأصل الغيب: كلّ ما غاب عنك من شيءٍ، وهو من قولك: غاب فلانٌ يغيب غيبًا.
وقد اختلف أهل التّأويل في أعيان القوم الّذين أنزل اللّه جلّ ثناؤه هاتين الآيتين من أوّل هذه السّورة فيهم، وفي نعتهم وصفتهم الّتي وصفهم بها من إيمانهم بالغيب، وسائر المعاني الّتي حوتها الآيتان من صفاتهم غيره.
فقال بعضهم: هم مؤمنو العرب خاصّةً، دون غيرهم من مؤمني أهل الكتابين.
واستدلّوا على صحّة قولهم ذلك وحقيقة تأويلهم بالآية الّتي تتلو هاتين الآيتين، وهو قول اللّه عزّ وجلّ: {والّذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك}
قالوا: فلم يكن للعرب كتابٌ قبل الكتاب الّذي أنزله اللّه عزّ وجلّ على محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم تدين بتصديقه والإقرار والعمل به، وإنّما كان الكتاب لأهل الكتابين غيرها. قالوا: فلمّا قصّ اللّه عزّ وجلّ نبأ الّذين يؤمنون بما أنزل إلى محمّدٍ وما أنزل من قبله بعد اقتصاصه نبأ المؤمنين بالغيب، علمنا أنّ كلّ صنفٍ منهم غير الصّنف الآخر، وأنّ المؤمنين بالغيب نوعٌ غير النّوع المصدّق بالكتابين اللّذين أحدهما منزّلٌ على محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم، والآخر منهما على من قبله من رسل اللّه عز وجل.
قالوا: وإذا كان ذلك كذلك صحّ ما قلنا من أنّ تأويل قول اللّه تعالى: {الّذين يؤمنون بالغيب} إنّما هو الّذين يؤمنون بما غاب عنهم من الجنّة والنّار والثّواب والعقاب والبعث، والتّصديق باللّه وملائكته وكتبه ورسله وجميع ما كانت العرب لا تدين به في جاهليّتها، مما أوجب اللّه جلّ ثناؤه على عباده الدّينونة به دون غيرهم.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثني موسى بن هارون، قال: حدّثنا عمرو بن حمّادٍ، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ، في خبرٍ ذكره عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ، وعن مرّة الهمدانيّ، عن ابن مسعودٍ، وعن ناسٍ من أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أمّا {الّذين يؤمنون بالغيب} فهم المؤمنون من العرب {ويقيمون الصّلاة وممّا رزقناهم ينفقون} أمّا الغيب: فما غاب عن العباد من أمر الجنّة والنّار، وما ذكر اللّه في القرآن. لم يكن تصديقهم بذلك من قبل أصل كتابٍ أو علمٍ كان عندهم. {والّذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون} هؤلاء المؤمنون من أهل الكتاب ».
وقال بعضهم: بل نزلت هذه الآيات الأربع في مؤمني أهل الكتاب خاصّةً، لإيمانهم بالقرآن عند إخبار اللّه جلّ ثناؤه إيّاهم فيه عن الغيوب الّتي كانوا يخفونها بينهم ويسرّونها، فعلموا عند إظهار اللّه جلّ ثناؤه نبيّه صلّى اللّه عليه وسلّم على ذلك منهم في تنزيله أنّه من عند اللّه جلّ وعزّ، فآمنوا بالنّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وصدّقوا بالقرآن وما فيه من الإخبار عن الغيوب الّتي لا علم لهم بها لمّا استقرّ عندهم بالحجّة الّتي احتجّ اللّه تبارك وتعالى بها عليهم في كتابه، من الإخبار فيه عمّا كانوا يكتمونه من ضمائرهم؛ أنّ جميع ذلك من عند اللّه.
وقال بعضهم: بل الآيات الأربع من أوّل هذه السّورة أنزلت على محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم بوصف جميع المؤمنين الّذين ذلك صفتهم من العرب والعجم وأهل الكتابين وسواهم، وإنّما هذه صفة صنفٍ من النّاس، والمؤمن بما أنزل اللّه على محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم وما أنزل من قبله هو المؤمن بالغيب.
قالوا: وإنّما وصفهم اللّه بالإيمان بما أنزل إلى محمّدٍ وبما أنزل إلى من قبله بعد تقضّي وصفه إيّاهم بالإيمان بالغيب؛ لأنّ وصفه إيّاهم بما وصفهم به من الإيمان بالغيب كان معنيًّا به أنّهم يؤمنون بالجنّة والنّار والبعث، وسائر الأمور الّتي كلّفهم اللّه جلّ ثناؤه الايمان بها ممّا لم يروه ولم يأت بعد ممّا هو آتٍ، دون الإخبار عنهم أنّهم يؤمنون بما جاء به محمّدٌ صلّى اللّه عليه وسلّم ومن قبله من الرّسل ومن الكتب.
قالوا: فلمّا كان معنى قوله {والّذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك} غير موجودٍ في قوله: {الّذين يؤمنون بالغيب} كانت الحاجة من العباد إلى معرفة صفتهم بذلك ليعرّفهم نظير حاجتهم إلى معرفتهم بالصّفة الّتي وصفوا بها من إيمانهم بالغيب ليعلموا ما يرضي اللّه من أفعال عباده، ويحبّه من صفاتهم، فيكونوا به إن وفّقهم له ربّهم.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثني محمّد بن عمرو بن العبّاس الباهليّ، قال: حدّثنا أبو عاصمٍ الضّحّاك بن مخلدٍ، قال: حدّثنا عيسى بن ميمونٍ المكّيّ، قال: حدّثنا عبد اللّه بن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، قال: «أربع آياتٍ من سورة البقرة في نعت المؤمنين وآيتان في نعت الكافرين وثلاث عشرة في المنافقين ».
- حدّثنا سفيان بن وكيعٍ، قال: حدّثنا أبي عن سفيان، عن رجلٍ، عن مجاهدٍ بمثله.
- وحدّثني المثنّى بن إبراهيم قال: حدّثنا موسى بن مسعودٍ، قال: حدّثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ مثله.
- وحدّثت عن عمّار بن الحسن، قال: حدّثنا عبد اللّه بن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرّبيع بن أنسٍ، قال:« أربع آياتٍ من فاتحة هذه السّورة، يعني سورة البقرة، في الّذين آمنوا، وآيتان في قادة الأحزاب ».
وأولى القولين عندي بالصّواب وأشبههما بتأويل الكتاب، القول الأوّل، وهو: أنّ الّذين وصفهم اللّه تعالى ذكره بالإيمان بالغيب، وما وصفهم به جلّ ثناؤه في الآيتين الأولتين غير الّذين وصفهم بالإيمان بالّذي أنزل على محمّدٍ والّذي أنزل على من قبله من الرّسل؛ لما ذكرت من العلل قبل لمن قال ذلك.
وممّا يدلّ أيضًا مع ذلك على صحّة هذا القول أنّه جنس، بعد وصف المؤمنين بالصّفتين اللّتين وصف، وبعد تصنيفه إلى كلّ صنفٍ منهما على ما صنّف الكفّار، جنسين، فجعل أحدهما مطبوعًا على قلبه مختومًا عليه مأيوسًا من إيمانه، والآخر منافقًا يرائي بإظهار الإيمان في الظّاهر، ويستسرّ النّفاق في الباطن، فصيّر الكفّار جنسين كما صيّر المؤمنين في أوّل السّورة جنسين. ثمّ عرّف عباده نعت كلّ صنفٍ منهم وصفتهم وما أعدّ لكلّ فريقٍ منهم من ثوابٍ أو عقابٍ، وذمّ أهل الذّمّ منهم وشكر سعي أهل الطّاعة منهم). [جامع البيان: 1/247-241]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {ويقيمون}
إقامتها: أداؤها بحدودها وفروضها والواجب فيها على ما فرضت عليه، كما يقال: أقام القوم سوقهم، إذا لم يعطّلوها من البيع والشّراء فيها، وكما قال الشّاعر:

أقمنا لأهل العراقين سوق الض.......راب فخاموا وولّوا جميعا.

- وكما حدّثنا محمّد بن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة بن الفضل، عن محمّد بن إسحاق، عن محمّد بن أبي محمّدٍ، مولى زيد بن ثابتٍ، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: {ويقيمون الصّلاة} قال: « الّذين يقيمون الصّلاة بفرضها ».
- حدّثنا أبو كريبٍ، قال: حدّثنا عثمان بن سعيدٍ، عن بشر بن عمّارٍ، عن أبي روقٍ، عن الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ: {ويقيمون الصّلاة} قال: « إقامة الصّلاة: تمام الرّكوع والسّجود والتّلاوة والخشوع والإقبال عليها فيها ».
- حدّثني يحيى بن أبي طالبٍ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا جويبرٌ، عن الضّحّاك، في قوله: « {الّذين يقيمون الصّلاة} يعني الصّلاة المفروضة »). [جامع البيان: 1/248-247]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {الصّلاة}.
وأمّا الصّلاة في كلام العرب فإنّها الدّعاء كما قال الأعشى:


لها حارسٌ لا يبرح الدّهر بيتها.......وإن ذبحت صلّى عليها وزمزما


يعني بذلك: دعا لها، وكقوله الآخر أيضًا:


وقابلها الرّيح في دنّها.......وصلّى على دنّها وارتسم


وأرى أنّ الصّلاة المفروضة سمّيت صلاةً؛ لأنّ المصلّي متعرّضٌ لاستنجاح طلبته من ثواب اللّه بعمله مع ما يسأل ربّه فيها من حاجاته تعرّض الدّاعي بدعائه ربّه استنجاح حاجاته وسؤله). [جامع البيان: 1/248]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {وممّا رزقناهم ينفقون}
اختلف المفسّرون في تأويل ذلك، فقال بعضهم بما:
- حدّثنا به ابن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة، عن محمّد بن إسحاق، عن محمّد بن أبي محمّدٍ، مولى زيد بن ثابتٍ، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: {وممّا رزقناهم ينفقون} قال: « يؤتون الزّكاة احتسابًا لها ».
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا عبد اللّه بن صالحٍ، عن معاوية، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: {وممّا رزقناهم ينفقون} قال: « زكاة أموالهم ».
- حدّثني يحيى بن أبي طالبٍ، قال: حدّثنا يزيد، قال: أخبرنا جويبرٌ، عن الضّحّاك: {وممّا رزقناهم ينفقون} قال: « كانت النّفقات قربانا يتقرّبون بها إلى اللّه على قدر ميسورهم وجهدهم، حتّى نزلت فرائض الصّدقات سبع آياتٍ في سورة براءةٍ، ممّا يذكر فيهنّ الصّدقات، هنّ المثبتات النّاسخات ».
- وقال بعضهم بما حدّثني موسى بن هارون، قال: حدّثنا عمرو بن حمّادٍ، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ، في خبرٍ ذكره عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ، وعن مرّة الهمدانيّ، عن ابن مسعودٍ، وعن ناسٍ من أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: « {وممّا رزقناهم ينفقون} هي نفقة الرّجل على أهله، وهذا قبل أن تنزل الزّكاة ».
وأولى التّأويلات بالآية وأحقّها بصفة القوم أن يكونوا كانوا لجميع اللاّزم لهم في أموالهم، مؤدّين زكاةً كان ذلك أو نفقة من لزمته نفقته من أهلٍ وعيالٍ وغيرهم، ممّن تجب عليهم نفقته بالقرابة والملك وغير ذلك؛ لأنّ اللّه جلّ ثناؤه عمّ وصفهم، إذ وصفهم بالإنفاق ممّا رزقهم، فمدحهم بذلك من صفتهم، فكان معلومًا أنّهم إذ لم يخصّص مدحهم ووصفهم بنوعٍ من النّفقات المحمود عليها صاحبها دون نوعٍ بخبرٍ ولا غيره أنّهم موصوفون بجميع معاني النّفقات المحمود عليها صاحبها من طيّب ما رزقهم ربّهم من أموالهم وأملاكهم، وذلك الحلال منه الّذي لم يشبه حرامٌ). [جامع البيان: 1/250-249]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): ( {الّذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصّلاة وممّا رزقناهم ينفقون (3) }
قوله تعالى: { الّذين يؤمنون }
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا عمرو بن حمّادٍ، ثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ قوله:« الّذين يؤمنون بالغيب فهم المؤمنون من العرب ».
قوله: {بالغيب}
الوجه الأول:
- حدّثنا أحمد بن سنانٍ، ثنا أبو معاوية، عن الأعمش عن عمارة بن عميرٍ عن عبد الرّحمن بن يزيد قال: «ذكروا أصحاب محمّدٍ وإيمانهم عند عبد اللّه. فقال عبد اللّه: إنّ أمر محمّدٍ كان بيّنًا لمن رآه، والّذي لا إله غيره ما آمن مؤمنٌ أفضل من إيمانٍ بغيبٍ. ثمّ قرأ: الّذين يؤمنون بالغيب إلى قوله: ينفقون ».
- حدّثنا عصام بن روّادٍ، ثنا آدم العسقلانيّ، ثنا أبو جعفرٍ الرّازيّ عن الرّبيع ابن أنسٍ، عن أبي العالية في قوله: {الّذين يؤمنون بالغيب} قال:« يؤمنون باللّه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وجنّته وناره ولقائه. ويؤمنون بالحياة بعد الموت، وبالبعث. فهذا غيبٌ كلّه ».
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا عمرو بن حمّادٍ ثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ: « أمّا الّذين يؤمنون بالغيب فهم المؤمنون من العرب. أمّا الغيب: فما غاب عن العباد من أمر الجنّة وأمر النّار وما ذكر في القرآن، لم يكن تصديقهم بذلك من قبل أصل كتابٍ أو علمٍ كان عندهم ».
الوجه الثّاني:
- حدّثنا أبو سعيدٍ الأشجّ، ثنا أبو أحمد الزّبيريّ، عن سفيان عن عاصمٍ عن زرٍّ قال: « الغيب القرآن».
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا صفوان، ثنا الوليد، ثنا عثمان بن الأسود عن عطاء ابن أبي رباحٍ في قول اللّه عزّ وجلّ: {الّذين يؤمنون بالغيب} فقال: «من آمن باللّه، فقد آمن بالغيب».
والوجه الثّالث:
- حدّثنا أبي، ثنا شهاب بن عبّادٍ، ثنا إبراهيم بن حميدٍ، عن إسماعيل بن أبي خالدٍ: {يؤمنون بالغيب} قال: «بغيب الإسلام».
والوجه الرّابع:
- حدّثنا أبي، ثنا محمّد بن موسى بن نفيعٍ الحرشيّ، ثنا عبد اللّه بن جعفرٍ، عن زيد بن أسلم: {الّذين يؤمنون بالغيب} قال: «بالقدر».
والوجه الخامس:
- حدّثنا أبي ثنا عبد اللّه بن محمّدٍ المسنديّ، ثنا إسحاق بن إدريس، أخبرني إبراهيم بن جعفر بن محمود بن سلمة الأنصاريّ، أخبرني جعفر بن محمودٍ عن جدّته تويلة ابنة أسلم قالت: صلّيت الظّهر أو العصر في مسجد بني حارثة فاستقبلنا مسجد إيليا فصلّينا سجدتين ثمّ جاءنا من يخبرنا أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قد استقبل البيت الحرام، فتحوّل الرّجال مكان النّساء، والنّساء مكان الرّجال، فصلّينا السّجدتين الباقيتين مستقبلي البيت الحرام. قال إبراهيم: فحدّثني رجالٌ من بني حارثة أنّ رسول اللّه- صلّى اللّه عليه وسلّم- حين بلغه ذلك قال: « أولئك قومٌ آمنوا بالغيب» ). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 36- 37]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {ويقيمون الصّلاة}
- حدّثنا محمّد بن يحيى، ثنا أبو غسّان محمّد بن عمرٍو زنيجٌ، ثنا سلمة عن محمّد بن إسحاق قال فيما حدّثني محمّد بن أبي محمّدٌ مولى، زيد بن ثابتٍ عن عكرمة أو سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: «يقول اللّه سبحانه وتعالى وبحمده: {الّذين يقيمون الصّلاة}؛ أي يقيمون الصّلاة بفرضها».
- حدّثنا الحسن بن محمّد بن الصّبّاح، ثنا عبد الوهّاب- يعني ابن عطاءٍ- الخفّاف، عن سعيدٍ عن قتادة: «{ويقيمون الصّلاة} وإقامة الصّلاة: المحافظة على مواقيتها ووضوئها وركوعها وسجودها».
- قرأت على محمّد بن الفضل بن موسى، ثنا محمّد بن عليّ بن الحسن بن شقيقٍ، ثنا أبو وهبٍ محمّد بن مزاحمٍ، ثنا بكير بن معروفٍ، عن مقاتل بن حيان، قوله:«{ويقيمون الصّلاة} وإقامتها: المحافظة على مواقيتها، وإسباغ الطّهور فيها، وتمام ركوعها وسجودها، وتلاوة القرآن فيها، والتّشهّد والصّلاة على النّبيّ- صلّى اللّه عليه وسلّم- فهذا إقامتها»). [تفسير القرآن العظيم: 1/37]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {وممّا رزقناهم ينفقون}
[الوجه الأول]
- حدّثنا محمّد بن يحيى، أنبأ أبو غسّان محمّد بن عمرٍو زنيجٌ، ثنا سلمة، عن محمّد بن إسحاق- قال: فيما حدّثني محمّد بن أبي محمّدٌ مولى زيد بن ثابتٍ، عن عكرمة أو سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: «يقول اللّه سبحانه وبحمده: {وممّا رزقناهم ينفقون} يؤتون الزّكاة احتسابًا لها».
الوجه الثّاني:
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا عمرو بن حمّادٍ ثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ: «{وممّا رزقناهم ينفقون} فهي نفقة الرّجل على أهله، وهذا قبل أن تنزل الزّكاة».
الوجه الثّالث:
- حدّثنا محمّد بن يحيى أنبأ العبّاس بن الوليد، ثنا يزيد بن زريعٍ ثنا سعيدٌ عن قتادة: «{وممّا رزقناهم ينفقون} فأنفقوا ممّا أعطاكم اللّه، فإنّما هذه الأموال عوارٍ وودائع عندك يا ابن آدم أوشكت أن تفارقها»). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 37- 38]
قال محمدُ بنُ عبدِ اللهِ الحاكمُ النَّيْسابوريُّ (ت: 405هـ): (أخبرنا أبو زكريّا يحيى بن محمّدٍ العنبريّ، ثنا محمّد بن عبد السّلام، ثنا إسحاق بن إبراهيم، أنبأ أبو معاوية، عن الأعمش، عن عمارة بن عميرٍ، عن عبد الرّحمن بن يزيد، قال: ذكروا عند عبد اللّه أصحاب محمّدٍ صلّى الله عليه وسلّم، وإيمانهم قال: فقال عبد اللّه: " إنّ أمر محمّدٍ كان بيّنًا لمن رآه، والّذي لا إله غيره، ما آمن مؤمنٌ أفضل من إيمانٍ بغيبٍ، ثمّ قرأ: {الم ذلك الكتاب لا ريب فيه} إلى قوله تعالى: {يؤمنون بالغيب} «هذا حديثٌ صحيحٌ على شرط الشّيخين، ولم يخرّجاه»). [المستدرك: 2/286]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (3 - قوله تعالى: {الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون}.
أخرج جرير عن قتادة {هدى للمتقين} قال: «نعتهم ووصفهم بقوله {الذين يؤمنون بالغيب} الآية».
وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير عن ابن عباس في قوله {الذين يؤمنون} قال: «يصدقون {بالغيب}» قال: «بما جاء منه يعني من الله».
وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود في قوله {الذين يؤمنون بالغيب} قال: «هم المؤمنون من العرب»، قال: و{الأيمان}: التصديق، و{الغيب}: ما غاب عن العباد من أمر الجنة والنار وما ذكر الله في القرآن، لم يكن تصديقهم بذلك من قبل أصحاب الكتاب أو علم كان عندهم، {والذين يؤمنون بما أنزل إليك} هم المؤمنون من أهل الكتاب ثم جمع الفريقين فقال {أولئك على هدى} الآية.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله: {الذين يؤمنون بالغيب} قال: «بالله وملائكته ورسله واليوم الآخر وجنته وناره ولقائه والحياة بعد الموت».
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير عن قتادة في قوله: {الذين يؤمنون بالغيب} قال: «آمنوا بالبعث بعد الموت والحساب والجنة والنار وصدقوا بموعود الله الذي وعد في هذا القرآن».
وأخرج الطستي في مسائله عن ابن عباس أن نافع بن الأزرق قال له: أخبرني عن قوله عز وجل: {الذين يؤمنون بالغيب} قال: «ما غاب عنهم من أمر الجنة والنار»، قال: وهل تعرف العرب ذلك، قال: «نعم، أما سمعت أبا سفيان بن الحرث يقول:
وبالغيب آمنا وقد كان قومنا يصلون للأوثان قبل محمد»
وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني، وابن منده وأبو نعيم كلاهما في معرفة الصحابة عن تويلة بنت أسلم قال: صليت الظهر أو العصر في مسجد بني حارثة فاستقبلنا مسجد إيلياء فصلينا سجدتين ثم جاءنا من يخبرنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استقبل البيت الحرام فتحول الرجال مكان النساء والنساء مكان الرجال فصلينا السجدتين الباقيتين ونحن مستقبلو البيت الحرام، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فقال: «أولئك قوم آمنوا بالغيب».
وأخرج سفيان بن عيينة وسعيد بن منصور وأحمد بن منيع في مسنده، وابن أبي حاتم، وابن الأنباري في المصاحف والحاكم وصححه، وابن مردويه عن الحرث بن قيس أنه قال لابن مسعود: عند الله يحتسب ما سبقتمونا به يا أصحاب محمد من رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال ابن مسعود: «عند الله يحتسب إيمانكم بمحمد صلى الله عليه وسلم ولم تروه إن أمر محمد كان بيننا لمن رآه، والذي لا إله غيره، ما آمن أحد أفضل من إيمان بغيب، ثم قرأ: {ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه} إلى قوله {المفلحون} ».
وأخرج البزار وأبو يعلى والمرهبي في فضل العلم والحاكم وصححه عن عمر بن الخطاب قال: كنت جالسا مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: «أنبئوني بأفضل أهل الإيمان إيمانا»، قالوا: يا رسول الله الملائكة، قال: «هم كذلك ويحق لهم وما يمنعهم وقد أنزلهم الله المنزلة التي أنزلهم بها»، قالوا: يا رسول الله الأنبياء الذين أكرمهم الله برسالاته والنبوة، قال: «هم كذلك ويحق لهم وما يمنعهم وقد أنزلهم الله المنزلة التي أنزلهم بها»، قالوا: يا رسول الله الشهداء الذين استشهدوا مع الأنبياء، قال: «هم كذلك ويحق لهم وما يمنعهم وقد أكرمهم الله بالشهادة مع الأنبياء، بل غيرهم»، قالوا: فمن يا رسول الله، قال: «أقوام في أصلاب الرجال يأتون من بعدي يؤمنون بي ولم يروني ويصدقوني ولم يروني يجدون الورق المعلق فيعملون بما فيه فهؤلاء أفضل أهل الإيمان إيمانا».
وأخرج الحسن بن عروة في حزبه المشهور والبيهقي في الدلائل والأصبهاني في الترغيب عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أي الخلق أعجب إليكم إيمانا»، قالوا: الملائكة، قال: «وما لهم لا يؤمنون وهم عند ربهم»، قالوا: فالأنبياء، قال: «فما لهم لا يؤمنون والوحي ينزل عليهم»، قالوا: فنحن، قال: «وما لكم لا تؤمنون وأنا بين أظهركم ألا إن أعجب الخلق إلي إيمانا لقوم يكونون من بعدكم يجدون صحفا فيها كتاب يؤمنون بما فيه».
وأخرج الطبراني عن ابن عباس قال: أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال: «ما من ماء ما من ماء»، قالوا: لا، قال: «فهل من شن؟»، فجاؤا بالشن فوضع بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضع يده عليه ثم فرق أصابعه فنبع الماء مثل عصا موسى من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا بلال اهتف بالناس بالوضوء»، فأقبلوا يتوضؤن من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت همة ابن مسعود الشرب فلما توضؤا صلى بهم الصبح ثم قعد للناس فقال: «يا أيها الناس من أعجب الخلق إيمانا»، قالوا: الملائكة، قال: «كيف لا تؤمن الملائكة وهم يعاينون الأمر»، قالوا: فالنبيون يا رسول الله، قال: «كيف لا يؤمن النبيون والوحي ينزل عليهم من السماء »، قالوا: فأصحابك يا رسول الله، فقال: «وكيف لا تؤمن أصحابي وهم يرون ما يرون، ولكن أعجب الناس إيمانا قوم يجيئون بعدي يؤمنون بي ولم يروني ويصدقوني ولم يروني أولئك إخواني».
وأخرج الإسماعيلي في معجمه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:« أي شيء أعجب إيمانا»، قيل: الملائكة، فقال: «كيف وهم في السماء يرون من الله ما لا ترون»، قيل: فالأنبياء، قال: «كيف وهم يأتيهم الوحي»، قالوا: فنحن، قال: «كيف وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ولكن قوم يأتون من بعدي يؤمنون بي ولم يروني أولئك أعجب إيمانا وأولئك إخواني وأنتم أصحابي».
وأخرج البزار عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أي الخلق أعجب إيمانا؟»، قالوا: الملائكة،، قال: «الملائكة، كيف لا يؤمنون»، قالوا: النبيون، قال: «النبيون يوحى إليهم فكيف لا يؤمنون ولكن أعجب الناس إيمانا قوم يجيئون من بعدكم فيجدون كتابا من الوحي فيؤمنون به ويتبعونه، فهؤلاء أعجب الناس إيمانا».
وأخرج ابن أبي شيبة في مسنده عن عوف بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:« يا ليتني قد لقيت إخواني»، قالوا: يا رسول الله ألسنا إخوانك وأصحابك، قال:« بلى، ولكن قوما يجيئون من بعدكم يؤمنون بي إيمانكم ويصدقوني تصديقكم وينصروني نصركم، فيا ليتني قد لقيت إخواني».
وأخرج ابن عساكر في الأربعين السباعية من طريق أبي هدبة وهو كذاب عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليتني قد لقيت إخواني»، فقال له رجل من أصحابه: أولسنا إخوانك قال: «بلى، أنتم أصحابي وإخواني قوم يأتون من بعدي يؤمنون بي ولم يروني ثم قرأ: {الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة}».
وأخرج أحمد والدارمي والبارودي، وابن قانع معا في معجم الصحابة والبخاري في تاريخه والطبراني والحاكم عن أبي جمعة الأنصاري قال: قلنا: يا رسول الله هل من قوم أعظم منا آجرا آمنا بك واتبعناك، قال: «ما يمنعكم من ذلك ورسول الله بين أظهركم يأتيكم الوحي من السماء بل قوم يأتون من بعدي يأتيهم كتاب بين لوحين فيؤمنون به ويعملون بما فيه أولئك أعظم منكم أجرا».
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن أبي عمر وأحمد والحاكم عن أبي عبد الرحمن الجهني قال: بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ طلع راكبان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كنديان أو مذحجيان»،حتى أتيا فإذا رجلان من مذحج، فدنا أحدهما ليبايعه فلما أخذ بيده قال: يا رسول الله أرأيت من آمن بك واتبعك وصدقك فماذا له قال: «طوبى له»، فمسح على يده وانصرف، ثم جاء الآخر حتى أخذ على يده ليبايعه فقال: يا رسول الله أرأيت من آمن بك وصدقك واتبعك ولم يرك قال: «طوبى له، ثم طوبى له»، ثم مسح على يده وانصرف.
وأخرج الطيالسي وأحمد والبخاري في تاريخه والطبراني والحاكم عن أبي أمامة الباهلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «طوبى لمن رآني وآمن بي وطوبى لمن آمن بي ولم يرني سبع مرات».
وأخرج أحمد، وابن حبان عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إن رجلا قال: يا رسول الله طوبى لمن رآك وآمن بك، قال: «طوبى لمن رآني وآمن بي وطوبى ثم طوبى ثم طوبى لمن آمن بي ولم يرني».
وأخرج الطيالسي، وعبد بن حميد عن نافع قال: جاء رجل إلى ابن عمر فقال: يا أبا عبد الرحمن رأيتم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأعينكم هذه قال: نعم، قال: طوبى لكم، فقال ابن عمر: ألا أخبرك بشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بلى، قال: سمعته يقول: قال:« طوبى لمن رآني وآمن بي وطوبى لمن آمن بي ولم يرني ثلاث مرات».
وأخرج أحمد وأبو يعلى والطبراني عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «طوبى لمن رآني وآمن بي وطوبى لمن آمن بي ولم يرني سبع مرات».
وأخرج الحاكم عن أبي هريرة مرفوعا: «إن ناسا من أمتي يأتون بعدي يود أحدهم لو اشترى رؤيتي بأهله وماله».
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن إسحاق عن ابن عباس في قوله: {ويقيمون الصلاة} قال: «الصلوات الخمس {ومما رزقناهم ينفقون} قال: زكاة أموالهم».
وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: «{ويقيمون الصلاة} قال: يقيمونها بفروضها، {ومما رزقناهم ينفقون} قال: يؤدون الزكاة احتسابا لها».
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: «إقامة الصلاة: إتمام الركوع والسجود والتلاوة والخشوع والإقبال عليها فيها».
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله: {يقيمون الصلاة} قال: «إقامة الصلاة: المحافظة على مواقيتها ووضوئها وركوعها وسجودها، {ومما رزقناهم ينفقون} قال: أنفقوا في فرائض الله التي افترض الله عليهم في طاعته وسبيله».
وأخرج ابن المنذر عن سعيد بن جبير في قوله: {ومما رزقناهم ينفقون} قال: «إنما يعني الزكاة خاصة دون سائر النفقات، لا يذكر الصلاة إلا ذكر معها الزكاة فإذا لم يسم الزكاة قال في أثر ذكر الصلاة {ومما رزقناهم ينفقون}».
وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود في قوله: {ومما رزقناهم ينفقون} قال: «هي نفقة الرجل على أهله».
وأخرج ابن جرير عن الضحاك في قوله: {ومما رزقناهم ينفقون} قال: «كانت النفقات قربانا يتقربون بها إلى الله على قدر ميسورهم وجهدهم حتى نزلت فرائض الصدقات في سورة براءة، هن الناسخات المبينات».). [الدر المنثور: 1/ 137- 147]

تفسير قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) )
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {والّذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون}
قد مضى البيان عن المنعوتين بهذا النّعت، وأيّ أجناس النّاس هم. غير أنّا نذكر ما روي في ذلك عمّن روي عنه في تأويله قول؛
- فحدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة، عن محمّد بن إسحاق، عن محمّد بن أبي محمّدٍ، مولى زيد بن ثابتٍ، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: «{والّذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك} أي يصدّقونك بما جئت به من اللّه جلّ وعزّ، وما جاء به من قبلك من المرسلين، لا يفرّقون بينهم ولا يجحدون ما جاءوهم به من ربّهم».
- حدّثنا موسى بن هارون، قال: حدّثنا عمرو بن حمّادٍ، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ، في خبرٍ ذكره عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ، وعن مرّة الهمدانيّ، عن ابن مسعودٍ، وعن ناسٍ من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: {والّذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون} هؤلاء المؤمنون من أهل الكتاب). [جامع البيان: 1/ 250 -251]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {وبالآخرة هم يوقنون}
قال أبو جعفرٍ: أمّا الآخرة، فإنّها صفةٌ للدّار، كما قال جلّ ثناؤه: {وإنّ الدّار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون} وإنّما وصفت بذلك لمصيرها آخرةً لأولى كانت قبلها كما تقول للرّجل: أنعمت عليك مرّةً بعد أخرى فلم تشكر لي الأولى ولا الآخرة. وإنّما صارت الآخرة آخرةً للأولى، لتقدّم الأولى أمامها، فكذلك الدّار الآخرة سمّيت آخرةً لتقدّم الدّار الأولى أمامها، فصارت التّالية لها آخرةً. وقد يجوز أن تكون سمّيت آخرةً لتأخّرها عن الخلق، كما سمّيت الدّنيا دنيا لدنوّها من الخلق.
وأمّا الّذي وصف اللّه جلّ ثناؤه به المؤمنين، بما أنزل إلى نبيّه محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم، وما أنزل إلى من قبله من المرسلين، من إيقانهم به من أمر الآخرة، فهو إيقانهم بما كان المشركون به جاحدين، من البعث والنّشر والثّواب والعقاب والحساب والميزان، وغير ذلك ممّا أعدّ اللّه لخلقه يوم القيامة.
- كما حدّثنا به، محمّد بن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة، عن محمّد بن إسحاق، عن محمّد بن أبي محمّدٍ، مولى زيد بن ثابتٍ، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: «{وبالآخرة هم يوقنون} أي بالبعث والقيامة والجنّة والنّار والحساب والميزان، أي لا هؤلاء الّذين يزعمون أنّهم آمنوا بما كان قبلك ويكفرون بما جاءك من ربّك».
وهذا التّأويل من ابن عبّاسٍ قد صرّح عن أنّ السّورة من أوّلها وإن كانت الآيات الّتي في أوّلها من نعت المؤمنين تعريضٌ من اللّه عزّ وجلّ بذمّ الكفّار أهل الكتاب الّذين زعموا أنّهم بما جاءت به رسل اللّه عزّ وجلّ الّذين كانوا قبل محمّدٍ صلوات اللّه عليهم وعليه مصدّقون وهم بمحمّدٍ عليه الصّلاة والسّلام مكذّبون، ولما جاء به من التّنزيل جاحدون، ويدّعون مع جحودهم ذلك أنّهم مهتدون وأنّه لن يدخل الجنّة إلاّ من كان هودًا أو نصارى فأكذب اللّه جلّ ثناؤه ذلك من قيلهم بقوله: {الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدًى للمتّقين الّذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصّلاة وممّا رزقناهم ينفقون والّذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون}
وأخبر جلّ ثناؤه عباده أنّ هذا الكتاب هدًى لأهل الإيمان بمحمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم، وبما جاء به المصدّقين بما أنزل إليه وإلى من قبله من رسله من البيّنات والهدى خاصّةً، دون من كذّب بمحمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم وبما جاء به، وادّعى أنّه مصدّقٌ بمن قبل محمّدٍ عليه الصّلاة والسّلام من الرّسل وبما جاء به من الكتب. ثمّ أكّد جلّ ثناؤه أمر المؤمنين من العرب ومن أهل الكتاب المصدّقين بمحمّدٍ عليه الصّلاة والسّلام وبما أنزل إليه وإلى من قبله من الرّسل بقوله: {أولئك على هدًى من ربّهم وأولئك هم المفلحون} فأخبر أنّهم هم أهل الهدى والفلاح خاصّةً دون غيرهم، وأنّ غيرهم هم أهل الضّلال والخسار). [جامع البيان: 1/ 251- 253]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): ({والّذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون (4)}
قوله تعالى: {والّذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك}
- حدّثنا محمّد بن يحيى أنبأ أبو غسّان محمّد بن عمرٍو زنيجٌ، ثنا سلمة، عن محمّد بن إسحاق، قال فيما حدّثني محمّد بن أبي محمّدٍ عن عكرمة أو سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: «{والّذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك} أي يصدّقونك بما جئت من اللّه، وما جاء به من قبلك من المرسلين، لا يفرّقون بينهم ولا يجحدون بما جاءوهم به من ربّهم».
- حدّثنا محمّد بن يحيى أنبأ العبّاس بن الوليد، ثنا يزيد ثنا سعيدٌ عن قتادة قوله: «{والّذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك} فآمنوا بالفرقان وبالكتب الّتي قد خلت قبله من التّوراة والزّبور والإنجيل».
قوله تعالى: {وبالآخرة هم يوقنون}
- حدّثنا محمّد بن يحيى أنبأ أبو غسّان، محمّد بن عمرٍو ثنا سلمة، عن محمّد ابن إسحاق قال فيما حدّثني محمّد بن أبي محمّدٍ، عن عكرمة أو سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: «{وبالآخرة هم يوقنون} أي بالبعث والقيامة والجنّة والنّار والحساب والميزان. أي هؤلاء الّذين يزعمون أنّهم آمنوا بما كان قبلك ويكفرون بما جاءك من ربّك».
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا عمرو بن حمّادٍ، ثنا أسباطٌ عن السّدّيّ: «{وبالآخرة هم يوقنون} هؤلاء المؤمنون من أهل الكتاب».). [تفسير القرآن العظيم: 1/38]

تفسير قوله تعالى: (أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) )
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {أولئك على هدًى من ربّهم وأولئك هم المفلحون}.
اختلف أهل التّأويل فيمن عنى اللّه جلّ ثناؤه بقوله: {أولئك على هدًى من ربّهم} فقال بعضهم: عنى بذلك أهل الصّفتين المتقدّمتين، أعني المؤمنين بالغيب من العرب والمؤمنين بما أنزل إلى محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم وإلى من قبله من الرّسل، وإيّاهم جميعًا وصف بأنّهم على هدًى منهم وأنّهم هم المفلحون.
ذكر من قال ذلك من أهل التّأويل:
- حدّثني موسى بن هارون، قال: حدّثنا عمرو بن حمّادٍ، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ، في خبرٍ ذكره عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ، وعن مرّة الهمدانيّ، عن ابن مسعودٍ، وعن ناسٍ، من أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: أمّا {الّذين يؤمنون بالغيب}، فهم المؤمنون من العرب، {والّذين يؤمنون بما أنزل إليك}: المؤمنون من أهل الكتاب. ثمّ جمع الفريقين فقال: {أولئك على هدًى من ربّهم وأولئك هم المفلحون}.
وقال بعضهم: بل عنى بذلك المتّقين الّذين يؤمنون بالغيب؛ وهم الّذين يؤمنون بما أنزل إلى محمّدٍ، وبما أنزل إلى من قبله من الرّسل.
وقال آخرون: بل عنى بذلك الّذين يؤمنون بما أنزل إلى محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم، وبما أنزل إلى من قبله، وهم مؤمنو أهل الكتاب الّذين صدّقوا بمحمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم وبما جاء به، وكانوا مؤمنين من قبل بسائر الأنبياء والكتب.
وعلى هذا التّأويل الآخر، يحتمل أن يكون: {والّذين يؤمنون بما أنزل إليك} في محلّ خفضٍ، ومحلّ رفعٍ؛ فأمّا الرّفع فيه فإنّه يأتيها من وجهين: أحدهما من قبل العطف على ما في {يؤمنون بالغيب} من ذكر الّذين. والثّاني: أن يكون خبرا مبتدأٍ، ويكون: {أولئك على هدًى من ربّهم} رافعها.
وأمّا الخفض فعلى العطف على المتّقين وإذا كانت معطوفةٌ على الّذين اتّجه لها وجهان من المعنى، أحدهما: أن تكون هي والّذين الأولى من صفة المتّقين، وذلك على تأويل من رأى أنّ الآيات الأربع بعد {الم} نزلت في صنفٍ واحدٍ من أصناف المؤمنين.
والوجه الثّاني: أن تكون الّذين الثّانية معطوفةً في الإعراب على المتّقين بمعنى الخفض، وهم في المعنى صنفٌ غير الصّنف الأوّل.
وذلك على مذهب من رأى أنّ الّذين نزلت فيهم الآيتان الأولتان من المؤمنين بعد قوله {الم} غير الّذين نزلت فيهم الآيتان الآخرتان اللّتان تليان الأولتين.
وقد يحتمل أن تكون الّذين الثّانية مرفوعةً في هذا الوجه بمعنى الائتناف، إذ كانت مبتدأً بها بعد تمام آيةٍ وانقضاء قصّةٍ. وقد يجوز الرّفع فيها أيضًا بنيّة الائتناف إذ كانت في مبتدأ آيةٍ وإن كانت من صفة المتّقين.
فالرّفع إذًا يصحّ فيها من أربعة أوجهٍ، والخفض من وجهين.
وأولى التّأويلات عندي بقوله: {أولئك على هدًى من ربّهم} ما ذكرت من قول ابن مسعودٍ وابن عبّاسٍ، وأن تكون أولئك إشارةً إلى الفريقين، أعني المتّقين والّذين يؤمنون بما أنزل إليك، وتكون أولئك مرفوعةً بالعائد من ذكرهم في قوله: {على هدًى من ربّهم} وأن تكون الّذين الثّانية معطوفةً على ما قبل من الكلام على ما قد بيّنّاه.
وإنّما رأينا أنّ ذلك أولى التّأويلات بالآية، لأنّ اللّه جلّ ثناؤه نعت الفريقين بنعتهم المحمود ثمّ أثنى عليهم؛ فلم يكن عزّ وجلّ ليخصّ أحد الفريقين بالثّناء مع تساويهما فيما استحقّا به الثّناء من الصّفات، كما غير جائزٍ في عدله أن يتساويا فيما يستحقّان به الجزاء من الأعمال فيخصّ أحدهما بالجزاء دون الآخر ويحرم الآخر جزاء عمله، فكذلك سبيل الثّناء بالأعمال؛ لأنّ الثّناء أحد أقسام الجزاء.
وأمّا معنى قوله: {أولئك على هدًى من ربّهم} فإنّ معنى ذلك أنّهم على نورٍ من ربّهم وبرهانٍ واستقامةٍ وسدادٍ بتسديد اللّه إيّاهم وتوفيقه لهم.
- كما حدّثني ابن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة بن الفضل، عن محمّد بن إسحاق، عن محمّد بن أبي محمّدٍ، مولى زيد بن ثابتٍ، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: «{أولئك على هدًى من ربّهم} أي على نورٍ من ربّهم، واستقامةٍ على ما جاءهم».). [جامع البيان: 1/ 253- 256]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {وأولئك هم المفلحون}
وتأويل قوله: {وأولئك هم المفلحون} أي أولئك هم المنجحون المدركون ما طلبوا عند اللّه تعالى ذكره بأعمالهم وإيمانهم باللّه وكتبه ورسله، من الفوز بالثّواب، والخلود في الجنان، والنّجاة ممّا أعدّ اللّه تبارك وتعالى لأعدائه من العقاب.
- كما حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة، قال: حدّثنا ابن إسحاق، عن محمّد بن أبي محمّدٍ، مولى زيد بن ثابتٍ، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: {وأولئك هم المفلحون} أي الّذين أدركوا ما طلبوا ونجوا من شرّ ما منه هربوا.
ومن الدّلالة على أنّ أحد معاني الفلاح إدراك الطّلبة والظّفر بالحاجة قول لبيد بن ربيعة:

اعقلي إن كنت لمّا تعقلي ....... ولقد أفلح من كان عقل

يعني ظفر بحاجته وأصاب خيرًا. ومنه قول الرّاجز:

عدمت أمًّا ولدت رياحا ....... جاءت به مفركحًا فركاحا.
تحسب أن قد ولدت نجاحا ...... أشهد لا يزيدها فلاحا
يعني خيرًا وقربًا من حاجتها.
والفلاح: مصدرٌ من قولك: أفلح فلانٌ يفلح إفلاحًا، وفلاحًا، وفلحًا. والفلاح أيضًا البقاء، ومنه قول لبيدٍ:

نحلّ بلادًا كلّها حلّ قبلنا ....... ونرجو الفلاح بعد عادٍ وحمير

يريد البقاء. ومنه أيضًا قول عبيدٍ:

أفلح بما شئت فقد يدرك بالضّ ....... عف وقد يخدع الأريب

يريد: عش وابق بما شئت. وكذلك قول نابغة بني ذبيان:

وكلّ فتًى ستشعبه شعوبٌ ....... وإن أثرى وإن لاقى فلاحا

أي نجاحًا بحاجته وبقاءً). [جامع البيان: 1/ 256- 258]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): ({أولئك على هدًى من ربّهم وأولئك هم المفلحون (5)}
قوله: {أولئك على هدى من ربهم}
[الوجه الأول]
- حدّثنا محمّد بن يحيى، أنبأ أبو غسّان محمّد بن عمرٍو، وثنا سلمة عن محمّد ابن إسحاق قال: فيما حدّثني محمّد بن أبي محمّدٍ، عن عكرمة أو سعيد بن جبيرٍ عن ابن عبّاسٍ: «{أولئك على هدًى من ربّهم} أي على نورٍ من ربّهم، واستقامةٍ على ما جاءهم».
والوجه الثّاني:
- حدّثنا أبي، ثنا أبو هارون البكّاء، ثنا ابن لهيعة، عن عطاء بن دينارٍ، عن سعيد بن جبيرٍ في قوله: {أولئك على هدًى من ربّهم} قال: «على بيّنةٍ من ربّهم».
قوله تعالى: {وأولئك هم المفلحون}
- حدّثنا أبي، ثنا يحيى بن عثمان بن صالحٍ المصريّ، ثنا أبي ثنا ابن لهيعة، حدّثني عبيد اللّه بن المغيرة، عن أبي الهيثم- واسمه سليمان بن عبدٍ- عن عبد اللّه بن عمرٍو، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وقيل له يا رسول اللّه: إنّا نقرأ من القرآن فنكاد أن - أو كما قال: فقال:«- ألا أخبركم عن أهل الجنّة وأهل النّار؟»
قالوا: بلى يا رسول اللّه. فقال: «{الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدًى للمتّقين- إلى قوله- المفلحون} هؤلاء أهل الجنة»، قالوا: إنا نرجو أن نكون هؤلاء. ثمّ قال: «{إنّ الّذين كفروا سواءٌ عليهم- إلى قوله- عظيمٌ} هؤلاء أهل النّار»، لسنا هم يا رسول اللّه؟ قال: «أجل».
- حدّثنا عصام بن روّاد بن الجرّاح العسقلانيّ، ثنا آدم بن أبي إياسٍ، ثنا أبو جعفرٍ الرّازيّ، عن الرّبيع بن أنسٍ، عن أبي العالية قال: «هذه الأربع الآيات من فاتحة السّورة- في المؤمنين».
- حدّثنا محمّد بن يحيى أنبأ أبو غسّان محمّد بن عمرٍو زنيجٌ ثنا سلمة عن محمّد بن إسحاق قال فيما حدّثني محمّد بن أبي محمّدٍ عن عكرمة أو سعيد بن جبيرٍ عن ابن عبّاسٍ: « {وأولئك هم المفلحون} أي الّذين أدركوا ما طلبوا، ونجوا من شر ما منه هربوا».
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا عمرو بن حمّادٍ ثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ: « {والّذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون} هؤلاء المؤمنون من أهل الكتاب ثمّ جمع الفريقين».). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 39- 40]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {أولئك على هدًى من ربّهم وأولئك هم المفلحون}
- أخبرنا موسى بن هارون الطّوسيّ فيما كتب إليّ، ثنا الحسين بن محمّدٍ المرّوذيّ، ثنا شيبان بن عبد الرّحمن عن قتادة: {أولئك على هدًى من ربّهم وأولئك هم المفلحون} قال: «قومٌ استحقّوا الهدى والفلاح بحقٍّ، فأحقّه اللّه لهم، وهذا نعت أهل الإيمان».). [تفسير القرآن العظيم: 1/40]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : ( قوله تعالى: {والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون * أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون}.
أخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: «{والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك} أي يصدقونك بما جئت به من الله وما جاء به من قبلك المرسلين لا يفرقون بينهم ولا يجحدون ما جاؤوهم به من ربهم، {وبالآخرة هم يوقنون} أي بالبعث والقيامة والجنة والنار والحساب والميزان أي لا هؤلاء الذين يزعمون أنهم آمنوا بما كان قبلك ويكفرون بما جاءك من ربك».
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة {والذين يؤمنون بما أنزل إليك} قال: «هو الفرقان الذي فرق الله به بين الحق والباطل، {وما أنزل من قبلك} أي الكتب التي خلت قبله، {أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون} قال: استحقوا الهدى والفلاح بحق فاحقه الله عليهم، وهذا نعت أهل الإيمان ثم نعت المشركين فقال {إن الذين كفروا سواء عليهم}». البقرة الآية 6 الآيتين.
وأخرج عبد الله بن أحمد بن حنبل في زوائد المسند والحاكم والبيهقي في الدعوات عن أبي بن كعب قال: كنت عند النّبيّ صلى الله عليه وسلم فجاء أعرابي فقال: يا نبي الله إن لي أخا وبه وجع قال: «وما وجعه»، قال: به لمم قال: «فائتني به»، فوضعه بين فعوذه النّبيّ صلى الله عليه وسلم بفاتحة الكتاب، وأربع آيات من أول سورة البقرة، وهاتين الآيتين {وإلهكم إله واحد} [البقرة الآية 163] وآية الكرسي، وثلاث آيات من آخر سورة البقرة، وآية من آل عمران {شهد الله أنه لا إله إلا هو} [آل عمران 18]، وآية من الأعراف {إن ربكم الله} [الأعراف الآية 54]، وآخر سورة المؤمنين {فتعالى الله الملك الحق} [المؤمنون الآية 116]، وآية من سورة الجن {وأنه تعالى جد ربنا} [الجن الآية 3]، وعشر آيات من أول الصافات، وثلاث آيات من آخر سورة الحشر، و{قل هو الله أحد} و(المعوذتين) فقام الرجل كأنه لم يشك قط.
وأخرج ابن السني في عمل اليوم والليلة من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى عن رجل عن أبيه، مثله سواء.
وأخرج الدارمي، وابن الضريس عن ابن مسعود قال: «من قرأ أربع آيات من أول سورة البقرة، وآية الكرسي، وآيتين بعد آية الكرسي، وثلاثا من آخر سورة البقرة لم يقربه ولا أهله يومئذ شيطان ولا شيء يكرهه في أهله ولا ماله ولا يقرأن على مجنون إلا أفاق».
وأخرج الدارمي، وابن المنذر والطبراني عن ابن مسعود قال: «من قرأ عشر آيات من سورة البقرة في ليلة لم يدخل ذلك البيت شيطان تلك الليلة حتى يصبح، أربع من أولها وآية الكرسي وآيتان بعدها وثلاث خواتيمها، أولها {لله ما في السموات} [البقرة الآية 284]».
وأخرج سعيد بن منصور والدارمي والبيهقي في شعب الإيمان عن المغيرة بين سبيع وكان من أصحاب عبد الله قال: «من قرأ عشر آيات من البقرة عند منامه لم ينس القرآن، أربع آيات من أولها وآية الكرسي وآيتان بعدها وثلاث من آخرها».
وأخرج الطبراني والبيهقي في الشعب عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إذا مات أحدكم فلا تحبسوه وأسرعوا به إلى قبره وليقرأ عند رأسه بفاتحة البقرة وعند رجليه بخاتمة سورة البقرة في قبره».
وأخرج الطبراني في الكبير عن عبد الرحمن بن العلاء بن اللجلاج قال: قال لي أبي: «يا بني إذا وضعتني في لحدي فقل: بسم الله وعلى ملة رسول الله، ثم سن علي التراب سنا ثم اقرأ عند رأسي بفاتحة البقرة وخاتمتها، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك».
وأخرج ابن النجار في تاريخه من طريق محمد بن علي المطلبي عن خطاب بن سنان عن قيس بن الربيع عن ثابت بن ميمون عن محمد بن سيرين قال: نزلنا يسيرى فاتانا أهل ذلك المنزل فقالوا: ارحلوا فإنه لم ينزل عندنا هذا المنزل أحد إلا اتخذ متاعه، فرحل أصحابي وتخلفت للحديث الذي حدثني ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ في ليلة ثلاثا وثلاثين آية لم يضره في تلك الليلة سبع ضار ولا لص».
طار وعوفي في نفسه وأهله وماله حتى يصبح، فلما أمسينا حتى رأيتهم قد جاءوا أكثر من ثلاثين مرة مخترطين سيوفهم فما يصلون إلي فلما أصبحت رحلت فلقيني شيخ منهم فقال: يا هذا إنسي أم جني قلت: بل إنسي قال: فما بالك، لقد أتيناك أكثر من سبعين مرة كل ذلك يحال بيننا وبينك بسور من حديد، فذكرت له الحديث والثلاث وثلاثون آية أربع آيات من أول البقرة إلى قوله: {المفلحون} وآية الكرسي وآيتان بعدها إلى قوله: {خالدون} [البقرة الآية 257]، والثلاث آيات من آخر البقرة {لله ما في السموات وما في الأرض} [البقرة الآية 284]، وثلاث آيات من الأعراف {إن ربكم الله} إلى قوله: {من المحسنين} [الأعراف الآية 54 - 57]، وآخر بني إسرائيل {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن} [الإسراء الآية 110] إلى آخرها، وعشر آيات من أول الصافات إلى قوله {لازب}، وآيتان من الرحمن {يا معشر الجن والإنس} إلى قوله: {فلا تنتصران} [الرحمن الآية 33 - 34]، ومن آخر الحشر {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل} [الحشر الآية 21] إلى آخر السورة، وآيتان من {قل أوحي إلي} إلى {وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة} إلى قوله {شططا} [الجن الآية 1 - 4]، فذكرت هذا الحديث لشعيب بن حرب فقال لي: كنا نسميها آيات الحرب ويقال: إن فيها شفاء من كل داء، فعد علي الجنون والجذام والبرص وغير ذلك، قال محمد بن علي: فقرأتها على شيخ لنا قد فلج حتى أذهب الله عنه ذلك.
وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن ابن مسعود قال: «من قرأ عشر من سورة البقرة أول النهار لا يقربه شيطان حتى يمسي وإن قرأها حين يمسي لم يقربه حتى يصبح ولا يرى شيئا يكرهه في أهله وماله وإن قرأها على مجنون أفاق، أربع آيات من أولها وآية الكرسي وآيتان بعدها وثلاث آيات من آخرها».). [الدر المنثور: 1/ 147- 152]


رد مع اقتباس
  #3  
قديم 9 ربيع الثاني 1434هـ/19-02-2013م, 08:17 AM
عبد العزيز بن داخل المطيري عبد العزيز بن داخل المطيري غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 2,179
افتراضي

التفسير اللغوي
تفسير قوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)}

قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله تعالى: {ذلك الكتاب...} يصلح فيه "ذلك" من جهتين، وتصلح فيه "هذا" من جهة؛ فأما أحد الوجهين من "ذلك" فعلى معنى: هذه الحروف يا أحمد، ذلك الكتاب الذي وعدتك أن أوحيه إليك، والآخر أن يكون "ذلك" على معنى يصلح فيه "هذا"؛ لأن قوله "هذا" و"ذلك" يصلحان في كل كلام إذا ذكر ثم أتبعته بأحدهما بالإخبار عنه، ألا ترى أنك تقول: قد قدم فلان؛ فيقول السامع: قد بلغنا ذلك، وقد بلغنا ذلك الخبر، فصلحت فيه "هذا"؛ لأنه قد قرب من جوابه، فصار كالحاضر الذي تشير إليه، وصلحت فيه "ذلك" لانقضائه، والمنقضي كالغائب، ولو كان شيئاً قائماً يرى لم يجز مكان "ذلك": "هذا"، و لا مكان "هذا": "ذلك"، وقد قال الله جل وعز: {واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق} إلى قوله: {وكلّ من الأخيار}، ثم قال: {هذا ذكرٌ}.
وقال جلّ وعزّ في موضع آخر: {وعندهم قاصرات الطّرف أترابٌ}، ثم قال: {هذا ما توعدون ليوم الحساب}،
وقال جلّ ذكره: {وجاءت سكرة الموت بالحقّ}، ثم قال: {ذلك ما كنت منه تحيد}،
ولو قيل في مثله من الكلام في موضع "ذلك": "هذا"، أو في موضع "هذا": "ذلك" لكان صواباً، وفي قراءة عبد الله بن مسعود: (هذا فذوقوه)، وفي قراءتنا: {ذلكم فذوقوه}.
فأما مالا يجوز فيه "هذا" في موضع "ذلك"، ولا "ذلك" في موضع "هذا" فلو رأيت رجلين تنكر أحدهما لقلت للذي تعرف: من هذا الذي معك؟، ولا يجوز هاهنا: "من ذلك؟" ؛ لأنك تراه بعينه.
وأما قوله تعالى: {هدىً لّلمتّقين...}: فإنه رفع من وجهين، ونصب من وجهين:-
إذا أردت بـ "الكتاب" أن يكون نعتًا لـ "ذلك" كان الهدى في موضع رفع؛ لأنه خبر لـ "ذلك"؛ كأنك قلت: ذلك هدًى لا شكّ فيه.
وإن جعلت {لا ريب فيه} خبره، رفعت أيضاً {هدىً} تجعله تابعاً لموضع: {لا ريب فيه} كما قال الله عزّ وجلّ: {وهذا كتابٌ أنزلناه مباركٌ} كأنه قال: وهذا كتاب، وهذا مبارك، وهذا من صفته كذا وكذا.
وفيه وجه ثالث من الرفع: إن شئت رفعته على الاستئناف لتمام ما قبله، كما قرأت القرّاء: {الم * تلك آيات الكتاب الحكيم * هدًى ورحمةٌ للمحسنين} بالرفع والنصب، وكقوله في حرف عبد الله: (ءألد وأنا عجوزٌ وهذا بعلي شيخٌ) وهي في قراءتنا: {شيخاً}.
فأما النصب في أحد الوجهين: فأن تجعل "الكتاب" خبرًا لـ"ذلك" فتنصب "هدًى" على القطع؛ لأن "هدًى" نكرة اتصلت بمعرفة قد تمّ خبرها فنصبتها؛ لأن النكرة لا تكون دليلاً على معرفة.
وإن شئت نصبت "هدىً" على القطع من الهاء التي في "فيه"؛ كأنك قلت: لا شك فيه هادياً.
واعلم أن "هذا" إذا كان بعده اسم فيه الألف واللام جرى على ثلاثة معان:
أحدها: أن ترى الاسم الذي بعد "هذا" كما ترى "هذا" ففعله حينئذ مرفوع؛ كقولك: هذا الحمار فاره جعلت الحمار نعتاً لهذا إذا كانا حاضرين، ولا يجوز ها هنا النصب.
والوجه الآخر: أن يكون ما بعد "هذا" واحدا يؤدّى عن جميع جنسه، فالفعل حينئذ منصوب؛ كقولك: ما كان من السباع غير مخوف فهذا الأسد مخوفاً؛ ألا ترى أنك تخبر عن الأُسْد كلّها بالخوف.
والمعنى الثالث: أن يكون ما بعد "هذا" واحداً لا نظير له؛ فالفعل حينئذ أيضاً منصوب، وإنما نصبت الفعل؛ لأن "هذا" ليست بصفة للأسد إنما دخلت تقريباً، وكان الخبر بطرح "هذا" أجود؛ ألا ترى أنك لو قلت: ما لا يضرّ من السباع فالأسد ضارّ، كان أبين.
وأما معنى التقريب: فهذا أوّل ما أخبركم عنه، فلم يجدوا بدّاً من أن يرفعوا "هذا" بـ"الأسد"، وخبره منتظر، فلما شغل الأسد بمرافعة "هذا" نصب فعله الذي كان يرافعه لخلوته، ومثله:{والله غفور رحيم}، فإذا أدخلت عليه "كان" ارتفع بها، والخبر منتظر يتم به الكلام، فنصبته لخلوته.
وأما نصبهم فعل الواحد الذي لا نظير له مثل قولك: هذه الشمس ضياءً للعباد، وهذا القمر نوراً؛ فإن القمر واحد لا نظير له، فكان أيضاً عن قولك "هذا" مستغنياً، ألا ترى أنك إذا قلت: طلع القمر، لم يذهب الوهم إلى غائب، فتحتاج أن تقول "هذا" لحضوره، فارتفع بهذا ولم يكن نعتاً، ونصبت خبره للحاجة إليه). [معاني القرآن: 1/11-13]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({ذلك الكتاب} معناه: هذا القرآن؛ وقد تخاطب العرب الشاهد فتظهر له مخاطبة الغائب.
قال خفاف بن ندبة السلمىّ، وهي أمه، كانت سوداء، حبشية، وكان من غربان العرب في الجاهلية:


فإن تك خيلي قد أصيب صميمها.......فعمداً على عين تيممّت مالكا
أقول له والرّمح يأطر متنه
.......تأمّل خفافاً إنّني أنا ذلكا

يعني: مالك بن حمّاد الشمخيّ، وصميم خيله: معاوية أخو خنساء، قتله دريد وهاشم ابنا حرمله المريّان.
{لا ريب فيه}: لا شكّ فيه، وأنشدني أبو عمرو الهذليّ لساعدة بن جؤيّة الهذليّ:

فقالوا تركنا الحيّ قد حصروا به.......فلا ريب أن قد كان ثمّ لحيم

أي: قتيل، يقال: فلان قد لحم، أي: قتل، وحصروا به: أي: أطافوا به، لا ريب: لا شكّ.{هدىً للمّتقين} أي: بياناً للمتقين). [مجاز القرآن: 1/29]

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ) : ({ذلك الكتاب لا ريب فيه هدًى لّلمتّقين}
قال: {لا ريب فيه هدًى لّلمتّقين}، وقال: {فلا إثم عليه} فنصبهما بغير تنوين، وذلك أن كل اسم منكور نفيته بـ"لا" وجعلت "لا" إلى جنب الاسم فهو مفتوح بغير تنوين، لأن "لا" مشبهة بالفعل، كما شبهت "أن" و"ما" بالفعل.
و{فيه} في موضع خبرها وخبرها رفع، وهو بمنزلة الفاعل، وصار المنصوب بمنزلة المفعول به، و(لا) بمنزلة الفعل. وإنما حذفت التنوين منه؛ لأنك جعلته و"لا" اسما واحدا، وكل شيئين جعلا اسماً لم يصرفا، والفتحة التي فيه لجميع الاسم، بني عليها، وجعل غير متمكن. والاسم الذي بعد "لا" في موضع نصب عملت فيه "لا".
وأما قوله: {لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون} فالوجه فيه الرفع؛ لأن المعطوف عليه لا يكون إلا رفعاً، ورفعته لتعطف الآخر عليه، وقد قرأها قوم نصباً، وجعلوا الآخر رفعاً على الابتداء.
وقوله: {فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحجّ} فالوجه النصب؛ لأن هذا نفي؛ ولأنه كله نكرة؛ وقد قال قوم: {فلا رفثٌ ولا فسوقٌ ولا جدالٌ في الحجّ} فرفعوه كله، وذلك أنه قد يكون هذا المنصوب كله مرفوعاً في بعض كلام العرب، قال الشاعر:

وما صرمتك حتى قلت معلنةً.......لا ناقةٌ لي في هذا ولا جمل
وهذا جواب لقوله: «هل فيه رفثٌ أو فسوقٌ؟» فقد رفع الأسماء بالابتداء وجعل لها خبراً، فلذلك يكون جوابه رفعاً، وإذا قال: "لا شيء" فإنما هو جواب: «هل من شيءٍ أولى؟»؛ لأن «هل من شيء» قد أعمل فيه "من" بالجر، وأضمر الخبر، والموضع مرفوع، مثل : "بحسبك أن تشتمني" فإنما هو "حسبك أن تشتمني" فالموضع مرفوع، والباء قد عملت.
وقد قال قوم (فلا رفثٌ ولا فسوقٌ ولا جدال في الحجّ) فرفعوا الأول على ما يجوز في هذا من الرفع، أو على النهي، كأنه قال "فلا يكونن فيه رفثٌ ولا فسوقٌ" كما تقول: "سمعك إليّ" تقولها العرب فترفعها، وكما تقول للرجل: "حسبك" و"كفاك"، وجعل الجدال نصباً على النفي. وقال الشاعر:


ذاكم وجدّكم الصّغار بأسره ......لا أمّ لي إن كان ذاك ولا أب

فرفع أحدهما، ونصب الآخر.
وأما قوله: {لا فيها غولٌ} فرفع؛ لأن "لا" لا تقوى أن تعمل إذا فصلت، وقد فصلتها بـ"فيها" فرفع على الابتداء، ولم تعمل "لا".
وقوله: {فيه هدًى لّلمتّقين} فـ"فيه" و"عليه" و"إليه"، وأشباه ذلك في القرآن كثير، وذلك أن العرب إذا كان قبل هذه الهاء التي للمذكر ياء ساكنة، حذفوا الياء التي تجيء من بعد الهاء أو الواو؛ لأن الهاء حرف خفي وقع بين حرفين متشابهين فثقل ذلك؛
فمن كان من لغته إلحاق الواو إذا كان قبلها كسرة ولم يكن قبلها الياء: ترك الهاء مضمومة إذا كان قبلها الياء الساكنة،
ومن كان من لغته إلحاق الواو إذا كان قبلها كسرة ولم يكن قبلها الياء: ترك الهاء مضمومة إذا كان قبلها الياء الساكنة،
ومن كان من لغته إلحاق الياء: ترك الهاء مكسورة إذا كان قبلها الياء الساكنة، وكذلك إذا كان قبل الهاء ألف ساكنة أو واو: فإنه يحذف الواو التي تكون بعد الهاء، ولكن الهاء لا تكون إلا مضمومة نحو {فألقى موسى عصاه}، وقوله: {فكذّبوه}، وقوله: {فأنجيناه} وأشباه هذا في القرآن كثير.
ومن العرب من يتم؛ لأن ذلك من الأصل فيقول: (فكذّبوهو) (فأنجيناهو) (وألقى موسى عصاهو) و(لا ريب فيهو هدىً للمتقين)، وهي قراءة أهل المدينة، وقد قال قوم: {إني لكم مّنه نذيرٌ مّبينٌ} فألقوا الواو، وشبهوا الساكن بالياء والواو والألف، وهذا ليس بجيّد في العربية، وأجوده (منهو نذير) تلحق الواو وإن كانت لا تكتب، وكل هذا إذا سكت عليه لم تزد على الهاء شيئاً.
ولا تكسر هذه الهاء إلا أن تكون قبلها ياء ساكنة أو حرف مكسور، وإنما يكسر بنو تميم، فأما أهل الحجاز؛ فإنهم يضمون بعد الكسر وبعد الياء أيضاً، قال: {ثمّ اتّخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون} وأهل الحجاز يقولون: (من بعدهو) فيثبتون الواو في كل موضع.
ومن العرب من يحذف الواو والياء في هذا النحو أيضاً، وذلك قليل قبيح يقول: "مررت بِهِ قَبْلُ" و"بِهُ قَبْلُ" يكسرون ويضمون، ولا يلحقون واواً ولا ياء، فيقولون "رَأَيْتُهُ قَبْلُ" فلا يلحقون واواً، وقد سمعنا بعض ذلك من العرب الفصحاء.
قد قرأ بعض القراء {فيه هدى} فأدغم الهاء الأولى في هاء {هدى}؛ لأنهما التقتا وهما مثلان، وزعموا أن من العرب من يؤنث "الهدى"، ومنهم من يسكن هاء الإضمار للمذكر، قال الشاعر:

فظلت لدى البيت العتيق أخيله.......ومطواي مشتاقان له أرقان
وهذه في لغة أسد السراة، زعمواكثير). [معاني القرآن: 1/15-18]

قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : ( {الم * ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى} قراءة أهل المدينة (فيهي هدى) بالياء.
وحكي عن أبي جعف روشيبة ونافع {فيه هدى} بكسر بغير ياء؛ وقد فسرنا ذلك في أم الكتاب.
قراءة أبي عمرو {فيه هدى} يدغم الهاء في الهاء؛ وكذلك إذا اجتمع حرفان مثلان جاز الإدغام فيهما، إذا كان ما قبل الأول منهما متحركًا؛ فذلك أحسن ما يكون، كقول الله عز وجل {إن شاء جعل لك خيرًا من ذلك}، {ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم}، و{يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم، والبيان أكثر وأحسن.
قال أبو علي: وإنما أدغموا لن الحرفين لما كانا من مخرج واحد، وكانا مكررين ثقل تكرارهما؛ وكان ذلك عند الخليل بن أحمد كإعادة الحديث مرتين، فأدغموا.
[معاني القرآن لقطرب: 234]
ومثل ذلك قول الهذلي:
وهل بعد أن قد هدني الحزن هدة = تضاءل لها جسمي ورق لها عظمي
فأدغم اللام في اللام.
وقال الراجز:
إنك لن ترسل لهن ذائدا = لولا الزمام اقتحم الأجالدا
فأدغم
إلا أن بعض العرب يقول: لن يفعل، فيجزم بها؛ وقد يجوز أن يكون البيت على هذه اللغة.
فإذا كان قبل الأول من المثلين حرف ساكن، قبح الإدغام؛ لأنك تجمع بين ساكنين، وذلك كقول الله عز وجل {إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا}، و"ذوقوا مس سقر"، "وما قدروا الله حق قدره"، {إن الله نعما يعظكم به}، البيان أحسن.
وقد قال بعضهم {نعما} فأدغم وأسكن العين، وذلك قليل شاذ، وسنذكر "نعم" في آخر آخر السورة، إن شاء الله.
وقد قال بعض العرب: نحن نفعل؛ فأدغم وأسكن؛ وذلك قليل شاذ.
[معاني القرآن لقطرب: 235]
وإذا كان الساكن من هذه الحروف ألفا أو ياء أو واوا؛ كان الإدغام أحسن وإن اجتمع ساكنان؛ ن أحدهما حرف لين ومد؛ فتكون المدة كأنها عوض من التحرك؛ وذلك نحو قول الله عز وجل {فقال لهم رسول الله ناقة الله}؛ البيان أحسن، والإدغام جائز.
وكقراءة أبي عمرو {فيه هدى} لمكان الياء؛ {وإذا قيل لهم آمنوا} و{قيل لهم ذوقوا}؛ وكانت قراءة الأعرج {ومحياي وممات}، "وإياي فارهبون" بإسكان الياء في {محياي} و"إياي" والألف قبلهما ساكنة.
وكذلك الإدغام في الحرفين القريبين في المخرج؛ لأنهما يزدحمان في مخارجهما فيثقل اللفظ اللفظ بهما، وذلك قوله عز وجل {لبثت}، {ولو شئت لاتخذت}، {بيت طائفة}، فأدغم الطاء في التاء لقربها منها في المخرج.
بإدغام {هل ثوب} و{بل تؤثرون}.
وقال بعض العرب: خبت؛ يريد خبطت.
[معاني القرآن لقطرب: 236]
وأنشد بعضهم بيت علقمة:
وفي كل حي قد خبت بنعمة = فحق لشأس من نداك ذنوب.
خبت؛ يريد خبطت.
وأنشد بعضهم:
تقول إذا أهلكت مالا للذة = فكيهة هل شيء بكفيك لائق
فأدغم اللام في الشين.
وسنذكر ذلك في الإدغام، إن شاء الله). [معاني القرآن لقطرب: 237]
قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : (لغات سورة البقرة وغريبها ومصادرها
{الم * ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى} .
أما {ذلك الكتاب} فيكون "ذلك" بالكاف لما تراخى عنك قليلاً، و"ذا" لما دنا؛ فكأنه أدخل الكاف ليؤكد عليك في التنبيه لتراخي الشخص عنك؛ قال الله عز وجل {ذلك ما كنت منه تحيد} كأنه قال: هذا ما كنت منه تحيد.
قال ابن عباس رحمه الله في {الم * ذلك الكتاب} أي هذا الكتاب، وقال {وما تلك بيمينك يا موسى} أي ما هذه بيمينك؟ فجعل الكاف لما دنا منه.
وقوله عز وجل {لا ريب فيه} فالريب من الارتياب بالأمر والتهمة، من رابني يريبني ريبا، وارابه إرابة؛ قال الله عز وجل {لفي شك منه مريب} من أراب.
وأنشدني بعضهم:
.............. = كأنما أربته بريب
فأدخل الألف). [معاني القرآن لقطرب: 282]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({لا ريب فيه}: لا شكّ فيه، {هدىً للمتّقين} أي: رشداً لهم إلى الحق).
[تفسير غريب القرآن: 39]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتّقين (2)}
زعم الأخفش وأبو عبيدة أن معناه: هذا الكتاب، قال الشاعر:


أقول له والرمح يأطر متنه.......تأمّل خفافا إنني أنا ذلكا

قال: المعنى: إنني أنا هذا.
وقال غيرهما من النحويين: إن معناه: القرآن، ذلك الكتاب الذي وعدوا به على لسان موسى وعيسى صلى الله عليهما وسلم، ودليل ذلك قوله تعالى: {وكانوا من قبل يستفتحون على الّذين كفروا فلمّا جاءهم ما عرفوا كفروا به}، وكذلك قوله: {الّذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإنّ فريقا منهم ليكتمون الحقّ وهم يعلمون (146)}
فالمعنى هذا ذلك الكتاب.
ويجوز أن يكون قوله: {الم * ذلك الكتاب}، فيقال " ذلك " للشيء الذي قد جرى ذكره، فإن شئت قلت فيه: "هذا" وإن شئت قلت فيه: "ذلك"، كقولك: "أنفقت ثلاثة وثلاثة، فذلك ستة" وإن شئت قلت: "هذا ستة".
أو كقوله عزّ وجلّ في قصة فرعون: {فحشر فنادى (23) فقال أنا ربّكم الأعلى (24) فأخذه اللّه نكال الآخرة والأولى (25)}، ثم قال بعد ذلك: {إنّ في ذلك لعبرة لمن يخشى (26)}، وقال في موضع آخر: {ولقد كتبنا في الزّبور من بعد الذّكر أنّ الأرض يرثها عبادي الصّالحون (105)}، ثم قال:{إنّ في هذا لبلاغا لقوم عابدين (106)}، وقال عزّ وجلّ: {المر تلك آيات الكتاب والّذي أنزل إليك من ربّك الحقّ}، فقال {ذلك}.
فجائز أن المعنى: تلك علامات الكتاب، أي: القرآن متكلم به بحروف العرب التي نعقلها -على ما وصفنا في شرح حروف الهجاء-.
وموضع {ذلك} رفع؛ لأنه خبر ابتداء على قول من قال: هذا القرآن، ذلك الكتاب.
و{الكتاب} رفع يسميه النحويون عطف البيان نحو قولك: هذا الرجل أخوك، فـ(الرجل) عطف البيان، أي: يبين من الذي أشرت إليه.
والاسم من ذلك "ذا" والكاف زيدت للمخاطبة ولا حظ لها في الإعراب، قال سيبويه: لو كان لها حظ في الإعراب؛ لقلت: " ذاك نفسه زيد"، وهذا خطأ لا يجوز إلا هذاك نفسه زيد.
ولذلك "ذانك" يشهد أن الكاف لا موضع لها؛ لو كان لها موضع لكان جراً بالإضافة، والنون لا تدخل مع الإضافة.
واللام تزاد مع "ذلك" للتوكيد، أعني: توكيد الاسم؛ لأنها إذا زيدت أسقطت معها "ها" تقول: "ذلك الحق" و"ذاك الحق" و"ها ذاك الحق".
ويقبح "هذلك الحق"؛ لأن اللام قد أكدت معنى الإشارة، وكسرت اللام للالتقاء السّاكنين، أعني الألف من "ذا" واللام التي بعدها، وكان ينبغي أن تكون ساكنة، ولكنها كسرت لما قلناه.
وكذلك يجب أن يكون موضع ذلك رفعاً فيمن جعل ذلك خبراً عن {الم}.
وقوله عزّ وجلّ: {لا ريب فيه}
معناه : لا شك فيه تقول: رابني فلان إذا علمت الريبة فيه، وأرابني إذا أوهمني الريبة، قال الشاعر:

أخوك الذي إن ربته قال إنما.......أربت وإن عاتبته لان جانبه

وموضع {لا ريب} نصب، قال سيبويه: "لا" تعمل فيما بعدها فتنصبه، ونصبها لما بعدها كنصب "إن" لما بعدها إلا أنها تنصبه بغير تنوين؛ وزعم أنها مع ما بعدها بمنزلة شيء واحد كأنها جواب قول القائل: هل من رجل في الدار، فـ(من) غير منفصلة من (رجل)، فإن قال قائل: فما أنكرت أن يكلون جواب: هل رجل في الدار؟
قيل: معنى "لا رجل في الدار" عموم النفي، لا يجوز أن يكون في الدار رجل ولا أكثر منه من الرجال إذا قلت: "لا رجل في الدار".
فكذلك "هل من رجل في الدار؟" استفهام عن الواحد وأكثر منه، فإذا قلت: "هل رجل في الدار؟" أو "لا رجل في الدار".
جاز أن يكون في الدار رجلان؛ لأنك إنما أخبرت أنه ليس فيها واحد، فيجوز أن يكون فيها أكثر، فإذا قلت: لا رجل في الدار؛ فهو نفي عام، وكذلك {لا ريب فيه}.
وفي قوله {فيه} أربعة أوجه: القراءة منها على وجه واحد ولا ينبغي أن يتجاوز إلى غيره، وهو {فيه هدى} بكسر الهاء، ويجوز في الكلام وفي القراءة لو كان قرئ به: (فيهي هدى) بإثبات الواو، و (فيهي هدي) بإثبات الياء، وقد شرحنا هذه الأوجه في إعراب الحمد.
فأما قراءة {فيه هدى} بإدغام الهاء في الهاء، فهو ثقيل في اللفظ، وهو جائز في القياس؛ لأن الحرفين من جنس واحد إلا أنه يثقل في اللفظ؛ لأن حروف الحلق ليست بأصل في الإدغام، والحرفان من كلمتين، وحكى الأخفش أنها قراءة.
وموضع {هدى} نصب، ومعناه: بيان، ونصبه من وجهين:
أحدهما: أن يكون منصوباً على الحال من قولك: القرآن، ذلك الكتاب هدى، ويجوز أن يكون انتصب بقولك: {لا ريب فيه} في حال هدايته، فيكون حالًا من قولك: لا شك فيه هادياً.
ويجوز أن يكون موضعه رفعاً من جهات:
إحداها أن يكون خبراً بعد خبر، كأنه قال: هذا ذلك الكتاب هدى، أي: قد جمع أنه الكتاب الذي وعدوا به وأنه هدى، كما تقول: هذا حلو حامض، تريد: أنه قد جمع الطعمين،
ويجوز أن يكلون رفعه على إضمار "هو"، كأنه لما تم الكلام فقيل: {الم ذلك الكتاب لا ريب فيه}، قيل: هو هدى.
ويجوز أن يكون رفعه على قولك: {ذلك الكتاب لا ريب فيه} كأنك قلت: ذلك الكتاب حقّاً؛ لأن لا شك فيه بمعنى حق، ثم قال: بعد ذلك:{فيه هدى للمتقين}). [معاني القرآن: 1/67-70]

قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال جل وعز: {ذلك الكتاب لا ريب فيه}
روى خالد الحذاء، عن عكرمة قال:«{ذلك الكتاب}: هذا الكتاب»، وكذا قول أبي عبيدة، وأنكره أبو العباس قال: «لأن "ذلك" لما بعُد و"ذا" لما قرُب؛ فإن دخل واحد منهما على الآخر انقلب المعنى، قال: ولكن المعنى: هذا القرآن، ذلك الكتاب الذي كنتم تستفتحون به على الذين كفرو »ا.
وقال الكسائي: «كأن الإشارة إلى القرآن الذي في السماء، والقول من السماء، والكتاب والرسول في الأرض، فقال: ذلك الكتاب يا محمد». قال ابن كيسان: «وهذا حسن ».
قال الفراء: «يكون كقولك للرجل وهو يحدثك "ذلك -والله- الحق"، فهو في اللفظ بمنزلة الغائب وليس بغائب، والمعنى عنده: ذلك الكتاب الذي سمعت به ».
وقيل: كتاب لما جمع فيه، يقال: كتبت الشيء، أي: جمعته، والكتب: الخرز، وكتبت البغلة منه أيضاً، والكتيبة: لفرقة المجتمع بعضها إلى بعض.
ثم قال تعالى: {لا ريب فيه}، قال قتادة: «لا شك فيه»، وكذا هو عند أهل اللغة .
قال أبو العباس يقال:« رابني الشيء: إذا تبينت فيه الريبة، وأرابني: إذا لم أتبينها منه ».
وقال غيره: أراب في نفسه، وراب غيره، كما قال الشاعر:


وقد رابني قولها يا هنا.......ه ويحك ألحقت شرا بشر

ومنه «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» ، ومنه: {ريب المنون} أي: حوادث الدهر، وما يستراب به .
وأخبر تعالى أنه لا ريب فيه، ثم قال بعد: {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا}
فالقول في هذا المعنى: وإن كنتم في قولكم في ريب وعلى زعمكم وإن كنا قد أتيناكم بما لا ريب فيه؛ لأنهم قالوا كما قال الذين من قبلهم {وإنا لفي شك مما تدعونا إليه مريب}). [معاني القرآن: 1/79-81]

قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال تعالى: {هدى للمتقين}، والهدى: البيان والبصيرة .
ثم قال تعالى: {للمتقين} أي: الذين يتقون ما نهوا عنه، والتقوى أصلها من التوقي وهو: التستر من أن يصيبه ما يهلك به). [معاني القرآن: 1/81]

قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت: 345هـ): (قال: الريب: الشك). [ياقوتة الصراط: 169]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({لا ريب}: لا شك). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 24]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({لاَ رَيْبَ فِيهِ}: لا شك فيه، {هُدًى}: بيان). [العمدة في غريب القرآن: 69]


تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)}

قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({الّذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصّلاة وممّا رزقناهم ينفقون}
قوله: {وممّا رزقناهم ينفقون} ففيها لغتان، منهم من يقولها بالوقف إذا وصل، ومنهم من يلحق فيها الواو، وكذلك هو في كل موضع من القرآن والكلام إلاّ أن يكون ما قبلها مكسوراً أو ياء ساكنة.
فإن كانت ياء ساكنة أو حرف مكسور نحو "عليهم" و"بهم" و"من بعدهم": فمن العرب من يقول: "عليهِمِي" فيلحق الياء ويكسر الميم والهاء، ومنهم من يقول: "عليهُمُو" فيلحق الواو ويضم الميم والهاء، ومنهم من يقول: "عليهُم" و"عليهِم"، فيرفعون الهاء ويكسرونها ويقفون الميم، ومنهم من يقول: "عليهِمُو" فيكسرون الهاء ويضمون الميم ويلحقون الواو، ومنهم من يقول: "عليهُمِي" فيضمون الهاء ويكسرون الميم ويلحقون الياء. وكل هذا إذا وقفت عليه: فآخره ساكن والذي قبله مكسور هو بمنزلة ما قبله ياء، وهذا في القرآن كثير.
ومنهم من يجعل "كم" في "عليكم" و"بكم" إذا كانت قبلها ياء ساكنة أو حرف مكسور بمنزلة "هم"، وذلك قبيح لا يكاد يعرف، وهي لغة لبكر بن وائل سمعناها من بعضهم يقولون: "عليكمي" و"بكمي"، وأنشد الأخفش قال سمعته من بكر بن وائل:

وإن قال مولاهم على جلّ حاجةٍ.......من الأمر ردّوا فضل أحلامكم ردّوا
وكل هذا إذا لقيه حرف ساكن: حركت الميم بالضم إن كان بعدها واو، فإن كان بعدها واو حذفت الواو، وإن كان ياء حذفت الياء وحركت الميم بالكسر، وكذلك الهاء التي للواحد المذكر من نحو: "مررت به اليوم" و"رأيته اليوم".
وزعموا أن بعض العرب يحرك الميم ولا يلحق ياء ولا واواً في الشعر، وذا لا يكاد يعرف، وقال الشاعر:
تالله لولا شعبتي من الكرم.......وشعبتي فيهم من خالٍ وعم).[معاني القرآن: 1/18-19]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({الّذين يؤمنون بالغيب} أي: يصدقون بإخبار اللّه عز وجل عن الجنة والنار، والحساب والقيامة، وأشباه ذلك.
{وممّا رزقناهم ينفقون} أي: يزكّون ويتصدقون). [تفسير غريب القرآن: 39]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {الّذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصّلاة وممّا رزقناهم ينفقون (3)}
معناه: يصدقون، وكل مؤمن بشيء فهو مصدق به، فإذا ذكرت مؤمناً ولم تقل هو مؤمن بكذا وكذا: فهو الذي لا يصلح إلا في اللّه عزّ وجلّ، وموضع {الذين} جر تبعاً للمتقين، ويجوز أن يكون موضعهم رفعاً على المدح كأنّه لما قيل هدى للمتقين، قيل: من هم؟ فقيل: {الّذين يؤمنون بالغيب}. ويجوز أن يكون موضع {الذين} نصباً على المدح أيضاً، كأنه قيل: اذكر الذين.
{والذين} لا يظهر فيهم الإعراب، تقول في النصب والرفع والجر: أتاني الذين في الدار، ورأيت الذين في الدار، ومررت بالذين في الدار، وكذلك: الذي في الدار، وإنما منع الإعراب؛ لأن الإعراب إنما يكون في آخر الأسماء، و"الذي" و"الذين" مبهمان لا تتمان إلا بصلاتهما، فلذلك منعت الإعراب.
وأصل "الذي":لَذٍ على وزن عَمٍ فاعلم، كذلك قال الخليل وسيبويه والأخفش وجميع من يوثق بعلمه.
فإن قال قائل: فما بالك تقول: أتاني اللذان في الدار، ورأيت اللذَيْن في الدار، فتعرب كل ما لا يعرب في تثنيته نحو "هذان" و"هذين"، وأنت لا تعرب "هذا" ولا "هؤلاء"؟
فالجواب في ذلك: أن جميع ما لا يعرب في الواحد مشبه بالحرف الذي جاء لمعنى، فإذا ثنيته فقد بطل شبه الحرف الذي جاء لمعنى؛ لأن حروف المعاني لا تثنى.
فإن قال قائل: فلم منعته الإعراب في الجمع؟
قلت: لأن الجمع الذي ليس على حد التثنية كالواحد، ألا ترى أنك قلت في جميع هذا "هؤلاء يا فتى" فجعلته اسماً واحداً للجمع، وكذلك قولك: "الذين" إنما هو اسم للجمع، كما أن قولك: "سنين يا فتى" اسم للجمع، فبنيته كما بنيت الواحد، ومن جمع "الذين" على حد التثنية قال: جاءني الذونَ في الدار، ورأيت الذين في الدار، وهذا لا ينبغي أن يقع؛ لأن الجمع مستغنى فيه عن حد التثنية، والتثنية ليس لها إلا ضرب واحد.
ومعنى قوله {بالغيب}: ما غاب عنهم مما أخبرهم به النبي صلى الله عليه وسلم من أمر الغيب والنشور والقيامة، وكل ما غاب عنهم مما أنبأهم به فهو غيب.
وقوله عزّ وجلّ {ويقيمون الصّلاة} معناه: يتمّون الصلاة كما قال: {وأتمّوا الحجّ والعمرة للّه}.
وضمت الياء من {يؤمنون} و{يقيمون}؛ لأن كل ما كان على أربعة أحرف نحو: أكرم وأحسن وأقام وآمن، فمستقبله: يكرم، ويحسن، ويؤمن، ويقيم، وإنما ضمت أوائل المستقبل ليفرق بين ذوات الثلاثة نحو: ضرب، وبين ذوات الأربعة نحو: دحرج. فما كان على ثلاثة: فهو ضرب يضرب أو تضرب أو نضرب، ففصل بالضمة بينهما.
فإن قال قائل: فهلا فصل بالكسرة؟
قيل: الكسرة قد تدخل في نحو تعلم وتبيض؛ ولأن الضمة مع الياء مستعملة، والكسرة لا تستعمل مع الياء. فمن قال: أنت تعلم، لم يقل: هو يعلم، فوجب أن يكون الفرق بينهما بالضمة لا غير.
والأصل في (يقيم): يؤقيم، والأصل في يكرم: يؤكرم، ولكن الهمزة حذفت؛ لأن الضم دليل على ذوات الأربعة، ولو ثبت لوجب أن تقول إذا أنبأت عن نفسك: أنا أؤقوم، وأنا أؤكرم، فكانت تجتمع همزتان فاستثقلتا، فحذفت الهمزة التي هي فاء الفعل، وتبع سائر الفعل باب الهمزة، فقلت: أنت تكرم، ونحن نكرم، وهي تكرم، كما أنّ باب "يعد" حذفت منه الواو؛ لوقوعها بين ياء وكسرة، الأصل فيه "يوعد" ثم حذفت في "تعد" و"نعد" و"أعد".
وقوله عزّ وجلّ: {وممّا رزقناهم ينفقون} معناه: يصدّقون، قال عزّ وجلّ: {وأنفقوا من ما رزقناكم} إلى قوله: {قريب فأصّدّق}). [معاني القرآن: 1/70-73]

قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال تعالى: {الذين يؤمنون بالغيب}، أصل الإيمان: التصديق، ومنه قوله تعالى: {وما أنت بمؤمن لنا}، يقال: آمنت بكذا، أي: صدقت به. فإذا قلت "مؤمن" فمعناه: مصدق بالله تعالى لا غير .
ويجوز: أن يكون مأخوذاً من الأمان، أي: يؤمن نفسه بتصديقه وعمله، و"الله المؤمن" أي: يؤمن مطيعه من عذابه .
وروى شيبان، عن قتادة: «{الذين يؤمنون بالغيب} أي: آمنوا بالبعث والحساب والجنة والنار، فصدقوا بموعد الله تعالى».
قال أبو رزين في قوله تعالى: {وما هو على الغيب بضنين} يعني: «القرآن ».
قال ابن كيسان: وقيل: {يؤمنون بالغيب } أي:« القدر» .
والغيب في اللغة: ما اطمأن من الأرض ونزل عما حوله، يستتر فيه من دخله.
وقيل: كل شيء مستتر: غيب، وكذلك المصدر). [معاني القرآن: 1/81-83]

قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال تعالى: {ويقيمون الصلاة} أي: يؤدون الصلاة المفروضة، تقول العرب: قامت السوق وأقمتها، أي: أدمتها ولم أعطلها، و"فلان يقوم بعمله" منه.
ومعنى إقامة الصلاة: إدامتها في أوقاتها، وترك التفريط في أداء ما فيها من الركوع والسجود.
وقيل: الصلاة: مشتقة من "الصلوين" وهما عرقان في الردف ينحيان في الصلاة .
وقيل: الصلاة: الدعاء فيها معروف قال الأعشى:

تقول بنتي وقد قربت مرتحلا.......يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا
عليك مثل الذي صليت فا اغتمضي
.......نوما فإن لجنب المرء مضطجعا
والصلاة من الله تعالى: الرحمة، ومن الملائكة: الدعاء، ومن الناس تكون: الدعاء والصلاة المعروفة). [معاني القرآن: 1/83-84]

قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال تعالى: {ومما رزقناهم ينفقون} أي: يتصدقون ويزكون، كما قال تعالى: {وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين}
قال الضحاك: كانت النفقة قرباناً يتقربون بها إلى الله تعالى على قدر جدتهم، حتى نزلت فرائض الصدقات والناسخات في "براءة").
[معاني القرآن: 1/84-85]
قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت:345 هـ): (و"الغيب": الله جل وعز، ومنه قوله تعالى: {يؤمنون بالغيب}، قال: بالله جل اسمه، و"الغيب": ما غاب عن العين، وكان محصلاً في القلوب، و"الغيب": المطمئن من الأرض، و"الغيب": شحم ثرب الشاة). [ياقوتة الصراط: 170]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({ومما رزقناهم ينفقون} أي: يزكون ويتصدقون). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 24]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({يُؤْمِنُونَ}: يصدقون.{بِالْغَيْبِ}: ما غاب عنهم. {يُنفِقُونَ}: يزكون). [العمدة في غريب القرآن: 70]

تفسير قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)}

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {والّذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون (4)}
وقوله عزّ وجلّ: {بما أنزل إليك} إن شئت خففت الهمزة في "أنزل" وكذلك في قوله "أُلئِك"، وهذه لغة غير أهل الحجاز، فأما أهل الحجاز: فيخففون الهمزة بين الواو والهمزة.
قال سيبويه: إنما فعل بالهمزة ذلك دون سائر الحروف؛ لأنها بعد مخرجها، ولأنها نبرة في الصدر، وهي أبعد الحروف مخرجاً.
وأمّا "إليك" و"إليهم" و"عليك" و"عليهم"، فالأصل في هذا "إلاك" و"علاك" و"إلاهم" و"علاهم"، كما تقول: "إلى زيد" و"على إخوتك"، إلا أن الألف غيرت مع المضمر فأبدلت ياء؛ ليفصل بين الألف التي في آخر المتمكنة وبين الألف التي في أواخر غير المتمكنة التي الإضافة لازمة لها، ألا ترى أن "إلى" و"على" و"لدى" لا تنفرد من الإضافة، ولذلك قالت العرب في "كلا" في حال النصب والجر: "رأيت كليهما" و"كليكما" و"مررت بكليهما" و"كليكما"، ففصلت بين الإضافة إلى المظهر والمضمر، لما كان "كلا" لا ينفرد، ولا يكون "كلامًا إلا بالإضافة). [معاني القرآن: 1/73-74]

قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال تعالى: {والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك} أي: لا يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض، كما فعله اليهود والنصارى). [معاني القرآن: 1/85]

قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال تعالى: {وبالآخرة هم يوقنون} سميت "آخرة" لأنها بعد "أولى"، وقيل: لتأخرها من الناس، وجمعها "أواخر").[معاني القرآن: 1/85]

تفسير قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)}

قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({المفلحون}: كل من أصاب شيئا من الخير فهو مفلح، ومصدره: الفلاح وهو: البقاء، وكل خير، قال لبيد بن ربيعة:

نحلّ بلاداً كلها حلّ قبلنا......ونرجو الفلاح بعد عادٍ وحمير

الفلاح أي البقاء، وقال عبيد بن الأبرص:

أفلح بما شئت فقد يدرك......بالضعف وقد يخدع الأريب
والفلاح في موضع آخر: السّحور أيضاً، وفي الأذان: "حيّ على الفلاح" و"حيّ على الفلح" جميعاً، والفلاّح: الأكار، وإنما اشتّق من: يفلح الأرض أي: يشقّها ويثيرها، ومن ذلك قولهم:
إنّ الحديد بالحديد يفلح

أي: يفلق، والفلاح هو: المكاري في قول ابن أحمر أيضاً:

لها رطل تكيل الزيت فيه.......وفلاّحٌ يسوق لها حمارا
فلاّح: مكارٍ، وقال لبيد:
اعقلي إن كنت لمّا تعقلي.......ولقد أفلح من كان عقل
أي: ظفر وأصاب خيراً). [مجاز القرآن: 1/29-31]
قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : (وأما {المفلحون} فإنهم يقولون: الفلاح والفلح: البقاء، والفلح: السحور أيضًا.
قال الأعشى:
ولئن كنا كقوم هلكوا = ما لحي يال ليلى من فلح
[معاني القرآن لقطرب: 282]
وقال عدي بن زيد العبادي:
ثم بعد الفلاح والرشد والإمة وارتهموا هناك القبور). [معاني القرآن لقطرب: 283]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({المفلحون}: كل من أصاب شيئا من الخير فقد أفلح، والفعل الفلاح هو أيضا من البقاء).[غريب القرآن وتفسيره: 64]

قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت: 276هـ): ({وأولئك هم المفلحون}: من الفلاح، وأصله البقاء ومنه قول عبيد:

أفلح بما شئت فقد يبلغ......بالضعف وقد يخدع الأريب
أي: ابق بما شئت من كيس أو غفلة.
فكأنه قيل للمؤمنين "مفلحون" لفوزهم بالبقاء في النعيم المقيم، هذا هو الأصل.
ثم قيل ذلك لكل من عقل وحزم، وتكاملت فيه خلال الخير). [تفسير غريب القرآن: 39-40]

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {أولئك على هدى من ربّهم وأولئك هم المفلحون (5)}
موضع {أولئك} رفع بالابتداء، والخبر: {على هدى من ربّهم} إلا أن {أولئك} لا يعرب؛ لأنه اسم للإشارة، وكسرت الهمزة فيه لالتقاء السّاكنين.
وكذلك قوله: {وأولئك هم المفلحون} إلا أنّ (هم) دخلت فصلاً، وإن شئت كانت تكريراً للاسم، كما تقول: "زيد هو العالم"، فترفع "زيداًَ" بالابتداء، وترفع "هو" ابتداء ثانياً، وترفع "العالم" خبراً لـ"هو"، و"العالم" خبراً لـ"زيد".
فكذلك قوله: {أولئك هم المفلحون} وإن شئت جعلت (هو) فصلاً ، وترفع "زيداً" و"العالم" على الابتداء وخبره، والفصل: هو الذي يسميه الكوفيون عماداً.
وسيبويه يقول: إن الفصل لا يصلح إلا مع الأفعال التي لا تتم نحو: "كان زيد هو العالم"، و"ظننت زيدا هو العالم".
وقال سيبويه: دخل الفصل في قوله عزّ وجلّ: {.. تجدوه عند اللّه هو خيراً} وفي قوله: {ولا يحسبنّ الّذين يبخلون بما آتاهم اللّه من فضله هو خيرا لهم} وفي قوله: {ويرى الّذين أوتوا العلم الّذي أنزل إليك من ربّك هو الحقّ} وفي قوله: {وإذ قالوا اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك} وما أشبه هذا مما ذكر الله عزّ وجلّ.
وكذلك لك في الكلام في الابتداء والخبر، وفي قولك: كان زيد هو العالم، ذكر "هو" و"أنت" و"أنا" و"نحن"، دخلت إعلاماً بأن الخبر مضمون وأن الكلام لم يتم، وموضع دخولها إذا كان الخبر معرفة أو ما أشبه المعرفة.
وأن "هو" بمنزلة "ما" اللغو في قوله عزّ وجلّ: {فبما رحمة من اللّه لنت لهم} فإنما دخولها مؤكدة.
وقوله عزّ وجلّ: {المفلحون} يقال: لكل من أصاب خيراً مفلح، وقال عزّ وجل: {قد أفلح المؤمنون}، وقال: {قد أفلح من زكاها}، والفلاح: البقاء.
قال لبيد بن ربيعة:
نحل بلادا كلها حل قبلنا......ونرجو الفلاح بعد عاد وتبّعا

أي : نرجو البقاء.
وقال عبيد:
أفلح بما شئت فقد يدرك......بالضعف وقد يخدع الأريب
أي: أصب خيراً بما شئت.
والفلاح: الأكار، والفلاحة صناعته، وإنما قيل له: الفلاح؛ لأنه يشق الأرض، ويقال: فلحت الحديد: إذا قطعته.
قال الشاعر:
قد علمت خيلك أني الصّحصح......إن الحديد بالحديد يفلح

ويقال للمكاري: الفلاح، وإنما قيل له فلاح تشبيها بالأكار.
قال الشاعر:
لها رطل تكيل الزيت فيه.......وفلاح يسوق لها حماراً ). [معاني القرآن: 1/75-76]

قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال تعالى: {أولئك على هدى من ربهم}
روى إبراهيم بن سعيد، عن محمد بن إسحاق، قال: على نور من ربهم واستقامة على ما جاءهم من عند الله). [معاني القرآن: 1/85]

قَالَ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ إِسْمَاعِيلَ النحَّاسُ (ت: 338هـ): (ثم قال تعالى: {وأولئك هم المفلحون}
قال ابن إسحاق: أي: الذين أدركوا ما طلبوا، ونجوا من شر ما منه هربوا .وأصل الفلاح في اللغة: البقاء، وقيل للمؤمن: مفلح؛ لبقائه في الجنة .
وقال عبيد:
أفلح بما شئت فقد يدرك.......بالضعف وقد يخدع الأريب
أي: ابق بما شئت من كيس وحمق.
ثم اتسع في ذلك، حتى قيل لكل من نال شيئاً من الخير: مفلح). [معاني القرآن: 1/86]

قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت:345 هـ) : (و"الهدى": البيان، و"الهدى": إخراج شيء إلى شيء، و"الهدى": الورع والطاعة، و"الهدى": الهادي، قال: ومنه قوله تعالى: {أو أجد على النار هدى} أي: هادياً). [ياقوتة الصراط: 169-170]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ("المفلح": الباقي، و"المفلح": السعيد، من السعادة، والفلاح: البقاء.
والخداع وإظهار خلاف ما في النفس: مرض ونفاق). [تفسير المشكل من غريب القرآن: 24]

قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({الْمُفْلِحُونَ}: الفائزون). [العمدة في غريب القرآن: 70]


رد مع اقتباس
  #4  
قديم 9 ربيع الثاني 1434هـ/19-02-2013م, 08:19 AM
عبد العزيز بن داخل المطيري عبد العزيز بن داخل المطيري غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 2,179
افتراضي التفسير اللغوي المجموع

التفسير اللغوي المجموع
[ما استخلص من كتب علماء اللغة مما له صلة بهذا الدرس]
تفسير قوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)}

قال أبو زكريا يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): («الهُدى» مذكر، إلا أن بني أسد يؤنثونه، ويقولون: هذه هُدى حسنة). [المذكور والمؤنث: 78]
قالَ المبرِّدُ محمَّدُ بنُ يزيدَ الثُّمَالِيُّ (ت: 285هـ): (ولا يجوز أن يكون هذا النفي إلا عاماً. من ذلك قول الله عز وجل {لا عاصم اليوم من أمر الله} وقال {لا ريب فيه} وقال: {لا ملجأ من الله إلا إليه}.

فإن قدرت دخولها على شيء قد عمل فيه غيرها لم تعمل شيئاً، وكان الكلام كما كان عليه؛ لأنك أدخلت النفي على ما كان موجباً، وذلك قولك: أزيد في الدار أم عمرو? فتقول: لا زيد في الدار ولا عمرو.
وكذلك تقول: أرجل في الدار أم امرأة? فالجواب: لا رجل في الدار ولا امرأة. لا تبالي معرفةً كانت أم نكرةً. وعلى هذا قراءة بعضهم: {لا خوف عليهم} ومن قرأ: {لا خوفَ عليهم } فعلى ما ذكرت لك.
وأما قوله: {ولا هم يحزنون} فلا يكون هم إلا رفعاً؛ لأن لا لا تعمل في المعارف). [المقتضب: 4/359] (م)
قالَ المبرِّدُ محمَّدُ بنُ يزيدَ الثُّمَالِيُّ (ت: 285هـ): (وروي عن أبي عبيدة من غير وجه أن نافع بن الأزرق سأل ابن عباس فقال: «أرأيت نبي الله سليما صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مع ما خوله الله وأعطاه، كيف عني بالهدهد على قلته وضؤولته? فقال له ابن عباس: إنه احتاج إلى الماء، والهدهد قناء، والأرض له كالزجاجة، يرى باطنها من ظاهرها، فسأل عنه لذلك، قال ابن الأزرق: قف يا وقاف، كيف يبصر ما تحت الأرض، والفخ يغطى له بمقدار إصبع من تراب فلا يبصره حتى يقع فيه! فقال ابن عباس: ويحك يا ابن الأزرق! أما علمت أنه إذا جاء القدر عشي البصر».
ومما سأله عنه: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ}، فقال ابن عباس:« تأويله: هذا القرآن ».
هكذا جاء، ولا أحفظ عليه شاهدًا عن ابن عباس، وأنا أحسبه أنه لم يقبله إلا بشاهد، وتقديره عند النحويين: إذا قال: "ذلك الكتاب" أنهم قد كانوا وعدوا كتابًا؛ هكذا التفسير، كما قال جل ثناؤه: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ}؛ ويعني بذلك اليهود، وقال: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ}، فمعناه: هذا الكتاب الذي كنتم تتوقعونه. وبيت خفاف بن ندبة على ذلك يصح معناه. وكان من خبره أنه غزا مع معاوية بن عمرو-أخي الخنساء- مرة وفزارة، فعمد ابنا حرملة: دريد وهاشم المريان عمد معاوية، فاستطرد له أحدهما، فحمل عليه معاوية، فطعنه، وحمل الآخر على معاوية فطعنه متمكنًا، وكان صميم الخيل، فلما تنادوا معاوية: قال خفاف بن ندبة - وهي أمه، وكانت حبشية، وأبوه عمير، وهو أحد بني سليم بن منصور -: قتلني الله إن رمت حتى أثأر به، فحمل على مالك بن حمار - وه سيد بن شمخ بن فزارة - فطعنه فقتله، فقال خفاف بن ندبة:

وإن تك خيلي قد أصيب صميمهافعـمـدًا عـلـى عيـنـي تيمـمـت هالـكـا
وقفت له علوى وقد خـام صحبتـيلأبـــنـــي مـــجـــدًا أو لأثــــــأر هــالــكـــا
أقــــــول لــــــه والـــرمـــح يـــأطـــر مــتــنــهتـــأمـــل خــفــافًــا إنـــنـــي أنـــــــا ذلـــكــــا
يريد: أنا ذلك الذي سمعت به. هذا تأويل هذا.
وقوله: "يأطر متنه" أي يثني. يقال: أطرت القوس آطرها أطرًا، وهي مأطورة. وعلوى: فرسه.
ومما سأله عنه قوله عز وجل: {لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ}"، فقال ابن عباس: غير مقطوع، فقال: هل تعرف ذلك العرب? فقال: قد عرفه أخو بني يشكر حيث يقول:


وترى خلفهن من سرعة الرجــع مــنــيـــنًـــا كـــــأنـــــه إهـــــبــــــاء

قال أبو العباس: «منين، يعني الغبار »، وذلك أنها تقطعه قطعًا وراءها.
والمنين: الضعيف المؤذن بانقطاع، أنشدني التوزي عن أبي زيد:

يـا ريهـا إن سلـمـت يميـنـيوسلم الساقي الذي يليني
ولم تخني عقد المنين
يريد الحبل الضعيف، فهذا هو المعروف. ويقال: منين وممنون، كقتيل ومقتول، وجريح ومجروح. وذكر التوزي في كتاب الأضداد أن المنين يكون القوي، فجعله "فعيلا" من "المنة"، والمعروف هو الأول.
وقال غير ابن عباس: «{لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} لا يمن عليهم فيكدر عندهم »). [الكامل: 3/1149-1152]

تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)}

تفسير قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)}

تفسير قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)}


رد مع اقتباس
  #5  
قديم 9 ربيع الثاني 1434هـ/19-02-2013م, 08:20 AM
عبد العزيز بن داخل المطيري عبد العزيز بن داخل المطيري غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 2,179
افتراضي

تفاسير القرن الرابع الهجري

....


رد مع اقتباس
  #6  
قديم 9 ربيع الثاني 1434هـ/19-02-2013م, 08:24 AM
عبد العزيز بن داخل المطيري عبد العزيز بن داخل المطيري غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Sep 2008
المشاركات: 2,179
افتراضي تفاسير القرن الخامس الهجري

تفاسير القرن الخامس الهجري


.....


رد مع اقتباس
  #7  
قديم 27 جمادى الأولى 1435هـ/28-03-2014م, 11:11 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن السادس الهجري


تفسير قوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) }

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {ذلك الكتاب لا ريب فيه هدىً للمتّقين (2)}
الاسم من ذلك الذال والألف، وقيل الذال وحدها، والألف تقوية، واللام لبعد المشار إليه وللتأكيد، والكاف للخطاب، وموضع ذلك رفع كأنه خبر ابتداء، أو ابتداء وخبره بعده، واختلف في ذلك هنا فقيل: هو بمعنى «هذا»، وتكون الإشارة إلى هذه الحروف من القرآن.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وذلك أنه قد يشار بـ «ذلك» إلى حاضر تعلق به بعض الغيبة وب «هذا» إلى غائب هو من الثبوت والحضور بمنزلة وقرب.
وقيل: هو على بابه إشارة إلى غائب، واختلف في ذلك الغائب، فقيل: ما قد كان نزل من القرآن، وقيل: التوراة والإنجيل، وقيل: اللوح المحفوظ أي الكتاب الذي هو القدر،وقيل: إن الله قد كان وعد نبيه أن ينزل عليه كتابا لا يمحوه الماء، فأشار إلى ذلك الوعد.
وقال الكسائي: «ذلك إشارة إلى القرآن الذي في السماء لم ينزل بعد».
وقيل: إن الله قد كان وعد أهل الكتاب أن ينزل على محمد كتابا، فالإشارة إلى ذلك الوعد. وقيل: إن الإشارة إلى حروف المعجم في قول من قال الم حروف المعجم التي تحديتكم بالنظم منها.
ولفظ الكتاب مأخوذ من «كتبت الشيء» إذا جمعته وضممت بعضه إلى بعض ككتب الخرز بضم الكاف وفتح التاء وكتب الناقة.
ورفع الكتاب يتوجه على البدل أو على خبر الابتداء أو على عطف البيان.
{ولا ريب فيه} معناه: لا شكّ فيه ولا ارتياب به والمعنى أنه في ذاته لا ريب فيه وإن وقع ريب للكفار.
وقال قوم: لفظ قوله لا ريب فيه لفظ الخبر ومعناه النهي.
وقال قوم: هو عموم يراد به الخصوص أي عند المؤمنين.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا ضعيف.
وقرأ الزهري، وابن محيصن، ومسلم بن جندب، وعبيد بن عمير: «فيه» بضم الهاء وكذلك «إليه» و «عليه» و «به» و «نصله» ونوله وما أشبه ذلك حيث وقع على الأصل. وقرأ ابن إسحاق: «فيهو» ضم الهاء ووصلها بواو.
و{هدىً}: معناه رشاد وبيان، وموضعه، من الإعراب رفع على أنه خبر ذلك، أو خبر ابتداء مضمر، أو ابتداء وخبره في المجرور قبله، ويصح أن يكون موضعه نصبا على الحال من ذلك، أو من الكتاب، ويكون العامل فيه معنى الإشارة، أو من الضمير في فيه، والعامل معنى الاستقرار وفي هذا القول ضعف.
وقوله: {للمتّقين} اللفظ مأخوذ من وقى، وفعله اتّقى، على وزن افتعل، وأصله «للموتقيين» استثقلت الكسرة على الياء فسكنت وحذفت للالتقاء، وأبدلت الواو تاء على أصلهم في اجتماع الواو والتاء، وأدغمت التاء في التاء فصار للمتّقين. والمعنى: الذين يتقون الله تعالى بامتثال أوامره واجتناب معاصيه، كان ذلك وقاية بينهم وبين عذاب الله). [المحرر الوجيز: 1/102-104]

تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {الّذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصّلاة وممّا رزقناهم ينفقون (3)}
يؤمنون معناه يصدقون ويتعدى بالباء، وقد يتعدى باللام كما قال تعالى: {ولا تؤمنوا إلّا لمن تبع دينكم} [آل عمران: 73] وكما قال: {فما آمن لموسى} [يونس: 83] وبين التعديتين فرق، وذلك أن التعدية باللام في ضمنها تعدّ بالباء يفهم من المعنى.
واختلف القراء في همز يؤمنون فكان ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي يهمزون «يؤمنون» وما أشبه، مثل يأكلون، ويأمرون، ويؤتون وكذلك مع تحرك الهمزة مثل «يؤخركم» و «يؤوده» إلا أن حمزة كان يستحب ترك الهمز إذا وقف، والباقون يقفون بالهمز.
وروى ورش عن نافع ترك الهمز في جميع ذلك. وقد روي عن عاصم أنه لم يكن يهمز الهمزة الساكنة.
وكان أبو عمرو إذا أدرج القراءة أو قرأ في الصلاة لم يهمز كل همزة ساكنة، إلا أنه كان يهمز حروفا من السواكن بأعيانها ستذكر في مواضعها إن شاء الله.
وإذا كان سكون الهمزة علامة للجزم لم يترك همزها مثل: ننسأها [البقرة: 105]، وهيّئ لنا [الكهف: 8] وما أشبهه.
وقوله: {بالغيب} قالت طائفة: معناه يصدقون إذا غابوا وخلوا، لا كالمنافقين الذين يؤمنون إذا حضروا ويكفرون إذا غابوا. وقال آخرون: معناه يصدقون بما غاب عنهم مما أخبرت به الشرائع.
واختلفت عبارة المفسرين في تمثيل ذلك، فقالت فرقة: «الغيب في هذه الآية هو الله عز وجل»، وقال آخرون: «القضاء والقدر»، وقال آخرون: «القرآن وما فيه من الغيوب»، وقال آخرون: «الحشر والصراط والميزان والجنة والنار».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وهذه الأقوال لا تتعارض، بل يقع الغيب على جميعها».
والغيب في اللغة: ما غاب عنك من أمر، ومن مطمئن الأرض الذي يغيب فيه داخله.
وقوله: يقيمون معناه يظهرونها ويثبتونها، كما يقال: أقيمت السوق، وهذا تشبيه بالقيام من حالة خفاء، قعود أو غيره، ومنه قول الشاعر:

وإذا يقال أتيتم لم يبرحوا ....... حتى تقيم الخيل سوق طعان

ومنه قول الشاعر:
أقمنا لأهل العراقين سوق الطّ ....... طعان فخاموا وولّوا جميعا

وأصل يقيمون يقومون، نقلت حركة الواو إلى القاف فانقلبت ياء لكون الكسرة قبلها. والصّلاة مأخوذة من صلى يصلي إذا دعا، كما قال الشاعر:
عليك مثل الذي صلّيت فاغتمضي ....... يوما فإنّ لجنب المرء مضطجعا

ومنه قول الآخر:
لها حارس لا يبرح الدهر بيتها ....... وإن ذبحت صلّى عليها وزمزما

فلما كانت الصلاة في الشرع دعاء انضاف إليه هيئات وقراءة سمي جميع ذلك باسم الدعاء. وقال قوم: هي مأخوذة من الصّلا وهو عرق في وسط الظهر ويفترق عند العجب فيكتنفه، ومنه أخذ المصلي في سبق الخيل، لأنه يأتي مع صلوي السابق، فاشتقّت الصلاة منه، إما لأنها جاءت ثانية للإيمان فشبهت بالمصلّي من الخيل، وإما لأن الراكع والساجد صلواه.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «والقول إنها من الدعاء أحسن».
وقوله تعالى: {وممّا رزقناهم ينفقون}، كتبت «مما» متصلة «وما» بمعنى «الذي» فحقّها أن تكون منفصلة، إلا أن الجار والمجرور كشيء واحد، وأيضا فلما خفيت نون «من» في اللفظ حذفت في الخط.
والرزق عند أهل السنة: ما صح الانتفاع به حلالا كان أو حراما، بخلاف قول المعتزلة إن الحرام ليس برزق، {وينفقون}: معناه هنا يؤتون ما ألزمهم الشرع من زكاة وما ندبهم إليه من غير ذلك.
قال ابن عباس: «ينفقون يؤتون الزكاة احتسابا لها».
قال غيره: «الآية في النفقة في الجهاد».
قال الضحاك: «هي نفقة كانوا يتقربون بها إلى الله عز وجل على قدر يسرهم».
قال ابن مسعود وابن عباس أيضا: «هي نفقة الرجل على أهله».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «والآية تعمّ الجميع، وهذه الأقوال تمثيل لا خلاف». ). [المحرر الوجيز: 1/104-107]

تفسير قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {والّذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون (4) أولئك على هدىً من ربّهم وأولئك هم المفلحون (5)}
اختلف المتأولون فيمن المراد بهذه الآية وبالتي قبلها.
فقال قوم: «الآيتان جميعا في جميع المؤمنين».
وقال آخرون: «هما في مؤمني أهل الكتاب».
وقال آخرون: «الآية الأولى في مؤمني العرب، والثانية في مؤمني أهل الكتاب، كعبد الله بن سلام، وفيه نزلت».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: فمن جعل الآيتين في صنف واحد فإعراب والّذين خفض على العطف، ويصح أن يكون رفعا على الاستئناف، «أي وهم الذين» ومن جعل الآيتين في صنفين، فإعراب «الذين» رفع على الابتداء، وخبره أولئك على هدىً ويحتمل أن يكون عطفا.
وقوله: {بما أنزل إليك} يعني القرآن ،{وما أنزل من قبلك} يعني الكتب السالفة. وقرأ أبو حيوة ويزيد بن قطيب. «بما أنزل وما أنزل» بفتح الهمزة فيهما خاصة. والفعل على هذا يحتمل أن يستند إلى الله تعالى، ويحتمل إلى جبريل، والأول أظهر وألزم.
{وبالآخرة} قيل معناه بالدار الآخرة، وقيل بالنشأة الآخرة.
و{يوقنون} معناه يعلمون علما متمكنا في نفوسهم. واليقين أعلى درجات العلم، وهو الذي لا يمكن أن يدخله شك بوجه وقول مالك رحمه الله: «فيحلف على يقينه ثم يخرج الأمر على خلاف ذلك» تجوّز منه في العبارة على عرف تجوّز العرب، ولم يقصد تحرير الكلام في اليقين.
وقوله تعالى: {أولئك} إشارة إلى المذكورين، و «أولاء» جمع «ذا»، وهو مبني على الكسر لأنه ضعف لإبهامه عن قوة الأسماء، وكان أصل البناء السكون فحرك لالتقاء الساكنين، والكاف للخطاب، و «الهدى» هنا الإرشاد.
{وأولئك} الثاني ابتداء، والمفلحون خبره، وهم فصل، لأنه وقع بين معرفتين ويصح أن يكون هم ابتداء، والمفلحون خبره، والجملة خبر أولئك، والفلاح الظفر بالبغية وإدراك الأمل ومنه قول لبيد:
اعقلي إن كنت لمّا تعقلي ....... ولقد أفلح من كان عقل

وقد وردت للعرب أشعار فيها الفلاح بمعنى البقاء، كقوله:
... ... ... ... ....... ونرجو الفلاح بعد عاد وحمير

وقول الأضبط:
لكلّ همّ من الهموم سعه ....... والصّبح والمسى لا فلاح معه

والبقاء يعمه إدراك الأمل والظفر بالبغية، إذ هو رأس ذلك وملاكه وحكى الخليل الفلاح على المعنيين). [المحرر الوجيز: 1/107-109]


رد مع اقتباس
  #8  
قديم 27 جمادى الأولى 1435هـ/28-03-2014م, 11:11 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن السابع الهجري


.....

رد مع اقتباس
  #9  
قديم 27 جمادى الأولى 1435هـ/28-03-2014م, 11:11 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن الثامن الهجري


تفسير قوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) }


قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({ذلك الكتاب لا ريب فيه هدًى للمتّقين (2)}
قال ابن جريج: قال ابن عبّاسٍ: «{ذلك الكتاب}: هذا الكتاب». وكذا قال مجاهدٌ، وعكرمة، وسعيد بن جبيرٍ، والسّدّيّ ومقاتل بن حيّان، وزيد بن أسلم، وابن جريجٍ: أنّ ذلك بمعنى هذا، والعرب تقارض بين هذين الاسمين من أسماء الإشارة فيستعملون كلًّا منهما مكان الآخر، وهذا معروفٌ في كلامهم.
و {الكتاب} القرآن. ومن قال: إنّ المراد بذلك الكتاب الإشارة إلى التّوراة والإنجيل، كما حكاه ابن جريرٍ وغيره، فقد أبعد النّجعة وأغرق في النّزع، وتكلّف ما لا علم له به.
والرّيب: الشّكّ، قال السّدّيّ عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ عن ابن عبّاسٍ، وعن مرّة الهمدانيّ عن ابن مسعودٍ، وعن أناسٍ من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: {لا ريب فيه}: لا شكّ فيه.
وقاله أبو الدّرداء وابن عبّاسٍ ومجاهدٌ وسعيد بن جبيرٍ وأبو مالكٍ ونافعٌ مولى ابن عمر وعطاءٌ وأبو العالية والرّبيع بن أنسٍ ومقاتل بن حيّان والسّدّيّ وقتادة وإسماعيل بن أبي خالدٍ. وقال ابن أبي حاتمٍ: لا أعلم في هذا خلافًا.
[وقد يستعمل الرّيب في التّهمة قال جميلٌ:

بثينة قالت يا جميل أربتني ....... فقلت كلانا يا بثين مريب...

واستعمل -أيضًا-في الحاجة كما قال بعضهم:
قضينا من تهامة كلّ ريبٍ ....... وخيبر ثمّ أجمعنا السّيوفا]

ومعنى الكلام: أنّ هذا الكتاب -وهو القرآن-لا شكّ فيه أنّه نزل من عند اللّه، كما قال تعالى في السّجدة: {الم * تنزيل الكتاب لا ريب فيه من ربّ العالمين} [السّجدة: 1، 2]. [وقال بعضهم: هذا خبرٌ ومعناه النّهي، أي: لا ترتابوا فيه].
ومن القرّاء من يقف على قوله: {لا ريب} ويبتدئ بقوله: {فيه هدًى للمتّقين} والوقف على قوله تعالى: {لا ريب فيه} أولى للآية الّتي ذكرنا، ولأنّه يصير قوله: {هدًى} صفةً للقرآن، وذلك أبلغ من كون: {فيه هدًى}.
و {هدًى} يحتمل من حيث العربيّة أن يكون مرفوعًا على النعت، ومنصوبًا على الحال.
وخصّت الهداية للمتّقين. كما قال: {قل هو للّذين آمنوا هدًى وشفاءٌ والّذين لا يؤمنون في آذانهم وقرٌ وهو عليهم عمًى أولئك ينادون من مكانٍ بعيدٍ} [فصّلت: 44]. {وننزل من القرآن ما هو شفاءٌ ورحمةٌ للمؤمنين ولا يزيد الظّالمين إلا خسارًا} [الإسراء: 82] إلى غير ذلك من الآيات الدّالّة على اختصاص المؤمنين بالنّفع بالقرآن؛ لأنّه هو في نفسه هدًى، ولكن لا يناله إلّا الأبرار، كما قال: {يا أيّها النّاس قد جاءتكم موعظةٌ من ربّكم وشفاءٌ لما في الصّدور وهدًى ورحمةٌ للمؤمنين} [يونس: 57].
وقد قال السّدّيّ عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ عن ابن عبّاسٍ، وعن مرّة الهمدانيّ، عن ابن مسعودٍ، وعن أناسٍ من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: {هدًى للمتّقين} يعني: نورًا للمتّقين.
وقال الشّعبيّ: «هدًى من الضّلالة»، وقال سعيد بن جبيرٍ: «تبيانٌ للمتّقين». وكلّ ذلك صحيحٌ.
وقال السّدّيّ: عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ، وعن مرّة الهمدانيّ، عن ابن مسعودٍ، وعن ناسٍ من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: {هدًى للمتّقين} قال: هم المؤمنون.
وقال محمّد بن إسحاق، عن محمّد بن أبي محمّدٍ مولى زيد بن ثابتٍ، عن عكرمة أو سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: «{للمتّقين} أي: الّذين يحذرون من اللّه عقوبته في ترك ما يعرفون من الهدى، ويرجون رحمته في التّصديق بما جاء به».
وقال أبو روق، عن الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ: «{للمتّقين} قال: المؤمنين الّذين يتّقون الشّرك بي، ويعملون بطاعتي».
وقال سفيان الثّوريّ، عن رجلٍ، عن الحسن البصريّ، قوله: {للمتّقين} قال: «اتّقوا ما حرّم اللّه عليهم، وأدّوا ما افترض عليهم».
وقال أبو بكر بن عيّاشٍ: سألني الأعمش عن المتّقين، قال: فأجبته. فقال [لي] سل عنها الكلبيّ، فسألته فقال: «الّذين يجتنبون كبائر الإثم»، قال: فرجعت إلى الأعمش، فقال: نرى أنّه كذلك. ولم ينكره.
وقال قتادة: «{للمتّقين} هم الّذين نعتهم اللّه بقوله: {الّذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصّلاة} الآية والّتي بعدها ».
واختار ابن جريرٍ: «أنّ الآية تعمّ ذلك كلّه»، وهو كما قال.
وقد روى التّرمذيّ وابن ماجه، من رواية أبي عقيلٍ عبد اللّه بن عقيلٍ، عن عبد اللّه بن يزيد، عن ربيعة بن يزيد، وعطيّة بن قيسٍ، عن عطيّة السّعديّ، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «لا يبلغ العبد أن يكون من المتّقين حتّى يدع ما لا بأس به حذرًا ممّا به بأسٌ».
ثم قال الترمذي: حسن غريب.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا عبد اللّه بن عمران، حدّثنا إسحاق بن سليمان، يعني الرّازيّ، عن المغيرة بن مسلمٍ، عن ميمونٍ أبي حمزة، قال: كنت جالسًا عند أبي وائلٍ، فدخل علينا رجلٌ، يقال له: أبو عفيفٍ، من أصحاب معاذٍ، فقال له شقيق بن سلمة: يا أبا عفيفٍ، ألا تحدّثنا عن معاذ بن جبلٍ؟ قال: «بلى سمعته يقول: يحبس النّاس يوم القيامة في بقيعٍ واحدٍ، فينادي منادٍ: أين المتّقون؟ فيقومون في كنفٍ من الرّحمن لا يحتجب اللّه منهم ولا يستتر»، قلت: «من المتّقون؟»، قال: «قومٌ اتّقوا الشّرك وعبادة الأوثان، وأخلصوا للّه العبادة، فيمرّون إلى الجنّة».
وأصل التّقوى: التّوقّي ممّا يكره لأنّ أصلها وقوى من الوقاية. قال النّابغة:

سقط النّصيف ولم ترد إسقاطه ....... فتناولته واتّقتنا باليد

وقال الآخر:
فألقت قناعًا دونه الشّمس واتّقت ....... بأحسن موصولين كفٌّ ومعصم

وقد قيل: إنّ عمر بن الخطّاب رضي اللّه عنه، سأل أبيّ بن كعبٍ عن التّقوى، فقال له: «أما سلكت طريقًا ذا شوكٍ؟»، قال: «بلى»، قال: «فما عملت؟»، قال: «شمّرت واجتهدت»، قال: «فذلك التّقوى».
وقد أخذ هذا المعنى ابن المعتزّ فقال:

خلّ الذّنوب صغيرها ....... وكبيرها ذاك التّقى
واصنع كماشٍ فوق أر ....... ض الشّوك يحذر ما يرى
لا تحقرنّ صغيرةً ....... إنّ الجبال من الحصى

وأنشد أبو الدّرداء يومًا:

يريد المرء أن يؤتى مناه ...... ويأبى اللّه إلّا ما أرادا
يقول المرء فائدتي ومالي ....... وتقوى اللّه أفضل ما استفادا

وفي سنن ابن ماجه عن أبي أمامة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «ما استفاد المرء بعد تقوى اللّه خيرًا من زوجةٍ صالحةٍ، إن نظر إليها سرّته، وإن أمرها أطاعته، وإن أقسم عليها أبرّته، وإنّ غاب عنها حفظته في نفسها وماله».). [تفسير ابن كثير: 1/162-164]

تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)}
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({الّذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصّلاة وممّا رزقناهم ينفقون (3)}
{الّذين يؤمنون بالغيب}
قال أبو جعفرٍ الرّازيّ، عن العلاء بن المسيّب بن رافعٍ، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد اللّه، قال: «الإيمان التّصديق».
وقال عليّ بن أبي طلحة وغيره، عن ابن عبّاسٍ: «{يؤمنون} يصدّقون».
وقال معمر عن الزّهريّ: «الإيمان العمل».
وقال أبو جعفرٍ الرّازيّ، عن الرّبيع بن أنسٍ: «{يؤمنون} يخشون».
قال ابن جريرٍ وغيره: والأولى أن يكونوا موصوفين بالإيمان بالغيب قولًا واعتقادًا وعملًا قال: وقد تدخل الخشية للّه في معنى الإيمان، الّذي هو تصديق القول بالعمل، والإيمان كلمةٌ جامعةٌ للإقرار باللّه وكتبه ورسله، وتصديق الإقرار بالفعل.
قلت: أمّا الإيمان في اللّغة فيطلق على التّصديق المحض، وقد يستعمل في القرآن، والمراد به ذلك، كما قال تعالى: {يؤمن باللّه ويؤمن للمؤمنين} [التّوبة: 61]، وكما قال إخوة يوسف لأبيهم: {وما أنت بمؤمنٍ لنا ولو كنّا صادقين} [يوسف: 17]، وكذلك إذا استعمل مقرونًا مع الأعمال؛ كقوله: {إلا الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات} [الانشقاق: 25، والتّين: 6]، فأمّا إذا استعمل مطلقًا فالإيمان الشّرعيّ المطلوب لا يكون إلّا اعتقادًا وقولًا وعملًا.
هكذا ذهب إليه أكثر الأئمّة، بل قد حكاه الشّافعيّ وأحمد بن حنبلٍ وأبو عبيد وغير واحدٍ إجماعًا: أنّ الإيمان قولٌ وعملٌ يزيد وينقص. وقد ورد فيه آثارٌ كثيرةٌ وأحاديث أوردنا الكلام فيها في أوّل شرح البخاريّ، وللّه الحمد والمنّة.
ومنهم من فسّره بالخشية، لقوله تعالى: {إنّ الّذين يخشون ربّهم بالغيب} [الملك: 12]، وقوله: {من خشي الرّحمن بالغيب وجاء بقلبٍ منيبٍ} [ق: 33]، والخشية خلاصة الإيمان والعلم، كما قال تعالى: {إنّما يخشى اللّه من عباده العلماء} [فاطرٍ: 28].
وأمّا الغيب المراد هاهنا فقد اختلفت عبارات السّلف فيه، وكلّها صحيحةٌ ترجع إلى أنّ الجميع مرادٌ.
قال أبو جعفرٍ الرّازيّ، عن الرّبيع بن أنسٍ، عن أبي العالية، في قوله: {يؤمنون بالغيب} قال: «يؤمنون باللّه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وجنّته وناره ولقائه، ويؤمنون بالحياة بعد الموت وبالبعث، فهذا غيبٌ كلّه».
وكذا قال قتادة بن دعامة.
وقال السّدّيّ، عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ، وعن مرّة الهمدانيّ عن ابن مسعودٍ، وعن ناسٍ من أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: أمّا الغيب فما غاب عن العباد من أمر الجنّة، وأمر النّار، وما ذكر في القرآن.
وقال محمّد بن إسحاق، عن محمّد بن أبي محمّدٍ، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: {بالغيب} قال: «بما جاء منه»، يعني: من اللّه تعالى.
وقال سفيان الثّوريّ، عن عاصم، عن زرّ، قال: «الغيب القرآن».
وقال عطاء بن أبي رباحٍ: «من آمن باللّه فقد آمن بالغيب».
وقال إسماعيل بن أبي خالدٍ: {يؤمنون بالغيب} قال: «بغيب الإسلام».
وقال زيد بن أسلم: {الّذين يؤمنون بالغيب} قال: «بالقدر».
فكلّ هذه متقاربةٌ في معنًى واحدٍ؛ لأنّ جميع هذه المذكورات من الغيب الّذي يجب الإيمان به.
وقال سعيد بن منصورٍ: حدّثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن عمارة بن عميرٍ، عن عبد الرّحمن بن يزيد قال: كنّا عند عبد اللّه بن مسعودٍ جلوسًا، فذكرنا أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وما سبقوا به، قال: فقال عبد اللّه: «إنّ أمر محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم كان بيّنًا لمن رآه، والّذي لا إله غيره ما آمن أحدٌ قطّ إيمانًا أفضل من إيمانٍ بغيبٍ، ثمّ قرأ: {الم * ذلك الكتاب لا ريب فيه هدًى للمتّقين * الّذين يؤمنون بالغيب} إلى قوله: {المفلحون} [البقرة: 1-5]».
وهكذا رواه ابن أبي حاتمٍ، وابن مردويه، والحاكم في مستدركه، من طرق، عن الأعمش، به.
وقال الحاكم: صحيحٌ على شرط الشّيخين، ولم يخرّجاه.
وفي معنى هذا الحديث الّذي رواه [الإمام] أحمد، حدّثنا أبو المغيرة، أخبرنا الأوزاعيّ، حدّثني أسيد بن عبد الرّحمن، عن خالد بن دريك، عن ابن محيريز، قال: قلت لأبي جمعة: حدّثنا حديثًا سمعته من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: نعم، أحدّثك حديثًا جيّدًا: تغدّينا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ومعنا أبو عبيدة بن الجرّاح، فقال: يا رسول اللّه، هل أحدٌ خيرٌ منّا؟ أسلمنا معك وجاهدنا معك. قال: «نعم، قومٌ من بعدكم يؤمنون بي ولم يروني».
طريقٌ أخرى: قال أبو بكر بن مردويه في تفسيره: حدّثنا عبد اللّه بن جعفرٍ، حدّثنا إسماعيل عن عبد اللّه بن مسعودٍ، حدّثنا عبد اللّه بن صالحٍ، حدّثنا معاوية بن صالحٍ، عن صالح بن جبير، قال: قدم علينا أبو جمعة الأنصاريّ، صاحب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ببيت المقدس، ليصلّي فيه، ومعنا يومئذٍ رجاء بن حيوة، فلمّا انصرف خرجنا نشيّعه، فلمّا أراد الانصراف قال: إنّ لكم جائزةً وحقًّا؛ أحدّثكم بحديثٍ سمعته من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، قلنا: هات رحمك اللّه قال: كنّا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ومعنا معاذ بن جبلٍ عاشر عشرةٍ، فقلنا: يا رسول اللّه، هل من قومٍ أعظم أجرًا منّا؟ آمنّا بك واتبعناك، قال: «ما يمنعكم من ذلك ورسول اللّه بين أظهركم يأتيكم بالوحي من السّماء، بل قومٌ من بعدكم يأتيهم كتابٌ بين لوحين يؤمنون به ويعملون بما فيه، أولئك أعظم منكم أجرًا مرّتين».
ثمّ رواه من حديث ضمرة بن ربيعة، عن مرزوق بن نافعٍ، عن صالح بن جبيرٍ، عن أبي جمعة، بنحوه.
وهذا الحديث فيه دلالةٌ على العمل بالوجادة الّتي اختلف فيها أهل الحديث، كما قرّرته في أوّل شرح البخاريّ؛ لأنّه مدحهم على ذلك وذكر أنّهم أعظم أجرًا من هذه الحيثيّة لا مطلقًا.
وكذا الحديث الآخر الّذي رواه الحسن بن عرفة العبديّ: حدّثنا إسماعيل بن عيّاشٍ الحمصيّ، عن المغيرة بن قيسٍ التّميميّ، عن عمرو بن شعيبٍ، عن أبيه، عن جدّه، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «أيّ الخلق أعجب إليكم إيمانًا؟ »، قالوا: الملائكة. قال: «وما لهم لا يؤمنون وهم عند ربّهم؟ »، قالوا: فالنّبيّون. قال: «وما لهم لا يؤمنون والوحي ينزل عليهم؟ »، قالوا: فنحن. قال: «وما لكم لا تؤمنون وأنا بين أظهركم؟ »، قال: فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «ألا إنّ أعجب الخلق إليّ إيمانًا لقومٌ يكونون من بعدكم يجدون صحفًا فيها كتابٌ يؤمنون بما فيها».
قال أبو حاتمٍ الرّازيّ: المغيرة بن قيسٍ البصريّ منكر الحديث.
قلت: ولكن قد روى أبو يعلى في مسنده، وابن مردويه في تفسيره، والحاكم في مستدركه، من حديث محمّد بن أبي حميدٍ، وفيه ضعفٌ، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، بمثله أو نحوه. وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه وقد روي نحوه عن أنس بن مالكٍ مرفوعًا، واللّه أعلم.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا عبد اللّه بن محمّدٍ المسنديّ، حدّثنا إسحاق بن إدريس، أخبرني إبراهيم بن جعفر بن محمود بن سلمة الأنصاريّ، أخبرني جعفر بن محمودٍ، عن جدّته تويلة بنت أسلم، قالت: «صلّيت الظّهر أو العصر في مسجد بني حارثة، فاستقبلنا مسجد إيلياء، فصلّينا سجدتين، ثمّ جاءنا من يخبرنا: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استقبل البيت الحرام، فتحوّل النّساء مكان الرّجال، والرّجال مكان النّساء، فصلّينا السّجدتين الباقيتين، ونحن مستقبلون البيت الحرام».
قال إبراهيم: فحدّثني رجالٌ من بني حارثة: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حين بلغه ذلك قال: «أولئك قوم آمنوا بالغيب».
هذا حديثٌ غريبٌ من هذا الوجه.
{ويقيمون الصّلاة وممّا رزقناهم ينفقون (3)}
قال ابن عباس: أي: «يقيمون الصّلاة بفروضها».
وقال الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ: «إقامة الصّلاة إتمام الرّكوع والسّجود والتلاوة والخشوع والإقبال عليها فيها».
وقال قتادة: «إقامة الصّلاة المحافظة على مواقيتها ووضوئها، وركوعها وسجودها».
وقال مقاتل بن حيّان: «إقامتها: المحافظة على مواقيتها، وإسباغ الطّهور فيها وتمام ركوعها وسجودها وتلاوة القرآن فيها، والتّشهّد والصّلاة على النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، فهذا إقامتها».
وقال عليّ بن أبي طلحة، وغيره عن ابن عبّاسٍ: «{وممّا رزقناهم ينفقون} قال: زكاة أموالهم».
وقال السّدّيّ، عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ، وعن مرّة عن ابن مسعودٍ، وعن أناسٍ من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم {وممّا رزقناهم ينفقون} قال: هي نفقة الرّجل على أهله، وهذا قبل أن تنزّل الزّكاة.
وقال جويبر، عن الضّحّاك: «كانت النّفقات قرباتٍ يتقرّبون بها إلى اللّه على قدر ميسرتهم وجهدهم، حتّى نزلت فرائض الصّدقات: سبع آياتٍ في سورة براءةٌ، ممّا يذكر فيهنّ الصّدقات، هنّ النّاسخات المثبتات».
وقال قتادة: «{وممّا رزقناهم ينفقون} فأنفقوا ممّا أعطاكم اللّه، هذه الأموال عواريٌّ وودائع عندك يا ابن آدم، يوشك أن تفارقها».
واختار ابن جريرٍ أنّ الآية عامّةٌ في الزّكاة والنّفقات، فإنّه قال: وأولى التّأويلات وأحقّها بصفة القوم: أن يكونوا لجميع اللّازم لهم في أموالهم مؤدّين، زكاةً كان ذلك أو نفقة من لزمته نفقته، من أهلٍ أو عيالٍ وغيرهم، ممّن تجب عليهم نفقته بالقرابة والملك وغير ذلك؛ لأنّ اللّه تعالى عمّ وصفهم ومدحهم بذلك، وكلٌّ من الإنفاق والزّكاة ممدوحٌ به محمودٌ عليه.
قلت: كثيرًا ما يقرن اللّه تعالى بين الصّلاة والإنفاق من الأموال، فإنّ الصّلاة حقّ اللّه وعبادته، وهي مشتملةٌ على توحيده والثّناء عليه، وتمجيده والابتهال إليه، ودعائه والتّوكّل عليه؛ والإنفاق هو الإحسان إلى المخلوقين بالنّفع المتعدّي إليهم، وأولى النّاس بذلك القرابات والأهلون والمماليك، ثمّ الأجانب، فكلٌّ من النّفقات الواجبة والزّكاة المفروضة داخلٌ في قوله تعالى: {وممّا رزقناهم ينفقون} ولهذا ثبت في الصّحيحين عن ابن عمر: أنّ رسول اللّه صلّى الله عليه وسلم قال: «بني الإسلام على خمسٍ: شهادة أن لا إله إلّا اللّه، وإقام الصّلاة، وإيتاء الزّكاة، وصوم رمضان، وحجّ البيت». والأحاديث في هذا كثيرةٌ.
وأصل الصّلاة في كلام العرب الدّعاء، قال الأعشى:

لها حارسٌ لا يبرح الدهر بيتها ....... وإن ذبحت صلّى عليها وزمزما

وقال أيضًا:
وقابلها الرّيح في دنّها ....... وصلّى على دنّها وارتسم

أنشدهما ابن جريرٍ مستشهدًا على ذلك.

وقال الآخر -وهو الأعشى أيضًا-:

تقول بنتي وقد قرّبت مرتحلًا ....... يا ربّ جنّب أبي الأوصاب والوجعا
عليك مثل الّذي صليت فاغتمضي ....... نومًا فإنّ لجنب المرء مضطجعا

يقول: عليك من الدّعاء مثل الّذي دعيته لي. وهذا ظاهرٌ، ثمّ استعملت الصّلاة في الشّرع في ذات الرّكوع والسّجود والأفعال المخصوصة في الأوقات المخصوصة، بشروطها المعروفة، وصفاتها، وأنواعها [المشروعة] المشهورة.
وقال ابن جريرٍ: وأرى أنّ الصّلاة المفروضة سمّيت صلاةً؛ لأنّ المصلّي يتعرّض لاستنجاح طلبته من ثواب اللّه بعمله، مع ما يسأل ربّه من حاجته.
[وقيل: هي مشتقّةٌ من الصلوين إذا تحرّكا في الصّلاة عند الرّكوع، وهما عرقان يمتدّان من الظّهر حتّى يكتنفا عجب الذّنب، ومنه سمّي المصلّي؛ وهو الثّاني للسّابق في حلبة الخيل، وفيه نظرٌ، وقيل: هي مشتقّةٌ من الصّلى، وهو الملازمة للشّيء من قوله: {لا يصلاها} أي: يلزمها ويدوم فيها {إلا الأشقى} [اللّيل: 15]، وقيل: مشتقّةٌ من تصلية الخشبة في النّار لتقوّم، كما أنّ المصلّي يقوّم عوجه بالصّلاة: {إنّ الصّلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر اللّه أكبر} [العنكبوت: 45] واشتقاقها من الدّعاء أصحّ وأشهر، واللّه أعلم].
وأمّا الزّكاة فسيأتي الكلام عليها في موضعه، إن شاء الله). [تفسير ابن كثير: 1/164-169]

تفسير قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({والّذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون (4)}
قال ابن عبّاسٍ: «{والّذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك} أي: يصدّقون بما جئت به من اللّه، وما جاء به من قبلك من المرسلين، لا يفرّقون بينهم، ولا يجحدون ما جاؤوهم به من ربّهم، {وبالآخرة هم يوقنون} أي: بالبعث والقيامة، والجنّة، والنّار، والحساب، والميزان.».
وإنّما سمّيت الآخرة لأنّها بعد الدّنيا، وقد اختلف المفسّرون في الموصوفين هاهنا: هل هم الموصوفون بما تقدّم من قوله تعالى: {الّذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصّلاة وممّا رزقناهم ينفقون} [البقرة: 3] ومن هم؟ على ثلاثة أقوالٍ حكاها ابن جريرٍ:
أحدهما: أنّ الموصوفين أوّلًا هم الموصوفون ثانيًا، وهم كلّ مؤمنٍ، مؤمنو العرب ومؤمنو أهل الكتاب وغيرهم، قاله مجاهدٌ، وأبو العالية، والرّبيع بن أنسٍ، وقتادة.
والثّاني: هما واحدٌ، وهم مؤمنو أهل الكتاب، وعلى هذين تكون الواو عاطفة صفاتٍ على صفاتٍ، كما قال تعالى: {سبّح اسم ربّك الأعلى * الّذي خلق فسوّى * والّذي قدّر فهدى * والّذي أخرج المرعى * فجعله غثاءً أحوى} [الأعلى: 1-5] وكما قال الشّاعر:

إلى الملك القرم وابن الهمام ....... وليث الكتيبة في المزدحم...

فعطف الصّفات بعضها على بعضٍ، والموصوف واحدٌ.
والثّالث: أنّ الموصوفين أوّلًا مؤمنو العرب، والموصوفون ثانيًا بقوله: {والّذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك} الآية مؤمنو أهل الكتاب، نقله السّدّيّ في تفسيره، عن ابن عبّاسٍ وابن مسعودٍ وأناسٍ من الصّحابة، واختاره ابن جريرٍ، ويستشهد لما قال بقوله تعالى: {وإنّ من أهل الكتاب لمن يؤمن باللّه وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين للّه} الآية [آل عمران: 199]، وبقوله تعالى: {الّذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون * وإذا يتلى عليهم قالوا آمنّا به إنّه الحقّ من ربّنا إنّا كنّا من قبله مسلمين * أولئك يؤتون أجرهم مرّتين بما صبروا ويدرءون بالحسنة السّيّئة وممّا رزقناهم ينفقون} [القصص: 52-54]، وثبت في الصّحيحين، من حديث الشّعبيّ عن أبي بردة عن أبي موسى: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال: «ثلاثةٌ يؤتون أجرهم مرّتين: رجلٌ من أهل الكتاب آمن بنبيّه وآمن بي، ورجلٌ مملوكٌ أدّى حقّ اللّه وحقّ مواليه، ورجلٌ أدّب جاريته فأحسن تأديبها ثمّ أعتقها وتزوّجها».
وأمّا ابن جريرٍ فما استشهد على صحّة ما قال إلّا بمناسبةٍ، وهي أنّ اللّه وصف في أوّل هذه السّورة المؤمنين والكافرين، فكما أنّه صنّف الكافرين إلى صنفين: منافقٌ وكافرٌ، فكذلك المؤمنون صنّفهم إلى عربيٍّ وكتابيٍّ.
قلت: والظّاهر قول مجاهدٍ فيما رواه الثّوريّ، عن رجلٍ، عن مجاهدٍ، ورواه غير واحدٍ، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهدٍ أنّه قال: « أربع آياتٍ من أوّل سورة البقرة في نعت المؤمنين، وآيتان في نعت الكافرين، وثلاث عشرة في المنافقين، فهذه الآيات الأربع عامّةٌ في كلّ مؤمنٍ اتّصف بها من عربيٍّ وعجميٍّ، وكتابيٍّ من إنسيٍّ وجنّيٍّ، وليس تصحّ واحدةٌ من هذه الصّفات بدون الأخرى، بل كلّ واحدةٍ مستلزمةٌ للأخرى وشرطٌ معها، فلا يصحّ الإيمان بالغيب وإقام الصّلاة والزّكاة إلّا مع الإيمان بما جاء به الرّسول صلّى اللّه عليه وسلّم، وما جاء به من قبله من الرّسل والإيقان بالآخرة، كما أنّ هذا لا يصحّ إلّا بذاك، وقد أمر اللّه تعالى المؤمنين بذلك، كما قال: {يا أيّها الّذين آمنوا آمنوا باللّه ورسوله والكتاب الّذي نزل على رسوله والكتاب الّذي أنزل من قبل} الآية [النّساء: 136]. وقال: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالّتي هي أحسن إلا الّذين ظلموا منهم وقولوا آمنّا بالّذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحدٌ} الآية [العنكبوت:46]. وقال تعالى: {يا أيّها الّذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدّقًا لما معكم} [النّساء: 47] وقال تعالى: {قل يا أهل الكتاب لستم على شيءٍ حتّى تقيموا التّوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربّكم} [المائدة: 68] وأخبر تعالى عن المؤمنين كلّهم بذلك، فقال تعالى: {آمن الرّسول بما أنزل إليه من ربّه والمؤمنون كلٌّ آمن باللّه وملائكته وكتبه ورسله لا نفرّق بين أحدٍ من رسله} الآية [البقرة: 285] وقال: {والّذين آمنوا باللّه ورسله ولم يفرّقوا بين أحدٍ منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم} [النّساء: 152] وغير ذلك من الآيات الدّالّة على أمر جميع المؤمنين بالإيمان باللّه ورسله وكتبه. لكن لمؤمني أهل الكتاب خصوصيّةٌ، وذلك أنّهم مؤمنون بما بأيديهم مفصّلًا فإذا دخلوا في الإسلام وآمنوا به مفصّلًا كان لهم على ذلك الأجر مرّتين، وأمّا غيرهم فإنّما يحصل له الإيمان، بما تقدّم مجملًا كما جاء في الصّحيح: «إذا حدّثكم أهل الكتاب فلا تصدّقوهم ولا تكذّبوهم، ولكن قولوا: آمنّا بالّذي أنزل إلينا وأنزل إليكم»، ولكن قد يكون إيمان كثيرٍ من العرب بالإسلام الّذي بعث به محمّدٌ صلّى اللّه عليه وسلّم أتمّ وأكمل وأعمّ وأشمل من إيمان من دخل منهم في الإسلام، فهم وإن حصل لهم أجران من تلك الحيثيّة، فغيرهم [قد] يحصل له من التّصديق ما ينيف ثوابه على الأجرين اللّذين حصّلا لهم، واللّه أعلم».). [تفسير ابن كثير: 1/170-171]

تفسير قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({أولئك على هدًى من ربّهم وأولئك هم المفلحون (5)}
يقول اللّه تعالى: {أولئك} أي: المتّصفون بما تقدّم: من الإيمان بالغيب، وإقام الصّلاة، والإنفاق من الّذي رزقهم اللّه، والإيمان بما أنزل اللّه إلى الرّسول ومن قبله من الرّسل، والإيقان بالدّار الآخرة، وهو يستلزم الاستعداد لها من العمل بالصّالحات وترك المحرّمات.
{على هدًى} أي: نورٍ وبيانٍ وبصيرةٍ من اللّه تعالى. {وأولئك هم المفلحون} أي: في الدّنيا والآخرة.
وقال محمّد بن إسحاق، عن محمّد بن أبي محمّدٍ، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عبّاسٍ: «{أولئك على هدًى من ربّهم} أي: على نورٍ من ربّهم، واستقامةٍ على ما جاءهم، {وأولئك هم المفلحون} أي: الّذين أدركوا ما طلبوا، ونجوا من شرّ ما منه هربوا».
وقال ابن جريرٍ: وأمّا معنى قوله: {أولئك على هدًى من ربّهم} فإنّ معنى ذلك: أنّهم على نورٍ من ربّهم، وبرهانٍ واستقامةٍ وسدادٍ، بتسديد اللّه إيّاهم، وتوفيقه لهم وتأويل قوله: {وأولئك هم المفلحون} أي المنجحون المدركون ما طلبوا عند اللّه بأعمالهم وإيمانهم باللّه وكتبه ورسله، من الفوز بالثّواب، والخلود في الجنّات، والنّجاة ممّا أعدّ اللّه لأعدائه من العقاب.
وقد حكى ابن جريرٍ قولًا عن بعضهم أنّه أعاد اسم الإشارة في قوله تعالى: {أولئك على هدًى من ربّهم وأولئك هم المفلحون} إلى مؤمني أهل الكتاب الموصوفين بقوله تعالى: {والّذين يؤمنون بما أنزل إليك} الآية، على ما تقدّم من الخلاف. [قال] وعلى هذا فيجوز أن يكون قوله تعالى: {والّذين يؤمنون بما أنزل إليك} منقطعًا ممّا قبله، وأن يكون مرفوعًا على الابتداء وخبره {[أولئك على هدًى من ربّهم و] أولئك هم المفلحون} واختار أنّه عائدٌ إلى جميع من تقدّم ذكره من مؤمني العرب وأهل الكتاب، لما رواه السّدّيّ عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ، وعن مرّة الهمدانيّ عن ابن مسعودٍ، وعن أناسٍ من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: أمّا الّذين يؤمنون بالغيب، فهم المؤمنون من العرب، والّذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك هم المؤمنون من أهل الكتاب. ثمّ جمع الفريقين فقال: {أولئك على هدًى من ربّهم وأولئك هم المفلحون} وقد تقدّم من التّرجيح أنّ ذلك صفةٌ للمؤمنين عامّةً، والإشارة عائدةٌ عليهم، واللّه أعلم. وقد نقل هذا عن مجاهدٍ، وأبي العالية، والرّبيع بن أنسٍ، وقتادة، رحمهم اللّه.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا يحيى بن عثمان بن صالحٍ المصريّ، حدّثنا أبي، حدّثنا ابن لهيعة، حدّثني عبيد اللّه بن المغيرة عن أبي الهيثم واسمه سليمان بن عبدٍ، عن عبد اللّه بن عمرٍو، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وقيل له: يا رسول اللّه، إنّا نقرأ من القرآن فنرجو، ونقرأ من القرآن فنكاد أن نيأس، أو كما قال. قال: فقال: «أفلا أخبركم عن أهل الجنّة وأهل النّار؟ »، قالوا: بلى يا رسول اللّه. قال: « {ألم * ذلك الكتاب لا ريب فيه} إلى قوله تعالى: {المفلحون} هؤلاء أهل الجنّة"»، قالوا: إنّا نرجو أن نكون هؤلاء. ثمّ قال: « {إنّ الّذين كفروا سواءٌ عليهم} إلى قوله: {عظيمٌ} هؤلاء أهل النّار»، قالوا: لسنا هم يا رسول الله. قال: «أجل»). [تفسير ابن كثير: 1/171-172]


رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 12:43 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
جميع الحقوق محفوظة