عرض مشاركة واحدة
  #10  
قديم 16 جمادى الآخرة 1435هـ/16-04-2014م, 07:21 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن الثامن الهجري

تفسير قوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {لقد كفر الّذين قالوا إنّ اللّه هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من اللّه شيئًا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمّه ومن في الأرض جميعًا وللّه ملك السّماوات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء واللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ (17) وقالت اليهود والنّصارى نحن أبناء اللّه وأحبّاؤه قل فلم يعذّبكم بذنوبكم بل أنتم بشرٌ ممّن خلق يغفر لمن يشاء ويعذّب من يشاء وللّه ملك السّماوات والأرض وما بينهما وإليه المصير (18)}
يقول تعالى مخبرًا وحاكمًا بكفر النّصارى في ادّعائهم في المسيح ابن مريم -وهو عبدٌ من عباد اللّه، وخلقٌ من خلقه-أنه هو اللّه، تعالى اللّه عن قولهم علوًّا كبيرًا.
ثمّ قال مخبرًا عن قدرته على الأشياء وكونها تحت قهره وسلطانه: {قل فمن يملك من اللّه شيئًا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمّه ومن في الأرض جميعًا} أي: لو أراد ذلك، فمن ذا الّذي كان يمنعه ؟ أو من ذا الّذي يقدر على صرفه عن ذلك؟
ثمّ قال: {وللّه ملك السّماوات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء} أي: جميع الموجودات ملكه وخلقه، وهو القادر على ما يشاء، لا يسأل عمّا يفعل، لقدرته وسلطانه، وعدله وعظمته، وهذا ردٌّ على النّصارى عليهم لعائن اللّه المتتابعة إلى يوم القيامة.
ثمّ قال تعالى رادًّا على اليهود والنّصارى في كذبهم وافترائهم: {وقالت اليهود والنّصارى نحن أبناء اللّه وأحبّاؤه} أي: نحن منتسبون إلى أنبيائه وهم بنوه وله بهم عنايةٌ، وهو يحبّنا. ونقلوا عن كتابهم أنّ اللّه [تعالى] قال لعبده إسرائيل: "أنت ابني بكري". فحملوا هذا على غير تأويله، وحرّفوه. وقد ردّ عليهم غير واحدٍ ممّن أسلم من عقلائهم، وقالوا: هذا يطلق عندهم على التّشريف والإكرام، كما نقل النّصارى عن كتابهم أن عيسى قال لهم: إنّي ذاهبٌ إلى أبي وأبيكم، يعني: ربّي وربّكم. ومعلومٌ أنّهم لم يدّعوا لأنفسهم من البنوّة ما ادّعوها في عيسى، عليه السّلام، وإنّما أرادوا بذلك معزّتهم لديه وحظوتهم عنده، ولهذا قالوا: نحن أبناء اللّه وأحبّاؤه.
قال اللّه تعالى رادًّا عليهم: {قل فلم يعذّبكم بذنوبكم} أي: لو كنتم كما تدّعون أبناءه وأحبّاءه، فلم أعد لكم نار جهنّم على كفركم وكذبكم وافترائكم؟. وقد قال بعض شيوخ الصّوفيّة لبعض الفقهاء: أين تجد في القرآن أنّ الحبيب لا يعذّب حبيبه؟ فلم يردّ عليه، فتلا الصّوفيّ هذه الآية: {قل فلم يعذّبكم بذنوبكم}
وهذا الّذي قاله حسنٌ، وله شاهدٌ في المسند للإمام أحمد حيث قال: حدّثنا ابن أبي عديٍّ، عن حميد، عن أنسٍ قال: مرّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم في نفرٍ من أصحابه، وصبيٍّ في الطّريق، فلمّا رأت أمّه القوم خشيت على ولدها أن يوطأ، فأقبلت تسعى وتقول: ابني ابني! وسعت فأخذته، فقال القوم: يا رسول اللّه، ما كانت هذه لتلقي ابنها في النّار. قال: فخفّضهم النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فقال: "لا واللّه ما يلقي حبيبه في النّار". تفرّد به.
[وقوله] {بل أنتم بشرٌ ممّن خلق} أي: لكم أسوةٌ أمثالكم من بني آدم، وهو تعالى هو الحاكم في جميع عباده {يغفر لمن يشاء ويعذّب من يشاء} أي: هو فعّالٌ لما يريد، لا معقّب لحكمه وهو سريع الحساب. {وللّه ملك السّماوات والأرض وما بينهما} أي: الجميع ملكه وتحت قهره وسلطانه، {وإليه المصير} أي: المرجع والمآب إليه، فيحكم في عباده بما يشاء، وهو العادل الّذي لا يجور). [تفسير القرآن العظيم: 3/68-69]

تفسير قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( [و] قال محمّد بن إسحاق، عن محمّد بن أبي محمّدٍ، عن عكرمة، أو سعيد بن جبير، عن ابن عبّاسٍ قال: وأتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم نعمان بن أضاء وبحريّ بن عمرٍو، وشاس بن عديٍّ، فكلّموه وكلّمهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ودعاهم إلى اللّه وحذّرهم نقمته، فقالوا: ما تخوّفنا يا محمّد! نحن واللّه أبناء اللّه وأحبّاؤه، كقول النّصارى، فأنزل [اللّه] فيهم: {وقالت اليهود والنّصارى نحن أبناء اللّه وأحبّاؤه} إلى آخر الآية. رواه ابن أبي حاتمٍ وابن جريرٍ.
ورويا أيضًا من طريق أسباطٍ عن السّدّيّ في قول اللّه [تعالى] {وقالت اليهود والنّصارى نحن أبناء اللّه وأحبّاؤه} أمّا قولهم: {نحن أبناء اللّه وأحبّاؤه} فإنّهم قالوا: إنّ اللّه أوحى إلى إسرائيل أن ولدك -بكرك من الولد-فيدخلهم النّار فيكونون فيها أربعين ليلةً حتّى تطهّرهم وتأكل خطاياهم، ثمّ يناد منادٍ أن أخرجوا كلّ مختونٍ من ولد إسرائيل. فأخرجوهم فذلك قولهم: {لن تمسّنا النّار إلا أيّامًا معدوداتٍ} [آل عمران: 24] ). [تفسير القرآن العظيم: 3/69-70]

تفسير قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبيّن لكم على فترةٍ من الرّسل أن تقولوا ما جاءنا من بشيرٍ ولا نذيرٍ فقد جاءكم بشيرٌ ونذيرٌ واللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ (19) }
يقول تعالى مخاطبًا أهل الكتاب من اليهود والنّصارى: إنّه قد أرسل إليهم رسوله محمّدًا خاتم النّبيّين، الّذي لا نبيّ بعده ولا رسول بل هو المعقّب لجميعهم؛ ولهذا قال: {على فترةٍ من الرّسل} أي: بعد مدّةٍ متطاولةٍ ما بين إرساله وعيسى ابن مريم.
وقد اختلفوا في مقدار هذه الفترة، كم هي؟ فقال أبو عثمان النّهديّ وقتادة -في روايةٍ عنه-: كانت ستّمائة سنةً. ورواه البخاريّ عن سلمان الفارسيّ. وعن قتادة: خمسمائةٍ وستّون سنةً، وقال معمر، عن بعض أصحابه: خمسمائةٍ وأربعون سنةً. وقال: الضّحّاك: أربعمائةٍ وبضعٌ وثلاثون سنةً.
وذكر ابن عساكر في ترجمة عيسى، عليه السّلام عن الشّعبيّ أنّه قال: ومن رفع المسيح إلى هجرة النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم تسعمائةٍ وثلاثٌ وثلاثون سنةً.
والمشهور هو الأوّل، وهو أنّه ستّمائة سنةٍ. ومنهم من يقول: ستّمائةٍ وعشرون سنةً. ولا منافاة بينهما، فإنّ القائل الأوّل أراد ستّمائة سنةٍ شمسيّةٍ، والآخر أراد قمريّةً، وبين كلّ مائة سنةٍ شمسيّةٍ وبين القمريّة نحوٌ من ثلاث سنين؛ ولهذا قال تعالى في قصّة أصحاب الكهف: {ولبثوا في كهفهم ثلاث مائةٍ سنين وازدادوا تسعًا} [الكهف: 25] أي: قمريّةً، لتكميل الثّلاثمائة الشّمسيّة الّتي كانت معلومةً لأهل الكتاب. وكانت الفترة بين عيسى ابن مريم، آخر أنبياء بني إسرائيل، وبين محمّدٍ [صلّى اللّه عليه وسلّم] خاتم النّبيّين من بني آدم على الإطلاق، كما ثبت في صحيح البخاريّ عن أبي هريرة أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "إنّ أولى النّاس بابن مريم؛ لأنّه لا نبيّ بيني وبينه هذا فيه ردٌّ على من زعم أنّه بعث بعد عيسى [عليه السّلام] نبيٌّ، يقال له: خالد بن سنانٍ، كما حكاه القضاعيّ وغيره.
والمقصود أنّ اللّه [تعالى] بعث محمّدًا صلّى اللّه عليه وسلّم على فترةٍ من الرسل، وطموس من السبل، وتغير الأديان، وكثرة عبادة الأوثان والنّيران والصّلبان، فكانت النّعمة به أتمّ النّعم، والحاجة إليه أمر عمم، فإنّ الفساد كان قد عمّ جميع البلاد، والطّغيان والجهل قد ظهر في سائر العباد، إلّا قليلًا من المتمسّكين ببقايا من دين الأنبياء الأقدمين، من بعض أحبار اليهود وعباد النّصارى والصّابئين، كما قال الإمام أحمد:
حدّثنا يحيى بن سعيدٍ، حدّثنا هشامٌ حدّثنا قتادة، عن مطّرّف، عن عياض بن حمار المجاشعيّ، رضي اللّه عنه، أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم خطب ذات يومٍ فقال في خطبته: "وإنّ ربّي أمرني أن أعلّمكم ما جهلتم ممّا علّمني في يومي هذا: كلّ مالٍ نحلته عبادي حلالٌ، وإنّي خلقت عبادي حنفاء كلّهم، وإنّهم أتتهم الشّياطين فأضلّتهم عن دينهم، وحرّمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزّل به سلطانًا، ثمّ إنّ اللّه، عزّ وجلّ، نظر إلى أهل الأرض فمقتهم، عجمهم وعربهم، إلّا بقايا من أهل الكتاب وقال: إنّما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك، وأنزلت عليك كتابًا لا يغسله الماء، تقرؤه نائمًا ويقظان، ثمّ إنّ اللّه أمرني أن أحرّق قريشًا، فقلت: يا ربّ، إذن يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة، فقال: استخرجهم كما استخرجوك، واغزهم نغزك، وأنفق عليهم فسننفق عليك، وابعث جندًا نبعث خمسة أمثاله وقاتل بمن أطاعك من عصاك، وأهل الجنّة ثلاثةٌ: ذو سلطانٍ مقسطٌ متصدّق موفّقٌ ورجلٌ رحيمٌ رقيق القلب بكلّ ذي قربى ومسلمٍ، ورجلٌ عفيف فقيرٌ متصدّقٌ، وأهل النّار خمسةٌ: الضّعيف الّذي لا زبر له، الّذين هم فيكم تبعًا أو تبعاء -شكّ يحيى-لا يبتغون أهلًا ولا مالًا والخائن الّذي لا يخفى له طمعٌ وإن دقّ إلّا خانه، ورجلٌ لا يصبح ولا يمسي إلّا وهو يخادعك عن أهلك ومالك"، وذكر البخيل أو الكذب، "والشّنظير: الفاحش".
ثمّ رواه الإمام أحمد، ومسلمٌ، والنّسائيّ من غير وجهٍ، عن قتادة، عن مطرّف بن عبد اللّه بن الشّخير. وفي رواية سعيدٍ عن قتادة التّصريح بسماع قتادة هذا الحديث من مطرّفٍ. وقد ذكر الإمام أحمد في مسنده: أنّ قتادة لم يسمعه من مطرّفٍ، وإنّما سمعه من أربعةٍ، عنه. ثمّ رواه هو، عن روحٍ، عن عوفٍ، عن حكيمٍ الأثرم، عن الحسن قال: حدّثني مطرّفٍ، عن عياض بن حمار، فذكره. و [كذا] رواه النّسائيّ من حديث غندر، عن عوفٍ الأعرابيّ به.
والمقصود من إيراد هذا الحديث قوله: "وإنّ اللّه نظر إلى أهل الأرض فمقتهم، عربهم وعجمهم إلّا بقايا من بني إسرائيل". وفي لفظ مسلمٍ: "من أهل الكتاب". وكان الدّين قد التبس على أهل الأرض كلّهم، حتّى بعث اللّه محمّدًا صلّى اللّه عليه وسلّم، فهدى الخلائق، وأخرجهم اللّه به من الظّلمات إلى النّور، وتركهم على المحجّة البيضاء، والشّريعة الغرّاء؛ ولهذا قال تعالى: {أن تقولوا ما جاءنا من بشيرٍ ولا نذيرٍ} أي: لئلّا تحتجّوا وتقولوا -: يا أيّها الّذين بدّلوا دينهم وغيّروه-ما جاءنا من رسولٍ يبشّر بالخير وينذر من الشّرّ، فقد جاءكم بشيرٌ ونذيرٌ، يعني محمّدًا صلّى اللّه عليه وسلّم {واللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ}
قال ابن جريرٍ: معناه: إنّي قادرٌ على عقاب من عصاني، وثواب من أطاعني). [تفسير القرآن العظيم: 3/70-72]


رد مع اقتباس