عرض مشاركة واحدة
  #10  
قديم 17 جمادى الآخرة 1435هـ/17-04-2014م, 08:12 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن الثامن الهجري

تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آَمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آَمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله: {وإذ أوحيت إلى الحواريّين أن آمنوا بي وبرسولي} وهذا أيضًا من الامتنان عليه، عليه السّلام، بأن جعل له أصحابًا وأنصارًا. ثمّ قيل: المراد بهذا الوحي وحي إلهامٍ، كما قال: {وأوحينا إلى أمّ موسى أن أرضعيه} الآية [القصص:7]، وهذا وحي إلهامٍ بلا خوفٍ، وكما قال تعالى: {وأوحى ربّك إلى النّحل أن اتّخذي من الجبال بيوتًا ومن الشّجر وممّا يعرشون. ثمّ كلي من كلّ الثّمرات فاسلكي سبل ربّك ذللا} الآية [النّحل:68، 69]. وهكذا قال بعض السّلف في هذه الآية: {وإذ أوحيت إلى الحواريّين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنّا} [أي: باللّه وبرسول اللّه] {واشهد بأنّنا مسلمون} أي: ألهموا ذلك فامتثلوا ما ألهموا.
قال الحسن البصريّ: ألهمهم اللّه. عزّ وجلّ ذلك، وقال السّدّي: قذف في قلوبهم ذلك.
ويحتمل أن يكون المراد: وإذ أوحيت إليهم بواسطتك، فدعوتهم إلى الإيمان باللّه وبرسوله، واستجابوا لك وانقادوا وتابعوك، فقالوا: {آمنّا واشهد بأنّنا مسلمون} ). [تفسير القرآن العظيم: 3/224]

تفسير قوله تعالى: {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({إذ قال الحواريّون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربّك أن ينزل علينا مائدةً من السّماء قال اتّقوا اللّه إن كنتم مؤمنين (112) قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئنّ قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشّاهدين (113) قال عيسى ابن مريم اللّهمّ ربّنا أنزل علينا مائدةً من السّماء تكون لنا عيدًا لأوّلنا وآخرنا وآيةً منك وارزقنا وأنت خير الرّازقين (114) قال اللّه إنّي منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإنّي أعذّبه عذابًا لا أعذّبه أحدًا من العالمين (115)}
هذه قصّة المائدة، وإليها تنسب السّورة فيقال: "سورة المائدة". وهي ممّا امتنّ اللّه به على عبده ورسوله عيسى، عليه السّلام، لمّا أجاب دعاءه بنزولها، فأنزلها اللّه آيةً ودلالةً معجزةً باهرةً وحجّةً قاطعةً.
وقد ذكر بعض الأئمّة أنّ قصّة المائدة ليست مذكورةً في الإنجيل، ولا يعرفها النّصارى إلّا من المسلمين، فاللّه أعلم.
فقوله تعالى: {إذ قال الحواريّون} وهم أتباع عيسى عليه السّلام: {يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربّك} هذه قراءة كثيرين، وقرأ آخرون: "هل تستطيع ربّك" أي: هل تستطيع أن تسأل ربّك {أن ينزل علينا مائدةً من السّماء}.
والمائدة هي: الخوان عليه طعامٌ. وذكر بعضهم أنّهم إنّما سألوا ذلك لحاجتهم وفقرهم فسألوا أن ينزل عليهم مائدةٌ كلّ يومٍ يقتاتون منها، ويتقوّون بها على العبادة.
قال: {اتّقوا اللّه إن كنتم مؤمنين} أي: فأجابهم المسيح، عليه السّلام، قائلًا لهم: اتّقوا اللّه، ولا تسألوا هذا، فعساه أن يكون فتنةً لكم، وتوكّلوا على اللّه في طلب الرّزق إن كنتم مؤمنين). [تفسير القرآن العظيم: 3/225]

تفسير قوله تعالى: {قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {قالوا نريد أن نأكل منها} أي: نحن محتاجون إلى الأكل منها {وتطمئنّ قلوبنا} إذا شاهدنا نزولها رزقًا لنا من السّماء {ونعلم أن قد صدقتنا} أي: ونزداد إيمانًا بك وعلمًا برسالتك، {ونكون عليها من الشّاهدين} أي: ونشهد أنّها آيةٌ من عند اللّه، ودلالةٌ وحجّةٌ على نبوّتك وصدق ما جئت به). [تفسير القرآن العظيم: 3/225]

تفسير قوله تعالى: {قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآَخِرِنَا وَآَيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ (114) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {قال عيسى ابن مريم اللّهمّ ربّنا أنزل علينا مائدةً من السّماء تكون لنا عيدًا لأوّلنا وآخرنا} قال السّدّي: أي نتّخذ ذلك اليوم الّذي نزلت فيه عيدًا نعظّمه نحن ومن بعدنا، وقال سفيان الثّوريّ: يعني يومًا نصلّي فيه، وقال قتادة: أرادوا أن يكون لعقبهم من بعدهم، وعن سلمان الفارسيّ: عظةً لنا ولمن بعدنا. وقيل: كافيةً لأوّلنا وآخرنا.
{وآيةً منك} أي: دليلًا تنصبه على قدرتك على الأشياء، وعلى إجابتك دعوتي، فيصدّقوني فيما أبلّغه عنك {وارزقنا} أي: من عندك رزقًا هنيئًا بلا كلفةٍ ولا تعبٍ {وأنت خير الرّازقين}). [تفسير القرآن العظيم: 3/225]

تفسير قوله تعالى: {قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {قال اللّه إنّي منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم} أي: فمن كذّب بها من أمّتك يا عيسى وعاندها {فإنّي أعذّبه عذابًا لا أعذّبه أحدًا من العالمين} أي: من عالمي زمانكم، كقوله: {ويوم تقوم السّاعة أدخلوا آل فرعون أشدّ العذاب} [غافرٍ:46]، وكقوله: {إنّ المنافقين في الدّرك الأسفل من النّار} [النساء:145].
وقد روى ابن جريرٍ، من طريق عوف الأعرابيّ، عن أبي المغيرة القوّاس، عن عبد اللّه بن عمرٍو قال: إنّ أشدّ النّاس عذابًا يوم القيامة ثلاثةٌ: المنافقون، ومن كفر من أصحاب المائدة، وآل فرعون.
ذكر أخبارٍ رويت عن السّلف في نزول المائدة على الحواريّين:
قال أبو جعفر بن جريرٍ حدّثنا القاسم، حدّثنا الحسين، حدّثني حجّاجٌ، عن ليث، عن عقيلٍ، عن ابن عبّاسٍ: أنّه كان يحدّث عن عيسى ابن مريم أنّه قال لبني إسرائيل: هل لكم أن تصوموا للّه ثلاثين يومًا، ثمّ تسألوه فيعطيكم ما سألتم؟ فإنّ أجر العامل على من عمل له. ففعلوا، ثمّ قالوا: يا معلّم الخير، قلت لنا: إنّ أجر العامل على من عمل له وأمرتنا أن نصوم ثلاثين يومًا، ففعلنا، ولم نكن نعمل لأحدٍ ثلاثين يومًا إلّا أطعمنا حين نفرغ طعامًا، فهل يستطيع ربّك أن ينزّل علينا مائدةً من السّماء؟ قال عيسى: {اتّقوا اللّه إن كنتم مؤمنين. قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئنّ قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشّاهدين. قال عيسى ابن مريم اللّهمّ ربّنا أنزل علينا مائدةً من السّماء تكون لنا عيدًا لأوّلنا وآخرنا وآيةً منك وارزقنا وأنت خير الرّازقين. قال اللّه إنّي منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإنّي أعذّبه عذابًا لا أعذّبه أحدًا من العالمين} قال: فأقبلت الملائكة تطير بمائدةٍ من السّماء، عليها سبعة أحواتٍ وسبعة أرغفةٍ، حتّى وضعتها بين أيديهم، فأكل منها آخر النّاس كما أكل منها أوّلهم.
كذا رواه ابن جريرٍ ورواه ابن أبي حاتمٍ، عن يونس بن عبد الأعلى، عن ابن وهبٍ، عن اللّيث، عن عقيل، عن ابن شهاب، قال: كان ابن عبّاسٍ يحدّث، فذكر نحوه.
وقال ابن أبي حاتمٍ أيضًا: حدّثنا سعد بن عبد اللّه بن عبد الحكم، حدّثنا أبو زرعة وهب اللّه بن راشدٍ، حدّثنا عقيل بن خالدٍ، أنّ ابن شهابٍ أخبره عن ابن عبّاسٍ؛ أنّ عيسى ابن مريم قالوا له: ادع اللّه أن ينزّل علينا مائدةً من السّماء، قال: فنزلت الملائكة بمائدةٍ يحملونها، عليها سبعة أحواتٍ، وسبعة أرغفةٍ، فأكل منها آخر النّاس كما أكل منها أوّلهم.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا الحسن بن قزعة الباهليّ، حدّثنا سفيان بن حبيبٍ، حدّثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن خلاس، عن عمّار بن ياسرٍ، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "نزلت المائدة من السّماء، عليها خبزٌ ولحمٌ، وأمروا أن لا يخونوا ولا يرفعوا لغدٍ، فخانوا وادّخروا ورفعوا، فمسخوا قردةً وخنازير"
وكذا رواه ابن جريرٍ، عن الحسن بن قزعة ثمّ رواه ابن جريرٍ، عن ابن بشّارٍ، عن ابن أبي عديّ، عن سعيدٍ، عن قتادة، عن خلاسٍ، عن عمّارٍ، قال: نزلت المائدة وعليها ثمرٌ من ثمار الجنّة، فأمروا ألّا يخونوا ولا يخبّئوا ولا يدّخروا. قال: فخان القوم وخبئوا وادّخروا، فمسخهم اللّه قردةً وخنازير.
وقال ابن جريرٍ: حدّثنا ابن المثنّى، حدّثنا عبد الأعلى، حدّثنا داود، عن سماك بن حربٍ، عن رجلٍ من بني عجلٍ، قال: صلّيت إلى جنب عمّار بن ياسرٍ، فلمّا فرغ قال: هل تدري كيف كان شأن مائدة بني إسرائيل؟ قال: قلت: لا قال: إنّهم سألوا عيسى ابن مريم مائدةً يكون عليها طعامٌ يأكلون منه لا ينفد، قال: فقيل لهم: فإنّها مقيمةٌ لكم ما لم تخبؤوا، أو تخونوا، أو ترفعوا، فإن فعلتم فإنّي معذّبكم عذابًا لا أعذّبه أحدًا من العالمين، قال: فما مضى يومهم حتّى خبّؤوا ورفعوا وخانوا، فعذّبوا عذابًا لم يعذّبه أحدٌ من العالمين. وإنّكم -معشر العرب-كنتم تتّبعون أذناب الإبل والشّاء، فبعث اللّه فيكم رسولًا من أنفسكم، تعرفون حسبه ونسبه، وأخبركم أنّكم ستظهرون على العجم، ونهاكم أن تكتنزوا الذّهب والفضّة. وأيم اللّه، لا يذهب اللّيل والنّهار حتّى تكنزوهما ويعذّبكم اللّه عذابًا أليمًا.
وقال: حدّثنا القاسم، حدّثنا حسينٌ، حدّثني حجّاجٌ، عن أبي معشر، عن إسحاق بن عبد اللّه، أنّ المائدة نزلت على عيسى ابن مريم، عليها سبعة أرغفةٍ وسبعة أحواتٍ، يأكلون منها ما شاؤوا. قال: فسرق بعضهم منها وقال: "لعلّها لا تنزل غدًا". فرفعت.
وقال العوفي، عن ابن عبّاسٍ: نزلت على عيسى ابن مريم والحواريّين، خوانٌ عليه خبزٌ وسمكٌ، يأكلون منه أينما نزلوا إذا شاؤوا. وقال خصيف، عن عكرمة ومقسم، عن ابن عبّاسٍ: كانت المائدة سمكةً وأرغفةً. وقال مجاهدٌ: هو طعامٌ كان ينزل عليهم حيث نزلوا. وقال أبو عبد الرّحمن السّلميّ: نزلت المائدة خبزًا وسمكًا. وقال عطيّة العوفي: المائدة سمكٌ فيه طعم كلّ شيءٍ.
وقال وهب بن منبّه: أنزلها من السّماء على بني إسرائيل، فكان ينزل عليهم في كلّ يومٍ في تلك المائدة من ثمار الجنّة، فأكلوا ما شاؤوا من ضروبٍ شتّى، فكان يقعد عليها أربعة آلافٍ، فإذا أكلوا أبدل اللّه مكان ذلك لمثلهم. فلبثوا على ذلك ما شاء اللّه عزّ وجلّ.
وقال وهب بن منبّه: نزّل عليهم قرصةً من شعيرٍ وأحواتٍ، وحشا اللّه بين أضعافهنّ البركة، فكان قومٌ يأكلون ثمّ يخرجون، ثمّ يجيء آخرون فيأكلون ثمّ يخرجون، حتّى أكل جميعهم وأفضلوا.
وقال الأعمش، عن مسلمٍ، عن سعيد بن جبيرٍ: أنزل عليها كلّ شيءٍ إلّا اللّحم.
وقال سفيان الثّوريّ، عن عطاء بن السّائب، عن زاذان وميسرة، وجريرٍ، عن عطاءٍ، عن ميسرة قال: كانت المائدة إذا وضعت لبني إسرائيل اختلفت عليهم الأيدي بكلّ طعامٍ إلّا اللّحم.
وعن عكرمة: كان خبز المائدة من الأرز. رواه ابن أبي حاتمٍ.
وقال ابن أبي حاتمٍ: أخبرنا جعفر بن عليٍّ فيما كتب إليّ، حدّثنا إسماعيل بن أبي أويس، حدّثني أبو عبد اللّه عبد القدّوس بن إبراهيم بن عبيد اللّه بن مرداس العبدريّ -مولى بني عبد الدّار-عن إبراهيم بن عمر، عن وهب بن منبّهٍ، عن أبي عثمان النّهدي، عن سلمان الخير؛ أنّه قال: لمّا سأل الحواريّون عيسى ابن مريم المائدة، كره ذلك جدًّا وقال: اقنعوا بما رزقكم اللّه في الأرض، ولا تسألوا المائدة من السّماء، فإنّها إن نزلت عليكم كانت آيةً من ربّكم، وإنّما هلكت ثمود حين سألوا نبيّهم آيةً، فابتلوا بها حتّى كان بوارهم فيها. فأبوا إلّا أن يأتيهم بها، فلذلك قالوا: {نريد أن نأكل منها وتطمئنّ قلوبنا} الآية.
فلمًا رأى عيسى أن قد أبوا إلّا أن يدعو لهم بها، قام فألقى عنه الصّوف، ولبس الشّعر الأسود، وجبّةً من شعرٍ، وعباءةً من شعرٍ، ثمّ توضّأ واغتسل، ودخل مصلّاه فصلّى ما شاء اللّه، فلمّا قضى صلاته قام قائمًا مستقبل القبلة وصفّ قدميه حتّى استويا، فألصق الكعب بالكعب وحاذى الأصابع، ووضع يده اليمنى على اليسرى فوق صدره، وغضّ بصره، وطأطأ رأسه خشوعًا، ثمّ أرسل عينيه بالبكاء، فما زالت دموعه تسيل على خدّيه وتقطر من أطراف لحيته حتّى ابتلّت الأرض حيال وجهه من خشوعه، فلمّا رأى ذلك دعا اللّه فقال: {اللّهمّ ربّنا أنزل علينا مائدةً من السّماء} فأنزل اللّه عليهم سفرة حمراء بين غمامتين: غمامةٌ فوقها وغمامةٌ تحتها، وهم ينظرون إليها في الهواء منقضّةً من فلك السّماء تهوي إليهم، وعيسى يبكي خوفًا للشّروط الّتي اتّخذها اللّه عليهم -فيها: أنّه يعذّب من يكفر بها منهم بعد نزولها عذابًا لم يعذّبه أحدًا من العالمين -وهو يدعو اللّه من مكانه ويقول: اللّهمّ اجعلها رحمةً، إلهي لا تجعلها عذابًا، إلهي كم من عجيبةٍ سألتك فأعطيتني، إلهي اجعلنا لك شكّارين، إلهي أعوذ بك أن تكون أنزلتها غضبًا وجزاءً، إلهي اجعلها سلامةً وعافيةً، ولا تجعلها فتنةً ومثلةً.
فما زال يدعو حتّى استقرّت السّفرة بين يدي عيسى، والحواريّين وأصحابه حوله، يجدون رائحةً طيّبةً لم يجدوا فيما مضى رائحةً مثلها قطّ، وخرّ عيسى والحواريّون للّه سجّدًا شكرًا بما رزقهم من حيث لم يحتسبوا وأراهم فيه آيةً عظيمةً ذات عجبٍ وعبرةٍ، وأقبلت اليهود ينظرون فرأوا أمرًا عجيبًا أورثهم كمدًا وغمًّا، ثمّ انصرفوا بغيظٍ شديدٍ وأقبل عيسى. والحواريّون وأصحابه حتّى جلسوا حول السّفرة، فإذا عليها منديلٌ مغطّي. قال عيسى: من أجرؤنا على كشف المنديل عن هذه السّفرة، وأوثقنا بنفسه، وأحسننا بلاءً عند ربّه؟ فليكشف عن هذه الآية حتّى نراها، ونحمد ربّنا، ونذكّر باسمه، ونأكل من رزقه الّذي رزقنا. فقال الحواريّون: يا روح الله وكلمته، أنت أولانا بذلك، وأحقنا بالكشف عنها. فقام عيسى، عليه السّلام، واستأنف وضوءًا جديدًا، ثمّ دخل مصلّاه فصلّى كذلك ركعاتٍ، ثمّ بكى بكاءً طويلًا ودعا اللّه أن يأذن له في الكشف عنها، ويجعل له ولقومه فيها بركةً ورزقًا. ثمّ انصرف فجلس إلى السّفرة وتناول المنديل، وقال: "باسم اللّه خير الرّازقين"، وكشف عن السّفرة، فإذا هو عليها سمكةٌ ضخمةٌ مشويّةٌ، ليس عليها بواسير، وليس في جوفها شوكٌ، يسيل السّمن منها سيلًا قد نضّد حولها بقولٌ من كلّ صنفٍ غير الكرّاث، وعند رأسها خلٌّ، وعند ذنبها ملحٌ، وحول البقول خمسة أرغفةٍ، على واحدٍ منها زيتونٌ، وعلى الآخر ثمراتٌ، وعلى الآخر خمس رمّاناتٍ.
فقال شمعون رأس الحواريّين لعيسى: يا روح اللّه وكلمته، أمن طعام الدّنيا هذا أم من طعام الجنّة؟ فقال: أما آن لكم أن تعتبروا بما ترون من الآيات، وتنتهوا عن تنقير المسائل؟ ما أخوفني عليكم أن تعاقبوا في سبب نزول هذه الآية! فقال شمعون: وإله إسرائيل ما أردت بها سؤالًا يا ابن الصّدّيقة. فقال عيسى، عليه السّلام: ليس شيءٌ ممّا ترون من طعام الجنّة ولا من طعام الدّنيا، إنّما هو شيءٌ ابتدعه اللّه في الهواء بالقدرة العالية القاهرة، فقال له: كن. فكان أسرع من طرفة عينٍ، فكلوا ممّا سألتم باسم اللّه واحمدوا عليه ربّكم يمدكم منه ويزدكم، فإنّه بديعٌ قادرٌ شاكرٌ.
فقالوا: يا روح اللّه وكلمته، إنّا نحبّ أن ترينا آيةً في هذه الآية. فقال عيسى: سبحان اللّه! أما اكتفيتم بما رأيتم في هذه الآية حتّى تسألوا فيها آيةً أخرى؟ ثمّ أقبل عيسى، عليه السّلام، على السّمكة، فقال: يا سمكة، عودي بإذن اللّه حيّةً كما كنت. فأحياها اللّه بقدرته، فاضطربت وعادت بإذن اللّه حيّةً طريّةً، تلمّظ كما يتلمّظ الأسد، تدور عيناها لها بصيصٌ، وعادت عليها بواسيرها. ففزع القوم منها وانحازوا. فلمّا رأى عيسى ذلك منهم قال: ما لكم تسألون الآية، فإذا أراكموها ربّكم كرهتموها؟ ما أخوفني عليكم أن تعاقبوا بما تصنعون! يا سمكة، عودي بإذن اللّه كما كنت. فعادت بإذن اللّه مشويّةً كما كانت في خلقها الأوّل.
فقالوا لعيسى: كن أنت يا روح اللّه الّذي تبدأ بالأكل منها، ثمّ نحن بعد فقال عيسى: معاذ اللّه من ذلك! يبدأ بالأكل من طلبها. فلمّا رأى الحواريّون وأصحابهم امتناع نبيّهم منها، خافوا أن يكون نزولها سخطة وفي أكلها مثلةً، فتحاموها. فلمّا رأى ذلك عيسى دعا لها الفقراء والزّمنى، وقال: كلوا من رزق ربّكم، ودعوة نبيّكم، واحمدوا اللّه الّذي أنزلها لكم، فيكون مهنؤها لكم، وعقوبتها على غيركم، وافتتحوا أكلكم باسم اللّه، واختموه بحمد اللّه، ففعلوا، فأكل منها ألفٌ وثلاثمائة إنسانٍ بين رجلٍ وامرأةٍ، يصدرون عنها كلّ واحدٍ منهم شبعان يتجشّأ، ونظر عيسى والحواريّون فإذا ما عليها كهيئته إذ أنزلت من السّماء، لم ينتقص منها شيءٌ، ثمّ إنها رفعت إلى السماء وهم ينظرون، فاستغنى كلّ فقيرٍ أكل منها، وبرئ كلّ زمنٍ أكل منها، فلم يزالوا أغنياء صحاحًا حتّى خرجوا من الدّنيا.
وندم الحواريّون وأصحابهم الّذين أبوا أن يأكلوا منها ندامةً، سالت منها أشفارهم، وبقيت حسرتها في قلوبهم إلى يوم الممات، قال: فكانت المائدة إذا نزلت بعد ذلك أقبلت بنو إسرائيل إليها من كلّ مكانٍ يسعون يزاحم بعضهم بعضًا: الأغنياء والفقراء، والصّغار والكبار، والأصحّاء والمرضى، يركب بعضهم بعضًا. فلمّا رأى ذلك جعلها نوائب، تنزل يومًا ولا تنزل يومًا. فلبثوا في ذلك أربعين يومًا، تنزل عليهم غبًّا عند ارتفاع الضحى فلا تزال موضوعةً يؤكل منها، حتّى إذا قاموا ارتفعت عنهم. بإذن اللّه إلى جوّ السّماء، وهم ينظرون إلى ظلّها في الأرض حتّى توارى عنهم.
قال: فأوحى اللّه إلى نبيّه عيسى، عليه السّلام، أن اجعل رزقي المائدة لليتامى والفقراء والزّمنى دون الأغنياء من النّاس، فلمّا فعل ذلك ارتاب بها الأغنياء من النّاس، وغمطوا ذلك، حتّى شكّوا فيها في أنفسهم وشكّكوا فيها النّاس، وأذاعوا في أمرها القبيح والمنكر، وأدرك الشّيطان منهم حاجته، وقذف وسواسه في قلوب المرتابين حتّى قالوا لعيسى: أخبرنا عن المائدة، ونزولها من السّماء أحقٌّ، فإنّه قد ارتاب بها بشرٌ منّا كثيرٌ؟ فقال عيسى، عليه السّلام: هلكتم وإله المسيح! طلبتم المائدة إلى نبيّكم أن يطلبها لكم إلى ربّكم، فلمّا أن فعل وأنزلها عليكم رحمةً ورزقًا، وأراكم فيها الآيات والعبر كذّبتم بها، وشكّكتم فيها، فأبشروا بالعذاب، فإنّه نازلٌ بكم إلّا أن يرحمكم اللّه.
وأوحى اللّه إلى عيسى: إنّي آخذ المكذّبين بشرطي، فإنّي معذّبٌ منهم من كفر بالمائدة بعد نزولها عذابًا لا أعذّبه أحدًا من العالمين. قال فلمّا أمسى المرتابون بها وأخذوا مضاجعهم في أحسن صورةٍ مع نسائهم آمنين، فلمّا كان في آخر اللّيل مسخهم اللّه خنازير، فأصبحوا يتّبعون الأقذار في الكنّاسات.
هذا أثرٌ غريبٌ جدًّا. قطّعه ابن أبي حاتمٍ في مواضع من هذه القصّة، وقد جمعته أنا له ليكون سياقه أتمّ وأكمل، واللّه سبحانه وتعالى أعلم.
وكلّ هذه الآثار دالّةٌ على أنّ المائدة نزلت على بني إسرائيل، أيّام عيسى ابن مريم، إجابةً من اللّه لدعوته، وكما دلّ على ذلك ظاهر هذا السّياق من القرآن العظيم: {قال اللّه إنّي منزلها عليكم} الآية.
وقد قال قائلون: إنّها لم تنزل. فروى ليث بن أبي سليمٍ، عن مجاهدٍ في قوله: {أنزل علينا مائدةً من السّماء} قال: هو مثلٌ ضرب، ولم ينزل شيءٌ.
رواه ابن أبي حاتمٍ، وابن جريرٍ. ثمّ قال ابن جريرٍ: حدّثني الحارث، حدّثنا القاسم -هو ابن سلّامٍ-حدّثنا حجّاجٌ، عن ابن جريج، عن مجاهدٍ قال: مائدةٌ عليها طعامٌ، أبوها حين عرض عليهم العذاب إن كفروا، فأبوا أن تنزل عليهم.
وقال أيضًا: حدّثنا ابن المثنّى، حدّثنا محمّد بن جعفرٍ، حدّثنا شعبة، عن منصور بن زاذان، عن الحسن؛ أنّه قال في المائدة: لم تنزل.
وحدّثنا بشر، حدّثنا يزيد، حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة قال: كان الحسن يقول: لمّا قيل لهم: {فمن يكفر بعد منكم فإنّي أعذّبه عذابًا لا أعذّبه أحدًا من العالمين} قالوا: لا حاجة لنا فيها، فلم تنزل.
وهذه أسانيدٌ صحيحةٌ إلى مجاهدٍ والحسن، وقد يتقوّى ذلك بأنّ خبر المائدة لا تعرفه النّصارى وليس هو في كتابهم، ولو كانت قد نزلت لكان ذلك ممّا يتوفّر الدّواعي على نقله، وكان يكون موجودًا في كتابهم متواترًا، ولا أقلّ من الآحاد، واللّه أعلم. ولكنّ الّذي عليه الجمهور أنّها نزلت، وهو الّذي اختاره ابن جريرٍ، قال: لأنّه تعالى أخبر بنزولها بقوله تعالى: {إنّي منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإنّي أعذّبه عذابًا لا أعذّبه أحدًا من العالمين} قال: ووعد اللّه ووعيده حقٌّ وصدقٌ.
وهذا القول هو -واللّه أعلم-الصّواب، كما دلّت عليه الأخبار والآثار عن السّلف وغيرهم. وقد ذكر أهل التّاريخ أنّ موسى بن نصيرٍ نائب بني أميّة في فتوح بلاد المغرب، وجد المائدة هنالك مرصّعةً باللّآلئ وأنواع الجواهر، فبعث بها إلى أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك، باني جامع دمشق، فمات وهي في الطّريق، فحملت إلى أخيه سليمان بن عبد الملك الخليفة بعده، فرآها النّاس وتعجّبوا منها كثيرًا لما فيها من اليواقيت النّفيسة والجواهر اليتيمة. ويقال إنّ هذه المائدة كانت لسليمان بن داود، عليهما السّلام، فاللّه أعلم.
وقد قال الإمام أحمد: حدّثنا عبد الرّحمن، حدّثنا سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن عمران بن الحكم، عن ابن عبّاسٍ قال: قالت قريشٌ للنّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: ادع لنا ربّك أن يجعل لنا الصّفا ذهبًا ونؤمن بك قال: "وتفعلون؟ " قالوا: نعم. قال: فدعا، فأتاه جبريل فقال: إنّ ربّك يقرأ عليك السّلام، ويقول لك: إن شئت أصبح لهم الصّفا ذهبًا، فمن كفر منهم بعد ذلك عذّبته عذابًا لا أعذّبه أحدًا من العالمين، وإن شئت فتحت لهم باب التّوبة والرّحمة. قال: " بل باب التوبة والرحمة".
ثمّ رواه أحمد، وابن مردويه، والحاكم في مستدركه، من حديث سفيان الثّوريّ، به). [تفسير القرآن العظيم: 3/225-232]

رد مع اقتباس