عرض مشاركة واحدة
  #8  
قديم 12 جمادى الأولى 1435هـ/13-03-2014م, 06:06 PM
أروى المطيري أروى المطيري غير متواجد حالياً
فريق تنسيق النصوص
 
تاريخ التسجيل: Sep 2013
المشاركات: 405
افتراضي

مراتب إغواء الشيطان للإنسان

قالَ مُحَمَّدُ بنُ أَحْمَدَ بْنِ جُزَيءٍ الكَلْبِيُّ (ت: 741هـ):({الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5)} [الناس: 5] وَسوسةُ الشيطانِ في صَدْرِ الإنسانِ بأنواعٍ كثيرةٍ منها إفسادُ الإيمانِ والتشكيكُ في العقائدِ، فإن لم يَقْدِرْ على ذلك أَمَرَه بالمعاصي، فإن لم يَقْدِرْ على ذلك ثَبَّطَهُ عن الطاعاتِ، فإن لم يَقْدِرْ على ذلك أَدْخَلَ عليه الرياءَ في الطاعاتِ ليُحْبطَها، فإن سَلِمَ من ذلك أَدْخَلَ عليه العُجْبَ بنفسِه واستكثارَ عمَلِه، ومن ذلك أنه يُوقِدُ في القَلْبِ نارَ الحسَدِ والحقْدِ والغَضَبِ حتى يَقودَ الإنسانَ إلى شَرِّ الأعمالِ وأَقْبَحِ الأحوالِ). [التسهيل: 227]
قالَ ابْنُ القَيِّمِ مُحَمَّدُ بْنُ أبي بَكْرٍ الزُّرَعِيُّ الدِّمَشْقِيُّ (ت: 751 هـ): (ولا يُمْكِنُ حَصْرُ أَجناسِ شَرِّه فَضْلاً عن آحَادِها، إذ كلُّ شرٍّ في العالَمِ فهو السببُ فيه، ولكن يَنْحَصِرُ شرُّه في سِتَّةِ أَجناسٍ، لا يَزالُ بابنِ آدمَ حتى يَنالَ منه واحدًا منها أو أَكْثَرَ.
الشرُّ الأوَّلُ: شرُّ الكفْرِ والشرْكِ ومُعاداةِ اللهِ ورسولِه، فإذا ظَفِرَ بذلك من ابنِ آدمَ بَرَدَ أنينُه واستراحَ من تَعَبه معه، وهو أوَّلُ ما يُريدُ من العَبْدِ، فلا يَزالُ به حتى يَنالَه منه، فإذا نالَ ذلك صَيَّرَه من جُنْدِه وعَسْكَرِه واستنابَه على أَمثالِه وأَشكالِه فَصارَ من دُعاةِ إبليسَ ونُوَّابه، فإنْ يَئِسَ منه من ذلك وكان مِمَّنْ سَبَقَ له الإسلامُ في بَطْنِ أمِّه نَقَلَه إلى:
المَرتَبَةِ الثانيةِ: من الشرِّ وهي البدعةُ، وهي أَحَبُّ إليه من الفُسوقِ والمعاصي؛ لأن ضَرَرَها في نفْسِ الدِّينِ وهو ضَرَرٌ مُتَعَدٍّ، وهي ذَنْبٌ لا يُتابُ منه، وهي مُخالِفَةٌ لدعوةِ الرسُلِ، ودُعاءٌ إلى خِلافِ ما جاءوا به، وهي بابُ الكفْرِ والشرْكِ، فإذا نالَ منه البدعةَ وجَعلَه من أهلِها بَقِيَ أيضًا نائبَه وداعيًا من دُعاتِه، فإن أَعْجَزَه من هذه المَرتبةِ، وكان العبْدُ مِمَّنْ سبَقَتْ له من اللهِ مَوهبةُ السنَّةِ ومُعادَاةُ أهْلِ البدَعِ والضلالِ نَقَلَه إلى:
المَرتبةِ الثالثةِ: من الشرِّ وهي الكبائرُ على اختلافِ أنواعِها، فهو أَشَدُّ حِرْصًا على أن يُوقِعَه فيها، ولا سِيَّمَا إن كان عالِمًا مَتبوعًا فهو حريصٌ على ذلك ليُنَفِّرَ الناسَ عنه، ثم يُشِيعَ من ذنوبه ومعاصِيه في الناسِ، ويَستنيبَ منهم مَن يُشيعُها ويُذيعُها تَدَيُّنًا وتَقَرُّبًا بزَعْمِه إلى اللهِ تعالى، وهو نائبُ إبليسَ ولا يَشْعُرُ، و{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[النور:19] هذا إذا أَحَبُّوا إشاعتَها وإذاعتَها، فكيف إذا تَوَلَّوْا هم إشاعتَها وإذاعتَها لا نَصيحةً منهم، ولكن طاعةً لإبليسَ ونِيابةً عنه، كلُّ ذلك ليُنَفِّرَ الناسَ عنه، وعن الانتفاعِ به.
وذُنوبُ هذا ولو بَلَغَتْ عَنانَ السماءِ أَهْوَنُ عندَ اللهِ من ذُنوبِ هؤلاءِ، فإنها ظُلْمٌ منه لنَفْسِه، إذا اسْتَغْفَرَ اللهَ وتابَ إليه قَبلَ اللهُ تَوْبَتَه وبَدَّلَ سَيِّئَاتِه حَسناتٍ.
وأمَّا ذنوبُ أولئكَ فظُلْمٌ للمؤمنينَ، وتَتَبُّعٌ لعَورَتِهم وقَصْدٌ لفَضِيحَتِهم، واللهُ سبحانَه بالمِرْصَادِ لا تَخْفَى عليه كَمَائِنُ الصدورِ ودَسائسُ النفوسِ، فإن عَجَزَ الشيطانُ عن هذه المَرتَبَةِ نَقَلَه إلى:
المَرْتَبَةِ الرابعةِ: وهي الصغائرُ التي إذا اجْتَمَعَتْ فرُبَّما أَهْلَكَتْ صاحبَها، كما قالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِيَّاكُمْ وَمُحَقِّرَاتِ الذُّنُوبِ، فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ مَثَلُ قَوْمٍ نَزَلُوا بفَلاةٍ مِنَ الأَرْضِ)) وذَكَرَ حديثًا معناه: أنَّ كلَّ واحدٍ منهم جاءَ بعُودِ حَطَبٍ حتى أَوْقَدُوا نارًا عظيمةً، فطَبَخُوا واشْتَوَوْا، ولا يَزالُ يَسْهُلُ عليه أمْرُ الصغائرِ حتى يَستهينَ بها، فيكونُ صاحِبُ الكبيرةِ الخائفُ منها أحْسَنَ حالاً منه، فإنْ أَعْجَزَه العَبْدُ من هذه المَرتَبَةِ نَقَلَه إلى:
المَرْتَبَةِ الخامِسَةِ: وهي إشغالُه بالمُباحاتِ التي لا ثَوابَ فيها ولا عِقابَ، بل عاقِبَتُها فَوْتُ الثوابِ الذي ضَاعَ عليه باشتغالِه بها، فإنْ أَعْجَزَه العبْدُ من هذه المَرْتَبَةِ وكان حافظًا لوَقْتِه شَحيحًا به يَعْلَمُ مِقدارَ أَنفاسِه وانقطاعَها وما يُقابلُها من النعيمِ والعَذابِ نَقَلَه إلى:
المَرْتَبَةِ السادسةِ: وهو أن يَشغلَه بالعَمَلِ المفضولِ عمَّا هو أَفضَلُ منه ليُزيحَ عنه الفَضيلةَ ويَفوتَه ثوابُ العملِ الفاضلِ، فيَأْمُرُه بفِعْلِ الخيرِ المفضولِ ويَحُضُّه عليه، ويُحَسِّنُه له إذا تَضَمَّنَ تَرْكَ ما هو أَفْضَلُ وأعلى منه، وقَلَّ مَن يَتَنَبَّهُ لهذا من الناسِ، فإنه إذا رأى فيه دَاعِيًا قَوِيًّا ومُحَرِّكًا إلى نوعٍ من الطاعةِ لا يَشُكُّ أنه طاعةٌ وقُربةٌ، فإنه لا يَكادُ يقولُ: إن هذا الداعيَ من الشيطانِ، فإنَّ الشيطانَ لا يَأْمُرُ بخيرٍ ويَرَى أنَّ هذا خيرٌ، فيقولُ: هذا الداعي من اللهِ. وهو مَعذورٌ ولم يَصِلْ عِلْمُه إلى أنَّ الشيطانَ يَأْمُرُ بسبعينَ بابًا من أبوابِ الخيرِ، إمَّا ليَتَوَصَّلَ بها إلى بابٍ واحدٍ من الشرِّ، وإما ليُفَوِّتَ بها خَيرًا أعظَمَ من تلك السبعينَ بابًا وأَجَلَّ وأَفْضَلَ.
وهذا لا يُتَوَصَّلُ إلى مَعرفتِه إلا بنورٍ من اللهِ يَقْذِفُه في قلْبِ العبْدِ يكونُ سببُه تجريدُ مُتابعةِ الرسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وشِدَّةُ عِنايتِه بمَراتِبِ الأعمالِ عندَ اللهِ وأَحَبِّها إليه، وأَرْضَاها له، وأَنْفَعُها وأَعَمُّها للعَبْدِ نصيحةً للهِ ورسولِه ولكتابه ولعِبادِه المؤمنين خاصَّتِهم وعامَّتِهم.
ولا يَعْرِفُ هذا إلا مَن كان من وَرَثَةِ الرسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونُوَّابه في الأمَّةِ وخُلفائِه في الأرْضِ، وأكثَرُ الخلْقِ مَحجوبون عن ذلك، فلا يَخْطِرُ بقلوبهِم، واللهُ يَمُنُّ بفَضْلِه على مَن يَشاءُ من عِبادِه.
فإذا أَعْجَزَه العبْدُ من هذه المَراتِبِ الستِّ وأُعْيِيَ عليه سَلَّطَ عليه حِزْبَه من الإنْسِ والجِنِّ بأنواعِ الأَذَى والتكفيرِ والتضليلِ والتبديعِ والتحذيرِ منه وقَصْدِ إخمالِه وإطفائِه ليُشَوِّشَ عليه قلبَه، ويَشْغَلَ بحرْبهِ فِكْرَه ولِيَمْنَعَ الناسَ من الانتفاعِ به، فيُبْقِي سَعْيَه في تَسليطِ المُبطِلينَ من شياطينِ الإنْسِ والجِنِّ عليه لا يَفْتُرُ ولا يَنِي، فحينئذٍ يَلْبَسُ المؤمنُ لأْمَةَ الحرْبِ ولا يَضَعُها عنه إلا الموتُ، ومتى وَضَعَها أُسِرَ أو أُصيبَ فلا يَزالُ في جِهادٍ حتى يَلْقَى اللهَ.
فتَأَمَّلْ هذا الفَصْلَ وتَدَبَّرْ مَوْقِعَه وعظيمَ مَنْفَعَتِه، واجْعَلْه مِيزانَك تَزِنُ به الناسَ وتَزِنُ به الأعمالَ فإنه طِلْعُكَ على حَقَائِقِ الوُجودِ ومَراتِبِ الخلْقِ، واللهُ المُستعانُ وعليه التُّكلانُ، ولو لم يكنْ في هذا التعليقِ إلا هذا الفَصْلُ لكان نافعًا لِمَن تَدَبَّرَه ووَعَاهُ).[بدائع الفوائد: 2/260-262]


رد مع اقتباس