عرض مشاركة واحدة
  #10  
قديم 17 جمادى الآخرة 1435هـ/17-04-2014م, 07:06 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن الثامن الهجري

تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآَنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (ثمّ قال تعالى: {يا أيّها الّذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم} هذا تأديبٌ من اللّه [تعالى] لعباده المؤمنين، ونهيٌ لهم عن أن يسألوا {عن أشياء} ممّا لا فائدة لهم في السّؤال والتّنقيب عنها؛ لأنّها إن أظهرت لهم تلك الأمور ربّما ساءتهم وشقّ عليهم سماعها، كما جاء في الحديث: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "لا يبلغني أحدٌ عن أحدٍ شيئًا، إنّي أحبّ أن أخرج إليكم وأنا سليم الصّدر".
وقال البخاريّ: حدّثنا منذر بن الوليد بن عبد الرّحمن الجاروديّ، حدّثنا أبي، حدثنا شعبة، عن موسى بن أنسٍ، عن أنس بن مالكٍ قال: خطب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم خطبة ما سمعت مثلها قطّ، قال "لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلًا ولبكيتم كثيرًا" قال: فغطّى أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وجوههم لهم حنينٌ. فقال رجلٌ: من أبي؟ قال: "فلانٌ"، فنزلت هذه الآية: {لا تسألوا عن أشياء}
رواه النّضر وروح بن عبادة، عن شعبة وقد رواه البخاريّ في غير هذا الموضع، ومسلمٌ، وأحمد، والتّرمذيّ، والنّسائيّ من طرقٍ عن شعبة بن الحجّاج، به.
وقال ابن جريرٍ: حدّثنا بشر، حدّثنا يزيد، حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة في قوله: {يا أيّها الّذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم} الآية، قال: فحدّثنا أنّ أنس بن مالكٍ حدّثه: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم سألوه حتّى أحفوه بالمسألة، فخرج عليهم ذات يومٍ فصعد المنبر، فقال: "لا تسألوا اليوم عن شيءٍ إلّا بيّنته لكم". فأشفق أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن يكون بين يدي أمرٍ قد حضر، فجعلت لا ألتفت يمينًا ولا شمالًا إلّا وجدت كلًّا لافًّا رأسه في ثوبه يبكي، فأنشأ رجلٌ كان يلاحي فيدعى إلى غير أبيه، فقال: يا نبيّ اللّه، من أبي؟ قال: "أبوك حذافة". قال: ثمّ قام عمر -أو قال: فأنشأ عمر-فقال: رضينا باللّه ربّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمّدٍ رسولًا عائذًا باللّه -أو قال: أعوذ باللّه-من شرّ الفتن قال: وقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "لم أر في الخير والشّرّ كاليوم قطّ، صوّرت لي الجنّة والنّار حتّى رأيتهما دون الحائط". أخرجاه من طريق سعيدٍ.
ورواه معمر، عن الزّهريّ، عن أنسٍ بنحو ذلك -أو قريبًا منه-قال الزّهريّ: فقالت أمّ عبد اللّه بن حذافة: ما رأيت ولدًا أعقّ منك قطّ، أكنت تأمن أن تكون أمّك قد قارفت ما قارف أهل الجاهليّة فتفضحها على رؤوس النّاس، فقال: واللّه لو ألحقني بعبدٍ أسود للحقته.
وقال ابن جريرٍ أيضًا: حدّثنا الحارث، حدّثنا عبد العزيز، حدّثنا قيس، عن أبي حصين، عن أبي صالحٍ، عن أبي هريرة قال: خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وهو غضبان محمارٌّ وجهه حتّى جلس على المنبر، فقام إليه رجلٌ فقال: أين أبي ؟ فقال: "في النّار" فقام آخر فقال: من أبي؟ فقال: "أبوك حذافة"، فقام عمر بن الخطّاب فقال: رضينا باللّه ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمّدٍ نبيًّا، وبالقرآن إمامًا، إنّا يا رسول اللّه حديثو عهدٍ بجاهليّةٍ وشرك، واللّه أعلم من آباؤنا. قال: فسكن غضبه، ونزلت هذه الآية: {يا أيّها الّذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم} إسناده جيّدٌ.
وقد ذكر هذه القصّة مرسلةً غير واحدٍ من السّلف، منهم أسباطٌ عن السّدّي أنه قال في قوله: {يا أيّها الّذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم} قال: غضب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يومًا من الأيّام، فقام خطيبًا فقال: "سلوني، فإنّكم لا تسألوني عن شيءٍ إلّا أنبأتكم به". فقام إليه رجلٌ من قريشٍ، من بني سهمٍ، يقال له: عبد اللّه بن حذافة، وكان يطعن فيه، فقال: يا رسول اللّه، من أبي؟ فقال: "أبوك فلانٌ"، فدعاه لأبيه، فقام إليه عمر بن الخطّاب فقبّل رجله، وقال: يا رسول اللّه، رضينا باللّه ربًّا، وبك نبيًّا، وبالإسلام دينًا، وبالقرآن إمامًا، فاعف عنّا عفا اللّه عنك، فلم يزل به حتّى رضي، فيومئذٍ قال: "الولد للفراش وللعاهر الحجر".
ثمّ قال البخاريّ: حدّثنا الفضل بن سهل، حدّثنا أبو النّضر، حدّثنا أبو خيثمة، حدّثنا أبو الجويرية، عن ابن عبّاسٍ قال: كان قومٌ يسألون رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم استهزاءً، فيقول الرّجل: من أبي؟ ويقول الرّجل تضل ناقته: أين ناقتي؟ فأنزل اللّه فيهم هذه الآية: {يا أيّها الّذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم} حتّى فرغ من الآية كلّها. تفرّد به البخاريّ.
وقال الإمام أحمد: حدّثنا منصور بن وردان الأسديّ، حدّثنا عليّ بن عبد الأعلى، عن أبيه، عن أبي البختريّ -وهو سعيد بن فيروز-عن عليٍّ قال: لمّا نزلت هذه الآية: {وللّه على النّاس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلا} [آل عمران: 97] قالوا: يا رسول اللّه، كلّ عامٍ؟ فسكت. فقالوا: أفي كلّ عامٍ؟ فسكت، قال: ثمّ قالوا: أفي كلّ عامٍ؟ فقال: "لا ولو قلت: نعم لوجبت"، فأنزل اللّه: {يا أيّها الّذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم} إلى آخر الآية.
وكذا رواه التّرمذيّ وابن ماجه، من طريق منصور بن وردان، به وقال التّرمذيّ: غريبٌ من هذا الوجه، وسمعت البخاريّ يقول: أبو البختريّ لم يدرك عليًّا.
وقال ابن جريرٍ: حدّثنا أبو كريب، حدّثنا عبد الرّحيم بن سليمان، عن إبراهيم بن مسلمٍ الهجريّ، عن أبي عياضٍ، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "إنّ اللّه كتب عليكم الحجّ" فقال رجلٌ: أفي كلّ عامٍ يا رسول اللّه؟ فأعرض عنه، حتّى عاد مرّتين أو ثلاثًا، فقال: "من السّائل؟ " فقال: فلانٌ. فقال: "والّذي نفسي بيده، لو قلت: نعم لوجبت، ولو وجبت عليكم ما أطقتموه، ولو تركتموه لكفرتم"، فأنزل اللّه، عزّ وجلّ: {يا أيّها الّذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم} حتّى ختم الآية.
ثمّ رواه ابن جريرٍ من طريق الحسين بن واقدٍ، عن محمّد بن زيادٍ، عن أبي هريرة -وقال: فقام محصن الأسديّ-وفي روايةٍ من هذه الطّريق: عكاشة بن محصن-وهو أشبه.
وإبراهيم بن مسلمٍ الهجريّ ضعيفٌ.
وقال ابن جريرٍ أيضًا: حدّثني زكريّا بن يحيى بن أبانٍ المصريّ قال: حدّثنا أبو زيدٍ عبد الرحمن ابن أبي الغمر، حدّثنا أبو مطيعٍ معاوية بن يحيى، عن صفوان بن عمرٍو، حدّثني سليم بن عامرٍ قال: سمعت أبا أمامة الباهليّ يقول: قام رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في النّاس فقال: "كتب عليكم الحجّ". فقام رجلٌ من الأعراب فقال: أفي كلّ عامٍ؟ قال: فغلق كلام رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، وأسكت واستغضب، ومكث طويلًا ثمّ تكلّم فقال: "من السّائل؟ " فقال الأعرابيّ: أنا ذا، فقال: "ويحك، ماذا يؤمّنك أن أقول: نعم، واللّه لو قلت: نعم لوجبت، ولو وجبت لكفرتم، ألا إنّه إنّما أهلك الّذين من قبلكم أئمّة الحرج، واللّه لو أنّي أحللت لكم جميع ما في الأرض، وحرّمت عليكم منها موضع خفٍّ، لوقعتم فيه" قال: فأنزل اللّه عند ذلك: {يا أيّها الّذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم} إلى آخر الآية. في إسناده ضعفٌ.
وظاهر الآية النّهي عن السّؤال عن الأشياء الّتي إذا علم بها الشّخص ساءته، فالأولى الإعراض عنها وتركها. وما أحسن الحديث الذي رواه الإمام أحمد حيث قال:
حدّثنا حجّاج قال: سمعت إسرائيل بن يونس، عن الوليد بن أبي هشامٍ مولى الهمدانيّ، عن زيد بن زائدٍ، عن عبد اللّه بن مسعودٍ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لأصحابه: "لا يبلّغني أحدٌ عن أحدٍ شيئًا؛ فإنّي أحبّ أن أخرج إليكم وأنا سليم الصّدر" الحديث.
وقد رواه أبو داود والتّرمذيّ، من حديث إسرائيل -قال أبو داود: عن الوليد-وقال التّرمذيّ: عن إسرائيل-عن السّدّيّ، عن الوليد بن أبي هاشمٍ، به. ثمّ قال التّرمذيّ: غريبٌ من هذا الوجه.
وقوله: {وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم} أي: وإن تسألوا عن هذه الأشياء الّتي نهيتم عن السّؤال عنها حين ينزل الوحي على الرّسول تبيّن لكم، وذلك [على اللّه] يسيرٌ.
ثمّ قال {عفا اللّه عنها} أي: عمّا كان منكم قبل ذلك، {واللّه غفورٌ حليمٌ}
وقيل: المراد بقوله: {وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم} أي: لا تسألوا عن أشياء تستأنفون السّؤال عنها، فلعلّه قد ينزل بسبب سؤالكم تشديدٌ أو تضييقٌ وقد ورد في الحديث: "أعظم المسلمين جرمًا من سأل عن شيءٍ لم يحرّم فحرّم من أجل مسألته" ولكن إذا نزل القرآن بها مجملةً فسألتم عن بيانها حينئذ، تبينت لكم لاحتياجكم إليها.
{عفا اللّه عنها} أي: ما لم يذكره في كتابه فهو ممّا عفا عنه، فاسكتوا أنتم عنها كما سكت عنها. وفي الصّحيح، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه قال: "ذروني ما تركتم؛ فإنّما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم".
وفي الحديث الصّحيح أيضًا: " إنّ اللّه فرض فرائض فلا تضيّعوها، وحدّ حدودًا فلا تعتدوها، وحرّم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمةً بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها"). [تفسير القرآن العظيم: 3/203-207]

تفسير قوله تعالى: {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (ثمّ قال: {قد سألها قومٌ من قبلكم ثمّ أصبحوا بها كافرين} أي: قد سأل هذه المسائل المنهيّ عنها قومٌ من قبلكم، فأجيبوا عنها ثمّ لم يؤمنوا بها، فأصبحوا بها كافرين، أي: بسببها، أي: بيّنت لهم ولم ينتفعوا بها لأنّهم لم يسألوا على وجه الاسترشاد، وإنّما سألوا على وجه التّعنّت والعناد.
قال، العوفي، عن ابن عبّاسٍ قوله: {يا أيّها الّذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم} وذلك أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أذّن في النّاس فقال: "يا قوم كتب عليكم الحجّ". فقام رجلٌ من بني أسدٍ فقال: يا رسول اللّه، أفي كلّ عامٍ؟ فأغضب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم غضبًا شديدًا فقال: "والّذي نفسي بيده لو قلت: نعم لوجبت، ولو وجبت ما استطعتم، وإذًا لكفرتم، فاتركوني ما تركتكم، وإذا أمرتكم بشيءٍ فافعلوا، وإذا نهيتكم عن شيءٍ فانتهوا عنه". فأنزل اللّه: {يا أيّها الّذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم} نهاهم أن يسألوا عن مثل الّذي سألت النّصارى من المائدة، فأصبحوا بها كافرين. فنهى اللّه عن ذلك وقال: لا تسألوا عن أشياء إن نزل القرآن فيها بتغليظٍ ساءكم ذلك، ولكن انتظروا، فإذا نزل القرآن فإنّكم لا تسألون عن شيءٍ إلّا وجدتم تبيانه رواه ابن جريرٍ.
وقال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: {يا أيّها الّذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم} قال: لمّا نزلت آية الحجّ، نادى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم في النّاس فقال: "يا أيّها النّاس، إنّ اللّه قد كتب عليكم الحجّ فحجّوا". فقالوا: يا رسول اللّه، أعامًا واحدًا أم كلّ عامٍ؟ فقال: "لا بل عامًا واحدًا، ولو قلت: كلّ عامٍ لوجبت، ولو وجبت لكفرتم". ثمّ قال اللّه تعالى: {يا أيّها الّذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء} إلى قوله: {ثمّ أصبحوا بها كافرين} رواه ابن جريرٍ.
وقال خصيف، عن مجاهدٍ، عن ابن عبّاسٍ: {لا تسألوا عن أشياء} قال: هي البحيرة والوصيلة والسّائبة والحام، ألّا ترى أنّه يقول بعد ذلك "ما جعل اللّه من بحيرةٍ ولا كذا ولا كذا"، قال: وأمّا عكرمة فقال: إنّهم كانوا يسألونه عن الآيات، فنهوا عن ذلك. ثمّ قال: {قد سألها قومٌ من قبلكم ثمّ أصبحوا بها كافرين} رواه ابن جرير.
يعني عكرمة رحمه اللّه: أنّ المراد بهذا النّهي عن سؤال وقوع الآيات، كما سألت قريشٌ أن يجري لهم أنهارًا، وأن يجعل لهم الصّفا ذهبًا وغير ذلك، وكما سألت اليهود أن ينزل عليهم كتابًا من السّماء، وقد قال اللّه تعالى: {وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذّب بها الأوّلون وآتينا ثمود النّاقة مبصرةً فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفًا} [الإسراء: 59] وقال تعالى: {وأقسموا باللّه جهد أيمانهم لئن جاءتهم آيةٌ ليؤمننّ بها قل إنّما الآيات عند اللّه وما يشعركم أنّها إذا جاءت لا يؤمنون. ونقلّب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أوّل مرّةٍ ونذرهم في طغيانهم يعمهون. ولو أنّنا نزلنا إليهم الملائكة وكلّمهم الموتى وحشرنا عليهم كلّ شيءٍ قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء اللّه ولكنّ أكثرهم يجهلون} [الأنعام: 109-111] ). [تفسير القرآن العظيم: 3/207-208]

تفسير قوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({ما جعل اللّه من بحيرةٍ ولا سائبةٍ ولا وصيلةٍ ولا حامٍ ولكنّ الّذين كفروا يفترون على اللّه الكذب وأكثرهم لا يعقلون (103) وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل اللّه وإلى الرّسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئًا ولا يهتدون (104)}
قال البخاريّ: حدّثنا موسى بن إسماعيل، حدّثنا إبراهيم بن سعدٍ، عن صالح بن كيسان، عن ابن شهابٍ، عن سعيد بن المسيّب قال: "البحيرة": الّتي يمنع درّها للطّواغيت، فلا يحلبها أحدٌ من النّاس. و"السّائبة": كانوا يسيبونها لآلهتهم، لا يحمل عليها شيءٌ -قال: وقال أبو هريرة: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "رأيت عمرو بن عامرٍ الخزاعيّ يجرّ قصبه في النّار، كان أوّل من سيّب السّوائب"-و"الوصيلة": النّاقة البكر، تبكّر في أوّل نتاج الإبل، ثمّ تثنّي بعد بأنثى، وكانوا يسيّبونها لطواغيتهم، إن وصلت إحداهما بالأخرى ليس بينهما ذكر. و"الحام": فحل الإبل يضرب الضرّاب المعدود، فإذا قضى ضرابه ودعوه للطّواغيت، وأعفوه عن الحمل، فلم يحمل عليه شيءٌ، وسمّوه الحامي.
وكذا رواه مسلمٌ والنّسائيّ، من حديث إبراهيم بن سعدٍ، به.
ثمّ قال البخاريّ: وقال لي أبو اليمان: أخبرنا شعيبٌ، عن الزّهريّ قال: سمعت سعيدًا يخبر بهذا. وقال أبو هريرة عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم نحوه. ورواه ابن الهاد، عن ابن شهابٍ، عن سعيدٍ، عن أبي هريرة عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم.
قال الحاكم: أراد البخاريّ أنّ يزيد بن عبد اللّه بن الهاد رواه عن عبد الوهّاب بن بخت، عن الزّهريّ. كذا حكاه شيخنا أبو الحجّاج المزنيّ في "الأطراف" وسكت ولم ينبّه عليه. وفيما قاله الحاكم نظرٌ، فإنّ الإمام أحمد وأبا جعفر بن جريرٍ روياه من حديث اللّيث بن سعدٍ، عن ابن الهاد، عن الزّهريّ نفسه. واللّه أعلم.
ثمّ قال البخاريّ: حدّثنا محمّد بن أبي يعقوب أبو عبد اللّه الكرماني، حدّثنا حسّان بن إبراهيم، حدّثنا يونس، عن الزّهريّ، عن عروة؛ أنّ عائشة قالت: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "رأيت جهنّم يحطم بعضها بعضًا، ورأيت عمرًا يجرّ قصبه، وهو أوّل من سيّب السّوائب". تفرّد به البخاريّ.
وقال ابن جريرٍ: حدثنا هنّاد، حدّثنا يونس بن بكير، حدّثنا محمّد بن إسحاق، حدّثني محمّد بن إبراهيم بن الحارث، عن أبي صالحٍ، عن أبي هريرة قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول لأكثم بن الجون: "يا أكثم، رأيت عمرو بن لحيّ بن قمعة بن خندف يجرّ قصبه في النّار، فما رأيت رجلًا أشبه برجلٍ منك به، ولا به منك". فقال أكثم: تخشى أن يضرّني شبهه يا رسول اللّه؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "لا إنّك مؤمنٌ وهو كافرٌ، إنّه أوّل من غيّر دين إبراهيم، وبحّر البحيرة، وسيّب السّائبة، وحمى الحامي". ثمّ رواه عن هنّادٍ، عن عبدة، عن محمّد بن عمرٍو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، بنحوه أو مثله.
ليس هذان الطّريقان في الكتب.
وقال الإمام أحمد: حدّثنا عمرو بن مجمّع، حدّثنا إبراهيم الهجري، عن أبي الأحوص، عن عبد اللّه بن مسعودٍ عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "إن أوّل من سيّب السّوائب، وعبد الأصنام، أبو خزاعة عمرو بن عامرٍ، وإنّي رأيته يجرّ أمعاءه في النّار". تفرّد به أحمد من هذا الوجه.
وقال عبد الرّزّاق: أنبأنا معمر، عن زيد بن أسلم قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "إنّي لأعرف أوّل من سيّب السّوائب، وأوّل من غيّر دين إبراهيم عليه السّلام". قالوا: من هو يا رسول اللّه؟ قال: "عمرو بن لحيّ أخو بني كعبٍ، لقد رأيته يجرّ قصبه في النّار، يؤذي ريحه أهل النّار. وإنّي لأعرف أوّل من بحّر البحائر". قالوا: من هو يا رسول اللّه؟ قال: "رجلٌ من بني مدلج، كانت له ناقتان، فجدع آذانهما، وحرّم ألبانهما، ثمّ شرب ألبانهما بعد ذلك، فلقد رأيته في النّار وهما يعضّانه بأفواههما ويخبطانه بأخفافهما".
فعمرو هذا هو ابن لحيّ بن قمعة، أحد رؤساء خزاعة، الّذين ولوا البيت بعد جرهم. وكان أوّل من غيّر دين إبراهيم الخليل، فأدخل الأصنام إلى الحجاز، ودعا الرّعاع من النّاس إلى عبادتها والتّقرّب بها، وشرع لهم هذه الشّرائع الجاهليّة في الأنعام وغيرها، كما ذكره اللّه تعالى في سورة الأنعام، عند قوله تعالى: {وجعلوا للّه ممّا ذرأ من الحرث والأنعام نصيبًا} [الأنعام: 136] إلى آخر الآيات في ذلك.
فأمّا البحيرة، فقال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: هي النّاقة إذا نتجت خمسة أبطن نظروا إلى الخامس، فإن كان ذكرًا ذبحوه، فأكله الرّجال دون النّساء. وإن كان أنثى جدعوا آذانها، فقالوا: هذه بحيرةٌ.
وذكر السّدّي وغيره قريبًا من هذا.
وأمّا السّائبة، فقال مجاهدٌ: هي من الغنم نحو ما فسّر من البحيرة، إلّا أنّها ما ولدت من ولدٍ كان بينها وبين ستّة أولادٍ كان على هيئتها، فإذا ولدت السّابع ذكرًا أو ذكرين، ذبحوه، فأكله رجالهم دون نسائهم.
وقال محمّد بن إسحاق: السّائبة: هي النّاقة إذا ولدت عشر إناثٍ من الولد ليس بينهنّ ذكرٌ، سيّبت فلم تركب، ولم يجزّ وبرها، ولم يحلب لبنها إلّا الضّيف.
وقال أبو روقٍ: السّائبة: كان الرّجل إذا خرج فقضيت حاجته، سيّب من ماله ناقةً أو غيرها، فجعلها للطّواغيت. فما ولدت من شيءٍ كان لها.
وقال السّدّي: كان الرّجل منهم إذا قضيت حاجته أو عوفي من مرضٍ أو كثر ماله سيّب شيئًا من ماله للأوثان، فمن عرض له من النّاس عوقب بعقوبةٍ في الدّنيا.
وأمّا الوصيلة، فقال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: هي الشّاة إذا نتجت سبعة أبطنٍ نظروا إلى السّابع، فإن كان ذكرًا أو أنثى وهو ميّتٌ اشترك فيه الرّجال دون النّساء، وإن كان أنثى استحيوها، وإن كان ذكرًا وأنثى في بطنٍ استحيوهما وقالوا: وصلته أخته فحرّمته علينا. رواه ابن أبي حاتمٍ.
وقال عبد الرّزّاق: أنبأنا معمر، عن الزّهريّ، عن سعيد بن المسيّب: {ولا وصيلةٍ} قال: فالوصيلة من الإبل، كانت النّاقة تبتكر بأنثى، ثمّ تثنّى بأنثى، فسمّوها الوصيلة، ويقولون: وصلت أنثيين ليس بينهما ذكرٌ، فكانوا يجدعونها لطواغيتهم.
وكذا روي عن الإمام مالك بن أنسٍ، رحمه اللّه.
وقال محمّد بن إسحاق: الوصيلة من الغنم: إذا ولدت عشر إناثٍ في خمسة أبطنٍ، توأمين توأمين في كلّ بطنٍ، سمّيت الوصيلة وتركت، فما ولدت بعد ذلك من ذكرٍ أو أنثى، جعلت للذّكور دون الإناث. وإن كانت ميتةً اشتركوا فيها.
وأمّا الحام، فقال العوفي، عن ابن عبّاسٍ قال: كان الرّجل إذا لقح فحله عشرًا، قيل حام، فاتركوه.
وكذا قال أبو روقٍ، وقتادة. وقال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: وأمّا الحام فالفحل من الإبل، إذا ولد لولده قالوا: حمى هذا ظهره، فلا يحملون عليه شيئًا، ولا يجزّون له وبرًا، ولا يمنعونه من حمى رعيٍ، ومن حوضٍ يشرب منه، وإن كان الحوض لغير صاحبه.
وقال ابن وهب: سمعت مالكًا يقول: أمّا الحام فمن الإبل كان يضرب في الإبل، فإذا انقضى ضرابه جعلوا عليه ريش الطّواويس وسيّبوه.
وقد قيل غير ذلك في تفسير هذه الآية. وقد ورد في ذلك حديثٌ رواه ابن أبي حاتمٍ، من طريق أبي إسحاق السّبيعي، عن أبي الأحوص الجشمي، عن أبيه مالك بن نضلة قال: أتيت النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم في خلقان من الثّياب، فقال لي: "هل لك من مالٍ؟ " قلت نعم. قال: "من أيّ المال؟ " قال: فقلت: من كلّ المال، من الإبل والغنم والخيل والرّقيق. قال: "فإذا آتاك اللّه مالًا فلير عليك". ثمّ قال: "تنتج إبلك وافيةً آذانها؟ " قال: قلت: نعم. قال: "وهل تنتج الإبل إلّا كذلك؟ " قال: "فلعلّك تأخذ الموسى فتقطع آذان طائفةٍ منها وتقول: هذه بحيرٌ، وتشقّ آذان طائفةٍ منها، وتقول: هذه حرمٌ؟ " قلت: نعم. قال: "فلا تفعل، إنّ كلّ ما آتاك اللّه لك حلٌّ"، ثمّ قال: {ما جعل اللّه من بحيرةٍ ولا سائبةٍ ولا وصيلةٍ ولا حامٍ} أمّا البحيرة: فهي الّتي يجدعون آذانها، فلا تنتفع امرأته ولا بناته ولا أحدٌ من أهل بيته بصوفها ولا أوبارها ولا أشعارها ولا ألبانها، فإذا ماتت اشتركوا فيها. وأمّا السّائبة: فهي الّتي يسيّبون لآلهتهم، ويذهبون إلى آلهتهم فيسيّبونها، وأمّا الوصيلة: فالشّاة تلد ستّة أبطنٍ، فإذا ولدت السّابع جدعت وقطع قرنها، فيقولون: قد وصلت، فلا يذبحونها ولا تضرب ولا تمنع مهما وردت على حوضٍ. هكذا يذكر تفسير ذلك مدرجًا في الحديث. وقد روي من وجهٍ آخر عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص عوف بن مالكٍ، من قوله، وهو أشبه.
وقد روى هذا الحديث الإمام أحمد، عن سفيان بن عيينة، عن أبي الزّعراء عمرو بن عمرٍو، عن عمّه أبي الأحوص عوف بن مالك بن نضلة، عن أبيه، به. وليس فيه تفسير هذه والله أعلم.
وقوله: {ولكنّ الّذين كفروا يفترون على اللّه الكذب وأكثرهم لا يعقلون} أي: ما شرع اللّه هذه الأشياء ولا هي عنده قربةٌ، ولكنّ المشركين افتروا ذلك وجعلوه شرعًا لهم وقربةً يتقرّبون بها إليه. وليس ذلك بحاصلٍ لهم، بل هو وبالٌ عليهم). [تفسير القرآن العظيم: 3/208-211]

رد مع اقتباس