عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 24 شعبان 1438هـ/20-05-2017م, 10:25 AM
جمهرة علوم العقيدة جمهرة علوم العقيدة غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: May 2017
المشاركات: 1,193
افتراضي

شرح ابن القيم (ت:751هـ) [الشرح المطول]

قال ابن القيم محمد بن أبي بكر الزرعي الدمشقي (ت:751هـ) كما في المرتبع الأسنى:
( ( الأوَّلُ والآخرُ والظاهرُ والباطِنُ):
(الأَوَّلُ الذي لَيْسَ قَبْلَهُ شيءٌ، الآخرُ الذي ليسَ بعدَهُ شيءٌ، الظاهرُ الذي ليسَ فوقَهُ شيءٌ، الباطنُ الذي ليسَ دونَهُ شيءٌ، سَبَقَ كلَّ شيءٍ بِأَوَّلِيَّتِهِ. وَبَقِيَ بعدَ كلِّ شيءٍ بِآخِرِيَّتِهِ. وَعَلا فَوْقَ كلِّ شيءٍ بِظُهُورِهِ، وَأَحَاطَ بكلِّ شيءٍ بِبُطُونِهِ)([1]).
(فأوَّلِيَّةُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ سَابِقَةٌ على أَوَّلِيَّةِ كلِّ ما سِوَاهُ، وَآخِرِيَّتُهُ ثابتةٌ بعدَ آخِرِيَّةِ كلِّ ما سِوَاهُ، فَأَوَّلِيَّتُهُ سَبْقُهُ لكلِّ شيءٍ، وآخِرِيَّتُهُ بَقَاؤُهُ بعدَ كلِّ شيءٍ، وَظَاهِرِيَّتُهُ سُبْحَانَهُ فَوْقِيَّتُهُ وَعُلُوُّهُ على كلِّ شيءٍ، وَمَعْنَى الظهورِ يَقْتَضِي العُلُوَّ، وظاهِرُ الشيءِ هوَ ما عَلا مِنْهُ وَأَحَاطَ بِبَاطِنِهِ، وَبُطُونُهُ سُبْحَانَهُ إِحَاطَتُهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بِحَيْثُ يَكُونُ أَقْرَبَ إليهِ منْ نفسِهِ، وهذا قُرْبٌ، غيرُ قُرْبِ المُحِبِّ مِنْ حَبِيبِهِ، هذا لونٌ وهذا لونٌ.
((فهذهِ الأسماءُ الأربعةُ مُتَقَابِلَةٌ: اسْمَانِ لأَزَلِ الربِّ تَعَالَى وَأَبَدِهِ، وَاسْمَانِ لِعُلُوِّهِ وَقُرْبِهِ))([2]).
[وَمَدَارُهَا]... على الإحاطةِ، وهي إِحَاطَتَانِ: زَمَانِيَّةٌ ومكانيَّةٌ، فَأَحَاطَتْ أَوَّلِيَّتُهُ وَآخِرِيَّتُهُ بِالقَبْلِ والبَعْدِ، فكلُّ سَابِقٍ انْتَهَى إلى أَوَّلِيَّتِهِ، وكلُّ آخِرٍ انْتَهَى إِلَى آخِرِيَّتِهِ، فَأَحَاطَتْ أَوَّلِيَّتُهُ وَآخِرِيَّتُهُ بالأوائلِ والأواخرِ، وَأَحَاطَتْ ظَاهِرِيَّتُهُ وَبَاطِنِيَّتُهُ بكلِّ ظاهرٍ وباطنٍ، فما مِنْ ظَاهِرٍ إِلاَّ وَاللهُ فوقَهُ، وما مِنْ بَاطِنٍ إلاَّ واللهُ دُونَهُ، وما مِنْ أَوَّلٍ إلاَّ واللهُ قَبْلَهُ، وما مِنْ آخِرٍ إلاَّ واللهُ بَعْدَهُ: فالأوَّلُ قِدَمُهُ، والآخِرُ دَوَامُهُ وَبَقَاؤُهُ، والظاهرُ عُلُوُّهُ وَعَظَمَتُهُ، والباطنُ قُرْبُهُ وَدُنُوُّهُ. فَسَبَقَ كلَّ شيءٍ بأَوَّلِيَّتِهِ، وَبَقِيَ بعدَ كلِّ شيءٍ بآخريَّتِهِ، وَعَلا على كلِّ شيءٍ بِظُهُورِهِ، وَدَنَا مِنْ كلِّ شيءٍ ببطونِهِ، فلا تُوَارِي منهُ سَمَاءٌ سَمَاءً، ولا أَرْضٌ أَرْضاً، ولا يَحْجُبُ عنهُ ظاهرٌ بَاطِناً، بل الباطنُ لهُ ظاهرٌ، والغيبُ عندَهُ شهادةٌ، والبعيدُ منهُ قريبٌ، والسرُّ عندَهُ عَلانِيَةٌ.
فهذهِ الأسماءُ الأربعةُ تَشْتَمِلُ على أركانِ التوحيدِ، فهوَ الأوَّلُ في آخِرِيَّتِهِ، والآخِرُ في أَوَّلِيَّتِهِ، والظاهرُ في بطُونِهِ، والباطنُ في ظهورِهِ، لم يَزَلْ أَوَّلاً وآخِراً وظاهِراً وباطِناً. ([3])
والتَّعَبُّدُ بِهَذِهِ الأسماءِ رُتْبَتَانِ:
- الرتبةُ الأولى: أنْ تَشْهَدَ الأَوَّلِيَّةَ مِنْهُ تَعَالَى في كلِّ شيءٍ، والآخِرِيَّةَ بعدَ كلِّ شيءٍ، والعُلُوَّ والفوقيَّةَ فوقَ كلِّ شيءٍ، والقُرْبَ والدُّنُوَّ دونَ كلِّ شيءٍ، فالمخلوقُ يَحْجُبُهُ مِثْلُهُ عمَّا هوَ دونَهُ، فَيَصِيرُ الحاجبُ بَيْنَهُ وبينَ المحجوبِ، والربُّ جلَّ جلالُهُ ليسَ دونَهُ شيءٌ أَقْرَبُ إلى الخلقِ منهُ.
- والمَرْتَبَةُ الثانيَةُ من التَّعَبُّدِ: أنْ يُعَامِلَ كلَّ اسمٍ بِمُقْتَضَاهُ:
فَيُعَامِلَ سَبْقَهُ تَعَالَى بأوَّليَّتِهِ لكلِّ شيءٍ، وَسَبْقَهُ بفضلِهِ وإحسانِهِ الأسبابَ كلَّها بما يَقْتَضِيهِ ذلكَ منْ إفرادِهِ، وعدمِ الالتفاتِ إلى غيرِهِ، والوثوقِ بسواهُ، والتَّوَكُّلِ على غيرِهِ، فمَنْ ذا الذي شَفَعَ لكَ في الأَزَلِ حيثُ لم تَكُنْ شَيْئاً مذكوراً، حَتَّى سَمَّاكَ باسمِ الإسلامِ، وَوَسَمَكَ بِسِمَةِ الإيمانِ، وَجَعَلَكَ منْ أهلِ قبضةِ اليمينِ، وَأَقْطَعَكَ في ذلكَ الغيبِ عَمَالاتِ المُؤْمِنِينَ، فَعَصَمَكَ عن العبادةِ للعبيدِ، وَأَعْتَقَكَ من الْتِزَامِ الرقِّ لِمَنْ لهُ شَكْلٌ ونَدِيدٌ. ثُمَّ وَجَّهَ وِجْهَةَ قَلْبِكَ إليهِ تَبَارَكَ وتَعَالَى دونَ ما سواهُ، فَاضْرَعْ إلى الذي عَصَمَكَ من السجودِ للصَّنَمِ، وَقَضَى لكَ بِقَدَمِ الصدقِ في القِدَمِ أنْ يُتِمَّ عَلَيْكَ نعمةً هوَ ابْتَدَأَهَا وَكَانَتْ أَوَّلِيَّتُهَا منهُ بلا سَبَبٍ مِنْكَ.
وَاسْمُ بِهِمَّتِكَ عنْ ملاحظةِ الاختيارِ، ولا تَرْكَنَنَّ إِلَى الرسومِ والآثارِ، ولا تَقْنَعْ بالخسيسِ الدونِ، وعليكَ بالمطالبِ العاليَةِ والمراتبِ الساميَةِ التي لا تُنَالُ إلاَّ بطاعةِ اللهِ؛ فإنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قَضَى أنْ لا يُنَالَ ما عِنْدَهُ إلاَّ بِطَاعَتِهِ، ومَنْ كانَ للهِ كَمَا يُرِيدُ كانَ اللهُ لهُ فوقَ ما يُرِيدُ، فَمَنْ أَقْبَلَ تَلَقَّاهُ منْ بعيدٍ، ومَنْ تَصَرَّفَ بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ أَلانَ لهُ الحديدَ، ومَنْ تَرَكَ لأَجْلِهِ أَعْطَاهُ فوقَ المزيدِ، وَمَنْ أَرَادَ مُرَادَهُ الدِّينِيَّ أَرَادَ ما يُرِيدُ. ثُمَّ اسْمُ بِسِرِّكَ إِلَى المَطْلَبِ الأَعْلَى، وَاقْصُرْ حُبَّكَ وَتَقَرُّبَكَ على مَنْ سَبَقَ فَضْلُهُ وَإِحْسَانُهُ إليكَ كلَّ سببٍ منكَ، بلْ هوَ الذي جَادَ عليكَ بالأسبابِ، وَهَيَّأَ لكَ وصَرَفَ عَنْكَ مَوَانِعَهَا، وَأَوْصَلَكَ بها إلى غَايَتِكَ المحمودةِ، فَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَحْدَهُ، وَعَامِلْهُ وَحْدَهُ، وَآثِرْ رِضَاهُ وَحْدَهُ، وَاجْعَلْ حُبَّهُ وَمَرْضَاتَهُ هوَ كَعْبَةَ قَلْبِكَ الَّتِي لا تَزَالُ طَائِفاً بِهَا، مُسْتَلِماً لأَرْكَانِهَا، وَاقِفاً بِمُلْتَزَمِهَا.
فَيَا فَوْزَكَ وَيَا سَعَادَتَكَ إِن اطَّلَعَ سُبْحَانَهُ على ذلكَ منْ قَلْبِكَ!! مَاذا يُفِيضُ عليكَ منْ ملابسِ نِعَمِهِ وَخِلَعِ أَفْضَالِهِ!! (( اللَّهُمَّ لا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلا يَنْفَعُ ذَا الجدِّ منكَ الجدُّ، سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ )).
* * *
ثُمَّ تَعَبَّدْ لَهُ بِاسْمِهِ (( الآخِرِ )) بِأَنْ تَجْعَلَهُ وَحْدَهُ غَايَتَكَ التي لا غايَةَ لكَ سواهُ. ولا مَطْلُوبَ لكَ وراءَهُ، فَكَمَا انْتَهَتْ إليهِ الأَوَاخِرُ، وكانَ بعدَ كلِّ آخرٍ فَكَذَلِكَ اجْعَلْ نِهَايَتَكَ إليهِ، فإنَّ إلى رَبِّكَ المُنْتَهَى، إليهِ انْتَهَت الأسبابُ والغاياتُ، فَلَيْسَ وَرَاءَهُ مَرْمًى يُنْتَهَى إِلَيْهِ)([4]).
(فتَأَمَّلْ عُبُودِيَّةَ هَذَيْنِ الاسْمَيْنِ [الأَوَّلِ والآخِرِ] وَمَا يُوجِبَانِهِ منْ صحَّةِ الاضطرارِ إلى اللهِ وحدَهُ، وَدَوَامِ الفقرِ إليهِ دونَ كلِّ شيءٍ سواهُ، وأنَّ الأمرَ ابْتَدَأَ منهُ وإليهِ يُرْفَعُ.
فهوَ المبتَدِئُ بالفضلِ حيثُ لا سببَ ولا وسيلةَ، وإليهِ يَنْتَهِي الأمرُ حيثُ تَنْتَهِي الأسبابُ والوسائلُ.
فهوَ أَوَّلُ كلِّ شيءٍ وآخرُهُ، وكما أنَّهُ ربُّ كلِّ شيءٍ وفاعلُهُ وخالقُهُ وَبَارِئُهُ، فهوَ إِلَهُهُ وَغَايَتُهُ التي لا صلاحَ لهُ ولا فلاحَ ولا كمالَ إلاَّ بأنْ يَكُونَ هوَ غايتَهُ وَحْدَهُ، كما أنَّهُ لا وجودَ لهُ إلاَّ بكونِهِ وحدَهُ هوَ ربَّهُ وَخَالِقَهُ، وكذلكَ لا كمالَ لهُ ولا صلاحَ إلاَّ بكونِهِ تَعَالَى وحدَهُ هوَ غايتَهُ ونهايتَهُ ومقصودَهُ، فهوَ الأوَّلُ الذي ابْتَدَأَتْ منهُ المخلوقاتُ، والآخرُ الذي انْتَهَتْ إليهِ عُبُودِيَّاتُهَا وَإِرَادَاتُهَا وَمَحَبَّتُهَا، فليسَ وراءَ اللهِ شيءٌ يُقْصَدُ وَيُعْبَدُ وَيُتَأَلَّهُ، كَمَا أَنَّهُ ليسَ قبلَهُ شيءٌ يَخْلُقُ وَيَبْرَأُ؛ فكما كانَ وَاحِداً في إيجادِكَ فَاجْعَلْهُ وَاحِداً في تَأَلُّهِكَ وَعُبُودِيَّتِكَ، وَكَما ابْتَدَأَ وُجُودَكَ وَخَلْقَكَ منهُ فَاجْعَلْهُ نِهَايَةَ حُبِّكَ وَإِرَادَتِكَ وَتَأَلُّهِكَ إِلَيْهِ لِتَصِحَّ لَكَ عُبُودِيَّتُهُ بِاسْمِهِ (( الأوَّلِ والآخرِ ))، وَأَكْثَرُ الخَلْقِ تَعَبَّدُوا لَهُ بِاسْمِهِ (( الأوَّلِ )). وَإِنَّمَا الشَّأْنُ في التَّعَبُّدِ لهُ باسمِهِ ((الآخرِ)) فَهَذِهِ عُبُودِيَّةُ الرُّسُلِ وَأَتْبَاعِهِم، فهوَ رَبُّ العالمِينَ وإِلَهُ المُرْسَلِينَ سُبْحَانَهُ وَبِحَمْدِهِ.
* * *
وَأَمَّا عُبُودِيَّتُهُ بِاسْمِهِ (( الظاهرِ )) فَكَمَا فَسَّرَهُ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: ((وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ)) ([5]).
((فَجَعَلَ كَمَالَ الظهورِ مُوجِباً لكمالِ الفوقيَّةِ، ولا ريبَ أنَّهُ ظاهرٌ بذاتِهِ فوقَ كلِّ شيءٍ، والظهورُ هنا العلوُّ، ومنْهُ قَوْلُهُ: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} [الكهف: 97]؛ أيْ: يَعْلُوهُ، وَقَرَّرَ هذا المَعْنَى بقولِهِ: " فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ ". أيْ: أنتَ فوقَ الأشياءِ كُلِّهَا لَيْسَ لهذا اللفظِ مَعْنًى غَيْرُ ذلكَ، ولا يَصِحُّ أَنْ يُحْمَلَ الظهورُ على الغَلَبَةِ؛ لأنَّهُ قَابَلَهُ بقولِهِ: ((وَأَنْتَ البَاطِنُ)) ))([6]).
فإذا تَحَقَّقَ العَبْدُ عُلُوَّهُ المُطْلَقَ عَلَى كلِّ شيءٍ بذاتِهِ، وأنَّهُ ليسَ شيءٌ فوقَهُ أَلْبَتَّةَ، وأنَّهُ قاهرٌ فوقَ عبادِهِ، يُدَبِّرُ الأمرَ من السماءِ إلى الأرضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إليهِ: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10]، صارَ لِقَلْبِهِ أَمَماً يَقْصِدُهُ، وَرَبًّا يَعْبُدُهُ، وَإِلَهاً يَتَوَجَّهُ إليهِ، بخلافِ مَنْ لا يَدْرِي أَيْنَ رَبُّهُ، فَإِنَّهُ ضَائِعٌ مُشَتَّتُ القلبِ، ليسَ لقلبِهِ قِبْلَةٌ يَتَوَجَّهُ نَحْوَهَا، ولا معبودَ يَتَوَجَّهُ إليهِ قَصْدُهُ.
فَصَاحِبُ هذهِ الحالِ إذا سَلَكَ وَتَأَلَّهَ وَتَعَبَّدَ طَلَبَ قَلْبُهُ إِلَهاً يَسْكُنُ إليهِ وَيَتَوَجَّهُ إليهِ، وَقَد اعْتَقَدَ أنَّهُ ليسَ فوقَ العرشِ شيءٌ إلاَّ العدمُ، وأنَّهُ ليسَ فوقَ العالمِ إِلَهٌ يُعْبَدُ وَيُصَلَّى لهُ ويُسْجَدُ، وَأَنَّهُ ليسَ على العرشِ مَنْ يَصْعَدُ إليهِ الكَلِمُ الطَّيِّبُ، وَلا يُرْفَعُ إليهِ العملُ الصالحُ، جَالَ قَلْبُهُ في الوجودِ جميعِهِ فَوَقَعَ في الاتِّحَادِ ولا بُدَّ، فَتَعَلَّقَ قَلْبُهُ بالوجودِ المُطْلَقِ السَّارِي في المُعَيَّنَاتِ، فَاتَّخَذَهُ إِلَهَهُ منْ دونِ الإِلَهِ الحقِّ، وَظَنَّ أنَّهُ قدْ وَصَلَ إلى عَيْنِ الحقيقةِ!!
وإنَّمَا تَأَلَّهَ وَتَعَبَّدَ لِمَخْلُوقٍ مِثْلِهِ أوْ لخيالٍ نَحَتَهُ بِفِكْرِهِ وَاتَّخَذَهُ إِلَهاً منْ دونِ اللهِ سبحانَهُ.
وَإِلَهُ الرُّسُلِ وَرَاءَ ذلكَ كُلِّهِ: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4)}[يونس: 3-4]، وقالَ تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9)} [السجدة: 4-9].
فَقَدْ تَعَرَّفَ سُبْحَانَهُ إلى عبادِهِ بكلامِهِ معرفةً لا يَجْحَدُهَا إلاَّ مَنْ أَنْكَرَهُ سبحانَهُ وإنْ زَعَمَ أنَّهُ مُقِرٌّ بهِ.
والمقصودُ أنَّ التَّعَبُّدَ باسمِهِ (( الظاهرِ )) يَجْمَعُ القلبَ على المعبودِ، وَيَجْعَلُ لَهُ رَبًّا يَقْصِدُهُ وَصَمَداً يَصْمُدُ إليهِ في حوائجِهِ وَمَلْجأً يَلْجَأُ إِلَيْهِ.
فإذا اسْتَقَرَّ ذلكَ في قلبِهِ وَعَرَفَ رَبَّهُ باسْمِهِ (( الظاهرِ )) اسْتَقَامَتْ لهُ عُبُودِيَّتُهُ، وَصَارَ لهُ مَعْقِلٌ وَمَوْئِلٌ يَلْجَأُ إليهِ، وَيَهْرُبُ إليهِ، ويَفِرُّ كُلَّ وَقْتٍ إليهِ.
* * *
أمَّا تَعَبُّدُهُ باسمِهِ (( الباطنِ )) فَأَمْرٌ يَضِيقُ نِطَاقُ التعبيرِ عنْ حقيقتِهِ، وَيَكِلُّ اللسانُ عنْ وصفِهِ، وَتَصْطَلِمُ الإشارةُ إليهِ، وَتَجْفُو العبارةُ عنهُ؛ فإنَّهُ يَسْتَلْزِمُ مَعْرِفَةً بَرِيئَةً مِنْ شوائبِ التعطيلِ، مُخْلَصَةً منْ فَرْثِ التشبِيهِ، مُنَـزَّهَةً منْ رِجْسِ الحلولِ والاتِّحادِ، وعبارةً مُؤَدِّيَةً للمَعْنَى كاشفةً عنهُ، وذوقاً صَحِيحاً سَلِيماً منْ أذواقِ أهلِ الانحرافِ، فمَنْ رُزِقَ هذا فَهِمَ معنَى اسْمِهِ (( الباطنِ )) وَصَحَّ لهُ التَّعَبُّدُ بهِ.
وَسُبْحَانَ اللهِ!! كَمْ زَلَّتْ في هذا المقامِ أَقْدَامٌ!! وَضَلَّتْ فيهِ أفهامٌ، وَنَظَمَ فيهِ الزِّنْدِيقُ بِلِسَانِ الصِّدِّيقِ، فَاشْتَبَهَ فيهِ إخوانُ النَّصَارَى بالحُنَفَاءِ المُخْلَصِينَ، لِنُبُوِّ الأفهامِ عنهُ، وَعِزَّةِ تَخَلُّصِ الحقِّ من الباطلِ فيهِ، والْتِبَاسِ ما في الذهنِ بما في الخارجِ، إلاَّ على مَنْ رَزَقَهُ اللهُ بصيرةً في الحقِّ، وَنُوراً يُمَيِّزُ بهِ بينَ الهُدَى والضلالِ، وَفُرْقَاناً يُفَرِّقُ بِهِ بَيْنَ الحقِّ والباطلِ، وَرُزِقَ معَ ذلكَ اطِّلاعاً على أسبابِ الخطأِ وَتَفَرُّقِ الطُّرُقِ ومَثَارِ الغَلَطِ. فكانَ لهُ بَصِيرَةٌ في الحقِّ والباطلِ، وذلكَ فضلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ، واللهُ ذو الفضلِ العظيمِ.
وَبَابُ هذهِ المعرفةِ والتَّعَبُّدِ هوَ مَعْرِفَةُ إحاطةِ الربِّ تَبَارَكَ وتَعَالَى بالعالَمِ وعظمتِهِ، وأنَّ العوالمَ كُلَّهَا في قَبْضَتِهِ، وأنَّ السَّمَاواتِ السَّبْعَ وَالأَرَضِينَ السَّبْعَ فِي يَدِهِ كـَخَـرْدَلَـةٍ فِي يَـدِ العَـبْـدِ، قَـالَ تَعَالَى: {وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ} [الإسراء: 60] وقالَ: {وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20)} [البروج: 20].
ولهذا يَقْرِنُ سُبْحَانَهُ بَيْنَ هذينِ الاسمَيْنِ الدالَّيْنِ على هَذَيْنِ المَعْنَيَيْنِ: اسمِ العلوِّ الدالِّ على أنَّهُ الظاهرُ، وأنَّهُ لا شَيْءَ فوقَهُ، واسمِ العظمةِ الدَّالِّ على الإحاطةِ، وأنَّهُ لا شيءَ دونَهُ كما قالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)} [البقرة: 255] وقالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23)} [سبأ: 23] وقالَ: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)} [البقرة: 115].
وهوَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى كَمَا أَنَّهُ العَالِي على خَلْقِهِ بِذَاتِهِ فليسَ فَوْقَهُ شيءٌ، فهوَ الباطنُ بِذَاتِهِ فليسَ دونَهُ شيءٌ، بلْ ظَهَرَ على كلِّ شيءٍ، فكانَ فوقَهُ، وَبَطَنَ فكانَ أَقْرَبَ إلى كلِّ شيءٍ منْ نفسِهِ، وهوَ مُحِيطٌ بهِ حيثُ لا يُحِيطُ الشيءُ بِنَفْسِهِ، وكلُّ شيءٍ في قَبْضَتِهِ، وليسَ شيءٌ في قبضةِ نفسِهِ، فهذا قُرْبُ الإحاطةِ العامَّةِ.
وأمَّا القُرْبُ المَذْكُورُ في القرآنِ والسُّنَّةِ فَقُرْبٌ خاصٌّ منْ عَابِدِيهِ وَسَائِلِيهِ وَدَاعِيهِ، وهوَ منْ ثمرةِ التَّعَبُّدِ باسمِهِ (( الباطنِ ))، قالَ تَعَالَى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186]. فهذا قُرْبُهُ منْ دَاعِيهِ.
وقالَ تَعَالَى: {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)} [الأعراف: 56].
فَذَكَّرَ الخبرَ، وهوَ " قريبٌ " عنْ لفظِ " الرحمةِ " وهيَ مُؤَنَّثَةٌ إِيذَاناً بِقُرْبِهِ تَعَالَى من المحسنِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّ اللهَ بِرَحْمَتِهِ قَرِيبٌ من المُحْسِنِينَ.
وفي الصحيـحِ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ: ((أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ)) ([7]). وَ ((أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الرَّبُّ مِنْ عَبْدِهِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ)) ([8])، فهذا قُرْبٌ خَاصٌّ غَيْرُ قُرْبِ الإِحَاطَةِ وَقُرْبِ البُطُونِ.
وفي ( الصحيحِ ) منْ حديثِ أبي موسَى أَنَّهُم كَانُوا معَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في سفرٍ، فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُم بالتكبيرِ، فقالَ: ((أَيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَإِنَّكُمْ لا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلا غَائِباً، إنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ)) ([9]). فهذا قُرْبُهُ منْ دَاعِيهِ وَذَاكِرِهِ، يَعْنِي: فَأَيُّ حَاجَةٍ بِكُمْ إِلَى رَفْعِ الأَصْوَاتِ، وهوَ لِقُرْبِهِ يَسْمَعُهَا وَإِنْ خَفَضْتَ، كَمَا يَسْمَعُهَا إِذَا رَفَعْتَ، فَإِنَّهُ سَمِيعٌ قريبٌ.
وهذا القربُ هوَ منْ لَوَازِمِ المَحَبَّةِ، فَكُلَّمَا كَانَ الحبُّ أَعْظَمَ كَانَ القربُ أَكْثَرَ، وقد اسْتَوْلَتْ مَحَبَّةُ المحبوبِ على قلبِ مُحِبِّهِ بِحَيْثُ يَفْنَى بها عنْ غيرِهَا، وَيَغْلِبُ مَحْبُوبُهُ على قلبِهِ حتَّى كَأَنَّهُ يَرَاهُ وَيُشَاهِدُهُ، فإنْ لم يَكُنْ عندَهُ مَعْرِفَةٌ صحيحةٌ باللهِ وما يَجِبُ لهُ وَيَسْتَحِيلُ عليهِ، وإلاَّ طَرَقَ بابَ الحلولِ إنْ لم يَلِجْهُ، وَسَبَبُهُ ضَعْفُ تَمْيِيزِهِ، وَقُوَّةُ سُلْطَانِ المَحَبَّةِ، وَاسْتِيلاءُ المَحْبُوبِ على قَلْبِهِ بحيثُ يَغِيبُ عنْ ملاحظةِ سواهُ، وفي مِـثْـلِ هـذهِ الحـالِ يَـقُـولُ: سُبـْحـَانِي، أَوْ: مَا فِي الـجُـبَّـةِ إلاَّ اللهُ، ونحوَ هذا من الشَّطَحَاتِ التي نِهَايَتُهَا أنْ يُغْفَرَ لهُ، وَيُعْذَرَ لِسُكْرِهِ، وَعَدَمِ تَمْيِيزِهِ في تلكَ الحالِ.
فَالتعَبُّدُ بهذا الاسمِ هوَ التَّعَبُّدُ بِخَالِصِ المَحَبَّةِ وصفوِ الودادِ، وأنْ يَكُونَ الإِلَهُ أَقْرَبَ إليهِ منْ كلِّ شيءٍ، وأقربَ إليهِ منْ نفسِهِ، معَ كونِهِ ظَاهِراً ليسَ فوقَهُ شيءٌ، ومَنْ كَثَفَ * ذِهْنُهُ وَغَلُظَ طَبْعُهُ عنْ فهمِ هذا فَلْيَضْرِبْ عَنْهُ صَفْحاً إلى ما هوَ أَوْلَى بهِ، فقدْ قِيلَ:

إِذَا لَمْ تَسْتَطِعْ شَيْئاً فَدَعْهُ = وَجَاوِزْهُ إِلَى مَا تَسْتَطِيعُ

فمَنْ لمْ يكُنْ لهُ ذَوْقٌ منْ قُرْبِ المحبَّةِ، ومعرفةٌ بِقُرْبِ المحبوبِ منْ مُحِبِّهِ غايَةَ القُرْبِ وإنْ كانَ بَيْنَهُمَا غَايَةُ المسافةِ - ولا سِيَّمَا إذا كانت المَحَبَّةُ من الطَّرَفَيْنِ، وهيَ مَحَبَّةٌ بريئةٌ من العِلَلِ والشوائبِ والأعراضِ القادحةِ فيها - فإنَّ المُحِبَّ كَثِيراً ما يَسْتَوْلِي مَحْبُوبُهُ على قَلْبِهِ وَذِكْرِهِ وَيَفْنَى عنْ غَيْرِهِ وَيَرِقُّ قلبُهُ وَتَتَجَرَّدُ نَفْسُهُ، فَيُشَاهِدُ مَحْبُوبَهُ كالحاضرِ معهُ القريبِ إليهِ، وَبَيْنَهُمَا مِن البعدِ ما بَيْنَهُمَا، وفي هذهِ الحالِ يكونُ في قلبِهِ وُجُودُهُ العِلْمِيُّ، وفي لسانِهِ وجودُهُ اللَّفْظِيُّ، فَيَسْتَوْلِي هذا الشهودُ عليهِ، وَيَغِيبُ بهِ، فَيَظُنُّ أنَّ في عينِهِ وُجُودَهُ الخَارِجِيَّ لِغَلَبَةِ حُكْمِ القلبِ والروحِ كما قِيلَ:

خَيَالُكَ فِي عَيْنِي وَذِكْرُكَ فِي فَمِي = وَمَثْوَاكَ في قَلْبِي فَأَيْنَ تَغِيبُ

هذا، ويكونُ ذلكَ المحبوبُ بعينِهِ بينَهُ وبينَ عَدُوِّهِ من البُعْدِ ما بَيْنَهُمَا وَإِنْ قَرُبَت الأبدانُ وَتَلاصَقَتِ الدِّيَارُ.
والمقصودُ أنَّ المِثَالَ العِلْمِيَّ غيرُ الحقيقةِ الخارجيَّةِ وإنْ كانَ مُطَابِقاً لها، لكنَّ المثالَ العِلْمِيَّ مَحَلُّهُ القَلْبُ، والحقيقةَ الخارجيَّةَ مَحَلُّهَا الخَارِجُ.
((فَإِذَا شَهِدْتَ إِحَاطَتَهُ بِالعَوَالِمِ وَقُرْبَ العَبِيدِ مِنْهُ وَظُهُورَ الْبَوَاطِنِ لَهُ وَبُدُوَّ السَّرَائِرِ لَهُ وَأَنَّهُ لا شَيْءَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، فَعَامِلْهُ بِمُقْتَضَى هَذَا الشُّهُودِ وَطَهِّرْ لَهُ سَرِيرَتَكَ فَإِنَّهَا عِنْدَهُ عَلانِيَةٌ، وَأَصْلِحْ لَهُ غَيْبَكَ؛ فَإِنَّهُ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ، وَزَكِّ لَهُ بَاطِنَكَ فَإِنَّهُ عِنْدَهُ ظَاهِرٌ))([10]).
فمعرفةُ هذهِ الأسماءِ الأربعةِ وهيَ: الأوَّلُ، والآخرُ، والظاهرُ، والباطنُ، هيَ أركانُ العلمِ والمعرفةِ، فَحَقِيقٌ بالعبدِ أنْ يَبْلُغَ في مَعْرِفَتِهَا إلى حيثُ يَنْتَهِي بهِ قُوَاهُ وَفَهْمُهُ)([11]).
(فَانْظُرْ كَيْفَ كانتْ هذهِ الأسماءُ الأربعةُ جماعَ المعرفةِ باللهِ وجماعَ العبوديَّةِ لهُ، فَهُنَا وَقَفَتْ شهادةُ العبدِ معَ فضلِ خالقِهِ وَمِنَّتِهِ فلا يَرَى لِغَيْرِهِ شَيْئاً إلاَّ بهِ وبحولِهِ وقوَّتِهِ، وَغَابَ بِفَضْلِ مولاهُ الحقِّ عنْ جميعِ ما منهُ هوَ مِمَّا كانَ يَسْتَنِدُ إليهِ أوْ يَتَحَلَّى بهِ، أوْ يَتَّخِذُهُ عقدَةً، أوْ يَرَاهُ ليومِ فَاقَتِهِ، أوْ يَعْتَمِدُ عليهِ في مَهَمٍّ مِنْ مَهَمَّاتِهِ، فكلُّ ذلكَ منْ قصورِ نظرِهِ وانعكاسِهِ عن الحقائقِ والأصولِ إلى الأسبابِ والفروعِ، كما هوَ شأنُ الطبيعةِ والهَوَى وَمُوجَبُ الظلمِ والجهلِ، والإنسانُ ظَلُومٌ جَهُولٌ. فَمَنْ جَلَّى اللهُ سُبْحَانَهُ صَدَأَ بَصِيرَتِهِ، وَكَمَّلَ فِطْرَتَهُ، وَأَوْقَفَهُ على مَبَادِئِ الأمورِ، وَغَايَاتِهَا، وَمَنَاطِهَا، وَمَصَادِرِهَا، وَمَوَارِدِهَا أَصْبَحَ كالمُفْلِسِ حَقًّا منْ عُلُومِهِ، وَأَعْمَالِهِ، وَأَحْوَالِهِ، وَأَذْوَاقِهِ، يَقُولُ: أَسْتَغْفِرُ اللهَ مِنْ عِلْمِي ومِنْ عَمَلِي، أَيْ: مِن انْتِسَابِي إِلَيْهِمَا وَغَيْبَتِي بهما عنْ فضلِ مَنْ ذَكَرَنِي بهما وَابْتَدَأَنِي بِإِعْطَائِهِمَا مِنْ غيرِ تَقَدُّمِ سَبَبٍ مِنِّي يُوجِبُ ذَلِكَ.
فهوَ لا يَشْهَدُ غَيْرَ فضلِ مولاهُ وَسَبْقِ مِنَّتِهِ وَدَوَامِهَا، فَيُثِيبُهُ مَوْلاهُ على هذهِ الشهادةِ العاليَةِ بحقيقةِ الفقرِ الأوسطِ بينَ الفقرَيْنِ الأَدْنَى والأَعْلَى ثَوَابَيْنِ:
- أحدُهُمَا: الخلاصُ منْ رؤيَةِ الأعمالِ، حيثُ كانَ يَرَاهَا وَيَتَمَدَّحُ بِهَا وَيَسْتَكْثِرُهَا، فَيَسْتَغْرِقُ بِمُطَالَعَةِ الفضلِ غَائِباً عنها ذَاهِباً عنها فَانِياً عنْ رُؤْيَتِهَا.
- الثوابُ الثاني: أنْ يَقْطَعَهُ عنْ شهودِ الأحوالِ – أيْ: عنْ شهودِ نفسِهِ فيها مُتَكَثِّرَةً بِهَا – فإنَّ الحالَ مَحَلُّهُ الصدرُ، والصدرُ بيتُ القلبِ والنفسِ، فإذا نَزَلَ العطاءُ في الصدرِ للقلبِ وَثَبَتِ النفسُ لِتَأْخُذَ نَصِيبَهَا من العطاءِ فَتَتَمَدَّحُ بهِ وتُدِلُّ بهِ وَتَزْهُو وَتَسْتَطِيلُ وَتُقَرِّرُ إِنِّيَّتَهَا؛ لأَنَّهَا جاهلةٌ ظالمةٌ، وهذا مُقْتَضَى الجهلِ والظلمِ.
فإذا وَصَلَ إلى القلبِ نُورُ صفةِ المِنَّةِ، وشَهِدَ مَعْنَى اسْمِهِ (( المَنَّانِ ))، وَتَجَلَّى سبحانَهُ على قلبِ عَبْدِهِ بهذا الاسمِ معَ اسمِهِ (( الأوَّلِ )) ذَهَلَ القلبُ والنفسُ بهِ، وصارَ العبدُ فقيراً إلى مولاهُ بمطالعةِ سَبْقِ فضلِهِ الأوَّلِ، فصارَ مَقْطُوعاً عنْ شهودِ أمرٍ أوْ حالٍ يَنْسُبُهُ إلى نفسِهِ بحيثُ يكونُ بشهادتِهِ لحالِهِ مَفْصُوماً مَقْطُوعاً عَنْ رُؤْيَةَ عِزَّةِ مولاهُ وَفَاطِرِهِ وملاحظةَ صفاتِهِ.
فَصَاحِبُ شُهُودِ الأحوالِ مُنْقَطِعٌ عنْ رؤيَةِ مِنَّةِ خالقِهِ وفضلِهِ ومشاهدةِ سَبْقِ الأَوَّلِيَّةِ للأسبابِ كلِّهَا، وَغَائِبٌ بمشاهدةِ عِزَّةِ نَفْسِهِ عنْ عزَّةِ مولاهُ، فَيَنْعَكِسُ هذا الأمرُ في حقِّ هذا العبدِ الفقيرِ وَتَشْغَلُهُ رُؤْيَةُ عِزَّةِ مَوْلاهُ وَمِنَّتِهِ، ومشاهدةُ سَبْقِهِ بِالأَوَّلِيَّةِ عنْ حالٍ يَعْتَزُّ بِهَا العبدُ أوْ يَشْرُفُ بها)([12]).

[فصلٌ]:
(وَ[النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] أَرْشَدَ مَنْ بُلِيَ بشيءٍ منْ وسوسةِ التَّسَلْسُلِ في الفَاعِلِينَ، إذا قِيلَ لهُ: هذا اللهُ خَلَقَ الخَلْقَ، فَمَنْ خَلَقَ اللهَ؟ أَنْ يَقْرَأَ: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3)} [الحديد: 3].
وكذلكَ قالَ ابنُ عَبَّاسٍ لأبي زُمَيْلٍ سِمَاكِ بنِ الوليدِ الحَنَفِيِّ وَقَدْ سَأَلَهُ: ما شَيْءٌ أَجِدُهُ في صَدْرِي؟ قال: ما هوَ؟ قالَ: قُلْتُ: واللهِ لا أَتَكَلَّمُ بهِ. قالَ: فقالَ لي: أَشَيْءٌ مِنْ شَكٍّ؟ قُلْتُ: بَلَى، فقالَ لي: مَا نَجَا منْ ذلكَ أَحَدٌ حتَّى أَنْزَلَ اللهُ عزَّ وجلَّ: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} [يونس: 94]، قالَ: فقالَ لي: فإذا وَجَدْتَ في نَفْسِكَ شيئاً، فَقُلْ: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3)} [الحديد: 3] ([13])
فَأَرْشَدَهُم بهذهِ الآيَةِ إلى بُطْلانِ التسلسلِ الباطلِ بِبَدِيهَةِ العقلِ، وأنَّ سلسلةَ المخلوقاتِ في ابْتِدَائِهَا تَنْتَهِي إلى أَوَّلٍ ليسَ قبلَهُ شَيْءٌ، كما تَنْتَهِي في آخرِهَا إلى آخِرٍ ليسَ بَعْدَهُ شيءٌ، كما أنَّ ظُهُورَهُ هُوَ العُلُوُّ الذي ليسَ فوقَهُ شيءٌ، وبطونَهُ هوَ الإحاطةُ التي لا يكونُ دُونَهُ فيها شيءٌ، ولوْ كانَ قَبْلَهُ شيءٌ يكونُ مُؤَثِّراً فيهِ، لكانَ ذلكَ هوَ الربَّ الخلاَّقَ، ولا بُدَّ أنْ يَنْتَهِيَ الأمرُ إلى خالقٍ غيرِ مخلوقٍ، وغَنِيٍّ عنْ غَيْرِهِ، وكلُّ شَيْءٍ فقيرٌ إليهِ، قَائِمٌ بِنَفْسِهِ، وكلُّ شَيْءٍ قائمٌ بهِ، موجودٌ بِذَاتِهِ، وكُلُّ شَيْءٍ موجودٌ بهِ، قديمٌ، لا أَوَّلَ لهُ، وكلُّ ما سِوَاهُ فَوُجُودُهُ بَعْدَ عَدَمِهِ، بَاقٍ بِـذَاتِهِ، وَبَقَـاءُ كلِّ شـيءٍ بهِ، فـهـوَ الأوَّلُ الذي لَيْـسَ قبلَهُ شيءٌ، والآخِرُ الذي لَيْسَ بَعْدَهُ شَيْءٌ، الظاهرُ الذي ليسَ فوقَهُ شيءٌ، الباطنُ الذي ليسَ دونَهُ شيءٌ.
وقالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لا يَزَالُ النَّاسُ يَتَسَاءَلُونَ حَتَّى يَقُولَ قَائِلُهُمْ: هَذَا اللهُ خَلَقَ الْخَلْقَ، فَمَنْ خَلَقَ اللهَ؟ فَمَنْ وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئاً، فَلْيَسْتَعِذْ بِاللهِ وَلْيَنْتَهِ)) ([14]). وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)} [الأعراف: 200]) ([15])
). [المرتبع الأسنى: ؟؟]


([1]) مَدارِجُ السَّالكِينَ (3/111).
([2]) مُخْتَصَرُ الصواعقِ المرسَلَةِ (357).
([3]) وقال رَحِمَهُ اللهُ تَعالَى في القصيدةِ النونيةِ (240):
(هُوَ أَوَّلٌ هُوَ آخِرٌ هُوَ ظَاهِرٌ = هُوَ بَاطِنٌ هِيَ أَرْبَعٌ بِوِزَانِ
مَا قَبْلَهُ شَيْءٌ كَذَا مَا بَعْدَهُ = شَيْءٌ تَعَالَى اللهُ ذُو السُّلْطَانِ
مَا فَوْقَهُ شَيْءٌ كَذَا مَا دُونَهُ = شَيْءٌ وَذَا تَفْسِيرُ ذِي الْبُرْهَانِ
فَانْظُرْ إِلَى تَفْسِيرِهِ بِتَدَبُّرٍ = وَتَبَصُّرٍ وَتَعَقُّلٍ لِمَعَانِ
وَانْظُرْ إِلَى مَا فِيهِ مِنْ أَنْوَاعِ مَعْـ = ـرِفَةٍ لخالِقِنَا الْعَظِيمِ الشَّانِ)
وقال أيضًا (335):
(وَاللهُ أَكْبَرُ ظَاهِرٍ ما فَوْقَهُ = شَيْءٌ وَشَأْنُ اللهِ أَعْظَمُ شَانِ)
وقال أيضًا (113- 114):
(وَالظَّاهِرُ العَالِي الَّذِي مَا فَوْقَهُ = شَيْءٌ كَمَا قَدْ قَالَ ذُو البُرْهَانِ
حقًّا رَسُولُ اللهِ ذَا تَفْسِيرُهُ = وَلَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ بِضَمَانِ
فَاقْبَلْهُ لاَ تَقْبَلْ سِوَاهُ مِنَ التَّفَا = سِيرِ الَّتِي قِيلَتْ بِلاَ بُرْهَانِ
والشَّيْءُ حِينَ يَتِمُّ مِنْهُ عُلُوُّهُ = فَظُهُورُهُ فِي غَايَةِ التِّبْيَانِ
أَوَمَا تَرَى هَذِي السَّمَاءَ عُلُوَّهَا = وَظُهُورَهَا وَكَذَلِكَ القَمَرَانِ
وَالْعَكْسُ أَيضًا ثَابِتٌ فَسُفُولُه = وَخَفاؤُهُ إِذْ ذَاكَ مُصْطَحَبَانِ
فَانْظُرْ خَفَاءَ الْمَرْكَزِ الأَدْنَى وَوَصْـ = ـفَ السُّفْلِ فِيهِ وَكَوْنَهُ تَحْتَانِي
وظُهورُهُ سُبْحَانَهُ بِالذَّاتِ مِثْـ = ـلُ عُلُوِّهِ فَهُمَا لَهُ صِفَتَانِ
لاَ تَجْحَدَنَّهُمَا جُحُودَ الْجَهْمِ أَوْ = صَافَ الكَمالِ تَكُونُ ذَا بُهتانِ
وظُهُورُهُ هو مُقْتَضٍ لِعُلُوِّهِ = وَعُلُوُّهُ لِظُهُورِهِ بِبَيَانِ
وَكَذَاكَ قَدْ دَخَلَتْ هُنَاكَ الفَاءُ لِلتـ = ـتسبيبِ مُؤْذِنَةً بهَذا الشانِ
فتَأَمَّلَنْ تَفْسِيرَ أَعْلَمِ خَلْقِهِ = بِصِفَاتِهِ مَنْ جَاءَ بالقُرْآنِ
إِذْ قَالَ أَنْتَ كَذَا فَلَيْسَ لِضِدِّهِ = أَبدًا إِلَيْهِ تَطَرُّقُ الإِتيانِ)
([4]) طَرِيقُ الهِجرتَيَنِ (23-25).
([5]) سَبَقَ تَخْرِيجُه ص 300.
([6]) مُخْتَصَرُ الصواعقِ المرسَلَةِ (357).
وقال –رَحِمَهُ اللهُ تَعالَى– في مَدارجِ السَّالكِينَ (1/ 55): (وكذلك اسمُهُ (الظاهِرُ) مِن لوازِمِه: أن لا يكونَ فوقَهُ شيءٌ، كما في الصحيحِ عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ: ((وَأَنْتَ الظَّاهِرُ لَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ)). بل هو سُبحانَهُ فَوقَ كُلِّ شيءٍ).
([7]) سَبَقَ تَخريجُه ص 230.
([8]) رواهُ التِّرْمِذِيُّ في كتاب الدعوات / باب (119) الحديث (3579) والنَّسَائِيُّ في كتابِ المواقيتِ / بابُ النهيِ عن الصلاةِ بعدَ العصرِ (571) من حديثِ عمرِو بنِ عَبَسَةَ رضيَ اللهُ عنه.
([9]) رَوَاهُ الإمامُ أَحْمَدُ (19026) والبُخَارِيُّ في كتابِ التوحيدِ / بابُ: "وَكانَ اللهُ سميعًا بَصِيرًا " (7386) ومواضعَ أُخَرَ، ومسلمٌ في كتابِ الذِّكْرِ والدعاءِ / بابُ استحبابِ خَفضِ الصوتِ بالذكرِ (6802) والتِّرْمِذِيُّ في كتابِ الدَّعَواتِ / بابُ (3) الحديثُ (3374) وأبو داودَ في كتابِ الصلاةِ / بابٌ في الاستغفارِ (1523).
([10]) طَرِيقُ الهِجرتَيَنِ (25).
([11]) طَرِيقُ الهِجرتَيَنِ (19-23).
([12]) طَرِيقُ الهِجرتَيَنِ (25-26).
([13]) رَواه أبو داودَ في كتابِ الأدبِ / بابٌ في ردِّ الوَسْوَسَةِ (5099).
([14]) رَوَاهُ الإمامُ أَحْمَدُ (8176) والبُخَارِيُّ في كتابِ بَدْءِ الخلقِ / بابُ صِفةِ إِبلِيسَ وجُنودِه (3276) ومسلمٌ في كتابِ الإيمانِ / بابٌ في الأمرِ بالإيمانِ والاستعاذةِ عندَ وَسوَسَةِ الشَّيْطَانِ (343) وأبو داودَ في كتابِ السُّنَّةِ / بابٌ في الجهمِيَّةِ (4706) من حديثِ أبي هُرَيْرَة رضيَ اللهُ عنه.
([15]) زَادُ المَعادِ (1/461-462).


رد مع اقتباس