عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 29 رجب 1435هـ/28-05-2014م, 08:00 PM
الصورة الرمزية ساجدة فاروق
ساجدة فاروق ساجدة فاروق غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 1,137
افتراضي

معنى التغني بالقرآن

قال أبو عُبيد القاسم بن سلاّم الهروي (ت: 224هـ): (في حديث النبي عليه السلام: ((ليس منا من لم يتغن بالقرآن)) كان سفيان بن عيينة يقول: معناه من لم يستغن به، ولا يذهب به إلى الصوت وليس للحديث عندي وجه غير هذا، لأنه في حديث آخر كأنه مفسر عن "عبد الله" بن نهيك أو ابن أبي نهيك أنه دخل على سعد وعنده متاع رث ومثال رث، فقال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس منا من لم يتغن بالقرآن)) فذكره رثاثة المتاع والمثال عند هذا الحديث يبينك أنه إنما أراد الاستغناء بالمال القليل، وليس الصوت من هذا في شئ ويبين ذلك حديث عبد الله من قرأ سورة آل عمران فهو غني. وعنه قال: نعم، كنز الصعلوك سورة آل عمران يقوم بها من آخر الليل.
فأرى الأحاديث كلها إنما دلت على الاستغناء، ومنه حديثه الآخر: من قرأ القرآن فرأى أن أحدا أعطي أفضل مما أعطي فقد عظم صغيرا وصغر عظيما. ومعنى الحديث: لا ينبغي لحامل القرآن أن يرى أحدا من أهل الأرض أغنى منه ولو ملك الدنيا برحبها.
ولو كان وجهه كما يتأوله بعض الناس أنه الترجيع بالقراءة وحسن الصوت لكانت العقوبة قد عظمت في ترك ذلك أن يكون: من لم يرجع صوته بالقرآن فليس من النبي عليه السلام حين قال: ليس منا من لم يتغن بالقرآن، وهذا لا وجه له، ومع هذا أنه كلام جائز فاش في كلام العرب وأشعارهم أن يقولوا: تغنيت تغنيا وتغانيت تغانيا يعني استغنيت قال الأعشى: "المتقارب"
وكنت امرأ زمنا بالعراق = عفيف المناخ طويل التغن
يريد الاستغناء أو الغنى وقال المغيرة بن حبناء التميمي يعاتب أخا له: "الطويل"
كلانا غني عن أخيه حياته = ونحن إذا متنا أشد تغانيا
يريد أشد استغناء، هذا وجه الحديث والله أعلم.) [غريب الحديث: 2/170]

قال أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الأزدي الطحاوي (ت: 321هـ) : (حدثنا بكار بن قتيبة قال ثنا إبراهيم بن أبي الوزير قال ثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن ابن أبي مليكة عن ابن أبي نهيك عن سعد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((ليس منا من لم يتغن بالقرآن)) فتأملنا معنى هذا الحديث فوجدنا الناس فيه على قولين: فقوم منهم يقولون أُريد به الاستغناء بالقرآن عن الأشياء كلها لأنه قد يكون بذلك الجزاء الجزيل في الآخرة والوصول به من الله عز وجل إلى عاجل خيره في الدنيا، وقوم يقولون هو على تحسين الصوت ليرق له قلب من يقرؤه فالتمسنا الأولى من هذين القولين بمعناه فوجدنا بكار بن قتيبة قد حدثنا قال ثنا إبراهيم بن أبي الوزير قال ثنا عبد الجبار بن الورد عن ابن أبي مليكة عن ابن أبي يزيد قال أبو جعفر هكذا قال وإنما هو ابن أبي نهيك قال دخلنا على أبي لبابة بن عبد المنذر وإذا رجل رث البيت رث المتاع فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ((ليس منا من لم يتغن بالقرآن)) فقلت لابن أبي مليكة فمن لم يكن له صوت ولم يحسن قال يحسنه ما استطاع ... فكان معنى ما حدثهم به أبو لبابة من هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قد يحتمل أن يكون لما رأوه به من رثاثة الحال وقد يحتمل أن يكون أراد به حسن الصوت بالقرآن وكذلك تأوله ابن أبي مليكة عليه في هذا الحديث ثم طلبنا هذا الباب هل نجده من غير هذا الطريق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا أبو عاصم عن ابن جريج عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((ليس منا من لم يتغن بالقرآن)) ثم رجعنا إلى طلب الأولى به من القولين اللذين ذكرنا فكان قوله صلى الله عليه وسلم ((ليس منا من لم يتغن بالقرآن)) ذما لمن لم يفعل ذلك كقوله ((ليس منا من غشنا)) و((ليس منا من رمانا بالليل)) في الأشياء التي تعاض من كانت أو تكون منه صلى الله عليه وسلم مما نحن ذاكروها فيما بعد من كتابنا هذا إن شاء الله تعالى على الذم لمن كان كذلك، وعلى المعنى له منه ووجدنا من قرأ القرآن بغير تحسين منه له صوته مريدا بقراءته إياه الأحوال المحمودة مثابا على ذلك غير مذموم عليه فعقلنا بذلك أن يكون مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله من لم يتغن بالقرآن هذا المعنى ولما انتفى ذلك المعنى عنه ولم يقل في تأويله غير هذين القولين وانتفى أحدهما ثبت الآخر منهما وهو الاستغناء به عن سائر الأشياء سواه والله أعلم بمراد رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك القول وإياه نسأله التوفيق) [بيان مشكل الأثار: 3/201]
قال أبو سليمان حَمْدُ بن محمد بن إبراهيم الخطابي (ت: 388هـ): (والعرب تقول سمعت فلانا يغني بهذا الحديث أي يجهر به ويصرخ ولا يوري ولا يكني، وأخبرني أحمد بن عفو الله الشيرازي نا عبد الله بن سليمان نا يحيى بن عبد الرحيم الأعمش نا أبو عاصم قال أخذ بيدي ابن جريج ووقفني على أشعب الطماع فقال غن ابن أخي ما بلغ من طمعك فقال بلغ من طمعي أنه ما زفت بالمدينة امرأة إلا كسحت بيتي رجاء أن يهدى إلي يقول أخبر ابن أخي مجاهرا بذلك غير مساتر ومن هذا قول ذي الرمة أحب المكان القفر من أجل أنني به أتغنى باسمها غير معجم أي أجهر الصوت بذكرها ولا أكني عنها حذار كاشح أو خوفا من رقيب وعلى هذا تأول بعض العلماء قوله ((ليس منا من لم يتغن بالقرآن)) أي يجهر به، وقد يروى هذا التفسير مرفوعا أو موصولا بحديث مرفوع. فكل من رفع صوته بشيء ووالى به مرة بعد أخرى فصوته عند العرب غناء وأكثره فيما شاق من صوت أو شجا من نغمة ولحن ولذلك قيل غنت الحمامة وتغنى الطائر) [غريب الحديث: 1/656]
قال محمود بن عمر الزمخشري (ت: 538هـ): (التغنى بالقرآن : الإستغناء به وقيل كانت هجيرى العرب التغنى بالركبانى وهو نشيد بالمد والتمطيط إذا ركبوا الإبل وإذا انبطحوا على الأرض وإذا قعدوا في أفنيتهم وفي عامة أحوالهم فأحب الرسول أن تكون قراءة القرآن هجيراهم فقال ذلك يعنى ليس منا من لم يضع القرآن موضع الركبانى في اللهج به والطرب عليه . وقيل : هو تفعل من غنى بالمكان إذا أقام به [ غنى ] وما غنيت فلانا أى ما ألفته . والمعنى : من لم يلزمه ولم يتمسك به . والأول يحتج لصحته ووجاهته بمقدمة الحديث وقول ابن مسعود : من قرأ سورة آل عمران فهو غنى . وعن الشعبى رحمه الله : نعم كنز الصعلوك سورة آل عمران يقوم بها من آخر الليل . وفي الحديث : من قرأ القرآن فرأى أحدا أعطى أفضل مما أعطى فقد عظم صغيرا وصغر عظيما) [الفائق في غريب الأثر: 2/36]
قال أبو الفرج عبد الرحمن بن علي ابن الجوزي (ت: 597هـ): (قوله ((مَنْ لم يَتَغَنَّ بالقرآنِ)) قال سفيان: يَسْتَغْن، وقال الشافِعَيُّ: معناه تَحْزِينُ القراءةِ وتَرْقَيقُها، وهذا أولى لِقَوْله ((ما أَذِنَ اللَّهُ لشيءٍ ما أَذِنَ لنبيٍّ يَتَغَنَّى بالقرآنِ يَجْهَرُ بِهِ)).) [غريب الحديث: 2/165]
قال ابن الأثير المبارك بن محمد بن محمد الجزري (ت: 606هـ): (وفي حديث ((القرآن مَن لم يَتَغَنَّ بالقرآن فليس مِنَّا)) أي لم يَسْتَغْنِ به عن غيره . يقال : تَغَنَّيْت وتغانَيْت واستغنيت . وقيل : أراد من لم يَجْهَر بالقراءة فليس مِنَّا.وقد جاء مُفَسَّرا في حديث آخر ((ما أذِنَ اللّه لشيءٍ كإذْنِه لنَبِيٍّ يَتَغَنَّى بالقرآنِ يَجْهُر به)) قيل إنَّ قوله ((يَجْهَر به)) تَفْسير لقوله ((يَتَغَنَّى به)).
وقال الشافعي : معناه تَحْسِين ( في الهروي : [ تحزين ] ) القراءة وتَرْقِيقُها ويَشْهد له الحديث الآخر ((زَيِّنُوا القرآنَ بأصْواتِكم)) وكل من رَفَع صَوْته ووالاَه فصَوْته عند العرب غِنَاء . قال ابن الأعرابي : كانت العرب تَتَغَنَّى بالرُّكْبانِيِّ ( هو نشيد بالمدّ والتمطيط) إذا رَكِبَت وإذا جَلَستْ في الأفْنِيَة . وعلى أكثر أحوالها فلما نزل القرآن أحَبَّ النبي صلى اللّه عليه وسلم أن تكون هِجِّيراهُم بالقرآن مكان التَّغَنِّي بالرُّكْبانيِّ.) [النهاية في غريب الأثر: 3/739]

قال أبو زكريا يحي بن شرف بن مري النووي (ت: 676هـ): (قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ((مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ مَا أَذِنَ لِنَبِيٍّ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ)) هُوَ بِكَسْرِ الذَّال ، قَالَ الْعُلَمَاء : مَعْنَى ( أَذِنَ ) فِي اللُّغَة الِاسْتِمَاع ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا} قَالُوا : وَلَا يَجُوز أَنْ تُحْمَل هُنَا عَلَى الِاسْتِمَاع بِمَعْنَى الْإِصْغَاء ، فَإِنَّهُ يَسْتَحِيل عَلَى اللَّه تَعَالَى بَلْ هُوَ مَجَاز ، وَمَعْنَاهُ الْكِنَايَة عَنْ تَقْرِيبه الْقَارِئ وَإِجْزَال ثَوَابه ؛ لِأَنَّ سَمَاع اللَّه تَعَالَى لَا يَخْتَلِف فَوَجَبَ تَأْوِيله .
وَقَوْله : ((يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ)) مَعْنَاهُ عِنْد الشَّافِعِيّ وَأَصْحَابه وَأَكْثَر الْعُلَمَاء مِنْ الطَّوَائِف وَأَصْحَاب الْفُنُون : يُحَسِّن صَوْته بِهِ ، وَعِنْد سُفْيَان بْن عُيَيْنَةَ يَسْتَغْنِي بِهِ . قِيلَ : يَسْتَغْنِي بِهِ عَنْ النَّاس ، وَقِيلَ : عَنْ غَيْره مِنْ الْأَحَادِيث وَالْكُتُب ، قَالَ الْقَاضِي عِيَاض : الْقَوْلَانِ مَنْقُولَانِ عَنْ اِبْن عُيَيْنَةَ ، قَالَ : يُقَال : تَغَنَّيْت وَتَغَانَيْت بِمَعْنَى اِسْتَغْنَيْت ، وَقَالَ الشَّافِعِيّ وَمُوَافِقُوهُ : مَعْنَاهُ تَحْزِين الْقِرَاءَة وَتَرْقِيَتهَا ، وَاسْتَدَلُّوا بِالْحَدِيثِ الْآخَر : ((زَيِّنُوا الْقُرْآن بِأَصْوَاتِكُمْ)) قَالَ الْهَرَوِيُّ : مَعْنَى يَتَغَنَّى بِهِ يَجْهَر بِهِ ، وَأَنْكَرَ أَبُو جَعْفَر الطَّبَرِيُّ تَفْسِير مَنْ قَالَ : يَسْتَغْنِي بِهِ ، وَخَطَّأَهُ مِنْ حَيْثُ اللُّغَة وَالْمَعْنَى ، وَالْخِلَاف جَارٍ فِي الْحَدِيث الْآخَر : ((لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ)) وَالصَّحِيح أَنَّهُ مِنْ تَحْسِين الصَّوْت ، وَيُؤَيِّدهُ الرِّوَايَة الْأُخْرَى ((يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ يَجْهَر بِهِ)).) [المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج:3/144]

قال أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية (ت: 728هـ): (كل ما يعين على طاعة الله من تفكر أو صوت أو حركة أو قوة أو مال أو أعوان أو غير ذلك فهو محمود في حال إعانته على طاعة الله ومحابه ومراضيه، ولا يستدل بذلك على أنه في نفسه محمود على الإطلاق ويحتج بذلك على أنه محمود إذا استعين به على ما هو من طاعة الله، ولا يحتج به على ما ليس هو من طاعة الله بل هو من البدع في الدين أو الفجور في الدنيا؛ ومثل هذا قوله صلى الله عليه وسلم ((لله أشد أذنا إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته)) وقال ((ما أذن الله لشئ كأذنه لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به)) بل قوله صلى الله عليه وسلم ((ليس منا من لم يتغن بالقرآن)) يقتضي أن التغني المشروع هو بالقرآن وأن من تغنى بغيره فهو مذموم ولا يقال هذا يدل على استحباب حسن التغني، وقوله ((ليس منا من لم يتغن بالقرآن)) إما أن يريد به الحض على أصل الفعل وهو نفس التغنى بالقرآن وإما أن يريد به مطلق التغنى وهو على صفة الفعل والأول هو أن يكون تغنيه إذا تغنى بالقرآن لا بغيره، وهذا كما وقع في قوله تعالى {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} [سورة المائدة:49] هل هو أمر بأصل الحكم أو بصفته إذا حكم، والمعنى الثاني ذم لمن تغنى بغيره مطلقا دون من ترك التغني به وبغيره، والمعنى الأول ذم لمن ترك التغنى به دون من تغنى به ومن تغنى بغيره) [الاستقامة:1/291-292]
قال أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية (ت: 728هـ): (وَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ((لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ)) وَقَدْ فَسَّرَهُ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُمَا بِأَنَّهُ مِنْ الصَّوْتِ فَيُحْسِنُهُ بِصَوْتِهِ وَيَتَرَنَّمُ بِهِ بِدُونِ التَّلْحِينِ الْمَكْرُوهِ وَفَسَّرَهُ ابْنُ عُيَيْنَة وَأَبُو عُبَيْدٍ وَغَيْرُهُمَا بِأَنَّهُ الِاسْتِغْنَاءُ بِهِ وَهَذَا وَإِنْ كَانَ لَهُ مَعْنًى صَحِيحٌ فَالْأَوَّلُ هُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ فَإِنَّهُ قَالَ : ((لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ )) وَفِي الْأَثَرِ : ((إنَّ الْعَبْدَ إذَا رَكِبَ الدَّابَّةَ أَتَاهُ الشَّيْطَانُ وَقَالَ لَهُ : تَغَنَّ فَإِنْ لَمْ يَتَغَنَّ . قَالَ لَهُ : تَمَنَّ)) فَإِنَّ النَّفْسَ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ شَيْءٍ فِي الْغَالِبِ تَتَرَنَّمُ بِهِ . فَمَنْ لَمْ يَتَرَنَّمْ بِالْقُرْآنِ تَرَنَّمَ بِالشِّعْرِ . وَسَمَاعُ الْقُرْآنِ هُوَ سَمَاعُ النَّبِيِّينَ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْعَارِفِينَ وَالْعَالِمِينَ). [مجموع الفتاوى/11-532]
قال أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية (ت: 728هـ): (ذكر الخلال في كتاب القرآن عن إسحاق بن إبراهيم قال: قال لي أبو عبد الله يوما - وكنت سألته عنه - : تدري ما معنى من لم يتغن بالقرآن ؟ قلت : لا . قال : هو الرجل يرفع صوته فهذا معناه إذا رفع صوته فقد تغنى به وعن منصور بن صالح أنه قال لأبيه : يرفع صوته بالقرآن بالليل؟ قال : نعم إن شاء رفعه " ثم ذكر حديث أم هانئ : ((كنت أسمع قراءة النبي صلى الله عليه وسلم وأنا على عريش من الليل)) وعن صالح بن أحمد أنه قال لأبيه : ((زينوا القرآن بأصواتكم)) فقال : "التزيين" أن تحسنه . وعن الفضل بن زياد قال سمعت أبا عبد الله يسأل عن القراءة : فقال يحسنه بصوته من غير تكلف وقال أبو بكر الأثرم سألت أبا عبد الله عن القراءة بالألحان ؟ فقال : كل شيء محدث ؛ فإنه لا يعجبني إلا أن يكون صوت الرجل لا يتكلفه) [الكيلانية:69]
قال شمس الدين ابن قيم الجوزية (ت: 751هـ): (وبقوله: ((ليس منا من لم يتغن بالقرآن)) والصحيح : أنه من التغني بمعنى تحسين الصوت وبذلك فسره الإمام أحمد رحمه الله فقال : يحسنه بصوته ما استطاع) [مدارج السالكين:1/488]
قال شمس الدين ابن قيم الجوزية (ت: 751هـ): ([اختلاف الناس في معنى التغني بالقرآن]
قلت: لا بد من كشف هذه المسألة وذكر اختلاف الناس فيها واحتجاج كل فريق وما لهم وعليهم في احتجاجهم، وذكر الصواب في ذلك بحول الله تبارك وتعالى ومعونته، فقالت: طائفة تكره قراءة الألحان وممن نص على ذلك أحمد ومالك وغيرهما فقال أحمد في رواية علي بن سعيد في قراءة الألحان ما تعجبني وهو محدث . وقال في رواية المروزي : القراءة بالألحان بدعة لا تسمع، وقال في رواية عبد الرحمن المتطبب : قراءة الألحان بدعة، وقال في رواية ابنه عبد الله ويوسف بن موسى ويعقوب بن بختان والأثرم وإبراهيم بن الحارث : القراءة بالألحان لا تعجبني إلا أن يكون ذلك حزنا فيقرأ بحزن مثل صوت أبي موسى، وقال في رواية صالح ((زينوا القرآن بأصواتكم)) معناه أن يحسنه، وقال في رواية المروزي : ((ما أذن الله لشيء كإذنه لنبي حسن الصوت أن يتغنى بالقرآن)) وفي رواية قوله ((ليس منا من لم يتغن بالقرآن)) فقال كان ابن عيينة يقول يستغني به . وقال الشافعي : يرفع صوته. وذكر له حديث معاوية بن قرة في قصة قراءة سورة فأنكر أبو عبد الله أن يكون على معنى الألحان وأنكر الأحاديث التي يحتج بها في الرخصة في الألحان. وروى ابن القاسم عن مالك أنه سئل عن الألحان في الصلاة فقال لا تعجبني وقال إنما هو غناء يتغنون به ليأخذوا عليه الدراهم.
وممن رويت عنه الكراهة أنس بن مالك وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والقاسم بن محمد والحسن وابن سيرين وإبراهيم النخعي . وقال عبد الله بن يزيد العكبري : سمعت رجلا يسأل أحمد ما تقول في القراءة بالألحان ؟ فقال ما اسمك ؟ قال محمد قال أيسرك أن يقال لك : يا موحمد ممدودا؟! قال القاضي أبو يعلى : هذه مبالغة في الكراهة . وقال الحسن بن عبد العزيز الجروي : أوصى إلي رجل بوصية وكان فيما خلف جارية تقرأ بالألحان وكانت أكثر تركته أو عامتها فسألت أحمد بن حنبل والحارث بن مسكين وأبا عبيد كيف أبيعها ؟ فقالوا : بعها ساذجة فأخبرتهم بما في بيعها من النقصان فقالوا : بعها ساذجة قال القاضي : وإنما قالوا ذلك لأن سماع ذلك منها مكروه فلا يجوز أن يعاوض عليه كالغناء.
قال ابن بطال : وقالت طائفة التغني بالقرآن هو تحسين الصوت به والترجيع بقراءته قال والتغني بما شاء من الأصوات واللحون هو قول ابن المبارك والنضر بن شميل، قال: وممن أجاز الألحان في القرآن ذكر الطبري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يقول لأبي موسى : ذكرنا ربنا فيقرأ أبو موسى ويتلاحن وقال من استطاع أن يتغنى بالقرآن غناء أبي موسى فليفعل، وكان عقبة بن عامر من أحسن الناس صوتا بالقرآن فقال له عمر : اعرض علي سورة كذا فعرض عليه فبكى عمر وقال ما كنت أظن أنها نزلت، قال: وأجازه ابن عباس وابن مسعود وروي عن عطاء بن أبي رباح قال وكان عبد الرحمن بن الأسود بن يزيد وذكر الطحاوي عن أبي حنيفة وأصحابه أنهم كانوا يستمعون القرآن بالألحان . وقال محمد بن عبد الحكم : رأيت أبي والشافعي ويوسف بن عمر يستمعون القرآن بالألحان وهذا اختيار ابن جرير الطبري . قال المجوزون - واللفظ لابن جرير - الدليل على أن معنى الحديث تحسين الصوت والغناء المعقول الذي هو تحزين القارئ سامع قراءته كما أن الغناء بالشعر هو الغناء المعقول الذي يطرب سامعه - ما روى سفيان عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ((ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الترنم بالقرآن)) ومعقول عند ذوي الحجا أن الترنم لا يكون إلا بالصوت إذا حسنه المترنم وطرب به . وروي في هذا الحديث ((ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به)) قال الطبري : وهذا الحديث من أبين البيان أن ذلك كما قلنا قال ولو كان كما قال ابن عيينة يعني : يستغني به عن غيره لم يكن لذكر حسن الصوت والجهر به معنى والمعروف في كلام العرب أن التغني إنما هو الغناء الذي هو حسن الصوت بالترجيع قال الشاعر:
تغن بالشعر إما كنت قائله = إن الغناء لهذا الشعر مضمار
قال: وأما ادعاء الزاعم أن تغنيت بمعنى استغنيت فاش في كلام العرب فلم نعلم أحدا قال به من أهل العلم بكلام العرب، وأما احتجاجه لتصحيح قوله بقول الأعشى:
وكنت امرءا زمنا بالعراق = عفيف المناخ طويل التغن
وزعم أنه أراد بقوله طويل التغني: طويل الاستغناء فإنه غلط منه وإنما عنى الأعشى بالتغني في هذا الموضع الإقامة من قول العرب : غنى فلان بمكان كذا : إذا أقام به ومنه قوله تعالى: {كأن لم يغنوا فيها} [الأعراف:92] واستشهاده بقول الآخر:
كلانا غني عن أخيه حياته = ونحن إذا متنا أشد تغانيا
فإنه إغفال منه وذلك لأن التغاني تفاعل من تغنى : إذا استغنى كل واحد منهما عن صاحبه كما يقال تضارب الرجلان إذا ضرب كل واحد منهما صاحبه وتشاتما وتقاتلا . ومن قال هذا في فعل اثنين لم يجز أن يقول مثله في فعل الواحد فيقول تغانى زيد وتضارب عمرو وذلك غير جائز أن يقول تغنى زيد بمعنى استغنى إلا أن يريد به قائله إنه أظهر الاستغناء وهو غير مستغن كما يقال تجلد فلان إذا أظهر جلدا من نفسه وهو غير جليد وتشجع وتكرم فإن وجه موجه التغني بالقرآن إلى هذا المعنى على بعده من مفهوم كلام العرب كانت المصيبة في خطئه في ذلك أعظم لأنه يوجب على من تأوله أن يكون الله تعالى ذكره لم يأذن لنبيه أن يستغني بالقرآن وإنما أذن له أن يظهر من نفسه لنفسه خلاف ما هو به من الحال وهذا لا يخفى فساده .
قال: ومما يبين فساد تأويل ابن عيينة أيضا أن الاستغناء عن الناس بالقرآن من المحال أحد به أنه يؤذن له فيه أو لا يؤذن إلا أن يكون الأذن عند ابن عيينة بمعنى الإذن الذي هو إطلاق وإباحة وإن كان كذاك فهو غلط من وجهين أحدهما: من اللغة، والثاني: من إحالة المعنى عن وجهه. أما اللغة فإن الأذن مصدر قوله أذن فلان لكلام فلان فهو يأذن له إذا استمع له وأنصت كما قال تعالى: {وأذنت لربها وحقت} [الانشقاق:2] بمعنى سمعت لربها وحق لها ذلك، كما قال عدي بن زيد : إن همي في سماع وأذن بمعنى في سماع واستماع . فمعنى قوله ((ما أذن الله لشيء)) إنما هو ما استمع الله لشيء من كلام الناس ما استمع لنبي يتغنى بالقرآن . وأما الإحالة في المعنى فلأن الاستغناء بالقرآن عن الناس غير جائز وصفه بأنه مسموع ومأذون له انتهى كلام الطبري.
قال أبو الحسن بن بطال : وقد وقع الإشكال في هذه المسألة أيضا بما رواه ابن أبي شيبة حدثنا زيد بن الحباب قال حدثني موسى بن علي بن رباح عن أبيه عن عقبة بن عامر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((تعلموا القرآن وتغنوا به واكتبوه فوالذي نفسي بيده لهو أشد تفصيا من المخاض من العقل)) قال وذكر عمر بن شبة قال ذكر لأبي عاصم النبيل تأويل ابن عيينة في قوله يتغنى بالقرآن يستغني به فقال لم يصنع ابن عيينة شيئا، حدثنا ابن جريج عن عطاء عن عبيد بن عمير قال كانت لداود نبي الله صلى الله عليه وسلم معزفة يتغنى عليها يبكي ويبكي. وقال ابن عباس : إنه كان يقرأ الزبور بسبعين لحنا تكون فيهن ويقرأ قراءة يطرب منها الجموع . وسئل الشافعي رحمه الله عن تأويل ابن عيينة فقال نحن أعلم بهذا لو أراد به الاستغناء لقال "من لم يستغن بالقرآن " ولكن لما قال يتغنى بالقرآن علمنا أنه أراد به التغني . قالوا : ولأن تزيينه وتحسين الصوت به والتطريب بقراءته أوقع في النفوس وأدعى إلى الاستماع والإصغاء إليه ففيه تنفيذ للفظه إلى الأسماع ومعانيه إلى القلوب وذلك عون على المقصود وهو بمنزلة الحلاوة التي تجعل في الدواء لتنفذه إلى موضع الداء وبمنزلة الأفاويه والطيب الذي يجعل في الطعام لتكون الطبيعة أدعى له قبولا وبمنزلة الطيب والتحلي وتجمل المرأة لبعلها ليكون أدعى إلى مقاصد النكاح . قالوا : ولا بد للنفس من طرب واشتياق إلى الغناء فعوضت عن طرب الغناء بطرب القرآن كما عوضت عن كل محرم ومكروه بما هو خير لها منه وكما عوضت عن الاستقسام بالأزلام بالاستخارة التي هي محض التوحيد والتوكل وعن السفاح بالنكاح وعن القمار بالمراهنة بالنصال وسباق الخيل وعن السماع الشيطاني بالسماع الرحماني القرآني ونظائره كثيرة جدا . قالوا : والمحرم لا بد أن يشتمل على مفسدة راجحة أو خالصة وقراءة التطريب والألحان لا تتضمن شيئا من ذلك فإنها لا تخرج الكلام عن وضعه ولا تحول بين السامع وبين فهمه ولو كانت متضمنة لزيادة الحروف كما ظن المانع منها لأخرجت الكلمة عن موضعها وحالت بين السامع وبين فهمها ولم يدر ما معناها والواقع بخلاف ذلك . قالوا : وهذا التطريب والتلحين أمر راجع إلى كيفية الأداء وتارة يكون سليقة وطبيعة وتارة يكون تكلفا وتعملا وكيفيات الأداء لا تخرج الكلام عن وضع مفرداته بل هي صفات لصوت المؤدي جارية مجرى ترقيقه وتفخيمه الطويلة والمتوسطة لكن تلك الكيفيات متعلقة بالحروف وكيفيات الألحان والتطريب متعلقة بالأصوات والآثار في هذه الكيفيات لا يمكن نقلها بخلاف كيفيات أداء الحروف فلهذا نقلت تلك بألفاظها ولم يمكن نقل هذه بألفاظها بل نقل منها ما أمكن نقله كترجيع النبي صلى الله عليه وسلم في سورة الفتح بقوله " آ آ آ " . قالوا : والتطريب والتلحين راجع إلى أمرين مد وترجيع وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يمد صوته بالقراءة يمد " الرحمن " ويمد " الرحيم " وثبت عنه الترجيع كما تقدم .
قال المانعون من ذلك الحجة لنا من وجوه . أحدها: ما رواه حذيفة بن اليمان عن النبي صلى الله عليه وسلم ((اقرءوا القرآن بلحون العرب وأصواتها وإياكم ولحون أهل الكتاب والفسق فإنه سيجيء من بعدي أقوام يرجعون بالقرآن ترجيع الغناء والنوح لا يجاوز حناجرهم مفتونة قلوبهم وقلوب الذين يعجبهم)) شأنهم رواه أبو الحسن رزين في " تجريد الصحاح " ورواه أبو عبد الله الحكيم الترمذي في " نوادر الأصول " . واحتج به القاضي أبو يعلى في " الجامع " واحتج معه بحديث آخر أنه صلى الله عليه وسلم ذكر شرائط الساعة وذكر أشياء منها : أن يتخذ القرآن مزامير يقدمون أحدهم ليس بأقرئهم ولا أفضلهم ما يقدمونه إلا ليغنيهم غناء قالوا : وقد جاء زياد النهدي إلى أنس رضي الله عنه مع القراء فقيل له اقرأ فرفع صوته وطرب وكان رفيع الصوت فكشف أنس عن وجهه وكان على وجهه خرقة سوداء وقال يا هذا ما هكذا كانوا يفعلون وكان إذا رأى شيئا ينكره رفع الخرقة عن وجهه قالوا : وقد منع النبي صلى الله عليه وسلم المؤذن المطرب في أذانه من التطريب، كما روى ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذن يطرب فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن الأذان سهل سمح فإن كان أذانك سهلا سمحا وإلا فلا تؤذن رواه الدارقطني . وروى عبد الغني بن سعيد الحافظ من حديث قتادة عن عبد الرحمن بن أبي بكر عن أبيه قال كانت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم المد ليس فيها ترجيع . قالوا : والترجيع والتطريب يتضمن همز ما ليس بمهموز ومد ما ليس بممدود وترجيع الألف الواحد ألفات والواو واوات والياء ياءات فيؤدي ذلك إلى زيادة في القرآن وذلك غير جائز قالوا : ولا حد لما يجوز من ذلك وما لا يجوز منه فإن حد بحد معين كان تحكما في كتاب الله تعالى ودينه وإن لم يحد بحد أفضى إلى أن يطلق لفاعله ترديد الأصوات وكثرة الترجيعات والتنويع في أصناف الإيقاعات والألحان المشبهة للغناء كما يفعل أهل الغناء بالأبيات وكما يفعله كثير من القراء أمام الجنائز ويفعله كثير من قراء الأصوات مما يتضمن تغيير كتاب الله والغناء به على نحو ألحان الشعر والغناء ويوقعون الإيقاعات عليه مثل الغناء سواء اجتراء على الله وكتابه وتلاعبا بالقرآن وركونا إلى تزيين الشيطان ولا يجيز ذلك أحد من علماء الإسلام ومعلوم أن التطريب والتلحين ذريعة مفضية إلى هذا إفضاء قريبا فالمنع منه كالمنع من الذرائع الموصلة إلى الحرام فهذا الطائفتين .
وفصل النزاع أن يقال التطريب والتغني على وجهين:
أحدهما : ما اقتضته الطبيعة وسمحت به من غير تكلف ولا تمرين ولا تعليم بل إذا خلي وطبعه واسترسلت طبيعته جاءت بذلك التطريب والتلحين، فذلك جائز وإن أعان طبيعته بفضل تزيين وتحسين، كما قال أبو موسى الأشعري للنبي صلى الله عليه وسلم لو علمت أنك تسمع لحبرته لك تحبيرا، والحزين ومن هاجه الطرب والحب والشوق لا يملك من نفسه دفع التحزين والتطريب في القراءة ولكن النفوس تقبله وتستحليه لموافقته الطبع وعدم التكلف والتصنع فيه فهو مطبوع لا متطبع وكلف لا متكلف فهذا هو الذي كان السلف يفعلونه ويستمعونه وهو التغني الممدوح المحمود وهو الذي يتأثر به التالي والسامع وعلى هذا الوجه تحمل أدلة أرباب هذا القول كلها.
الوجه الثاني: ما كان من ذلك صناعة من الصنائع وليس في الطبع السماحة به بل لا يحصل إلا بتكلف وتصنع وتمرن كما يتعلم أصوات الغناء بأنواع الألحان البسيطة والمركبة على إيقاعات مخصوصة وأوزان مخترعة لا تحصل إلا بالتعلم والتكلف، فهذه هي التي كرهها السلف وعابوها وذموها ومنعوا القراءة بها وأنكروا على من قرأ بها، وأدلة أرباب هذا القول إنما تتناول هذا الوجه وبهذا التفصيل يزول الاشتباه ويتبين الصواب من غيره وكل من له علم بأحوال السلف يعلم قطعا أنهم برآء من القراءة بألحان الموسيقى المتكلفة التي هي إيقاعات وحركات موزونة معدودة محدودة، وأنهم أتقى لله من أن يقرءوا بها ويسوغوها ويعلم قطعا أنهم كانوا يقرءون بالتحزين والتطريب ويحسنون أصواتهم بالقرآن ويقرءونه بشجى تارة وبطرب تارة وبشوق تارة وهذا أمر مركوز في الطباع تقاضيه ولم ينه عنه الشارع مع شدة تقاضي الطباع له بل أرشد إليه وندب إليه وأخبر عن استماع الله لمن قرأ به وقال ليس منا من لم يتغن بالقرآن وفيه وجهان أحدهما : أنه إخبار بالواقع الذي كلنا نفعله). [زاد المعاد في هدي خير العباد:1/467-475]

قال أبو المحاسن يوسف بن موسى المَلْطي الحنفي (ت:803هـ): (في التغني بالقرآن روى مرفوعا ((ما يأذن الله لشيء ما يأذن الله لنبي يتغنى بالقرآن)) الأذن هنا الاستماع منه {وأذنت لربها وحقت} أي ما يستمع لشيء ما يستمع لنبي يتغنى بالقرآن من تحسينه به صوتا طلبا لرقة قلبه لما يرجو فيه من ثواب ربه إياه عليه وروي مرفوعا ((ليس منا من لم يتغن بالقرآن)) قيل أريد به الاستغناء عن الأشياء كلها فكل الصيد في جوف الفرى ولا يتوجه إلى عاجل خيره في الدنيا، وقيل أريد به تحسين الصوت ليرق قلبه فقيل لابن أبي مليكة من لم يكن له خلق حسن قال يحسنه ما استطاع والحمل على الاستغناء أولى لأنه سيق لذم تاركه ومن قرأ القرآن بغير تحسين صوته مريدا بقراءته وجه الله متدبرا فيه فهو مثاب غير مذموم اتفاقا) [المعتصر من المختصر من مشكل الآثار:2/143]
قال أبو الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت: 852هـ):(قوله ((يتغنى بالقرآن)) قال ابن عيينة: يستغنى به؛ يقال: تغانيت وتغنيت، أي: استغنيت. وفي رواية ((يجهر به)) وكل رفع صوت عند العرب يقال له غناء.
وقيل المراد تحزين القراءة وترجيعها، وقيل معناه يجعله هجيراه وتسلية نفسه وذكر لسانه في كل حالة كما كانوا يفعلون بالشعر والرجز والغني بالكسر والقصر ضد الفقر وبالفتح والمد الكفاية قوله ربطها تغيبا أي استغناء) [فتح الباري شرح صحيح البخاري:1/164]
قال أبو الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت: 852هـ): (قوله "باب من لم يتغن بالقرآن" هذه الترجمة لفظ حديث أورده المصنف في الأحكام من طريق بن جريج عن بن شهاب بسند حديث الباب بلفظ ((من لم يتغن بالقرآن فليس منا)) وهو في السنن من حديث سعد بن أبي وقاص وغيره قوله وقوله تعالى {أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم} أشار بهذه الآية إلى ترجيح تفسير ابن عيينة يتغنى يستغني كما سيأتي في هذا الباب عنه، وأخرجه أبو داود عن بن عيينة ووكيع جميعا وقد بين إسحاق بن راهويه عن ابن عيينة أنه استغناء خاص، وكذا قال أحمد عن وكيع يستغني به عن أخبار الأمم الماضية، وقد أخرج الطبري وغيره من طريق عمرو بن دينار عن يحيى بن جعدة قال: جاء ناس من المسلمين بكتب وقد كتبوا فيها بعض ما سمعوه من اليهود فقال النبي صلى الله عليه و سلم ((كفى بقوم ضلالة أن يرغبوا عما جاء به نبيهم إليهم إلى ما جاء به غيره إلى غيرهم)) فنزل {أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم} وقد خفي وجه مناسبة تلاوة هذه الآية هنا على كثير من الناس كابن كثير فنفى أن يكون لذكرها وجه على أن بن بطال مع تقدمه قد أشار إلى المناسبة فقال قال أهل التأويل في هذه الآية فذكر أثر يحيى بن جعدة مختصرا قال: فالمراد بالآية الاستغناء عن أخبار الأمم الماضية، وليس المراد الاستغناء الذي هو ضد الفقر. قال: واتباع البخاري الترجمة بالآية يدل على أنه يذهب إلى ذلك، وقال ابن التين: يفهم من الترجمة أن المراد بالتغني الاستغناء لكونه أتبعه الآية التي تضمن لإنكار على من لم يستغن بالقرآن عن غيره فحمله على الاكتفاء به وعدم الافتقار إلى غيره وحمله على ضد الفقر من جملة ذلك ...
وقد ارتضى أبو عبيد تفسير يتغنى يستغني وقال إنه جائز في كلام العرب وأنشد الأعشى:
وكنت أمرءا زمنا بالعراق = خفيف المناخ طويل التغني
أي كثير الاستغناء؛ وقال المغيرة بن حبناء:
كلانا غنى عن أخيه حياته = ونحن إذا متنا أشد تغانيا
قال فعلى هذا يكون المعنى من لم يستغن بالقرآن عن الإكثار من الدنيا فليس منا أي على طريقتنا، واحتج أبو عبيد أيضا بقول ابن مسعود (من قرأ سورة آل عمران فهو غنى) ونحو ذلك وقال ابن الجوزي: اختلفوا في معنى قوله يتغنى على أربعة أقوال:
- أحدها تحسين الصوت
- والثاني الاستغناء
- والثالث التحزن قاله الشافعي
- والرابع التشاغل به تقول العرب تغني بالمكان أقام به.
قلت: وفيه قول آخر حكاه ابن الأنباري في الزاهر قال المراد به التلذذ الاستحلاء له كما يستلذ أهل الطرب بالغناء فأطلق عليه تغنيا من حيث أنه يفعل عنده ما يفعل عند الغناء وهو كقول النابغة:
بكاء حمامة تدعو هديلا = مفجعة على فنن تغني
أطلق على صوتها غناء لأنه يطرب كما يطرب الغناء وإن لم يكن غناء حقيقة، وهو كقولهم (العمائم تيجان العرب) لكونها تقوم مقام التيجان.
وفيه قول آخر حسن وهو أن يجعله هجيراه كما يجعل المسافر والفارغ هجيراه الغناء، قال ابن الأعرابي كانت العرب إذا ركبت الإبل تتغنى وإذا جلست في أفنيتها وفي أكثر أحوالها فلما نزل القرآن أحب النبي صلى الله عليه و سلم أن يكون هجيراهم القراءة مكان التغني، ويؤيد القول الرابع بيت الأعشى المتقدم فإنه أراد بقوله [طويل التغني] طول الإقامة لا الاستغناء لأنه أليق بوصف الطول من الاستغناء يعني أنه كان ملازما لوطنه بين أهله كانوا يتمدحون بذلك، كما قال حسان:
أولاد جفنة حول قبر أبيهم = قبر بن مارية الكريم المفضل
أراد أنهم لا يحتاجون إلى الانتجاع ولا يبرحون من أوطانهم فيكون معنى الحديث الحث على ملازمة القرآن وأن لا يتعدى إلى غيره، وهو يئول من حيث المعنى إلى ما اختاره البخاري من تخصيص الاستغناء وأنه يستغني به عن غيره من الكتب.
وقيل المراد من لم يغنه القرآن وينفعه في إيمانه ويصدق بما فيه من وعد ووعيد وقيل معناه من لم يرتح لقراءته وسماعه وليس المراد ما اختاره أبو عبيد أنه يحصل به الغنى دون الفقر لكن الذي اختاره أبو عبيد غير مدفوع إذا أريد به الغنى المعنوي وهو غنى النفس وهو القناعة لا الغنى المحسوس الذي هو ضد الفقر، لأن ذلك لا يحصل بمجرد ملازمة القراءة إلا إن كان ذلك بالخاصية وسياق الحديث يأبى الحمل على ذلك فإن فيه إشارة إلى الحث على تكلف ذلك وفي توجيهه تكلف، كأنه قال ليس منا من لم يتطلب الغني بملازمة تلاوته وأما الذي نقله عن الشافعي فلم أره صريحا عنه ي تفسير الخبر وإنما قال في مختصر المزني: وأحب أن يقرأ حدرا وتحزينا انتهى.
قال أهل اللغة حدرت القراءة أدرجتها ولم أمططها وقرأ فلان تحزينا إذا رقق صوته وصيره كصوت الحزين وقد روى بن أبي داود بإسناد حسن عن أبي هريرة أنه قرأ سورة فحزنها شبه الرثي، وأخرجه أبو عوانة عن الليث بن سعد قال: يتغنى به يتحزن به ويرقق به قلبه. وذكر الطبري عن الشافعي أنه سئل عن تأويل ابن عيينة التغني بالاستغناء فلم يرتضه، وقال: لو أراد الاستغناء لقال لم يستغن وإنما أراد تحسين الصوت.
قال ابن بطال: وبذلك فسره بن أبي مليكة وعبد الله بن المبارك والنضر بن شميل ويؤيده رواية عبد الأعلى عن معمر عن بن شهاب في حديث الباب بلفظ ((ما أذن لنبي في الترنم في القرآن)) أخرجه الطبري وعنده في رواية عبد الرزاق عن معمر ((ما أذن لنبي حسن الصوت)) وهذا اللفظ عند مسلم من رواية محمد بن إبراهيم التيمي عن أبي سلمة وعند بن أبي داود والطحاوي من رواية عمرو بن دينار عن أبي سلمة عن أبي هريرة ((حسن الترنم بالقرآن)) قال الطبري والترنم لا يكون إلا بالصوت إذا حسنه القاريء وطرب به، قال ولو كان معناه الاستغناء لما كان لذكر الصوت ولا لذكر الجهر معنى، وأخرج ابن ماجة والكجي وصححه ابن حبان والحاكم من حديث فضالة بن عبيد مرفوعا ((الله أشد أذنا أي استماعا للرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته)) والقينة المغنية وروى بن أبي شيبة من حديث عقبة بن عامر رفعه ((تعلموا القرآن وغنوا به وأفشوه)) كذا وقع عنده والمشهور عند غيره في الحديث وتغنوا به والمعروف في كلام العرب أن التغني الترجيع بالصوت كما قال حسان:
تغن بالشعر إما أنت قائله = إن الغناء بهذا الشعر مضمار
قال: ولا نعلم في كلام العرب تغنى بمعنى استغنى ولا في أشعارهم وبيت الأعشى لا حجة فيه لأنه أراد طول الإقامة ومنه قوله تعالى {كأن لم يغنوا فيها} وقال بيت المغيرة أيضا لا حجة فيه لأن التغاني تفاعل بين اثنين وليس هو بمعنى تغني قال وإنما يأتي تغني من الغنى الذي هو ضد الفقر بمعنى تفعل أي يظهر خلاف ما عنده وهذا فاسد المعنى، قلت: ويمكن أن يكون بمعنى تكلفه أي تطلبه وحمل نفسه عليه ولو شق عليه كما تقدم قريبا ويؤيده حديث ((فإن لم تبكوا فتباكوا)) وهو في حديث سعد بن أبي وقاص عند أبي عوانة وأما إنكاره أن يكون تغنى بمعنى استغنى في كلام العرب فمردود ومن حفظ حجة على من لم يحفظ وقد تقدم في الجهاد في حديث الخيل ورجل ربطها تعففا وتغنيا وهذا من الاستغناء بلا ريب، والمراد به يطلب الغني بها عن الناس بقرينة قوله تعففا وممن أنكر تفسير يتغنى بيستغني أيضا الإسماعيلي فقال الاستغناء به لا يحتاج إلى استماع لآن الاستماع أمر خاص زائد على الاكتفاء به وأيضا فالاكتفاء به عن غيره أمر واجب على الجميع ومن لم يفعل ذلك خرج عن الطاعة ثم ساق من وجه آخر عن ابن عيينة قال: يقولون إذا رفع صوته فقد تغنى قلت الذي نقل عنه أنه بمعنى يستغني أتقن لحديثه، وقد نقل أبو داود عنه مثله ويمكن الجمع بينهما بأن تفسير يستغني من جهته ويرفع عن غيره وقال عمر بن شبة ذكرت لأبي عاصم النبيل تفسير ابن عيينة فقال لم يصنع شيئا، حدثني ابن جريج عن عطاء عن عبيد بن عمير قال كان داود عليه السلام يتغنى يعني حين يقرأ ويبكي ويبكي، وعن ابن عباس أن داود كان يقرأ الزبور بسبعين لحنا ويقرأ قراءة يطرب منها المحموم وكان إذا أراد أن يبكي نفسه لم تبق دابة في بر ولا بحر إلا أنصتت له واستمعت وبكت وسيأتي حديث أن أبا موسى أعطي مزمارا من مزامير داود في باب حسن الصوت بالقراءة، وفي الجملة ما فسر به ابن عيينة ليس بمدفوع وإن كانت ظواهر الأخبار ترجح أن المراد تحسين الصوت ويؤيده قوله يجهر به فإنها إن كانت مرفوعة قامت الحجة وإن كانت غير مرفوعة فالراوي أعرف بمعنى الخبر من غيره ولا سيما إذا كان فقها، وقد جزم الحليمي بأنها من قول أبي هريرة والعرب تقول سمعت فلانا يتغنى بكذا أي يجهر به، وقال أبو عاصم أخذ بيدي ابن جريج فأوقفني على أشعب فقال غن بن أخي ما بلغ من طمعك، فذكر قصة فقوله غن أي أخبرني جهرا صريحا، ومنه قول ذي الرمة
أحب المكان القفر من أجل أنني = به أتغنى باسمها غير معجم
أي أجهر ولا أكنى، والحاصل أنه يمكن الجمع بين أكثر التأويلات المذكورة وهو أنه يحسن به صوته جاهرا به مترنما على طريق التحزن مستغنيا به عن غيره من الأخبار طالبا به غنى النفس راجيا به غنى اليد، وقد نظمت ذلك في بيتين:
تغن بالقرآن حسن به الصوت = حزينا جاهرا رنم
واستغن عن كتب الألي طالبا = غنى يد والنفس ثم الزم
من هنا ينقل إلى حسن الصوت بالقرآن؟
وسيأتي ما يتعلق بحسن الصوت بالقرآن في ترجمة مفردة، ولا شك أن النفوس تميل إلى سماع القراءة بالترنم أكثر من ميلها لمن لا يترنم، لأن للتطريب تأثيرا في رقة القلب وإجراء الدمع، وكان بين السلف اختلاف في جواز القرآن بالألحان، أما تحسين الصوت وتقديم حسن الصوت على غيره فلا نزاع في ذلك،
من هنا ينقل إلى النهي عن القراءة بالألحان مع نسخ من السطر الفائت (وكان بين السلف اختلاف..)؟
فحكى عبد الوهاب المالكي عن مالك تحريم القراءة بالألحان، وحكاه أبو الطيب الطبري والماوردي وابن حمدان الحنبلي عن جماعة من أهل العلم، وحكى ابن بطال وعياض والقرطبي من المالكية والماوردي والبندنيجي والغزالي من الشافعية وصاحب الذخيرة من الحنفية الكراهة، واختاره أبو يعلى وابن عقيل من الحنابلة.
وحكى ابن بطال عن جماعة من الصحابة والتابعين الجواز وهو المنصوص للشافعي، ونقله الطحاوي عن الحنفية وقال الفوراني من الشافعية في الإباحة يجوز بل يستحب، ومحل هذا الاختلاف إذا لم يختل شيء من الحروف عن مخرجه فلو تغير قال النووي في التبيان أجمعوا على تحريمه ولفظه: "أجمع العلماء على استحباب تحسين الصوت بالقرآن ما لم يخرج عن حد القراءة بالتمطيط فإن خرج حتى زاد حرفا أو أخفاه حرم" قال: "وأما القراءة بالألحان فقد نص الشافعي في موضع على كراهته وقال في موضع آخر لا بأس به، فقال أصحابه ليس على اختلاف قولين بل على اختلاف حالين، فإن لم يخرج بالألحان على المنهج القويم جاز والا حرم".
وحكى الماوردي عن الشافعي أن القراءة بالألحان إذا انتهت إلى إخراج بعض الألفاظ عن مخارجها حرم، وكذا حكى بن حمدان الحنبلي في الرعاية وقال الغزالي والبندنيجي وصاحب الذخيرة من الحنفية إن لم يفرط في التمطيط الذي يشوش النظم استحب وإلا فلا وأغرب الرافعي فحكى عن أمالي السرخسي أنه لا يضر التمطيط مطلقا وحكاه ابن حمدان رواية عن الحنابلة وهذا شذوذ لا يعرج عليه، والذي يتحصل من الأدلة أن حسن الصوت بالقرآن مطلوب فإن لم يكن حسنا فليحسنه ما استطاع،كما قال بن أبي مليكة أحد رواة الحديث وقد أخرج ذلك عنه أبو داود بإسناد صحيح ومن جملة تحسينه أن يراعى فيه قوانين النغم فإن الحسن الصوت يزداد حسنا بذلك وإن خرج عنها أثر ذلك في حسنه وغير الحسن ربما انجبر بمراعاتها ما لم يخرج عن شرط الأداء المعتبر عند أهل القراءات فإن خرج عنها لم يف تحسين الصوت بقبح الأداء ولعل هذا مستند من كره القراءة بالأنغام لأن الغالب على من راعى الأنغام أن لا يراعى الأداء فإن وجد من يراعيهما معا فلا شك في أنه أرجح من غيره لأنه يأتي بالمطلوب من تحسين الصوت ويجتنب الممنوع من حرمة الأداء والله أعلم). [فتح الباري شرح صحيح البخاري:9/69-72]

رد مع اقتباس