عرض مشاركة واحدة
  #7  
قديم 3 صفر 1440هـ/13-10-2018م, 03:11 PM
جمهرة التفاسير جمهرة التفاسير غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 2,953
افتراضي

تفاسير القرن السادس الهجري

تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) }
قال عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي (ت:546هـ) : (ثم ذكر تعالى نعمته على داود وسليمان عليهما السلام احتجاجا على ما منح محمدا صلى الله عليه وسلم، أي: لا تستبعدوا هذا فقد تفضلنا على عبدنا قديما بكذا، فلما فرغ التمثيل لمحمد عليه الصلاة والسلام رجع التمثيل لهم بسبإ وما كان من هلاكهم بالكفر والعتو، والمعنى: قلنا:يا جبال، و"أوبي" معناه: ارجعي معه; لأنه مضاعف آب يؤوب، فقال ابن عباس، وقتادة، وابن زيد، وغيرهم: معناه: سبحي معه، أي: يسبح هو وترجع هي معه التسبيح، أي: ترده بالذكر، ثم ضوعف الفعل للمبالغة، وقيل: معناه: سيري معه; لأن التأويب سير النهار، كان الإنسان يسير بالليل ثم يرجع السير بالنهار، أي يردده، فكأنه يؤوبه، فقيل له: التأويب، ومنه قول الشاعر:
يومان يوم مقامات وأندية ... ويوم سير إلى الأعداء تأويب
ومنه قول ابن مقبل:
لحقنا بحي أوبوا السير بعدما ... دفعنا شعاع الشمس والطرف يجنح
وقال مؤرج: "أوبي": سبحي بلغة الحبشة. وهذا ضعيف غير معروف، وقال وهب بن منبه: المعنى: نوحي معه والطير تساعدك على ذلك، قال: فكان داود عليه السلام إذا نادى بالنياحة والحنين أجابته الجبال وعكفت الطير عليه من فوقه، قال: فمن حينئذ سمع صدى الجبال، وقرأ الحسن، وقتادة، وابن أبي إسحاق: "أوبي" بضم الهمزة وسكون الواو، أي" ارجعي معه، أي في السير أو في التسبيح، وأمر الجبال كما تؤمر الواحدة المؤنثة لأن جميع ما لا يعقل كذلك يؤمر، وكذلك يكنى عنه ويوصف، ومنه المثل "يا خيل الله اركبي"، ومنه مآرب أخرى، وهذا كثير.
وقرأ الأعرج، وعاصم - بخلاف - وجماعة من أهل المدينة: "والطير" بالرفع عطفا على لفظ قوله: "يا جبال"، وقرأ نافع، وابن كثير، والحسن، وابن أبي إسحاق، وأبو جعفر: "والطير" بالنصب، فقيل: ذلك عطف على "فضلا"، وهو مذهب الكسائي، وقال سيبويه: هو على موضع قوله: "يا جبال" لأن موضع المنادى المفرد نصب، وقال أبو عمرو: نصبها بإضمار فعل تقديره: وسخرنا الطير. وقوله: {وألنا له الحديد} معناه: جعلناه لينا، وروى قتادة وغيره أن الحديد كان له كالشمع لا يحتاج في عمله إلى نار، وقيل: أعطاه قوة يثني بها الحديد، وروي أنه لقي ملكا - وداود عليه السلام يظنه إنسانا - وداود متنكر خرج ليسأل الناس عن نفسه في خفاء، فقال داود لذلك الشخص الذي تمثل فيه الملك: ما قولك في هذا الملك داود؟ فقال له الملك: نعم العبد لولا خلة فيه، قال داود: وما هي؟ قال: يرتزق من بيت المال، ولو أكل من عمل يديه لتمت فضائله، فرجع فدعا الله في أن يعلمه صنعة ويسهلها عليه، فعلمه تعالى صنعة اللبوس، وألان له الحديد، فكان - فيما روي - يصنع ما بين يومه وليلته درعا تساوي ألف درهم، حتى ادخر منها كثيرا وتوسعت معيشته، وكان ينفق بيت المال في مصالح المسلمين). [المحرر الوجيز: 7/ 160-162]

تفسير قوله تعالى: {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) }
قال عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {أن اعمل سابغات}، قيل إن "أن" مفسرة لا موضع لها من الإعراب، وقيل: هي في موضع نصب بإسقاط حرف الجر، و"السابغات": الدروع الكاسيات ذوات القفول، قال قتادة: داود عليه السلام أول من صنعها، ودرع الحديد مؤنثة، ودرع المرأة مذكر.
وقوله تعالى: {وقدر في السرد}، اختلف المتأولون، في أي شيء هو التقدير من أشياء السرد؟ إذ السرد هو اتباع الشيء بالشيء من جنسه، قال الشماخ:
كما تابعت سرد العنان الخوارز
ومنه: سرد الحديث، وقيل للدرع: مسرودة لأنها توبعت فيها الحلق بالحلق، ومنه قول الشاعر:
وعليهما مسرودتان قضاهما ... داود أو صنع السوابغ تبع
وقول دريد: في الفارسي المسرد
فقال ابن زيد: التقدير الذي أمر به هو في قدر الحلقة، أي: لا تعملها صغيرة فتضعف ولا تقوى الدرع على الدفاع، ولا كبيرة فينال لابسها من خلالها، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: التقدير الذي أمر به هو المسمار، يريد: قدر المسامير والحلق، حتى لا تدق المسمار فتسلس، ويروى فيسلسل، ولا تغلظه فينقصم، بالقاف - وبالفاء أيضا رواية -، وروى قتادة أن الدروع كانت قبله صفائح فكانت ثقالا، فلذلك أمر هو بالتقدير فيما يجمع بين الخفة والحصانة، أي: قدر ما يأخذ من هذين المعنيين بقسطه، أي: لا تقصد الحصانة فتثقل، ولا الخفة وحدها فيزيل المنعة.
وقوله: {واعملوا صالحا}، لما كان الأمر لداود وآله حكي وإن كان لم يجر لهم ذكر لدلالة المعنى عليهم، ثم توعدهم بقوله: {إني بما تعملون بصير}، أي: لا يخفى علي حسنه من قبيحه، وبحسب ذلك يكون جزائي لكم). [المحرر الوجيز: 7/ 162-164]

تفسير قوله تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) }
قال عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر وأسلنا له عين القطر ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير}
قال الحسن: عقر سليمان عليه السلام الخيل أسفا على ما فوتته من فضل وقت صلاة العصر، فأبدله الله تعالى خيرا منها وأسرع، قرأ الجمهور: "الريح" تجري بالنصب على معنى: ولسليمان سخرنا الريح، وقرأ عاصم - في رواية أبي بكر - والأعرج: "الريح" بالرفع على تقدير: تسخرت الريح، أو على الابتداء، والخبر في المجرور، وذلك على حذف مضاف تقديره: ولسليمان تسخير الريح. وقرأ الحسن: "ولسليمان الرياح"، وكذلك جمع في كل القرآن.
وقوله تعالى: {غدوها شهر ورواحها شهر}، قال قتادة: إنها كانت تقطع به في الغدو إلى قرب الزوال مسيرة شهر، وروي عن الحسن البصري أنه قال: كان يخرج من الشام من مستقره بتدمر التي بنتها له الجن بالصفاح والعمد فيقيل في إصطخر، ويروح منها فيبيت في كابل من أرض خراسان، ونحو هذا، وكانت الأعاصير تقل بساطه وتحمله بعد ذلك الرخاء، وكان هذا البساط يحمل - فيما روي - أربعة آلاف فارس وما يشبهها من الرجال والعدد ويتسع لهم، وروي أكثر من هذا بكثير، ولكن عدم صحته مع بعد شبهه أوجب اختصاره، وقد قال عليه الصلاة والسلام: ["خير الجيوش أربعة آلاف"] وما كان سليمان ليعدو الخير.
وقرأ ابن أبي عبلة: ["غدوتها شهر وروحتها شهر"]، وكان سليمان عليه السلام إذا أراد قوما لم يشعر به حتى يظلهم في جو السماء.
وقوله تعالى: {وأسلنا له عين القطر}، روي عن ابن عباس، وقتادة أنه كانت تسيل له باليمن عين جارية من نحاس يصنع له منها جميع ما أحب، والقطر: النحاس، وقالت فرقة: القطر: الفلز كله، النحاس والحديد وما جرى مجراه، كان يسيل له منه عيون، وقالت فرقة: بل معنى "وأسلنا له عين القطر": أذبنا له النحاس، على نحو ما كان الحديد يلين لداود، قالوا: وكانت الأعمال تتأتى منه لسليمان وهو بارد دون نار، و"عين" - على هذا التأويل - بمعنى المذاب، وقالوا: لم يلن النحاس ولا ذاب لأحد قبله.
وقوله: {ومن الجن من يعمل} يحتمل أن "من" تكون في موضع نصب على الإتباع لما تقدم بإضمار فعل تقديره: وسخرنا من الجن من يعمل، ويحتمل أن تكون في موضع رفع على الابتداء، والخبر في المجرور، و"يزغ" معناه: يمل، أي ينحرف عاصيا، وقال: عن أمرنا ولم يقل: "عن إرادتنا" لأنه لا يقع في العالم شيء يخالف الإرادة، ويقع ما يخالف الأمر. قال الضحاك: وفي مصحف عبد الله: "ومن يزغ عن أمرنا" بغير "منهم". وقوله: {من عذاب السعير} قيل: عذاب الآخرة، وقيل: بل كان قد وكل بهم ملك وبيده سوط من نار السعير، فمن عصى ضربه فأحرقه). [المحرر الوجيز: 7/ 164-166]

تفسير قوله تعالى: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13) }
قال عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور}
المحاريب: الأبنية العالية الشريفة، قال قتادة: القصور والمساجد، وقال ابن زيد: المساكن، والمحراب أشرف موضع في البيت، والمحراب موضع العبادة أشرف ما يكون منه، وغلب عرف الاستعمال في موضع وقوف الإمام لشرفه، ومن هذه اللفظة قول عدي بن زيد:
كدمى العاج في المحاريب أو كال ... بيض في الروض زهره مستنير
والتماثيل، قيل: كانت من زجاج ونحاس، تماثيل أشياء ليست بحيوان، وقال الضحاك: كانت تماثيل حيوان، وكان هذا من الجائز في ذلك الشرع.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
ونسخ بشرع محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال قوم: حرم التصوير لأن الصور كانت تعبد، وحكى في الهداية أن فرقة كانت تجوز التصوير وتحتج بهذه الآية، وذلك خطأ، وما أحفظ من أئمة العلم من يجوزه.
والجوابي جمع جابية، وهي البركة التي يجيء إليها الماء الذي يجتمع، قال الراجز:
فصبحت جابية صهارجا ... كأنه جلد السماء خارجا
وقال مجاهد: هي جمع جوبة، وهي الحفرة العظيمة في الأرض، وفي هذا نظر، ومنه قول الأعشى:
نفى الذم عن آل المحلق جفنة ... كجابية الشيخ العراقي تفهق
وأنشده الطبري: "تروح على آل المحلق"، ويروى: "السيح" بالسين المهملة، وهو الماء الجاري على وجه الأرض ويروى بالشين والخاء منقوطتين فيقال أراد كسرى ويقال أراد شيخا من فلاحي سواد العراق غير معين وذلك أنه لضعفه يدخر الماء في جابية فهي تفهق أبدا فشبهت الجفنة بها لعظمها وقال مجاهد وقتادة والضحاك وابن زيد: الجوابي الحياض وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي كالجواب بغير ياء في الوصل والوقف، وقرأ أبو عمرو، وعيسى بغير ياء في الوقف وياء في الوصل، وقرأ ابن كثير بياء فيهما. ووجه حذف الياء التخفيف والإيجاز، وهذا كحذفهم ذلك من "القاض، والغاز، والهاد"، وأيضا فلما كانت الألف واللام تعاقب التنوين وكانت الياء تحذف مع التنوين وجب أن تحذف مع ما عاقبته، كما يعملون الشيء أبدا عمل نقيضه.
و"راسيات" معناه: ثابتات لكبرها، ليست مما ينقل ولا يحمل، ولا يستطيع عمله إلا الجن، وبالثبوت فسرها الناس. ثم أمروا مع هذه النعم بأن يعملوا بالطاعات.
وقوله: "شكرا" يحتمل أن يكون نصبه على الحال، أي: اعملوا بالطاعات في حال شكر منكم لله على هذه النعم، ويحتمل أن يكون نصبه على جهة المفعول، أي: اعملوا عملا هو الشكر، كأن الصلاة والصيام والعبادات كلها هي نفسها الشكر إذ سدت مسده، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد المنبر فتلا هذه الآية، ثم قال: "ثلاث من أوتيهن فقد أوتي العمل شكرا: العدل في الغضب والرضى، والقصد في الفقر والغنى، وخشية الله في السر والعلانية"، وروي أن داود عليه السلام قال: يا رب كيف أطيق شكرك على نعمك وإلهامي وقدرتي على شكرك نعمة لك؟ فقال: الآن يا داود عرفتني حق معرفتي، وقال ثابت: روي أن مصلى آل داود لم يخل قط من قائم يصلي ليلا ونهارا، كانوا يتناوبونه دائما، وكان سليمان عليه السلام - فيما روي يأكل الشعير، ويطعم أهله الخشكار، ويطعم المساكين الدرمك. وروي أنه ما شبع قط، فقيل له في ذلك فقال: أخاف أن أنسى الجياع.
وقوله تعالى: {وقليل من عبادي الشكور} يحتمل أن تكون مخاطبة لآل داود، ويحتمل أن تكون مخاطبة لآل محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى كل حال ففيها تنبيه وتحريض، وسمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلا يقول: اللهم اجعلني من القليل، فقال له: ما هذا الدعاء؟ فقال: أردت قوله تعالى: {وقليل من عبادي الشكور}، فقال عمر: كل الناس أعلم من عمر.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وقد قال تعالى: {وقليل ما هم}، والقلة أيضا بمعنى الخمول منحة من الله تبارك وتعالى، فلهذا الدعاء محاسن).[المحرر الوجيز: 7/ 166-168]

تفسير قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14) }
قال عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين}
الضمير عائد على سليمان عليه السلام، و"قضينا" بمعنى: أنفذنا وأخرجناه إلى حيز الوجود، وإلا فالقضاء الأخير به متقدم في الأزل، وروي عن ابن عباس، وابن مسعود رضي الله عنهما في قصصهما أن سليمان عليه السلام كان يتعبد في بيت المقدس، وكان ينبت في محرابه كل سنة شجرة، فكان يسألها عن منافعها ومضارها وسائر شأنها فتخبره، ويأمر بها فتقلع فتصرف في منافعها، أو تغرس لتتناسل، فلما كان عند موته خرجت شجرة فقال لها: ما أنت؟ فقالت: أنا الخروب، خرجت لخراب ملكك هذا، فقال: ما كان الله ليخربه وأنا حي، ولكنه لا شك حضور أجلي، فاستعد عليه السلام وغرسها، وصنع منها عصا لنفسه، وجد في عبادته، وجاءه بعد ذلك ملك الموت، فأخبره أنه قد أمر بقبض روحه، وأنه لم يبق له إلا مدة يسيرة، فروي أنه أمر الجن حينئذ فصنعت له قبة من زجاج تشف، وحصل فيها يتعبد، ولم يجعل لها بابا، وتوكأ على عصاه على وضع يتماسك معه وإن مات، ثم توفي صلى الله عليه وسلم على تلك الحالة، وروي أنه استعد في تلك القبة بزاد سنة، وكان الجن يتوهمون أنه يتغذى بالليل، وكانوا لا يقربون من القبة، ولا يدخلون من كوى كانت في أعاليها، ومن رام ذلك منهم احترق قبل الوصول إليها، هذا في المدة التي كان سليمان عليه السلام في القبة، فلما مات بقيت تلك الهيبة على الجن، وروي أن القبة كان لها باب، وأن سليمان أمر بعض أهله بكتمان موته على الجن والإنس، وأن يترك على حاله تلك سنة، وكان غرضه في هذه السنة أن يعمل الجن عملا كان قد بدئ في زمن داود عليه السلام وقدر أنه بقي منه عمل سنة، فأحب الفراغ منه، فلما مضى لموته سنة خر عن عصاه، والعصا قد أكلته الأرض، وهي الدودة التي تأكل العود، فرأت الجن انحداره، فتوهمت موته، فجاء جسور منهم فقرب فلم يحترق، ثم خطر فعاد فقرب أكثر، ثم قرب حتى دخل من بعض تلك الكوى فوجد سليمان ميتا فأخبر بموته، فنظر ذلك الأجل فقدر أنه سنة، وقال بعض الناس: جعلت الأرضة فأكلت يوما وليلة، ثم قيس ذلك بأكلها في العصا فعلم أنها أكلت منذ سنة، فهكذا كانت دلالة دابة الأرض على موته. وللمفسرين: في هذه القصص إكثار عمدته ما ذكرناه. وقال كثير من المفسرين دابة الأرض: سوسة العود، وهي الأرضة. وقرأ ابن عباس، والعباس بن الفضل: "الأرض" بفتح الراء، جمع أرضة، فهذا يقوي ذلك التأويل. وقالت فرقة: دابة الأرض: حيوان من الأرض، شأنه أن يأكل العود، وذلك موجود، وليست السوسة من دواب الأرض. وقالت فرقة منها أبو حاتم اللغوي: "الأرض" هنا مصدر "أرضت الأثواب والخشب" إذا أكلتها الأرضة، كأنه قال: دابة الأكل الذي هو بتلك الصورة، على جهة التسوس.
وفي مصحف عبد الله: "أكلت منسأته"، والمنسأة هي العصا، ومنه قول الشاعر:
إذا دببت على المنساة من كبر ... فقد تباعد عنك اللهو والغزل
وكذا قرأت جماعة من القراء بغير همز، منها أبو عمرو، ونافع، قال أبو عمرو: لا أعرف لها اشتقاقا، فأنا لا أهمزها; لأنها إن كانت مما يهمز فقد احتطت; لأنه لا يجوز لي همز ما لا يهمز، وقال غيره: أصلها الهمز، وهي من المنسأة بهمزة مفتوحة، من: "نسأت الإبل والغنم والناقة" إذا سقتها، ومنه قول طرفة:
أمون كعيدان الإران نسأتها ... على لاحب كأنه ظهر برجد
ويروى: "وعنس" كألواح وخففت همزتها جملة، وكان القياس أن تخفف بين بين، وقرأ باقي السبعة على الأصل بالهمز. وقرأ حمزة: "منساته" بفتح الميم وبغير همز، وقرأت فرقة: "منسأته" بهمزة ساكنة وهذا لا وجه له إلا التخفيف في تسكين المتحرك لغير علة، كما قال امرؤ القيس:
فاليوم أشرب غير مستحقب ... إثما من الله ولا واغل
وقرأت فرقة: "من سأته" بفصل "من" وكسر التاء في " سأته"، وهذه تنحو إلى: سية القوس; لأنه يقال: سية وساة، فكأنه قال: "من سأته" ثم سكن الهمزة، ومعناها: من طرف عصاه، أنزل العصا منزلة القوس.
وقال بعض الناس: إن سليمان عليه السلام لم يمت إلا في سفر مضطجعا، ولكنه كان في بيت مبني عليه، وأكلت الأرضة عتبة الباب حتى خر البيت فعلم موته، وهذا ضعيف.
وقرأ الجمهور: "تبينت الجن" بإسناد الفعل إليها، أي: بان أمرها، كأنه قال: افتضحت الجن، أي للإنس، هذا تأويل ويحتمل أن يكون قوله: {تبينت الجن} بمعنى: علمت الجن وتحققت، ويريد بالجن: جمهورهم والفعلة منهم والخدمة، ويريد بالضمير في "كانوا" رؤساءهم وكبارهم; لأنهم هم الذين يدعون علم الغيب لأتباعهم من الجن والإنس ويوهمونهم ذلك، قاله قتادة، فيتبين الأتباع أن الرؤوس لو كانوا عالمين الغيب ما لبثوا. و"أن" - على التأويل الأول - بدل من "الجن"، وعلى التأويل الثاني مفعولة محضة، وقرأ يعقوب: "تبينت الجن" على الفعل للمجهول، أي: تبينها الناس، و"أن" - على هذه القراءة - بدل، ويجوز أن تكون في موضع نصب بإسقاط حرف الجر، أي: بأن، على هذه القراءة، وعلى التأويل الأول من القراءة الأولى.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
مذهب سيبويه أن "أن" في هذه الآية لا موضع لها من الإعراب، وإنما هي مؤذنة بجواب ما تنزل منزلة القسم من الفعل الذي معناه التحقق واليقين; لأن هذه الأفعال التي هي: تبينت وتحققت وعلمت وتيقنت ونحوها تحل محل القسم في قولك: علمت أن لو قام زيد ما قام عمرو، فكأنك قلت: والله لو قام زيد ما قام عمرو، فقوله: "ما لبثوا" - على هذا القول - جواب ما تنزل منزلة القسم لا جواب "لو"، وعلى الأقوال الأول جواب "لو"، وفي كتاب النحاس إشارة إلى أنه يقرأ بنصب [الجن] أي: تبينت الإنس الجن، والعذاب المهين هو العمل في تلك السخرة، والمعنى أن الجن لو كانت تعلم الغيب لما خفي عليها أمر موت سليمان عليه السلام، وقد ظهر أنه خفي عليها بدوامها في الخدمة الصعبة وهو ميت، فالمهين: المذل، من الهوان. قال الطبري: وفي بعض القراءات ["فلما خر تبينت الإنس أن الجن لو كانوا"]، وحكاها أبو الفتح عن ابن عباس، والضحاك، وعلي بن الحسين، وذكر أبو حاتم أنها كذلك في مصحف ابن مسعود، وأكثر المفسرون في قصص هذه الآية بما لا صحة له، ولا تقتضيه ألفاظ القرآن، وفي معانيه بعد، فاختصرته لذلك).[المحرر الوجيز: 7/ 169-172]

رد مع اقتباس